بكثير من الإصرار كما بكثير من الثبات يواصل د. محمد أبو العلا مساره الحفري في أركيولوجيا المسرح المغربي والعربي، بما استطاع أن يشرعه حتى الآن من آفاق لكتاباته في شتى مناحيها (إبداع، نقد، إخراج ...)
وكتابه الأخير : المسرح المغربي : سؤال التنظير وأسئلة المنجز(1) يلاقينا على هذه التقاطعات من اشتغال خطاب المسرح في تفكيره وتجربته، منظورا إليه ضمن سياق محدد صار يشكل في مجمل أعماله خلفية لوعيه النقدي والجمالي. وأعني بذلك المراهنة على استعادة سؤال الكتابة المسرحية وفق مشروع قرائي مجاوز يروم ضمن مقاصده الأساسية العبور بنظرية المسرح من شعرية شكلانية، نصانية المنزع إلى شعرية موسعة مسننة بجماليات نصية وخارج – نصية، هي ما تمثل الدراماتورجيا مجال تفكيرها وتحققاتها التطبيقية.
وانسجاما مع هذا المسعى يسترشد الكتاب في خطاطة اشتغاله النقدي والموضوعاتي بمقاربة فاحصة تترصد الظاهرة المسرحية في المغرب في توتراتها وأسئلتها العصية. ناظرا إليها في تمفصلات إبدالية توزعت بين اجتهادات تنظيرية أنتجت خطاباتها في كثير من الأحيان خارج مدار المنجز النصي والركحي. وحساسيات إبداعية لم تحظ بالمقروئية الكافية لإضاءة أسرار "جامعها النصي" (Architexte) المفترض. ومنها إلى مشاريع ولادات تنظيرية جنينية شكلت مقترحات النقد الثقافي والانتروبولوجي إحدى قنواتها الأساسية.
وكتاب "المسرح المغربي : سؤال التنظير وأسئلة المنجز" إذ ينخرط في هذا النقاش من واقعنا المسرحي، فهو يبدو معنيا حتى الآن بترويض سؤال المسرح لخدمة الشعرية. مما يجعل بالتالي من نظرية المسرح هنا نظرية للشكل وبناء الخطاب. والمردودية النقدية لهذه المقاربة هي تمثل تصور مؤطر لمسارات القراءة انطلاقا من نسق مفهومي للشعرية من حيث هي كلية معرفية لمدونة خطاطية باحثة عن صيغ تشكلها بين المشترك الجمالي والخطابي "لنصيتها الكبرى" المفترضة. ففي حين يتجه بها المكون الجمالي نحو حيازة قيم بلاغتها النوعية عبر استحضار تراكمات المنجز البويتيقي بمختلف إبدالاته، فإن الخطابي يحيل على غرابة الدال "الترنسندنتالي" بوصفه شفرة أو استعارة ثقافية لأزمة العقل التنظيري المنتج.
ومعنى ذلك بشكل عام أن المنجز النظري للشعرية صاغ مفاهيمه برأي الباحث بخلفية نظرية غير متماسكة، بل تبدو أحيانا متصدعة من داخلها.إنها صيغة لمشروع في التفكير والرؤيا عايش لحظات تشكله في سياق ملتبس صنع جيلا بوعي متأزم مثقل بالأعطاب : أعطاب في المرجعيات (مرجعية : تراثية، حداثية، أكاديمية ...) أنتجت في عمومها وبغض النظر عن قيمتها العلمية لفيفا غير متجانس من الأفكار والمواقف والتيارات : تيار تأصيلي (الاحتفالية)، تيار حداثي / علماني (دعاة المثاقفة). تيار تنويري منفتح (إسهامات المؤسسة الجامعية). ومعها أيضا أعطاب في المنهج والرؤيا أخذت هي بدورها ملامح متعددة من مظاهرها : تجارب تنظيرية اشتغلت أحيانا كثيرة بمفاهيم متعالية وبمنأى عن المنجز النصي، غلبة الطابع السجالي في بناء المنظورات، نصوص إبداعية طالها الغبن في ذاكرة التداول النقدي، تطفيف للقراءة النصية / الأدبية على حساب القراءة الدراماتورجية في تجارب بعض النقاد وغيرها.
وما أن ندرك – هكذا – إلى أي حد يكون من الضروري قراءة خطاب التنظير من داخل نسقه المؤطر، حتى ندرك في نفس الوقت وربما بتمثل أكثر لفرضية : "أن وراء كل نسق أزمة تمنعه من الاكتمال"(2)، حتى ندرك معه أن تدبير الإشكال النقدي لنظرية المسرح لن يكون محسوما دائما بأسئلة الداخل فقط، على الرغم من أهمية المقاربة المحايثة ونتائجها المنتظرة في هذا الاتجاه، بل إن منظورا كهذا يجب أن يأخذنا إلى داخل النسق ومنه إلى خارجه.
نترك للكتاب تفاصيل ما بلوره من تدقيقات في هذا الاتجاه لنوضح أن قراءة تتقاسم فضاءها النقدي بين المعرفة والسياق، بين النسق والثقافة، قد وجدت في هذه الدراسة الكثير من إمكانات تفعيلها. وإن كان يبدو أن المنظومة القرائية في كليتها، وانسجاما مع اختياراتها النقدية والمنهجية، لم يكن ممكنا أن تنشغل بالجانب التأويلي إلا في حدود ما تفرضه سياقات خاصة لبعض الظواهر المدروسة.
استحضر هذه الإشارة وأسجل دعما لما انتهى إليه الباحث في تصوره لإشكالية النظرية المسرحية وما أحاط بها من التباسات سواء في تأسيس خطابها أو في تمثلها للمتغيرات الثقافية المحيطة بها : أسجل أن منظومة فكرية ولدت من رحم هذه الالتباسات لن تكون سوى تجليات خطابية أو شفرات ثقافية محولة عبر استراتيجيات صامتة أو استعارات متوارية متلبسة بصدمة الواقع وعنفه.هذا الواقع الذي سيتحول عندئذ إلى جغرافيا مجالية أو مكان لتموضع الدال (الخطاب هنا) بمفهوم "فوكو" وبالتالي يصبح انتساب الخطاب إلى حيزه المجالي أمرا مبررا تاريخيا ومعرفيا بالمعنى الذي يفيد حاجة النخبة /الانتلجنسيا المنظرة إلى الحضور كطرف فاعل في البناء الثقافي للمجتمع. ومن هنا ذلك التصادي القلق بين بنية فكرية هاجسة بالتغيير (خطاب التنظير) وأخرى سوسيو ثقافية، هي بصفة عامة البنية الماكرو ثقافية للمجتمع التقليدي المنغلق : اجتماعيا، ثقافيا، اقتصاديا ...
وخطاب التنظير داخل هذا التقاطع، سيكون بمثابة الصيغة الممكنة "لنصية تاريخية" تتجاذب فيها أوعاء المرحلة عند مفصل بؤري يروم ضمن مقاصده الأساسية تفكيك البنية العتيقة للمجتمع، تلك التي تبدو من منظور الوعي المشترك للنخب بمثابة القرين الثقافي لبنية التخلف عموما أو الاستقلال الوهمي خصوصا. وعندئذ يغدو ممكنا تنسيب الكثير من مضمرات هذا الخطاب بوصفها لغة / لغات صامتة تنتقم لنفسها ضدا على خيانة التاريخ السياسي بتاريخ بديل / مضاد.هذا الذي سيأخذ تعبيرات مختلفة لدى الفصائل المكونة للمشهد. والتي مثلت بمجمل اختياراتها – حتى لا ندخل في التفاصيل – أقطاب معرفة متعددة الأبعاد، تأخذنا إلى مجتمعها "الدنيوي" (بمفهوم : ادوارد سعيد) وبمقترحات سوسيولوجيا الثقافة دائما عبر خطاب يقرأ متغيرات اللحظة في ضوء المشترك الثقافي لمجموعة من "الإبستيمات" الحاضنة منها :
♦إبستيم المشترك التاريخي / السياسي : وهو المؤطر هنا لعلاقتنا مع "الآخر" / الغرب. حيث الرغبة في اختراق "ميتافيزيقا الحضور" وتفكيك مركزية اللوغوس الحضاري هي مصادرة تاريخية لثقافة الهيمنة، بل هي العقاب التاريخي للغرب الاستعماري.
♦إبستيم المشترك الكوني : وينهض على مفهوم انفتاحي للمتخيل الثقافي يدفع إلى ترويض الوجدان الجمعي لتمثل قيم فضائه الكوني الرحب بديلا عن فضاء "الآخر" التاريخي ومشروعه الكولنيالي الآثم.
♦إبستيم المشترك الهوياتي : وهو فضاء "الذات" بانفتاحاته الممتدة في المكان والذاكرة واللغة. وبحوامله المسكونة بالجمالي والرمزي والثقافي. وهذا في سوسيولوجيا المتخيل المغربي على الأقل، والمسرحي هنا تحديدا مؤشر على طبيعة الحضور الثقافي للمسرح في حركية البناء الاجتماعي. والذي تواظفت فيه مجموعة من الأنساق المتاخمة حققت بانفتاحاتها تلك توسيعا أكبر لوظائفها الجمالية والسوسيو ثقافية. وهي هنا ثلاثة أنساق كبرى هي :
الجغرافيا : التي عمل الإبداع على كسر حدودها الرسمية (الانفتاح على المشرق). واللغة بما شرعته من مسالك عابرة من مسرح "عالم" إلى مسرح شعبي. ثم التاريخ من جهة ما تبلور ضمنه من وعي بأهمية التراث وإمكانات توظيفه مسرحيا.
من النظرية إلى النقد – دون أن يعني ذلك فصلا صارما بينهما – يستدرجنا هذا الكتاب نحو مساحات أكبر من حفرياته القرائية كما لو أنه قد خطط سلفا وبمكر "مبيت" ليمنحنا الإحساس بأن ما لم تقله النظرية سيقوله النقد في ما خطه من تشعبات موازية. ومن هنا ذلك المسار الشيق الذي فتحه الباحث لتصريف مادته النقدية في حلقات تنتظم منهجيا في مباحث موضوعاتية ونقدية وتتكامل في الرؤيا والمنظور لتفضي في النهاية إلى إرساء تصورات ومشاريع تفكير رصينة.
وهذا الوضوح المنهجي يوازيه تنوع في القنوات القرائية (نقد نصي، نقد النقد، حوار) مما يحقق للدراسة قدرا أكبر من التلاؤم والانسجام.
وهكذا نجد أن ما اجترحه الباحث من مداخل في مساءلة النظرية الشعرية سيلقى في مباحث أخرى مثل نقد النقد مزيدا من الإغناء والتوسيع وبرؤية نقدية تطمح أن تكون تعميقا أكثر لإشكالات معينة أو أرضية لتوطين مساءلات جديدة. وبموازاة ذلك يحضر النقد النصي فاتحا فضاء آخر للاستكشاف والإضافة وبأفق افتراضي قد يتحول معه إلى رحم قرائي أو "إساءة قراءة" (بمعناها التفكيكي) حاضنة لنواة نظرية مؤجلة، أو قيمة ثمينة ضائعة في تضاعيف النص. أليس ما ينطبق على الرواية ينطبق أيضا على المسرح في قولة : "فريدركشليغل" بأن "كل رواية هي نظرية للرواية" ؟ هذا دون إغفال مبحث آخر هو الحوار بوصفه موازيا نصيا يقترحه الكاتب على قارئه للارتحال به نحو مواقع أخرى من تجربته أو إلى هوامش غير مبأرة من حياته. وقد يضطلع بوظائف "ميتانقدية" تستعيد جوانب من منجزه القرائي بمزيد من الإضاءة والتأمل. والكاتب في هذا كله يبقى هو ذلك الباحث الذي يصدر عن وعي نقدي واضح يمتح من ذخائر معرفية ومنهجية وأكاديمية متعددة. ومن هنا ذلك التدبير الرصين للكفايات التحليلية والنقدية. والنتيجة هي منظومة قرائية مركبة تلتقي فيها المقاربات والمنظورات في ترسيمات فكرية متواشجة يمكن صورنتها في الوضعيات التالية :
♦اندماج الآفاق : وهي وضعية قرائية تستحضر المنجز النظري للشعرية الكلاسية بدمجها في خطية متقاطعة تصلها بالشعرية الحديثة.
♦تراسل المدونات : وتحيل على مناهج ومرجعيات تتضايف في سياقات بانية ومنتجة : فالدراماتورجيا تستضيف السيميائيات (نموذج النقد النصي لمسرحيتي : برشيد والهنائي). والنقد الثقافي / الانتروبولوجي يستقبل السيميولوجيا والنقد الموضوعاتي (المسرح وسؤال التنمية). فضلا عن أطياف نقود أخرى موازية : النقد التأويلي، جمالية التلقي
♦تقابل القراءات : ونموذج ذلك قراءة د. مصطفى الرمضاني للاحتفالية وما شكلته برأي الباحث أبو العلا من خصوصية نقدية ضمن السياق العام لأفق الانتظار السائد.
وختاما أجدني في محاولة للملمة ما استطعت الإمساك به من شوارد المفكرة ورغوة الكلام، أستعيد اسم محمد أبو العلا كاتبا ومنكتبا وفي ذهني ثلاث سمات مائزة : أسميه في أولاها كاتبا "متناصا" مع ذاته (تناص ذاتي / داخلي) وذلك تأكيدا لاستمرارية منجزه النقدي عبر بحوث يجمعها سؤال المسرح عموما وإن اختلفت الموضوعات وزوايا النظر. على نحو ما تختزل ذلك ثلاثيته النقدية الصادرة حتى الآن. وأتحدث عنه في الثانية بوصفه ناقدا ببروفيل "جانوسي"(3) يقرأ أسئلة المسرح وفي ذهنه آثار خطاطية من تجربته الإبداعية (المسرحية) وكأن النقد لديه هو تفكير بالإبداع، والإبداع تخييل بالنقد. واستحضر فيه مع السمة الثالثة كاتبا منكتبا بما حظي به من شهادات تقدير واعتراف. أو من قراءات لأعماله. أو عن طريق ما كتب من مقدمات لنصوصه. وخصوصا حينما يكون ذلك كله من طرف أسماء وازنة من الميدان نفسه أمثال : يونس الوليدي، مصطفى الرمضاني، أحمد بلخيري وغيرهم.
(1) المسرح المغربي : سؤال التنظير وأسئلة المنجز : د. محمد أبو العلا، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط : 1، 2014.
(2) أحمد فرشوخ : تأويل النص الروائي : السرد بين الثقافة والنسق، منشورات (T. ed) ، طبعة 1 ، 2006، ص 23.
(3) الناقد الجانوسي : مفهوم نقدي اشتقه د. رشيد بنحدو استنادا إلى أسطورة "جانوس" (Janus)لتحليل الآثار التفاعلية بين الإبداع والنقد عند كتاب يمارسون هذين النشاطين. وقد ورد هذا في مقال نشر في عدد من الملحق الثقافي لجريدة العلم.