استطاع المنجز السردي العربي في العصر الراهن -رغم التحديات المعاصرة– أن يخترق الفضاء ويختزل الزمن.
لا شك في أن معظم المدونات السردية التي أنتجها الخيال العربي قبل الهزيمة، قد اعتمدت على تقنيات وتراث الآخر الوافد، مما جعلها نصوصا تكاد تكون تابعة له، الأمر الذي جعل المبدعين بعد الهزيمة (1967) يلتفتون الى التراث والمخزون الثري للمدونة العربية القديمة (إبداعية كانت أم دينية، أو تاريخية أو فلسفية .. إلخ)، من هذا المنطلق تأسس تراكما إبداعيا أدى الى تشكل موجة جديدة تزخر بإبداع عربي محمل بروح وتقنيات عربية أصيلة، فكانت تجربة مغايرة لما ساد لا تتفصل عن الجذور، ولا تتناسى السائد (جمعت بين الأصالة والمعاصرة).
تجلت ملامح التطورات الرهيبة على الصعيد المحلي والعالمي في النص التسعيني، الأمر الذي جعل المبدع يحمل في طياته بركانا تنصهر فيه رؤية ( الماضي، الحاضر، المستقبل).
ويبدو أن إبداع إبراهيم الدرغوثي لا يخرج عن هذا الإطار فنصوصه مشاكسة تحمل في طياتها استراتيجية مضادة للقارئ وتنفتح على أفاق القراءة والتأويل، تتحرك الشخصيات السردية لهذا القاص في واقع متعفن، لذلك يعمد هذا الأخير من خلال هذه الشخصيات أن يكشف العالم الخارجي ويفضح الممارسات اليومية التي تبعث عن الغثيان مستندا في ذلك إلى ذاكرة مثيولوجية منصهرة بالمقدس والمدنس، مزدحمة بالمواقف والصور العجائبية المدهشة.
لم يتبع ابراهيم درغوثي منطق السرد القصصي والروائي الذي خلا، وإنما أسس هذا القاص إمبراطوريته الأبداعية الخاصة به، فهو يريد سردا بلا أوهام، فظا فاظظة الواقع المعيش لذلك يتبع طريقة الصدمات، فهو بطريقة أو بأخرى يصدم المتلقي ويحدث له خلخلة عقلية تجعله يسهم في إعادة بناء هذا الواقع العفن من جديد، ربما تكون طريقة الدرغوثي وسيلة لنقل الحقيقة التي غطى شعاعها عيوننا عيوبنا، فبتنا نسير في بريقها مخدرين منبهرين دون أن نرى شيئا.
نصوص ابراهيم درغوثي صدمات كهربائية وهي تشبه في ذلك السلاح في معركة التوعية والتي هدفها الحقيقة العارية بأسلوب قبيح متمرد على المقدّس – المحرم (الدين، السياسة، الأخلاق)، ويمكننا أن نميّز ونحن ندخل عالم هذا القاص بينه وبين عوالم الروايات الأخرى. إذ تختلف نظرته عن نظرة الأخرين، فالفرق يمكن في سرد الواقع وسرد الحقيقة، فسرد الواقع كما هو، لا ينبهنا إلى شيء لأننا جزء من تفصيله فهو يمر من أمامنا من خلال العين السحرية التي تطل على العالم عبر الشاشة العادية، لكن شاشة هذا القاص داخلية وخارجية تنقل اللامرئي وتضع أمام المتلقى كل الواقع في آن واحد عبر بساط اللغة السحري بطريقة تقنية، فنيّة مكثّفة مثل الحلم، وطريقة التكثيف السريعة تتم في كيان المتلقي داخليا وخارجيا مما يخلق التوازن فيكتشف هذا الأخير الحقيقة الناصعة من خلال هذا الواقع المكثّف المرمّز الذي ينصهر فيه الوعي باللاوعي والخارق بالعادي مما يشكل فسيفساء من لوحة غربية يشع تحت رسومها المسكوت عنه في النص، فتنكشف الحقيقة من أركيولوجيا اللغة.
يرحل ابراهيم درغوثي عبر طبقات اللغة ليرتاد أماكن مستحيلة، وشخصياته ليست مسجونة في سجن الجسد بل هي متحررة حتى بعد فقدان الجسد، فدور الشخصية عنده لا ينتهي بعد فناء الجسد وهذا ما سنكتشفه في (رواية القيامة .. الآن) إذ ترحل الروح المنفصلة عن الجسد لتخبر عن وقائع عجيبة وحقائق جلية لأن الرؤية من الأعلى ليست كالرؤية من الأسفل.
يتقاطع القاص في رحلته التخيلية مع المتصوفة.، لكنه يتجاوزهم فإذا كان أخر مقام يرتاده المتصوف هو مقام الرؤيا وعندما ينكشف له السر لا يبوح فالبوح موت في العرف الصوفي، فإن إبراهيم الدرغوثي يبوح للقارئ على لسان سارد رفع عليه القلم (مجنون).
فمسرح الدرغوثي كوني ترحل فيه الشخصيات إلى أرض الله الواسعة والسماء بتفاصيلها الغيبية، ثم إلى ما بعد الحياة فهو يمزج بين الدنيا والآخرة ويتحرك بحرية. ففقدان الحرية هو الذي جعل السارد يبحث عنها في تفاصيل الكون، وهذه الجرأة في اسكناه عوالم غريبة وغيبية وعجائبية في الآن نفسه جعلته يكسر كل الطابوهات بحثا عن روح الإنسان الحقيقي، بل هو يبحث عن ذاته التي هجنت مع الذوات الأنسانية المزيفة.
لم يجد الدرغوثي هذا الإنسان، الأمر الذي جعله يعقد في جل قصصه ورواياته حواره مع الحيوانات ومع المدنس، ويبدو جليا ان ممارسة الكاتب لمسخ الكائنات البشرية نابعة من عدم اقتناعه بأشباه البشر، ومسخ الكائنات له دلالة رهيبة فالإنسان الممسوخ هو الإنسان الذي لا فائدة منه ترتجى.
ظاهرة المسخ واضحة في جل أعمال الدرغوثي فهو في الخبز المرّ يمسخ الرجل إلى كلب والمرأة إلى عقرب إذ تنتفي صفة الوفاء من الكلب لتتحول إلى خيانة عندما ترتبط بالرجولة. وفي الشبابيك المرأة والرجل كلاب مسعورة تبحث عن اللذة.
فتنحط البشرية عندما تتلبس بالخيانة واللذة إلى طبقة الحيوانية وفي (القيامة .. الآن) يمسخ أرباب الأرض إلى أصنام وخنازير ومصاصي دماء (دراكيلا)، إيمانا منه أن الصنم واحد مهما تعددت أشكاله فالإنسان يتساوى مع صنم البرونز، يتساوى مع الدولار، فيتشيأ الإنسان ويصبح مثله مثل المادة الصماء التي تصلح للمتاجرة، المتاجرة بالعرض والمتاجرة بالأرض من أجل إشباع اللذة.
ويمسخ المستضعفين إلى حمام، وإلى حيوانات أليفة كالخروفان والكباش... إلخ، فهؤلاء المستضعفون يصلحون للذبح في المناسبات، كما ينبت قرونا للذين يرفضون الحرية كما في (وراء السراب .. قليلا).
فالذات الممسوخة عند هذا القاص هي إنسان العصر الراهن الذي يعيش الظلمة، النار، الحرب، الفوضى، الجنس، الجوع، وهو فضاء العولمة، الذي تنعكس مرآته على نصوص الدرغوثي. لتشكل المشهد الجنائزي الذي تمر به البشرية اليوم، فهو عالم الظلمة والظلام يبحث فيه الكاتب عن مكان مفقود لا وجود له في أرض الواقع، ولعل النهايات التي تؤول إليها جل أعمال القاص السردية تنم عن فقدان الأمل في الاستقرار للذات العربية التي ملكت كل شيء في يوم ما ثم أضاعته.
من خلال هذه الجولة السريعة داخل عالم الدرغوثي ارتأيت أن أقدم قراءة تأولية لبعض أعماله مستعينة بالمتعاليات النصية (لجيرار جينات) والمقاربة السيسيونصية لبيار زيما وجل هذه المقاربات تنزع نحو السيميائية فإذا كان غريماس لا يفرق بين السيميائية والشعرية، بل يعتبرهما وجهان لعملة واحدة. فإن شعرية جينات استطاعت أن تفيد من كل الشعريات السابقة عليها لتنتهي في أخر المطاف إلى أن شعرية النص تكمن في المتعاليات النصية. التي تحمل في طياتها معمارية النص والتناص والميتناص والنص المحيط، وكل هذه العناصر هي بذور يتنامى فيها النص، وهي التي ينبغي على القارئ أن يرتادها كي تكون نظرته شمولية للنص، محاولا أن يبحث في التقنيات الفنية والدلالية.، أي أن يجمع بين سؤالين (كيف وظف الأديب ذلك العنصر ولماذا). فكيف= التقنيات الفنية، ولماذا= المعاني الدلالية والأمر نفسه بالنسبة ليبار زيما الذي يترع نحو السيميائية.
لكل كاتب طريقته في سرد الأحداث وطريقته في استحضار (الأسطورة، الدين، الثرات، التاريخ .. إلخ) ليحملها بمداليله الخاصة للعالم، ولعل ابراهيم الدرغوثي يطل من نافذة تونسية الأصل ليستقطب معاني تحمل دلالة شمولية وعالمية، كما أنه يحاول أن يمزح بين الأجناس فكأنه بذلك يمحي الحدود الفاصلة لتتعالق القصة بالرواية بالملحمة بالقصيدة، فهو يتمشى مع عصره شكلا ومضمونا فنحن في عصر الكوكتيل (أسطورة+دين+تاريخ+فلسفة)، (وشعر+قصة+رواية+ملحمة) كل هذه الأمور تشكل نص الدرغوثي وهو نص حامل لكل المورّثات.