تطرح هذه الدراسة بقوة مدى تهافت الفكر العربي المتذرع وهما بالحداثة والمنخرط فعلا في مباءة التخلف والوهابية من أدونيس وحتى قوافل المثقفين الذين تهادوا إلى مهرجان المدى، وتكشف تناقضاته الداخلية.

نقد الوعي النقدي

سماح إدريس

 

 أسوأُ ما في الصحافة الثقافية والإعلامِ شبهِ الثقافي هو أن يتصدّى مثقفون عرب، وباسم "الوعي النقدي الحديث،" للبنى التقليدية المتخلِّفة، والغيبيةِ العربية، والسلطاتِ القومية المستبدّة، والظلامية الإسلامية، واليسارِ الديكتاتوري... لكنّهم لا يلبثون أن يَمْتدحوا الاعتدالَ السعودي والوهّابي والجنبلاطي، والمرونةَ المصرية، والواقعيةَ الفلسطينية، والعقلانيةَ الغربية. هكذا، مثلاً، نقرأ أدونيس ينتقد الهياكلَ "الثابتةَ" والأصولياتِ العربيةَ انتقادًا استشراقيّاً مليئًا بالعموميات والأحادية (على طريقة رافاييل پاتاي أحيانًا)، لكنّه يكرِّس كتابًا كاملاً، اختارَ نصوصَه وقَدَّم له هو والدكتورة خالدة سعيد، في "فكر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهّاب،" وذلك ضِمْنَ سلسلة "ديوان النهضة: دراسات ونصوص تمثِّل رؤيةً جديدةً للنهضة العربية" (بيروت: دار العلم للملايين، 1983). وهكذا تَحَوَّل أحدُ عتاة الفكر الجامد والثابت، وعلى يد أحدِ رموزِ الحداثة، إلى أحد روّاد النهضة العربية!(1) وبالمثل، وإنْ على مستوًى فكريّ أدنى بكثير، نجد شاكر النابلسي، بعد أن طَلّق الماركسيةَ والقوميةَ ثلاثًا، يَمْتدح "شِعْرَ" (نَعَمْ، بكسر الشين) الأمير خالد الفيْصل، بل ويَعُدُّه من "روّاد" الحداثة والفكر العربي.(2) وكنتُ في سنةٍ ماضيةٍ قد ذكرتُ كيف تحوَّلَ كثيرٌ من مثقفي الحداثة في لبنان إلى مبخِّرين للماكينة الحريرية، بحيث "جَيَّروا" حداثتَهم وعِلْمهم الكبيرَ في مديح الرئيس الراحل رفيق الحريري، وخليفتِه الشيخ سعد، وصديقِهما الرئيس السنيورة. طبعًا مِنْ حقِّ أيٍّ كان أن يمتدح مَنْ يعتبره أهلاً للمديح؛ ولكنْ أن يصبح الحريري "شاعرَ الأمكنة" على لسان شاعر الحداثة پول شاوول (في برنامج "خلّيك بالبيت" على شاشة المستقبل شتاءَ العام 2005)، وأن يصبح الرئيسُ الراحلُ نفسُه "مثقّفًا ما بعد حداثيًّا" (لو كان حداثيًّا فقط لَفَهِمْنا!) "ذا فكرٍ مركَّبٍ، خلاّقٍ، متعدّدِ الوجوه" على لسانِ مثقفِ "العقل التحوُّلي" والناقدِ التفكيكي لـ "أوهام النخبة" علي حرب (وعلى الشاشة نفسِها)، فذلك ما يَزْرع الشكَّ في النفوس. ولا يهمّ أن يُصوَّب الشكُّ إلى المثقفين أنفسِهم، بل إلى أفكارهم الحداثية التي أَفنَوْا عقودًا في إشاعتها؛ ذلك أنّ مثلَ هذا الشكّ، خلافًا لما توهَّمه مدّاحو السلطة والثبات "الحداثيون،" سينمِّي في عقول القرّاء التفكيرَ الأصوليَّ والفكرَ التقليدي اللذيْن حاربهما أولئك المثقفون (وبتفانٍ أحيانًا) كلَّ ذلك الزمن. تصوَّروا مثلاً حالَ الناس الذين يستمعون إلى أولئك الليبراليين الحداثيين يَمْتدحون "الاعتدالَ" السعودي بعد أنْ كالوا اللعناتِ "للاستبداد البعثي" السوري والعراقي، كيف سيفكِّرون؟ ألن يميلوا، في هذه الحال، إلى تأييد السعودية بدلاً من أفكار الحداثة؟ أو تصوِّروا الناسَ يقرأون مدحًا (وإن ادّعى الموضوعية!) للإمام محمد بن عبد الوهّاب، ألن يفضِّلوا حينَها أن يناصروا الفكرَ الوهّابي بدلاً من الفكر الحداثي؟ فإذا كان الحداثيون التقدُّميون، التحوُّليون التفكيكيون، النقديّون الواعون، يصفِّقون ("موضوعيًّا"!) للوهّابية والحريريةِ والمُباركية ... فلماذا لا يميل القرّاءُ "العاديون" إلى الأصلِ الممدوحِ لا إلى النسخةِ المادحة، وإلى المصفَّقِ له لا إلى المصفِّق؟

طبعًا، هذا التحوُّل لم يأتِ وليدَ الساعة الراهنة، بل هو نتيجةٌ لعقودٍ من الهزائم والإحباطات، وعقودٍ من تراجعات اليسار، وعقودٍ من توزيع الجوائز والألقاب والأوسمة والوعود الرسمية والغربية على المثقفين العرب، وعقودٍ من "الاستضافات" العربية والغربية وتذاكرِ الدرجة الأولى وفنادقِ النجوم الخمسة. لكنّه بات يترافق، منذ سنوات أيضًا، مع تنظيرٍ مملٍّ ضدَّ ما يسمِّيه الليبراليون الجددُ بـ "الشعاراتية الفارغة" ــ  وهي نفسُها، كما كَتَبَ عزمي بشارة، شعارٌ فارغٌ: إذ ما معنى إسباغ نعتِ "الاعتدال" على نظامٍ عربيٍّ يتحالف مع جزّارِ العالمِ الأعظم، أي الولاياتِ المتّحدة؛ نظامٍ يَقْمع حقوقَ الإنسان وحقوقَ المرأة والأقليّات وحريَّةَ التعبير؟(3) وما هي مصداقيةُ "المعتدلين" و"الواقعيين" و"الپراغماتيين" الذين يُصرُّون على حلِّ الدولتيْن (الفلسطينية والإسرائيلية) رغم أنّ مقوِّماتِ بناء الدولة الفلسطينية على الضفّة وغزّة قد أُبيدتْ إبادةً كاملة بسبب وحشية الكيان الصهيوني بمختلف "أنظمته"؟ وما مصداقيةُ نقّادِ صدّام حسين ومقابرِه الجماعية (وهي مريعةٌ مثلَه) حين يمتدحون الطالباني والبارزاني؟

هنا آتي إلى لبّ الموضوع، إذ إنّ حالةَ كردستان ـ العراق تقدِّم نموذجًا مثاليّاً لفراغ “الشعاراتية الفارغة" نفسِها، ولتناقضِ الليبراليين الجدد (فَلْنُسمِّهم: المحافظين الجدد)، أو  ـ بشكلٍ أدقّ ـ  لكسلِهِمْ عن تقصّي أوهامِ الديموقراطية (العراقية) الجديدة وإزالة هالةِ الأسطورةِ عنها، بعد أن حَبّروا مئاتِ الأوراق في شتمِ عراقِ صدّام.

* * *

بين 29 نيسان و6 أيار من هذا العام أُقيم «مهرجانُ المدى الثقافي الخامس» في أربيل، عاصمةِ إقليم كردستان ـ العراق.  فلم تَبْقَ جريدةٌ لم تُدْعَ إلى هذا المهرجان، وتدفّقت المدائحُ السلطانيةُ لنشاطات المهرجان وراعيه (“الرئيس" جلال الطالباني) ومديرهِ الناشرِ الزميل فخري كريم "الذي يساوي وحدَه ورشةً كاملةً" بحسبِ ما كتب الصديق أحمد بزّون في جريدة السفير.(4) وباستثناءِ انتقاداتٍ خفيفةٍ من قَبيلِ تذمُّر بعضِ الصحافيين (بزّون) من ضعفِ التنظيم أو خلوِّ شوارعِ كردستان من أيّة ملامح للُّغة العربية، أو انتقاداتٍ أقوى من قَبيلِ تذكيرِ صحافيين آخرين (وائل عبد الفتّاح) بأنّ أسبوعَ المدى الثقافي "أُقيم برعايةِ نظامٍ حَفَرتْ طريقَه الدبّابةُ الأميركيةُ" وبأنّ السيد فخري كريم صادَفَ قبل وضعه الراهن “سنواتٍ من الجدل حول أدوارِه السياسيةِ والثقافيةِ قبل السقوطِ المدوِّي لصدّام،"(5) فإنّ التغطيةَ الصحفيةَ والإعلاميةَ لمهرجان المدى أَسْقطتْ فرصةً مهمةً أمام القرّاء لمعرفة واقعِ الحال في كردستان ـ العراق، وواقعِ "المُشْرفين" على الوضعِ الثقافي في العراق ككلّ. وأكثرُ ما عَلِقَ في ذهنِ قرّاءِ الصفحات الثقافية العربية حول المهرجان المذكور هو ضخامتُه (800 مثقف عربي وكردي وأجنبي)، وشمولُه أنواعًا متعددةً من النشاطات (سياسة، اقتصاد، سينما، مسرح، غناء، مَعارض للكتب، فن تشكيلي، أزياء فولكلورية،...)، فضلاً عن ديموقراطيةِ الطالباني ومَرَحِه، والاستقرارِ الأمني في كردستان، وتطوّرِها الاقتصادي. فكأنّ ما فَعَلَه أكثرُ الصحفيين الذين ذهبوا إلى كردستان ــ العراق يُشْبه ما كان يفعله بعضُ المستشرقين السُّيّاح القُدامى: التنزُّه في ربوع الوطن وجبالِه ووديانِه، واستقاء المعلومات من أفواه الحكّام والمسؤولين وأبواقِهم. وهذا لا يَكْشف عن تآمرٍ ثقافيٍّ مسبَّقٍ على الحقيقة (أنا، مثلَكم، سئمتُ الحديثَ عن المؤامرة، لا لأنَّها غيرُ موجودة، بل لأنَّ وجودَها يَفْقأ العيونَ)، بل يَكْشف عن كسلٍ مريعٍ صار "لازمةً" من لوازم الصحافة الثقافية العربية للأسف. هكذا، صار يكفي أن يقرأَ الواحدُ من صحافيينا ومثقّفينا قصيدةً  أو اثنتيْن لشاعرٍ كرديّ عظيمٍ مثلِ شيركو بيكه س،(6) أو يَحْفظَ كلمةً كرديةً أو اثنتيْن (كـ "كاكا" و"مام")، أو يطالعَ مقالاً أو اثنيْن عن جرائمِ صدّام، حتى يستطيعَ أن يَحْكم على وضعِ كردستان الراهن... ووضعِ العراقِ بأسره!

أين العقلُ النقدي الذي فَلَقْتُمونا به أيُّها الزملاء النقديون؟

هل تَعْلمون أوضاعَ كردستان حقًّا؟ هل تَعْلمون واقعَ المرأة هناك، وحوادثَ الشرف التي تتعرّض لها؟ هل تَعْلمون واقعَ الموساد (المخابرات الإسرائيلية) هناك؟ هل تَعْلمون أوضاعَ السجون في كردستان؟ حرية التعبير؟ التوقيفات الاعتباطية؟ هل تَعْلمون كيف صارت (إذا صحّ أنّها صارت) كردستانُ “جنةً آمنةً" في العراق؟ هل تَعْلمون وضعَ العراقيين من غير الأكراد هناك؟ هل تَعْلمون مَنْ شجّع صدّامًا على أن يدمِّرَ أقسامًا كبيرةً من كردستان ـ العراق أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية؟ هل تَعْلمون مقدارَ الدمار الذي ألحقه الحزبان الكرديان الأساسيّان بكردستان بعد حرب الخليج سنةَ 1991؟ هل تَعْلمون مَنِ الذي "استدعاه" مسعود البرزاني لسحقِ خصمِه الكردي (الاتحادِ الوطني)، ومع مَنْ "تَعاوَنَ" جلال الطالباني لقتالِ خصمه الكردي (الحزب الديموقراطي)؟ هل تَعْلمون تاريخَ مدير المهرجان الذي امتدحتموه بالقول إنّه "فردٌ يساوي وحدَه ورشةً كاملةً"؟ هل قرأتم شيئًا عن أحوالِ كردستان قبل سفركم إلى واحةِ الديموقراطيةِ هذه، بما في ذلك ما كتبه شخصٌ تحترمونه بلا شكّ هو الشاعرُ الكبير سعدي يوسف؟

أعرف أنّكم مشغولون بأمورٍ يوميةٍ ملحّةٍ أخرى. لذا، قمتُ ببعض القراءات السريعة لملءِ الفراغ الذي خَلّفتُموه، وسأَنْقل هنا شيئًا قليلاً ممّا قرأتُه، لا في وصفه حقيقةً مُطْلقةً، بل على سبيل اكتشافِ جوانبَ أبعدَ من التقارير الصحفية الساذجة التي تُلمِّح إلى التطوّر الاقتصادي في كردستان لمجرّدِ أنّ "الرئيس" الطالباني قال إنّ السليمانية صار فيها ألفُ مليونير بدلاً من ستةٍ أثناء حُكْمِ صدّام،(7) وتتغنّى بالديموقراطية لمجرّدِ أنّ الطالباني قال إنّ في العراق "ديموقراطيةً أكثرَ من أيّ بلدٍ آخر" ـ  ومن مؤشِّرات هذه الديموقراطية (صدِّقوا أو لا تصدِّقوا) “حقُّ 14 مليون شيعي بعد صدّام... في البكاء [!]".  وقد يكون أسوأَ من هذا وذاك أن تَسْكتَ تقاريرُكم الصحافيةُ عن تلطِّي الديموقراطية العراقية ـ الكردية الجديدة، القادمةِ على ظهور الدبّابات الأميركية، برمزٍ شعريِّ كبيرٍ هو المرحوم محمد مهدي الجواهري،(8) الذي نُصِّب رمزًا لمهرجان المدى الأخير مع أنَّه سبق أن رَفَضَ الغزوَ الأميركي للعراق عامَ 1991، بل وقال (على ما يروي الكاتبُ العظيم عبد الرحمن منيف) "إنَّه مستعدٌّ لأن يكون ضِمْنَ العشرةِ الأوائلِ لمواجهة الغزوِ على البصرة."(9)

* * *

عن الدور  الإسرائيلي في كردستان ـ العراق

في حزيران 2004 كتب الصحافي الأميركي المعروف سيْمور هيرش في مجلة نيويوركر عن تنكّر إسرائيليين في شمال العراق بزيِّ رجالِ أعمال، بهدف تنظيمِ عملاء أكراد يَجْمعون لهم المعلومات، تحضيرًا لعملٍ إسرائيلي ـ أميركي محتمل ضدّ إيران. وفي الصيف الماضي تحدّثتْ هاآرتس الإسرائيلية عن شخصٍ إسرائيلي اسمُه شلومي مايكِلْز يَخْضع لتحقيقٍ إسرائيليّ رسميّ بسبب عمله في كردستان من دون ترخيصٍ من السلطات الإسرائيلية. ومؤخّرًا، في 11 نيسان 2007، كَتَبتْ لورا روزِنْ عن تحقيقٍ أجرتْه طوالَ العام الماضي، وتَبيَّن خلالَه أنّ مايكلز وشريكَه داني ياتوم (رئيسَ جهاز الموساد الإسرائيلي السابق) جزءٌ من مجهودٍ كرديّ ــ غربيّ لإعطاءِ الأكراد "مزيدًا من القوة في العراق" ولإعادة إحياء العلاقات الإسرائيلية "بحلفاء أكرادٍ تاريخيين،" وذلك من خلال أعمالِ مشتركة (إسرائيلية ــ غربية ــ كردية) تُطاوِل البنى التحتيةَ والتنميةَ الاقتصاديةَ والمشاريعَ الأمنيةَ. وقد جاء مايكِلْز (بحسب يديعوت أحرنوت الإسرائيلية) بضبّاطٍ إسرائيليين ليدرِّبوا قواتِ الأمن الكردية على “مكافحة الإرهاب" [تنظيم القاعدة وخلافها] في مخيّمٍ سريّ (اسمُه كامب زي) (في العراق، مقابلَ "بضعةِ ملايينَ من الدولارات."  لكنّ السلطات التركية (التي عَبَر الإسرائيليون بجوازاتِ سفرهم من أمامها) تنبّهتْ للأمر وأَخْطرت السلطاتِ الإسرائيليةَ، فأَجْرَتْ هذه الأخيرةُ تحقيقاتٍ مع مايكِلْز وغيرِه، بيْد أنّها وافقتْ عمليًّا على إرسال المعدّات الدفاعية والاتصالية إلى كردستان ـ العراق من أجل "تنميةِ وجودٍ لها في المنطقة الكردية."(10)

لا يَنْفي ممثِّلو الحكومة الكردية أنفسُهم الوجودَ الإسرائيليَّ عندهم، وإنْ كانوا يَحْصرونه بـ "القطاع الخاصّ" (وكأنّ هذا في ذاته أمرٌ بسيط). وهو ما اعترف به، أمام لورا روزنْ، ابنُ الرئيس جلال الطالباني، ممثِّلُ الحكومةِ الكرديةِ في واشنطن، متبجِّجًا بأنّ كردستان ستكون "البوّابةَ إلى العراق."

ولكنْ، بوّابةُ مَنْ، نَسْأل؟

أما في أربيل، حيث ذهب الصحفيون العربُ لتغطية مهرجان المدى، فهناك مكتبٌ للموساد، اعترف رئيسُه السابق أليعازر جيزي تسافرير، أمام الصحفية روزِنْ، بأنَّه ساعد المخابراتِ الكرديةَ والملاّ مصطفى البارزاني: "فقد تقدّموا [أي الأكرادُ] إلينا، قائلين إنّ أحدًا لا يساعدهم في العالم، وإنّ شعبَنا [الكرديَّ] عانى هو أيضًا [مثلَ اليهود]. فزوَّدناهم [أي الإسرائيليون] بالمدافعِ، والبنادقِ، والمعدّاتِ المضادّةِ للطائرات، وشتّى أنواع المعدّات الأخرى، بل وساعدناهم بأعمالِ الكَوْلَسة  أيضًا."  وخَتَمَ تسافرير تصريحَه لروزِنْ بالقول: "الاتصالاتُ بيننا، والتعاطفُ بيننا، ستدوم أجيالاً قادمة [!]"

أن تكونَ كردستانُ ـ العراق واحةً للديموقراطية وحقوقِ الإنسان، فذلك ما سنتحقّق من صحّته للتوّ. لكنّها بالتأكيد، وللأسف، ساحةٌ اليومَ لرجالِ الأعمالِ الإسرائيليين وللموسادِ الإسرائيلي (والـ سي. آي إي طبعًا) ضدّ بلدانٍ مجاورةٍ، وضدّ الشعبِ العراقي نفسِه.

حقوق الإنسان (والمرأة) في كردستان ـ العراق

 يخصِّص تقريرُ «بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق» قسمًا مهمّاً لتقصّي حقوقِ الإنسان في المنطقة الشمالية من العراق خلال الشهور الأولى من هذا العام. صَدَر التقريرُ في نيسان 2007 ويتحدّث عن "قلقٍ جدّيّ" حيال حريةِ التعبير، والتوقيفاتِ، وظروفِ المرأةِ في كردستان. وفي حين أَنْكر مسؤولو الحكومة (التي تُشْرف على أربيل والسليمانية ودَهوك) ذلك، أَكَّدَ ناشطون أكرادٌ من داخل أربيل (حيث مهرجانُ المدى) أنّ تقريرَ الأمم المتحدة "قَصَّرَ" عن ذِكْرِ كلِّ الانتهاكات في كردستان واكتفى بذِكْر أَبْرزِها. يقول في هذا الصدد ناشطٌ كرديٌّ يُدعى ربين رَسُول إسماعيل: “تُبيِّن الحقيقةُ الراهنةُ أنّ حقوقَ الإنسان (هنا) سيّئةٌ جدًّا، ولستُ متفائلاً بخصوصِ مستقبلِ حقوق الإنسان في كردستان والعراق."(11)

هذا، ويركِّز تقريرُ الأمم المتحدة على ثلاثة أمور في كردستان: جرائم الشرف، وأوضاع السجناء، وحرية التعبير. ففي ما يتعلّق بجرائم الشرف، يتحدّث التقرير عن إحراق 358 امرأةً أنفسَهنَّ حتى الموت في محافظة أربيل منذ العام 2003 (هل شاهَدَ زوّارُ المهرجان قبورَ أيٍّ منهنّ بالمناسبة؟)، وعن محاولةِ 218 امرأةً أُخرى القيامَ بالأمرِ نفسِه؛ وكلُّ ذلك بسبب “الضغوطِ المتزايدةِ من قِبَلِ الذكور في العائلة."  وهذا يعني أنّ الديموقراطيةَ الكرديةَ في أربيل، إنْ صحّ وجودُها، لم تصلْ بعدُ إلى المرأة، التي يتغنّى بها، وبضرورةِ تحرُّرها الكاملِ، مثقفو الحداثة العربُ، بل ويَعْتبرون (مصيبين) أنْ لا ديموقراطية حقيقية من دون حرية المرأة.

أما بخصوص السجناء، "ولاسيّما المشتَبه بقيامهم بأعمال إرهابية،" فإنّ تقريرَ الأمم المتحدة المذكور يتّهم السلطاتِ الكرديةَ المحليّة باستخدام “التعذيب وسوءِ المعاملة ضدّ الموقوفين،" ويؤكِّد أنّ "كثيرين اعتُقِلوا فتراتٍ طويلةً من دون أيّ اتّهام."  ويعقِّب الناشطُ الكردي (إسماعيل) على التقرير بأنّه “لا يُمْكن وضعُ الناس خلف القضبان سنواتٍ عديدةً لمجرّد الاشتباهِ في أنّهم يشكِّلون تهديدًا للنظام السياسي أو الاجتماعي." وأخيرًا، فإنّ تقرير الأمم المتحدة أعلاه يضع تباهي حكّام كردستان ـ العراق بـ "حرية التعبير النسبية" موضعَ شكٍّ وتساؤل. فقد أُوقفَ كثيرٌ من الصحافيين خلال السنوات الماضية على يد قوات الأمن الكردية، وهُدِّد آخرون أو ضُربوا “مِنْ قِبل أشخاصٍ مجهولين." وقال فرهاد عوني، رئيسُ نقابة صحافيي كردستان: "إنَّنا نَشْعر بأنَّ الصحافيين أحيانًا ضحيّةٌ للمزاجِ السياسي لقواتِ الأمن."

وضِمْنَ مجال انتهاك حقوق الإنسان ينبغي أن يُضافَ إلى ذلك كلِّه وضعُ العرب داخل كردستان (هل يهتمّ المثقفون الزّوّارُ العربُ كثيرًا بأوضاع "الجالية العربية" هناك؟!). فبعضُ التقارير يتحدّث عن وجود 150ألف عراقي عربي لاجئ في كردستان، وأنَّ الأكراد لا يَنْسَوْن كيف عامَلَهم صدّام (العربي)؛ ولذا فهم يَنْظرون بحقدٍ إلى العرب. وفي المقابل، يَشْعر كثيرٌ من العراقيين غيرِ الأكراد بأنَّهم "يعامَلون في كردستان وكأنَّهم درجةٌ ثانيةٌ"؛ وهذا ما يُفْصح عنه موظّفٌ في فندق في أربيل، من الطائفة المسيحية الأشورية، اسمُه ولاء متّي، كان قد هَرَبَ من الموصل، ويصيح بألم: "أنا عراقي، وهذه بلادي، لكنِّي أُحسّ هنا كأنَّني غريب."(12) ويَشْعر العراقيون العربُ أيضًا بالاستياء (وربما الحقد) حين يَسْمعون بالأماكن والمنتجعات السياحية في مناطق الأكراد مثل “القرية البريطانية" و"مدينة الحُلُم"، في حين تُستباح بغدادُ وغيرُها على يد الأميركان.(13) وهم لا يرضَوْن أن يكون الاحتلالُ ثمنًا لرخاءِ بعضِ المتموِّلين الأكراد (وغيرِ الأكراد).

مسؤوليةُ تدمير كردستان ـ العراق

 يبدو أنّ أكثر الصحفيين الليبراليين العرب نَسُوا مَنْ دمَّر كردستانَ ـ العراق خلال العقديْن الأخيريْن. فتنشيطًا لذاكرتهم ربّما، نورد أنّ أجزاءً كبيرةً من كردستان دُمِّرتْ خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988) التي بدأها صدّام حسين فعلاً، ولكنْ بتشجيعٍ وتحريضٍ وتمويلٍ وتسليحٍ وتأييدٍ من قِبل الولايات المتحدة الأميركية والأنظمةِ الخليجية وغيرِ الخليجية المواليةِ لها.(14) وشَنَّتِ الولاياتُ المتحدةُ وحلفاؤها حربًا على العراق عامَ 1991، وحَوَّلتْ كردستانَ إلى "منطقة آمنةٍ" (أو محميّةٍ أميركيةٍ بالأحرى) يتقاسمها حزبان: الاتحادُ الوطني والحزبُ الديموقراطي. لكنّ الحزبيْن شَرَعا في الاقتتال في ما بينهما، فكان أن استدعى مسعود البرزاني (الحزب الديموقراطي) صدّامًا ليَسْحَقا، معًا، مَنْ كان آنذاك عدوَّ البارزاني اللدودَ، السيّد جلال الطالباني (الاتحاد الوطني)، المستنجِدَ بدوره بإيران، وذلك بعد عاميْن من القتال الداخلي ذَهَب ضحيّتَه آلافُ الأكراد. أما جلال الطالباني نفسُه، الذي يَصِفُه اللبناني الصهيوني فؤاد عجمي اليومَ بـ "العَلْماني الكردي ذي التمدُّن والعِلْم الكبيريْن"(15) (وهو وصفٌ يُذكِّر بوصف بعض الصحفيين للطالباني أثناء لقائهم به في كردستان مع مئتيْ مثقفٍ عربي آخر)، فقد سبق أنْ "تعاوَنَ" علنًا وبوحشيةٍ مع حزب البعث الحاكم ضدّ حزب البارزاني.(16) وممّا يُضاف إلى سجلّه الديموقراطي الباهر و”تمدُّنِه وعِلْمِه الكبيريْن" ما كتبه الشاعرُ العراقي سعدي يوسف في العام 2005، وهو أنّ الطالباني متَّهمٌ بـ “قتل عشراتٍ من النَّصِيراتِ والأنصارِ الشيوعيين العرب الذين كانوا يقاتلون نظامَ صدّام حسين" في ما عُرِفَ بأحداثِ بشت آشان سنةَ 1983، وذلك بطلبٍ مباشرٍ من صدّام نفسِه!(17)

إذا كان بعضُ المثقفين العرب نَسُوا ذلك لأنّه حَدَثَ قبل زمنٍ طويل، فهل نسُوا أنّ الطالباني هو الذي وَقّع، بعد شهور فقط من اجتياح بغداد عامَ 2003، وثيقةَ الاستسلام أمام الغزوِ الأميركي؟!

ولكنْ، أهو النسيانُ فعلاً؟

يحكي سعدي يوسف عن محاولة الرئيس الطالباني شراءَ المثقفين العراقيين المقيمين في الخارج لكمّ أفواههم (وهذا يذكِّر بما فعله صدّام نفسُه، وإنْ بأموالٍ أضخم كما يرجَّح). ويضع سعدي في هذا السياق تشكُّلَ اتحاداتٍ وجمعياتٍ "ثقافية" في السويد وألمانيا وهولندا وأستراليا، بدعمٍ وبتمويلٍ "من الممثّليات الديبلوماسية للإدارة [العراقية] العميلة."(18) فهل يَنْدرج مهرجانُ المدى ضمن خطوات الطالباني (ومستشاريه الثقافيين) لشراءِ ضمائرِ المثقفين والصحفيين العراقيين والعرب، وكمِّ أفواههم عن قولِ الحقيقة، وجعلِهم أَشْبهَ ببغاءاتٍ سوفياتيةٍ يردِّدون ما يقوله الملكُ الجديد؟

فخري كريم

وأخيرًا، لا آخرًا، هل يَعْرف المدعوّون إلى مهرجان المدى، ممّن طَبَّلَ وزَمَّرَ لإنجازاتِ كردستان الديموقراطية، مَنْ هو مديرُ مهرجان المدى، الأستاذ فخري كريم؟ إنّ شبكةَ الانترنت تكاد تختنقُ بما يُكتب دوريًّا عن هذا الزميل الناشر. وكثيرٌ من الأخبار والتعليقات مكتوبٌ بالعربية، إنْ كان مثقفونا ومراسلونا لا يُتْقنون لغاتٍ أخرى. فإذا كانوا ما يزالون يَجْهلون استخدامَ الانترنت أيضًا (وهو أمرٌ مشكوكٌ فيه)، فيكفي أن يَلْتقوا بأيِّ شيوعيّ عراقيّ، مخضرمٍ نظيفٍ، من حزبِ الرفيق فهد، ليَعْلموا أين آلت أموالُ الحزب الشيوعي العراقي، أموالُ الفقراءِ والطلاّبِ وعائلاتِ الشهداء، وأموالُ مجلة النهج ودار المدى، وليَعْلموا صِلاتِ بعض "الشيوعيين" العراقيين القدامى/الجدد بمخابراتِ صدّام نفسِه في الستينيات والسبعينيات، فضلاً عن المخابرات العربية والأميركية والبريطانية في ما تلا ذلك من عقود. أمْ أنّ ذلك كلَّه لا يهمّ ما دام بعضُ المتموّلين العراقيين الكبار، الحديثي النّعْمة، يقيمون المهرجاناتِ الثقافيةَ، ويَدْعمون الثقافةَ الشعبيةَ بكتابٍ مجّانيّ يوزَّع بالملايين كلَّ شهر، ويُقيلون عثرةَ بعضِ الشيوعيين السابقين ممّن قرّروا لحسَ ماضيهم و"محاكمةَ" ماركس ولينين والإشادةَ بالديموقراطيةِ العراقيةِ الجديدة؟

* * *

إنّ وطننا، الوطنَ العربي، في مأساة لا لأنَّنا ابتُلينا بأنظمةٍ مستبدّةٍ فحسب، وبأطماعٍ إمبرياليةٍ وصهيونيةٍ متعجرفةٍ فقط، بل لأنَّنا أيضًا إزاء تراجُعٍ حادٍّ في الوعي النقدي الحقيقي. إنّ أدعياءَ الوعي النقدي اليومَ يهاجِمون ظالمين مستبدّين، لكنّهم يَسْكتون عن ظالمين مستبدِّين آخرين. وكانوا قبل سنة 2003 يندِّدون بالاحتلالِ والديكتاتوريةِ معًا، ولكنْ حين سَقطت الديكتاتوريةُ سَكَتوا عن الاحتلال وصنائعه واكتفوا بالتنديد بالديكتاتوريةِ... والديكتاتورية (السابقةِ طبعًا). بل إنّ أحدَهم لم يتورَّعْ عن القولِ في مهرجان المدى في كردستان العامَ الماضي: "إنَّني سعيدٌ الآن لأنَّني في مؤتمرٍ حرٍّ على أرضٍ حرّة!"(19)

بئسَ هذه الحريةُ التي ثَمَنُها سبعُمئةِ ألفِ ضحيةٍ عراقية بريئة خلال أربع سنوات، وتقسيمُ الشعبِ والوطنِ العراقييْن، وتغلغلُ الموساد، وتزايدُ جرائمِ الشرف، وتدهورُ حقوقِ الإنسان وحريةِ التعبير داخل القسم "المحرَّرِ" نفسِه.

وبئس هذا الوعيُ النقديُّ المزيَّف!

تنشر (الكلمة) هذه الدراسة بالاتفاق مع مجلة (الآداب) البيروتية التي ظهرت كافتتاحية لعددها الأخير

هوامش

1 ـ راجع في هذا الصدد ما كتبه صبري حافظ في “قضايانا أمْ قضايا أدونيس الراهنة؟"، الآداب 3/4، 1995، ص 34 ــ 37؛ وأيضًا ما كَتَبه صبحي حديدي في الآداب 7/8 من السنة نفسها بعنوان "أدونيس والمحاججةُ الفقيرة،" وذلك ردًّا على ردّ أدونيس على منتقديه في الآداب (راجع: أدونيس، “الثقافة، الجريمة، التسلية،" الآداب 5/6، 1995، ص 4 ــ 8).

2 ـ من مقابلةٍ أجرتْها محطةُ أنْ بي أنْ اللبنانية التلفزيونية مطلعَ هذا الشهر مع النابلسي، الذي يدعو نفسَه، منذ زمن، “ليبراليًّا."

3 ـ عزمي بشارة، "الشعاراتية الفارغة شعارًا فارغًا،" جريدة الأخبار، 2/4/2007.

4 ـ أحمد بزّون، "الطالباني في لقاء مع مثقفين عرب،" السفير، 4/5/2007.

5 ـ وائل عبد الفتّاح، "إلى كردستان ذهبنا ورأينا،" الأخبار، 12/5/2007.

6 ـ من أجمل ما قرأتُه له، بالمناسبة، كتابُه الصادرُ عن دار الآداب عامَ 2002، وهو بعنوان إناء الألوان. نَقَله عن الكردية: شاهو سعيد.

7 ـ السفير، مصدر مذكور.

8 ـ السفير، 9/5/2007، ص 18.

9 ـ عبد الرحمن منيف، مجلة الطريق، العدد السادس، 1997، ص 101.

Laura Rozen, “Kurdistan’s Covert Back – Channels”,10 ـ  www.motherjones.com.

Mohammed A. Salih, “Iraq: UN Report Sparks Uproar in11ـ  Kurdistan”, http://ipsnews.net/news.asp?idnews-37630.

Andrew Lee Butters, “Kurdistan: Iraqs Next 12 ـ 13

Battleground"? April 12, 2007, Time, www.time.com/time/printout.

Husayn Al-Kurdi, “The CIA in Kurdistan,” Dec. 1996,14 ـ www.zmag.org/zmag/artictes/dec96kurdi.htm.

 “A secular Kurd, of great civility and learning.”15 ـ        www.iris.org.il/bt09/archives/2335-The Great Circle-of-Enmity.html.

Husayn Al-Kurdi, op.cit.16 ـ

17 ـ سعدي يوسف، "جلال الطالباني إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي،" 18/2/2005 (www.rezgar.com).

18 ـ سعدي يوسف، “تأطير المثقفين العراقيين في الخارج استعماريًّا،" 2/10/2006، www.saadiyousif.com/Syasa/21.html

19 ـ الزميل الشاعر عبّاس بيضون، في كلمةٍ وزّعتْها على الانترنت جهاتٌ عراقيةٌ معارضة.