كلما فكرت في الكتابة عن كتاب صديقي العزيز شريف سمحان، انتابني شعور غريب، فكيف لي أن أكتب بموضوعية، أخشى الانزلاق في أحد فخين، أحدهما أشد من الآخر، أخشى أن أستفيض مادحا، فيفلت الزمام، وأخشى أن أتمترس خلف قضبان من المحاكمة الصارمة فيكون هناك ظلم لما كتب هذا الصديق، ولكن للنص سلطة أخرى جعلتني أكتب غير هياب وغير متردد، وقد مكثت على ذلك التردد أشهرا.
نُشر كتاب الأستاذ شريف سمحان عام 2010 في رام الله صادرا عن دار الحسن للطباعة والنشر والتوزيع، ويقع الكتاب في مئة وست صفحات من القطع المتوسط، ويتكون من اثنين وخمسين نصا تراوحت بين القصة الومضة والقصة القصيرة جدا والقصة القصيرة والخاطرة، واقتربت أحيانا بعض النصوص من المقالة، وظهر فيها شيء من التوثيق السياسي أو الاجتماعي لبعض الفترات التاريخية في فلسطين، ولكن ليس مهما التوصيف الأدبي لتلك النصوص، موافقا في ذلك رأي الأستاذ جميل السلحوت الذي قدم للكتاب، فأنهى التقديم بقوله: "سنترك النصوص تتحدث عن نفسها للقارئ"، ومن حيث انتهى السلحوت فسأحاول أن تكون بداية هذه القراءة، حيث النص فكرة وبناء هو السلطة الحاكمة!
تتوزع نصوص المجموعة ثلاث قضايا رئيسية متشابكة معا؛ الهم السياسي العام الذي لا يقف عند اللحظة الراهنة، ولكنه يرتد إلى فترات طويلة من عمر القضية الفلسطينية كما جاء في قصة المختار، تلك القصة المطولة التي استهلكت ما يزيد عن عشرين صفحة، ليعالج فيها قضايا اجتماعية وسياسية من عهد الانتداب البريطاني.
عدا ذلك فإن الكاتب مسكون بالسياسة ويعاني من حساسية مفرطة تجاه "الزعيم" أي زعيم، هذا الفرد الذي يسبح الكل بحمده، ويصوغون له قصائد المديح الهزيلة، حتى حوّل خطبة الجمعة إلى خطبة لمدحه، فانفض الناس عن الصلاة ليصلوا في بيوتهم، زعيم يستولي على كل مقدرات الدولة ويستعبد الشعب ويسرق قوته، ويمارس في سجونه السياسية كل قهر واستبداد مفضيين إلى الموت، زعيم يسعى لتوريث الحكم إلى أحد أبنائه، ومستعد أن يبيع "الوطن في سوق النخاسة"، ولم يكتف سمحان بهذا التعميم في الحديث عن السياسة بل إنه يتناول في النقد الساخر الموجع ما حدث في غزة من اقتتال معتبرا ما تم "هزيمة" تشبه هزائمنا عام 1948 وعام 1967، بل إنه يعترف قائلا: "أعترف أنني بت ألمح تفاصيله في قطاع غزة في حزيران عام 2006".
يجد الدارس لهذه النصوص ملامح من الأدب السياسي غير المداهن، المباشر الذي يقول ولا يخشى لائمة لائم مهما كان، ولذلك فقد يلمح المرء ما يشبه التناص الأدبي مع بعض الأعمال السياسية المهمة والتي كتبها كتاب عرب، وأخص بالذكر هنا رواية "شرق المتوسط" رائعة الكاتب عبد الرحمن منيف، وذلك في قصة "تلك الأقدام"، ولكن سمحان يميت البطل في نهاية القصة، ربما أراد أن يقدم رسالتين في سياق واحد، الأولى تقول: إن الأحياء إذا لم يستطيعوا فضح الدكتاتور، فإن الموت – موت الضحايا كفيل بذلك، وأما الثانية فتحريضية بطريقة غير مباشرة، وكأنه يستنهض الكلّ من أجل أن يثوروا على هذه الأنظمة البائسة، ألم تروا ما حدث لهذا السجين؟ ماذا تنتظرون؟
ومن جانب آخر ترى سمحان يلتفت في قصصه إلى ما يشبه الرمز الساخر، ليقول ما يريد قوله ببساطة وعفوية، وذلك في قصة بعنوان "البسطار"، فيستذكر بطريقة التداعي الحر تاريخا غير مرغوب فيه لهذا الحذاء أيام الانتداب البريطاني وربط مع واقع السياسة في إسرائيل، وتذكر هذه القصة بقصة الكاتب الفلسطيني رياض بيدس "باط بوط"، الذي يصور فيها بيدس كثيرا من الأفكار من خلال هذا الحذاء وبطريقة ساخرة!
وأما المحور الثاني الذي يتحدث فيه الكاتب سمحان في هذه النصوص، فهو علاقته بالمرأة، وخاصة تلك النصوص التي دبجها وأفاض فيها حديثا حول عاطفة الحب، فصور لنا المرأة معشوقة بابلية، وأسبغ عليها من السمات والصفات ما يجعلها فريدة في الحسن والتأثير والسحر، أتته بعد أن فات العمر، ولكنه يعزي نفسه قائلا: "ترى لماذا يلتقي العشاق متأخرين؟ لكن أن يلتقوا متأخرين خير من ألا يلتقوا أبدا"، لعلها كانت هي المرأة التي قضى عمره في انتظارها، فرأها ولم يلمح إلا صورتها في وجه كل امرأة، ولكن من يتتبع هذه النصوص يدرك كم كانت خيبة الأمل في الحبّ، فهو لم يظفر بها، وكأن ضريبة التأخير يدفع ثمنها المحبون فراقا أبديا قاسيا لا يخلف إلا نصوصا وذكريات تتحنط لتترك أثرها نقوشا من ذاكرة لن تموت!
وعلى الرغم من أن الكاتب يحترم المرأة ويقدرها في سياق تعامله الطبيعي مع تلك المحبوبة إلا أن هناك نماذج من نساء يسجل عليهن الكاتب مواقف يراها من غير اللائق بامرأة كالنفاق والكذب والخيانة، وهذه هي القضية الثالثة التي يتطرق إليها الكاتب في نصوصه هذه. كما في نص "زيارة طبيب نفسي"، حيث تركت المرأة حبيبها ليلتهمه الجنون، فيتأثر بعمق قصته الطبيب نفسه، فينعت الممرضة بما نعتها به المريض ليصفها بالفاجرة! أو كما جاء في قصة "دهاء" ليصورها أعظم بلاء وشيطنة من الشيطان نفسه، لذلك تجد الشيطان يقول لها: "لا يمكن أن أبقى في مكان أنت فيه"، ويتسع المجال أكثر ليناقش الكاتب قضية الخيانة الزوجية، وذلك في قصة "خنوع"، حيث كان الزوج يعاني من ضعف جنسي يبدو أنه شديد، فتلجأ المرأة لخيانة زوجها مع غيره، لتشبع نهمها، فيكتشف الزوج ذلك، ولكن لسوء حظه فإنه ينكص على عقبيه ليترنح مذهولا في الشارع ليكون نصيبه الموت في حادث سير مؤسف.
وفي قصة "دهشة" تزداد الأمور سوءا في عرض نموذج لامرأة تتعدد خيانتها لزوجها، لتنجب له ثلاثة من الأبناء، من كلّ رجل ابن، وهو في السجن محكوما بسبع سنوات، وعلى الرغم من القسوة وبعض المبالغة إلا أن للقصة أبعادا أخرى اجتماعية، فمن وقعت بظروف مثل ظروف هاتيك المرأة لا بد من أنها ستتعرض للنهش والاعتداء، ولكنها استسلمت للطامعين فخلفت له ثلاثة من الأبناء غير الشرعيين، وكأن الكاتب يفضح سلوكيات اجتماعية دفينة في استغلال المرأة وابتزازها، وهي رهن الحاجة!
وهكذا كانت هذه الجولة مع نصوص الكاتب شريف سمحان الذي "حبك نصوصه الأدبية" باقتدار ليقدم لنا الفكرة ترفل بعافية اللغة والبلاغة، والتوتر النفسي، لتتأرجح بنا النصوص ناقمين إن قرأنا عن الزعيم أو النماذج الاجتماعية البائسة، ولكننا أيضا منتشون ونحن ندخل عوالم الغزل والحب في نصوص تلقائية وبسيطة ولكنها عميقة في التدليل على نفسية صاحبها التي تعشق الحياة، وتسعى إليها، ولو دخل العمر في الخمسين!