إن من "حسنات" الحرب هو هذا الغنى الهائل في القدرة على تشكيل المصائر. إنها من اللحظات النادرة التي يستطيع فيها الإنسان "التحكم" بفنائه الفردي. وقد يعود جذر تلك الأفعال البطولية الخالدة التي يسطّرها المقاتلون في الحروب إلى حقيقة أنهم يظفرون بفرصة للثأر من المثكل وتعسفه في رسم مصائرهم. ففي الحالة العادية يعيش الإنسان في غفلة لاشعورية من المثكل الذي رسم صورة منيّته بضربته الخاطفة التي لا يعلم مكان وزمان توجيهها. هذه الغفلة اللاشعورية تأتي وفق ما سمّاه معلم فيينا بـ "قانون التناقض الأولي primary paradox –" وفيه يعترف الإنسان بفناء "الآخر" ولا يعترف بفنائه الشخصي! ولهذا لا نتعظ أبدا من مشاهدة وسماع الآلاف المؤلفة من حالات موت الآخرين في محيطنا المحلي أو العالمي، حاضرا او ماضيا، أقرباء وغرباء، وخصوصا في أوقات الحروب حيث تتناثر جثث وأشلاء رفاقنا المحاربين من حولنا مقطّعة وممزّقة شرّ ممزّق. إن بإمكان الإنسان أن يقرّ بحقيقة أن أي إنسان آخر غيره هو كائن متداع ومتهالك الوجود وقابل للفناء في أي لحظة وبأيسر الطرق وأكثرها تفاهة، لكنه يقاوم أي إقرار مماثل على مستوى لاشعوره، وذلك لأن "منطق" اللاشعور، وعلى النقيض من منطق الشعور تماما، لا يقرّ الفناء ويرى أنه خالد وعصيّ على الموت. وعلى أوتار هذه الحقيقة ضرب فاتح عبد السلام ببراعة في الكثير من النصوص التي عالج فيها الآثار النفسية لفاجعة الحرب. في قصة "الطلقة الأخيرة" للقاص "فاتح عبد السلام" من مجموعته القصصية "حليب الثيران" ، يحدّثنا راوي الحكاية عن رجل – سيتوضح مباشرة أنه مقاتل في موقع عسكري قيادي "ضابط" – فيصدمنا بحكمين متضادين:
(يعلم هذا الرجل أن أحدنا سيقتله ذات يوم .
لقد جمعنا نحن الحرس الخاص وقال : "عندما نُحاصر وقبل أن نقع في الأسر يكون من الواجب على آخر رجل يبقى معي أن يضع الطلقة الأخيرة في رأسي.
وكنتُ أفكر : أيّة معركة عنيفة ستضعنا في هذا الموقف؟
ولكني تذكرتُ في الحال، متى كان للحرب مسار منطقي؟ - ص 69).
وعندما يتساءل الراوي عن منطقية الحرب، فإنه يحيلنا إلى التساؤل عن منطقية الأمر الذي وجهه هذا القائد للجنود من حرسه الخاص، وعن سرّ تصميمه مثل هذه الخطة للإجهاز على نفسه في حالة محاصرته من قبل قطعات العدو، لكي لا يقع أسيرا بين أيديهم. كان مثل هذا السلوك شائعا بين ضباط الجيش الياباني مثلا، لكن الضابط الياباني لم يكن يطلب من أحد جنوده أن يطلق النار على رأسه، بل يحتفظ بالطلقة الأخيرة في مسدسه لغرض الإنتحار بها قبل أن يقع أسيرا لدى قوات الحلفاء. لكن هذا القائد يطلب من جنوده أن يطلقوا النار على رأسه. هل كان يبغي تحقيق النقمة الدفينة التي تلوب في نفوس جنوده في قتله، والتي عبر عنها الجندي الراوي في السطر الأول من القصة : (يعلم هذا الرجل أن أحدنا سيقتله ذات يوم) ؟ وأن طلبه منهم أن يقوم آخر رجل منهم بقتله قبل أن يقع في الأسر ما هو إلا صدى مشرّف لنهاية يرسمها بنفسه وما هي فعليا إلا ترداد وتحقيق لرغبة جماعية سيتعاون معه جندي آخر من حرسه في تنفيذها؟. وتظافر هاتين الرغبتين جعل الراوي يضع سريعا الشق الثاني من عملية الإنتحار – وبالمناسبة فإن حتى عملية الفداء والاستشهاد ينظر إليها التحليل النفسي كفعل من أفعال تدمير الذات –self destruction - :
(تفرّس القائد وجوهنا المدهوشة .
كانت عيناه تقدحان، وهما تنتقيان القاتل. هذا الرجل يحب أن يموت كما يشاء، إذ علمته الحرب أشياء كثيرة عن الموت – ص 69).
وهذه الخطة التي وضعها القائد لتحقيق فنائه الشخصي هي واحد من الدروس العظيمة التي علمتها إياه الحرب، وهو أن يتحكم بمصيره الشخصي، مترفّعا عن تلك الوقفة المستخذية التي يتوسّل فيها الإنسان أخّاذ الأرواح باكيا مرعوبا أن يتكرم بمنحه فرصة أخرى. إنها مبادرة عزوم لا يتوقعها المثكل وتأتي بمثابة ضربة مهانة لتسيّده وتعسفّه الجائر الذي لا يُرد ممثلا الآن بـ "نوّاب" عنه ممثلين بحرس القائد الخاص. وهذا لا يحصل إلا عندما "يشخصن" الفرد أخّاذ روحه، مثلما يتشخصن مصيره في صورة قاتليه الذين يحيطون به. لقد اختار القائد، بقصدية عالية ونيّة مبيّتة، الراوي ليكون من بين ثلاثة جنود أمرهم أن يرافقوه حتى النهاية. وفي هذه اللحظة أحس الراوي بـ "الإنكشاف" .. شعر بأنه قد أُمسك به متلبسا.. لقد جعله الشعور بالذنب عاري النوايا أمام عيني القائد بنظراتهما الثاقبة تنفذ عميقا في أعماقه المظلمة المتآمرة :
(التقت عيناه بعيني. كان ثمة شعاع يخترقني. وعرفتُ أني قد دخلت فعلا في الدائرة الضيّقة لصنع النهاية الأكيدة لهذا القائد – ص 70).
لكن الراوي يطرح احتمالا لم يفكر فيه من قبل وهو : ماذا لو مات هو قبل القائد الذي يروم اغتياله ؟! فيعيدنا عن هذه الطريق إلى نقطة صفر العبثية واللامعنى والعجز الذي يسم وجودنا الذي تتلاعب بخيوطه أصابع المثكل من وراء ستار مثل أية دمية من دمى صندوق الفرجة.
وهذا القائد يعرف، وهو يتحدث إلى جنوده الثلاثة المختارين، أنه إنما يتحدث إلى (الذين اختارهم لقتله) وليس إلى جنود موالين يجمعهم به مصير منتظر واحد. فأي محنة ومفارقة شائكة واستثنائية هذه ؟!.
إن في سلوك هذا القائد درسا عظيما فيه درجة عالية من الجسارة والفداء، فأن تختار قاتليك ليكونوا منفّذي لحظة "إعدامك" تحت غطاء شرف التخلّص من عار الوقوع أسيرا لدى العدو، وأنت تعرف مسبقا أن من ستكلفه هو من يخطط لقتلك، هو أمر يزلزل الوجود الفردي ويمزقه.
وفي موقف القائد الذي بدأت أبعاده تتضح تدريجيا إجابة على تساؤل تمهيدي قد يثور في ذهن القارىء وهو لماذا لا يقوم هذا القائد نفسه بالاحتفاظ بآخر طلقة في مسدسه الشخصي ليقتل بها نفسه في اللحظة الأخيرة. وهذا ما عبر عنه الراوي في موضع آخر حين تساءل:
(ريما كان هذا القائد جبانا. وإلا لمَ لا يُقدم على قتل نفسه؟ .. إنه يغمس يديه بدماء الآخرين ولا يستطيع أن يفعل ذلك الشىء مع نفسه عندما يريد - ص 71).
لقد صمّم هذا القائد – ومن وراءه الكاتب طبعا – نهايته المشرّفة لتكون حجرا بليغا يصيب أكثر عصفور من عصافير تجارب الحياة ومعضلاتها على المستوى الفلسفي والنفسي والاجتماعي والوجودي. فالراوي الذي يتآمر، مع رفاقه، على مصير قائده، أوقعته الرغبة الجامحة في الانتقام، كما يقع جميع أبناء البشر في مصيدة هذا الوهم عادة، في خطأ استسهال عملية قتل إنسان آخر. ولعل هذا هو الدرس الأعظم في جريمة قتل قابيل لشقيقه هابيل بعيدا عن تخريجات صراع الراعي والفلاح الأسطورية وغيرها. فعلى المستويين النفسي والاجتماعي، فإن طوفان الخراب لم يأت بفعل عملية هتك حواجز ما هو مقدّس وخرق المحظور الإلهي حسب، بل من خلال السماح لغريزة الموت بالظفر على غريزة الحياة بلا سبب شعوري مقنع. كانت دوافع المحارم مستترة ومتخفية تلوب ضاغطة بعنف لتتمظهر من خلال المنافسة الأخوية الحسود. والراوي يشعر بمثل هذه المفارقة المتضادة. أما على المستوى الأسطوري – وهو جذر نفسي متين أيضا – فإن جريمة القتل – حالها حال جريمة النقيل الأول التي فجّرت الحضارة والدين والقانون والفن وغيرها – تكون في الغالب موجّهة إلى النموذج الأبوي أو بدائله. وبعد اختيار الراوي من قبل القائد من قبل الثلاثة الذين كلفهم بقتله، تبدأ واعية الأول بالنظر إلى شخصية القائد وخصائصه وسلوكه بـ "عين" جديدة .. بأحاسيس أكثر كثافة وتفهما على الرغم من أنه قد تعايش معها طويلا :
( وفي اليوم التالي، راقبت القائد من بعيد. كان يتدلى من رقبته ناظور يرقب به الأفق الموشّى بالفجر بين دقيقة وأخرى.
كان يمشي شامخا صامتا.
وكنّا نحن الثلاثة نتبعه عن بعد، ولا نجرؤ على الاقتراب منه، لأننا كنا نعرف أنه يعيش غالبا خلوات خاصة وسط ضجيج الحرب، قد لا يكون لأحد مثلها في أكثر الأجواء صفاء – ص 70).
ومع تصاعد صحوة الأنا- الضمير ويقظة عينه الراصدة المراقبة، مع توفّر لحظة اقتراف الجريمة واقتراب ساعة صفرها، تتنامى تلك الصورة الأبوية الباهرة، وتتجسم تلك السمات المهيبة. وقد يكون هذا الشعور الحارق والمعذب بالذنب وما يرافقه من حاجة ضاغطة للتكفير عن الرغبة في قتل الأب هي الدافع الأساسي إلى ""أسطرته"، مثلما قد يكون المحفز المركزي للحاجة للأسطورة في الحياة البشرية قديما وحديثا، فالإنسان بتعريف مواز لتعريف أرسطو هو "حيوان مذنب" :
(تأملته وهو يرجع باتجاهنا.
كانت رأسه ثابتة (الأصح كان رأسه – الناقد). وخوذته ملطخة بدم أسود وطين. وبدت كتفاه مهيبتين وخطواته أكبر مما كنت أعرف. ورأيت في عينيه وميضاً.
تراجعت داخل نفسي وأنا أقول:
- هل يمكن أن يكون هذا الرجل خائفاً؟ .. هل يمكن؟ - ص 71)
ومن الموقف من هذا الأنموذج الأصل/ الأنموذج الأبوي يتأسس الموقف الجديد الذي يَسِمه "التضاد الوجداني –ambivalence " حيث تتصارع حفزات النقمة والرفض السلبية ضد حفزات الولاء والقبول الإيجابية. وقد بدأت ملامح هذا الموقف الصراعي بالتشكّل من نوى بذور التشكك والتردد البسيطة التي تدور حول كفاية القائد واقتداره في القضاء على نفسه بيده قبل وقوعه في الأسر المهين:
(تململ في داخلنا سؤال محرّم مكتوم: منْ منّا سيقتل هذا الرجل؟ تمنيت أن تسقط عليه قنبلة فيموت، ويكون واجبنا العظيم قد انتهى تجاهه.
لا أريد قتله، ألأنني أحبّه ؟
لم يدرْ بخلدي يوماً أن أحب ضابطاً؟
هل أفهم جيدا معنى رفضه الوقوع أسيرا؟
لا أعرف بالضبط ؟
سبق لي أن ذقت طعم الإضطهاد والظلم في الحرب من قبل ، ولكني لم أقع اسيراً. لاشك في أنها تجربة أخرى مميتة – ص 70 و71).
لقد شلّ هذا القائد بجسارته الفائقة في وجه الموت إرادة قاتليه وأربك حساباتهم ، بل نقلهم، ولو جزئيا، من موقع المقت والتخطيط الفعلي للقضاء عليه يبساطة التصميم "النظري" إلى تعقيدات التنفيذ العملي الشائكة والشديدة التعقيد بسبب القلق المشتعل بفعل الشعور بالذنب الذي سيترتب على الفعل من جانب، ولأن هذا القائد كان من الرهاوة في الفعل والاقتدار في مقارعة المثكل أكثر جرأة وجسارة منهم جميعا حتى أنه وضع بذاته مخططا يسهّل عليهم تنفيذ مخططهم المبيّت الذي فكروا في تنفيذه طويلا من خلال تكليفهم بإطلاق الرصاصة الأخيرة على رأسه قبيل لحظة وقوعه في الأسر من جانب آخر !!.
وكلما اقترب موعد الحسم كان يوغل في وضع إرادتهم على المحك. ويذكرهم بما عزم عليه والذي يعبر في عمقه عن عزمهم الموغر والمسبق على قتله وتصفيته. كان لا يتردد في تذكيرهم بمهمتهم. يقول الراوي :
(جاء علينا يوم ثالث، وعرفنا أنه يوم موت. قرأ القائد وجوهنا كأنه يتلو أمراً مقدّساً:
- لا تنسوا أيها الرجال الطلقة الأخيرة. يجب أن يكون مكانها في رأسي. هيا تقدّموا – ص 71),
لقد نقل هذا القائد موضوعة الموقف من الموت لدى الراوي من النظرة اليومية المبتذلة ممثلة في تخطيط الحراس الثلاثة لقتل قائد يكرهونه إلى مستوى المعضلة الوجودية. ويمكننا القول بأن تأمل معاني الموت كتجربة وجودية كبرى، وتحوّله إلى إشكالية في حياة الفرد يعني أن شخصية هذا الفرد قد نضجت ( فالموت يكون مشكلة حينما يشعر الإنسان شعورا قويا واضحا بهذه الإشكالية في نفسه بطريقة عميقة . وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث اشكاليته هذه ويحاول أن ينفذ إلى سرّه العميق . إن الإحساس بأن الموت مشكلة ، يتطلب الشعور بالشخصية أولا ، فكلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح كان الإنسان أقدر على إدراك الموت كمشكلة .. فالموت لا يشكل مشكلة بالنسبة إلى ضعيفي الشخصية .. والنتيجة أن اللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى أي إنسان ، هي اللحظة التي تؤذن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية ، وبالتالي قد بدأ يتحضّر .. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة ، وما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات . وقد فصّل ذلك "اشبنجلر" ، ولهذا كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت ) (7).
ولقد كانت رغبة الراوي في قتل القائد نقمة وحقدا عليه كرمز سلطوي قامع هي رغبة غريزة منفلتة حرّكتها عوامل ظرفية، لا تتضمن أي وجه من وجوه التعامل مع الموت كمعضلة وجودية حتى ولو في مستويات الحد الأدنى. وهي رغبة تعبّر أيضا عن عدم نضج في الشخصية. ولكن، الآن، وبعد أن وضع القائد حراسه الذين خططوا لاغتياله أمام شبكة من علاقات جديدة تتمثل في أن القتل كتصرف أجرائي لا يعني الموت كمعضلة وإشكال أبدا. وأن القدرة على إفناء الذات في سبيل قضية .. وبالوقوف في فم الموت اختيارا هو اختبار هائل لكل الممكنات الشخصية الفكرية والسلوكية لدى الإنسان . وهذه النقلة هي التي أنضجت شخصية الراوي وبقوة لا مثيل لها أوصلته إلى الذروة الإنسانية "الإنتحارية" في ظاهرها ، وموقف "الفداء" في باطنها والتي عبر الكاتب عنها ببراعة من خلال المشهد الختامي :
(وبعد ساعات سود، كانت خاصرة الأرض التي كنّا فوقها قد نزفت دما حاراً، التقت فجأة عيوننا، حواسنا، أنا والقائد.
فلم يبق أحد سوانا .
وبقيت الطلقة الأخيرة.
كان العدو يزحف نحونا والأسر ينتظرنا.
نادتني عينا القائد الدامعتان دماً فلم أجبهما.
لأنني كنت أطلق الطلقة الأخيرة على رأسي.
وتركت القائد وحده لا أعرف مصيره حتى هذه اللحظة – ص 71 و72).
لقد قلب نضج شخصية الراوي نظرته إلى الموت والقمع والاضطهاد العابر إلى رؤيا عميقة ونافذة إلى معاني الموت كموقف وتضحية وفداء ولحظة اختيار قلبا جذريا نقله إلى موقع "القائد" الذي كان يسحره تماسكه في العزم على تنفيذ اختياره.