شهدت الرواية العربية منذ بداية العقد الأخير من القرن الفائت وإلى اليوم؛ حركة تجديد دائم في أشكالها ومضامينها متوسلة صيغ التمرد على الجاهز من الأشكال لابتداع وابتكار أخرى قادرة على تنويع أساليبها ولغاتها وتقنياتها لتصوير ومساءلة الثابت والمتحول، واستيعاب الطارئ ومحاورته، قصد تشيد رؤى جديدة للذات والمجتمع والتاريخ.
ويعتبر يوسف زيدان أحد أكثر المجددين في الرواية العربية، وأبرز المساهمين في الوصول بها إلى أن تكون قرينة ونظيرة الرواية العالمية،، وتستمد أعمال يوسف زيدان الروائية خصوصيتها النصية وفرادتها المعرفية من جرأتها وعمقها في مساءلة قيم ومعتقدات بالية، ومثل اجتماعية مشبعة بالديني والخرافي، وفي استنطاقها للوقائع التاريخية باعتبارها نتاجا للفعل البشري عبر توليفات سردية لعوالم تخيلية تعبر دواخل الشخصيات لتكشف العميق فيها والمعقد، وتغوص في الواقع الاجتماعي المأزوم والمحكوم بأنساق ثقافية زائفة يتشابك فيها الديني بالسياسي والاجتماعي؛ لتزيل عنها القناع والطابع المثالي الموسومة به.
في هذا الإطار وفي سياق تجريب إمكانات النص الروائي في صهر وتحويل نصوص معرفية أخرى من التراث الديني والتاريخي بما تحمله من معارف وتجارب، وخلفيات إلى نص ثقافي سردي يفتح مساحاته الواسعة لتخيل التاريخي وسرد الذاتي ومساءلة الديني والمجتمعي كتب الروائي المصري الكبير رائعته عزازيل.
تسرد الرواية متوسلة تقنية الحكي الاسترجاعي سيرة الراهب هيبا، الذي قدم من جنوب مصر مسقط رأسه إلى الإسكندرية؛ حاملا إليها آماله في أن يتحصل علوم الطب وأن يعتلي مراتب ومقامات الرهبنة المسيحية، وحيث ستبدأ آلامه التي ستملأ نفسه بالجروح والشروخ وستنقلنه منها في رحلة مكانية ونفسية لتعبر به الأديرة والأفكار؛ فتحول إيمانه المطلق إلى شك وحيرة؛ سَرَهُمَا في قلبه وعقله متوجها بهما نحو بيت الرب أورشاليم حيث سيمارس الطب لسنوات طوال وينقطع فيها للعبادة محاولا نسيان شكوكه وحيرته التي لازمته منذ رأى موت أستاذة الأزمان الفيسلوفة هيباتيا رمز العلم والمعرفة؛ نتيجة حملة شنها عليها بابا اكلريس في عظته، وبيد الراهب العنيف المسمى بطرس الذي جذبها من فوق عربتها وجعل جسدها مباحا لكل مسيحي حضر عظة البابا وسمع تحريضه على قتل كل وثني في الإسكندرية، وحاول هيبا نسيان أوكتافيا الجميلة رمز الأنوثة والعشق والحياة التي ماتت فوق جثة أستاذة الزمان هيباتيا محاولة حمايتها.
التقى هيبا بنسطور في كنيسة بيت الرب بعدما كادت جراح وخدوش الألم الإسكندري تندمل؛ وما نتج عنها من أمواج الشك فأيقظ فيه بسؤاله عن الإسكندرية وما جرى فيها حينها؛ كل ما كاد ينساه فتبادلا النقاش عن قضايا في العقيدة والسياسة فوافقت أجوبة نسطور عن أسئلة هيبا ما استقر عليه عقل هذا الأخير فانعكس ذلك في وجدانه حبا لنسطور وتقديرا له، ثم من أروشاليم ينتقل هيبا إلى دير بطرف أنطاكية حيث سيختبر قدرته على الاستمرار في الرهبنة والوفاء لقيودها المحرمة لكل ما له علاقة بالحياة، وسينهزم وينهار صموده أمام جمال مرتا الساحر وصوتها الإنشادي الشادي فتعيد الرواية في آخر رقوقها هيبا الإنسان الراغب في أن يصير ملائكيا بسلوك طريق الرهبنة آملا في اعتلاء مقاماتها إلى؛ بشريته.
يرتهن الحكي في الرواية لمسار زمني خطي يسرد الخاص والعام من حياة الراهب هيبا، مؤسسا لسرد تاريخي اجتماعي لا يعترف بالمسافات التي يرسمها المؤرخ ورجل الدين بين ما هو نفسي ذاتي وما هو تاريخي اجتماعي وديني؛ ويستثمر مجالات معرفية عديدة لإعادة النظر في التاريخي والمجتمعي- الديني، وفي اختراق واستنطاق أعماق النفس الإنسانية بلغة تنزع تارة إلى المباشرة والتقريرية في سرد الأحداث، وأخرى إلى الجمالية والشاعرية الطافحة والمشبعة بقيم الحب والصدق والصفاء، والبوح والاعتراف بالعميق في نفس هيبا، وفي سرد أفكاره وأحلامه وتأملاته الشاردة وتخيلاته وهذيانه لرسم لوحات تعكس حقيقة النفسي والباطني الإنساني في حالاته المختلفة، ولتشيد تصورات جديدة ومختلفة للسائد والمهيمن من الأفكار التي تجعل من الكنسي ورجل الدين عموما كائنا ملائكيا، مما يجعل من النص الروائي لزيدان بناءا فنيا يكشف ويعري حقيقة العالم الداخلي والخارجي للشخصية الرئيسة هيبا، وبحثا عميقا يرصد علاقة الذات بالمعتقد والتاريخ ويفسح المجال لمناقشة الصراع الاجتماعي الديني الذي يتخذ في النص أشكالا عديدة مختلفة ومتنوعة .
للصراع في الرواية تجليات كثيرة يأتي في مقدمتها الصراع الذي أثار جدلا واسعا في المجتمعات الإنسانية؛ والذي شارك فيه السياسي والصحفي ورجل الدين والمثقف وهو الصراع القائم منذ القدم بين الديني والسياسي وقد تمثل في سرد النص للصراع الكنسي المسيحي في القرن الخامس الميلادي، والذي اتخذ شكل صراع مذهبي يفضحه النص على لسان شخصية رئيسة في النص، وفي التاريخ الكنسي المسيحي؛ يقول نسطور مجيبا سؤال هيبا :"يا هيبا ما يجري في الإسكندرية لا شأن للديانة به إن أول دم أريق في هذه المدينة بعد انتهاء زمن الاضطهاد الوثني كان دما مسيحيا أراقته أياد مسيحية، فلا تخلط الأمور ببعضها يا ولدي فهؤلاء أهل سلطان لا أصحاب ايمان"(الرواية ص:184-185)، أما الصراع الثاني الذي نجد له صدى في الرواية فهو الصراع العقدي حول طبيعة السيد المسيح، والذي انتصرت فيه الرواية عبر سرود حوارية داخلية لهيبا لا تخفي أسئلتها الفكرية الشكية؛ لإنسانية المسيح على ألوهيته وبل وكشفت أبعاد هذا الصراع وخلفياته يقول النص في شكل حوار داخلي لهيبا: "- وكيف مات ...كيف لك أن تصدق يا هيبا، أن الحاكم الروماني بيلاطس وهو الإنسان قادر على قتل المسيح الذي هو إله؟ -كان ذلك هو السبيل الوحيد لخلاص الإنسان- بل السبيل الوحيد لتخليص المسيحية من اليهودية"( الرواية ص: 365).
إن الصراع الذي لم يلق اهتماما من قبل نقاد النص والذي نعده الأهم والمركزي في النص؛ هو الصراع الذي تشخصه الرواية بين الذات وميولاتها الإنسانية، والمعتقد وشرطه المثالي. متوسلة بلاغات اليقين حينا، والتشكيك والمساءلة للمسلمات الاجتماعية والمعتقدات الدينية حينا آخر، في مزج فني راق للتخييل بالتأمل الفكري لتجسيد ما تعرفه شخصية هيبا من تمزق داخلي بين قيود الأنا؛ التي يترجمها الاطمئنان للديني والإيمان به والامتثال لأوامره دون مساءلتها. ورغبات الهو في الحياة والإقبال عليها بكل ما تعنيه من عشق وبهجة وفرح، يقول هيبا "وددت لو ذهبت إلى كوخ مرتا ودست نفسي في حضنها أو أعتلي العمود الذي يلقي رئيس الدير عظاته للشعب من فوقه (الرواية ص:339)، وتجدر الإشارة في هذا السياق أيضا إلى التلازم التقابل العميق –الموافق للتصور الديني- الذي يقيمه الكاتب بين الهو وعزازيل وبين هذا الأخير وممارسة الكتابة؛ أما التقابل الأول فيتمثل في كون "عزازيل يعشق الحياة فهي مرتعه ولذلك يكره الداعين إلى نبذ المباهج والأفراح ولا يطيق الزهاد والمنقطعين عن الحياة"(الرواية 362)، فيما يتمثل التقابل الثاني في كون الكتابة رمز في النص للحياة وللأبدية والخلود، ناهيك عن كون عزازيل؛ هو المحفز على الكتابة يقول الصوت الداخلي/عزازيل لهيبا" أكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يموت أبدا"(الرواية ص:361).
إن عزازيل في الرواية هو: الهو الإنسانية الراغبة في الحياة، والعشق لأوكتافيا ومرتا. وهو المجادل والمحاور والمشاكس هو السؤال والأفكار "النزقة التي تسحب هيبا نحو السرب المظلم الذي بجوف النفوس"، هو علم هيباتيا التي حٌرمت محاضراتها، فأهدر دمها، وهو الجواب الذي لا ترتضيه أنا المؤمن فما أن "غاب عزازيل –يقول هيبا- بداخلي وسكت، شعرت بعدها بالفراغ يلفني ..فغمرتني راحة مفاجئة..بعد حين توسدت فراغي ونمت في نومي"(الرواية ص:366)، هو العقل الذي يقلق راحة القلب، والاطمئنان للفراغ والاستسلام للنوم. هو الحياة التي تناقض الآخرة.
إن يوسف زيدان استطاع بعودته للتاريخ وتحويله إلى بناء فني روائي يحمل فهما وتأويلا جديدا لعلاقة الديني بالسياسي والنفسي مستعينا بمساحات الحكي الممتدة للرواية وبقدرتها على الصهر والدمج والتحليل النفسي للشخصية والنفاذ إلى أعماقها، والنظر في علاقاتها بمحيطها؛ أن يجعل من الرواية شكلا من أشكال البحث والتحليل، وأداة معرفية تصحح ضمن مجراها التخييلي المتعدد الروافد والمرجعيات صورة الكنسي المرتبطة في مخيال العربي المحكوم بنسق ذهني مكبل بمثل تفصل الإنسان وفعله عن شرطه التاريخي والمجتمي وتصفه بقيم الصفاء والصدق والزهد والإخلاص، راسمة له صورة الكائن الملائكي الطهراني الذي لا مكان له في تاريخ وحاضر المجتمع العربي المأزوم، كما استطاع بروايته أن يعيد الناقد كما الروائي إلى البحث في علاقات الروائي بالتاريخي.