في خطوة غير مسبوقة، نفّذت قوات الأمن الإسرائيلية حملة اعتقالات طالت عددًا من المحامين الفلسطينيين العاملين في خدمة الأسرى الأمنيين.
بعد أكثر من شهر قضاه هؤلاء المحامون في غرف التحقيق ونقل ملفاتهم إلى النيابات العامة والعسكرية، حرّرت بحق تسعة منهم لوائح اتهام تم تقديمها لمحاكم حيفا والقدس المدنيّتين ومحكمة عوفر العسكرية.
الجديد المقلق في هذه القضية هو اعتماد ما قام به المحامون، في أثناء تأدية واجباتهم المهنيّة، ليكون أساسًا عليه بنيت مجموعة الاتهامات، وجلّها تقديم خدمات لتنظيمات فلسطينية محظورة، وإقامة اتصالات مع "وسطاء معادين" و"جهات معادية".
من السابق لأوانه الدخول في تفاصيل الاتهامات والقراءة الإسرائيلية للأفعال المنسوبة لهؤلاء المحامين، لكننا نشهد ممارسةً إسرائيلية مدروسة، عند اكتمالها ستصير سابقة تطبق نتائجها على جمهور المحامين كله.
ما زالت القضية في بداياتها، فأمر منع النشر رفع قبل أيام معدودة، ومع ذلك لم نشهد أي تحرّك جدّي من قبل المحامين والمؤسسات القانونية، وتلك التي تعنى بالدفاع عن الحرّيات.
أخشى أن يكون مرد هذا الصمت والتلكؤ هو إيمان الصامتين بقاعدة: "حيّد عن ظهري بسيطة"، فالنشاطات الموصوفة في لوائح الاتهام، والخدمات التي تدعي إسرائيل أنها محظورة، قدّمها هؤلاء المحامون لتنظيم"حماس" وبعض من قادته، وهي لذلك بعيدة عن "ضواحينا"، وعند البعض هي صمت بطعم الشماتة.
وكي لا يساء فهمي، أؤكد أن جميع التنظيمات الفلسطينية تتصرف بنفس هذه الطريقة، فالحزن الفلسطيني لم يعد كلّه أسود، بل أصبح ألوانًا وكذلك الفرح. سادت الفُرقة قانونًا وشرعًا والنضال "دُكْننَ" فغدت الأولوية تقتضي المحافظة على بضائعنا وعلى زبائننا.
القضية معقدة وذات أبعاد عديدة وتستدعي، لذلك، متابعة حثيثة على جميع جبهات العمل، وفي طليعتها استنفاد كل هوامش التباحث والنقاش مع الجهات الإسرائيلية ذات الشأن، وذلك ليس فقط من أجل تأمين أكثر النتائج إيجابية للمحامين المعتقلين، بل لتخفيف الأضرار التي قد تترتب على نهايات هذه المحاكم، والتي سيكون الأسرى الأمنيون ضحاياها الأساسيين.
لم تكن مهنة المحامي العامل أمام محاكم الاحتلال الإسرائيلية سهلةً، ودائمًا رافقتها المخاطر والمتاعب، وأحيانًا جحود بعض الجهات والمخدومين. فلقد تزامنت أحداث القضية أعلاه مع حملات هاجمت وانتقدت عمل المحامين في المحاكم العسكرية، وكان الأولى بالجميع أن ينبروا ويقفوا بجانب المحامين المعتقلين ويؤازروهم.
كلّ المصاعب تهون وتصغر أمام تعيير المحامين بموافقتهم العمل والتعاطي مع القضاء العسكري للاحتلال الإسرائيلي، والأكثر إيلامًا عندما يساق هذا الادّعاء على لسان وطني وأكاديمي ويعرض على أنه اجتهاد كاشف لخلل يستوجب محاسبة المحامين عليه "كالمتعاونين" مع سلطات الاحتلال.
من يطرح هذه المسألة وكأنها شأن حق المحامين اتخاذ القرار فيه والموقف إزاءه، فهو يغلط ويغالط، لأن الاعتراف بقانونية المحاكم العسكرية، صلاحيتها، مكانتها وولايتها، هو قضية على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تتباحثه وتتخذ إزاءه موقفًا.
المأساة، وكم صرخنا إنها المأساة، أن إسرائيل أنهت احتلالها في العام ١٩٦٧ وكانت جاهزة لتفعيل منظومتها القضائية العسكرية من يومها الأول، بينما غاب الموقف الفلسطيني الوطني. مرّت أربعة عقود ولم تجر الحركة الوطنية، مجموعة أو فصائليًا، أي جردة حساب وإعادة نظر، فتوالت السنين ووقفت كوادر هذه الحركة وقادتها أمام هذه المحاكم وقبلوا أحكامها واقعًا محتومًا، وأمرًا من السماء مختومًا.
من يضرب هذه الحركة على أيديها ويجبرها على قبول هذا الواقع؟ من يمنع قائدًا (ألم يفعل ذلك مروان البرغوثي وأحمد سعدات وقلة أخرى من المناضلين) أو كادرًا أو تنظيمًا أو حزبًا أو حركةً من اتخاذ موقف يقضي بعدم الاعتراف بهذه المحاكم وقوانينها؟
المحامون ليسوا عنوان هذه المسألة، ومن يحاول تحميلهم وزرها يطبطب لمن كانوا السبب، ويغمغم على الحقيقة ويزايد على واقع عانى فيه المحامون من أيام حنا نقارة وفيليتسيا لانجر وليئا تسيمل وعلي رافع ووليد الفاهوم وإلى يومنا هذا.
البعض يلوم المحامين على سياسة عقد الصفقات مع النيابات، وكأن ما يجري في المحاكم العسكرية هو اختراع فريد لا مثيل له في محاكم العالم وداخل إسرائيل؟
بعيدًا عن تقييم هذه الوسيلة القضائية بشكل مهني وموضوعي، دعوني أسأل وأتساءل كيف تبدأ الحكاية؟
فهل اتخذت الحركة الوطنية موقفًا يقضي بعدم الاعتراف بالمحاكم العسكرية وعارضه المحامون؟
هل التزمت الحركة الأسيرة بمثل هذا الموقف وقلبه المحامون؟
ألم يلتزم المحامون بمناشير القيادات الموحدة وجميع تعاليمها في سنوات الانتفاضة الأولى؛ قد يصير التاريخ رماديًا لكن الذاكرة تبقى دومًا حمراء.
إسرائيل تمارس احتلالها بكامل "مجده" وجدّها، وفلسطين تعيش ليلها وجعًا في ليلة الراية البيضاء. نعيش في الزمن الرديء. فعلى المستوى الشخصي مضت ثلاثة عقود دافعتُ فيها عن آلاف من المناضلين والمناضلات. لم أستأثر بأفراد فصيل، ولم يستثنني قادة تنظيم، فكلّهم كانوا إخواني. واليوم، نعيش في زمن الجحود، مناضلون تغيروا وبعضهم بدأوا ينتقون المحامين على "الهوية"، والتضامن يتم أيضًا حسب "الهوية"، فكيف للشماتة لا تحتفل وتتجبر؟
نعيش في زمن العجز. الوفاء نزيل المتاحف. دعوا المحامين يجتهدون وخذوا "مساحيكم بني الثوار" وتذكّروا أنّ قيصر ماض في اكتتابه، وفي العتمة، هناك وراء القضبان من هم بحاجة لأبناء الشمس المخلصين يعملون فهم.. كالنمل "عندما يدهمه العدوان، لا يوكل للغير حروبه.. فأيّها النمل لك المجد، ودامت لك روح لم تصلها أبدًا، عدوى العروبة".