أولا: استطاع الفن الغنائي الشعبي بالمغرب أن يحفر أنهاره، بتنوع مذاقاتها، عميقا وباطنيا في الوجدان العام، ويصبح جزءً من العالم السري للمشاعر الخاصة في النفس مع غياب شكل شعبي يؤرخ لتلك التفاصيل القاسية والحميمية.
لا يتعلق الأمر بالتنوع الموسيقي وثرائه اللامحدود، وإنما أيضا بتلك الكلمات العامرة بالجذبة والحيرة والسمو بالروح والجسد إلى حالات تُداهم السكون والموت وتعصرُ الفراغ.
إنهم سَحَرَةٌ بكلامهم وروحهم التي تتلقى معانيها من زفّانات تهبط إليهم به ساخنا وبِكرا في اللحظات القصوى من الفرح أو الغضب. يُهرِّبونه إليهم، من خزائن سماوات العبقرية، تلك الكلمات التي تبدو عادية فتتحول في أصواتهم إلى نفائس تشع تأثيرا وسحرا . ولولا فائض تلك الخزائن التي تمتلئ بإذن ربي كلما فاض الظلم ودنا الضيم من نفوس البسطاء وعمّ الفساد في البر والبحر والظاهر والباطن، لولا فائضها المتجدد لنفد الكلام وجفّت المشاعر.
أليس كلام المجاذيب والأولياء والعُبّاد والسحرة والأدعياء الذين يخيطون قفاطين المهدي المنتظر أو أؤلائك المشبعون بأحلام الكهنة، هو من أسرار تلك القصائد التي كانت مدفونة في الصدور تحت أتربة الخوف. عبد الرحمان المجدوب وامحمد البهلول، قبلهما وبعدهما إلى أن جاءت حْويدّة العبديّة بألقابها الشامخة، الشاعرة بصوتها البلسم الذي هزّ جبال الظلم في عبدة والشاوية وهدَّها هدّا. المرأة القصيرة القامة بلونها الحمراني الشبيه بلون التراب المشبع بدماء الثوار والقتلى. أتخيل صوتها الذي يفيق عليه الموتى والصرعى حينا، وحينا آخر هو عاصفة تقتلعُ القهر والحكرة. كانت دافقة بالثأر والغضب والحب الذي يطلع منها لينوب عن قبائل كثيرة في وجه حاكم ظالم. هي خربوشة والكريدة،الحنون التي لم ينجب المغرب امرأة شاعرة في عِفّتِها وثوريّتها . قُتِلت بكبرياء الشاعرة التي لم تركع لظالم قتل شعبها في خريف/ سبتمبر من نهاية القرن التاسع عشر. قُتلت ليحيا الشعر والفن الشعبي، كما قتلت سعيدة المنبهي لاحقا وتبقى صورتها الشعرية رمزا مشتعلا في القلوب.
أليست هي أصل سابق عن الشاعر الغنائي الشيلي فيكتور خارا قتيل 15 سبتمبر 1973 أو الرابور الخرافي توباك أمارو شاكور قتيل 13 سبتمبر 1996.
أتخيل صورة الفنان الشعبي في البوادي، فقط بخياله لحرش وقطعة كنبري، يقسم يومه إلى نهار يرعى فيه أغنامه الشاردة وليل يطوف فيه الدواوير بحثا عن أعراس أو قصاير يَحُجّها بكلامه الذي لا يبرد.
هل تذكر المارشال قيبو والحسين السلاوي وبوجمة الفروج وفلسفة كاملة غطّت على تاريخ ثقيل وغامض من الخطب والتقارير ؟ من يستطيع نسيان ميلود لمغاري، هذا الشهم الأمازيغي الذي مرّ مثل حكاية دامعة ورقراقة؛ ورويشة وبوجميع وباطما وهم يُنشدون أحلام الذين لفظهم الزمن.
ثانيا: بعد تجربة ناس الغيوان التي انتهت وصارت جزءا من التاريخ الثقافي (وبعد أن أعلنت الدولة المغربية عن إحالتهم على المعاش الرسمي بأجر معلوم ومأذونيات معلومة أيضا) وبعد موت أولائك السحرة بالقتل أو في حوادث قدرية، ينهض من اللحظات المغربية الساخنة، صوت رؤوب ساحر يُمزِّقُ ستار الكلمات الراقدة اسمه معاذ بلغوات/ الحاقد. بدأ شاعرا ثوريا لحركة 20 فبراير بعدما كان يجرب البحث عن هوية لروحه التواقة إلى الحرية أو الموت. صوتٌ يستعيدُ مجد الرفض وطهرانية الذات في ثورية رومانسية تندفع بواقعية لا ريب فيها. صوت تلتقي فيه أصوات الصمت الهادر والحب الذي غطاه الرماد الحارق، لذلك يأتي صوت مُعاد الحاقد غير محايد، سافر بسفور فني، قدرته روحانية تنـزعُ إلى تقشير ورق التوت، يبحث عن مجتمع طوباوي مستحيل ولكنه محتمل.
الحاقد على عكس اسمه الحركي يُنبئُ بصوته وشعره وأخلاقه أنه متسامح ونبيل ولا يحب أن يُجرحَ في كرامته أو يرى الآخرين يُجرحون ولو كانوا من "أعدائه المفترضين"، فهو الذي ذاق مرارة الحب لهذا الوطن من خلال تجربة اعتقالين متتالين، الأولى بأربعة أشهر وأيام معدودات والثانية بسنة كبيسة .. كانت لحظة سجنية للتأمل وترتيب كلماته رافضا تشذيبها أو إخفاء سخونتها وراء ماكياج رخيص. لحظات لم تزده إلا إصرارا على رفع يديه عاليا لقطف النجوم وهو واقف على الجمر.
إن تجربة مُعاد الحاقد، كما هي تجارب أخرى مهمة في هذا المجال، لها خصوصيتها وتستحق القراءة النقدية الصحيحة. فمنذ (اعطيني حقي) 2008 إلى نشيد (لعْفُو) 2014 تطورت اللغة والموسيقى في اتجاهين اثنين: فني وايديولوجي برمزية ثأر عنيف فيه من الإبداع وأيضا رد الفعل المباشر. وأعتقد أن الممارسة الفنية والنقد المواكب لها سيجعلها تنضج وتتشذب من بعض تلك الردود التي لا تخدم الفن.