تزامن اختياري لعنوان الرواية، بعد انتهائي من الكتابة والبدء في مرحلة المراجعة، مع قراءتي أخبار متناثرة عن فيلم بعنوان (بابل) للمخرج المكسيكي إليخاندروجونزاليس وبطولة براد بيت. لا يهم، هكذا قلت، لن ينتبه أحد، غير أن الفيلم بدأ يحصد المزيد والمزيد من الشهرة والجوائز، أصبح أكثر شهرة من ألا يتم التعليق، خاصة والتيمة البابلية، وليس فقط العنوان، هي نفسها في كل من الرواية والعمل. كمن الاختلاف في كيفية اللعب عليها. برغم هذا، أعتقد أن كلينا، أنا والمخرج، قد خرج فائزا من تسابق العنوانين، كان المخرج وفيلمه أكثر شهرة من أن أتهمهما بكونهما سطيا على عنوان عملي، وكنت أنا أقل شهرة من ان يعرف بوجودي المخرج الهوليودي ليلاحقني. لهذا كله، ولروعة القصة التوراتية المشار إليها، قررت في النهاية أني غير مستعد لتغيير عنوان الرواية.
(1)
كل حياتي عبارة عن حلم واحد طويل، يتقطع ولكن لا تزول أسبابه. يغيب حتى أظن أنه لن يعود فأجده على حين غرة يستعمر نومي لليال متوالية. أسير في ممر. أنا عائد إلى مدرستي التي تركتها طفلا بالإسكندرية، ليسيه الحرية. أريد لقاء زملائي الذين تركتهم منذ ما يوشك على أن يكون عشرين عاما. بالمدرسة أجد مجموعة من الرجال الكبار. هم زملائي. أحاول تمييز من كان فيهم مراد ومن كان محمود ومن سليمان بعد أن مروا بمحرقة الملامح خلال سنوات نضوجهم الطويل. أفاجأ بمدرّستهم. شابة جميلة. تنموبيني وبينها قصة حب. القصة تنموليس بسبب جاذبيتي وإنما بسبب سني. أنا الوحيد من كنت في نفس سنها. عندما يدوى هذا الخاطر في عقلي أتلفت بسرعة لأرنوإلى زملائي السابقين، هؤلاء الذين يفترض أنهم في نفس سني أيضا. أجدهم أطفالا لا زالوا، هم في سنهم الذي تركتهم فيه، ولكن ملامحهم تغيرت بحيث كان علي أن أجهد نفسي لتمييزها بعد هذا السن. لم يكونوا أطفالا كاملين. كانوا أطفالا كهولا. مثل طفل يولد بوجه مجعد أوبصلعة مرسومة أوبكرش وطيات في جسده ووجهه ورقبته، كانوا يتحلقون حولي، كأنما لغرض شرير. أصحوفي الغالب عند هذه النقطة.
عندما أذهب في زيارة إلى الإسكندرية لا أستطيع منع نفسي من التلفت حولي في الشارع لأميز أيا من زملائي السابقين. يستغرق هذا الفعل كل مجهودي، في الترام، على القهاوي، وعلى الكورنيش. ما يعنيني بالتحديد هومراد، زميلي السابق. كان يشبهني تماما. كانت أمي نفسها تجد مشقة للوهلة الأولى في تمييز أي منا عن الآخر. كنت راغبا في معرفة ما إذا كانت ملامحه قد مرت بما مرت به ملامحي في العشرين عاما الماضية، ما إذا كان لازال يشبهني.
عرفت مراد منذ عامي الرابع. سنة أولى حضانة. كان طفلا عاديا. لا يقرب لي بشكل واضح. بعدها بثلاث سنوات صار يشبهني تماما. وصل الأمر إلى ذروته عندها. كان كل من كان يرانا يسألنا إن كنا أخوين. بعدها بعامين لم يعد أحد يسأل. دائرة ملامحه كانت تدور. وأنا كذلك. عند نقطة معينة تلاقت. كلانا أسمر. كلانا شعرنا مجعد. وهذه حقيقة ستلازم كلا منا على طول حياته. ولكن في النقطة التي تلاقت فيها دائرتا ملامحنا كانت نقاط التلاقي أكثر وأكثر. غير أنها كانت نقاطا غير حصينة. لم تكن ملامح ثابتة مثل لون البشرة والشعر. كانت ظلالا تمتد إلينا من عالم آخر، حيث يتم تصنيع الملامح، لتلتصق عرضا بوجوهنا، التصق ملمح واحد بوجهي وبوجهه، لا أعرف الآن إن كان رحل إلى وجه آخر، أم أنه ظل ملازما لوجه زميلي.
أكمل الحلم. في ركن من المدرسة ألتقي بمراد. يشبهني إلى درجة التطابق. أنا هو. لا أعرفني أو لا أعرفه. يخفي من حولنا ضحكهم من تشابهنا. هكذا إذن يا مراد. هكذا لم تسر ملامحك وحدها. هكذا ظلت ملامحنا مقيدة في بعضها. لم تفلت واحدة منهما من الأخرى. ينقطع الحلم أحيانا. يغيب عني أياما طويلة. أقطع الأمل في معاودته لي. ثم يعود من حيث توقف، أوبعدها بقليل. ويتركني أرمم الفراغات. أويكرر ما سبق وقيل، أويطرح، في أحيان نادرة، صيغة مختلفة وأحيانا مناقضة لما سبق أن حُلم به. غير أن هذا لم يكن كثيرا لحسن الحظ.
* * *
مضيت أكتب حلمي على جهاز الكمبيوتر. صغته بشكل قصصي أقرب إلى اليوميات. خلصته من قتامته واحتفظت بتفاصيله وحميميته. كان الحلم قد استعاد لي عالما سكندريا لم تعد لي إمكانية لاستحضاره إلا في هذين المكانين، شاشة الكمبيوتر وشاشة الأحلام. حافظت على هذا العالم في النص الذي كتبته. في النهاية، وقعت عليه وكتبت إيميلي في أسفله. أرسلته إلى أحد المواقع التي أنشر بها بشكل منتظم. تم نشر النص في الأيام التالية، كان بارزا في الموقع بشكل خاص، وصلتني ردود كثيرة عليه. أرسل لي بعضهم وقد وقع إيميله باسم مراد، وقال آخرون أنهم يعرفونني ويعرفون مراد، وأرسلت لي إيميلات مجهولة المصدر محملة بروابط لمواقع تفسير أحلام. ولكن ما لفت نظري بشكل خاص هو امرأة أرسلت لي قائلة أنها تحتاج لأن تحكي معي كثيرا. وأنها تحتاج لي بشكل شخصي و«حميم». وقعت رسالتها بـ«ابنة مدينتك»، وتحته اسم «سمية» مرفق برقم تليفونها الذي كان يبدأ بالكود صفر ثلاثة. لم تكن كلمات الإيميل كثيرة، لكنها كانت مثيرة بما يكفي لأن اعاود قراءتها على طول اليوم مرات عديدة. كنت في هذه الفترة وحيدا، بلا امرأة بعد علاقة عاصفة انتهت منذ عام ونصف، إضافة إلى أنني، ومنذ سنوات طويلة، لم أسمع هذه الكلمة البديعة من فم امرأة «أحتاج إليك». رغم كل هذا فلم امتلك شجاعة إدارة الرقم إلا بعد وقت طويل. رد علي صوت رجل غليظ، سألته عن الأستاذة سمية. اختفى وردت علي هي. كنت مرتبكا، أما هي فكان حديثها بسيطا وكأنها كانت تتوقع هذه المكالمة بشكل بديهي. قالت لي أنها تتابعني وتتابع قصصي على الإنترنت وإن لم تشرفها الظروف بقراءة كتاب كامل لي. ناقشتني في نقاط عديدة طرحتها في نصوصي ومقالاتي. دقائق وانساب الحوار بيننا بسهولة. كنت أتحدث عن النص وعن حلمي وكانت هي منصتة تماما.
«الأحلام غير السينما يا سمية. (توافقني على هذه الفكرة بحماس) نحن في السينما، في أفضل الأحوال، متعاطفون. أما في الأحلام فنحن هي. نحن الأبطال والمخرجون والمشاهدون في الآن نفسه. نحن كل شيء. كل شيء يا أختي، بما فيه إضاءة الحلم، أصواته، موسيقاه، مونتاجه وهوالأهم، (تصدر صوتا أنفيا يعني عدم الاقتناع التام. أنتقل إلى موضوع آخر بسرعة، تجنبا لمشادة منطقية في مكالمة أريد لها أن تكون فاتحة لعلاقة لطيفة) حلمت يا سمية، أنني أسير عائدا إلى مدرستي بالإسكندرية. مدرسة ليسيه الحرية. الشاطبي. الجامعة. الترام. هي بالضبط. رأيت مراد أمامي. ظل يشبهني. تخيلي. ظل كل منا يحدق في الآخر لمدة ثلاثة أرباع الحلم. الحلم كان عبارة عن تحديقة متبادلة بيني وبينه».
كانت هي قد التزمت الصمت فورما بدأت أنا في الكلام. عند هذه النقطة بالذات خرجت عن صمتها. قالت لي إن كان السؤال: هل كنت أريد أن أعرف إن كنت أنا أنا أم من أمامي، وأضافت إن الأمر سيغدو منطقيا كذلك لوكان مراد قد سأل نفسه هذا السؤال.
«نعم. وليس هذا فقط. ما منح التحديق بيني وبينه هذا العنصر البوليسي هو الآتي: التزم كلانا الصمت تماما وهوينظر للآخر، كأننا واقفين في منطقة ماقبل الحركة الأخيرة في الشطرنج، الحركة ما قبل الكش، وكل منا يهدد الآخر في مقتل، في ملكه بالتحديد، الفارق أن أحدا منا لم يعرف من عليه الدور للعب، هو أم الاخر. كذلك لم أخبرك عن المس. بنت لذيذة جدا. وقعت في حبها، ووقعت في حبي. هنا أصبح اللغز أصعب. فأنا لا أدري على وجه الدقة من وقعَتْ في حبه. أنا أم مراد؟ ولو كانت وقعت في حبي أنا، فسؤال وجودي سيظل مطروحا. لماذا لم تقع في حب مراد؟ إذا كنت حتى أنا عجزت عن التمييز بيني وبينه. يظل السؤال مطروحا إن كان من أحبته هو مراد وليس أنا؟ ولماذا لم تحب كلينا مختزلين في جسد واحد؟»
ترد علي بان هذا احتمال شيق. أكاد أستكمل الحديث لولا أنني أسمع صوتا يناديها. أسمعها تعتذر مني مرتبكة قبل إغلاق الخط. أتطلع إلى سماعة التليفون ثم أعود مرة أخرى لقراءة الإيميل.
* * *
كنت أنا ومراد أحيانا كثيرة جسدا واحدا. هذا ما أردت شرحه لها. الآن أتذكر مشهدا قديما للغاية: في الأيام التي نكون فيها، أنا ومراد، جالسين بجوار بعضنا على نفس الديسك، فلقد كانت كفتنا تميل في الفصل، يكون الفصل محتشدا بنا، جسدين فاضا من جسد، أتذكر تعليقا قاله أحد المفتشين في زيارته للفصل: نظر إلينا، كنا جالسين بقرب بعضنا، في الجانب الأيسر من الفصل، وقال: «هذا ركن النوبيين». لم يكن بالجانب الذي نجلس فيه أسمر الوجه غيرنا، كانت سمرتنا لافتة، هنا كان يبدو الفصل كسفينة مال جانبها بسبب ثقلها، سفينة حمل جانبها الأيسر بسمرة الوجه، بالشعر المجعد، بالنظارات التي لم تكن أيضا من نصيب أحد في الفصل غيري وغير مراد، أو شيء آخر، كان الفصل يبدو كبحر، بحر رائق الماء، فقط في الجانب الذي نجلس فيه كان ماء البحر يتحول إلى اللزوجة ويصعب العوم فيه. أشرح لسمية هذه الفكرة فتذكرني بلا وعي بمشهد قديم، قالت لي أن أي مفتش أومدرس قد يدخل يقطع سائر الفصل في ثوان بينما يتلكأ ببصره عندنا، يفحصنا بدقة، أو، تضيف هذه الجملة استجابة لتشبيهي، قد تكون قدماه قد غرزتا في بقعة الزيت الكبيرة على صفحة البحر. سمية امرأة مثقفة وذكية لا تترك لغيرها فرصة الانفراد بالجملة الأخيرة.
نمت علاقتي بها عبر التليفون. هي تقيم في سان ستيفانو، فكرت لأيام في زيارتها. سألتها وماذا لو التقينا فقالت لي شرفنا في اسكندرية. على أول الطريق الزراعي قلت أن أفضل شيء هو دعوتها لقضاء ليلة في القاهرة، وشغلت نفسي بمحاولة تخيل ملامحها.
على مقهى بالشاطبي جاءت. كان وجهها مألوفا بالنسبة لي، لم أذكر متى وأين رأيته من قبل. قالت لي أنني أبدو كما تخيلتني تماما.
ـ وكيف تخيلتينني؟
ـ مثلما أنت عليه.
تطلعت في عيني كثيرا، وضعت كفها فوق كفي. كررت جملتها التي كانت مفتتحا لعلاقتنا التليفونية: «أحتاج إليك.» كنت أنا من أحتاج إليها بوضوح. أنا من أريد أن أسمع كل ما تقوله. كنت جائعا إلى امرأة. ليس إلى الجنس بالتحديد. كنت جائعا إلى مجرد الجلوس مع امرأة والاستماع لحكاياتها. صمت قليلا. ثم بدأت هي في الكلام.
«نائل انتبه معي أرجوك. ما أريد أن أقوله لك هو أن بصمتنا هي كل شيء. أن وجودي مرهون بها. أن «أنا» معناه بصمتي متروكة كأثر على وجه من أمامي. هل تعرف هذا؟ لنفترض أن اثنين يحبان بعضهما البعض، أوعلى الأقل هو يحبها. مصطفى مثلا يحب نوال. وأنه يحب لو ظلت طول عمرها مقترنة به. هو يعيش معها. ينام معها. ولنفترض أنهما أخوين. هذا مرعب طبعا ولكن دعنا نفترضه. يكتشف مصطفى ذات يوم أن نوال تخونه مع غيره. مع حسين مثلا. وأن حسين هذا أحقر من أن يفكر فيه مصطفى. ماذا يفعل مصطفى؟ رد علي!»
كنت مرتبكا ومأخوذا بكلامها. غاب عني أن أتجاوب معها في الحوار. ظننتها تحكي وخلاص. كنت أفكر في وجهها المألوف بالنسبة لي. همهمت بكلمات لم أفهمها وأخذت أداعب ثلج الليمون بالشاليموه. عندما يأست من أن تتلقى مني رد فعل مفيدا أومفهوما واصلت الحديث: «سيطبع علامته المسجلة على وجهها. هل فهمت. سيكتب على وجهها كونها تخصه. سيسكب على وجهها ماء النار. سيشوهها.» بدافع من البهجة المفاجئة بحل اللغز الذي طرحته علي منذ قليل، أوبدافع من نسمة ريح منعشة مرت على وجهينا، وجدتني متحمسا للمشاركة في الحديث. قلت لها أنه لا حب حقيقي بدون تشويه حقيقي. وأن معنى الحب هو أن تشوه من تحب.
«بالضبط. (ثم بصوت كئيب) واجهتني أشياء كتلك كثيرا. أعرف أنك لا تفهم ما أقوله، أوأنك لا تفهم ما علاقته بأي شيء. دعني أقول لك أنك جئت لي كنجدة. نص غامض أقرأه في الصباح. نص عن حلم تافه ولكن يلوح من وراءه رعب ما. رعب أعرفه جيدا. تخيل يا حبيبي. لأيام طويلة كنت أعيش على حلم واحد. شخص يرمي ماء نار على وجهي. يا أخي كنت هتجنن. أصرخ وأمسك وجهي وأنا أحلم. لا أستطيع غسل وجهي لساعات طويلة بعد الاستيقاظ. تخيل هذا. الخوف من الماء. الخوف من أن يدمر ملامحي. (تتحسس أنفها وعينيها) لشهور طويلة لم يحل الحلم عني، منذ رأيت نوال لم يفارقني الحلم. الأحلام بتاكل أعصابنا يا نائل. بتفترسنا.»
* * *
في حلمي أدعو المس للسينما في المساء. توافق. أستأذنها للذهاب إلى البيت لكي أستحم وأرتدي ملابس السهرة. قبل مغادرتي ألتفت إلى مقاعد الجلوس. أرى مراد جالسا وهوينظر لي نظرة ذات معنى. لا أفهم معنى النظرة. فقط في الليل وعندما أرتدي أفضل ملابسي سأشعر كما لوكانت النظرة قد التصقت بي. بملابسي التي ارتديتها كما بملابسي التي خلعتها, أو أنها التصقت بملابسي القديمة فلما خلعتها انتقلت بالوراثة إلى الجديدة. هذه النظرات ستربكني مع المس في السينما. سأشعر دوما بجسم غريب يقتحم جسدي ويكونني. لن أتصرف بتلقائية. في داخل السينما سأجلس إلى يسارها. بين الحين والآخر سأمد بصري إلى يمينها. أفترض أن مراد جالس هناك. لا أجده. تدريجيا سأعرف الحقيقة. سأكون في هذه اللحظة أنا مراد ومراد سيكون أنا، هو قد سرب نفسه في جسدي بنظرته. عندما أمسك يدها كأنما بعفوية ستكون هذه ضربة حظ لصالح مراد. من الآن فصاعدا لن ينسب أي من أفعالي إلي وإنما إليه. أصحو مرتبكا من الحلم. أجفف عرقي. أشرب ماء كثيرا من ثلاجة المطبخ. شيئا فشيئا أرتوي. أرتمي على كرسي المطبخ. أسند رأسي على الترابيزة وأواصل الحلم.
* * *
أثارتني سمية. لم أعرف ما الذي أثارني فيها. كانت لمسات كفها لأصابعي تحمل شيئا ما أكبر من الرغبة في تصديقي على حاجتها لشخص تحكي له قصتها. ولأنني كنت أنا ذلك الشخص، فقد صار هذا مفتاحا سهلا لكسب شخصيتها، قررت استغلاله حتى النهاية. وقررت أن دعوة على زجاجة بيرة في إيليت لن تكلف شيئا. قلت لها في اليوم التالي على التليفون: «نحتاج للحكي أكثر من ذلك .. أنا عن مراد وأنت عن ماء النار.» ردت علي بسرعة: «ما رأيك في بعض البيرة في إيليت؟»
في إيليت بكت بحرقة. قالت لي: «بعد ما حدث ألبسها نقابا. شوهها وألبسها نقابا. صار هو الوحيد من يمكنه رؤيتها. كان هذا مفزعا بكل المقاييس.» سألتها هل رأتها مرتدية النقاب فأجابتني بأنها كانت تراها يوميا وأن هذا كان بشعا. كانت هذه هي الزجاجة السادسة لسمية. بدأت ترتجف ويتلوى وجهها كالمقبل على البكاء. لم تمض دقائق حتى انفجرت في بكاء عنيف. قلت لها: «هذه وحشية.» نظرت لي بعنف. كانت ثائرة: «وحشية؟؟ سوري يا حبيبي. كانت وحشية منها أصلا أن خانته. أنت لا تعرف أي شيء.» اقتربت منها. جلست بجانبها. مضيت أمسد لها على شعرها. فجأة وجدتها تقترب بشفتيها من شفتي. اشتعلنا في ثوان معدودة. حل جسدانا في لسانينا. هما من كانا يمارسان الجنس بداخل فم كل منا. في أقل من دقيقة انتهت العملية الجنسية بينهما. أخفى كل منا وجهه في الطاولة. بعد قليل سألتني مبتسمة: «مازلت تبحث عن مراد؟» قلت لها: «نعم». واجتاحتني موجة من الاكتئاب.
في الواقع لقد فعلت سمية أكثر من تذكيري بالحلم الذي بفضله صرت أجلس بجوارها الآن، لقد ألقت ضوءا عابثا على الحلم، كان في طريقة قولها مازلت تبحث عن مراد ما يشبه الاستهانة الصادقة منها بعمل لم تفهمه وبالكاد عرفت عنه أنا شيئا. كنت أغرق في التأمل الحزين شيئا فشيئا عندما فوجئت بأنها كانت تسألني عن نتيجة جهدي وتكرر السؤال وكنت أنا سارحا وراء أفكاري. كان سؤالها يأتيني من عالم آخر، من مستقبل لم أره لحظتها، وكان يشتبك مع أفكاري في خلفية صوتية واحدة. نظرت إليها. سكت فترة طويلة. ثم قلت لها أنني لم أفعل شيئا. لم أعتقد أن هذا عمل جدي يمكنني أن أمارسه وأن أراقب نتائجه. الآن مراد ناء وبعيد يا سمية. كدت أقول بأن ملامحي بعيدة عني. توقفت فجأة. سألتها عن صاحبتها التي تنقبت. كأن مهمتي انجرفت فجأة من البحث عن التوأم الضائع لملامحي إلى متابعة الميلودراما التي قدمتها لي. كانت سمية قد غابت تماما، ألقت رأسها على الحائط من خلفها وبدا كأنها تريد أن تحكي كل شيء، بما فيه السيرة الذاتية لها ولكل من تعرفهم. شرعت في الحديث:
«شوف. أنا صعدت مرة وأنا طفلة فوق كرسي لأطول أطباق الكِشك الموضوعة فوق الطاولة، كانت أربعة أطباق، لحست بإصبعي لحسة من كل طبق. لم أكن جائعة، لوكنت جائعة لأكلت طبقا كاملا وخلص الأمر. صح؟ لكنني أردت الرسم بيدي على كل طبق، أردت أن أتوحد بالطبق، أردت أن أقول أنا هو الكِشك. عندما عادت أمي وأبي وأخي من الخارج ورأوا أطباق الكشك على هذا الحال قرفوا، لم يأكله أحد، ألقوه في الزبالة، فرحت بكوني أستطيع أن آكل الأطباق كلها، أنا الوحيدة التي كان بإمكاني أكلها، ولكنني رفضت كذلك، ليس لأنني قرفت، ولكن لأنني لم أكن جائعة. ظل هذا يبهجني طيلة سنوات طويلة بعدها، أنا من كان بيدي مفتاح الكِشك، ولا أحد غيري، وعندما رفضت أن أفتحه، صارت أربعة أطباق كاملة بلا معنى، بالضبط كرجل يرمي على وجه المرأة التي يحبها زجاجة ماء نار كاملة، يظل الوجه موصدا وغير محلول، كأنه لم يكن يوما، كأنه لم يكن موجودا أبدا يا نائل». كانت سمية قد ثملت تماما، ألقت الكلمات الأخيرة بما يشبه النواح، بعدها ظلت تبكي، في النهاية ركنت رأسها على كتفي، أحاطت ظهري بذراعها. وجدتها فرصة مناسبة لكي أتيح لأصابعي التسلل قليلا تحت بلوزتها. قطعني النادل بسؤاله لي عن إن كنت أطلب شيئا. اتخذت فورا هيئة الزبون الوقور وقلت له أنني أطلب الحساب.
سألتها ونحن خارجان من المطعم إلى الشارع عن إمكانية الجلوس بالبيت قليلا. لم تسألني أي بيت، لم تملك الطاقة لتسأل. كان هذا جيدا بالنسبة لي. غير أنني لم أكن واثقا في إمكان أن تظل سكرانة ونحن نقطع الطريق إلى القاهرة. قدتها إلى حيث ركنت السيارة. في السيارة كانت تملك المزيد من الكلام لتقوله، لا عن الكشك هذه المرة، ولكن عن صاحبتها التي تنقبت.
«نوال لم تكن تحس بشيء وهي تنام معه، مع مصطفى، في البداية كانت تحبه، ولهذا قررت أن تنام معه، كانت مكسوفة من هذا قليلا، يعني، هما اخوات وكدا يعني، ولكن بعد هذا بدأت تتخلص من خجلها، ومن متعتها أيضا، في البدء من خجلها ثم من متعتها، يعني الترتيب كان هكذا، وبعد أن تخلصت من متعتها جاء الفراغ، أحست بالفراغ يجمع بينها وبين مصطفى وهما نائمان مع بعضها، كانت تحس أن الفراغ نائم معها، وهوأيضا كان يحس أن الفراغ نائم معه، يعني كان الفراغ هو الطرف الثالث بينهما، كأنها حفلة جنس يا معلم، هي وهو والفراغ، (تضحك طويلا. تكح بقوة بعدها). سيبك. نحن أشخاص محفورون في العدم.»
الجملة الأخيرة تنطقها سمية بتركيز شديد وبينما ترسمها بإصبعها في الهواء، كأنها تحفر في العدم، فعلا، كلماتها، تهدأ كثيرا بعد كريزة الضحك التي استولت عليها. تخطو خطوة جنونية، تقرب أصابعها من البروز ما بين ساقي، تحك كفها به بقوة وهي تتنهد كالشراميط، أكاد أصرخ فيها أنني أسوق السيارة يا بنت اللبوة، فدعينا نصل بسلام. أبعد كفها عن قضيبي برفق. تنزوي بجانب الشباك وتسألني عن مراد. أحكي لها عن حلمي الذي حلمت به قبل أن أنزل للقائها. مراد ينظر إلي فيزرع في جسدي بعضا منه. المشكلة يا سمية أن شيئا مني ظل فعلا مزروعا بمراد طيلة هذه السنوات، شيئا يدفعني للبحث عنه، عن ملامحه، التيقن أنها هي، أنها لازالت أنا، سميه جنونا أوعبطا، ولكن ما أوقن به أنني لن أهدأ إلا إذا وجدته.
كانت ما تزال منزوية بجانب الشباك. مضت تكرر «مراد. مراد» وتكتبها بأصابعها في الهواء. «مراد محمود» وتكتب بأصابعها. «مراد يشبه نائل» وتكتب. «ونائل يشبه مراد» وتظل تكتب، وتضحك بصخب، ولا تتوقف عن الضحك. تخبط على ساقي بعنف. أكون أنا هادئا تماما، أركن السيارة برفق في شارع جانبي قرب خط الترام. أنظر إليها. بقدر هائل من القوة أتحكم في أعصابي. "سمية. من أين عرفت اسم مراد الكامل؟" لا ترد. تنظر لي غير فاهمة وغير مصدقة. بقوة أكبر: «سمية. ماذا تعرفين عن مراد محمود المدني؟»
* * *
كان حلما رهيبا. بالكابوس أشبه أو بفيلم رعب يمسك بروحك فيخترقها. أنام مع المس بعد ليلة السينما. تصرخ في أن كفاني. تخبط بقوة على كتفي. بعد انتهاء الفعل بيننا أرقد على ظهري. تقول لي: «مراد. أحبك.» أنظر لها بقوة. أريد أن أشرح لها أني لست مراد. أرتب في ذهني أفكارا براقة حول هذا الموضوع لإقناعها. لا أستطيع النطق بكلمة واحدة. ليس أن صوتي يحتبس في حلقي. أفكر في أنني مراد بالفعل. أفكر في أنه ليس من الحكمة التصرف فيما يخالف حقيقة كوني مراد. في مشهد آخر من الحلم، أنا في المطبخ أقطع البصل وهي تقف أمام حلة الشوربة، أجرح جلدي بسكين المطبخ، لا أتوقف، أواصل تقطيع جلدي بدلا من جلد البصل. الآن يا مراد ستخرج من الجرح الطويل في إصبعي. الآن تحل عني إلى الأبد. الآن يا مراد يا بن الزانية أطرد نظرتك من بين خلاياي. وفي المقابل. تكون حلة الشوربة امتلأت دما. دم المس هو الذي يسيل، لا دمي، أنا أجرح نفسي ودمها هو الذي يسيل. أحاول لملمة دمها. أحاول حبس أصابعها التي تتشرح عن النزيف بيد، وباليد الأخرى مواصلة ذبح إصبعي أنا بالسكين، بيد واحدة أذبح يدي، هي الذابح والمذبوح. ينجرح إصبعي للحظة ثم يلتئم الجرح، وينجرح بلا دم ثم يلتئم الجرح، ولكن دمها هو ما يزال يملأ المطبخ والشقة ويفيض عنهما.
* * *
علمتني السنوات التي قضيتها في القاهرة أشياء كثيرة. يمكن القول بأن نشأتي الأولى كانت في القاهرة وليس في الإسكندرية. بعد أن تركت مدرسة ليسيه الحرية في الإسكندرية التحقت على الفور بمدرسة كلية السلام بالقاهرة. هنالك تعرفت على أصدقاء جدد. يمكنني أن أعد أسماء بلا نهاية. ولكن أقربهم إلى نفسي كان سليمان مرعي، طفل خشن الملامح يبدو مشعرا حتى في سنوات طفولته، استطعت تمييز خط واضح من الشعر أعلى شفتيه، شعر أجعد وطويل ووجه مستدير، كان يتمتع بروح القيادة وكان محبوبا من سائر زملائه، صادقته لفترة طويلة، تحادثنا في أشياء كثيرة وكان هو قادرا على إدارة الحوار من منطقة لأخرى بسهولة، كان مثقفا، بمفهوم أولى إعدادي، وكان هذا مثيرا لي تماما وقتها. عندما أنظر لنفسي الآن في المرآة أجد شخصا غريبا، تنمو ذقني الكثيفة بسرعة، أحلقها فيبدو وجهي أسود من تحتها، أسأل نفسي: من كان المرشح لتملك وجه مثل هذا؟ أليس من نما شاربه في الابتدائية؟ أتخيل سيناريو عجيبا: في عام 1989، عام معرفتي بسليمان مرعي، وأثناء تبادلنا الطويل للآراء التافهة في كل شيء، هربت جينات من وجهه المحتمل الذي سوف يكون بعد عشر سنوات إلى وجهي، استوطنته، لعبت فيه بأمواسها، جرت عليه، حفرت فيه ندوبا وحفرا ثم توارت داخل الجلد وباضت وفقست انتظارا للانهيار الأخير لوجهي. ما علينا. وقت مغادرتي لمدرسة كلية السلام، في عام 96، للالتحاق بالجامعة، كان الخط الرفيع فوق شفة سليمان العليا ما يزال خطا رفيعا ولما يتحول إلى شارب بعد، هذا بينما كان وجهي قد امتلأ بشعر خفيف أحلقه أسبوعيا. وفقا للسيناريو الذي رسمته: يصاب سليمان بمرض خبيث، يفقد شعر وجهه تدريجيا، يصير وجهه الآن أملس كوجوه الأطفال أو كوجوه المخلوقات من كواكب أخرى، أما أنا فأصير ابن الأرض، ابن الأرض إلى درجة الوحشية، شعر ذقني خشن وكثيف وسريع النمو، ما بين أنفي وشفتي خط يمتد هابطا كأنه تجعيد. أنا ابن الأرض الأول، أنا الإنسان البدائي، الوحش الذي ظهر ليدشن عصر الإنسان ويفتتحه، من نمت ملامحه بسرعة لتختزل زمن الكوكب المرهق، من يبدو في الثلاثين أكبر من عمره بخمسة عشر عاما، افتتح الله به البشرية واختصر عمرها في عمره، ضرب خاتمها فوق وجهه فانحفر فيه زمانها الطويل، طبع بصمته على ملامحه كماء النار.
المفارقة أنني لم أحلم أبدا بسليمان، أبداً أبداً.
* * *
أمسك بيدها بعنف: «سمية. ردي علي!». أما هي فتكون غائبة وراء أبخرة الكحول التي تتطاير من فمها على هيئة جشآت مقرفة. بعد قليل تصحو. تنفض رأسها. تأمرني بمواصلة القيادة، يكون في أمرها ما يقطع أنني قريب من إجابة سؤالي. أدير السيارة مرة أخرى. تشير لي إلى الشوارع التي علي أن أسلكها. بصوت ثمل تماما تأمرني. لا أعرف من أين أنا قادم وإلى أين سأذهب. أنصاع لها بدون كلام. يتحول صوتها إلى الجد شيئا فشيئا. يختفي الكحول من الصوت وهي تأمرني بمتابعة خط الترام، ثم الدخول إلى شارع صغير في سان استفانو، وإلى شارع أكثر صغرا. عند عمارة من ثلاث طوابق تقول هنا. بحسم واختصار تنطقها. أنزل وتنزل هي. تتقدمني إلى داخل العمارة. أصعد وراءها. السلم ضيق ومظلم. درجات السلم مرتفعة. أحاذر ألا ألهث حتى لا أخش السكون. أفكر في أن صوت خطواتي ينبغي أن يكون محسوبا هنا. لا أكاد أرى سمية. الظلام يكسو كل شيء. عند صوت دوران المفتاح في الباب أتوقف. ينفرج الباب عن عمود صغير من النور. تدخل سمية وأنا وراءها. أنتظر منها أي تلميح، أية إشارة. ولكنها صامتة تماما. هي واعية تماما بأنها هنا جزء من القدر وأنني مجرد متلق له، ولأنها جزء من القدر فلم تتكلم. دخلت الشقة ذات الإضاءة السيئة. صالة تتمحور حولها غرف البيت. أصيغ تأملا بسيطا: شقتي أنا تتمحور فيها الغرف حول الطرقة. هنا يقف المرء في الصالة، في مركز الدائرة، ولا يعرف من أي مكان سينقض عليك القدر، أو أجزاء القدر الأخرى التي لا تنتمي إليها سمية، أما في شقتي فيسير ويخيب توقعه كل مرة مع كل غرفة يمر بها ولا يدخلها. أتأمل أبواب الغرف المغلقة من حولي. هي واقفة. تضع مفاتيحها في درج بمكتب في الصالة. تخلع حذاءها على مدخل الشقة، بينما أنا لاأزال لابسا حذائي غير منتبه إلى ضرورة خلعه. تنظر لي طويلا ثم إلى قدمي ولا تعلق. الغرف كلها مغلقة حولي. تمد يدها في درج آخر وتنتزع منه مفتاحا آخر. تفتح به غرفة على يسارها. تدخل. تصفق الباب بقوة وراءها. أرنو إلى صورة معلقة، أتصور أنها صورة صاحب البيت. تدريجيا تتضح تفاصيل الصورة أمامي. تبدأ الحقيقة تبنى في ذهني طوبة طوبة، بسرعة، بمهارة ورشاقة كانت تركب نفسها في ذهني، لا أبذل أنا جهدا في هذا، الحقيقة هنا تعرض نفسها، تسرع حاملة نفسها إلى مكانها في الطابور لتشكل بالخط الاحمر الكبير كلمة الحقيقة. الحقيقة التي أتوصل إليها هي يقينية إلى درجة خواءها من المعنى، إلى درجة خواءها من المشار إليه، وإلى درجة يقيني بأنني عرفت الحقيقة، ولكن إن سألني أحد عن فحواها فلن أجيب. فقط حدس غامض هوما يمكن لي التوصل إليه ساعتها، وهذا الحدس له علاقة بالصورة التي رأيتها معلقة على الحائط، هو حدس غامض فحسب، له علاقة بالحقيقة، علاقة تجاور أوصداقة أو سبب ونتيجة، ولكنها، أي الحقيقة، تظل في مكان آخر تماما، حيث الحضور والغياب، حيث حضورها بواسطة قولها، أي قول كل طوبة بالأحرى: «أنا هو الحقيقة»، وغيابها بحيث لا أعرف أيا من الاثنين، أي من الحقيقة أو ماهية أنا الذي يدعي أنه هو الحقيقة. أقلب في صفحات العهد القديم الملقى بإهمال على المكتب. صفحاته مهترأة وبعضها تقطع تماما. لا أتمكن من القراءة فيه بسهولة. هناك ورقة سميكة مثبتة على الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين. بعد ربع ساعة يفتح الباب. تظهر سمية من ورائه. تقول لي: «اتفضل».
أدخل. أرى أمامي المشهد الذي توقعته مسبقا، أو مشهدا آخر قريبا منه. شاشة كمبيوتر وشخص يجلس أمامها، شخص ذو شعر طويل، طويل بشكل شاذ. تهتف سمية مترددة: «نائل يا مراد.» يلتفت لي مراد ببطء. يبدومحرجا ومترددا. أتقدم منه. أصافحه. أتجنب التطلع المباشر إلى وجهه. أسعى إلى تأجيل معركة بصري مع وجهه إلى آخر لحظة. لا أتبادل معه كلمة واحدة. ما تزال يدي في يده. الآن حتمية المواجهة. الحرب الضرورية. الآن أتطلع إليك يا مراد. أنظر. بكل عيني أنظر. من أمامي هو شخص بلا وجه، أو بوجه، هو على أقل تقدير ينتمي لقاع الجحيم، وجه يبدو كما لوكان يتراقص من خلف موقد تقلى عليه الطعمية والبطاطس. وربما عقابا له على كونه صار لا يملك وجها، ولأجل الدقة، على كونه صار لا يملك وجهه الخاص، وجهه الذي هو كان توأم وجهي يوما، وعلى عدم كون اللحظة غير مفهومة بالنسبة لي تماما، أضغط على كفه بقوة في أثناء مصافحتي إياه، كأنني أرغب في جرحه، أو كأن الضغط محاولة يائسة لإرجاع نفسي إلى صوابها، ولكن الأرجح أن الضغطة قد جرحت يده، وأن مراد لم ينطق. فقط يجلس على الكرسي أمام شاشة الكمبيوتر ويدير ظهره لي. كانت هناك بعض الشماتة. الآن أكسر عين مراد، مراد الذي لطالما استنسخ ملامحي على وجهه، الآن تحين مواجهتي في ملامحه بالفراغ الشاسع، بالوجه المتراقص والذائب وغير المفهوم كأنما لمجذوم، الآن أكتشف سر زميلي القديم. يخفي وجهه في شاشة الكمبيوتر وألمح دمعة ترقص في عينه. تدريجيا تزداد الدموع ويظل يبكي ويبكي. أنادي عليه بلا وعي لخمس دقائق كاملة بصوت مذهول وهو يبكي. في النهاية يدير وجهه لي بقوة، ليجابهني بحقيقته، ليطير من رأسي كل ما رأيته في المرة السابقة، وليتحول الكابوس الذي خايلني للحظة إلى صورة ثابتة محفورة في ذاكرتي. صورة سمية المحفورة على وجه مراد. هو سمية، تلك المرسومة على وجه زميلي القديم. أتقدم منه. أحاول لمس وجهه بأصابعي. لا أملك في النهاية الجرأة لهذا، أنظر إلى سمية. أحاول أن أستمد العون منها. أنقل نظري بين وجهها وبين وجهه. بينه وبينها هي المحفورة على ملامحه. تنبني في رأسي الآن الطوبة الأخيرة من الحقيقة. الطوبة التي تشير هذه المرة إلى الحقيقة نفسها لا التي تعلن عن هويتها. أبدأ في إدراك كل الأشياء. ومراد ما زال يبكي. الآن أهتز بعنف. ولكن مراد هو من يبكي. ومثلما انجرحت من قبل فسالت دماء مدرستي الآن يواصل مراد انهياري. أسلمه الانهيار فيضيف إليه. أمد يدي لأربت على كتفه. كتفه يهتز. أجلس بجواره على كرسي من الخشب. ألتفت إلى سمية. هي غير موجودة. خرجت وأغلقت الباب وراءها، أتذكر صوت غلق الباب منذ دقائق. أتذكر صوت المفتاح يدور في كالون الباب. أقوم إلى الباب. أحاول فتحه. أجده مصمتا تماما. ألتفت إلى مراد. من عمق روحه تخرج كلمة واحدة. يقول مشيرا إلى الباب المغلق: «هي تحبني». يقولها ببطء مؤكدا على كل حرف. ويدفن رأسه في لوحة المفاتيح أمامه. على شاشة الكمبيوتر ترتسم كلمات كثيرة بلا معنى، تسرع خلف بعضها البعض مثلما أسرعت أحجار الحقيقة لتعلن عن نفسها، يحرك مراد ذراعيه المرتكنين على لوحة المفاتيح فتتحول الكلمات من العربية إلى الإنجليزية. تختلط بسهولة. تدخل معها حروف لغة أخرى، هي السريانية. أنظر إلى خيار اللغات أسفل الشاشة فأجده السريانية فعلا. وما بين العربية والإنجليزية والمجرية والسريانية تتكون غابة لغات أمامي على شاشة الكمبيوتر. أجرب قراءة فقرة واحدة من المكتوب أمامي. لا أستطيع. فقرة كاملة بالمجرية تليها فقرة عربية تليها فقرة سريانية. ثم كلمة وكلمة ثم حرف وحرف. في النهاية تتوقف الغابة عن النمو. تبتر إمكانات نجاحها. أتذكر الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين في الصالة بالخارج. إصحاح برج بابل. إصحاح الجيل الذي تبلبلت لغاته فعجز البناة عن البناء. يرفع مراد رأسه وذراعيه من على لوحة المفاتيح. ينظر لي بقوة. يكرر القول مشيرا إلى الباب المغلق: «هي تحبني». ثم يصمت قليلا من الوقت. بعد قليل يعاود الكلام: «نمت معها الآن. قبل أن تدخل أنت.» ويشير إلى الأرض بجانب السرير. هناك حيث بقعة من السائل اللزج مازالت لم تجف بعد، وحيث كيلوت حريمي متروك بإهمال. ينظر إلى شاشة الوورد المفتوحة أمامه. يبدأ في إلغاء الفقرات متعددة اللغات واحدة تلوالآخر. تختفي أدغال الغابة أمامي. أسأله: «لهذا أطلت شعرك؟» ينظر لي بفزع. لا يفهم. لا أعرف كيف أصيغها. «من أجل، يعني، وجهك.» يبتسم ولا يجيب. في ابتسامته ما يشبه هوة كاملة من الجحيم تنفتح، أو، كأنها هي القشة الأخيرة التي تحطم وجهه. كأن وجهه يتفتت أمامي إلى ألاف الشظايا. يقرر الابتسام حتى النهاية، وبقوة أشد. لا يرد. أخفي عيني في الأرض. أصير غير قادر على مواصلة التطلع إليه. أكتشف قطرات العرق التي تسقط من وجهي على الباركيه. أكتشف أن الغرفة مصمتة، بلا نوافذ ولا شرفات. أدق على الباب: «سمية افتحي أرجوك.» لا أحد يرد. سمية سمية سمية. ألهث. مراد تتسع ابتسامته. أجفف دمعة ذرفتها. أسأله بصوت مرعوب: «أريد مفتاح الغرفة.» يبتسم أكثر وأكثر. هوالآن بلا وجه. وجهه يتطاير كله مع ابتساماته التي تتسع كلما أخذت أنا بالانهيار. أتذكر الأطفال الكهول الذين كنت أحلم بهم يلتقونني في الإسكندرية. الأطفال الذين كبروا ولم يكبروا. مراد هو جميع هؤلاء الأطفال الآن في جسد واحد. أبدأ في الشعور بالدوخة. الأطفال الكهول يحاصرونني. يبتسمون وتشوههم ابتساماتهم. أنا محبوس معهم في زنزانة واحدة. أسقط على الأرض. أنظر إلى مراد وأطلق صرخة خافتة. ينظر لي ويبتسم.
عندما سيفتح الباب بعد نصف ساعة سأكون قد نسيت الحرارة. سأكون قد رقدت على الأرض معريا جسدي إلا من البنطلون وبدأت أشعر بعرقي كائنا لطيفا لا يتوقف عن ترطيبي. ستدخل سمية وبيدها كوبان من الشاي. ستعتذر عن نزولها للشارع لشراء السكر في هذا الوقت. أنهض مسرعا. أخرج على الفور. أنزل إلى الشارع. هناك أتنفس بجوع. في السيارة تطلبني سمية. أفتح الخط. تسألني عن سبب خروجي المفاجئ. أشرح لها. أكتشف أنه ليس لدي ما أشرحه لها وأني أنا نفسي لا أعرف سبب خروجي المفاجئ. لن تقتنع بأن حرارة الجو سبب كاف. ولا أنا حتى سأقتنع. ولكن لن يكون لدي أكثر من هذا لقوله لها. سأظل أشرح لها وأنا في السيارة، وبينما أنا أخرج من السيارة، وبينما أنا على الكورنيش، وفي أثناء إشعالي سيجارة وبعد إطفائها. في النهاية فقط ستلمح لي إلى أنه كان هناك الكثير مما يجب أن نفعله الليلة ولم نفعله. تقول لي أنها أحبتني وأنها تنتظرني. أسمع صوت مراد بجانبها. لا أميز ما يقوله. لا أرد إلا بهمهمات. مراد يتكلم وهي تتكلم وأنا أهمهم. في النهاية أسمع مراد يقول لها: «سلمي لي عليه». تقول لي مراد يسلم عليك. تنتهي المكالمة ويكون الغروب قد حل على الإسكندرية. قلبي يدق بعنف. أحاول تأمل ما حدث بشكل أكثر تنظيما. ظللت لفترات طويلة أبحث عن مراد سائلا سؤالا بسيطا: هل مازال يشبهني أم لا. هذا جهدي الذي نذرت له بشكل أو بآخر عمري كله. الآن مراد شخص مشوه، الآن هو طفل كهل لا نفع فيه. أنظر إلى انعكاس وجهي على شاشة الموبايل، هكذا إذن، سار كل وجه من وجهينا في اتجاه، هو في اتجاه اللاوجه وأنا في اتجاه الوجه المفرط في وجهيته، الوجه المزدحم بشعر وبتجعيدات وببثور. أتنهد براحة نسبية. أقذف بنفسي في السيارة. أدير الراديو على إذاعة الموسيقى. أشغل التكييف وأقرر النوم. في لحظات ما قبل النوم أبدأ في تمييز ما كان يقوله لها، ما كان مراد يقوله لسمية أثناء محادثتها إياي، أميزه بأثر ارتجاعي، بكل وضوح، وكأن شريط الصوت يعرض أمامي وأنا مجرد متلق مغرق في سلبيته، صوت صحو مستخرج من ذاكرة مضببة يقدم نفسه لي على طبق من ذهب. كان مراد يلقنها وكانت هي تستجيب له. أخبريه أنك أحببتيه. أنك تريدين أن تنامي معه. تنهدي أمامه يا شرموطة. ليس هكذا. أحسن. أحسن. أحسن. برافو. ثم يخطف منها قبلة.
(2)
حلمت سمية يوما بمراد مع شيخ كبير. كان الاثنان يتناقشان في أمر من الأمور التي لم تعنها. كان مراد يتناقش بحدة ويبدو مستفزا بشدة. أما الشيخ فقد كان هادئا وكان يخرج أوراقا بين الحين والآخر ويلوح بها لمراد. كان لهدوئه بعد شرير، وكان هذا الشر موجها تجاه مراد الذي كان يفقد أرضا بعد أخرى في نقاشه. لم تسمع سمية شيئا من الحوار الذي كان يدور بشكل ِأقرب للهمس. في لحظة ما التفت لها الشيخ وقال لها بصوت عال: الله! ما تحضرينا يا سمسم. عندما اقتربت سمية منهما استطاعت تمييز أن الشيخ كان أباهما. كانا يتحدثان بصوت منخفض تماما. ويبدو أن الحوار قد دار ببعض اللغات غير العربية كذلك. كان مراد يحاول الاستيضاح من أبيه عن أمور متكررة وكان الأب يكرر ما قاله بلغة مختلفة عن اللغة التي قال بها ما قاله للمرة الأولى، وكذلك كان يحدث من الأب تجاه مراد. بعد قليل التفت الأب إلى سمية وقال لها مشيرا إلى ابنه: عاوزين نجوزوه. فهمت سمية هذه الجملة ولكن مراد لم يفهمها لأنه واصل نظرته الخرساء إلى أبيه وأخته. قال بعدها شيئا ما بلغة غريبة. وأخذ يشير إلى أخته بعصبية وبخوف. وقال الشيخ شيئا ما بلغة مختلفة وهو يطبطب على كتف سمية.
أما سمية فقد نطقت هي الأخرى. قالت ولم تفهم ما قالته، كانت مستفزة للغاية ونظرا إليها منشدهين فورما نطقت. ثلاث جمل بلغة شرقية غريبة ألقتهما الواحدة وراء الأخرى بسلاسة وبقوة. اكتشفت انضمامها إلى جوقة اللغات المختلفة. اكتشفت أنها تساهم بقوة في بناء غموض الحلم. أنها عنصر فعال في بناء الفخ الذي يحيط بها هي نفسها. كانت نبرتها قوية. نطقت جملها الثلاث وكأنها جندية في معركة. بتصميم وعزم ورغبة في الانتقام.
استيقظت سمية مرعوبة. لم تعرف ما الذي أخافها في الحلم. ارتدت الروب وخرجت إلى البلكونة. في البلكونة أشعلت سيجارة ومضت تتأمل الحلم. كيف كان يتم الاستيضاح من كل من أبيها وأخيها حول اللغة التي يتحدث بها كل منهما. كيف فسرت جملة «عاوزين نجوزوه» الحلم كله، ألقت عليه ضوءا غامرا ولكنها أوصدت في نفس الوقت أي باب لفهم ما يلي. كيف حولت الجملة التي ألقيت بعامية سكندرية واضحة ما تلاها من الحلم إلى نص أجنبي تماما، وحولتها هي نفسها إلى مشاركة في هذا النص، كأنها الضريبة التي يجب أن تدفع على جملة عربية مفهومة. صيغ الحكم القدري الكامن في هذه الجملة: سترى كثيرا، سترى كثيرا جدا هذه المرة، سترى كل شيء، قبل أن تصاب بالعمى إلى الأبد. الأب الذي عرف العبرية والسريانية والإنجليزية والفرنسية يحضر من قبره الذي دفن فيه منذ عشرة أعوام ليصيغ تحذيرا يتعلق بالمستقبل. تحذيرا يبلغ من خطورته أنه يجعل الحلم كله يصاب بالشلل، أن يعطل إمكانية العربية فيه. أشعلت سمية سيجارتين لكي تصل إلى هذه النتيجة متحاشية أكثر ما أرعبها في الحلم، ومحاولة تجاهل مقدمات ونتائج الحلم وغض بصرها عن الرعب الكامن في احتمال زواج مراد، أخيها وعشيقها الأكبر.
* * *
بدأت علاقة سمية بمراد منذ عودتها من منزل طليقها. كان هذا بعد موت أبيهما بأعوام كثيرة. في بيتها استطاعت تكوين مرة أخرى مركز ست البيت الذي كان لها في بيت زوجها السابق. واستطاعت دعابات خفيفة بينها وبين مراد أن تعيد إلى بؤرة الوعي الحلم القديم لها به، وحلمه القديم بها. تقريب خد من آخر، ملامسات الأيدي، كلام غير بريء، كل هذا أدى إلى ليلتهما الأولى على كنبة الصالة أمام التليفزيون. في شهر أصبح كل منهما عشيقا كاملا للآخر. لم يرغب مراد أبدا في امرأة أخرى. لم تكن ميوله الجنسية متوهجة بشكل خاص. أو ربما كان يمارس ذلك النشاط المدعو حبا تجاه أخته، وبالتالي فقد تعفف عن النساء فيما عداها. هذا ما راقبته سمية بدقة، لأن أي خرق لهذا كان كفيلا بطعنها، وربما يتصل هذا بعذرية أخيها، الذي لم يجرب امرأة من قبلها، وبعدم عذريتها هي الخاصة، هي العائدة من منزل زوج سابق. لهذا أرادت بقوة الاستحواذ على أخيها، أخيها الذي لم يعرف مكانا يذهب إليه بخلاف مكتبة أبيه وجهاز الكمبيوتر. أرادت حصره في هذين المكانين وفي جسدها هي، خاصة بعد أن زارتها صديقتها منى في بيتها. وبعد أن استطاعت بقوة تمييز بوادر إعجاب مراد بها. راقبت كل شيء بقلق في البداية ثم بعزيمة أكيدة على إصلاح الأمور. لم يتأخر الأمر، قررت سمية التدخل بالفعل عندما صارحها مراد ذات يوم برغبته في الزواج من منى. هنا لم يعد الأمر يحتمل التردد.
لسنوات اجتهد مراد في تصميم سلسلة إعلانات، كان ينام ويحلم ويقرأ ويسير وهو يفكر فيها. وضع لها خطوطها العريضة وصار يكتب لها سيناريوهات على الكمبيوتر. كانت هي تتابعه وتسأله عن تفاصيلها. استطاعت تكوين فكرة عامة عن الإعلانات التي يصممها والتي اختار «بابل» اسما للمستند الذي يحفظ فيه أفكارها على الكمبيوتر. دارت الإعلانات حول إعادة تشكيل كوكب الأرض على أساس لغوي. الإعلان الأول، من ناحية تاريخ عرضه، فيها هو عن وصول بعض البناة العرب، المرتدين غطرة ودشداشة، إلى مكان ما في عمق الصحراء. كل الموجودين هناك من العرب. يبدأون في بناء مركز تجاري عملاق ومهيب على غرار المراكز الموجودة في دبي أو أبوظبي. يعملون بجد. أجيال طويلة تفصل بين بداية عمل البناة العرب في بناء المول وبين تشكل الطوابق الأولى منه، أجيال كافية لهم لكي تتشكل من البناة مجموعات شتى ولكي ينمو بينهم نوع ما من اللهجات المختلفة. ستنمو هذه اللهجات بشكل متوحش خلال فترة وجيزة لتتحول إلى لغات. عند مرحلة ما من الإعلان، سيحتاج البناة إلى تضافر جهودهم سويا. سينادون على بعضهم البعض، ولأن العربية تفرعت إلى لغات عدة، إنجليزية وكورية وفرنسية وسريانية ومجرية، فلن يفهم أي منهم الآخر. المركز التجاري الآن على وشك الانهيار والتوقف تماما، الحارس الكوري ينادي على عامل البناء الفرنسي ليأخذ حذره من ذئب قادم من خلفه. لا يفهم عامل البناء نداء الحارس الكوري فيلقي مصرعه. يصيغ المهندس ماكيت المول بالإنجليزية فلا يجد المجريون من فائدة لهذه الوثائق المكتوبة بلغة غريبة سوى مسح مؤخراتهم بها بعد التغوط في الخلاء. فجأة يظهر قاموس «ألف». ينكب جميع العاملين في بناء المركز التجاري عليه. ترتفع طوابق المركز إلى السماء بسرعة فائقة.
تقرأ سمية أفكار سلسلة الإعلانات بتشوق بالغ. برغم أن كل فكرة لم تكن تختلف عن الأخرى كثيرا إلا أنها وجدت نفسها مستثارة تماما مع كل واحدة. كانت هناك مقدمة متشابهة لكل إعلان. كوكب الأرض يخلق أمامنا. كرة هلامية تسبح في الفضاء. إصبع عملاق يسقط عليها من خارج الكادر فجأة. دوووم. يظهر أثر الإصبع في البصمة الهائلة على الكرة الأرضية. البصمة هي المحيطات والأنهار والجبال. هنا بالتحديد، عندما تقرأ سمية هذه المقدمة على شاشة الكمبيوتر الخاص بمراد، عندما تفكر في طبق الكشك القديم، عندما تأكلها الغيرة من صديقتها التي أدخلتها بيتها فأخذت حبيبها منها، وبينما تصيغ حكما يتعلق بأنها يجب أن تكون هي مراد وأن يكون مراد هو سمية، تطرق على المكتب بقوة تفزع ذبابة كانت واقفة. تقول بعزم: لابد من إعادة تشكيل العالم. ثم تتلقى مراد الخارج من الحمام بزجاجة ماء نار كاملة فيتشوه وجهه إلى الأبد.
* * *
في يوم ما، يمكن القطع بأنه كان هو اليوم الذي بدأت فيه علاقة مراد الجدية بسمية، وبعد عودة سمية منكسرة من بيت زوجها، كانا يشاهدان التليفزيون. جلسا متقاربين. بعد قليل أمكن لكل منهما أن يستشعر سخونة الآخر في هذه الليلة الدافئة. قال لها «عاوز انام معاكي». وقالت له «عاوزة انام معاك». دقائق وكانت قبلة طويلة قد احتوتهما. ما ظل يؤرق مراد لفترة طويلة كان: لماذا قالت له «عاوزة انام معاك» عندما قال لها «عاوز انام معاكي»؟ ظل يفكر: الاحتمال الأقرب للمنطق ان تقول له «وأنا كمان». أو أن تضيف لواحق لـ«عاوزة انام معاك». مثل «وانا عاوزة انام معاك». أما النطق بهذه الجملة بهذه الصيغة فهوما يقطع بأنها كانت تبدأ حوارا، لا تواصل حوارا بدأه هو، كأنها لم تسمع ما قاله، كأن خيطا قد انفلت. هنا يتذكر مراد نظرة سمية له عندما قال هذه الجملة. كانت قد نظرت له بذعر، كأنه ينطق بلغة غريبة. ولأنه ينطق بلغة غريبة فهي لم تسمع ما قاله. الحقيقة التي أعلنتها هي بقولها «عاوزة انام معاك» كانت مشابهة بشكل مرآوي تماما للحقيقة التي اعلنها هوبقوله «عاوز انام معاك»، أما لوقالت «وانا كمان»، فستكون حقيقة قد بنيت على حقيقة، لن يكون هناك للتشابه مكان بين جملته وجملتها، ستكون جملتان تواصلان بعضهما. أي: لولا الخيط المنفلت، لولا اختلاف اللغتين التين استعملهما كل منهما، فلن يتناغم حوارهما، لن يصبح جانبا منه مرآة للجانب الآخر.
كان الإعلان الثاني الذي كتب مراد السيناريو الخاص به كالآتي: بعد خلق الأرض بسنوات معدودة، تترات تنزل على الشاشة لتؤكد أن الولد والبنت الذين نراهما على الشاشة هما ابنا الإنسان الأول. هما يحبان بعضهما. ليس هذا مهما، فنكاح المحارم لم ينظر إليه بقسوة في تلك الأيام، خاصة أنه عليهما اختراع البشرية من الهواء، من زناهما بالتحديد. ولكن تفاهمها سيكون صعبا بعض الشيء. لماذا؟ حسنا. لأن كليهما يعاني من مشاكل جادة في النطق. البنت تنطق السين شينا والزاي جيما معطشة والباء فاء، وأحيانا ما تصدر أصواتا غريبة مرافقة للحروف، مثل الجيم المعطشة المسبوقة بصوت مثل الدال، أوالشين التي تخرج فيها لسانها قليلا كما تنطق الثاء. أما الولد فمشاكله أكثر خطورة، وهي تتعلق بالحركات. هوينطق الفتح كسرا والكسر ضما والضم ينطقه فتحا، وليس هذا فقط، اكتشف مراد بعض الحركات غير المعترف بها عربيا مثل الكسر الممال والضم المرقق والفتح المفخم، وضع قائمة تضم ثماني حركات وجعل ابن الإنسان الأول يمزج بينها كلها. سيكون على كل منهما، ابني الإنسان الأول، أن يناما في الفراش، سيكون للبنت مزاج خاص جدا، وكذلك سيكون له، هي تحب مثلا أن تؤتى من الأمام وهو جحش لا يفهم إلا المؤخرة. هي تحب أن يترك قضيبه خارجها قبل الذروة بثانية ثم يفجره فيها. وهو، منذ أن يدخل قضيبه حتى لا يدعه يخرج ثانية.
هنا سيكون تفاهمها مضحكا وكل كلمة ستنطق بشكل مختلف بينهما ستؤدي إلى قذف أقل مهارة. والقذف الأقل مهارة سيؤدي إلى صبيان غريبي الأطوار، شيئا فشيئا سيتخلى الكون عن سواءه، وسينمو جيل جديد بعضه متأخر ذهنيا والبعض الآخر قليل الفهم مثل الحمير، والآخرون من ذوي الأذرع والسيقان الواحدة، وبعضهم ضمرت عضلات سيقانه أوأذرعه فلم تنبت أساسا، غير أن الأهم كان هوالأطفال الكهول، جيوش من الأطفال الكهول ينبتون في كل مكان يتناكحان فيه. هذا الجيل سيكون نواة لما سيعرف فيما بعد، في الإعلان السابق، بجيل البناة العرب، من سيقررون في جلسة بينهم أنه لابد من بناء مركز تجاري في الصحراء يلم شتاتهم، فما يكون منه إلا أن يبعد كلا منهم عن الآخر، كما يجدر بعالم كامل من المعتوهين. شيء واحد سيعطل هذا المصير التعيس للعالم. سيوقف الكرة الأرضية عن التطور باتجاه العته الكامل، باتجاه «بابل» مول الذي ستضيع فيه لغتهم الواحدة. قاموس «ألف» الذي نراه في يد الولد والبنت. يقرآنه جيدا. يميز كل منهما كلام الآخر بسهولة. شيئا فشيئا ينضبط الجنس بينهما. ينضبط القذف. يتوقف جيل البناة العرب عن أن يكونوا إمكانية مطروحة. يدرك مراد الآن أن ظهور قاموس «ألف» في الإعلان الثاني هو ما سيعطل إمكانية الإعلان الأول، والذي يقوم بأكمله على البناة العرب، باعتبارهم حقيقة تاريخية. هذا لا يهم. الإعلان الأول يسبق الإعلان الثاني من ناحية تاريخ العرض، ولكنه يلحقه من ناحية تاريخ الأحداث التي يتناولها. أي أنه سيكون قد عرض بالفعل عندما يكتشف المشاهدون أنه قد أصبح ضربا من خيال، أن ظهور قاموس «ألف» قد أدى إلى عالم سوي أخيرا، أطفال أصحاء يتناكحون فينجبون أطفالا أكثر صحة، وليس منهم من يفكر في بناء مركز تجاري في الصحراء، ستكون هذه هي الخديعة الكبرى للمشاهدين، ولكنها ستكون مريحة نفسيا لمراد، للسبب التالي.
بعد تشوه وجهه، بعد أن أجهزت سمية على ملامحه عبر زجاجة ماء النار التي ألقتها عليه، ظلت فكرة واحدة، مظلمة، كئيبة وسوداوية، تسيطر عليه. كان مراد قد شاهد برنامجا في قناة الجزيرة عن الأطفال الكهول. أطفال يولدون بوجوه مجعدة، أوبصلعة مرسومة، أوبكرش وطيات في أجسادهم وووجوههم ورقابهم. افترض مراد أن وجهه ينتمي إلى هذه الوجوه. كان ينظر إلى وجهه في المرآة، في سنوات عزلته التي فرضها على نفسه في بيته، فيجد شخصا في الثلاثين من عمره، قد تحول وجهه إلى وجه مائي، سائل، وجه هو على أقل تقدير ينتمي لقاع الجحيم، وجه يبدو كما لو كان يتراقص من خلف أي موقد تقلى عليه الطعمية والبطاطس. هذا هو وجه الطفل الكهل الذي، هكذا يفكر مراد واقفا أمام مرآته، ولد نتيجة للقذف العشوائي بين أمه وأبيه، نتيجة لغياب التواصل بينهما، بسبب غياب اللغة المشتركة، وبظهور قاموس «ألف» سيظل هذا الطفل محبوسا فوق، في السماء، لن يتحقق أبدا.
هذا كان صحيحا مع تعديل بسيط، فالتشوه لم يولد نتيجة خلل يتفاقم تدريجيا في العالم كخلل اللغة، وإنما كانحراف حاد في المسيرة، كندبة، كبصمة، كان الجرح هو توقيع سمية محفورا على وجهه، هو ماء النار الذي يعدل بقسوة من خريطة الملامح ليثبت أخرى جديدة. كل هذا يضرب في جوهره منطق اللغة التي تفاقم تشوهاتها بداخلها، تنميها، تدعها تضطرب وتنضج، ثم تخرج إلى النور معلنة عن نفسها لغة مختلفة. فيما بعد، بعد أسابيع من عزلة مراد في البيت وأثناء ما كانت سمية تقوم بتطبيبه، محرمة عليه الذهاب للمستشفى، تغير له الشاش المغموس بالمضاد الحيوي على وجهه، سألته إن كان أحدا سيعرف بما حدث فأدار وجهه بعيدا. كان يعني لا. قالت له ولا حتى منى؟ لم يرد. بعد دقيقة كاملة اكتشفت دموعا على خده. كان أيضا يعني لا. ابتسمت سمية في أعماقها ابتسامة كبيرة. هنا، وهنا بالتحديد، كانت قد انتصرت.
لا يمكننا وصف سمية بالقسوة أوجمود القلب، كل ما هنالك أنها أبصرت ما يحدث داخل مراد هكذا: مراد انتفى أمامه خيار منى إلى الأبد. لم يعد موجودا. والحلم بالخطوبة والزواج وشهر العسل تم منعه عنه بقوة. والدموع هي تأشيره الخاص على هذه الحقيقة وعلى العجز عن إصلاحها. الدموع هي التصديق على نجاح سمية. وما بين المخطط والتصديق على نجاحه عدة أمور مشتركة: ماء النار الذي ألقته سمية على وجه مراد وماء الدموع الذي نزل على وجه مراد. الوجه مسرح العمليات والماء أداتها. وعدة أمور مختلفة: سمية ألقت ماء النار على وجه مراد، أما مراد فقد أخذ العجز يمور بداخله حتى أفرز دموعا. الفارق هنا يشبه الفارق بين طباعة البصمة، وبين اختلال اللغة.
مراد كان دوما شابا انطوائيا. عندما عادت سمية من بيت زوجها السابق، تحولت إلى كل شيء في البيت، ست البيت دائمة النشاط التي تمر بكل غرف المنزل فور بدء صباحها. غير أنها لم تنجح في البداية في اختراق غرفة مراد. كان هذا دائم الجلوس في غرفته على جهاز الكمبيوتر الخاص به. كانت تناديه من خلف الباب فيرد عليها، غير أنها مع هذا قد تظل خمسة أيام كاملة لا ترى وجهه، وهو ماكان مرعبا لها: ماذا لو تغيرت ملامحه في الأيام التي لا تراه فيها؟ ماذا لو كان وجهه يهرم في هذه الأيام بسرعة خاصة، عقابا لها على إهمالها في مراقبته. لم تكن لتعرف بما يحدث على صفحة وجهه، ولا هو كان ليعرف، فلم تكن في الغرفة مرايا، ليس بها إلا شاشة الكمبيوتر التي، بسبب الإضاءة السيئة للغرفة، لن تفلح في هذا الغرض. فكرت سمية: سيكون هذا غدرا من شخص يرسم الوجوه. طعنة موجهة لظهرها. فيما بعد، بكثير، ستسترجع هذه اللحظة عندما تقرر أن لا تدع الفرصة لذاك الشخص ليمارس غدره تجاهه. ستقرر أن تكون هي الوحيدة التي ترسم وجه أخيها، وبشكل عاصف لا يدع للخصم فرصة التفكير في الرد. ربما كان هذا واحدا من أهم أسباب افتتانها فيما بعد بوجه أخيها المشوه. وجهه الذي صار من الآن فصاعدا هو مرآتها الخاصة، مرآة ملامحها ومرآة انتصارها، بصمتها المطلقة.
* * *
لم تكن مقدمة الإعلان اعتباطية بأي حال من الأحوال. البصمة التي تنزل على الأرض لتشكل تضاريسها. قبل دوي البصمة كان الفراغ، الكائوس، التوهووبوهو، السديم، العدم، الأزل، هكذا هي الأرض كما تخيلها مراد وقتها: فراغ محاط ببصمة خارجية، الأصالة وهم، ليس من شيء أصيل فينا إلا فراغنا، أوكأن الأرض خدعة، كأننا نحيا بفضل قناعها الخارجي فحسب، لا لحمها الداخلي المتخيل. عندما كان يخلع ملابس سمية قطعة قطعة، بتفنن وطول بال، كان خاطر كئيب يخطر له، ملابسنا هي نحن يا أختاه، وقلبنا هو فراغ كبير، لأنه كان يشعر، أثناء ما يفترض أنه لحظة الذروة في العملية الجنسية، أنه يقضم قطعة هائلة من الفراغ، وأن هذه القطعة تبدو له ضخمة جدا إلى درجة أنه يفتح فمه على اتساعه لينالها، غير أن أسنانه هي ما تضرب بعضها، وهو ما يبدو جرما مشتركا للاثنين، لنحن الذين عبارة عن فراغ كبير ولأسنانه التي تسعد بانطباقها على نفسها بدون غريب يتوسطها، لأسنانه التي تمزق الفراغ بسعادة انتقامية، لأسنانه التي تبقى بينها نسيلة فراغ عالقة فلا تنفع خلة في تنظيفها، تظل نسائل الفراغ هي الشيء الوحيد الباقي في أسنانه، كأنها ارتبطت، كاللعنة، كوهم الدم على يد مجرم مبتدئ، بأسنانه، وصار عبثا محاولة تخليص أي منهما من الآخر. وبهذا الوهم، بنسائل الفراغ تلك، لم يستطع مراد نسيان جسد أخته ولا رائحته، صار كلبا يشمشم وراء جسد عرفه وصارت هي كذلك. يمكننا أن نقول أنه لأسابيع كاملة عاشا بمفردهما بدون غريب يعكر صفوهما، كان شهر عسل لا يقطعه شيء، ولا حتى تصميم الإعلانات قد شغل مراد في هذا الشهر، لم يكن إلا الفراغ يمزق أوصاله، أي أوصال الشهر، وهذا شيء لم يعرفه مراد إلا بعد انتهائه، أن ما ظنه شهر عسل كاملا ومنتظما كان كائنا قبيحا تخللته نسائل الفراغ حتى فرمته، وأن هذا ربما ما ظل ممتعا، أو هو ما أضفى عنصر الإثارة على هاتيك الأيام.
فراغ محاط ببصمة خارجية. في يوم من الأيام، بعد تخرجه وجلوسه عاطلا في البيت لسنة، التقى مراد بسليمان، صديق من القاهرة تعرف عليه مرة هناك في إحدى مقاهي وسط البلد، فاتحه سليمان في مسألة تصميمه لعدة إعلانات عن قاموس «ألف» الذي تنوي دار نشر «أبجد» إصداره، أخذ سليمان يشرح له مميزات القاموس، يترجم من العربية إلى خمس لغات أوروبية، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والمجرية، ومن هذه اللغات إلى العربية، أخذ سليمان يشرح باستفاضة أما مراد فكان يتطلع إلى شيء ما مختلف تماما، وجه سليمان، كان وجها أمرد كأنما لطفل مصاب بالسرطان، وجه مفرغ من محتواه، عندما قاما ليستقل مراد قطاره عائدا إلى الإسكندرية، ويمضي سليمان إلى بيته، أخرج مراد محفظته ليدفع الحساب، سقطت سهوا منه صورة قديمة له. انحنى ليأخذها. لمحها سليمان. خطفها بسرعة من يده. حملق فيها طويلا. بعد قليل قال أن وجه مراد في هذه الصورة يشبه وجه زميل قديم له. زميل له اسم غريب. بعد ثوان قال ان اسمه كان نائل. تخيل واحد اسمه نائل؟ اسم غريب أوي. ضحك سليمان والتمعت في ذهن مراد الفكرة النهائية، سحبت ملاحظة سليمان تلال ذكريات ليسيه الحرية من مكمنها، اجتاحت ذهن مراد، جالبة معها إضاءة بسيطة، وجه سليمان هو صورة، كامنة أوغير متحققة، أوحتى تحققت إلى درجة الإفراط، من وجه نائل، زميل الليسيه القديم، ملامح نائل هي البصمة الخارجية المحيطة بوجه سليمان المفرغ. لم يتوقف أبدا مجاز الفراغ المحاط ببصمة خارجية عن مداهمة مراد.
* * *
في الإعلان الأول، من ناحية تاريخ العرض، والثالث من ناحية تاريخ الأحداث، اختزل مراد الأرض في بابل مول والبناة الذين يبنونه، كانت الأرض عبارة عن رقعة ضخمة من الصحراء، وأناس يبنون بناء عملاقا. كان يكتب سيناريوالإعلان على شاشة الجهاز، وعلى هامش السيناريو كتب ملاحظة:
هنا، في هذه اللحظات المصيرية لم تكن الأرض قد تحددت بعد مكانا للسكن. نائل، زميله القديم، ملامح نائل هي البصمة الخاؤرجية المحكانت الأرض لا تزال كائنا عبثيا وغامضا لا يعرف أحد الهدف من بنائه (بعد قليل تتداخل أفكاره الذاتية مع الملاحظة الوقورة التي يدونها، أفكاره الذاتية بالعامية والملاحظات الوقورة بالفصحى) يعني، تبقى الارض ساعتها شقة ع المحارة، اتجابت خلاص بس ناقصها تشطيب (يعجب جدا بهذه العبارة. يظل يضحك بقوة. يرتج) الفراغ بداخل الأرض يحتاج إلى تعميره. الأرض شقة وليس أكثر. وكل اللي بيدخلها مش سكان إنما عمال، فواعلية، يبنون ولا يسكنون. (بكآبة وحزن يردد الكلمة) يبنون ولا يسكنون، وبيناموا مع بعض. (وجهه الآن مكدر للغاية. كئيب وحكيم، وفي ظل الإضاءة السيئة لغرفته، يبدو أكبر من عمره بثلاثين عاما على الأقل) بيناموا مع بعض علشان يجيبوا ولاد، مش علشان بيحبوا بعض. يعني حتى المعاشرة بتبقى بنا مش سكن. ما أفظع التعاسة والحزن والاكتئاب.
ولأن الأزمة أزلية، أزمة الفراغ في قلب الأرض الذي يحتاج إلى ملئه، فلا يكتمل البناء، يصيغ مراد الإعلان بشكل يائس ومظلم، يعني، مشاهد طوابق بابل مول التي تنهار كلما انبنت تتكرر بين الحين والآخر. في النهاية، عندما يظهر القاموس، يكون شيء ما قد تحطم في قلب المشاهد، هذا الشيء هو الثقة بملء الفراغ، الثقة باللغة المشتركة، بالتواصل، يكون المشاهد قد قطع رحلة اللاعودة باتجاه الكفر الوجودي بظهور قاموس يرمم الصدع. وعندما سيظهر القاموس بالفعل سيبدو هذا شيئا مبتذلا تماما، شيئا كالنهاية السعيدة التي تظهر في نهاية فيلم عاصف ولا يرجي برء لمأساويته، من منا يصدق نهاية كتلك؟ هذا ما جهد مراد في تسريبه للإعلان، هذا اليأس البارد والقاتم. هنا يمكننا الإشارة إلى شيء هام، بعد خروجه من الحمام يوم الرابع والعشرين من يونيو، بعد أن احترق وجهه بماء النار، لم يصدق مراد أبدا أن وجهه سيعود كما كان، ولم يفكر للحظة في علاج ناجح يعيد ملامحه الفقيدة ولا في عملية تجميل تزيل أثار العدوان. كل ما فكر فيه هو إطالة جانب من شعره وكيه بحيث يغطي مكانا محترما من التشوه. ولكن لا يمكن إنكار أنه تلقى الخبطة بفرح ما، بنوع من التسليم المرح، المرارة النزقة، وببعض الرومانسية كذلك: صحيح أنه فقد ملامحه إلى الأبد، ولكن اكتسب ملامح جديدة، اكتسب تحقيق مجاز عمره، الفراغ المحاط ببصمة من الخارج، هذه البصمة هي بصمة سمية هذه المرة، وكان لهذا انعكاساته التي تتعلق بتاريخ العائلة.
كانت علاقة سمية بمراد هي النتيجة الأكثر تطرفا لشطط العائلة. ذات يوم، ربما منذ أربعين أوخمسين عاما، قرر الجد ألا يتزوج من الخارج، قرر أن يتزوج بنت بنت عم أبيه التي كان يدعوها، للتبسيط، بابنة عمه، أما الأب فقد تزوج بنت عمه المباشرة. مراد نفسه لم يتزوج، ضاجع أخته فقط. شذوذ طفيف حدث في العائلة، تزوجت سمية شخصا غريبا لم تستمر معه لأكثر من سنة، وعادت بعدها لحضن أسرتها، التي كانت قد انحصرت في مراد بشكل قاطع. وشذوذ أكثر تفاهة، انجذب مراد في فترة لصديقة اخته، منى، فكر في الزواج بها، وفاتح سمية في هذا الموضوع، هنا انتهى الأمر. طبعت سمية بصمتها فوق وجهه بقوة قيادي محنك. وبالتالي حرمته من أي شخص غيرها، كل شيء فيه الآن ممهور بسمية، والمقصود هنا هو قضيبه ووجهه. تلقى مراد هذه النتيجة بالامتنان لسمية، حتى وإن تألم بعض الشيء، ولكن لا شيء يعدل الإغلاق النهائي لكابوس الخارج، الخارج الذي لا هم له إلا القضاء على نقاء العائلة.
عبارة نقاء العائلة هي عبارة إشكالية إلى حد كبير، إشكالية وهشة ولا تصمد أمام أي اختبار حقيقي، ولا يمكن تجاهل أن مراد وسمية كانا واعيين بهشاشتها هذه، فماذا كان يمكن أن يحدث مثلا لو أنجبت سمية من زوجها السابق؟ فكر مراد في هذا الاحتمال كثيرا، فكر فيه بأثر رجعي، بعد أن رجعت اخته من بيت زوجها، وبعد أن اكتملت علاقته بها، ظل يفكر: ماذا لوكانت قد حبلت أثناء شهور حياتها مع زوجها؟ كانت النتيجة التي توصل إليها باردة ولا تحتمل الجدل: كان سيقتل طفلها. ثم أمر آخر، ماذا لو نامت سمية مع شخص آخر؟ قال مراد لسمية أنه بإمكانها النوم مع من تشاء. ثم تراجع في اليوم التالي، طلب منها أن تخبره فقط في حالة اتخذت القرار. لم يشعر بالغيرة على أخته وحبيبته. فقط خاف على الكائن المدعو بنقاء العائلة، طلب منها أن تخبره حتى يستطيع تحديد أهلية هذا الذي سيعاشرها.
في هذه الأوقات كان شخص من أيام الدراسة يلح كثيرا عليه، ظل مراد يتذكر نائل على مدار شهور طويلة، حدث سمية عنه، حاول البحث عن رقم تليفونه أوعنوانه، كل ما تذكره هو سفره القديم إلى القاهرة ليواصل دراسته الأساسية هناك، ونصوص قصصية له استطاع الحصول عليها عندما قام بالبحث عن اسمه على شاشة جوجول. عندما كان الجنس يمر بينه وبين سمية بأسوأ مراحله، عندما لا يثير فيهما أي إحساس أو رعشة خاصة، كان يقول لسمية، وهوراكب فوقها نصف عار، لو جاء نائل لحل المشكلة كلها. كانت تسأله، وترضى أن ينام معي أحد آخر؟ فيرد نعم. كانت تستسلم للاكتئاب أحيانا بسبب هذا. أما هو فكان يواصل التفكير فيما بعد، يفكر في أن مزيجا منه ومن نائل سيكون قادرا على مواصلة الجنس. يتخيل مشهدا قصيرا: سمية نائمة في غرفة النوم، يتقدم نائل داخل الصالة، مراد يستقبله ويشير إلى غرفة النوم. يتأهب نائل للدخول فيستوقفه مراد بيديه. يقترب منه، يهمس في أذنه بكلمة، أوبكلمات، يدخل بعدها نائل وقد أصبح ذلك المزيج منه ومن زميل دراسته على حد سواء. كلمة، أو عدة كلمات، أو نظرة أو لمسة، كل هذا يكون كافيا ليتم زرع مراد بداخل نائل، ليكون نائل هو مراد عندما ينام مع سمية. هكذا نصل إلى نقاء العائلة. لا أحد غريب ينام مع البنت. ليس هناك إلا العائلة كلها انحشرت في جسد واحد. فراغ محاط ببصمة خارجية. فراغ يمنح اللذة لسمية وبصمة تمنح النقاء للعائلة. سمية تعانق الفراغ، تلحسه، تلهث، تمصه، بقوة وعنف تمصه، وتلهث، تطلق أصوات خافتة، وما يبدأ بحفلة جنس، هي ونائل والفراغ، ينتهي بجنس أحادي الجنس، بفراغ يضاجع فراغا، وليس إلا بصمة العائلة المحفورة فوق الجميع، بقوة إلهية، هي من تقرر مصير الوليد القادم.
* * *
كان الإعلان الأول يدور على هذه الشاكلة:
غابة ترتسم تدريجيا، نحن الآن في عمق الأحراش. شخص يدخل مترددا، هو ما يفترض أنه الإنسان الأول، ولكننا لا نرى منه إلا ظهره، في النهاية، كأنها مقدمة طريفة لفيديو كليب، يلتفت إلينا بقوته. نصرخ نحن مندهشين: رباه! أهكذا بدا الإنسان الأول إذن! لأنه لم يكن سوى بهلوان، بهلوان يغطي وجهه بالجير الأبيض، مع نجمتين مرسومتين على عينيه، وقبعة أوروبية طويلة كقبعة الحواة. ليس هذا فقط هوالسبب المناسب لدهشتنا. بل سبب آخر، فبينما نحب تخيل الإنسان الأول كرحالة مغامر يخترق مجاهل الأرض، كفارس بدائي يتعلم وحده أسرار الزراعة والرعي والصيد، فإننا نجد البهلوان مخلوقا مثيرا للشفقة، خائفا، مفزوعاً، مفرط البدانة ذا مؤخرة ممتلئة ومخنثة ينظر في كل اتجاه قبل أن يتقدم. ينام الإنسان الأول بجوار نهر، يحلم أحلاما سعيدة، يقترب منه كائن نعرفه جيدا ولكن لا يعرفه هو، إنه الأنثى، المرأة، مرتدية فستانا ذهبيا يكشف عن ذراعيها وظهرها ومشقوق شقا طويلا عند صدرها، تمسح له على وجهه فيصحو، تثيره رائحتها، يبدأ في المسح على وجهها وذراعيها وكتفها بسعادة، يلمس أجزاء جسدها بشفتيه، شيئا فشيئا يبدو واضحا جدا التضخم في بنطلونه. ظلام.
الآن البلهوان شخص كبير السن. عجوز بليت ملابسه ويجلس وحيدا بجوار نفس النهر وقد أضيف للمشهد قبر كبير مكتوب عليه «هنا ترقد رقية»، مكتوبة بعربية بخط رديء. يجلس ويبكي، لأن الألم أكبر من أن يحتمل.
شيء واحد يدخل السلوى على قلب الإنسان الأول: صبي، يبلغ حوالي الرابعة عشر من عمره، يجول وحيدا على مرمى البصر، وطفلة في السادسة من عمرها تنام تحت ظل شجرة قريبة. يقترب الصبي من البلهوان. معه قطيع من الخراف. يجلس غير بعيد عنه ويمضي في الغناء. يلتفت البلهوان إليه بدهشة. لا يبدو فاهما ما يقوله. في السنوات الأخيرة تغيرت اللغة كثيرا. اختلفت لغة الأبناء كثيرا عن لغة الأباء. سنكتشف أن الأب عاش مع ابنه أربعة عشر عاما وهو يتابع تطور اللغة، يتابعه بأذن غير مدربة طبعا. الفارق بين كلمة الأب وكلمة الابن هو أربعة عشر عاما من تجوال اللغة وحدها، من انطلاقها لتفعل ما تريد، هي اللغة بطولها تشكل نفسها وتتغير، بدون خضوع لا من مستخدميها ولا من لغات أخرى زميلة. في البداية كان البهلوان يستطيع فهم كلام ابنه، كان الاختلاف يتلخص في صوت واحد أودلالة واحدة، فيما بعد سيرهقه التفكير وستغدو الاختلافات بين لغة الأب والابن أكثر تعقيدا. سيسلم الأب نفسه للبكاء بجوار النهر وتذكر المرحومة. فقط ستنمو بذرة شك منه تجاه كل ما يقوله ابنه. شك ينبع من عدم الفهم بالأساس ولكن أيضا من شباب الابن الذي ينم وأمام عينيه، يتخيله شبابا شريرا وساخرا.
يمضي الصبي ويكتب شيئا أسفل «هنا ترقد رقية»، يكتبه بحروف غريبة، إما أنها لغة مختلفة أوأنه خط عربي شديد الرداءة، المحصلة أننا لا نفهم المكتوب. يراه البهلوان. يقترب من ابنه غاضبا. يصفعه بقوة. يركله في بطنه، الشاب يحاول دفع الضربات ولا يستطيع. ينفجر الدم من أماكن عدة من جسده. البلهوان يصرخ أن لا شيء سيكتب بجانب ذكرى المرحومة الغالية، أن هرطقات ابنه كلها قد تطول كل شيء ولكنها لا تطول رقية العظيمة. ركلات في كل مكان، في العمود الفقري، في الوجه، في البطن والخصيتين. ينظر الابن إلى أبيه نظرة هادئة، فيها بعض المأساوية، نظرة مسيح بالأحرى، ويموت.
البهلوان يواصل الجلوس بجانب النهر، يغني أغنية حزينة عن العدل الذي يجب أن يتحقق ولو آلمنا كثيرا ولو أخذ معه كل من نحبهم. يلمح من على البعد شيئا يحمله النهر. يقترب. إنه كتاب، مكتوب على غلافه «قاموس ألف» ببنط كبير ولوجو دار نشر «أبجد» فوقه. يبدأ في مطالعته. هنا يحدث انفجار ما، انفجار لغوي يدوي في عقل صاحبنا. فلاش باك يسترجع كل ما كان يقوله الابن، الابن الذي لطالما شك فيه، يتم قراءته الآن على ضوء جديد ويتكشف عن، عن، عن كلام رائع. يرنو البلهوان إلى قبر زوجته السابقة. يلمح الجملة التي كتبها ابنه تحت جملته. الآن تتم ترجمة الجملة كاملة: «هنا ترقد رقية التي أحبها أبي العظيم أكثر من أي شيء». صرخة البهلوان النادمة الآن لا تسعها الصحراء ولا الغابات. لقد قتل ابنه البار لأنه لم يفهم ما قاله. يموت حزينا ومكتئبا بعدها بأيام. يتمخض العالم عن امرأة وحيدة شائخة هي ابنته وقد كبرت ونمت لها لحية صغيرة ومقرفة. والحكمة النهائية تدوي في عقولنا: «هذا هومصير العالم بدون قاموس ألف».
خدعة ثانية للمشاهدين: هذا هو الإعلان الأول من ناحية تاريخ الأحداث، فلا شيء يسبق بالبداهة الإنسان الأول على كوكب الأرض، ولكنه الثالث من ناحية تاريخ عرضه. بعد الإعلان الثاني والذي يضاجع فيه ابن الإنسان الأول اخته، نكتشف أن الابن قد مات محتفظا ببكارته، مات قبل أن تكون اخته الصغيرة قد أصبحت امرأة بعد. وحده ظهور قاموس الف كان سينجح في إيصال المشاهدين بمنطقية إلى الإعلان الثاني، وحده كان قادرا على تزويجهما، ولكنه لم يظهر، ولم تتم الإشارة في أي جزء من أجزاء الإعلان إلى أن موت الابن كان حلما أوما شابه أو أن القاموس كان قد ظهر قبل ارتكاب الأب لجريمته النكراء. الترجمة، ومعها الفهم، ومعها إمكانات حياة البشر، كل هذا تم بأثر رجعي، وليس هناك أي أمل في إعادة عقارب الساعة للوراء. واحتمالات صلاح العالم لا تحدث إلا في ذهن المشاهدين، لا على شاشة التليفزيون، وفي ذهن مراد أيضا:
ماذا لوكان الشيخ حكيما، يتروى قبل حكمه على الأشياء، وليس بهلوانا أرعن شاخ فزادته الشيخوخة حماقة. وفوق هذا وذاك، تقع له المصادفة السعيدة، يكتشف قاموس «ألف» في فترة مبكرة من حياته، بعد إنجابه لابنه مباشرة، يبدأ الشيخ في مطالعة القاموس، يبدأ في الاستماع إلى ابنه، إلى لغته التي تمضي وحدها لتخلق نفسها بنفسها، يسجل كل الفروق الدقيقة بين معاني كلمة يستعملها هو ومعانى نفس الكلمة وقد استعملها ابنه، يتتبع مسار صوت معين، من أين بدأ وإلى أين انتهى، يدون ملاحظات دقيقة حول تصريفات الأفعال والأسماء وكيف تنحت الكلمات من بعضها البعض. أما كان لينتهي الشيخ عالما في فقه اللغة؟ باحثا أكاديميا محترما قادرا ليس فقط على فهم بعض اللغات بجانب لغته ولغة ابنه، ولكن أيضا على توليد المعاني من بعضها واللعب بالأصوات، وفوق هذا وذاك، قادرا على فحص ملامح الجيل الجديد، من البشر مثلما من اللغات، وعلى فهم ما تفعله أربعة عشر عاما من الاختلاف بينه وبين سليله الوحيد.
لا يكتب مراد هذا الاحتمال، يظل محتفظا به في عقله معتقدا أنه قد ينفعه بعد ذلك يوما.
(3)
كنت نائما مع سمية. لم يكن مراد موجودا. سألتها من أحبته منا أكثر، أنا أم هو؟ لم ترد. فقط ربتت على وجهي وطلبت مني التوقف عن إلقاء أسئلة من هذا النوع. لم أتوقف. كررت السؤال بعنف. صمتت تماما. طلبتُ منها أن ننجب. «سنتزوج وننجب طفلا. ما رأيك؟» ابتسمت بسخرية وواصلت الصمت. بتضرع سألتها إن كنت أشبهه «انت تعرفينه الآن وقبل الحادثة. هل كان يشبهني؟». سرح عقلها بعيدا. في النهاية قالت لا أعرف وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى. سألتها عما حكاه هو لها عني. قالت كان يقول عنك رجل طيب. يأست من العثور على إجابة لديها. أشعلت سيجارة وخرجت إلى الشرفة لأدخنها. على العموم، كانت هذه لحظة استثنائية، لم تتكرر كثيرا.
* * *
في ستة أشهر كنت قد حفظت جميع غرف بيت سمية ومراد. استأجرت شقة بسان استفانو لأكون قريبا منهما. أزورهما في النهار أوالليل ولا أمكث إلا ساعات. نحكي عن ذكريات الدراسة. أحيانا أمسك بيد سمية. ندخل معا غرفتها. ننام مع بعض بسرعة، ونخرج لنجد مراد قد عاود جلوسه على الكمبيوتر في غرفته. عرفت أشياء كثيرة عن حياتهما، ما سمحا لي بمعرفته وما عرفته أنا بنفسي. لم يخفيا عني الكثير. كل ما أخفياه كان نتيجة لعدم الانتباه، وليس لنوايا شريرة منهما. في هذه الفترة كنت قد تنازلت تقريبا عن حلم التطلع في وجه مراد ومقارنة ملامحي بملامحه، أوأنه لم يعد يشغل جانبا مهما من تفكيري. استسلمت ليأس لذيذ وتوقف الحلم القديم عن زيارتي إلا بشكل مخفف تماما: أنا في مدرستي القديمة ومحاط بزملائي القدامى فحسب. وهم الآن أطفال فعلا، أطفال رائعون وممتلئون بالحيوية. أظل محدقا فيهم ولا يحدث شيء، أوأنني لا أعود أتذكر ما يحدث. أقول كدت أتوقف عن التفكير في موضوع تشابهي القديم مع مراد لولا مفاجأة صغيرة تعرضت لها في يوم بارد من أيام شهر ديسمبر، بعد خمس أوست زيارات لسمية ومراد تحققت فيها أنهما يعيشان بمفردهما تماما وأنه لا علاقات من أي نوع تربطهما بالجيران، وأن الأصدقاء والمعارف والأقرباء ليسوا إلا كائنات فانتازية بالنسبة لهذا الزوج الفريد.
يعلو في أثناء وجودي ببيتهما صوت صراخ طفل رضيع. أسأل سمية من هذا الطفل. فتقترب مني وتلمس شفتي بأصابعها قائلة لي أسئلتك كترت يا ننوس. أتذكر كلاما قديما لها عن فترة حملها. لم أنتبه ساعتها. أوربما حللت المشكلة في عقلي بافتراضي أن حملها قد سقط، أولم يقدر له الاستمرار وانتهى الأمر. أنظر تجاه صوت الطفل. أسألها إن كان ابن زوجها أم ابن مراد. لا ترد بشكل مباشر. تنظر في الأرض فحسب. أصرخ أنا. ابن مراد أم ابن زوجك. تواصل الصمت. بعد قليل ترفع إليّ عينين مرتبكتين وضعيفتين. تقول لي أنها لم تنجب من زوجها السابق. أصمت أنا طويلا. أقوم. أدخل إلى غرفة سمية. كان هناك الطفل على سريره الصغير. أرفعه بين يدي وأتأمله طويلا طويلا. تمر ربع ساعة وأنا أتطلع إليه وأتفرس في ملامحه. في النهاية، أجلس بجواره وقد وضعت كفي بين يدي، تقترب مني سمية. تجلس بجانبي:
ـ كان لابد أن ننجب يوما. خفنا أن نضيع في الهواء. أحببته بجنون. وهو أيضا. قررنا أن خالد هوما يمكن له أن يشهد على وجودنا، يشهد على هذا الشيء العظيم الذي أحس به كل منا تجاه الآخر.
كانت تقول هذا وهي تقبل عيني وأنفي وشفتي، وهي تضمني من إبطي وتفك أزرار قميصي، وهي تربت على قضيبي بحنو. في النهاية، وبشكل يشبه المعجزة، يتحول العضو الرخو إلى آلة جاهزة للعمل. على سرير سمية، وأمام ابنها وابن أخيها، نتضاجع بقوة. تهمس لي: «تريد ابنا أنت الآخر؟». أنظر لها. «سأكون أنا العنصر المشترك في المسألة. أنجب لك ابنا ترى نفسك فيه. ابنا لك يكون أخا لخالد، ابن مراد، ترى فيهما معا دورة الملامح التي كانت لك يوما ملتصقة بدورة ملامح زميلك القديم. تتحقق من التشابه بينهما. وكل أسئلتك القديمة حول مراد وحولك ترى إجابتها على صفحة وجه ابنك وأخيه.»
أشعر بدوي رهيب في عقلي. لا أستطيع تمييز كلامها. أقول لها أنني جائع. تقوم معي إلى المطبخ. في المطبخ أفقد توازني. أقع على البلاط. أفقد الوعي لدقائق ثم أتحامل على نفسي وأقوم.
* * *
لم أتخلص أبدا من إحساسي بأن صالة شقة مراد وسمية هي صالة ملغزة، أولنقل أنها مستهدفة، بشكل ما أوبآخر، من لغز يحيط بها. الصالة تطل على سائر غرف الشقة من حولها، وسائر الغرف مغلقة لا تفتح أبدا. شعرت دوما بأن القدر سينقض علي من إحدى تلك الغرف، أنا الجالس في الصالة، الصالة التي تدور الحياة حولها بشكل مفزع، حياة صادمة، مفاجئة، لقائي بمراد للمرة الأولى، بكاء الطفل، شيء ما سيحدث وأنا جالس على كرسي السفرة في الصالة، وسيحدث من اتجاه أحد الأبواب المغلقة من حولي. في النهاية، لا يمكنك تحديد مصدر الخطر، ولكن يمكنك تحديد هدفه، كانت الصالة هدفا سهلا لعدوغير مرئي. كنت أتطلع إلى جميع الغرف المغلقة من حولي عندما سمعت جلبة لا أعرف مصدرها بالضبط، وصوت يد تدير أكرة باب لا أستطيع تحديده. فجأة، من غرفة مراد، تخرج سمية محتضنة طفلا صغيرا. تقترب مني وتسلمه لي. تقول لي: ابنك. أنظر لها بفزع، ثم له. أتردد في الإمساك به. تضعه أمامي على السفرة وتمضي. لا أعرف أين تذهب. أحاول اللحاق بها ولكن قدمي ثقيلتان، أو أن الطفل يمسكني بقوة وكأنه يستبقيني، أو شيء ثالث، هذا قيد يربطني به، قيد لا أعرف مصدره، في هذه اللحظات، أدرك أنني سأكون هنا، في هذا المكان لن أبارحه، وأنني سأظل ما حييت ملتصقا بالطفل. أصحو على شيء ما يداعب أنفي، سمية تقرب ريشة من وجهي وتلاطفني. أنظر لها مفزوعا، تقبلني على خدي قبلة طفولية. تقول: أنا حامل يا كتكوتي. فكر في اسم لابنك.
* * *
في القاهرة يلتقى مراد بسليمان. يجلسان على قهوة البورصة. بعد أشهر طويلة من المطاردة يظهر سليمان أخيرا، يقول أنه كان في البحرين، ربما يصدقه مراد وربما لا، هذا لا يهم. لا يعرفه سليمان. يسأله عن سبب تشوه وجهه. ويبدوعليه الاهتمام والحزن الحقيقي لما أصابه. الآن مع كل منهما شيشته وشايه وينظران إلى بعضهما صامتين.
يسأل مراد عن مصير قاموس «ألف». يقول أنه كتب كل الإعلانات التي طلبها منه سليمان. يسحب سليمان نفسا عميقا ثم ينفثه كله في وجه الفراغ. يبدوعليه التركيز. يتأنى قليلا قبل الرد. ثم يسأل أي قاموس هذا؟ يذكره مراد بدار «أبجد» وبالقاموس الذي ستصدره. يذكره باتفاقهما على كتابته إعلانات عن هذا القاموس. يقول سليمان أنه تذكر. ويعد مراد بسؤال دار النشر عن هذا الموضوع. كان في البحرين ولا يعرف أي شيء عما يحدث في القاهرة. قبل أن يقوما يسأله سليمان: «يا أخي مش ناوي تعزمنا على أكلة سمك حلوة عندك في اسكندرية؟»
* * *
كثيرا ما ألححت على سمية بأن نتزوج. كانت ترفض وتقول أنه لا يمكنها الزواج من شخص آخر. وأن زواجها الأول كان خطأ. لم أكن أريد الزواج بها في حد ذاته. كنت أشتهي طفلا منها، ومنها هي بالذات، أي، ربما أكون قد أحببتها. وبرغم هذه الرغبة مني، كانت أحلامي تعمل في الاتجاه المناقض تماما. كانت كل أحلامي بطفل لي تنتهي بكارثة ما، بمأساة حقيقية، وعلى قدر ما كانت أحلامي بتلاميذ المدرسة القدامى تتحول إلى الرومانتيكية شيئا فشيئا كانت أحلامي بطفلي تنتهي بالرعب، بعالم سريالي ما، بصفعة، أو، في مثال صار قريبا منا تماما، بقذف ماء النار على وجهي. الطفل يكبر أمام عيني بسرعة، يسمن ويتحول إلى وحش صغير، أو يحدثني بلغة غريبة ويبدو ناقما علي أوساخرا مني، أو الطفل ملاك وديع يرقد في أقمطته، أتطلع إليه وأفكر في أن هذا الملاك قد يخفي مسخا ما، مشعرا وكريها، ما أن أفكر في هذا حتى تبرق عينا الطفل ويبدو مستعدا لقتلي. أصحو مفزوعا وعرقانا بعد كل حلم. أتصل بسمية دوما وأحكي لها عن الحلم فتطمئنني وتدعوني إلى زيارتها. في بيتها تسألني إن كنت خائفا من الإنجاب، اقول لها أنني لا أعرف. مرة شرحت لها أن كل ما كنت أريد هو الإجابة على هذا السؤال، هل ظل مراد يشبهني حتى هذه اللحظة، هل ظلت ملامح كل منا مقيدة في ملامح الآخر؟ قلت لها أنها أفسدت كل شيء وعطلت إمكانية تحققي من هذا. (في الحقيقة، كنت دوما ما أفكر بيني وبين نفسي إن كانت سمية قد فعلت هذا، أي شوهت وجه أخيها، لهذا الغرض بالتحديد، لإفساد إمكانية اكتمال حلمي). وعندما جئت أنا وجدت ابنها عنده شهور. اقترحت هي علي أن أراقب التشابه بين ابني وابن مراد. حسنا. هنا فاتها شيء. هي حامل الآن. بعد ستة شهور سيكون عندي ابن. وسيكون الفرق بين ابني وابنه خالد سنة إلا شوية. سأراقب الشبه بينهما متأخرا. ما سأراه على وجه خالد اليوم سأراه على وجه ابني بعد سنة إلا شوية. (لم أعرف كيف أصيغ الجملة التالية بشكل أقل مجازية)، هو التطابق المؤجل يا سمسمتي، هو قراءة الجريدة بشكل يومي ولكن متأخرا عن ميعادها سنة. سكتت عندما شرحت لها هذا في أول مرة. وفي المرة الثانية أخذت تضحك كثيرا. جذبتني من يدي إلى غرفة مراد. هناك فتحت الكمبيوتر واطلعتني على ملف يحوي صورا لخالد. «عنده يومان، شهر ونصف. ثلاثة. جمعنا له كل صوره في كل مراحل عمره. كل ما عليك هو مطابقة وجه ابنك بهذه الصور. بس كدا.»
على العموم لم يحل هذا مشكلة الجريدة البايتة، وقعت أسيرا لفكرة واحدة. كل شيء أراه على وجه ابني سيكون قد وقع مثله على وجه ابن مراد منذ سنة. كل ما نقرأه في الجريدة اليوم قد وقع منذ سنة. الحدث هنا، لا الجريدة، هو اللوح المحفوظ، المفتوح لنا في منحة كريمة للبشر، هو الكتاب الذي ينبئنا بما سينشر في الجريدة بعد سنة إلا شوية.
تمر الأسابيع وتظل بطن سمية تكبر أمامي، تمر وتزداد أحلامي توحشا، تتحول إلى أفلام رعب: غابة أسقط فيها، في مدرستي بالمناسبة، ليسيه الحرية، غابة من الأطفال، هم زملاء الدراسة السابقين، بفارق وحيد، كلهم نسخة مني ومن مراد، من خالد، من سمية ومن ابني كما أتوقعه. أصرخ وأنا نائم، أسأل نفسي أي عائلة تلك التي أوقعت نفسي فيها. عائلة يشبه ذكورها إناثها ويتناكحون فينجبون أطفالا هم نسخ مكررة منهم. عندما كنت أصل إلى هذا الخاطر وكنت في الوقت نفسه أتطلع إلى بوادر ولادة سمية الآخذة في الاقتراب كنت أدرك أنني لم أفعل إلا ما خططا له هما من البداية، وأنني مجرد رقم أضيف إلى رصيد عائلة محمود المدني، مجرد رقم أضيف إليها بحنكة.
الآن لم تعد سمية تثير فيّ شعرة. ليس بسبب بطنها الذي كبر، وإنما بسبب شيء آخر، لا أعرفه وإنما أحسه بقوة، ملامح معينة لها، نظرات، فلتات لسان، أشياء كثيرة كانت تؤكد لي أنني بصدد الوقوع في فخ كبير، أو أن هذا ليس هو المقصود بالتحديد. المقصود أنهما، هي ومراد، كانا يعرفان ما سيحدث، كانا يقرآنه ويحضران له، أما أنا فكنت الفاعل. هنا أعود إلى مثال الجريدة البايتة: أنا لم أشاهد خالد منذ ولادته، لم أتابع مراحل نموه في الواقع، وبالتالي، فكل ما سيرتسم على وجه ابني من ملامح، كل هذا هما يعرفانه ولا أعرفه أنا. منح اللوح المحفوظ لهما مرة وهما يستظهرانه على جسدي. لهما الفعل ولي استنساخه. أحسست بكل هذا شرا يترصدني، ولم أستطع أن أنام مع سمية مرة أخرى. صرت أزورهما. أجلس في الصالة وحيدا، عندما لا تكون موجودة. أرقب الغرف المغلقة الأبواب من حولي. أسمع صوت تكتكة أصابع مراد على الكيبورد بغرفته، أعد لي بعض الطعام أحيانا أو أقرأ. ولكن في كل الأحوال أنتظر. أحاول معرفة ما سيأتيني به فتح مدو لباب ما من الأبواب المغلقة حولي، أو أنام، وأحلم بالتأكيد.
يتكرر الحلم القديم في أشكال مختلفة: أزور المدرسة. أجلس مع المس. أراقب شرحها للتلاميذ. يبدو أنني أزور المدرسة في شكل مفتش أو ما شابه. يخطئ أحد التلاميذ في إحدى مفردات الإنجليزية خطأ شنيعا. يصر على أن She تعني هو وليس هي. أطلب منه القيام ليخبرني بكيفية الإجابة على هذا النحو. لا يرد الولد. فقط يظل محدقا في عيني بنظرة واثقة. أطلب منه بصوت أعلى أن يرد. يقول أنه يصر على ما قاله. يتحدث عن مشكلة فلسفية ولغوية ما لم يستطع أحد التوصل إلى نتيجة حاسمة بخصوصها، ثم تدريجيا تبدأ في الدخول إلى كلامه مفردات إنجليزية. بعدها يتحول إلى الإنجليزية كليا، ينطقها بلكنة تتراوح ما بين الأمريكية والبريطانية على حسب ما يريد إيصاله وبمهارة بالغة. يقول في عشر دقائق كل شيء. يستعمل أكثر من مئة تعبير أدبي في محاضرته القصيرة. يستشهد بفقرات من شكسبير ووليم وردسوورث واللورد بايرون. أنا مأخوذ بلغته.
في النهاية، عندما ينتهى من الكلام، أحاول مجاراته. أنطق ببعض الكلمات الإنجليزية. تبدو النتيجة بائسة وهزيلة. أحاول الاستشهاد بنفس المقطع من شكسبير. تخونني الذاكرة فأمزج بينه وبين مقاطع من إمبرتو إكو ألقيها بعربية بليدة. لا يسمح لي الولد بإكمال كلامي. يقاطعني بسرعة ويقول أن كل كلامي غير منطقي وغير مفهوم. يواصل كلامه بالإنجليزية وقد تخللته جمل روسية وألمانية. تبدأ الأصوات كلها في التداخل عندي. أطلب منه التوقف فورا. لا يتوقف. أطرده من الفصل. يخرج منتشيا بالانتصار. لا يتوقف شريط الصوت في الحلم. كل كلامه يتم تكراره في عقلي، بقوة عنيفة يتردد. وليس هذا فقط، بل برتابة أيضا، تفاصيل مرافعته تكرر نفسها، بلغاتها ومفرداتها واقتباساتها، كلها تدوي في عقلي. عندما أصحو أكتشف أني أتذكر الحلم جيدا، بنفس الإيقاعين المختلفين له، إيقاعي وإيقاعه. أبدأ في تدوين كلام الطفل بسرعة. أجد نفسي وقد كتبت نصا فلسفيا وأدبيا عميقا بلغات متعددة، نصا أدبيا لدرجة أنني فكرت في إلحاقه، في حال ترجمته إلى العربية، برواية من رواياتي. أحاول قراءة ما كتبته، لا أتمكن من النطق إلا وفق إيقاعي أنا، بنفس إنجليزيتي الرثة، كأنني كتبت ما يمليني إياه الطفل، مستقلا بذاته، لا حلمي أنا، والذي خلقت فيه أنا الإيقاعين والصوتين، صوتي وصوته. صوته هو ما كان يسيرني. أو أمر آخر، كأن الطفل يقرأ من اللوح المحفوظ، وكأنني مجرد ناسخ لما قرأ، كأنني ناسخ أتلقى الأوامر من حدث صار منذ سنة إلا شوية، وها قد أتت الجريدة البايتة لتنشره على صفحاتها.
* * *
اتصلت سمية بي وطلبت مني زيارتهم اليوم. سألتها اشمعنى اليوم؟ فقالت لي أن عندهم سمك. في بيتهم كانا جالسين مع ضيف. قال مراد إنه ضيف من القاهرة. سلمت عليه ببرود وجلست على المائدة. لم يقطع صمتنا على المائدة شيء سوى أصوات الشوك تصدم الأطباق. مراد ينظر لي بين الحين والآخر ثم إلى الضيف الذي تبدو ملامحه قريبة مني. لا أتذكر أين رأيته بدقة. ربما يشبه شخصا ما لا أذكره. شيئا فشيئا أقرر أنه يشبه صديقا قديما لي من أيام الدراسة في القاهرة، باستثناء صلعته المبهرة ووجهه الأمرد. أسرح قليلا بذاكرتي مع سليمان، صديقي القديم، أسرح مع وجهه الأسود المشعر، وأتذكر خط الشعر الذي كان فوق شفتيه في تلك الآونة. أفكر أن وجه سليمان كان مرشحا ليكون شبيها بوجهي في تفاصيل كثيرة، وأن وجه الضيف الغريب الآن يبدو شبيها بوجه سليمان في كل شيء باستثناء تلك التفاصيل بالتحديد، وأن وجه مراد كان يشبه وجهي لولا تشوهه بالأسيد، وأن وجه سمية يشبه وجهي، ووجه مراد القديم، لولا كونه وجها حريميا، وأن كلنا سويا على المائدة الآن نشبه فراغا رهيبا، هوة عميقة من الملامح، غيابا عظيما، فراغا انطبقت عليه بصمة لا تمت له، بصمة من ملامح مفترضة كانت لنا جميعا في حياة يبدو أن أحدا منا لم يعشها ولم يحققها. وأن خالد، ومعه الكائن الجديد في بطنها، هما من بإمكانهما ضبط كل هذا وتكوين صورتين نموذجيتين لكل ما كان يجب أن يكون ولم يكن، هما من بمقدورهما تعمير العالم، ملء فراغاته، أو أن هذا ما سأتحقق منه في الأيام القادمة.
أتذكر الفصل المدرسي الذي يبدو كسفينة مال جانبها بسبب ثقلها، ثقلها النابع من تواجدي أنا ومراد في نفس الركن، أوالماء الرائق المحمل ببقع زيت هي المكان الذي نجلس فيه. أتطلع إلى كل من حولي. كلنا الآن انحراف السفينة، كلنا بقعة زيت كبيرة في عالم ضخم كالبحر. نحن مثقلون الآن بالفراغ، الفراغ الممهور ببصمة مجهولة المصدر. أضحك بصوت عال. ينظر لي الجميع. ألملم فتات السمك الذي تناثر من وجهي وأنا أضحك وأخبط على المائدة وعلى الأرض بقدمي. يشير مراد لسمية إشارة حاسمة فتسندني وتدخلني إلى غرفتها. في غرفتها تكون عيناي قد احمرتا تماما ومضيت غير قادر على كبح نفسي. تشير إلى شفتيها طلبا مني أن أخفض صوتي ولا أستطيع. أكور قبضتي وأخبط على كتفها. تمسكني بقوة وجسدي كله يرتعش. أنتفض بين يديها من الضحك وهي تحاول ترويضي بكل قوتها. أنا الآن على السرير ورأسي على حجرها. أضحك ممسكا بفخذيها. لعاب كثير يسيل على قميص النوم الذي انحسر عن ساقيها. وجهي الآن عند عانتها. أواصل القهقهة وأنا افكر في هذا الخاطر وهي يبدو أنها تتأوه وتطلب المزيد، أو أن هذا ما استطعت سماعه من خلف انفجارات الضحك التي كانت ترن في الغرفة كلها. يداي على صدرها العاري تمهدان لشفتي الطريق. ألحس حلمتها منتهزا كل فترة راحة لمواصلة الضحك. أخبط كفي ببعضهما عندما أكون فوقها تماما ويكون قضيبي في رحمها. شيئا فشيئا، عندما يتم القذف أخيرا، أهدأ. أبدأ في التنفس بانتظام. تنظر لي سمية وتسألني ماذا أضحكني؟ فأقول لها أنني تذكرت فيلما قديما. بعد دقيقة نسمع صوت الضيف من الصالة. تطرطق سمية أذنها لسماع ما يقول. لم تكن كلمات كثيرة. كانت جملتين فقط قالهما ثم ساد صمت عميق بعدها:
«حبيبي يا مراد. انا اسف. كلمتهملك وقالولي مفيش قاموس ولا حاجة. كانوا ناويين عليه من سنتين بس ربنا ماأرادش. ياللا خيرها ف غيرها يا زميلي.»
* * *
الأثاث في غرفة مراد ليس كثيرا. سرير ومكتب عليه جهاز الكمبيوتر وفوتيه أمامه. لم تكن هناك مرآة واحدة في الغرفة. ربما بعد الحادثة بالضبط، نما في قلب مراد نفور تام من المرايا، وزعها كلها على سائر أنحاء الشقة، وتكفلت الإضاءة السيئة للغرفة في تعطيل شاشة الكمبيوتر عن آداء وظيفتها كمرآة احتياطية. فقط أباجورة على كومودينو خلف المكتب وخلف الجالس عليه، وثلاجة صغيرة، وحوض. بالأخيرين تمكن مراد من احتمال أيام عديدة، تصل إلى أسبوعين أحيانا، جالسا وحده في الغرفة بدون أن يخرج ولو ساعة. ففي النهاية، في فترات دمار نفسي كتلك يمر بها مراد كثيرا، لم تكن رائحة البول أو الغائط أكثر الأشياء إزعاجا.
في هذه الأيام فكر مراد مرارا في تغيير غرفته. فكر في الانتقال إلى الغرفة الثالثة التي أغلقها هو وأخته استعدادا لخالد عندما يكبر. لم يكن الانتقال من غرفة إلى غرفة بالعمل المستعجل جدا. على العموم، كان لدي مراد ما يفكر فيه بجدية قبل أن يبدأ في أعمال النقل. طلب من سمية أن تعد له ما يكفي من الطعام لأنه يريد البقاء في غرفته بعض الوقت. لم يرهق هذا سمية الموشكة على ولادة تبد وصعبة من بشائرها، كانت تعرف جيدا ما هو بصدد عمله. أعدت له الأكل على مدار يومين. ثم جلست تنتظر.
كان أول يوم بالنسبة لمراد سهلا. كان يوما لقراءة الإعلانات التي كتبها عن قاموس «ألف». يلون بالأحمر على بعض المقاطع ثم ينتهي من القراءة في التاسعة مساء وينام. في اليوم التالي يصحو. يبدأ في رص الاحتمالات الممكنة للإعلانات الثلاثة:
في البداية، يقتل الأب، البهلوان، الإنسان الأول، ابنه. العالم الآن هو امرأة وحيدة شائخة ومقززة. تأكل أوراق الشجر، وتعيش مع الوحوش. تعيش ثمانين عاما ثم ينتهي البشر بموتها، عمر كوكب الأرض هوعمر بشره. هوثلاثون عاما للبهلوان وثمانون عاما لها، كان البشر حلم يقظة قصير. فكرة لم تكتمل وانتهت قبل أن توضع موضع الاختبار الجدي. أو سنوات أخرى إلى الأمام: البهلوان مات. الآن يكتشف ابناه، في صدفة شبه إعجازية كالتي مر أبوهما مع أمهما، إمكانية ممارسة الجنس. ولكن يا حرام، هو يتحدث بلغة غير التي تتحدث بها، لا يمكنهما ممارسة جنس جاد بينهما، خاصة فيما يتعلق بحبه للإتيان من الخلف، وبل ربما اعتقاده بأن الأصوات التي تطلقها هي تعبير عن الضيق أكثر منها عن اللذة المقترنة بالألم. في النهاية يموت كلاهما، عجوزين وحيدين عقيمين. خواء العالم من بشره هو القدر الذي لا فكاك منه.
ثم، إذا واصل العالم حياته بمعجزة، تتفق مجموعة من مهندسيه على بناء مبنى كبير في الصحراء. تكون الشمس قد لوحت رؤوسهم في الصيف وأذابهم المطر في الشتاء. يجرون عدة اختبارات مبدئية فيما بينهم، ويقررون أن بناء كهذا قادر ليس فقط على حمايتهم من العوامل الجوية وإنما على أن يكون عنوان البشرية كلها، يتركز فيه كل البشر ويكون عوضا عن الغابات والصحراء والأنهار، ليس إلا غرفه المؤدية إلى بعضها البعض وسراديبه وأقبيته وسلالمه الطويلة هي ما سيحيط البشر على طول إقامتهم في الكوكب. يختارون له اسم "بابيلون سيتي». هذا مشروع لأجيال طويلة، وحدها الأجيال الممتدة هي ما ستتيح لهذا المشروع أن يتم، ولكنها هي أيضا ما ستقطع خيوط التواصل. مع تشعب الأجيال العاملة في المشروع وامتدادها في كل أماكن الهيكل العظيم للبناء تنمو اللهجات، يبدأ الخلل في الدبيب في أركان البناء. مع تزايد العزلة، تقطع خيوط الحوار، نلمح تشققات في البناء العظيم، البناء لا يتم بطريقة سليمة، يقولها مرة مهندس أندونيسي فيحسبها عامل جزائري إشارة إلى أن هذا هو مشروع القرن. في حركة خاطفة، ينهار البناء تماما على من فيه. يرى مراد أمامه العالم وقد خوى من البشر. يطفئ جهاز الكمبيوتر ويذهب للنوم مرتاح الضمير.
كوكب مفخخ بإمكانيات خرابه. هكذا أراد مراد الأرض بعد انتفاء إمكانية وجود القاموس. يحلم: لن ينجو العالم من العوائق التي تحيط طريقه. إن نجا من الأولى فستقابله الثانية والثالثة، كأنها ثلاث مستويات في لعبة كمبيوتر تدور حول تاريخ الخلق. الفارق في عنصر واحد: النتيجة هنا مؤكدة. فشل اللاعبين، البشر، في أن يتكونوا. يسترجع مراد تاريخ العالم ويزرعه بالموت. هكذا يمكن فقط الرد على عدم وجود القاموس. وهكذا يمكن الرد على البصمة الأولى المزروعة على الكوكب.
كانت مقدمة الإعلانات الثلاثة تدور حول بصمة تدوي على سطح الكوكب فتشكل ما نسميه بالتضاريس، الندوب العميقة، البثور، ملامح التشوه والهرم على وجه الأرض. وعبر زرع الخلل في صميم اللغة، عبر تشقيق وشرخ مبنى بابل العملاق، عبر إخلائه من البشر والعمران وقصره على الزواحف، يرد مراد العالم إلى بكارته، إلى خوائه وصحراويته، ولكن بالأساس، إلى نضارة وجهه، بعد أن أسهمت البصمة الافتتاحية الأولى في زرع التجاعيد في كل مكان فيه، بعد أن كتبت تاريخه الطويل على سطحه الطفل، كتبت السنين الطويلة ولما تمر ساعات على خلق العالم، كتبتها مملاة من اللوح المحفوظ.
كل هذا ولم ترد في حلم مراد أية إشارة إلى ماء النار، ولو لمرة واحدة.
* * *
انتقل مراد بشكل نهائي، ومعه جهاز الكمبيوتر، إلى الغرفة الثالثة. تم الآن إخلاء غرفته تماما لخالد. أصبح مراد وسمية يشيران إلى الغرفة باسم «غرفة الأطفال»، إشارة لخالد ولابني الذي صارت ولادته قيد أيام فحسب والذي لم أتوصل إلى اسم ملائم له بعد. أفكر مع سمية ليال طويلة في اسماء عدة لا يروقني أي منها. أجلس في هذه الأيام فترات طويلة مع خالد. أتمرن، كما تمازحني سمية، على الأبوة. أوأنني أحببت خالد فعلا. صرت متحمسا لقضاء أطول وقت ممكن معه. وكان هذا مريحا لسمية التي لم تكن تشعر بالأمان إلا وهو بين يدي.
ألعب مع مراد الشطرنج مرة. الأمطار تهطل بالخارج. لا أستطيع تحمل البرودة بالصالة فأقترح عليه الدخول إلى غرفته القديمة الأكثر دفئا. ننقل لوحة الشطرنج وقطعه إلى الداخل. أبحث عن موبايلي لآخذه معي فيقول لي مراد بأن لا أتعب نفسي، ويضيف أنه عندما يرن فسنعرف مكانه. بالداخل نعاود اللعب. خالد نائم على السرير، ولوحة الشطرنج مفروشة أمامنا على الأرض. أسأل مراد أين سمية ولماذا لم تظهر من الصباح؟ يقول أنه لا يعرف. بعد قليل يردف أن حياتنا صارت لا تطاق. أسأله: حياتنا كلنا؟ يهز رأسه: أقصد أنا وسمية. في هذه اللحظة تسقط طابية لي أمام فيل له. طابيتي التي سقطت كانت واحدة من أكثر القطع نشاطا في هذا الدور. لا يبدو متأثرا بهذا الانتصار المرحلي له. يشعل سيجارة ويستسلم لبعض الشرود. بعد قليل يقول أن كثيرا من المبدعين ماتوا منتحرين، ولكن المفارقة انهم ماتوا منتحرين لاسباب لا تتعلق بإبداعهم. أشعر بالقلق. لا أفهم السر في هذا الخاطر السوداوي. ينظر في الأرض. أتطلع في وجهه طويلا ولكنه لا يلتفت لي. أكون قد تأهبت لأكل ملكه بوزيري بعد أن سددت عليه كل الطرق للهروب. يفلت صوته منه، خفيضا وعميقا. يقول لي أن سمية تعرضت لحادثة اليوم. أنها كانت تقطع شارع الكورنيش عندما قتلتها سيارة مسرعة، وأنها ماتت مع جنينها في نفس اللحظة. أنظر له مذهولا، تسقط قطعة الوزير من يدي. يواصل الكلام. يقول باقتضاب أنه في النهاية كان لابد أن تموت. لم يكن ممكنا لواحدة من العائلة أن تنجب من أحد خارجها، وأن هذا غير مفهوم في قانون العائلة. وأن ما حدث هوعدل ربنا. انت على عيني يا نائل بس متزعلش من الصح، يردف. لا يرفع مراد رأسه ولو للحظة ليواجه عيني وهو يتحدث. يحافظ على علاقة مباشرة تربط عينيه بالأرض. وأنا يئست يا نائل. انا تعبت من حياتي خالص. مش عارف ها عمل ايه دلوقتي من غيرها. يقول لي أنه لا يمكن أن يكون هو من دبر لقتل أخته، وأنني إن فكرت في هذا الخاطر فسأكون ناكرا لقيمة الصداقة العظيمة التي تربطني به. يرفع عينيه لي أخيرا. يقول أنه عند منتصف الليل بالضبط سيكون قد رحل. وأنه سيكون مثالا على انتحار الأحبة بسبب عدم إمكانية العيش بدون حبهم الكبير. يكرر كلمة حبهم الكبير مرتين. يربت على كفي ويقول أنني كنت دوما أخا وصديقا وأنه لن يجد من هو أكثر مني مناسبة للاعتناء بخالد الصغير. يطوي لوحة الشطرنج. يضم إليها قطعة الوزير التي سقطت من يدي. يضعها على السرير. يقف وأقف أمامه. يشد على يدي بقوة فأمد له يدا مرتعشة. يقبلني بحرارة ويمضي. يغلق الباب خلفه.
لا أكاد أفيق من أثر المفاجأة حتى أسمع دوران المفتاح في كالون باب الغرفة. أسرع إلى الباب. أحاول فتحه فلا ينفتح. أخبط عليه بقوة وأنادي مراد بلا جدوي. مراد. افتح وبلاش هزار. يا جدع افتح يلعن ابوك. أخبط بجنون. عندما أسمع صوت باب الشقة يغلق ويغيب عن سمعي تماما صوت خطوات مراد أنهار على الأرض. أفتش عبثا ببصري عن أي منفذ في الغرفة للخروج. أنظر إلى خالد النائم أمامي، ثم إلى الثلاجة، وأعاود الطرق بشدة أعلى. تمر ساعتان. أنظر إلى الساعة. الثانية عشر إلا عشر دقائق. يرن التليفون في الصالة. خمس رنات ثم رسالة على الأنسر ماشين:
نائل. أنا مراد. يارب تكون سامعني. انا دلوقتي في مكان محدش ممكن يوصلي فيه. هقطع شرايين إيدي اول ما اخلص الرسالة دي. يا نائل أنا كنت عاوز اقولك حاجة. وحدهم العشاق من يضحون بأرواحهم من أجل من يحبون. حاول ترجعنا في قصصك يا نائل لزمن الرومانسية. صدقني الناس هتحبك أوي. ويارب تكون اتعلمت حاجة من قصتي انا وسمية، يارب تكون اتعلمت ان فيه ناس بتحب بعضها لدرجة تفضيل الموت على حياة هما مش فيها.
أصرخ في مراد أن يرد علي وما من مجيب. أبكي بقوة وأنا أطلب منه العودة وأنا أواصل الطرق على الباب. يصحو خالد على صوتي فيبدأ في البكاء. شيئا فشيئا أشعر بتنميل في أطراف جسمي. أفكر ساعتها أن القدر سار هذه المرة من الصالة إلى غرفة مراد، وليس العكس، وأن هذه هي الخدعة النهائية له، بعد أن أغلق أمامي باب الغرفة، من الداخل هذه المرة، وإلى الأبد، وأن هذه الخدعة كانت طوبة أخيرة من طوب الحقيقة، أو طوبة ما بعد أخيرة، طوبة تسقط على كل البناء فتدمره تماما. أسقط على الأرض. أنام.
حلم طريف: أنا وخالد وحدنا في مكان ما معزول. يبدو هو قدري وأنا قدره. لا أستطيع الفكاك منه أبدا. أعرف أنني سأصاحبه لوقت قصير ليس إلا، يعني شهر أو أسبوعين، بعدها سينفذ الطعام في المكان الذي نحن فيه. أدرك في الحلم أن سؤالي القديم قد رد لي بشكل مختلف. أنه يمكنني الآن معرفة مسيرة الملامح الأصلية لمراد عن طريق التأمل في وجه خالد، وعن طريق مقارنة ملامح الطفل بملامحي عندما كنت في سنه. مع صعوبات بسيطة: لابد أن يتم هذا في الفترة القصيرة الممنوحة لي قبل نفاد الطعام، لابد أن أجيب عن سؤالي بشكل حاسم ولا يحتمل التردد، وينبغي أن أعتمد على ذاكرتي تماما في تذكر ملامحي القديمة، بلا صور فوتوغرافية ولا أفلام فيديوو لا حتى مرآة واحدة في ذلك المكان. ثم، في مرحلة معينة، عندما يبلغ خالد سني وقت انعزلت معه، سيكون علي تخمين ملامحي وأنا في الثلاثين، الأربعين، الخمسين، لمقارنتها بملامح خالد في نفس السن. سأتذكر وقتها الجريدة البايتة المتأخرة عن ميعادها ثلاثين عاما. ولكنني سأتذكر شيئا آخر أكثر أهمية: شيخ عجوز، هو الإنسان الأول، يجلس مع ابنه وحيدا، يراقب كلام الابن، ويقارنه بكلامه هو عندما كان في سنه، لا يستعين في هذه المقارنة إلا بذاكرته، هي التي تستحضر له تطورات لغته بشكل تراتبي ودقيق على مدار سنوات حياته المختلفة، تستحضرها من عمق الماضي، الماضي الذي صار الآن بعيدا ومعزولا ومضببا تماما.
عندما أصحو أقوم متخاذلا إلى الثلاجة الصغيرة الممتلئة عن آخرها. أقدر أن ما فيها من طعام لن يكفي إلا لأسابيع معدودة. أرنو إلى وجه خالد النائم وأفكر في أنني عندما كنت في سنه لم أكن أستطيع رؤية وجهي كما أرى وجهه الآن وأن هذا هوالاختلاف الأول بيني وبينه.