يقول "محمود درويش: «بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان».
تنشغل السيرة الذاتية بتفاصيل يومية لحياة السارد، حيث تحاول الاحتفاظ بذاكرته أو تسجيل أهم محطات حياته إذا ما كان فيها ما يثير الاهتمام أو ما يكون بمثابة محطات تعليمية تشكل قدوة ما، وقد ظهرت "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش ضمن المساءلة الموضوعاتية أو الأجناسية، إذ تثير كثيرا من التساؤلات حول شكلها ونمطها السردي، حيث تركز على الجوانب النفسية بإيراد انشغالات الذات في يوم من أيام حصار بيروت ،إضافة إلى اشتغالها على الحلم. ويعيد درويش فيها تفاصيل لقاء بصديقة يهودية التقى بها عام 1969 في حيفا. إذن كيف كان سرد الذاكرة عند محمود درويش؟ هل احتفظ بالتموضعات المنطقية للحدث والشخصيات أم غير مساراتها نحو الاختلاف والمغايرة؟ وإن كان الأمر كما بدا في الخيار الثاني: ما دوافعه لخرق النمط السردي؟
تتداخل الأزمنة والعوالم في الرواية، بل وترد في شكل مكثف، حيث تصبح هذه الرواية ذات حمولات سردية وواقعية وتاريخية مختلفة، بل وتبرز رؤية الشاعر ومواقفه إزاء الكثير من القضايا السياسية والدولية العالقة. خاصة أحداث فلسطين ولبنان. إذ يمكن اعتبار ما ورد فيها سيرة نفسية. إذن فالرواية تصور تفاصيل يوم واحد بدا طويلا لكثرة الغارات على بيروت ـ من الساعة الثالثة صباحا حتى الليل،حيث كانت الذات تجد ارتباطا وتقاربا واضحا بين وقائع اليوم وما وقع في الماضي والمخبأ في ثنايا الذاكرة،مثل دخوله السجن في فلسطين،ولربما نجد مبررا في هذا الترابط كون مسببات الحدثين واحدة "اليهود". إضافة إلى سرد بعض الأحداث الماضية تأريخا لأزمته إذ يقول: "جئت إلى بيروت منذ أربع وثلاثين سنة. كنت في السادسة من عمري. وضعوا على رأسي قبعة وتركوني في ساحة البرج كان فيها ترام، ركبت في الترام. سار الترام على خطي حديد متوازيين. صعد إلى ما لا أعرف."[1]
العنوان: المفارقة والعجائبية
يرد العنوان الرئيسي في صيغة مشوشة تربك القارئ، حيث يحمل معنيين متضادين: الذاكرة والنسيان، فالذاكرة بما تحمله من دلالات مختلفة تقوم بالحفاظ على اللحظة التاريخية المنفلتة بكل ايجابياتها وسلبياتها واستيعابها زمنيا، وذلك حينما تحاول الذات استدعاء الجزء المغيب الذي يساير أهدافها ويعكس هواجسها، لكن ما الذي تؤرخ له ذاكرة محمود درويش؟ يصطدم القارئ بكون هذه الذاكرة تؤرخ للغياب/ النسيان، وكأنها تحاول طرد اعتباراتها نحو دائرة التجاهل والانقضاء، إذ تستعجل إقصاءها وجعلها في حكم العدم، لأنها ذاكرة مسيجة بالوجع والآلام. لذلك تتحول مهمة الذاكرة من الحفظ والاحتواء إلى التغييب والتلاشي وهذا يعكس مأزق الذات وتأرجحها بين موضعية واضحة ضمن مسارات التذكر، وانتفائية ضمن مسارات النسيان، فتبدو مشتتة ومذهولة:هل تحتفظ بها أم تتجاهلها؟ وربما هذا الأمر ناتج عن رغبة الذات في الاحتفاظ ببعض اعتبارات الذاكرة كونها تعبر عن هويتها وتاريخها الذي يحدد ملامحها وانوجادها، لكن في ذات الوقت يتمنى زوالها للمواجع الموجودة فيها، حيث تبدو آملة في التحرر والتخلص من مظاهر الدمار والخوف والعنف المشهودة أيام حرب بيروت. لكن هذا التحرر أفضى إلى فعل ذاكرة ولحظة تاريخية محكية ومقاومة للنسيان وليس إلى النسيان كما أرادت الذات وتمنت. إذن كان العنوان الرئيسي دليلا للمفارقة وربما في تعمد الكاتب إيرادها إشارة إلى حياة الحروب المليئة بالمفارقات.
وهناك قراءة أخرى: إن عنوان الرواية يوحي بأن النص يحاول منح الذات ذاكرة جديدة يتم صياغتها وفق اعتبارات سلطوية محددة (سلطة السياسة ـ سلطة التاريخ المضاد ـ سلطة المجتمع البيروتي). هذه الذاكرة تكون مسيجة بالنسيان حيث يتم تجريدها من صيغة المكان والارتباط العاطفي، لتصبح خواء/ لا ذاكرة. وهذا التفكيك يهدف إلى القضاء على محددات الهوية، وتشتيت المرجعيات لخلق شخصيات باهتة لا تاريخ لها ولا ذاكرة يتم استغلالها خدمة لأغراض سياسية محددة أو تركها في دائرة المنغلق. تتضارب وتتصادم حتى تقضي على نفسها بنفسهاـ التفجير الداخلي ـ ونجد هذا الاعتراف ماثلا في المقطع الموالي: "فلماذا يطالب هؤلاء الذين ألقت بهم أمواج النسيان على ساحل بيروت أن يشذوا عن قاعدة الطبيعة البشرية؟ لم يطالبون بهذا القدر من النسيان؟ ومن هو القادر على تركيب ذاكرة جديدة لهم لا محتوى لها غير ظل مكسور لحياة بعيدة في وعاء من صفيح صارخ؟
أهناك ما يكفي من النسيان كي ينسوا؟
ومن سيساعدهم على النسيان في هذا القهر الذي لا يتوقف عن تذكيرهم باغترابهم عن المكان والمجتمع؟ ومن يرضى بهم مواطنين؟ من يحميهم من سياط الملاحقة والتمييز: لستم من هنا"[2]. وأما العنوان الفرعي فهو: الزمان: بيروت، المكان: يوم من أيام آب 1982. ويترتب على صور تتنافى فيها المعقولية إذ تتجرد من المنطقية. فالزمان يصبح مكانا والمكان يصبح زمانا، وربما يكون هذا الأمر تأكيدا على واقع نفسي مشتت، يفقد تبريره للكثير من الأحداث الواقعة، إذ ما حصل في بيروت من عنف وتقتيل وتخريب يعد جنونا لأن منظمة التحرير الفلسطينية وعدت بالخروج منها ورغم ذلك ظلت الأحداث في تصاعد. ولربما الأمر تعلق بالحركة والثبات. "فالمكان عادة أكثر ثبوتا من الزمان، وحركة تغيره بطيئة نسبيا، أما الزمان الطبيعي فإنه دائم الحركة والتغير. وما حدث في ذاكرة للنسيان أن الزمن النفسي للكاتب قد أوهمه أنه يعيش أطول يوم في العالم، وأن هذا اليوم لا نهاية له، لذلك فإن ثبوت الحركة قد جعلت هذا اليوم يمثل المكان. وكثافة الغارات الجوية على بيروت كانت تغير وجهها وتسقط الجدران فيها بسرعة كبيرة فصارت تمثل الزمان"[3].
نحو كسر معيارية السيرة الذاتية:
تعتبر "ذاكرة للنسيان" سيرة ذاتية لانشغالها بتفاصيل حياتية، ولو أنها تختلف في كونها لا تسرد حياة شخص عبر أزمان متلاحقة وطويلة، فمحمود درويش لا يكتب سيرة ذاتية كما هي متحققة في شكلها التقليدي، وإنما يركز على تفاصيل واقعية ليوم واحد، ولربما التكثيف من الوقائع التي لا تبدو في شكلها المتتابع وإنما في شكلها المتجاور تعبير عن مأساة الفلسطيني وتركيز على أبعادها. لذلك فالذات هنا تعتبر تموضعاتها في شكل سؤال عن الوجود والعدم، حيث الزمن لا ينظر إليه بوصفه مكونا رئيسيا تتحرك فيه الشخصيات بقدر ما يعكس أزمة نفسية يعيشها السارد في حد ذاته، لذا يتضح التركيز على التفاصيل الصغيرة التي يتحقق فيها تصوير المعاناة "صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة ... ثانية واحدة أقصر من المسافة بين الزفير والشهيق، أقصر من المسافة بين دقتي قلب .. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلقة على البحر. ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء، ثانية واحدة لا تكفي لأن أصب الماء في الغلاية. ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب. ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق"[4].
ويصف السارد لحظة مواجهة الموت: "فالموت هو أن ترى الموت"، حيث يغدو سؤالا محيرا حول مستقبل الحضور، هل سيكون مغيبا مثل هذا الوطن المهدد بالزوال، أم ماثلا في صيغة سؤال ينتظر جوابا مؤجلا مما يفترض الاستمرارية، وكأن بالسارد هنا يدفع الموت والعدم المفاجئ بهذا التساؤل. "ما زال الفجر الرصاصي يتقدم من جهة البحر على أصوات لم أعرفها من قبل. البحر برمته محشو في قذائف طائشة. البحر يبدل طبيعته البحرية ويتمعدن. أللموت كل هذه الأسماء؟ قلنا: سنخرج. فلماذا ينصب هذا المطر الأحمر ـ الأسود ـ الرمادي على من سيخرج وعلى من سيبقى من بشر وشجر وحجر؟"[5].
ينشغل محمود درويش بثنائية الموت/ الحياة، وفي حديثه عن التفاصيل الدقيقة لذلك اليوم نلمس رد فعل يحتال على التموضع الساكن الذي يهدد اعتبارات الوطن بالزوال، ليجعل هذه التفاصيل تتحدث بنفسها عن نفسها مالئة الفراغ والعدم بحياة وحركية وإن سيجها الخوف والاضطراب، فما الحرب وكل ما تحدثه من اضطرابات نفسية وانقلابات وجودية إلا تعبير عن مثول في راهنية الحدث، وما الإحساس بالخطر إلا حياة ماكثة في لحظة خوف تحاول دفع العدم عنها بالانشغال بدقائق الأحداث والأمور. من هذا المنطلق تغدو اللغة حياة ثانية تملأ فراغ الكلمات وخواء المدينة، فهي تعمر إذ تكون في حالة انشغال أو توصيف ومن ثمة تواجه موت الذات/ النص/ الوجود/ الفراغ.
الذات والبعد الاسترجاعي:
يبدأ محمود درويش روايته باعتبارات محايثة تعبر عن زمن مزيف، حيث المنام تأكيد على ذلك الوجود الذي يحثه الصمت والذي هو في حكم التلاشي،إذ تغيب فيه الاعتبارات الواقعية ويغيب معها المسار المنطقي ليحل محله الزمن المضطرب الذي تتعدد فيه الأصوات وتتجاور فيه الممكنات "من المنام يخرج منام آخر، هل أنت في خير، أعني هل أنت حي؟
ـ كيف عرفت أني كنت أضع الآن رأسي على ركبتيك وأنام؟
ـ لأنك أيقظتني حين تحركت في بطني. أدركت أني تابوتك. هل أنت حي؟ هل تسمعني جيدا؟"[6]. إن المنام ابتعاد عن اللحظة الزمنية المحفوفة بالخطر والاستحالة واستدعاء ملح للرغبة المؤجلة، لذلك تتحرر فيه الذات من قيود الرقابة أو من الزمن السلطوي ليكون زمنها المحايث في حكم المنجز، ومن هنا ففعل الخروج أو الآخرية التي يحملها المنام الثاني تأكيد لهذه الانجازية، وحتى إن ادعت التفسيرية تبقى معبرة عن تلك الموضعية المتجاورة والتي تعكس وعي المغايرة الحامل لمعنى التعدد. إذن فالذات تعيش حيرتها بين هذه الأزمان: زمن الذاكرة الأول وزمن الذاكرة الثاني، بل وتؤكد على موت الحقيقة/ الوجود الأصيل، حيث تسهم هذه الانقضائية في الهروب إلى زمن تتأكد فيه الرغبة.
إذن يعكس المنام موضعية متعددة يتداخل فيه الواقعي مع المتخيل، حيث يحيل على ذاكرة غيبها النسيان، أو اعتبار موضوعاتي يقف على تماس الرغبة التي تسيجها الاستحالة، فالمنام هو عالم موازي يحاول أن يؤسس وجودا يتعالى عن التموضعات الواقعية، حيث تتم صياغته بالنظر إلى تلك الرغبة الموجهة. والمنام لحظة انعتاق من القيود الاجتماعية والتاريخية، حيث تذوب الفواصل وتتحدد الرغبة الممنوعة لا بشكلها المحرم وإنما كحضور تعويضي، إذ يعوض الحرمان الذي أنتجته لحظة الواقع.
ولربما الخروج من منام إلى منام آخر رفض للتموضع الواقعي، أو تعبير عن انحسار الذات داخل يوتوبيا الحنين، فالمثقف يحاول أن يهرب من الزمن الواقعي احتجاجا عليه، لذلك يخلق عوالم موازية هي عالم الحلم، حيث تتحدد الرغبة المكبوتة لا بشكلها المحرم وإنما بشكلها الانسيابي المتحرر من قيود الرقابة على اختلافها، فتفسير المنام بمنام مغاير يعبر عن الانتقائية التي تتعمدها الذات من أجل الخروج من مأزق الحقيقة الموجعة، حيث يتم ترتيب الأحداث بحسب أهميتها للذات لا بحسب ترتيبها المنطقي. إذن فالخروج من المنام إلى منام آخر تفسيري تعبير عن مسار منغلق، إذ لا تفارق الذات الحلم/ الرغبة، وحتى تفسيراتها تتم بحسب مسارات التخييل لا بحسب مرجعياتها الواقعية.
ولأن الحلم هو منطقة وسطى بين الموت والحياة، فإن الاعتبارات تتشتت بينهما، إذ الذاكرة تغدو متعددة التفسيرات فمرة يتم تأويلها بأنها رمز للحياة، حينما يتحول التاريخ إلى مكون وجودي يدخل ضمن محددات الهوية وارتساماتها، ومرة يصبح رمزا للموت في تموضعاتها الساكنة وتمثلاتها الموجعة، لتتحول إلى تابوت حال إيقاظها تدفن فيه الحياة الواقعية، فيلتبس الزمن الواقعي بالمتخيل/ الحلم، وتتشتت الذات اعتبارا من ذلك فتفقد إحساسها بالتباين، وهذا الإرباك يحدث سلسلة متوترة يتداخل فيه عالم الواقع بعالم الحلم ويصعب التمييز بينهما.
ومن هنا تتحول دلالة الموت إلى فقدان الفلسطيني لأرضه وخروجه منها، ولربما الخروج إلى عالم الحلم هو تعويض عن ذلك الفقدان أو عن ذلك الموت الرمزي. والحالم هنا يعبر عن حقيقته المشتتة على لسان البطلة (لا تمت تماما ـ لا مت أبدا)، إذ لا يعد البطل بأي احتمال (الموت أو الحياة)، وإنما يعد بالمحاولة في كل احتمال مستقبلي ليقف على تخوم الذاكرة ميتا/ حيا، أي فاقدا لأرضه ومعبرا عن حالة الفقدان بحياة الحلم أو الواقع المحايث.
"وهذا ما يحدث لي ... كنت أحلم. ولقد حصلت على رقم هاتفك من صديقة سويدية قابلتك في بيروت. أتمنى لك ليلة سعيدة. لا تنس أن لا تموت .. .يا للزمن ثلاثة عشر عاما. لا. لقد ذلك الليلة. أتمنى لك ليلة سعيدة.."[7]. وتبدأ الذات ووعيها في حوارية واضحة من أجل العثور على زمن اللقاء، إذ تعاود تفاصيل اللقاء ظهورها في حوار تكثر فيه الأسئلة، لتكون هذه الحوارية استعادة لحركة الأبطال، حيث تحاول الذات الخروج من مأزق الغياب وذلك باستدعاء ذاكرة متحركة، لكنها تبقى مشتتة بين الحلم والواقع، تغيب فيها الحدود الفاصلة ويغيب معها الإحساس بالزمن فتصبح اللحظة المعاشة هي لحظة الحلم/ اللاحلم، الواقع/ اللاواقع ... فهل يموت الوعي الأصيل بحلول زمن الحلم؟ أم سيختفي بعد محاولات غيرية لإيقاظه؟
"هدير يطردني من السرير ويرميني في هذا الممر الضيق ..لا وقت للحيطة، ولا وقت للوقت."[8]
وتصور الذات موضعيتها الموجوعة، حيث تأزمها بسبب الزمن الواقعي المعبر عن خراب الحلم وتهديد اعتباراته،إذ ينكسر زمن الليل المعبر عن الهدوء والسكينة ويعوض بالالتباس والريبة والخوف والإحساس بالخطر بسبب المهددات الغيرية/ زمن الحرب. "لا أستطيع أن أستسلم لهذا القدر ولا أستطيع أن أقاومه"[9]، وتعيش الذات لحظة مربكة ومتأزمة حينما يفقد الزمن الواقعي تماسكه. ويتحدد مأزق الذات حينما يتضح لها أن كل اعتباراتها كانت محل كشف ونظر منذ البداية، فما اعتبرته خصيصة متعلقة بذاكرتها أو هويتها صارت حالة معلنة للجميع في شكل فاضح "لماذا سكنت هنا؟ ماهذا السؤال الأحمق فمنذ عشر سنين وأنا أسكن هنا، ولا أشكو من فضيحة الزجاج"[10] ... ولكن الحرب فاضحة، إذ الكثير من الاعتبارات المغيبة عن الذات تلوح في متصورها بأنها حالة طبيعية، ليحل زمن الحرب فيكشف عن التموضعات غير الطبيعية لكثير من ترتيبات الأحداث وتنميطاتها الجاهزة.
"الساعة الثالثة. فجر محمول على النار. كابوس يأتي من البحر. ديوك معدنية. دخان. حديد بعد وليمة الحديد السيد. وفجر يندلع في الحواس كلها قبل أن يظهر. وهدير يطردني من السرير ويرميني في هذا الممر الضيق"[11].
يسرد الكاتب لحظة الخريف المرعبة، ويصف تفاصيلها بطريقة مربكة، فالساعة الثالثة فجرا هي لحظة انكشاف الصبح وتراجع الليل، بل هي لحظة تماس بين احتمالين تحسم الذات عبرهما تموضعها النهائي في الأخير، لكن هل الفجر كان فجرا حقيقة؟ هل كان ذلك الزمن يشي بالتفاؤل والأمل على اعتبار أنه يمثل بداية جميلة بعد انقشاع الظلام؟ كانت اللحظة مخيبة وصادمة لتوقع القارئ، فالفجر احتماليا اصطبغ بالوجع ليكشف عن وجه مدينة صيرها الزمن بفعل الدخيل إلى حضور كل ما فيه يشي بالألم، نار ... دخان ... هدير الطائرات حيرة.. رعب.. اضطراب.
""معنى ذلك أنني حي. تفقدت أعضاء جسمي فوجدتها كاملة: عشر أصابع تحت .عشر أصابع فوق. عينان. أذنان. أنف طويل. إصبع في الوسط .. ومسدس ملق على أحد رفوف المكتبة .. مسدس أنيق نظيف لامع، وصغير الحجم بلا رصاص، أهدوني .. مع المسدس علبة رصاص لا أعرف أين خبأتها منذ عامين خوفا من حماقة، خوفا من فورة غضب طائشة، خوفا من رصاصة طائشة. إذن. أنا حي، وبتعبير أدق: أنا موجود"[12].
ويبلغ الوضع تأزمه حينما تستشعر الذات انحلال الفواصل بين الموت والحياة، حيث الحياة بذاكرة منتهكة وبجسد أرهقه الواقع شبيه بالموت، وحيث الموت في سكونه ووحشته شبيه بصورة المدينة حال الحرب، أو ربما نشرة الأخبار بصياغاتها الموهومة والمحكومة بمصالح سياسية محددة وبما تقدمه من حقائق مغايرة تهدي موتا في صيغة حياة، ليكون النوم ومن ثمة الحلم بمثابة عنصر استبدالي لحياة في صيغة موت، وانطلاقا من ذلك تهجس الذات بصيرورة وجودها واحتمالية مستقبلها، وتحاول أن تدفع الخوف من العدم بمبرر الخوف في حد ذاته، إذ يتشكل هذا الإحساس داخل كيان إنساني حي لا ميت، لذلك فالشعور بالخوف يتحول إلى قوة دافعة للاستمرار في الحياة لأنه يقابل برغبة في البقاء والحفاظ على الذات من كل ما يعدم لحظتها وينفي وجودها.
"السماء تنخفض، كأنها سقف إسمنتي يقع البحر يتحول إلى يابسة ويقترب. السماء والبحر من مادة واحدة. البحر والسماء يضيقان علي الخناق. أدرت مفتاح الراديو لأعرف أخبار المساء. لم أسمع شيئا .تجمد الوقت. جلس علي ليخنقني. مرت الطائرات من بين أصابعي. احترقت رئتي. كيف أصل إلى رائحة القهوة"[13].
وترتبك المكونات الوجودية وتفقد تموضعها المنطقي، حيث السماء/ البحر رمز لرحابة الأفق وانتظار المأمول وسمو المقصد بعد التغير تتلاشى حقيقتها لتتحول إلى مكون جامد، وكأن الرموز تفقد اعتباراتها، فتصبح سجنا أبديا يضيق الخناق على الذات حينما تخلت عن تمظهراتها الطبيعية لتستعير تمظهرات مفتعلة (الطائرات والسفن)، إذ بعدما كانت رمزا للحرية صارت رمزا للاستبداد والسجن حينما جلبت لعنة الحرب والحصار. "أريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة. رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدمي، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصني من هذا الفجر على قدميه، لنمضي معا، أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثا عن مكان آخر"[14].
وتبدي الذات رغبتها في رائحة القهوة، إذ تخضع هذه الانتقائية لموجهات نفسية، فالقهوة التي تحمل دلالة السكينة والاستقرار والضيافة والتواصل الاجتماعي والاجتماع والبداية، تغيب في وعي الذات لتحل محلها الرائحة فقط، وكأنها تفقد الثقة في الحصول على زمن متماسك أو في استرجاع ثباتها، فتلوذ بآثار هذا الزمن عله يساعدها على توجيه وعيها نحو تمثل تلك اللحظة الأصيلة، أو أنها تعتبر محاولة اقتراب من زمن التحقق وملامسة بحث عن إمكان آخر يعوض الإمكان المنفلت، وإن بدا الأمر مستحيلا لأن الحرب لم تترك غير رائحة البارود "كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم"[15].
"والقهوة، لمن أدمنها مثلي هي مفتاح النهار
والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول، لأنها عذراء الصباح الصامت. الفجر، أعني فجري، نقيض الكلام. ورائحة القهوة تتشرب الأصوات، ولو كانت تحية مثل "صباح الخير" وتفسد."[16]
ولأن الذات تعيش تأزما بسبب التضارب الحاصل بين الزمن الواقعي المحمل بالألم وبين الرغبة المسيجة بالحنين، فإنها تحاول استرجاع ثباتها من خلال استقرار اللحظة الماثلة بين اعتبارات الحلم، إذ تصبح القهوة إعلان عن البداية .. وهذه البداية هي ما تستشرفه الذات من واقع مأمول وإن ظل مؤجل التحقيق .. فالقهوة تقوم بلم شتات الراهن الذي فككه الاضطراب الواقعي بسبب الحروب، إنها رمز للواقع المأمول المغيب، أو للعودة إلى الزمن الماضي حينما كان واقعها يعبر عن الطمأنينة والسكينة والأمان. لذلك فالذات تتأزم بسبب معايشتها لراهنين متناقضين: راهن القهوة/ الذاكرة وراهن الحرب/ الآنية المسيجة بالألم، ومن هنا تصبح الذاكرة/ القهوة تعبيرا عن يوتوبيا الحنين. وما يدل على تجرد القهوة عن مفهومها الحقيقي واشتغالها على الرمزية هو قوله: "لا قهوة تشبه قهوة أخرى. ودفاعي عن القهوة دفاع عن خصوصية الفارق، ليس هنالك مذاق اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليست مفهوما وليست مادة واحدة، وليست مطلقا، لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حد أقيم معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته."[17] هل تحاول الذات أن تعبر تخوم الذاكرة لتطرد متعلقاتها، نسجا لزمن جديد بعيدا عن حدود الذات؟ إن المقطع السابق يكشف بعمق سلبية الإجابة. فبالرغم من خطاب الاستسلام بداية إلا أن الذات تكتشف بأن الخطر غير كامن فقط في تخطي حدود الهوية للدخول ضمن حدود الآخرية المفتعلة/ ما وراء البحر، وإنما فيما هو مقدم من خطابات الانفصال الكلي، إذ تغدو الذات مشتتة لا مرجعية لها، لذلك تحس بأنها ستفقد ارتباطها بالتموضع الأصلي والتموضع الاستبدالي في الوقت نفسه، حتى تدخل ضمن دائرة اللاتموضع أو التشتت الكلي، إذ الأول يمثل موتا حقيقيا والثاني موتا رمزيا، وما بينهما هو تموقع عابث تقابله الذات بقرار حاسم. "سأعد القهوة"، حيث زمن المستقبل يشي بحياة رمزية متجددة هي حياة التحدي والإصرار والبحث في القهوة عن بديل للاستقرار والتموقع النهائي .. فالسارد لا يريد حياة محايثة تتحدد وجهتها بتأويلية واضحة حينما يصبح النص رهين إنجاز مغاير/الرحيل، وهو ما يجعله يعلنها بصراحة تأكيدا لرغبته في إتمام طقوسه مع القهوة/ الاستقرار/ الحياة الأصلية. "أكف عن التأويل، لأن من طبيعة الحروب أن تحقر الرموز، وتعود بعلاقات البشر والمكان والعناصر والوقت إلى خاماتها الأولى".
إذن تتحول القهوة من رمز إلى الاستقرار في ذاكرة النص/ السارد إلى رمز للتحدي، إذ بعد أن تكون انعطافة نحو الحنين لزمن انقضى، تعيد صياغة رمزيتها اعتبارا من راهن الحدث لتصبح رغبة ملحة أو وطنا مغيبا لابد من النضال لأجله. "قلنا: سنخرج. قالوا: من البحر. قلنا: من البحر. فلماذا يسلحون الموج والزبد بهذه المدافع؟ ألكي نعجل الخطى نحو البحر؟ عليهم أن يفكوا الحصار عن البحر أولا ... عليهم أن يخلوا الطريق الأخير لخيط دمنا الأخير. ومادام الأمر كذلك، وهو كذلك .. فلن نخرج، إذن، سأعد القهوة"[18].
لكن ما مواصفات هذه القهوة؟.
إن القهوة التي يحدثنا عنها محمود درويش تستمد أهميتها من كونها من صنع الذات لا من صنع الآخر، وكأنه يلمح إلى الاستيلاء الأنوى في الزمن على فعل المباردة، وإلى قدرتها على صنع الزمن الواقعي، حيث يتم التخلص من الاعتبارات الخارجية المتدخلة في صياغة هذا الزمن أو وعي الذات بواقعها، لأن الاتكال يحمل قيود التماثل إذ يرغم المتلقي على أن يحمل وعي الصانع والصائغ لا وعيه ومفهومه الخاص، وذلك ما سيشتت البداية ويبعثرها ويربكها، لأن الذات لن تكون كما تريد لنفسها بل كما يريد منها الآخر أن تكون.
"لأن القهوة، فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها. وهكذا، فالقهوة هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح ... والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار[19].
إذن تتحول القهوة إلى قراءة في مستقبل الذات ومصيرها، بعد أن تسهم في بنائه وموضعته، إذ تحمل أسرار اللحظة القادمة. بل قد تصبح رمزا للحرية المنشودة، والرغبة في امتلاك الزمن متحررا من قيود الآخر.
"لن يمروا على حياتنا، فليمروا، إن استطاعوا أن يروا، على ما تلفظه الروح من جثث، فأين إرادتي"[20].
وتعبر الذات عن رغبتها في العثور على زمن متحرر من سلطة القيود، إذ ترفض الانقياد أو الانصياع للاعتبارات الغيرية، وتأبى مع ذلك أن تتخذ موضعية بينية لتمرير رؤى الآخر وتمثيل مبتغاه، لذلك فالذات تؤكد أن المستقبل لن يبنى إلا على جثث الأحلام وضحايا المحاولات احتراما لكرامة الأنا بلم شتات الزمن وفق إرادتها الشخصية فقط.
بيروت حينما تمنح ذاكرة للنسيان:
من هي بيروت في ذاكرة النص؟ تتساقط المكونات الطبيعية للمدينة لتعوض باعتبارات تخييلية من نسيج الذات، حيث تغدو هذه الذوات مصدرا لمعرفة بيروت/ المدينة، ومن هنا تستقطب مكونات لغوية من رصيد المعاناة لتعيد بها صياغتها من جديد، لتختفي المدينة/ الأصل وتظهر المدينة/ اللغة، ولأن اللغة تتحايل فتمنح حقيقة مغايرة، فإن بيروت تفعل الأمر ذاته فلا تمنح حقيقتها لزائرها، وإنما تجعله في حالة ذهول لا يفهم شيئا، ويعبر عن هذا الأمر بقوله:
"ومنذ عشر سنين، أقيم في بيروت في مؤقت من إسمنت أحاول أن أفهم بيروت فأزداد جهلا بنفسي. أهي مدينة أم قناع؟ منفى أم نشيد؟ سرعان ما تنتهي، وسرعان ما تبدأ، والعكس أيضا صحيح"[21].
إن بيروت هي ذاكرة الماء، تتشتت اعتباراتها من فوضى المرجعيات، وتوقع الذات في دهشة الانتظار حيث لا تحيلك على صياغة محددة تستكين إليها أو تبني عليها حقائقها الموضوعية، "في المدن الأخرى تستند الذاكرة إلى ورقة. تجلس في ساعة انتظار. في فراغ أبيض، فتهبط عليك فكرة زائرة، تصطادها لئلا تهرب منك، وحين تمضي الأيام وتراها تتعرف إلى مصدرها، فتشكر المدينة التي وهبتك الهدية، أما في بيروت فإنك تسيل وتتبعثر. الإناء الوحيد هو الماء. تأخذ الذاكرة شكل فوضى المدينة. وتدخل في كلام ينسيك الكلام السابق."[22] إذن نادرا ما تنتبه الذات إلى شكلها وإلى تمظهراتها ،إذ الغياب هو ما يشغل الذات، فالمحذوف من الحقيقة هي ما ترغب الهوية استدراكه وفهمه، "ونادرا ما تلاحظ أن بيروت جميلة .. ونادرا ما تحتاج فيها إلى التمييز بين المبنى والمعنى .. ولا تكون جديدة، ولا تكون قديمة.
وحين يسألونك: هل تحبها؟ يفاجئك السؤال فتتساءل: لماذا لم أنتبه؟ أأحبها؟ ثم تبحث عن عاطفة محددة لها، فتصاب بدوار أو خدر. ونادرا ما تحتاج إلى التأكد من أنك في بيروت، لأنك موجود فيها بلا دليل، وهي موجودة فيك بلا برهان"[23].
تتراجع ذاكرة المكان/ بيروت وتعوض بعناصر مستعارة من الحرب "أما هنا، فإن صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت. صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران"، لذلك تتعدد وتتجاور مدن اللغة في بيروت، حتى تصبح الذات المرجعية الوحيدة في فهم حقيقة المدينة، أو الحقائق المتعددة "أما بيروت فلا أحد يعرفها. ولا أحد يبحث عنها. ولعلها لعلها ليست هنا أبدا. وفي الحرب فقط يعرف الجميع أنهم لا يعرفونها. وعرفت بيروت أنها ليست مدينة واحدة، ولا وطنا واحدا، وأنها ليست بلادا متجاورة.
ولعل الجميع أدركوا أن لا بيروت في بيروت.."[24].
اللغة السردية بين فوضى المعايير والتماثل المرجعي:
تحاول لغة السرد أن تخلق لنفسها تموضعا مغايرا بعيدا عن الجاهزية التي تفترضها المعايير السابقة، لذلك نراها تجدد اعتباراتها رفضا للسلطة وثورة عليها، ولربما موضعية المدينة هي التي أسهمت في خلق هذه اللغة المخلخلة أو المفارقة لمنطقيتها، يقول: "إنها شكل لشكل لم يتشكل، لأن الحرب فيها ـ أعني حولها ـ سجال، ولأن الثابت فيها هو المتغير، ولأن الدائم فيها هو المؤقت" [25] والأكثر من ذلك تنفجر بصيغة تحدي بعدما تقدم توصيفا لتواطؤ خطاب السلطة/ خطاب الخرافة في خلق ذوات انهزامية تتقبل موضعية محددة إلى حد المباركة "كأن تشق حفنة من البشر عصا الطاعة على المألوف كي لا يتساوى هذا الشعب، هذا الشعب المخلوق من مزاج النار العنيدة، مع قطعان الغنم التي يريد أن يسوسها راعي القمع وراعي الخرافة، معا، عبر سياج التواطؤ"[26].
ويستعمل درويش في منطقه السردي جملا قصيرة، حيث نحس بذلك الانقطاع عن الكلام في كل مرة أو الإسراع في إتمام الجملة بمتحققاتها التي تفي بالغرض دون إطناب .. وفي هذا الأمر تعبير عن مأزق الذات وما تعايشه من حالة نفسية مربكة، بسبب هذا الوضع السائد، حيث تبدو وكأنها تريد الوصول إلى الصيغة النهائية في شكلها المختصر، لتشكل عبارات لاهثة تعكس شعورا بالتوتر والخوف؛ لا يترك للذات مساحة زمنية طويلة لتعبر من خلالها على اعتباراتها النفسية وانعكاساتها الداخلية. لذلك فالخوف يبدو مسيجا بالحيرة، وتبدو معه اللغة هنا قلقة مضطربة تسارع من أجل أن تغلق على ذاتها وتسترجع أنفاسها من جديد في جملة مغايرة .. عل هذا التسارع يغير واقعا وينهي حيرة وتوترا، "ولا أريد شيئا، لا أتمنى شيئا. ولا أقدر على إدارة أعضائي في هذا الاضطراب الشامل. لا وقت للحيطة، ولا وقت للوقت. لو أعرف فقط، لو أعرف كيف أنظم زحام هذا الموت المنصب. لو أعرف كيف أحرر الصراخ المحتقن في جسد لم يعد جسدي من فرط ما حاول أن ينجو في تتبع فوضى القذائف"[27].
هذا التدافع في الأفكار يخلق قوة انفعالية كرد فعل عليها، إذ يحاول البطل أن يتخلص منها "كفى .. كفى. همست لأعرف إن كان في وسعي أن أفعل شيئا يدلني علي." حيث التردد بين الاستسلام والمقاومة، ليطلب خمس دقائق تمنحه فرصة تدبر مصيره، "لو استراح هذا الجحيم خمس دقائق. وليكن من بعد ما هو بعد. خمس دقائق هل تكفي؟ نعم .. تكفي لأتسرب من ها الممر الضيق المفتوح على غرفة النوم، المفتوح على غرفة المكتبة، والمفتوح على حمام لا ماء فيه، والمفتوح على المطبخ الذي أتحفز لدخوله منذ ساعة ولا أستطيع .. لا أستطيع أبدا"[28].
الموت المنجز: نحو صياغة النهاية:
يتحول الموت في رواية ذاكرة للنسيان إلى اعتبار قابل للتحقق في زمن يلامس زمن تواجد الذات، حيث الآخر رمز لتخريب الزمن الثابت وإعادة تشكيله وفق منطق الفوضى والتشتت، خاصة واليهود كما ذكر الدكتور حسن الباش يجدون تبريرا إلهيا للإجرام" وهذا التبرير ينسجم على أكمل وجه مع المشروع الديني السياسي، إذ ترى التوراة أنه لا يمكن تحقيق الطموح اليهودي إلا من خلال استخدام العنف الإجرامي مع الآخرين"[29]. "تصاعدت هستيريا الطائرات لقد جنت السماء. جنت تماما. يذكر هذا الفجر بأن هذا اليوم هو آخر أيام الخليقة"[30].
وتتصاعد الأحداث وتتوتر لتهدد الزمان والمكان بالإرباك والاختراق، حيث الذات تعيش مأزق الانتظار والتخمين حينما تعيد صياغة الأيام وفق أبجدية الموت والعدم، لذلك تظهر المفارقة بشكل واضح بين الإعلان عن الأولية أو البداية/ الفجر، والآخرية/ آخر أيام الخليقة .إن هذه المسافة النفسية الفارقة تحدد مستقبل الذات حينما تربطها بذلك الجمع الذي سينتهي بانتهاء الخليقة، ومن هنا تحدد وعيها بذاتها وبكل ما حولها فتسهم في تحديد المسار الحكائي أو تحاول إنهاءه بصيغة التنبؤ ،وذلك حتى تتخلص من عبء الواقع وتتملص من مسؤولية تغييره نحو الإيجاب وتطرحه على المتلقي عله يسهم في تغيير هذه النهاية أو في كتابة نهاية أخرى مغايرة. ونجد الإسهام في صياغة الموت عن طريق البعد التخييلي التنبؤي أيضا في قوله: "وهذه ظنوني: قد لا يقتلني الصاروخ بشكل خاطف دون أن أشعر. فقد ينهار علي حائط على مهل على مهل في عذاب لا ينتهي واستغاثة لا تبلغ مصيري إلى أحد. قد يطحن ساقي أو ذراعي أو جمجمتي، أو قد يربض على صدري وأبقى حيا عدة أيام لا وقت فيها لأحد للبحث عن بقايا كائن. قد يختلط لحمي بالإسمنت والحديد والتراب فلا يدل شيء علي. وقد ينغرز زجاج اللحم البشري الممعوس المفقود بين الأنقاض. ولكن لماذا أهتم بمصير جثتي وعنوانها إلى هذا الحد؟ لا أعرف. أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدل ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي ـ الأعداء"[31]، ولربما النص هنا يبدو مستسلما لمنطق العدم في صياغة نهايته، اعترافا بلا استقرارية التموضع وبتشتت الذات بين وطن النص والوطن الأصلي...،إذ يعوض فقدان الوطن بوطن نصي متشكل ومن هنا فالذات تستعيد من خلال الصياغة نوعا من سيطرتها "وأريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر، لا أريد اللون الوردي الرخيص ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت، وأريده مذيعا قليل الثرثرة قليل البحة، قادرا على ادعاء حزن مقنع .. أريد جنازة هادئة واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلا وعكس اللقاء"[32].
"فالباحث عن الجريدة وسط هذا الجحيم هارب من الموت وحيدا إلى الموت الجماعي، باحث عن عينين إنسانيتين، عن صمت مشترك، وعن كلام متبادل، باحث عن مشاركة ما في الموت، عن شاهد يشهد، عن شاهد على جثته."[33]
وتحمل الجريدة إيذانا بالموت، إذ تنشر أخبار الدمار وأرقام الضحايا، لذلك تعبر في وعي الكاتب عن صيغة أخرى للموت، أو عن انوجاد مشترك مغاير في حكم العدم، وهروب البطل للجريدة تؤكد الرغبة في خرق النسيان بتحويل المشاهدات إلى مرويات وأخبار، لذا فهي تتحول إلى محاولة لمكافحة الموت عن طريق الذاكرة المسجلة والمكتوبة، وإن كانت ذاكرة مسيجة بالصمت.
الشخصيات المسجلة/ الآخر المطابق منظورا إليه:
"ولأنني أعرف "سمير" منذ الطفولة، لم أذهب إلى غيبوبته في المستشفى. لقد بترت الطائرات ساقيه وذراعيه، بقرت بطنه وسملت عينيه، عندما كان يخلي المصابين في ميدان المدينة الرياضية. ماذا تبقى منه؟"[34]. ويمثل سمير صورة الانتفاض والثورة والانقضاض على الزمن الثابت،حيث يحاول زعزعة نظامه واختراق انوجاده ليخلق وعيا مغايرا وحسا جديدا بالوطن وبزمنه المتحرر من القيود الغيرية، لذلك يمثل وعيا صامتا يغيب نفسه بين صرخات الرغبة ليصل بهدوء إلى لحظة متحررة. سمير هو ذلك الوعي بالمغايرة، هو صورة القهوة المصنوعة من قبل الذات ، حينما تحاول أن تتجاوز حدود التماثل لتحقق واقعها الخاص، لذلك فسمير يحاول محاولات عدة للتخلص من قيود الأسر فيتحدى الآخر رغم إمكاناته القاهرة، لذلك رغم تعرضه لثلاثة أحكام قضائية بالسجن المؤبد نتيجة محاولاته المتكررة للهروب من حبسه، فإنه وبعد حصوله على فرصة للتحرر يصاب بخيبة انتظار أو بصدمة التمثل، حينما يعي العالم الحقيقي الواقعي بانكساراته، بعد أن كان مجرد فكرة حالمة ووعدا بالإنجاز.
"كان على سمير أن يعيش ثلاثة أعمار أخرى ليتم إطلاق سراحه .. وفي عملية تبادل أسرى خرج سمير إلى نور الوطن العربي الكبير، فلم يصدق الفارق بين الفكرة وصورة الفكرة، ولم يصدق التنافر بين الحلم وأداة الحلم، فلجأ إلى مفاضلة السجناء التقليدية بين الحرية الخارجية الشكلية وبين الحرية الداخلية المجازية المنبثقة من تماسك اليقين، وسلام النفس والارتباط بالخارج برباط المثال.."[35].
يمثل سمير ذلك الفارق الزمني بين الرغبة المأمولة أو الواقع المجازي والحقيقة الواقعية، إذ تسقط كل الصور النمطية والتصورات القبلية وكل المثاليات التي صنعتها الذات في انتظار حلم بعيد المنال، فيحل الواقع محلها ويبدو في صورته المشوهة مثقلا الذات بريبة التحقق وأمل التمكن المفقود، لذلك فسمير يعيش اضطرابا وتبعثرا وهذا ما يجعله يحاول لم شتاته من جديد ويهتم بفكرة الحرية كفكرة مجردة لا بإطارها العام وشكل تحققها في مفهوم الغير، ليحقق في الأخير حريته من خلال الموت والتحرر من قيود الواقع المثقل بالآلام "إذن، لم يطلق سراحه. لقد لاحقوه حتى بيروت. استبدلوا أحكام السجن المؤبد بالإعدام قصفا بالطائرات. مات سمير. مات حبق العائلة"[36].
وأما الأستاذ الشاعر صاحب الثمانين عاما فيمثل سلطة الحرف وكفاحه من أجل التغيير، وإن بدا مساره معوقا من قبل موجهات خارجية تريد صياغة وعيه بما تريده "زوجته المسيحية"، وذلك بتفسير الأحداث وتأويلها تأويلا ملتبسا لا يدل على حقيقة الحادثة التاريخية "ظنها بأن إسرائيل جاءت لتطرد الفاسدين في لبنان. "هو الوعي التاريخي القديم بضرورة التغيير، حيث يحمل صفة الامتداد القبلي لآمال متراكمة وهواجس أجيال عديدة. "و(ي) هو الشاعر صاحب القصيدة اليومية، المرئية، المتأنية، القادرة على التقاط تفاصيل دالة على جوهر إنساني. هو الشاعر القادر على تحريك الفرح من الركام وعلى إيقاظ الدهش .. وهو حين يغنيني عن الكتابة، لأنه يقول نيابة عنا ما تحس بالرغبة في قوله..".[37].
يجرد محمود درويش شخصياته من مسمياتها ويكتفي بالإشارة لها برموز عبارة عن حروف "ي ـ ز ـ ج ـ س.." إذن تكتسب الشخصية ملامحها وحقيقتها من خلال اعتبارات وصفية ،إذ تبنى اعتبارا من اللحظة السردية القادمة لا من زمن إيرادها ،ومن هنا فالخصائص النوعية لكل شخصية تبدو مؤجلة لحين اكتمال الوصف، فتبدو بالتالي لحظتها مؤسسة على التخمين أو الهوية المنجزة مستقبلا لا على اليقينية ،وكأن بالكاتب يؤمن بالمساهمة في البناء ولا يطمئن إلى المسميات التي لا تدل في كثير من الأحيان عن أصحابها ولا تكشف عن نمط تفكيرهم. كما أن في استعمال الحروف تحايل على سلطة المجتمع وسلطة السياسة...،حيث التغييب تمكين للذات حتى تقول ما تشاء بعيدا عن قيود الرقابة.
"قالوا باستهجان: من هو عز الدين؟
صرخت: الرجل الذي كان معنا. هنا. الآن، ومازالت خطواته تدق الدرج.
نظروا إلي كما ينظرون إلى ممسوس. أعثرت إلى مقعده المسكون بطيفه: هنا .. هنا .. كنتم تتحدثون إليه.كنتم تعانقونه"[38].
أما "عز الدين" فهو حلم التمكن وعزة الوطن، ورغبة في المثول الحي بحرية، لذلك فهو يغيب في وعي الجميع بعد أن كان ماثلا فيه فيما مضى، إذ تقبلهم للواقع غيب إحساسهم بالزمن المتحرر من قيود الآخر/العدو فاستسلموا له،على عكس البطل الذي لم يمت هذا الوعي داخله،حيث يظل حلما يراوده من حين لآخر، وإن هدده الغياب والنسيان.
"قل لي ماهي سيرة كمال؟
قلت لك إنه يسمي حيفا حمامة. وهو أيضا صياد سمك يصطاد في الليل. وفي النهار يتطلع إلى الحمامة"[39].
يمثل "كمال" مرحلة اكتمال الرغبة في العثور على الزمن المشترك أو على السلام، إذ يجلس على صخرة الانتظار والترقب يتصيد لحظة المثول في زمن الامتداد "البحر" لتحقيق الهدف أو الرغبة، فالبحر يمثل مسافة فارقة بين الحلم وتحققه، وتجاوز للحدود الفاصلة وللخوف أيضا، لذلك فهو يود عبوره من أجل الوصول إلى الحمامة/ حيفا. إن الحمامة في وعي "كمال" ما صنعه الفارق الحضاري بين الذات وممكناتها المغايرة، وقد تكون محاولاته في تجاوز هذا الفارق المعيق واللحاق بها تمثل رغبة الكاتب ذاته في توحيد الرؤى ،وفي التلميح إلى أن اكتمال الوجود يكون بحضور المتناقضين، ومن هنا فالذات تطرح مقترح الاكتمال وذلك باختراق الفارق الزمني والحضاري، هذا الطرح يؤكد أن الذات هي المانحة والمشكلة لوعي السلام، إذ تمنح هذه الرمزية "الحمام/ السلام" للمغاير رغم العدائية بينهما، فهي إذن المبادرة لطرح هذا المشروع، وحتى تؤكد نيتها السليمة والطيبة فهي لا ترمز لذاتها/ فلسطين بالحمامة، وإنما تمنح هذا الرمز للآخر توددا وطرحا لكل الخلافات جانبا. لكن حيف/الآخر تقتل هذه الرغبة وتقضي على حلم الحوار حينما لا تفهم مضمون الطرح وترى في الآخر الفلسطيني خطرا يهدد كيانها واستقرارها، فيضيع بالتالي حلم عمره سبعا وعشرين عاما.
الآخر/ المختلف في رواية ذاكرة للنسيان:
يبين محمود درويش التعارض القائم بين الذات والآخر، إذ في مجمله تعارض قيمي من أجل امتلاك خطاب الحقيقة ـ كما هي منتج ذاتي ـ ولذا فالآخر/ اليهودي ولأجل تسهيل عملية الاختراق أنتج خطابا حول أحقية الذات في العودة إلى أرض الميعاد، ومن هنا "فالإثبات لا يتحدد إلا من خلال النفي والأنا لا تتحدد إلا عبر الآخر المختلف"[40]. لذلك استعمل اليهود كل وسائل الدمار لإنجاز مخططهم، لكونهم "أصحاب قوة خارقة لا تضاهيها قوة، وقادرون على فعل أي شيء يريدون، ولهم نفوذ كبير ليس مثله نفوذ. والتاريخ اليهودي بأسره إن هو إلا تعبير عن هذا النموذج الثابت، وهذه المؤامرة التي لا تتغير"[41]. ومن هنا فالعربي يتحول حسب المفهوم اليهودي ـ كما اليهودي مدرج في الوعي العربي ـ إلى منذر بخطر يهدد الهوية، إذ "تجسيده ليس فقط كل ماهو غريب غير مألوف أو ما هو غيري بالنسبة للذات أو الثقافة ككل، بل أيضا كل ما يهدد الوحدة والصفاء"[42].
"كانت تضع الحطب في الموقد .. كانت الأغنية تعيد الأغنية ذاتها: سوزان تأخذك إلى النهر. الكلمات جميلة، والصوت لا يعني بقدر ما يقرأ شعرا لا يصل إلى أي مكان. إنسان وحيد في البراري .إنسان يقول ليتماسك، ليحمي نفسه من العزلة، ليدل نفسه على نفسه".[43].
وتمثل المرأة اليهودية رغبة مكبوتة هادئة وحالمة في التموضع السلمي، حيث تصالح الذات مع الآخر/ العدو، وإن بدا حلما مسيجا بالاستحالة نظرا لكل الحمولات الأيديولوجية والتاريخية، والتي تخلق مسافات فارقة بين الذات ومغايرها. إن المرأة اليهودية في وعي الكاتب تعيد التوازن للمسار الواقعي بطرح مفهوم الشراكة الهادئة، فتقصي بالتالي التضارب المفضي إلى الصراع، ومن هنا يصبح الاختلاف ظاهرة طبيعية تدعو إلى مزيد من التحاور والتجاور بتجاوز الفروقات وتقبل الآخر بتبايناته ،إذ لا يتحدد موقع الذات إلا من خلال وجود الآخر المغاير والمضاد، إذ "إن مفهوم الآخر ينطوي في الغالب على فهم جوهراني للذات، أي أن الذات وهي تحدد آخرها ترى نفسها هي الأساس الذي تصدر عنه المعايير التي يمكن من خلالها تحديد من هو الآخر وكذلك موقع ذلك الآخر في سلم القيم"[44].إذن الحوار الواقع بين البطل واليهودية يعكس هذه الرغبة التي يحذوها الحذر بسبب المرجعيات المتوارثة "هل تعلمين أن أمك سارة شردت أمي هاجر في الصحراء؟"[45].لذا ينتهي الموقف بتشتت واضح بين الرفض والقبول "لا أحبك .. أو أحبك". ولعل للأمر تفسير مغاير حسب رأي الدكتور حسن الباش ،إذ طرح بعض المؤرخين مقولة "مابعد الصهيونية" على شاكلة "مابعد الحداثة" يدعي أصحابها تخليهم عن المشروع الصهيوني في الحصول على أرض الميعاد، ورغبتهم في الذهاب لأي أرض بعيدة عن القتل والدمار من أجل تحقيق عالم يسوده الأمن والحوار، وفي هذا تلميح إلى ضرورة أن يعيد المسلمون صياغة أفكارهم، حيث العروبة والإسلام تغدو مفاهيم عفا عليها الزمن. لذلك لابد من استبدالها بحوار الحضارات ـ حسب ما يصوغه وعيهم ـ وبالعولمة التي تعني أن يعيش الجميع في سلام في عالم واحد، وفي هذا تجريد للشخصية العربية من هويتها، "وهكذا تصبح العروبة من مخلفات الماضي، وهكذا يصبح الإسلام كابوسا يجب التخلص منه"[46]. ومن هذا المنطلق تتحول المرأة اليهودية إلى تبرير أيديولوجي للتخلي تدريجيا عن صفة الانتماء الحقيقي، وهذا ما يسهم "في فقدان الأمن الثقافي والرمزي الذي كانت تتمتع به الهويات الثقافية، بسبب تصدع الحواجز بين الدول والمجتمعات"[47].بل والأكثر من ذلك سيساعد على "هيمنة نمط معين اختير لكي يوحد الذوق، ويكسر الإبداعات المختلفة والبديلة. وحتى البديل يمكن أن يدخل اللعبة الاستبعادية ليضمن الهيمنة المطلقة "[48]سواء للعولمة أو للخطاب الصهيوني كأحد أوجهها.
تشتت الهوية /الوطن المقنع:
تصطدم الذات وهي تبحث عن زمن تحققها بخطابات غيرية، تحاول تشتيت اعتباراتها ووضعها في دائرة العدم، حيث ينتفي الانتماء وتسرق الهوية وتجرد المرجعيات لتكون الضيافة إقامة مؤقتة تتلاشى مع افتراض العودة، ولكن أي عودة؟ إنما اللاعودة مع نبذ المكان صيغة التموقع، وتهرب الذاكرة من الاعتراف بكينونة مستقلة متجاورة تشارك في رسم حدود الهوية، فتلك الفئة تمثل اللاهوية التي تهدد ذاكرة المكان في مستقبل الحضور وتهدد الثبات الموضعي، لذلك وجب وسمها بهذا التموضع المؤقت حتى يتم زحزحتها من تاريخ المكان/ المدينة، وحتى تفقد تركيزها فلا تصنع لنفسها انوجادا مستقلا يزيدها ثقة في اعتباراتها ويجعلها تعاود استرجاع عناصرها من جديد واستجماعها لتكون هوية ثابتة مستقرة في ذاكرة الوجود العربي، "علمونا من ذاكرة مسلطة ومن مطاردة ملحة:
لستم من هنا ـ قيل لهم هناك.
ولستم من هنا ـ قيل لهم هنا.
وبين "هنا" و"هناك" شدوا أجسادهم قوسا يتوتر، حتى اتخذ الموت فيهم هذه الصيغة الاحتفالية. لقد أخرج آباؤهم من هناك ليحلوا ضيوفا على هنا، ضيوفا مؤقتين، من أجل إخلاء ساحات الوطن من المدنيين، ليتسنى للجيوش النظامية تطهير أرض العرب وشرفهم من العار والدنس"[49]. تسرد الذات مواجع اللحظة الماثلة في ذاكرة تحاول نسيانها، اعتبارا من زمن القدوم إلى بيروت، ومن هنا تتحول المدينة إلى تأريخ جديد للأزمة بكل أبعادها، وهذا ما يجعلها تربط ارتباكاتها بأحداث قبلية في الوطن الأصلي "فلسطين"، ويمكن ملامسة موقف الذات من الوطن الثاني من خلال قوله "ومنذ عشر سنين أقيم في بيروت، في مؤقت من أسمنت، أحاول أن أفهم بيروت فأزداد جهلا بنفسي. أهي مدينة أم قناع؟ منفى أم نشيد؟ سرعان ما تنتهي، وسرعان ما تبدأ. والعكس أيضا صحيح".[50].إذن فالفوضى الواقعة في المدينة تعيد للذات ذكرياتها بشأن الوطن الأصلي، حيث يتشكل وعيا مطابقا وسط بحث عن المغايرات ،فتفشل الذات في إيجاد نمط جديد من العيش أو التسيج بهوية الوطن المغيب في وعيها حينما يتحول إلى إيذان بالعودة ووعد حالم بالوصول، والسبب كل تلك المطابقات ـ بين الوطن الأول والوطن الثاني، لذا فهو يلمح إلى ذلك بقوله "ونادرا ما تلاحظ أن بيروت جميلة".
وتصور الذات مأزقها وفشلها في العثور على لحظة حالمة بعد أن اصطدمت بواقع مطابق، حيث يتلاشى الإحساس بالزمان والمكان ،وتضيق الاعتبارات الخاصة التي تمثل ملامح مشتركة بين الأشخاص، فكل شخص قادم لبيروت صار يعيش أزمة اغتراب وتموضع أحادي أو انفرادي مما يغيب الوعي الجماعي بالمشابهة في الخصائص النوعية وتقرير المصير "ولكل قادم إلى بيروت بيروته الخاصة به." وهذا ما يعمق من أزمة الذات بل كل ذات ،إذ تجد نفسها تعيش في سجن كبير،ويغيب وعيها بالآخرين فلا ترى إلا نفسها مكبلة بقيود الآخرين. "أمر الآن في بيروت. في ربيع 1980، فأرى قفصا مصنوعا من ريش جناحي. غنائي يثير السخرية. وصرت الغريب الوحيد"[51].
ختاما لدراستنا استخلصنا جملة نتائج من بينها:
ـ يتأسس النص على المفارقة، ابتداء من صياغة العنوان، حيث الرغبة في إعطاء صورة عن واقع الصراع العربي/ الإسرائيلي وما يعج به من اضطرابات ومفارقات تنتفي معه المعقولية في تفسير الكثير من الأحداث.
ـ استطاعت رواية "ذاكرة للنسيان" أن تتجاوز التسجيلية المباشرة وتكسر معيارية السيرة الذاتية، فتخرج لنا نمطا سير حكائي مغاير، وهذا أضفى إلى جملة تعارضات منها تداخل الأزمنة وتجاور الأحداث.
ـ هدف السارد من البعد الاسترجاعي إلى التعلق بذاكرة المكان، توصيفا وكشفا لمعاناة الفلسطيني داخل وطن نبذه وآخر ـ هو أصله ـ أرغم على الخروج منه.
ـ وانطلاقا مما سبق تتحول بيروت إلى ذاكرة للنسيان ،بعدما تسيج اعتباراتها بالوجع ،وهذا ما يجعل الذات تحاول طرد اختلاقاتها ناحية التجاهل والنسيان.
ـ كسرت اللغة السردية المعيارية السائدة وحاولت خلق معايير جديدة تبنى على التضارب الذي يضفي إلى المفارقة، نظرا لأمرين: أولهما الثورة على السلطة السائدة واحتجاجا على تموضعها التماثلي ومن ثمة الرغبة في خلق انوجاد جديد أو انتماء لغوي مغاير، وثانيهما إبرازا لحالة المجتمع البيروتي والفرد الفلسطيني فيه، وكيف العلاقة بينهما متأسسة على المفارقة.
ـ إن التركيز على الجانب النفسي هو الذي ميز هذه الرواية، خاصة وهي تقدم بلغة شعرية رقيقة تبتعد عن الوصف المباشر الذي يقترب من التأريخ، وتبقى الرواية ورغم كل ما قلناه تحمل صفة التعدد إذ اللانهائية هي صفة النصوص العظيمة.
باحثة جزائرية ورئيسة تحرير مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية
المصادر والمراجع:
المصدر:
محمود درويش (ت2008): ذاكرة للنسيان، دار توبقال، ط8،الدار البيضاء،2007.
المراجع:
1ـ. البازغي (سعد): الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء/ بيروت،2008
2ـ الباش(حسن): صدام الحضارات، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، دمشق/ بيروت، 2002.
3ـ حرب(علي): تواطؤ الأضداد. الدار العربية ناشرون/منشورات الاختلاف، ط1، بيروت/ الجزائر، 2008.
4ـ راغب (نبيل): موسوعة النظريات الأدبية، درا نوبار للطباعة، ط1، القاهرة، 2003.
5ـ سعدي (محمد): مستقبل العلاقات الدولية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2006 .
6ـ شاكر (تهاني): محمود درويش ناثرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ دار الفارس للنشر والتوزيع، بيروت/ الأردن، ط1،2004. ص285.
7ـ المسيري (عبد الوهاب) التريكي (فتحي):الحداثة ومابعد الحداثة، دار الفكر، ط1، دمشق، 2003.
هوامش