في الرواية التي نشرتها (الكلمة) العدد السابق يرى الناقد المصري أنها تسعى لتأريخ الحياة في مصر وقت الحملة الفرنسية من خلال العاديين، الذين يمثلون الواقع المعاش بعيدا عن أصحاب السلطة، مزج فيها الروائي بين التاريخ الرسمي والتاريخ الشعبي، وانبنت روايته علي خطين متداخلين الأول تاريخي، والثاني إنساني وعاطفي.

فؤاد قنديل يكتب وصف مصر

شوقي عبدالحميد يحيى

كثيرة هي الأعمال الروائية التي سعت للربط بين الشرق والغرب، ومحاولة الاستفادة من تجربة الغرب – المتقدم – في إحداث التغييير في الشرق، وصولا لما وصل إليه الغرب من تقدم.بعد رحلة الكتاب للغرب، وعودتهم إلي البلاد حاملين أمل التغيير المنشود. وكانت البداية بتجربة محمد حسين هيكل في سويسرا التي أثمرت "زينب" التي تعتبر في بعض الرؤي أول رواية عربية، وتجربة توفيق الحكيم في فرنسا التي نتج عنها "عصفور من الشرق"، وتجربة كل من يحيي حقي والطيب صالح في انجلترا والتي نتج عنهما "قنديل أم هاشم" و "موسم الهجرة إلي الشمال". كما اتجهت سهير المصادفة إلي الجانب الآخر، إلي الاتحاد السوفيتي – الذي كان – وكتبت عن تجربتها فيها "لهو الأبالسة"، وغيرها من التجارب التي اعتمدت علي الزيارات الفردية وحمل مشعل التنوير.

إلا أن فؤاد قنديل خرج عن السياق ليقدم رؤية مغايرة قائمة علي التجربة الجمعية التي تحدث إحتكاكا أكبر واشمل, فضلا أنها لا تعتمد تدني الشرق وسعيه نحو الاستفادة من الغرب، وإنما تعامل الشرق علي الند للغرب، فإن كان الغرب لديه الحاضر فقد كان للشرق الماضي، ومن تلاحمهما معا، يمكن أن يولد المستقبل. وهو ما أكده فؤاد قنديل في العتبة الثانية للرواية، وهي الكلمة الافتتاحية { في البدء لم تكن الكلمة.. بل كان الوطن}.

 وإذا كانت مصر قد تعرضت للعديد من الغزوات الاستعمارية، التي كان همها الأكبر هو الاستيلاء علي خيراتها، دون أن تقدم لمصر شيئا، فإن غزوة واحدة هي التي يمكن أن يقال أنها قد أعطت لمصر وفتحت لها آفاقا لم تكن لتصل إليها دونها، وهي الحملة الفرنسية التي تعد أقصر الحملات الاستعمارية، وأكثرها تأثيرا (1798 - 1801) فهي التي أدخلت المطبعة في مصر لأول مرة، التي تعد الباب الملكي للمعرفة ونقلها، وهي التي كشفت أسرار اللغة الهيروغليفية – شاملبيون – التي كشفت عن الكثير من أسرار الفراعنة، وهي التي تعرف منها المصريون علي سجلات المواليد وكيفية المحاكمات، وهي التي أعدت كتاب وصف مصر الذي يعد تسجيلا للحياة بشتي مناحيها في مصر، وهو ما حاكاه فؤاد قنديل  في روايته "الفاتنة تستحق المخاطرة" التي اختص بها مجلة الكلمة في عددها رقم 83 الصادر في مارس 2014. والتي سجلت وجه مصر في تلك الفترة والتي تبين الكثير من التقدم وما نفتقده الآن – في عهد محمد علي مؤسس الحضارة المصرية الحديثة -. وإن لم يتحدث عن الحملة كموضوع، حيث أنه لا يكتب تاريخ، وإنما كعمل روائي، اقتطع فترة يستطيع من خلالها تبيان كيف أن مصر مثلما استفادت من الحملة، فإنها أفادت بما لديها من حضارة أبهرت الفرنسيين وسعوا لأن يستحضروها إلي بلادهم، وهي البعثة التي أتت إلي مصر لاستجلاب إحدي مسلاتها الفاتنة، لتزين بها بلادهم، رغم المخاطرة في عملية النقل، فكانت رغم مخاطرتها بالنسبة لهم تستحق المخاطرة، كما كانت مصر الفاتنة بتاريخها، وبناسها، تستحق المخاطرة بالثورة عليهم، رغم فارق القوة والعتاد. لذا قام السرد في الرواية علي صوتين تحدثا بضمير المتكلم، هما "جوزيف" المصري الفرنسي، ممثلا عن الجانب الفرنسي، و"جزيرة" ممثلة عن الجانب المصري، وكأنهما في المواجهة، علي قدمي المساواة، وليمثل كل منهما حضارة بلده.

علي أن اختيار فؤاد قنديل لشخصية جوزيف، كان موفقا لحد كبير، ذلك الذي سمي نفسه "يوسف" في مصر، علي غرار القائد الذي حمل مهمة الحملة بعد نابليون بونابرت وهو الجنرال "جان باتيست كليبر" الذي تسمي باسم مصري، وسعي إلي التقرب للمشايخ والأعيان، لكسب ود المصريين، فرأينا "جوزيف" سعي للتقرب إلي الحاج "حكيم الحجاجي" العمدة الأصلي لقرية الأقصر، والذي يعتبر العمدة الحقيقي رغم تولية أخيه  "زهران" لها، بعد أن أصابه المرض، من جراء فقده لابنه "مدثر" في الحرب المصرية اليونانية. وادعي "جوزيف" أنه كان معه في تلك الحرب، وأن "مدثر" قد أبلي بلاء حسنا، وشجاعة، في الحرب، الأمر الذي أثلج صدر الأب "حكيم"، وفتح قلبه، وقلب الأسرة كلها، وبيتها بخيره الوفير، ل"جوزيف".

لم يختلف "فؤاد قنديل" عن سابقيه ممن كتبوا عن التلاحم بين الشرق والغرب في عقد المقارنات فقط – وإن كان قد قدم منها الكثير، في كشف الحالة المزرية للإنسان المصري في مواجهة ما يتمتع به الفرنسي، ففي صورة تناول الفطور لرجال البعثة، في مواجهة ما يتناوله المصري:

{ رفض الأطفال دعوة الأمهات للعودة إلى المنازل لاستكمال النوم أو لتناول طعام الإفطار المكون في العادة من الجبن القديم والخبز الجاف وبعض العيدان من الخضرة التي تنمو وحدها على حواف الترع والقنوات الظمأى} أما علي الجانب الفرنسي:

{{ اغتسل الجميع وتناولوا إفطارهم المتاح من الجبن والبيض والزيتون والمربي والزبد والخبز الفرنسي}.

وفي موضع آخر نري المقارنة الدالة في:

{  كنت قد تساءلت عن السر في أن البعثة كبيرة العدد تحتاج إلى عمال محليين من الأقصر , معظمهم إن لم يكن كلهم بلا أية خبرة ترتقي لمستوي أقل العمال الفرنسيين.. لم أتصور إمكانية الحاجة إليهم ثم أدركت الآن فقط أن هناك بالفعل أعمالا يتجنب الفرنسيون القيام بها مثل هدم المباني والشيالة وجر الباخرة بالحبال، وغيرها من الأعمال التي لا تحتاج إلى فن وعلم بقدر ما تحتاج إلى قوة بدنية، والفرنسيون لا يتحملون هذه الأعمال المهدرة للطاقة قليلة الأهمية من وجهة نظرهم.}.

ورغم هذه الصورة المخزية، ورغم بساطة الإنسان المصري، فإنه قدم ما أبهر هؤلاء الذين يتناولون ما يعتبر رفاهية للمصري. ويكفي أن ترسل فرنسا بعثة بهذا العدد وبهذا الاهتمام للحصول علي المسلة المصرية، لتزين باريس أم الفنون، ويكفي شهادة "جوزيف" عن المسلة المصرية، التي راح يتغزل فيها كأنها معشوقة:

{ أما المسلة فترتقي بصاحبها وبلدها والبلد التي تنتقل إليه.. المسلة منارة تضيء للعالم طريق الخلود.. المسلة عنوان الرشاقة. شقيقة السيف لكن السيف دوره الوحيد القتل. إذا نظرنا إلى الهرم فعلينا تصور أنه مسلة لكنها مضغوطة..}.

كما تقدم الرواية صورة خيالية أخري، في محاولة لـتأكيد صورة الندية، ووجود شفافية الحكم ونزاهته. وهو ما عبرت عنه الرواية :

{ العمدية.. الحدث الغريب جدا والأقرب إلى المستحيل.. كيف فكر هؤلاء الناس البسطاء في هذه الفكرة؟!.. لم يسبق أن سمعت بأن امرأة تولت العمدية.. لم أتصور شعبا لا يجد قوت يومه ويمشي أغلب أبنائه حفاة في الشوارع المتحجرة والملتهبة يمكن أن يطلب من حكامه إقالة مسئول، أما الأغرب أن يستجيب الباشوات الكبار للطلب الغريب.. الشعب لا يملك في العادة إصدار أي قرار أو التعبير عن رغبته بأية صورة.!!!!.. وإذا حدث هذا مع أي حاكم فحسب علمي لا يمكن حدوثه مع محمد على باشا.}.

فبعد وصول البعثة الفرنسية، وقبل العمل في رفع المسلة المصرية، تمهيدا لنقلها إلي الباخرة، كان لابد من تمهيد طريق سير المسلة، الأمر الذي تطلب هدم بعض البيوت، واتفقت البعثة علي تعويض أصحاب البيوت بسبعة جنيهات. إلا أن "جزيرة" اكتشفت أن البعثة كانت قد منحت كل صاحب بيت عشرة جنيهات، وأن عمها العمدة زهران لم يمنح صاحب البيت سوي سبعة. ذهبت "جزيرة مع أصحاب البيوت إلي العمدة وواجهته بالحقيقة، الأمر الذي أعاد الحقوق لأصحابها، لتفاجأ "جزيرة، بأن هناك من قدم بلاغا للوالي، وأن تحقيقا وتحققا قد جري، كان من نتيجته، عودة الحقوق لأصحابها، وعزل العمدة "زهران" وتعيينها عمدة لقرية الأقصر.

وأيضا، وبالمجهودات الذاتية، نجد "جزيرة" في ذلك الوقت المبكر تبدأ رحلة التنوير، فأقامت مدرسة، انتظم فيها البنين والبنات، وقيادة فريق من الشباب لإضاءة القرية بما كان متاحا من وقود، وهي من عمل علي صناعة عربة خشب يجرها حصان (كارته).

وهكذا سعت الرواية أن تنتصر لمصر، وأن تجعل منها ندا للدول الأوربية.

وصف مصر

إذا كان كتاب "وصف مصر"  الذي أعدته الحملة الفرنسية بمعرفة مجموعة من العلماء الذين تناولوا الحياة المصرية من نواحيها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فإن العمل الإبداعي "الفاتنة تستحق المخاطرة" قد تناول كل ذلك.

فمن الناحية التاريخية، قدمت الرواية الكثير من التاريخ المصري، مصحوبا بالتواريخ الحقيقية، وإن لم تنجرف لجفاف التاريخ. فنتعرف علي مسيرة محمد علي في حكم مصر وكيف دانت له بعد تخلصه من المماليك. وغيرها من تواريخ الأحداث التي امتزج فيها الواقع الفعلي بالمتخيل، حتي بات التاريخ قصة ممتعة.

فضلا عن تقديم المعلومة – الصحيحة-التاريخية والسياحية. والتي قدمت، لا كمعلومة منفصلة، وإنما من خلال حوار لتتضفر المعلومة في نسيج السرد:

{ تنقلت نظراتي بين الأعمدة.. قلت:

-                     أعمدة كثيرة جدا وعالية

-                     مائة اثنان وعشرون عمودا، ارتفاع كل منها يزيد على واحد وعشرين مترا

اندهشت وسألته:

-                     هل أحصيتها؟

-                     نعم.. الأعمدة موزعة على تسعة صفوف وواضح للمتأمل أن هناك عدة معابد في معبد واحد كبير ربما تبلغ مساحته ستين فدانا أو أكثر بما فيها البحيرة}.

ومن حيث الجغرافيا، حفلت الرواية برحلة ممتدة عبر نهر النيل، كشفت عن طبائع البلاد ومعيشة العباد. فعلي سبيل المثال نقرأ عن إحدي بلاد الصعيد العامرة بالآثار:

{إسنا مدينة تقع جنوب الأقصر على بعد حوالي خمسين كيلومتر.. بها معبد لم أفهم المكتوب عليه، كما لم أفهمه في زيارتي له الخميس قبل الماضي وأنا بصحبة زملاء البعثة.. لابد ستزداد قيمته إذا عرف الإنسان المكتوب على الجدران، لكنه معبد جميل وسليم تماما.. الرسوم علي حوائطه مثل رسوم معبد دندرة من حيث نصاعتها ونقاء ألوانها البهية. أما المدينة فهي عامرة بالمحلات والورش والوكالات}.

وإذا كنا نري أن الرواية (الرواية عامة) هي المؤرخ لحياة الشعوب، كما يقول عنها "فيصل دراج" (ذاكرة المقموعين). فإن "الفاتنة" تجسد هذا المعني عمليا، حيث نقرأ ونتعرف علي ما كان سائدا في تلك الفترة عن عروس النيل التي تزف إليه في احتفال كبير، ويمثل قناعة حقيقية لأهمية النيل ودوره في حياة المصريين.

كما نقرأ عن فلسفة الدين في حياتهم، وعلاقته بقبول استسلامهم، وقابليتهم لحكامهم، وهو ما قد ينعكس بشكل ما علي واقعنا الحالي، وكأننا نرتد للوراء، بما يصنعه من عرفوا في زمننا بالإسلام السياسي :

{ كنت أود أن أتحاور مع أحد في قضية الإيمان.. الفرنسيون لا يميلون عادة لهذا اللون من الموضوعات،والمصريون يتبعون طريقا واحدا ولا يحتملون الاختلاف حوله و بالذات أمور الرب والسماء.. لكنهم بالتأكيد في مشكلة حقيقية فقد استسلموا لفكرة الإيمان التي تعنى أن الله معكم أينما تكونوا وقد أعد لكم الجنة فلا تعبأوا بالدنيا وما فيها من فقر وقسوة وظلم.. الله سوف ينصركم إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.. هذه هي الأفكار التي يروج لها رجال الدين والأئمة والوعاظ ومن على شاكلتهم.. لعل هذا هو السر في أن المصريين الذين يذوقون كل الويلات التى خلقتها الشياطين يثقون أن الله مطلع فلا داعي للثورة لأن الجنة في انتظار العباد.. إن رجال الدين الذين يمنعون المواطنين المسلمين من الثورة ضد الفقر والجوع والظلم والطغيان، إنما يخدعون الشعب ويصنعون له الطغاة والجبابرة.}.

إلا أن هذا الاستسلام – الظاهري – ما هو إلا وقود مكمور في الأعماق، ما أن تزداد حرارته حتى يشتعل، ويصبح بركانا. وهو ما يحدد الطبيعة الجوهرية للإنسان المصري وما عبر عنه "جوزيف" الفرنسي، وكأنه يقرأ الواقع المصري الآن، وما نعيشه من انفجار بركاني غاضب في ثورتي مصر الحديثة:

{ الشيخ يونس اعترف لنا بسر لم نكن نتوقعه ولم نعلم به مطلقا.. الشعب الذي نحسبه سهلا ليس كذلك.. الناس التي نظن أنها غير مدركة لما يجري حولها ليست كما نظن.. الرضا الذي يتمتع به الفقراء والطيبون ليس رضا كاملا وغير قابل للامتداد حتى نهاية العمر.. الثورات كامنة والغضب مكمور ولا موعد محدد لانفجار البركان.}.

ولا تعدم الرواية تأصيل تلك الروح الوطنية، وما تجسد علي أرض الواقع في رفض الحملة الفرنسية، بقيام المصريين بثورتهم عليها، والذي نجح "كليبر" في إخمادها، بما توافر له من إمكانيات لم تكن متاحة لهم. فتستعيض الرواية عنها برفض الحداد البسيط "مهران" الذي اجتذبوه للعمل مع البعثة لاقتلاع المسلة من أرضها، رفضه أن يرفع العلم الفرنسي علي أرض مصرية، ويفشل الجميع في اقتناعه بالعدول عن موقفه، دون أن يهاب الفرنسيين، أو انتهاء عمله معهم، إلي أن يقترح أحدهم أن يرفع العلم المصري إلي جانب العلم الفرنسي. فيوافق "زهران" علي مضض.

التقنية الروائية
انبنت " الفاتنة" علي خطين متداخلين، تدانيا وتباعدا علي مساحة الرواية، الأول منهما هو الجانب التاريخي، وأما الجانب الثاني، فهو الجانب الإنساني العاطفي الذي أتقنه فؤاد قنديل، بإنضاج العاطفة بين كل من "يوسف" و "جزيرة" التي رغم غرابة تسميتها، ورغم الربط بينها وبين {الجزيرة المتحركة)، إلا أن صناعة شخصية "جزيرة جاء متوافقا ومعبرا ورامزا، إلي تلك الحالة المتفردة بين محيط اجتماعي مختلف، فتفردت، بالعديد من الأعمال السابق إيضاحها، والتي بدت كجزيرة بشرية متحركة بين البشر.

أقول إن إنضاج عملية اللقاء الروحي بين "جزيرة" و "يوسف" تم علي مهل وتؤدة، فاقتربت كثيرا من الطبيعة البشرية، خاصة في تلك البيئة الصعيدية، وفي تلك المرحلة التاريخية المتقدمة. والتي تطورت من الإعجاب، أو الانبهار الذي أصاب يوسف منذ اللحظة الأولي في لقائهما، وما أبدته وهي علي حصانها الأشهب، رافضا أن تدخل البعثة إلي الطاحونة دون استئذان أصحابها، ولم تكن قد تعمدت بعد ( أي حصلت علي العمودية). إلا أنها غرست الحب في قلبه، ليتطور في قلبها بعد عدد من المقابلات، غير العاطفية، وليشتعل في قلبيهما، الأمر الذي تحول بهما من الرمز إلي الكائن البشري المتفاعل والفاعل. والذي ترجمه فؤاد قنديل في فقرة معبرة عن قوة الترابط الحاصل، مستمدة من واقع الحال، وطبيعة المعاش، وتجسيد الجانب البشري في تمكين الحب من القلب:

{ زارني طيفها. كان العمل يجري على قدم وساق.. حملت طيفها في أعماقي ومضيت إلى الباخرة..اجتذبني النيل البديع رغم الماء الذي يغلب عليه اللون البني المحمر بسبب الطمى المتعلق به أبدا..إذا الماء غذ سيره تعلق به الطمى وإذا حط الماء وتمهل ارتبط الطمى به وتمهل ثم حط وانتظر الحركة التالية للماء.. أنا الطمى وهي الماء.. سوف يأتي قريبا ذلك اليوم.. حتى الآن أعيشه فكرا، وهي لا تأبه.}.

النهايات
علي الرغم من المغامرات الإبداعية التي تعتبر سمة من سمات الكتابة عند فؤاد قنديل، وتوافر الخيال المعتمد كثيرا علي الفانتازيا، التي تتطلب جرأة في اقتحام المجهول وما قد يحلق بالقارئ في آفاق غير مستقرة، إلا أن شخصيته المسالمة، وروحه الودودة، كثيرا ما تغطي علي نهايات أعماله، حيث يشفق علي قارئه من النهايات الفاجعة أو الصادمة، أو القلقة. فتأتي دائما نهاياته مسالمة، وهو ما قد يكون علي حساب العمل، وليس له. الأمر الذي يجعلني في الكثير منها أتمني لو أنه توقف بالعمل قبل النهاية.

ففي روايتنا "الفاتنة تستحق المغامرة" في البداية، أراد أن يساعد قارئه في المقصود من العنوان، فعدد له ما يمكن أن ترمز له، وكأنه يسأله تحديد أي من الاختيارات:

{من الفاتنة.. و من العُشاق؟

هل مصر التي عشقها الغرب؟

هل الإمبراطورية التي شغلت محمد على؟

هل " جزيرة " التي هام بها جوزيف؟

هل المسلات التي حلم بها الفرنسيون؟

هل الأقصر التي اجتذبت الرحالة وعلماء التاريخ؟

أم تراها الهيروغليفية التي تعبّد في محرابها شامبليون؟}

 ولم يترك قارئه يجتهد في المقصود من العنوان من خلال قراءة العمل.

وفي النهاية  يتم التوافق علي زواج "يوسف" و"جزيرة". إلا أن الإقامة بعد الزواج تخلق مشكلة صادمة، ف "جزيرة" التي لم تغادر الأقصر، إلا إلي القاهرة، و بعد أن أصبحت عمدة الأقصر، لا تستطيع مغادرتها، خاص وهي من ترعي والدها المريض، وأمها ثقيلة الوزن، وأخيها "بركة" ناقص الأهلية، وفقدان الأسرة للأخ الذي راح في الحرب "مدثر". فهي لا تستطيع تلبية رغبة "جوزيف" في السفر معه إلي فرنسا، وهو الذي ليس لديه عمل في مصر، إلا أن يكون زوج الست العمدة.

ينتهي الموقف علي فض الخطبة، وأن يغادر جوزيف الأقصر مع البعثة العائدة إلي فرنسا. ويأبي فؤاد قنديل أن تنتهي الرواية بهذه النهاية غير السعيدة، فنفاجأ بعودة "يوسف" من منتصف مسافة الرحلة إلي القاهرة بطريقة غير مقنعة، حيث لم يجد من وسيلة للعودة غير حصان يحصل عليه من أحد سكان إسنا، وفي الأقصر يتم لم الشمل من جديد ويقام الفرح. وفي أثناء الفرح، يأتي من يجمع عشرات الشباب، دون الأربعين، جبرا للحرب، ورغم ذلك يستمر الفرح، الأمر الذي يتناقض مع تقاليد القرية المصرية التي من الممكن أن يكون جمع الشباب بهذه الطريقة، مأتما، وهو ما يدعو أصحاب الفرح بعدم الجهر به، إن لم يؤجل.

كذلك يتناقض أيضا مع طبيعة وشخصية العمدة "جزيرة" التي طلبت في بداية توليها المسؤولية ألا يتم جمع الضرائب أو جمع الشباب إلا بعد الرجوع إليها، وعن طريقها. غير أن الرح يستمر، دون أن نجد أي رد فعل للعمدة علي ما يحدث.

هذا علي الجانب الإنساني. فإذا ما نظرنا إلي الجانب الرمزي، وما اعتبنا معه سابقا، من كون كل من "جوزيف" و "جزيرة" ممثلين لحضارتين مختلفتين، فإنهما لم يتزاوجا، وإن استفاد كل منهما من الآخر. إلا أنهما ظلا، ومازالا، حضارتين قائمتين.  وهو ما تمنيت، أيضا، معه أن تتوقف الرواية عند مغادرة جوزيف إلي فرنسا، وإن كنت أعلم أنه ليس من حقي التدخل في صنع العمل، إلا أنها أمنية. 

فإذا كان المجتمع المصري يعيش الآن فترة من الثورات، تضاربت فيها الهوية، وسعي البعض لطمسها، والبعض لتفتيتها، فإن الرواية، بدورها الساعي لتأصيل وتصحيح ما أغفله التاريخ المعتمد علي السلطة، والمتحيز لما يوافقها، فإن " الفاتنة تستحق المخاطرة" سعي لتأريخ الحياة في مصر من خلال العاديين، الذين يمثلون الواقع المعاش بعيدا أصحاب السلطة، وتأصيلا لدولة لها تاريخ ممتد عبر التاريخ، مزج فيها الروائي بين التاريخ الرسمي والتاريخ الشعبي، معتمدا فيها علي لغة تتناسب والجميع، قائمة علي اللغة الفصيحة غير المتفاحصة، حتى في لغة الحوار المتوافر فيها بقدر يعبر عن الحوار بين متحاورين، قائم علي الندية، رافعا رأس الشموخ، رافضا الخنوع، محاولا أن يعيد تنسيق الجسيمات، لتتضافر وتتجمع في جسد واحد، له كيانه، وله شموخه. وإذا كانت جذورها قد تعمقت في التاريخ البعيد، فإن فروعها تظلل علي التاريخ القريب. إلي جانب كونها وثيقة تاريخية تعبر عن مصر التي يجب أن يعرفها الخارج قبل الداخل، ليعيد لها الاعتبار المفقود، علي أمل مستقبل مولود.    

       

Em: shyehia@yahoo.com