ننشر هذا العدد النص الكامل لتلك الدراما الشعرية التي كتبتها الكاتبة التونسية، وننشر في العدد نفسه دراسة في أعمال حياة الرايس واستراتيجيات الكتابة الأنثوية في مسرحيتها تلك ومجموعتيها القصصيتين.

سيّدة الاسرار: عشتار

مسرحية

حياة الرايس




محمد صالح بن عمر
حياة الرايس اسم متداول في الحقلين الثقافي والإعلامي بتونس منذ أواسط السبعينات. وقد اقترن هذا الاسم، خلافا لأسماء معظم الكتاب والأدباء من جيلي السبعينات والثمانينات بألوان شتى من الكتابة: البحث الفلسفي، المقال الأدبي، المقال الاجتماعي، الخاطرة، القصة، الشعر ... وأخيرا في هذا التأليف الجديد، النص المسرحي. ولئن كان مثل هذا التعدد يثير، بديهيا من الوهلة الأولى، احتراز النقاد والقراء لما يتطلبه الإبداع من التخصص في جنس أدبي أو فكري بعينه والتفرغ له، فإن التفحص الدقيق لما أصدرته هذه الكاتبة، إلى حد الآن، من نصوص مجموعة في كتب أو متفرقة في الدوريات ليدفع أي شك في قيمة أعمالها الفنية والفكرية. فحياة الرايس كجل أبناء جيلها تؤمن بأن الكتابة أبعد من أن تختزل في مجرد عمليّة تقنية تطبيقية يمارسها المتفقه في مواصفات هذا الجنس أو تلك النظرية، من أجل إنتاج نص "جيّد" لكن مصنوع، فاقد لأي نكهة أو طعم ـ وما أغزر الآثار السردية والشعرية المصنوعة عندنا خاصة مما لفظته المطابع في ديارنا خلال العشريتين المنقضيتين! ـ بل هي إنشاء فني أو فكري يتنزل وجوبا في إطار تجربة عميقة متكاملة متفردة. والمتتبع لمسيرة حياة الرايس منذ بداية الثمانينات خاصة، تاريخ عودتها من القطر العراقي الشقيق، حيث زاولت دراستها الجامعية في شعبة الفلسفة يلاحظ أنها تجسم بمواقفها ونشاطها الإعلامي والاجتماعي وإنتاجها الأدبي صورة المرأة التونسية المثقفة، الواعية، الحاملة لرسالة نبيلة، المؤمنة بضرورة الإسهام في التغيير الإيجابي للواقع.

وهذه الصورة هي ـ لعمري ـ العنصر الجامع الموحد بين كل أعمالها ومنها هذا التأليف الجديد في جنس تجربة لأول مرة وهو النص المسرحي. وقد وسمته بـ " سيّدة الأسرار" عشتار . إن هذا العمل منسجم تمام الانسجام مع توجه الكاتبة الفكري وحساسيتها الفنية. فالمحور الذي عليه مدار هذه المسرحية هو قضية تحرر المرأة، الشغل الشاغل لحياة الرايس منذ ربع قرن إذ كانت ولا تزال من أبرز المثقفات التونسيات الملتزمات المناضلات من أجل الدفاع عن حقوق المرأة. وقد تجاوز إشعاعها، في هذا المجال، حدود القطر التونسي إلى جل الأقطار العربية الأخرى. أما الموضوع المطروق وهو أسطورة عشتار وتموز المقتبسة من الميثيولوجيا السومرية ـ فان اختياره يكشف عن حساسية شديدة الإرهاف لدى الكاتبة نابعة من عشقها للشرق باعتباره معينا ثريا للروحانيات والعواطف الإنسانية النبيلة والخيال الخلاق. وهو ما أهله لأن يكون مهدا لأهم الحضارات البشرية الأولى وما تشكل في صلبها من ميثيولوجيات وأساطير وما حضنته من ديانات كبرى وثنية وسماوية.

ولعل حياة الرايس باختيارها، هنا السير في هذ المنحى إنما تحيي سنة بدأها محمود المسعدي في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات. وهو توظيف الأجواء الأسطورية المشرقية القديمة في معالجة قضايا الواقع والعصر. فالكاتبة ـ وهي مهووسة بالتحرر الكلي للمرأة ـ وقد وجدت هنا ضالتها في عشتار إلاهة السماء والأرض في الميثيولوجيا السومرية، رمزا للأنوثة الكاملة. ولهذا الرمز في المسرحية دلالة عميقة. وهي أن الأنثوي مصدر مطلق للخلق. فعشتار في تلك الميثيولوجيا هي التي خلقت الكون وجميع الكائنات الحية ومنها الانسان. ويعني ذلك أن الذكوري متولد عن الأنثوي لا العكس. وهذه الربوبية الأنثوية تفرض، حينئذ، قلب الأدوار التي ترسخت منذ فجر التاريخ باختزال وظيفة الأنثى في أداء دور التابع الذلول المسخر في خدمة الذكر. وذلك لأن الرجل هذا الباسط هيمنته المطلقة على أشد الميادين حيوية في المجتمع ليس في جوهره سوى صنيعة للمرأة تلك التي بفضلها يوهب الحياة وترعى خطاه الأولى إلى أن يكتسب القدرة على التكيف مع العالم الخارجي المليء أخطارا وآفات وشرورا ومثبطات. ومن ثمة فإن طبيعة الأشياء تقتضي، طبقا لهذا المنطق، أن تتبوأ المرأة المنزلة الأولى في الكون والمجتمع وأن يقتصر دور الرجل على بذل ما يلزم من الجهد للتأقلم مع هذا الوضع ليس غير.

ولهذا السبب لم تكتف حياة الرايس في مسرحيتها باتخاذ عشتار مجرد بطلة بل جعلت منها شخصية محورية ساحقة. فمعظم الأحداث مروية على لسانها وأكثر كلام الراوي وأحاديث الشخصيات الأخرى تدور حولها. وهذا الطغيان المطلق لعشتار من جهة الحضور يعاضده طغيان مماثل من جهة التأثير وذلك جلي فيما تمثله من أنوثة عاتية آسرة لا تملك الذكورة إلا الإذعان لمشيئتها والائتمار بأوامرها. هو ما يتجسم، أساسا، في علاقتها بشخصية تموز إلاه الرعي والخصب. فهي التي عشقته واختارته حبيبا وزوجا ثم هي التي تسببت في موته مرة أولى بأن دفعت به إلى التضحية بحياته من أجل خدمتها ونـيل رضاها ثم هي التي أرجعته إلى عالم الأموات حين عاينت انشغاله بغيرها ثم هي التي أنقذته من ذلك العالم نفسه إلى الحياة ثانية حين ندمت على انتقامها منه. فعشتار، في كل ذلك، فاعلة وتموز مفعول به. هي محور الكون والوجود على حين هو مجرد عنصر مكمل لها، يقتصر دوره على تشكيل النقيض الجنسي الذي تحتاجه لتحقيق اكتمالها الأنثوي.

إن هذه الصورة التي رسمتها حياة الرايس للأنوثة لا تحظى، بديهيا، بموافقة معظم الرجال الذين لا يذهب أكثرهم استنارة إلى أبعد من قبول مبدإ المساواة مع المرأة. ولكنها، على كل حال، وليدة تصور، من حقه أن يوجد كأي تصور آخر، على أن يكون الاحتكام في الحسم بين التصورات المختلفة إلى الجدل والمحاجة. ومهما يكن من أمر فإن في وجود مثل هذا التصور، لدى كاتبة تونسية، لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المرأة والرجل لنتيجة طبيعية لما تحقق للمرأة في تونس من مكاسب عدة، عظيمة الشأن جعلت الحلم بما هو أفضل ـ حتى إن بدا مشطا ـ أمرا مفهوما معقولا. ومن البديهي، أيضا، أن يراود حلم كهذا خيال المرأة المبدعة قبل المرأة العادية. أو لم يكن المبدعون ولا يزالون رواد البشرية الدائمي التأهب وطلائعها المتقدمة الأشد مثابرة في استكشاف السبل بحثا عما هو أرقى وأنقى وأجمل.

على أنه بغض النظر عما قد يصادفه هذا الحلم لدى القراء من قبول أو رفض أو احتراز فإن مواقفهم من الصياغة الفنية لهذه المسرحية من المستبعد أن يشقها تباين مماثـل ... ذلك أن الحبكة على درجة عالية من الإحكام والتوظيف الرمزي للأسطورة محقق لجل أهدافه والتشويق الناشئ عن انقلاب الأوضاع يرافق القارئ في أكثر ردهات الحكاية، إلى جانب الجمع اللطيف بين السردي والشعري والوصفي والحجاجي على نحو متكامل يشي بتعدد المهج الفنية لدى الكاتبة وتكاملها، فضلا عن ثقافتها الأسطورية المشرقية المعمقة المركّزة وحسها الفلسفي الماثل في استنطاقها الدائم للظواهر وسعيها الدؤوب إلى استبطان الشخوص والأشياء ولغتها السلسة الجزلة من نوع السهل الممتنع. لكل هذا وغيره فإن مسرحية " سيدة الأسرارعشتار " لحياة الرايس ليست جديرة بالقراءة فحسب بل بالتمثيل أيضا. وهي تنضاف إلى رصيد المكتبة التونسية المتواضع ـ مع الأسف الشديد ـ من المسرحيات الفصيحة الجيدة.


في معبد من المعابد القديمة لمدينة سومر
تستوي عشتار ملكة على عرشها
يشع من محيّاها الألق والبهاء
بعدما وضعت على رأسها تاج السهول،
لفت جسدها بطيلسان السلطة،
قبضت بيدها على الصولجان اللازوردي
ومسكت الختم

تطوف بها عذارى المعبد مسدلات غلالاتهن الشفافة على وجوههن، لابسات حللهن الطقوسية، هائمات حبا، فانيات تعبدا. وسط غيمات البخور واللبان المحروق، يرقصن على إيقاعات نقر يعلو ويخفت، ينبعث من طبلين كبيرين أمام وصيفتين تجلسان في مقدمة الخشبة واحدة جهة اليمين وأخرى جهة اليسار. والزوار يسكبون عطر الناردين أمام الإلاهة عشتار المجسّدة في شخص الملكة، يرشون زيت الزنبق عند قدميها ويحرقون العنبر البحري. يتوافدون محملين بسلال عنب التلال وتفاح البساتين ومشمش الجنائن وبرتقال السهول.

وبإشارة من الإلاهة عشتار تتوقف كل حركة، تخر العذارى ساجدات. تتقدم وزيرة الإلاهة إلى مقدمة الخشبة:
ـ " اليوم يتوقف كل شاك عن الشكوى وكل داع عن الدعاء وكل ناذر عن النذر وكل متضرع عن أي ضراعة، اليوم تنقلب الأدوار وتتبدل المواقع من أجل سماع قصة عشتار:
مأساة بحجم الآلهة.
من قال إن الآلهة لا تحتاج إلى لحظة بوح؟
ومن قال إن قصص الآلهة أقل مأسوية من قصص البشر؟

* * * *

عشتار تخرج عن صمتها:

"إمرأة مثلكن أنا
        إمرأة من سلالة الآلهة
        وإمرأة من نسل النساء
        أحببت
        فتألقت وتوهجت نيزكا في الظلام
        ثم في العالم الأسفل سقطت

على تموز وقعت عيني
أنا إلاهة الأرض المرحة الشهوانية الشهية
أحببت تموز حبا جارفا
تموز إله النبات وتكاثر الحيوان
على تموز وقعت عيني
في أقصى جنوب سومر ـ في أكاد ـ
أقدس المدن السومرية
انجذب بولع أحدنا إلى الآخر
واتحدنا اتحادا رقيقا
في عناق انتشائي لم ينفصم
طوال أشهر الشتاء الطويلة
كان تموز يرعى في ظل شجرة "الأريدا"
في حقول غير دنيوية
قطيعا لا يراه بنو البشر
كان الإله الشاب يحمي حيوانات
السماء وحيوانات الأرض
يدرأ عنها أخطار أشعة شمس
الظهيرة المحرقة..
هذه الأشعة،
اشتعلت في جسدي حينما
على تموز وقعت عيني...

من أجل لقاء تموز
بالماء البارد استحممت
بالصابون المعطر دلكت جسمي
"طيلسان السلطة"، ارتديت
وقد عرفت كيف أحمل ـ بإغواء كبير ـ
تموز على الاستجابة لدعوتي
كما عرفت كيف أحمل البيت
والحرم الممتلئين بالنشيد
على الابتهاج معي
كان سكان سومر يتوجهون لي
بالدعاء
من أجل أن : "أفتح أرحام النساء"
فقررت وتموز أن نقيم مراسم
الزواج المقدس
في مدينة سومر
وكان على جميع النساء الاقتداء
بإلاهتهن
أن يتهيأن لعرض
مباهجهن ـ عن رضا ـ لأنظار
الرجال لإيقاظ غريزتهم وحثهم
على التمتع بأجسادهن

وكان على جميع الرجال أن يحتذوا
حذو تموز إله نمو النبات
وتكاثر الحيوان
الذي يخضع لإغواء إنانا[1]
وسحرها.
من أجل نساء سومر ورجالها
أقمنا مراسم الزواج المقدس
قبل لقائي بتموز
كنت قد منحت جسدي
الشهواني، العطش أبدا
جميع الذكور الأحياء فوق الأرض
أما الآن فلم أعد راغبة إلا
في الرجل الوحيد الذي عرفت
الحب في أحضانه
وعرفت ذلك الإحساس (الجديد عليّ)
بالامتلاء والكمال السعيدين لأناي الخاص
ذلك الإحساس الذي لا يمنح إلا
للرجل والمرأة اللذين لم يخلق
أحدهما إلا للآخر
هذا الاشتهاء للواحد المفرد
جعل الإلاهة التي ـ تفتح أرحام النساء ـ
مثالا تحتذيه جميع النساء
فليس بكاف أن تشبع لذة الاتحاد الجسدي
الحواس فقط
بل عليها أن تروي القلب أيضا
وقد روى تموز بالحبّ قلبي
عندما ضمّ قلبه إلى قلبي...
وكلّ معانقاتي قبله لم تكن
تعادل عناقا واحدا من تموز
الذي توّج بالحبّ قلبي
كان تموز الحبيب أغلى من
جميع رجال الأرض مجتمعين
كانت تفيض بحضوره ـ دون سواه ـ
كل حواسي بالأمل والرجاء
وأصبحت تسيطر علي رغبة واحدة
هي وحدها صاحبة الشأن والتحكم بي
رغبة امتلاك الرجل الوحيد
الذي أحب
والسعادة كل السعادة في البحث عنه
والفوز به و الاستسلام له.
كنت فخورة بأبي ـ سن ـ إله
القمر العظيم، في مدينة ـ أور ـ
إحدى كبريات مدائن سومر
لذلك بعثت له رسالة أنبئه فيها
بنيتي التزوج من تموز
أردت أن أستشير ـ سن ـ
قبل أن أهب نفسي
لعاشقي في شوق وفي معبدي
ـ جيبار ـ
كنت أحبّ أميّ ـ ننجال ـ كثيرا
وأعمل بنصيحتها، ولكن أحيانا كنت أخادعها
حدث ذلك، بناء على طلب من
عاشقي تموز، لكي أمكث معه
في الجنائن، على ضوء القمر

في الليلة الماضية
حينما قادني "تموز" إلى بستانه
أدخلني إلى جنينته
تمشيت معه بين أشجارها الباسقة
وتوقفت معه عند أشجارها الممتدة
ثم جثوت كما يجب عند شجرة التفاح
في الليلة الماضية ناجيت القمر
أنا إلهة الزهرة أيضا
ترنيمة
"في الليلة الماضية فيما كنت أنا الملكة أشعّ ضياء
في الليلة الماضية فيما كنت أنا ملكة السماء أشعّ ضياء
كنت أشعّ ضياء، كنت أرقص طربا،
كنت أترنم بأنشودة على اقتراب الضوء الساطع
التقى بي، التقى بي،
تموز وضع يده في يدي
تموز، أنا ضمّني إلى صدره"

ادّعيت التخلص من ذراعيه
لم أكن أعرف ما أقول لأمّي
ناديته: "تعال الآن أيها الثور البرّي
خلّصني، يجب أن أذهب إلى البيت
ماذا عساي أن أقول لكي أخادع
أمّي ننجال؟"
لكنّي كنت سعيدة حين جاءني جوابه،
أنا المعروفة بالمكر والخداع:
"فلأخبرك، فلأخبرك
أي "إنانا" يا أكثر النّساء خداعا، فلأخبرك
قولي إن صديقتي اصطحبتني معها إلى السّاحة العامة
حيث سلّتني بالموسيقى والرقص،
وغنت لي أغنياتها الحلوة،
في الابتهاج الحلو قتلت الوقت هناك،
بذلك تواجهين أمّك، في خداع
بينما نحن كنا على ضوء القمر ننغمس في شهوتنا
سأعدّ لك فراشا طهورا، حلوا، نبيلا،
سوف أقضّي معك وقتا حلوا في فرح غامر"
حين استذاق تموز نكهة الحبّ معي،
قطع لي عهدا أن يجعل منّي زوجته
الشرعيّة
حينها جريت إلى أمّي
وأنا أنشد:
"أتيت إلى بوابة أمّنا،
أنا، جذلانه أمشي،
أتيت إلى بوّابة ننجال،
أنا جذلانة أمشي،
إلى أمّي سوف يقول الكلمة
سوف يرش زيت السرو على الأرض
هو الذي مسكنه يفوح عطرا
هو الذي كلمته تبعث فيّ السرور والزهو
سيّدي الذي يليق به الحضن المقدس،
تموز صهر ـ سن ـ
الإله تموز يليق به الحضن المقدس
تموز، صهر ـ سن"
لم أنس ـ سن
كنت فخورة بأبي ـ سن
إله القمر العظيم في مدينة ـ أور
لم أنس أبي ـ سن ـ كنت أشعر
بحاجة أن ألتمس موافقته قبل أن أهب نفسي لعاشقي.
إليه أرسلت رسالة أنبئه فيها بنيتي
التزوج من الرّاعي تموز.
كتبت له:
         "بيتي، بيتي
         الناس سوف يقيمون فراشي المثمر
         سوف يغطونه بشجيرات حجر الآزورد ـ الدورو
         سوف آخذ إلى هنالك تموز
         سوف يضع يده في يدي
         ويضم قلبه إلى قلبي
         وضعه اليد باليد ـ ينعش الفؤاد،
         ضمه القلب إلى القلب ـ لذته بالغة السعادة

قبل أن ندخل طقس العرس الإلهي، المقدس
إلى بيت أمّي كان يجب أن
يأتي العريس لخطبتي
إلى أمّي ـ ننجال ـ سبقته ألتمس
النصح والموافقة
قرع ـ تموز ـ باب بيت أمّي، حاملا
معه هدايا اللبن والقشدة والجعة
ملتمسا منها القبول.
ابتهجت لمقدمه أمّي وأنشدت:
" هو ذا الفتى هو أبوك
هو ذا الفتى هو أمّك
أمّه تدللك كما تدللك أمّك.
أبوه يدللك كما يدللك أبوك.
افتحي البيت، أي مليكتي افتحي البيت"

إلى العرس المقدس أمّي كانت قد أعدّتني
إلى لقاء تموز، زوجي الموعود، أعدّتني
يما يليق بملكة سومرية.
بماء الإبريق المقدس استحممت
بالصابون دلكت جسدي،
في الطست الأبيض اغتسلت
بالعنبر طليت ثغري
بالكحل كحّلت عينيّ
بالحجارة الكريمة والمجوهرات والحلي
زيّنت أمّي مختلف أنحاء جسدي
ومن كنز أهداني إيّاه أحد عشاقي
انتقيت حجر الآزورد لصدري وعنقي،
وخرزا بيضاوي الشكل لردفي ورأسي،
ورصّعت بحجر الدّر ضفائر شعري.
وبالأقراط البرونزية زيّنت شحمة أذني.
ومختلف أنواع الحلي لوجهي وأنفي و عجيزتي،
و الأبستر اللامع لسرتي
والخفين لقدميّ.
في بلاط القصر الملكي الذي يشرف على شؤون
كل البلاد، بيت ملك جميع العباد ـ بيت الحياة ـ
ليلة رأس السنة.
في"إيريك" إحدى كبريات مدن سومر
اخترنا أن يكون الزواج المقدس
أقام العبيد سريرا من خشب الأرز و الأسل
نشروا عليه شراشف فريدة النوع،
تبهج القلب، و أعبقوا البخور.
رشوا الأرض بالزيت المعطر
وفي وسط القصر أقيمت المنصة الملكية
و اجتمع الناس ذوو الرؤوس السود
تموز كان مجسّدا في شخص الملك.
ملك ـ إيريك ـ العظيم وقد بدل
بملابسه ملابس الطقس المقدس،
و اعتمر الجمّة تاج الملوك،
فتلألأ نوره مشعا في القصر.
أمّا أنا فلمّا أكملت زينتي واتخذت
زخرفي أمسكت الختم بيدي
ولففت طيلسان السلطة حول جسدي .
حينها قام كهنة الطقس الحرم ـ لابسو الكتّان ـ
بالإعلان عن مقدمي إلى تموز،
الذي كان واقفا بباب حجر الأزوردي
يتحرق شوقا و اشتهاء للقائي.
يدعونه إلى الاقتراب مني
من إنانا ملكة السماء والأرض
من حرمها
حيث ينتصب
ـ إنليل ـ كبير آلهة الهيكل السومري.
وينشدون:
" سيّدي، أنت الذي قدمت إلى الحرم، أدن منها،
أدن منها،
بأغنية،
بلحن يحرّك القلب"
ثم قامت ـ ننشبور ـ وزيرتي،
الأمينة لتقود الملك إلى عروسه،
ملتمسة منّي أن أباركه بكل ما يلزم
لكي يكون حكمه سعيدا ومذكورا.

حينما دخل تموز، طلع
نوره في الحرم مثل القمر،
حدّق فيّ بفرح يغمره، ضمّني
إلى صدره وقبّلني فباركته
بدعائي المعهود:
"أيّها الثور البرّي، يا عين البلاد
ـ سوف آتي بالحياة إلى أهلها
سوف ألبي جميع حاجات البلاد
وأحمل أهلها على إقامة العدل،
في البيت الفخم
وأجعل بذرها ينطق كلمات
العدل في البلاد"

باركته والبيت والحرم ممتلئان
بالنشيد مبتهجان معنا
والشعراء يتغنون على لسان تموز
الذي كان يتحرق اشتهاء إلى فراش الزفاف المقدس:
ترنيمة:
" يتشهاه، يتشهاه
يتشهى الفراش
الذي يُبهج القلب، يتشهى الفراش
الذي يحلو به الحضن ،يتشهى الفراش
أن تجعل الفراش حلوا
أن تجعل فراش الملك حلوا
أن تجعل الفراش الذي يحلو به الحضن حلوا
أن تجعل الفراش الذي يحلو به الحضن حلوا"

كان تموز قد أمر أن يُطهّر فراش
الليلة السعيدة بجرار مليئة بالأسل والأرز
ليكون عذبا ومثمرا.
وبكلمات تقطر عذوبة ورقة
استقبلت عريسي بترنيمة العرس:
" أيا العريس ... يا غاليا على قلبي
ما أروع جمالك، حلوا كالعسل
أيّها الأسد ... يا غاليا على قلبي
ما أروع جمالك حلوا كالعسل
لقد هززتني ... دعني أرتعش واقفة أمامك
أيها العريس ... دعني أمنحك الحبّ
فحبّي شهيّ، أشهى من العسل
وفي المخدع الجميل...
دعنا نستمتع بجمالك الأخاذ.
ولأنك تحبني، امنحني حبّك الممتع
يا سيّدي ... وحامي ذماري
تلطف و امنحني حبك الممتع.
ثم على السرير المقدس تمددت
بعد أن خلعت وشاح عرسي
فيما رش زيت الأرز المعطر على
الأرض ليمشي عليها الملك رافع الرأس
في السرير المقدس قال لي:
"أريد أن ألعب معك لعبة الحبّ
في ضوء القمر
فوق سرير العظمة والخيلاء
أريد أن أحل عقدات شعرك..."
ثم احتوى براحته خاصرتي ليلاطف
بالحب الحضن القدسي و يمسّده باللبن
والقشدة
مفتونا بهبات ثديي،
تواقا إلى الخلود
بالالتحام الجسدي معي.
وبعد أن نظفت الحضن القدسي،
رحت ألاطف سيّدي
وقدرا جميلا أكتب له
وقد ضمّ قلبه إلى قلبي
اتحدنا وتعاشرنا وفاض "ماء القلب"
فشاعت الخضرة في كلّ ما حولنا

الزرع طلع عاليا بجانبه
والبساتين أزهرت خصبا بجانبه"
وتموز عشيقي الأبدي يتمرّغ على صدري
" أي مليكتي العظيمة، صدرك هو حقلك،
أي إنانا، صدرك هو حقلك
حقلك الفسيح الذي يدفق بالزرع
حقلك الفسيح الذي يدفق بالحب
الماء يدفق من الأعلى ـ رباه ـ الخير من الأعلى
سوف أشربه منك".
فقام الناس يتغنون بجسدي
ويشبهونه "بقارب السماء"
و"بالهلال الجديد" "وبالأرض الخصبة"
والحقل العالي والرابية
وبعد أن استرحت طويلا على "السرير المثمر"
والحضن القدسي
رُفعت إليّ الالتماسات لأبارك
الملك في ليلة الحبّ:
"الشمس ذهبت لتنام، النهار انقضى
فيما أنت في السرير تحدقين فيه
فيما أنت تمسدين الربّ
فيما أنت تمنحينه الحياة
امنحي الرّب الصولجان و المحجن"
في الصّباح منحته الصولجان و المحجن
لأنني اخترته راعيا من بين البشر
وجعلته ملكا
كان ذلك في مأدبة أقيمت
في قاعة الاستقبال الكبيرة
في القصر حيث كان الطعام الكثير
والشراب والموسيقى الصادحة والغناء
فيما يمرّ الناس أمامنا:
أمام الزوجين الإلهين
الجالسين جنبا إلى جنب على العرش
ينشدون:
"لعل الرّب الذي دعوته إلى قلبك،
الملك، زوجك الحبيب، يتمتع بأيام مديدة على حضنك الحلو، المقدس
امنحيه حكما عظيما مجيدا
امنحيه عرش الملك على أساس مكين
امنحيه القدرة على تدبير شؤون الناس : الصولجان و المحجن
امنحيه تاجا لا يبلى وإكليل نور على رأسه
من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب الشمس
من الجنوب إلى الشمال
من البحر الأعلى إلى البحر الأسفل
لعل النهر يفيض
وفي الحقل يكثر الحبّ
لعل الغياض تنتج عسلا ونبيذا
وفي دجلة والفرات يكون فيض الماء
وعلى الضفاف ينبت العشب عاليا ويملأ المروج
وملكة الخضرة المقدسة تجمع الحب أكواما وتلالا
أي مليكتنا ملكة السماء والأرض
لعله يستمتع بأيام مديدة على حضنك المقدس"

" العالم الأسفل:
عالم مظلم من القبور والأشباح
شموع ترتعد : تشتعل وتنطفئ
تلوح ـ أريشكيجال ـ ملكة العالم الأسفل
مستوية على عرشها
يحيط بها ـ الأنونا ـ : القضاة السبعة "

لقد كنت، شهيّة،
أيقظت بمداعباتي
طيلة ليالي العرس شهوانية
تموز الراعي اليافع
وغدا بفعلها رجلا...
فأراد أن يبرهن لي عن رجولته
في الصيد والطرد كما برهن عليها
في فراش الحب والمتعة...
وفي إحدى مطارداته أصابه خنزير بري
بجرح مميت.
كنت أحب تموز
وكنت مستعدة لكل المخاطر من أجله
لكي أبرهن لكل الناس أن على المرأة
العاشقة أن تقبل كل التضحيات
لكي تفوز بالرجل الحبيب وتحتفظ به
وعليها بدافع الحب ألا تتراجع
أمام المخاطر مهما بلغت ولو كانت
الموت نفسه
ولذلك شرعت بارتياد طريق الجحيم
لأبعث في تموز الحياة من جديد
بتحميمه في الينبوع المقدس.
اعتزمت النزول إلى العالم الأسفل
بيت الأموات المخيف المظلم من أجل
استعادة تموز حبيبي وزوجي.
لكن الناس لم تقدر تضحيتي.
واتهموني بأني لم أكن لأكتفي
بمملكة "الأعلى العظيم" بل أردت
أن أبسط نفوذي أيضا على
"الأسفل العظيم" .

أجمل ملابسي لبست
بأحلى حللي تزينت
على شاراتي وسلطاني وامتيازاتي
المقدسة قبضت
"ألواح الأقدار السبعة"إلى وسطي شددت
كل النواميس جمعتها ووضعتها في يدي
الناموس الأعظم أقمت عند قدمي
"الشوجرا" تاج السهول وضعت على رأسي
فشاع من محياي الألق والبهاء
خصل شعري ثبّتها على جبيني
صغير حجر اللآزورد ربطت حول عنقي
حجرين بيضاوين شددتهما إلى صدري
بسوار ذهبي طوقت معصمي
بخاتم ذهبي رصعت كفّي
صفيحة الصدر :"تعال أيها الرجل تعال"
ربطتها حول عنقي
بالزيت والطيوب مسحت وجهي
وبدهن "فليات" دهنت عيني
بثياب السيادة والطيلسان
وشحت جسدي.
عندما أكملت زينتي وعزمت على النزول إلى
العالم الأسفل ـ عالم الأشباح الرهيب ـ
كان البدر قد اكتمل في منتصف الشهر القمري
وتربّع على عرش السماء بكامل ألقه وبهائه
كما تربعت تماما :
أنا ملكة السماء وإلهة القمر على العرش
بكامل ألقي وبهائي.
ولأن القمر لا يكتمل إلا لكي يهبط
متناقصا خلال النصف التالي
من دورته كذلك اتخذت أنا كامل زينتي
استعدادا للهبوط إلى ـ العالم الأسفل ـ
كنت أعلم قبل الدخول أن "أريشكيجال"
ملكة "العالم الأسفل" أختي وعدوّتي اللّدود
ستقتلني لجرأتي على اقتحام عرشها
ولن تغفر لي مجيئي إلى الاقاليم السفلية
لذلك استدعيت وزيرتي و رسولتي
ننشبور ـ التي كانت دائما رهن إشارتي
وقلت لها:
"أنت يا سندي الدائم
يا وزيرتي ذات الكلمات الحق
يا حاملة رسالة كلماتي الصحيحة
أنا الآن نازلة إلى العالم الأسفل
بعد أن أكون قد وصلت إلى العالم الأسفل
أقيمي المناحة عليّ عند الأطلال
في حرم المجمع
اقرعي الطبول من أجلي
مزّقي عينيك من أجلي
شقّي فمك من أجلي
مثل فقير ارتدى ثوبا باليا من أجلي
إلى ـ الإيكور ـ بيت إنليل ـ وحيدة صوبي خطاك.
عند دخولك ـ الإيكور ـ بيت إنليل
انتحبي أمام ـ إنليل ـ كبير الآلهة:
ـ "أبتي إنليل
لا تدع إبنتك تموت في العالم الأسفل
لا تدع معدنك الثمين يعلوه غبار العالم الأسفل
لا تدع لازوردك الغالي يتكسر كحجر الحجارين
لا تدع بقسك ينشر كخشب النجارين
لا تدع العذراء إينانا تموت في العالم الأسفل"
أوصيتها أيضا:
"إن لم يقف "إنليل" إلى جانبك في هذا الأمر
طوفي بالآلهة الأخرى
إن لم يستجيبوا لك
اذهبي إلى الاله "إنكي"...انتحبي أمامه...
فالأب "إنكي" رب الحكمة الذي
يعلم " طعام الحياة" ويعلم "ماء الحياة"
لا بدّ وأن يعيدني ثانية إلى الحياة
لقد أردت بذلك أن
أطمئن إلى تجدد حياتي وبقائي
حيّة حتى لو نزلت بي أفدح الأخطار
بعد ذلك توجهت إلى بلاط العالم الأسفل
وانتصبت جريئة أمام بوّابته:
ـ "افتح يا حارس البوابة، افتح البيت
افتح البيت يا ناتي، بمفردي أريد الدخول"
فجاءني صوته متسائلا:
"رجاء، من أنت؟"
أجبته باعتزاز:
"أنا ملكة السماء، المكان الذي تشرق منه الشمس"
لكن البوّاب يخامره ريب في أمري:
"إن كنت ملكة السماء حقا، المكان
الذي تشرق منه الشمس. فلماذا أتيت
رحماك إلى بلاد اللاعودة، إلى الطريق
الذي من سافر إليه لا يعود أبدا،
كيف قادك إليه قلبك؟"
عندئذ تذرّعت بالقول:
"أختي الكبرى أريشكيجال... لأن زوجها
الرّب ـ جوجالانا ـ قد قتل"جئت لأشهد
مراسم الدفن، فليكن كذلك؟"
لكن هذه الذريعة لم تبدّد شكوك ـ ناتي ـ
طلب مني أن أتريّث حتى يكلم سيّدته
أريشكيجال
نفد صبري اشتدّ بي الغضب فصرخت
"أنا ربّة السماء يجب ألاّ يردّ لي طلب
أي حارس البوابة، افتح بوابتك
كي يتسنى لي الدخول، فإذا أحجمت
عن فتح بوابتك لتمنع دخولي فسأهشم
الباب، سأحطم المزلاج، سأهشم
عضادة الباب، سأهز الأبواب، سأوقظ
الموتى من سباتهم ـ آكلي الأحياء ـ
حتى يفوق عددهم عدد الأحياء"
يرتعد الحارس أمام عصف الغضب الذي
أثرته في وجهه، يدخل بيت مليكته
يصف لها ملبسي وهيئتي تماما مثلما أنا:
الناموس، الشوجرا، الصولجان
حجر اللازورد، صفيحة الصدر، السوار الذهبي
خصل الشعر، دهن الإغواء
ما إن سمعت أريشكيجال هذه الأوصاف
حتى علمت على الفور من هي التي
حاولت أن تحطم بوابة مملكتها ولماذا:
استبد بها الغضب، لكنها تماسكت
وقالت: (وقد أضمرت شرا)
"أنا أيضا أندب الرجال الذين
انفصلوا عن زوجاتهم وأنا أيضا أندب
النساء اللواتي انتزعن من أحضان أزواجهن"

ولكن رغم هذه الشفقة المصطنعة التي عبرت
عنها هذه الكلمات، لم تستطع أريشكيجال
إعفائي أنا ـ انانا ـ ملكة السماء
والأرض من المعاناة وذلّ العذاب الذي
يقتضيه الدخول إلى العالم الأسفل
وفق ما جاء في الشرائع القديمة
إذ كان عليّ أن ألج عارية مملكة العالم السفلي.
ضربت أريشكيجال على فخذها وقرصتها:
ليس ثمة إلا مخرج واحد:
يجب أن تموت "إنانا"
لكن هذه لن يصيبها شيء إلا إذا نزع
عنها طيلسانها وجواهرها وزينتها
وصولجانها، لذلك قالت للبواب:
"تعال، يا ناتي، يا كبير حراسي على
العالم الأسفل، الكلمة التي آمرك بها
إياك أن تغفلها:
عن أبواب العالم السفلي السبعة ارفع المزلاج
عن أحد قصوره ـ جنزير ـ واجهة العالم الأسفل
ارفع المزلاج"
ناتي كبير حراس أبواب العالم الأسفل أصغى إلى
كلمة مليكته.
عن أبواب العالم السفلي السبعة، رفع المزلاج
عن أحد قصوره ـ جنزير ـ واجهة العالم السفلي
فتح الباب وصاح:
"تعالي إنانا، ادخلي"
وضعت رجلا جريئة ودخلت
ولم أكد ألج البوابة الأولى حتى خلع عن رأسي
"الشوجرا" تاج السهول
صحت : ما هذا الذي تفعلون؟
قال البواب :"أي إنانا لقد صيغت قوانين
العالم الأسفل بعناية و اكتمال، فلا تناقشي
يا إنانا شعائر العالم الأسفل"
لدى ولوجي البوابة الثانية
اقتلع من كفي صولجان القياس وسلك اللازورد
صحت بالبواب
"رحماك ما هذا؟"
"صمتا ـ إنانا ـ نواميس العالم الأسفل نواميس
كاملة، يا ـ إنانا ـ، إياك أن تزري بمراسم
العالم الأسفل".في البوابة الثالثة
نزعت مني حجارة اللازورد و الحجرين
البيضاوين والسوار الذهبي وصفيحة الصدر
أما في البوابة الرابعة فقد التقطت عن صدري
الجواهر المتلألئة
في البوابة الخامسة
استل من يدي الخاتم الذهبي
في البوابة السادسة
نزع عن صدري الدرع
في البوابة السابعة
رفعت عني جميع أثواب
السيادة والسلطان
وكنت كل مرّة أصرخ فيهم
ما هذا الذي تفعلونه؟
يجيبونني
أي إنانا لقد صيغت قوانين
العالم السفلي بعناية واكتمال
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم
الأسفل
إلى أن انحنيت
أنا مليكة العالم الأرضي
وجيء بي خفيضة عارية تماما
أما وقد جيء بي عارية تماما فقد حانت
لحظة معاقبتي على خرق القوانين الإلاهية
أريشكيجال كانت مستوية على عرشها
يحيط بها ـ الأنونا ـ : القضاة السبعة،
نطقوا الحكم أمامها
سلطت أريشكيجال عينيها: عيني الموت،
عليّ، نطقت الكلمة بحقي، كلمة الغضب
التي تعذب الروح، صدرت عنها الصيحة
بوجهي، صيحة الإدانة،
لكن الحقيقة التي تعرفونها
وتعرفها كل إمرأة: أن اريشكيجال
أختي وعدوتي اللدود غارت من جمال جسدي
عندما نضا الحارس عني ثيابي وعرّاني
وجردني من حليّي ونزع النّقاب عن كاهلي.
أنتم تعرفون جمال جسدي العاري
لقد أثار غيرة سيّدة العالم الأسفل أريشكيجال
فأوعزت للمحكمة ـ محكمة العالم الأسفل ـ
بإصدار عقابها بالضرب والسجن
سجنتني في غرفة من غرف قصرها ليذبل
جمالي وتذهب كل الأمراض الممكنة
بحسني وبهائي
لقد أطلقت أريشكيجال ضدي ستين علّة.
أطلقت علل العيون ضد عيني
علل الأضلاع ضد أضلاعي
علل الأحشاء ضد أحشائي
علل الرأس ضد رأسي
علل القلب ضد قلبي
ضد كل أجزاء جسدي أطلقت العلل
أذعنت لكل ذلك بدافع حبي لتموز
راضية بجميع هذه الأوجاع والآلام،
تحولت إلى جثة هامدة
شدت الجثة إلى وتد مغروس
بيد أن هذه المصائب لم تنزل بي وحدي
إذ توقفت كل مظاهر الحياة فوق الأرض
فامتنع الإنسان والحيوان عن التزواج
و الاقتران: ما من رجل يطارد الفتيات...
لا ثور يقفز على بقرة
لا جحش يحمّل أتانا. وفي الشارع
لا يخصب الرجل الصبيّة
والنساء يضطجعن وحيدات...وكل الأفراح
الجنسية انطفأت...
وفي السماء تناقص البدر قطعة قطعة
وانحدر عن وسط السماء تدريجيا في
كل ليلة، إذ وافقت درجات الموت السبع
التي خلعت عندها زينتي جزءا جزءا
الأيام الأخيرة السبعة من الشهر
القمري حيث فقد القمر بوضوح
أجزاءه حتى غاب تماما في آخر يوم
عندما أرديت جثة هامدة
حينها حزن النّاس فوق الأرض
وقد كانت وزيرتي- ننشبور- تنتظر
نافدة الصبر أن تعود سيّدتها
من العالم الأسفل
مرت سبعة أيام وسبع ليال ولم أفلح
في العودة فبدأت ننشبور بتنفيذ
التعليمات حسب ما أوصيتها واحدة
إثر أخرى...
ترنيمة:
" رسولتي ننشبور
ذات الكلمات الطّيبة
وحاملة كلماتي الحق
بدأت الطواف على الآلهة الأخرى
منتحبة، ملأت السماء صراخا من أجلي،
باكية ندبت وجهها في حرم المجمع،
راكضة في بيت الآلهة هنا هناك من أجلي
اكفهرت عيناها وعبس فمها من أجلي
وكفقير، شريد مجرّح الجسم، لبست
ثوبا واحدا من أجلي
و إلى معبد"إيكور" بيت "إنليل" اتجهت وحيدة
بكت في حضرته
"أيها الأب ـ إنليل ـ
لا تدع ابنتك تموت في العالم الأسفل
لا تدع معدنك الغالي يعلوه غبار في العالم الأسفل
لا تدع لازوردك الغالي يكسر كحجر الحجارين
لا تدع بقسك ينشر كخسب النجارين
لا تدع العذراء إنانا تموت في العالم الأسفل"

لكنها لم تجد من إنليل أذنا صاغية
"إنليل"، كبير الآلهة لا يكنّ لي
عطفا خاصا، فأنا في نظره قد أزرت
بناموس الآلهة ولم أكتف بحكم "الأعلى العظيم"
بل طمعت في حكم " الأسفل العظيم" أيضا
"إنليل" يتجاهل تضحيتي من أجل تموز
ثم تمضي وزيرتي ننشبور إلى معبد
ـ أكيشنوجال ـ في مدينة -أور- وتعيد
تضرعها أمام بقية الآلهة، ولكن
ما من مجيب كلهم يعتقدون أنني
أزاحم ـ أريشكيجال ـ في قيادة "العالم الأسفل".
في نهاية المطاف تصل إلى معبد
"إنكي " في مدينة -أور- أيضا.
إله الماء العذب الذي يسرع إلى نجدة
الإلاهة الميّتة، وقد أصابه الروع والهلع
من احتمال زوال البشرية
ترى من سيتقدم إليه بالدعاء والعبادة
إن وقع ذلك؟
الأب "إنكي" يجيب ننشبور:
"ماذا جرى الآن لإبنتي؟ إنّي قلق
ماذا جرى الآن لإنانا؟ إنّي قلق
ماذا جرى الآن لسيّدة جميع البلاد؟ إنّي قلق"

إنّ الإله ـ إنكي ـ موكل بـ "طعام الحياة"
و"ماء الحياة " اللذين يعيدان الحياة
إلى الآلهة.
كان لا بد من وضع خطة للوصول إلى
أريشكيجال وكسب ثقتها والحصول
منها على وعد دون أن يساورها شك...
كان " إنكي" على دهاء كبير وتملق مكين...
لقد عمد الإله ـ إنكي الذي يسكن
الأعماق المائية إلى خلق كائنين إثنين
لا جنس لهما من طين أظافره:
ـ كوجاروـ وكلاتورـ
أعطى " لكوجارو" طعام الحياة
وأعطى لـ "الكلاتور" ماء الحياة
ودعا لهما بالتسترحتّى يدخلا بوّابة العالم السفلي
دون أن ينتبه إليهما أحد
لقد أعلمهما أنهما سيجدان الإلهة أريشكيجال ـ راقدة
عارية تئن من المرض وأوصاهما أن يبديا لها
شفقة وعطفا:
قال لهما:
"اذهبا، مدا قدميكما نحو العالم الأسفل
حوما حول الباب كالذباب
دورا حول الباب كما يدور المحور.
الأم الواهبة للحياة، بسبب أولادها
أريشكيجال طريحة الفراش من مرض.
على جسمها القُدُس لا يُمَدّ قماش،
صدرها القدس مثل قارب شاجان،
شعرها كالعلق موضوع على رأسها عندما تصيح:
"ويلي ! آه أحشائي!"
قولا لها : "آه أحشاؤك !"
عندما تصيح: "ويلي آه أطرافي"
قولا لها : "آه أطرافك! "
عندئذ تقول لكما :"كونا من تكونان"
لأنكما قلتما "من أحشائي إلى أحشائك،
"من أطرافي إلى أطرافك".
إن كنتما الاهين فسأنطق بكلمة كريمة من أجلكما
وإن كنتما بشرين فسأكتب قدرا ملائما لكما
فاستحلِفاها بالسماء والأرض أن تفي بوعدها مهما كان!
من النهر سوف يأتونكما بالماء فلا تقبلاه،
من الحقل سوف يأتونكما بالحَبّ فلا تقبلاه
"إعطاء الجثة المعلقة من المسمار" قولا لها

نفّذ المخلوقان تعليمات "إنكي" بكل حذافيرها
تأوها مع أريشكيجال كما لو كانت آلامها
قد مستهما مسا عميقا
تأثرت أريشكيجال بمشاركتهما آلامها،
وقررت أن تنفذ لهما طلبهما
قدمت لهما جثتي: جثة إنانا المقدسة
لما رأيا الجثة المشدودة إلى وترها، وجها
أشعة النار ورشا عليها من ماء الحياة
ستين مرة ومن طعام الحياة ستين مرة.
وما إن مسني ماء الحياة وطعام الحياة
حتى عادت إلي الحياة
نهضت.
ولما مسكا بي ليصعدا إلى العالم الأعلى،
رفضت أن أغادر العالم الأسفل إلى عالم الأحياء
حتى آخذ وعدا ببعث تموز من بين الأموات
ويعود إليّ حيّا. ـ تموز ـ الذي نزلت من
أجله عالم الأموات وتحملت كل العذابات
والإهانات والذل من أجله بل تحولت
إلى جثة هامدة من أجله.
فأنا ما نزلت إلا لفك أسره طيلة فترتيْ
الخريف والشتاء
كانت أريشكيجال أختي وعدوتي اللدود
تخبئ لي المفاجأة التي قتلتني مرة أخرى
لقد أعلمتني أريشكيجال أنها أطلقت
سراح تموز، حبيبي، قصدا، عندما
كنت جثة هامدة. أطلقت سراحه ليرتع
في المروج ويعزف الناي لامرأة غيري.
تمكّن المخلوقان من إعادتي إلى الحياة
كنت على وشك الخروج
لولا تلك العقبة التي يبدو أن "أنكي" الحكيم
قد فاتته ملاحظتها والتحسب لها.
ناموس سماوي رسم منذ أقدم الأيام:
أنّ ما من أحد حتى لو كان إلاها يستطيع
أن يغادر العالم الأسفل سالما إلا أن
يحل محلّه آخر
وهكذا بينما كنت أهمّ
بالصعود من العالم الأسفل إذ بـ "الأنوناكي"
أمسكوا بي قائلين
"إن كانت" "إنانا" تريد الصعود من العالم
الأسفل فعليها أن تقدم شخصا آخر
رهينة بدلا عنها".
لم يكن أمامي إلا إبداء استعدادي
لتنفيذ هذا الشرط لكي يسمح لي بالمغادرة
ولضمان تنفيذ الشرط أرسلت أريشكيجال
معي عفاريت "الجلا" التي لا تعرف الشفقة
لجر البديل إلى عالم الظلام. أو أن يعيدوني
بالقوة إلى العالم الأسفل إن أنا لم أف
بوعدي.

خرجت في موكب من العفاريت والأشباح
صعدنا جمْعا يسير إلى مدينتي "إيريك"
يتقدمني العفاريت وهم:
"الجلا" الصغار" بحجم قنا الرمح
"والجلا" الكبار" بحجم قنا السياج
التصقوا بخاصرتي
الذي كان أمامي وإن لم يكن وزيرا
فإنه يحمل صولجانا بيده
والذي كان إلى جانبي وإن لم يكن رسولا
فقد شدّ مدقّة الحسك إلى خاصرته
الذين تقدموني كانوا مخلوقات لا تعرف
الطعام ولا الشراب ولا تأكل خبز
التقدمات ولا تشرب خمر القرابين،
تخطف الزوجة من حضن زوجها
وتنزع الطفل من صدر مرضعته.
وكان أول من صادفته في مسيرة هذا الموكب
ننشبور وزيرتي، المخلصة التي لم تكد ترى
سيّدتها عائدة من العالم الأسفل وإلى
جانبها مسوخ ـ الجلا ـ حتى ارتدت
ثياب الخيش وجثت على ركبتيها معفرة
وجهها بالتراب
أمسك العفاريت بها متلهفين للقبض
عليها بديلا عني
أوقفتهم قائلة:
"هذه وزيرتي ذات الكلمات المخلصة
رسولة كلماتي الصحيحة
التي لم تخفق في تنفيذ تعليماتي
ولم تغقل كلمة نطقت بها"

ثم ذكّرتهم بانّها هي التي طافت المعابد
معبدا إثر معبد والدموع تسيل
من عينيها تسترحم الآلهة أن ينقذوا
سيّدتها من براثن أريشكيجال إلى أن
استجاب أنكي أخيرا إلى توسلاتها
خاب أمل العفاريت في المسعى الأول
مع "ننشبور" وخابوا في المسعى الثاني
مع إبني "لولال" وكانوا كلما التقوا
بواحد من حاشيتي عرضوا عليّ خطفه
فداء لي فكنت أجد لكل واحد صنيعا
يشفع له.
إلى أن بلغوا "إيريك" مدينتي العظيمة
وبقعتها المقدسة "كلاب"
هناك وجدت زوجي "تموز" مرتديا
حلّة فاخرة جالسا فوق عرشه الرفيع،
ينفخ نايه لامرأة غيري
لا يبكي ولا ينتحب ولا يعفّر
وجهه بالتراب حزنا على زوجته التي يحطّم
القلب منظرها، وهي محاطة بالعفاريت
والغيلان.
خلعني الغضب
سلطت عليه عيني: عين الموت
نطقت الكلمة بحقه: كلمة الغضب.
أطلقت صيحة في وجهه: صيحة التأثيم
التفتّ إلى ـ الجلا ـ:
"أما هذا ...فخذوه"
أسلمته بيدي إلى أيديهم
كان ـ الجلا ـ ينتظرون ضحيتهم بصبر نافد
وحين وقع " تموز" بأيديهم شدوا وثاقه
وأوسعوه ضربا وتعذيبا دون أن تأخذهم
به رحمة أو شفقة تمهيدا لنزوله إلى عالم الأموات

عندما أدرك "تموز"ما هو فيه من محنة وشقاء
راح يشتكي للآلهة ما فعلته به.
ذهب إلى صهره "أوتو" إله الشمس:
ــ"إيه"أوتو" أنا صديقك أنا الفتى الذي تعرفه
اتخذت أختك زوجا
فنزلت إلى العالم الأسفل
لأنها نزلت إلى العالم الأسفل
استبدلتني بها لأكون عوضا عنها في العالم الأسفل
إيه "أوتو"، أنت القاضي العدل لا تدعني أموت".
ولكن العفاريت لم تتراجع عن تعذيب الإله المنكود
رغم هروبه واختبائه في إحدى الحظائر.
لاحقوه.
دخل الحظيرة العفريت الأول
وضرب خدود "تموز" بمسمار طويل نفاذ
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الثاني
فراح يضرب وجه "تموز" بعصا الراعي
ثم دخل إلى الحظيرة العفريت الثالث
وأزال ما في الممخضة ورماها خاوية
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الرابع
فرمى الكوكب المقدس عن مشجب تعليقه
ثم دخل الحظيرة العفريت الخامس
فحطم الممخضة الخاوية من اللبن
وكسر الكوب
"تموز" لم يعد من الأحياء
وحظيرته قد راحت نهبا للرياح

كان "تموز" قبل أن يرحل إلى العالم الأسفل
قد أحسّ دنو أجله
كان قلبه مفعما بالدمع
مضى إلى الصحراء
شدّ إلى عنقه الناي وصاح نادبا:
"أقيمي مأتما،
أقيمي مأتما أيتها الصحراء
أقيمي مأتما
بين سراطين النهر أقيمي مناحة
ولتنطلق من أمّي صرخة عويل
يوم أموت لن يكون عندها من تهتمّ به.
على الصحراء، مثل أمّي عيناي تسكبان الدمع
مثل أختي الصغيرة، عيناي تسكبان الدمع"

وقد ظلّت الصّحراء تردّد تلك
المناحة طوال غيابه
ناح الحصّادون "تموز" في حقول الربيع
وتمثلوا ميتته القاسية و عذاباته وآلامه
وحمّلني العامّة والخاصّة إثم موت
تموز ووزره ونسوا كيف نزلت
عالم اللاعودة من أجله ونسوا
الحلّة الفاخرة التي كان يلبسها
والعرش الفاخر الذي كان يعتليه
بينما كنت خرقة
مرمية في العالم الأسفل.
ولم يكتف العباد بالإبقاء على تموز ضحية
مسكينة في قلوبهم بل حولوه إلى بطل
وطرف مهم في ملحمة الفداء، يمضي
إلى الموت ببطولة لينجز دوره:
"انهض أيها البطل وامض في
طريق اللاّرجوع ...هاهو يغيب...
هاهو يغيب في حضن الأرض...
سيغمر أرض الأموات بالخيرات العميمة
امض أيّها البطل إلى الأرض البعيدة
خلف الأبصار".
عيرني عشيقي القديم جلجامش
ـ البطل الشمسي ـ بكل عنجهيته الذكورية
متحديا مقام الآلهة، يذكرني
بمسؤوليتي عن مصير تموز:
"أي حبيب أخلصت له الحبّ إلى الأبد؟
وأي راع أفلح في إرضائك على مرّ الأزمان؟
على تموز زوجك الشاب
قضيت بالبكاء عاما إثر عام".
ولأكفر عن ذنبي:
خدشت وجنتيّ، مزّقت فمي
نظرت إلى خاصرتي، شققت ثوبي
صدر عني نواح مرّ على السيّد المعذب
وبكيت كل سنة وعبادي على تموز القتيل
كنت أفتتح المناحة كل عام بنفسي
لتشاركني فيها جموع الندابين
"ذهبوا بزوجي الحبيب, زوجي الحبيب
زوجي ذهب يبحث عن طعام، فتحول إلى طعام
عريسي اقتيد إلى الأسر
لم يعد يستحم في "أريدو"
لم يعد يعامل أم أنانا كأمه
لم يعد يؤدي مهمته الحلوة بين عذارى بلدته
لم يعد يتنافس مع فتيان بلدته
لم يعد يتقلد سيفه بين "كرجرا" بلدته
النبيل الذي لم يعد غاليا على أتباعه"
وكنا نقيم أيّاما مخصوصة للمناحات
إحياء لذكرى "تموز" كل سنة
في مختلف المدائن السومرية
نؤدي الطقوس
ومراسم الحزن المنصبة على موته
وكنت أبقى وحيدة إلى مرقد تموز
حينما تنام الندابات تعبا
لأغني نائمة:
" أنت يا من ترقد أيّها الراعي
أنت يا من ترقد قم ارع شؤوني
تموز أيّها الرّاقد قم ارعها
نهارا منتصبا فلترع شؤوني
ليلا مضطجعا، فلترع شؤوني"

غير أن النواح وحده لا يعيد الإله الميّت
كان لا بدّ من قيام الإلهة نفسها
بتخليصه من ربقة الموت
ولم يكن هناك حل سوى النزول
بنفسي إلى العالم السفلي واستعادته
من أريشكيجال
أريشكيجال التي فرحت
وتهللت أساريرها عندما علمت بنيّتي
العودة إلى العالم الأسفل مكسورة
منزوعة من زينتي،، وثيابي،
مسلوبة من صولجاني
ومن تعويذة الولادة المرصعة على صدري
مخلوعة من تاج رأسي.
كنت أعد نفسي
للنزول إلى العالم الأسفل
وقد أخذني دوار...
أحسست شيئا يتخبط
في أحشائي
ويصرخ:
" لا تنزلي إلى العالم الأسفل
لا أريد أن أولد في العالم الأسفل
لا أريد أن أولد في الظلام
لا أريد أن أولد في عالم أريشكيجال
أيتها الأم الكبرى
لا تنزلي
إذا نزلت من سيعمّر الأرض
بعدك-

أنت الأم الأولى
ولدت كل البشر من رحمك
وأنت ملكة الكون
إيقاع جسدك ينبض كما إيقاع الطبيعة
أنت الأم وأنت الأرض
أنت الأنثى وأنت الخصب
أنت الزرع وأنت القمح
أنت الحياة وأنت الولادة التي لا تنضب
يفيض جسدك بأجساد أخرى
كما تفيض الطبيعة بكل ما حولك
كما تفيض الأرض بالزرع والشجر والثمر
أيتها الأم الكبرى
برحمك اتسعت ذاتك إلى ذوات أخرى
ازدوجت جسدا ونفسا مع الآخرين وتكاثرنا
اكتشف الرجل ذلك فذهل
وخر راكعا تحت قدميك.
يهب جسدك طفولة الانسان
دفء وأمنا، سكنا وسلما
لا أم لنا إلا أنت
إذا نزلت فقدنا فردوسنا إلى الأبد.
لا تنزلي إلى عالم الأموات
أنت الرحم الكوني
مصدر كل حيّ
تسحبين الإنسان من بطنك
التف حولك النساء والرجال
وتشكّلت أوّل وحدة إنسانيّة
هي الخلية العائلية
استقال منها الأب مبكرا واختار الكون الخارجي
أيتها الأم الكبرى
أنت وحدك تعلمين أن عاطفة الأم نحو أولادها
وعاطفة الأولاد نحو أمهم
هي العاطفة الأصلية الأولى
وكل ما عداها كذب وزيف
أيتها العظيمة لا تنزلي بي إلى العالم الأسفل
فأنت على الأرض سيّدة الأشجار والحيوانات
والأفاعي
مستوية على الجبل البدئى
تحملين الرمح والصولجان
أنت مصدر الأشياء وسند الأحياء
مالئة الكون بالخصب وأسباب النماء
كنت الطبيبة الأولى.
بسبب بحثك الدائم عن الأعشاب والجذور
حتى تعلمت فنّ خصائصها
السحرية في شفاء الأمراض
وأنت أول من سمع صرخة جوع
الرضيع الأولى و صرخة عطشه.
حوّلت الزرع إلى غذاء
ويوم اكتشفت الزراعة
بسبب تنقيبك الدائم
عن الأعشاب كغذاء
كان الرجل تائها ـ ولايزال ـ
متنقلا من مكان إلى مكان
ملاحقا الطرائد في عصور الصيد الأولى
صانعا الدمار في عصور الحرب الأخيرة
كنت الكاهنة الأولى
والعرّافة الأولي
والسّاحرة الأولي
بأسلحتك السلمية جعلت الجنس الأضعف بدنا
أقوى قدرة وخلقا
كنت المسؤولة الأولى
عن حياة الأطفال وما زلت
رغم كل الانقلابات التي حصلت...
أنت أول من أحسّ برجفة
الوليد حين ولد
حوّلت جلود الحيوانات إلى
ملابس وأغطية ومفارش
فكنت النسّاجة الأولى
تحيكين نسيج الحياة.
وتغزلين خيط القدر.
ملكة الأرض
وملكة السماء
ولدت البشر والآلهة
تختفي الشمس كل مساء
فتولدين منها كل صباح جديد
أنت القمر الخصب
أمّ الأعشاب ومعلّمة النساء
تشبعين الأرض وتزرعين الحقول
حتى دم النساء ينمو ويتناقص
حسب ضوئك
تتحاشاه الصبايا حتى لا يصبحن كبيرات.
أنت التي أظهرت للنجوم طريقها
وأنت ضوء الشمس والقمر
والبصيرة والبصر"
رقصت عشتار فرحا
لما علمت بما يتحرك في بطنها
ثم ناحت ألما على فراق تموز
ودّت لو زفّته بنفسها الخبر
ثم صرخت :
" كل ألوهيتي وعزّتى وجاهي
لا يساووا شيئا
إذا لم يكن تموز بجانبي
يعزف الناي من أجلي
ويسمعني لحن الحبّ"
دوّت صرختها في أرجاء العالم السفلي
انتفضت أريشكيجال ونادت وزيرها "نمتار"
ـ "امض يا نمتار
واقرع باب "الإيجالينا".
زيّن العتبة بحجر الأريتو
ادع ـ الانانوكي ـ ودعهم يجلسون
على عروشهم الذهبية
لإرداء عشتار جثة هامدة
ورميها بعيدا
أمّا تمّوز زوجها الشاب
فخذوه واغسلوه بماء طهور
وضمّخوه بالعطور الطيبة
ألبسوه عباءة
ودعوه يعزف نايه اللاّزوردي
ولتحط به كاهنات المعبد يهدّئن
من خواطره
فالرّبيع ينتظره.
يصل تموز بحلّته الطقوسية في موكب
تحيط به عذراوات المعبد
بأيديهن الشموع وسط غيمات "البخور"
تصيح أريشكيجال
"أفسحوا له طريقا إلى العالم الأعلى
لقد أصبح طليقا"
ـ تموز يرفض الخروج بمفرده
يتّجه نحو عشتار
يمسك بيدها
يلتفت إلى أريشكيجال
"لن أخرج إلاّ مع عشتار"
تنتفض أريشكيجال غيضا
تصيح في ـ الأنانوكي ـ...
لكن تموز وعشتار كانا قد خرجا.

التعريف بأسماء الآلهة

عشتار: إلهة الحب و الخصب عند البابليين وهي إنانا عند السومريين و كثيرا ما يتداخل الإسمان في الحضارتين.و عشتار تعني- عيش الأرض- عند البابليين وهي إلهة السماء أيضا و عابرة السماوات و نور السماوات.عشتار هي أشتار : التسمية السامية لإنانا و إشتار هي نفسها "أستير" المذكورة في العهد القديم. و عشتار هي كوكب الزهرة ابنة إله القمر-سن- و يعادلها عند الإغريق أفروديت و عند الرومان فينوس.

تموز : إسم دموزي كما جاء في "الكتاب المقدس" وهو إله راع تقدم لخطبة عشتار إلهة الحب و الخصب وقد اقترن إسمه باسمها وبقضية الخصب أيضا فكان يسمى إله الخصب والزراعة دون أن يكون هو نفسه إله زراعيا

سن: إله القمر لدى أهل الرافدين وهو ابن الاله ـ إنليل ـ الهواء من حبيبته "ننليل" ولسن اسم آخر هو "نانا" إنليل: إله الهواء والعاصفة عند السومريين

أريشكيجال : إلهة العالم الأسفل في بلاد الرافدين. سيدة مطلقة للعالم الأسفل لها أسماء أخرى "أرجالا" و"كيجال" كانت فتاة عذبة وإلهة سماوية اختطفها الإله "كور" وحش العالم الأسفل لتعيش معه هناك وعندما قتل في إحدى معاركه الكثيرة أصبحت سيدة مطلقة للعالم الأسفل.

أنكي : إله المياه العذبة الباطنية والمتحكم المطلق فيها يفجرها أنهارا أو ينابيع في نظام محكم بديع وهو المتحكم المطلق أيضا في مادة الطين الأليفة لديه باعتباره يسكن الأعماق المائية.وهو إلى جانب ذلك إله المكر والدهاء والحيلة تماما كالماء الذي يعرف طرقه وقنواته متحايلا على الحواجز و العوائق كما أنه إله الحكمة والمعرفة العميقة تماما كالماء الساخن.

جوجالانا: الرب زوج أريشكيجال أخت عشتار.

أوتو : إله الشمس عند السومريين وهو ابن إلاه القمر ـ سن ـ وحفيد ـ إنليل ـ الهواء الذي أنجب القمر من حبيبته ـ ننليل ـو"أوتو" إسمه عند البابليين و "شمس" وعند الكنعانين "شبش".