يحلل الناقد العراقي هنا رواية سبق أن نشرتها (الكلمة) ويربطها بالسرد التوثيقي من ناحية، وسرد مابعد الحداثة من ناحية أخرى في تحليل نقدي يكشف عن أن محتوى الشكل الفني لا يقل أهمية عن الموضوع الروائي ذاته.

سَردية التوثيق

قراءة في رواية «في باطن الجحيم» لسلام إبراهيم

عبد العزيز إبراهيم

تقديم

ينظر إلى السرد كونه " أداة لنقل حدث معين، يبرز خصيصة العقل البشريّ وفرادته" كما تذهب إلى ذلك سوزان ستيفنسن(1) ولما كان هذا النقل قائماً على فعالية فإن هذه الفعالية – فعالية السرد – عنصر حاسم في تشكيل هوية أية جماعة اجتماعية معينة، فكل جماعة اجتماعية لا تكف تروي عن ذاتها من أجل ذاتها، وتروي عن جماعات أخرى، أو أمم أخرى، ويروى عنها. بل إنّ السرد يستبطن وجودها ويحيط بها"2 وهذا يتطلب اجتماع ثلاثة مكونات هي: الراوي، والمروي، والمروي له، فيعرف " الراوي، بأنه ذلك الشخص الذي يروي الحكاية، أو يُخبر عنها، سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، ولا يشترط أن يكون أسماً متعّيناً، فقد يتوارى خلف صوت أو ضمير يصوغ بواسطته المروي بما فيه من أحداث ووقائع، وجرت العناية برؤيته تجاه العالم المتخيل الذي يكّونه السرد وموقفه منه. أما المروي فهو كل ما يصدر عن الراوي، وينتظم لتشكيل مجموع الأحداث يقترن بأشخاص ويؤطره فضاء من الزمان والمكان. وتعد الحكاية جوهر المروي والمركز الذي تتفاعل كل العناصر حوله.. أما المروي له، فهو الذي يتلقى ما يرسله الراوي، سواء أكان أسماً مُتعيناً ضمن البنية السردية، أم شخصاً مجهولاً. (فهو) شخص يوجه إليه الراوي خطابه"3.

وإذا كانت السردية قد شُدّت إلى التوثيق في العمل الروائي "في باطن الجحيم" للروائي سلام إبراهيم – وهي مدار بحثنا – فإن التوثيق يعدّ سمة من سمات رواية ما بعد الحداثة فضلاً عن ذلك أن الروائي سلام إبراهيم فسّر مدار روايته بأنها "رواية تسجيلية وثائقية عن حملة الأنفال من 1987 إلى 1988" وهذا يعني أنَّ السّرد موثق أولاً بوقائع حدثت فعلاً، فإذا قصّ الراوي أحداثها، فإن الخيال لا وجود له إلا في استعمالات مجازات اللغة التي تجانب فيها الكلمات دلالاتها اللغوية في بعض الأحيان حسب متطلبات السرد ذاته والصور الوصفية التي ترسمها هذه الكلمات حتى تقترب من أُذن الملتقي وهي تترجم المعاناة الإنسانية التي يتصارع فيها الموت مع البشر فلا يتركه يحتضر بسلام بل يدفع به إلى الهستريا التي ترميه في أحضان الانتحار وأمامنا ثلاثة أسئلة تقف شاخصة قبل الحديث عن الرواية وهي :

1_ ما علاقة التوثيق بعد الحادثة؟

2_ كيف وظّفت ما بعد الحادثة هذه التوثيق؟

3_ لماذا نعد (في باطن الجحيم) من روايات ما بعد الحادثة في أدبنا العربي المعاصر؟

1ــــ1

قد يقال إنَّ التوثيق دال على الصحة المعلومة ومطلوبة في كل العصور، فلماذا أكدته ما بعد الحداثة؟ وما الدافع الذي أثاره (غرينبلات) وآخرون للدعوة إلى ما سمي (التأريخانية الجديدة) في الولايات المتحدة في الثمانينات من القرن العشرين؟ وللإجابة عن هذه السؤالين نقول: إنَّ الذي زرعته فلسفة ديكارت رينيه (1569-1650م) القائلة بالشك في المعارف جميعاً، حسية أو عقلية، لاحتمال أن يكون الإنسان مخدوعاً فيها، لكنه وجد أن ثمة شيئاً لا يقبل الشك كونه يشك،(4) ما زالت قائمة في الفكر الغربي الذي يظل يبحث عن الحقيقة، وهذا ما ذهب إليه الناقد (لويس مونترو) بقوله : إنَّ التأريخانية الجديدة تقوم على ربط النص بشبكة العلاقة الداخلية المعقدة لثقافة الحقبة التأريخية التي ينتمي إليها لغرض الكشف عن طبيعة التشكيلات الاجتماعية والصراعات الأيديولوجية في تلك الحقبة، ومعرفة موقع النصّ ودوره في تلك الصراعات التاريخية)(5) وانعكست رؤيتها على العمل الأدبي "فلم تهتم بتحليل جماليات العمل الأدبي أو دراسة مضامينه بقدر اهتمامها بالدراسة الدلالات الثقافية والسياسة والاجتماعية المرتبطة بإنتاج العمل الأدبي وانتشاره واستهلاكه من قبل الجماهير وإعادة إنتاجه وتوزيعه من قبل الثقافات المتلقية لذلك العمل (6)

ولم تكن التأريخانية الجديدة إلا ثمرة من شجرة ما بعد الحداثة التي جاءت لتهدم ما دعت إليه الحداثة فكانت ظاهرة تنطوي على تناقض ظاهرة توظف وفي الآن عينه تؤسس ومن ثم تدمر تلك المفاهيم التي تتخذها ولهذا اتسمت رواية ما بعد الحادثة بسمات وهي : (8)

1-                 إن رواية ما بعد الحادثة تعرض كنوع أخر من الخطابات التي تشكل بواسطتها تصوراتنا عن الواقع وما يعرض للعيان هو البنية والحاجة إليها.

2-                 إن نص ما بعد الحادثة يوجه انتباهنا لا على الروايات ذات البدايات والنهايات المحدودة ولكن لعملية الوعي ذاتها أثناء تشكيلها وتفكيكها.

3-                 إنَّ النمط الرئيسي للسرد ما بعد الحداثوي هو (أنطولوجي) بمعنى أنه مناقض للنمط المعرفي السائد في السرد الذي عرفته الحداثة.

4-                 إنَّ رواية ما بعد الحادثة توظف ستراتيجيات تطرح تساؤلات تسلط الضوء عليها مثل: أي عالم هذا ؟ ما الذي ينبغي أن تفعله فيه ؟

5-                 إنَّ التوتر بين التمثيل المواضعات التقليدية وتدميرها هو أهم أوجه سرديات ما بعد الحادثة والتوتر هنا هو «المسافة العالقة في مكان ما بين الواقعة وما بعد الحداثة، المعلوم والمجهول، الحقيقي والمتخيل» (9)

لقد كانت رواية ( بوابات العاج ) لمارغريت درابل التي صدرت في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينيات وهي تصور معاناة الفيتناميين والكمبوديين وما لحقهم من آلام وإيذاء جسدي والشعور بالانقسام في والوقت الذي تتوغل فيه مظاهر الإرهاب والجريمة والحوادث الاعتباطية والكوارث على نحو متواصل وتدمرها(10) صورة لرواية ما بعد الحادثة الموثقة وقد أرفقت في ختامها «قائمة أخيرة يمكن دراستها وفقا لمنظور ما بعد الحداثة، قائمة ببليوغرافيا من صفحتين تضم المصادر عن كمبوديا وفيتنام التي أفادت منها درابل في كتابة الرواية والقائمة تبين في حالة القراءة التقليدية مديونية المؤلفة لهذه المصادر. أما في أسلوب ما بعد الحداثة فأنها تصير إلى قائمة أخيرة تشتمل معلومات وقائعية تسلط الضوء على الطابع التخيلي للسرد الذي تختتمه(11).

1ــــــــــــــــ 2

ولما كان السرد قائما على ثلاثة مكونات – كما قدمنا- فإنَّ المروي بصفته مركزا لتفاعل كل العناصر فيكون شغله على واحد من المستويين: الأول «متوالية من الأحداث المروية بما تتضمنه من ارتجاعات واستباقات وحذف وقد اصطلح الشكلانيون الروس على هذا المستوى بـ (المبني) والثاني: الاحتمال المنطقي لنظام الأحداث وقد اصطلحوا عليه بـ( المتن ) فالمبني يحيل على الانتظام الخطابي للأحداث في سياق البنية السردية، أما المتن فيحيل على المادة الخام التي تشكل جوهر الأحداث، في سياقها التاريخي(12) عند ذاك تندرج الرواية التسجيلية الوثائقية ( في باطن الجحيم ) من خلال سرد المروي في المستوى الأول، أي المبنى لكون الروائي سلام إبراهيم قد اعتمد ارتجاعات واستباقات فضلاً عن الحذف في قص الحدث الذي وثقه باعتباره شهادة على ما حدث، فإنَّ هذا السرد مُقيّد بزمن ولا يخرج في الوقت نفسه عن أربعة أنماط يتخذ من أحدها طريقا للسرد وهي: "السرد التابع، السرد المتقدم، السرد الآني، السرد المدرج»(13).

النمط الأول – السرد التابع وهو الذي يقوم به الراوي بذكر أحداث حصلت قبل زمن السرد بأن يروي أحداثاً ماضيةً بعد وقوعها، وهذا هو النمط التقليدي للسرد بصيغة الماضي وهو إطلاقاً النوع الأكثر انتشاراً. أما النمط الثاني: فهو النمط المتقدم، وهو سرد استطلاعي يتواجد غالبًا بصيغة المستقبل، وهو نادر في تأريخ الأدب. وأما النمط الثالث فهو السرد الآني، وهو السرد في صيغة الحاضر معاصر لزمن الحكاية، أي أن أحداث الحكاية وعملية السرد تدور في آنٍ واحد. وأما السرد الرابع فهو السرد المدرج بين مدد الحكاية وهذا النوع هو الأكثر تعقيداً إذْ هو ينبثق من أطراف عديدة ويظهر مثلا في الرواية القائمة على تبادل رسائل بين شخصيات مختلفة حيث تكون الرسالة في الوقت نفسه وسيطاً للسرد وعنصراً في العقدة كوسيلة تأثير في المرسل إليه.

هذه الأنماط الأربعة فأي نمط اختاره سلام إبراهيم مدخلاً لسرد أحداث روايته؟ وللإجابة عن هذه السؤال نقول: إنَّ الروائي زاوج بين النمطين الأول ( التابع) والثالث (الآني) عندما ذكر شهادته في الماضي وهو يعيش الحاضر، عندما يروي الحدث وهذا جائز له. فالراوي (المؤلف) "يمر من سرد تابع إلى سرد آني بالتقليل التدريجي في الديمومة الزمنية الفاصلة بين الحكاية الملفوظة بصيغة الماضي وسرد الملفوظ بصيغة الحاضر" (14) ومثالنا إلى ذلك سرده على وفق النمط الأول "في بيت هذا الفلاح الكردي الواقف بشموخ متحدثا بلغته القومية شاركته الخبز والملح والماء، كان يقدم كل ما لديه من مفضلاً الثوار على العائلة التي تقتاد على ما يتبقى" وسرده على وفق النمط الثالث "ننصت أنا والطاغية"، هو في دهش وامتعاض، وأنا في نشوة وطرب، هو في قفص وأنا في فضاء" ص(14)

2ــــــــــــــــــ 1

الرواية الوثيقة تُصوّر معاناة الراوي الذي هرب من السلطة الدكتاتورية التي أخذت بتصفية العناصر الشيوعية، ولجأ إلى شمال العراق "كردستان" تاركاً طفله بالجنوب ترافقه زوجته في الثمانينات من القرن الماضي لكن الأمان تحول إلى جحيم يوم صب أعوان السلطة الغازات السامة على المقاتلين في الجبال فكان أثر تلك الضربة الكيمياوية عجز الرئتين وحروق جسدية. وإذا كانت زوجته في مكان آخر سلمت من هذه الضربة فان التدرن الرئوي كان في انتظارها، ولم يكن الراوي إلا واحداً من المقاتلين الذي عانوا معاناته نفسها وإنْ مات بعضهم. وضاقت الأرض عليهم بما رحبت به ملاجئ تركيا وإيران ولكن في هذه المناطق لا تجري الرياح بما تشتهي السَّفنُ، فلم يزل الموت شاخصا فيها، عند ذالك يكون الهرب إلى موسكو عبر دمشق ومنه حيث الدنمرك فتراه يوثق رحلته بقوله "منذ وصولي إلى الدنمرك عام 1992 بعد رحلة شاقة في معسكرات اللجوء الإيرانية والتركية والضياع في دمشق وموسكو إذ لم اكتشف مدى العطب الذي أصاب رئتي إلا حينما وصلت إلى هنا، رغم تكرار ملازمتي الفراش وأنا على وشك الاختناق كل شتاء في السنين التي أعقبت قصف يوم 5-6 1987م بموقع وادي خلف العمادية حيث اسقط كل شتاء متأرجحاً أحلم في الهواء أو في فترة تصعلكي في موسكو وضياعي في السكر وسقوط حلم مدينة ماركس (سقوط الاتحاد السوفيتي) ..الخ "ص/7

وكانت أولى خطوة التوثيق المؤيدة له مراجعة لمستشفى Rosklide بالدنمرك وحواره مع الطبيب الذي اكد عجز وظائف الرئة بنسبة 60% بسبب القصف بالغازات السامة (ص9) ثم ختم كل من الفصلين الأول والثاني بتوثيق، ففي الأول عن محضر التحقيق الذي أجراه القاضي الدنمركي (ص131) وفي الثاني رسائل المحكمة الهولندية 259- 268، أما الثالث فقد وصف فيه رحلة الخوف والضياع على الحدود التركية – الإيرانية.

أما الخطوة الثانية فقد استشهد باثنتي عشرة صورة لرفاق له وزوجته وبعض الكرد وهو بينهم، توزعت إلى تسع في الفصل الأول، وواحدة في الثاني، وصورتين في الثالث، وكان يمكن أن تكون هذه الصورة لو سقطت بيد السلطة آنذاك شاهدا عليه وليس له فيدفع به حبل المشنقة !

وأما الخطوة الثالثة فكانت صراحته المتناهية المعبرة عن موقفه اتجاه ما يحدث والمعاناة التي ينوء جسده بحملها، وكأنه أمام قاض اقسم على اليمين على أن يقول الحق صادقاً في شهادته وليس مؤلفا يروي ما حدث على الورق، يموت بعد السرد. ولنا في ذلك أمثلة ففي (ص/93 قال "سأعيش هذه المخاض الجديد متفاهماً قليلا مع نفسي، فانا كشخص غير ميال للعنف والقتل" وهو بهذا القول ينحاز إلى المثقف المؤمن بالتغيير بلا عنف يقترب من نظرية غاندي (الزعيم الهندي 1869-1948م) وهو بذلك يناقض واقعه، الكفاح المسلح ضد دكتاتورية السلطة، لكن الواقع شيء وما يؤمن به شيء أخر يتكرر في حواره مع ذاته "سألت نفسي ذات السؤال المرّ الذي ينبعث كلما وجدتُ نفسي في مواجهة موقف كهذا: (هل الإنسان شرير بالسليقة؟!. هل الشر القاعدة.. والخير استثناء؟!.ص197). ويتحول السؤال الوجودي إلى إحساس مُرّ بالغربة والمعاناة بسؤال ثالث: (لِم أنا هنا وأهلي وأمكنة طفولتي في الجنوب محروم منهم.. دونهما الموت) يَدفعه ألم الغربة في الدنمرك وهو يواجه بشر لا يكترثون له (في أفضل الأحوال إذا تنازل وبادلك الحديث، فأول ما يبدأ به سؤال يذكرك بغربتك ويشعرك بكونك طارئاً Hvor kommer du fra؟. أي – من أي بلد أنت؟ بالرغم من كونك تجنست بالجنسية الدنمركية، مما يعمق نفورك من المحيط، ويجعلك تحس أنك على هامش بشر هذه البقعة وهم يضعون الحواجز في أصغر تفصيل عند الاحتكاك بهم. ص 167-198).

هذا على الصعيد الذاتي الذي يصارع فيه داخله، أما الواقع الخارجي، التجربة التي عاشها في الواقع فإن كلمات أحد مشايخ الكرد يتردد صداها في الداخل (للمرة التي لا تعد أتذكر حكمة الشيخ عطا الطالباني الذي تسللت من بغداد إلى بيته في كفري كمحطة أولى، والذي قال ونحن نجلس في حديقة بيته الواسعة في غروب يوم من أيام آب 1982م: دعّ عنك أحلام الثورة النظيفة ورجالها الأطهار. سترى العجب من أقرب صديق في الأوقات الحرجة ص304) وما رآه في تجربة الجبل من كثرة المقاتلين العرب الذين جندهم الحزب الشيوعي لقتال السلطة الدكتاتورية وهو يجيب عن سؤال المحققة الهولندية (وهذا ما حرضني أصلا على تحرير هذا النص الذي رويته شفهيا لها، استوفتني عدة مرات أستطيع تسجيلها الآن. أول سؤال سألتني عن الانتماء القومي للمصابين في القصف الكيماوي في1988/8/21 فأجبتها على الفور كون غالبيتهم من العرب. ففغرت فاها عجبا ورمقتني بشرود معلقة:- يعني لستم أكرادا! قلت:- لا.. الكثير ممن كان في الموقع وأصيبوا هم عرب ومسيحين ويزديين وصائبة وأكراد، فالدكتاتور لم يوفر أحداً بل سحق الكل!) ص249-250

2__2

قدمنا خمسة سمات لرواية ما بعد الحداثة، وقلنا إنَّ رواية (في باطن الجحيم) هي رواية ما بعد الحداثة، ولكي ندلل على ذلك نقول إنَّ الخطابات التي تشكل بواسطتها تصوارتنا عما يعرض للعيان هو البنية والحاجة إليها،وهذا ما صنعه سلام إبراهيم في فهمه للخطاب الروائي الذي يُغّير تصورنا للواقع الذي يحدث بخطاب الآخر كما صنع ادوارد سعيد في كتابة (الاستشراق) وما أكده ميشل فوكو أنَّ (لنظام الخطاب دورا واعيا يمثل الهيمنة التي يمارسها في حقل معرفي أو مهني أصحاب ذلك الحقل على أهلية المتحدث وصحة خطابه ومشروعيته وأن إنتاج الخطاب وتوزيعه ليس حُراً أو بريئاً كما قد يبدو من ظاهرة)(15) كتصورنا أن جميع من يقاتل السلطة الدكتاتورية في شمال العراق (كردستان) هم من الأكراد(16) أو أن المقاتلين أو الثوار جميعهم أطهار(17) .. الخ من هذه القناعات المسبقة التي نتصورها والتي يحاول الآخر إقناعنا بها كمسلمة.

ولما كان نص ما بعد الحداثة يركز على عملية الوعي في الرواية دون الاهتمام في البداية أو النهاية فإن رواية سلام إبراهيم كانت شهادة مفتوحة لم تنتهِ فتراه يقول في نهايتها (وفي المعسكرات الإيرانية رأينا ويلا لا يختلف عن ويل معسكرات الأتراك .. وتجربة المعسكرات الإيرانية تحتاج إلى مسرد سوف اسرده إذا سمح لي العمر والدنيا). (ص318) وكون النمط الرئيسي لسرد ما بعد الحداثة يناقض المعرفة المسبقة فإنَّ رواية سلام إبراهيم في خطابها كانت نمطاً لهذا السرد الذي يتداخل في الحوار والتداعي الحرّ فضلاً عن التوثيق الذي يشد المتلقي إلى النص.

أما توظيف الأسئلة في رواية ما بعد الحداثة فإن رواية سلام إبراهيم لم تهملها أثناء السرد مُعّبراً بها عن قلقه الوجودي وما يدور من حوله من قتل. (18) وإذا كان التوتر وهو المسافة الواقعة بين المعلوم والمجهول، أو الحقيقي والمتخيل هو ما يظهر في رواية ما بعد الحداثة، فانَّ رواية سلام إبراهيم أظهرت هذه السمة من خلال السرد التوثيقي دون أن يغفل أنَّ الرواية بالرغم من أنها تسجيلية لأحداث وقعت عاشها الكاتب أو غيره فإَّن الجانب التخييلي يتضح في بنية السرد التي لا ينبغي أن نقتنع أنها حدثت بالحرف الواحد وألا فقدت جنسها في أدبنا العربي الحديث كرواية.

3___1 .

لقد بنى الروائي روايته على ثلاثة أقسام تباينت صفحاتها. وكان القسم الثالث اقلها، نشر شهادته عليها. فكان صوته هو الصوت المنفرد الذي يقطع السرد أو يداخله أو يرجع به إلى الماضي أو يفارق بين حدث وآخر، لكن ذلك لا يعني إلغاء تعدد الأصوات – كما يطلب باختين – فالرواية يرجع صوته أصوات الآخرين عند القطع أو التداخل تناصاً باعتبار أنه ( لا يوجد تعبير لا تربطه علاقة بتعبيرات أخرى على رأي باختين ) (19) في حورايته.

1-التداخل في زمنية السرد فتراه يقول متحدثا عن الماضي (حللت ضيفا في بيت احد هؤلاء الفلاحين (من الأكراد) ويداخله في الحاضر بقوله (ننصت أنا والطاغية هو في دهشة وامتعاض، وأنا في نشوة وطرب، هو في قفص وأنا في فضاء)(ص14)

2- تقطيع السرد. وهو أن يسرد أحداث في الماضي عن أمر الانسحاب من الجبل ويقطعه بحاضره في(لاهاي) "استيقظت على ضجيج، وجدت القطار متوقفاً في محطة والركاب جميعاً يغادرون كراسيهم باتجاه أبواب النزول ص178".

3- ترجيع الماضي أثناء السرد، قوله ليوثق شهادته: " هل ثمة بشر هم أصلاً ملائكة هبطوا من السماء ليخففوا من وجع الدنيا قليلاً؟!. هذه التجربة جعلتني على يقين من الإجابة بنعم. هاأنذا بعد قرابة عشرين عاماً أرى المشهد ذاك وكأنه البارحة.. اللحظة التي هبط بها الطبيب الكردي الشاب الذي عرفت أسمه لاحقا –.. نوزاد- .. فالذي اسرده عليكم ألان جرى بدقائق معدودة )"ص30-31

4-المفارقة في المكان عندما يجمع القاص بين المقاتلين ضد السلطة وجنودها في الجبل دون أن يعرف احدهم أنه يقاتل الأخر فيقول "سلام بيا منطقة كنتم بكردستان: في وادي يسمى زيوه على مجرى الزاب الأعلى خلف العمادية!

صرخ على الفور مدهوشا: وحدتي بالأنفال كانت هناك!" ص275

لقد زاوج بالحوار بين الفصحى والعامية في بعض الأحيان، دون أن ينسى الأغنية الشعبية التي يرددها في رواية (آه يا اسمر اللون ...) ليوسف عمر

إنَّ إبداع الروائي سلام إبراهيم واضح، ولكن ما يؤاخذ عليه التكرار وكثرة التعليقات أثناء السرد بالرغم من علمنا أنّ هذه الرواية هي رواية سيرة حدثت له وكان صادقاً في شهادته ومعاناته في المنفى. ولسان حاله يردد (لو كتبت لي النجاة من هذه المحنة، فسوف اجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي، وهذا ما فعلته في نصوص!) ص54

هوامش الدراسة ومصادرها:

1- السرد والهوية والحداثة / سوزان ستيفنسن / ترجمة عبد الله حسين / الثقافة الأجنبية /العدد 1لسنة 2009م دار شؤون الثقافية بغداد/ صفحة 28

 2- الافتتاحية/وجودنا حكاية/الثقافة الأجنبية/(م.س)/ص4

3- موسوعة السرد العربي / د.عبدالله إبراهيم /المؤسسة العربية للدراسات والنشر /بيروت 2008م /الجزء الأول /ص10

4- الموسوعة العربية الميسرة /لجنة أساتذة بأشراف غربال / دار النهضة لبنان /بيروت 1980م/الجزء الأول /ص834

5- تأريخ "التأريخانية الجدية وإشكالية العلاقة مع اليسار الجديد /د.معن الطائي /مجلة الاقلام/دار الشؤون الثقافية بغداد /ع2/لسنة 2009م /ص19

6- المصدر نفسه /ص20

7- أجساد ممزقة و التحول ما بعد الحداثي في روايات مارغريت داربل / روبرتا روينستين. ضمن كتاب"هل نعيش حقا في عصر ما قبل الحداثة؟" / ترجمة هناء خليف غني / دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2013م /ص142

8- المصدر نفسه و الصفحة نفسها

9- المصدر نفسه ص162

10- أجساد ممزقة (م.س)/ ص141

11- المصدر نفسه 162

12- موسوعة السرد العربي (م.س)/الجزء الأول ص 10

13- مدخل إلى نظرية القصة تحليلا وتطبيقا /سمير المرزوقي /جميل شاكر /دار الشؤون الثقافية بغداد 1986م / ص96 -100

14-المصدر نفسه / ص 99

15- دليل الناقد الأدبي / د. ميجان الرويلي – د.سعد البازعي / المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء – بيروت /ط4 /لسنة 2005م /ص156

16- في باطن الجحيم / سلام إبراهيم / دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد ط1م لسنة 2013م / ص 128، 249- 250

17- المصدر نفسه 304

18- المصدر نفسه /197

19- المبدأ الحواري / دراسة في فكر ميخائيل باختين / تزفيتان تودوروف / ترجمة فخري صالح / دار الشؤون الثقافية العامة بغداد / الطبعة1/ لسنة 1992م/ ص 82