دخل السينما أول مرة في عيد الأضحى. أخوه الأكبر سبقه إليها وحكا له عن سحرها. الجندي الأزرق كان عنوان الفيلم. أحبا أفلام الغرب الأمريكي وتوهما نفسيهما بطلين من طينة جون واين أو كاري كوبر .. وفي أعياد عاشوراء يشتريان بنادق رصاصها من الفلين أو مسدسات تطلق الماء. قبل أن يدخل التلفزيون بيتهما كانا يذهبان كل ليلة عند جارهم السيد بادو. وعندما يبدأ الفيلم يبدآن في البحث عن البطل.. أما البطلة فكان من السهل معرفتها: جميلة وشقراء .. لكنهما شاهدا أفلاما لم تكن بطلاتها شقراوات .. بل كن سمراوات .. ويذكران جيدا أن إحدى البطلات كانت من الأعداء! لم يفهما لماذا تكون البطلة من الأعداء .. البطلة يجب أن تكون دائما من الأخيار! من سيختطفها إذن إذا كانت من الأعداء؟ اندفع الأخ الأصغر:
ـ ها هو البطل.
أمره الأخ الأكبر بصوت خفيض:
ـ اسكت لنفهم.
لكن الأخ الأصغر هلل في يقين:
- إنه هو. انظر. أشقر وعيناه زرقاوان. إنه البطل.
لم يكن الفيلم عن رعاة البقر ولكن عن علماء غادروا الأرض, في رحلة استكشافية, على متن مركبة فضائية, وتاهوا في أبعاد زمكانية، وهبطوا في كوكب آخر يسود فيه القرود: كوكب القرود. لم يخب انتظارهما. الفيلم أيضا فيه تشويق وإثارة. ولم يشاهدا مثله من قبل. إنه أول فيلم يشاهداه في أول يوم يدخل التلفزيون بيتهما. يوم مشهود. كانا يشعرهما بالحرمان والغبن قبل أن يدخل التلفزيون بيتهما. خصوصا لما علما أنه منذ مدة كان يعرض مسلسل طرزان. أصدقاءهما الذين كانت في بيوتهم تلفزة قالوا لهما إنه إنسان يعيش في الأدغال وكل الحيوانات أصدقاءه! لم يفهما. كما لم يفهما كيف أن القرود في كوكبها لها لغة وتحب وتغار وتعرف الخير والشر. ولها مختبرات وجيش وإدارة وطبقية وحضارة. وتستعبد الإنسان!
وكانا مهووسين بمعرفة عناوين الأفلام وأبطالها وسنوات إنتاجها. أعجب الأخ الأصغر كثيرا بالبطل شارلتون هيستون وتوالت بعد ذلك الأفلام التي شاهداها. واكتشفا الشاشة الفضية فسحرتهما وقلبت كيانهما. سينما الأهرام كانت تعرض الوصايا العشر. فيلم من بطولة شارلتون هيستون. بطل فيلم كوكب القرود. بطل كبير ونجم عظيم. فضل الأخ الأكبر فيلم الزنبقة السوداء الذي كانت تعرضه قاعة أومبير. بطله ألان دولون. فيلم فروسية, يلعب فيه الممثل الوسيم دور زورو ويوقع بحد سيفه, على جسد ضحاياه, الحرف الأخير من الحروف الأبجدية اللاتينية, تاركا الزنابق وموزعا الابتسامات.
فضل الأخ الأصغر فيلم الوصايا العشر ليرى بطله مرة ثانية. سبق للأخ الأكبر أن شاهد فيلم الوصايا العشر وهو من حكا له عنه حتى بات الأخ الأصغر ينتظر بكل شغف أن تعرضه قاعات السينما. فتنته عصا سيدنا موسى وهي تنقلب أفعى وتفترس عصوات أكبر السحرة في الدنيا. وافتتن أكثر وهي تشق البحر ويصبح يابسة! فيجتاز سيدنا موسى ومن معه البحر. فيعود البحر ويطبق على فرعون ومن معه. فيغرقوا وسط الأمواج العاتية.
لكنهما خرقا وصية الأب عندما ذهبا للسينما دون إذنه الصارم: إياكما ثم إياكما أن يؤذن عليكما المغرب وأنتما خارج المنزل. مفهوم؟ إغواء الشاشة الفضية كان بالعنفوان الذي لم يستطيعا مقاومته. أنساهما إغواء الشاشة الوصية. ولأنه كان ضعيف البنية فطلب من أخيه الأكبر أن يحجز له التذكرة, نظرا للزحام الكبير أمام شباك سينما الصحراء. كان الأخ الأكبر متمرسا على الزحام والتدافع. بقي هو في آخر الساحة, وراء الحشود الكبيرة, يراقب وينتظر. بعد قليل عاد الأخ الأكبر بالتذكرة وهو عرقان ومنفوش الشعر ومكمش الملابس.
ـ هاهي التذكرة. فيلمك طويل. وستجدني بانتظارك بالخارج.
أخرج نظارته الطبية ومسح زجاجها بمنديله وثبتها فوق أنفه ودخل القاعة. وجد أنوارها منطفئة. بحث متحسسا بيده عن مقعد شاغر بالصفوف الأمامية. التفت يمينا وشمالا باحثا عن مقعد شاغر. كل المقاعد في الصفوف الأمامية كانت مشغولة. تحرك بين الصفوف راجعا إلى الوراء. وهو واقف حجب الشاشة عن بعض المتفرجين لكنهم ظلوا صامتين, وأعينهم مثبتة على الشاشة. لحسن حظه وجد مقعدا شاغرا لكن شابا طويلا كان يجلس أمامه حجب عنه زاوية الرؤية. وكلما مال الشاب أو غير جلسته يضطر هو الآخر أن يميل معه. لم يرسى في جلسته وطلب من الشاب أن يتخذ وضعا قارا يسمح له بالمشاهدة. نهض الشاب وبادله المقعد. شكره ثم استوى في جلسته وعينيه لا تفارق الشاشة.
لم يكن ينتظر إلا شيئا واحدا: أن تشق العصا البحر نصفين. رآها تتحول بين يدي سيدنا موسى إلى حية حقيقية تمشي بإذن الله وتبتلع الحبال التي أوهم سحرة فرعون الحاضرين أنها ثعابين حقيقية. فانبهر بالسحر. أنفاسه محبوسة والوقت يمر والبحر لم ينشق بعد وأخوه بالخارج ينتظر. والأب بأدنى خرق للوصية يتربص. متى سينشق هذا البحر؟ بدأ يفقد صبره وتمنى لو يستطيع أن يغير مجرى الفيلم ويحذف بعض المشاهد ليصل بسرعة إلى اللحظة التاريخية العظيمة. الفيلم سائر والشوق والتشويق يستفحلان بمعدلات رهيبة. لماذا لا ينفعل المتفرجون؟ إنهم صابرون. متحملون. لا يحتجون. ماذا ينتظرون؟
لعلع أذان المغرب من مئذنة المسجد المتاخم لقاعة السينما. لا أمل في رؤية العصا الموسوية تقسم البحر نصفين. ولكن تراءت له بدلها العصا .. في يد أبيه.
. المغرب.