تكشف هذه القراءة التمحيصية التي يقدمها الباحث المغربي لأحد أحدث الدراسات النقدية المضيئة لحوارية الخطاب الروائي، واستقصاءات ميخائيل باختين اللامعة، كيف يستطيع النقد العربي أن يتأمل كشوف باختين، أحد أهم النقاد في القرن العشرين، ويحللها وأن يضيف إليها ما ينقذها من سوء الفهم المتسرع لها، ومن تقاعسها عن مواجهة ركب التطور النقدي.

حوارية الخطاب الروائي عند باختين

نحو تلقي جديد للنظرية الباختينية

أحمد الجـرطي

تمهيد:

تحظى نظرية ميخائيل باختين بأهمية كبرى في مسار النظرية الأدبية الحديثة في القرن العشرين لاعتبارات عديدة في مقدمتها الدور الريادي الذي اضطلع به باختين في الكشف عن خصوصية فن الرواية القائمة على الهجنة والتعددية اللغوية والصوتية، هذا فضلا عن تقديمه تصورا مغايرا لنشأتها يختلف عن تصور الناقد المجري جورج لوكاتش الذي انطلق في تفسيره لظهور الرواية من خلفية فلسفية مثالية هيجلية جعلته يعتبرها نتاجا لتناقضات المجتمع البورجوازي الممهور بكل أشكال التشيؤ والانقسام والاستلاب، وما ترتب عنه من فقدان للتوازن بين الذات الإنسانية والعالم الخارجي، وامتلاءها بالتشظي والقهر والاغتراب1، ومفاد هذا التصور الجديد عند باختين الذي تشرب من خلاله ينابيع معرفية يتواشج داخلها الرافد الفلسفي بالرافد اللساني والأسلوبي أن الرواية هي تتويج لمجموعة من الأشكال الثقافية المتدثرة بطابع حواري، والتي تخلقت بعيدا عما هو مؤسساتي ومركزي، وفي ظل نضال الطبقات الدنيا من أجل خلخلة التراتبية الاجتماعية، وترسيخ قيم التنوع والاختلاف2، كما تستمد نظرية باختين أيضا وجاهتها المعرفية والمنهجية من التأثير الذي أحدثته في مختلف الاتجاهات النقدية التي اغتنى بها المشهد النقدي الأوروبي منذ الستينيات من القرن العشرين، سواء تلك الاتجاهات التي استثمرت الإرث الباختيني في تعميق مقاربتها لكيفية تبنين وتمظهر البعد المرجعي للنصوص الأدبية على مستوى ما هو لغوي وسردي وتعبيري كما هو الحال مع منهج سوسيولوجيا النص عند ميشيل زيرافا، وكلود دوشيه وجوليا كريستيفا، وبيير زيما، أو تلك الاتجاهات التي استرفدت الإرث الباختيني لإبراز البعد التدليلي للنصوص، وانفتاحه على الجهود التأويلية للقارئ كما هو الشأن مع تيارات ما بعد البنيوية.

ومن هذا المنظور ولأهمية ما قدمته الحوارية الباختينية من إضافات نوعية في مجال النقد الروائي، فقد امتدت مفاهيمها إلى النقد الروائي العربي، منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين3، وجاء تلقيها محفوفا بعدة رهانات لعل أبرزها تحديث مفاهيم النقد الروائي العربي الذي بدا قاصرا عن مواكبة التحول النوعي الذي عرفته الرواية العربية بعد هزيمة يونيو1967م، نتيجة انعتاقها من مد الواقعية الغارق في التسجيلية واستنساخ مجريات الواقع الاجتماعي، وخوضها مغامرة التجريب، انطلاقا من تخصيب المتخيل الروائي عبر فتح منافذ ثرة للتخييل تمتح من الموروث السردي، أو تقوم على أسلبة المنطوق الشفاهي، ومختلف اللغات واللهجات الموّارة في السياق المجتمعي، هذا بالإضافة إلى وضع حد لهيمنة النقد الروائي السوسيولوجي، وما عرفه من مقاربات اختزالية للنصوص الأدبية، وإجهاض لنسوغها التخييلية والفنية جراء تنميطها في خانات سياسية وطبقية،4 وعلى هذا الأساس شكل حضور الرافد الباختيني في النقد الروائي العربي مطمحا نحو الوعي بخصوصية الفن الروائي، واستشرافا لممارسة نقدية جديدة لا تفصل الأنساق التخييلية والتعبيرية للنصوص الروائية عن حمولاتها المرجعية الناضحة بنكهة المتداول والمعيش والمجتمعي، وعن هذه الأهداف التي كان النقاد العرب يتطلعون إلى تحقيقها عبر انفتاحهم على نظرية باختين يقول محمد برادة:«وبالنسبة للرواية العربية ونقدها، فإننا نعتقد أن تنظيرات باختين وكتاباته يمكن أن تكون محطة هامة في مسارها نحو التطور والتجدد. ذلك أن ميخائيل باختين، ابتداء من عشرينات هذا القرن، واجه نفس الأسئلة التي بدأت ثقافتنا العربية تواجهها منذ الستينات، وما تزال، عبر التعرف ـ المتأخر دائما ـ على مناهج الألسنية والبنيوية والسيميائية والشكلانية .. ومن موقعه داخل ثقافة لها خصوصيتها وفي سياق مجتمعي معين، قدم اجوبة نقدية على جانب كبير من الأهمية نستطيع أن نتفاعل معها وأن نحولها إلى خميرة لتفكير نقدي مخصب»5.

من هذا المنطلق يمكننا القول بأن الوعي بفعالية النظرية الباختينية، ونجاعة إوالياتها في تطوير الممارسة النقدية الروائية العربية ظل مستمرا وحاضرا لدى النقاد العرب ومن أجيال مختلفة، وإذا كنا في دراسة سابقة توقفنا عند خصوصية التأثير الذي أحدثته نظرية باختين في المشروع النقدي الروائي ليمنى العيد على مستوى التنظير والممارسة،6 فإننا سنهدف من خلال هذه الدراسة إلى الكشف عن كيفية تمثل الناقد والباحث الأدبي الدكتور محمد بوعزة لمفاهيم الحوارية الباختينية على صعيد التنظير، وإبراز خصوصية الإضافات التي قدمها في تنسيب كشوفاتها، وتخصيبها وتطويرها لاستيلاد حوارية منتجة مع النصوص الروائية أكثر استبصارا بأنساقها اللغوية والأسلوبية والتخييلية، وما تختزنه من حمولات مرجعية وإيديولوجية مبثوتة في كل تفاصيل الواقع الاجتماعي والإنساني، وهنا نشير إلى أننا سنربط هذا التفاعل الذي يسم حوار محمد بوعزة مع نظرية باختين بخصوصية السياق النقدي والثقافي الذي يتشرب الباحث أسئلته، ويسهم في تمييز طروحاته النظرية والإجرائية، وذلك إيمانا منا بأن تلقي أي نظرية وافدة، والحرص على إعادة استزراعها في سياق حضاري وثقافي مغاير، لا يتم بمعزل عن طبيعة الرهانات المجتمعية والحضارية، ونوعية الأسئلة الثقافية والنقدية المنجدلة في محض اللحظة التاريخية، المواكبة لعملية التلقي النقدي.

حوارية الخطاب الروائي: دراسة في المفاهيم النظرية والإجرائية
يستهل محمد بوعزة مؤلفه النقدي «حوارية الخطاب الروائي، التعدد اللغوي والبوليفونية7» بالتأكيد على الدور الخلاق الذي تحظى به اللغة في الأدب لأنها سر خصوصيته الفنية، وهو ما ترتب عنه تعدد المقاربات النقدية التي حاولت تفسير وظيفتها في الخطاب الأدبي، وقد صاغها محمد بوعزة في مقاربتين أساسيتين:
مقاربة النقد الإيديولوجي والأخلاقي التي تزامنت ممارستها النقدية مع ازدهار المذهب الواقعي في الرواية، وما تميز به من إغراق في محاكاة الواقع الخارجي وتمثيليته مما ترتب عنه تركيز نقاد هذا الاتجاه على المحتويات الاجتماعية التي تلتحف بها النصوص الروائية، وإغفال خصوصيتها الأسلوبية والتخييلية،
ومقاربة ثانية انطلقت في بدايات القرن العشرين حاولت «ملامسة قضايا أسلوبية الرواية في ظل نظريات ستعرف بالأسلوبية والشعرية والبنيوية»8 إلا أن تركيزها الشديد على شعرية النصوص وصوغها الداخلي أدى بها إلى نزعة شكلانية مجردة.

أما بالنسبة للنقد العربي فالملاحظ ـ حسب محمد بوعزة ـ تورطه في نفس مغالطات النقد الغربي مما نتج عنه تعثر نشوء دراسات أسلوبية معمقة في نقد الرواية لأسباب شتى، تتجلى من منظور الباحث في حداثة الفن الروائي بالعالم العربي الذي ظل ينوس بين أسلوب السجع والمقامة، وبين المغايرات الفنية الجديدة للكتابة الروائية، إضافة إلى تراوح ممارسات النقاد العرب بين مركزية النقد الإيديولوجي الغارق في المقاربات الاختزالية والتبسيطية للنصوص الأدبية، وبين دراسات لم تخرج عن «إطار البلاغة التقليدية، فراحت تبحث في لغة الرواية عن روعة الاستعارة وجودة اللغة، وسلامة الأسلوب، وغيرها من المفاهيم التي لم تكن لتقترب من خصوصية الأسلوب الروائي، بسبب تركيزها على مستوى الجملة والعبارات، وإغفالها لبنية الرواية الكلية».9 ومما ساهم أيضا ـ من منظور محمد بوعزة ـ في افتقار النقد الروائي قبل ظهور باختين إلى دراسة أسلوبية حقيقية لجنس الرواية، هيمنة أسلوبية الشعر على توجهاته النقدية التي ظلت تنظر للأسلوب وبتأثير من أسلوبية شارل بالي التعبيرية باعتباره فعالية إبداعية فردية تعكس الحالة الوجدانية الخاصة للمبدع غافلة طابعه المركب وتعدديته نتيجة استيحائه ـ حسب بوعزة ـ من جهة قوانين نوعه الأدبي، وتأثره من جهة ثانية بالتيارات الفلسفية والفكرية والجمالية السائدة في عصره، وإن كان هذا لا يعني اتسام الأسلوب بالجاهزية فرغم «إكراهات النوع الأدبي، وتأثير التيارات الإيديولوجية والجمالية، يبقى هناك هامش أبيض يجدد فيه المبدع، ويتجاوز فيه أساليب النوع الأدبي، التي أصبحت تنتمي لأرثه الماضي»10.

في ظل هذا السياق النقدي إذن المتسم بالحضور الطاغي للأسلوبية التقليدية المأخوذة بفكرة المطابقة بين الأسلوب والذات المبدعة، تأتي أهمية الطفرة النوعية التي أحدثتها نظرية باختين، ومغايراتها الجديدة في مجال نقد الرواية، والتي تتجلى كما يرى بوعزة في اجتراح أسلوبية جديدة تنزاح عن المقاربة الأسلوبية التقليدية التي تحدرت في حقل الأجناس المونولوجية كالملحمة والتراجيديا والشعر، مما جعلها تنقاد لمفهوم التماثل بين الأسلوب والمبدع، والمقاربة اللسانية المتشربة للسانيات السوسيرية التي اتسمت تطبيقاتها بطابع تجريدي صرف ينزع اللغة من سياقها الحواري، ولذلك فإن نجاعة هذه الأسلوبية الجديدة التي يقترحها باختين تتمثل في تشرب المقاربات السابقة، وتجاوزها نحو إبدال نقدي جديد لا يفرغ الأسلوب الروائي من تعدديته وتشربه للغات الاجتماعية المتنوعة، والأصوات المتصادمة11، ولعل مرد هذا التعدد اللساني والأسلوبي الذي ينضح به جنس الرواية تعود من منظور باختين إلى خاصية الأسلبة التي تميز خصوصيته الفنية، وتستدعي بواسطتها عدة وحدات تركيبية وأسلوبية هي التالية:
- السرد المباشر الأدبي في مغايراته المتعددة الأشكال
- أسلبة مختلف أشكال السرد الشفوي والتقليدي أو المحكي المباشر
- أسلبة مختلف أشكال السرد المكتوب المختلفة نصف الأدبية والمتداولة
- أشكال أدبية متنوعة من خطاب الكاتب
- خطابات الشخوص الروائية المتفردة أسلوبيا12

وعلى هذا الأساس يرى محمد بوعزة أن تنوع هذه الروافد التي تثري التعددية اللسانية والأسلوبية لجنس الرواية لا يعني حضورها بشكل عشوائي داخل صوغها التعبيري بل إن الخصوصية الأسلوبية للرواية تتجلى في هذا الجهد الفني الذي يبذله المبدع في التوليف بينها، وصهرها بشكل متماسك داخل نسيجها الفني، وقد نعته باختين بـ "الوحدة العليا للكل"13، وإختار له الباحث مصطلحا مغايرا هو "العامل الناظم"14 يؤشر على القدرة المنظمة والتنسيقية للأساليب المتعددة في الرواية. استنادا لهذه التصورات يخلص محمد بوعزة إلى أن الأسلوب الروائي يكتسي أكثر من مظهر:

        مظهر لساني: يرتبط بطبيعة وقواعد اللغة في بعدها التجريدي، وهذا المظهر هو الذي ركزت عليه الأسلوبية التقليدية نتيجة عنايتها خلال مقاربة الأسلوب الروائي بقواعد اللغة الأدبية والتقليدية، وهو المظهر نفسه الذي دعا باختين إلى تجاوزه بتشديده على ضرورة نشأة علم جديد أسماه "ما وراء علم اللغة" يعنى بالطابع التناصي والحواري للكلمة15.

        أما المظهرين الآخرين فيتجلى أولهما في المظهر الأجناسي المتعلق بخصائص الجنس الأدبي وذاكرته التاريخية، ويتجلى ثانيهما في المظهر الاجتماعي الذي يعكس شعرية باختين العبر اللسانية التي لا تفرغ الأسلوب من حمولاته الإيديولوجية والاجتماعية، ويكتسي هذان المظهران أهمية قصوى ـ حسب بوعزة ـ في نظرية باختين لإسهامهما الجوهري في حوارية الخطاب الروائي وتعدديته اللغوية16، ونتيجة لما تحظى به هذه الخاصية من أهمية في تنظيرات باختين، فقد خصص لها محمد بوعزة فصلا معنونا داخل الكتاب بـ "مستويات التعدد اللغوي" تابع من خلاله أهم الأشكال التي توفر التعدد اللغوي في الرواية، وقد حصرها الباحث في العناصر الأربعة التالية:

1- أشكال إنتاج صورة اللغة التي تتجلى في التهجين الذي عرفه باختين بكونه «المزج بين لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد وهو أيضا التقاء وعيين لسانيين مفصوليين بحقبة زمنية، وبفارق اجتماعي، أو بهما معا داخل ملفوظ واحد»17، ويمكن أن يكون تهجينا لاإراديا، أو تهجينا قصديا إراديا، هو الذي اهتم به باختين ـ حسب الباحث ـ لكونه محكوم بقصدية فكرية جمالية تعكس داخل النسيج الروائي تباين المواقع الاجتماعية، وتصارع الأوعاء18، هذا بالإضافة إلى "تعالق اللغات القائم على الحوار"، وهذا النمط الأسلوبي رغم تداخله مع مفهوم التهجين من حيث ضرورة تواجد لغة مشخصة وأخرى مشخصة إلا أن باختين يعطيه وصفا آخر هو «الإضاءة المتبادلة ذات الصيغة الحوارية الداخلية»19، وتتجلى خصوصيته في كونه «لا ينهض على مزج مباشر للغتين داخل ملفوظ واحد، وإنما ينهض على لغة واحدة متحينة وملفوظة، إلا أنها مقدمة في ضوء لغة أخرى تظل خارج الملفوظ ولا تتحين أبدا»20، ويتخذ هذا الشكل الأسلوبي ثلاثة مظاهر أساسية، تتجلى في الأسلبة والتنويع، والباروديا، كما ينضاف إلى هذين المستويين السابقين، مستوى ثالث يتجلى في "الحوارات الخالصة" التي لا تنحصر ـ حسب الباحث ـ عند باختين في المصالح الذاتية للشخوص الروائية، بل تستمد توهجها الدلالي والأسلوبي من حوار اللغات والرؤى للعالم داخل الرواية، وتنمو وتتغذى من كافة عناصر التعدد اللغوي في الرواية.

إذا كانت هذه هي الأساليب الثلاثة التي ينبجس من نسغها التعدد اللغوي في النسيج الأسلوبي للرواية، فالملاحظ أنه بالرغم من الاستيعاب والتمثل الجيدين اللذين لمسناهما في هذا العرض النظري الذي خص به الباحث هذه الأنماط الأسلوبية الثلاثة هو غياب نماذج تطبيقية تقربها أكثر للمتلقي، وتساعده على إدراك تجلياتها في العالم الفني للرواية خاصة وأن الباحث نفسه يقر بتداخلها الشديد، ومشقة التفريق بينها، وذلك حيث يقول:«وقد لاحظنا أن الفروق الدلالية بين هذه الأساليب جد ضئيلة، إذ غالبا ما تتداخل فيما بينها، كما هو الحال في الأسلبة عندما تشتمل على مفارقة، فتتحول إلى تنويع بالتحديد الباختيني للمفهوم، ويترتب عن هذا التداخل بين هذه الأساليب الثلاثة مشكل على مستوى التحليل النصي والتطبيق، يتجلى في صعوبة التمييز بينها داخل النص الروائي»21.

2- الأجناس المتخللة وهي تعكس ـ من منظور الباحث ـ البعد الحواري للرواية عند باختين، وخاصيتها التجنيسية غير المنجزة باستمرار، والقابلة لتخصيب متخيلها الفني، والفكري عبر الامتياح من مختلف الخطابات الأدبية أو غير الأدبية، هذا بالإضافة إلى تحديد مغايرات الشكل الروائي22.

3- أقوال الشخصيات: وهي التي تسهم في إدخال لغات الشخصيات الروائية عبر قناة الحوار أو المونولوج. فضلا عن تكسير نوايا الكاتب، والواقع أنه إذا كان باختين يحصر هذا الجانب في صيغة الحوار المباشر بين الشخوص الروائية، فإن الباحث محمد بوعزة يوسع من دائرة هذا المستوى الأسلوبي ليشمل مختلف الخطابات التي تضاعف من النبرة الذاتية للكلام، كالحلم والهذيان والإسهام والتذكر نعتها مجتمعة بـ «الخطاب الانفعالي»23، وهنا نلمح الجهد التنظيري الذي يبذله الدكتور محمد بوعزة في تخصيب شعرية باختين لتواكب تحولات الخطاب الروائي، إيمانا منه بأن أشكال ووسائل التعدد اللغوي غير مستنفذة.

4- تنضيد اللغة: الذي يتحدد عند باختين في مستويين أولا تنضيد اللغة إلى أجناس أدبية تتصادى وظيفتها مع الخطابات المتخللة، وثانيا تنضيد مهني للغة غايته «التقاط اللغات واللهجات والرطانات التي تتفاعل في رحم المجتمع وتتناسل مولدة صوراللغات»24.

هكذا يعرض الباحث محمد بوعزة مختلف الأشكال الأسلوبية التي تحقق للرواية خاصية التعددية اللغوية، ولا يفوته في هذا النطاق أن يطرح جملة من الأسئلة التي تعكس طموحه الجاد إلى تنسيب النظرية الباختينية، وعدم الوقوع تحت مطب جاهزيتها من أجل تخصيب جهازها المفاهيمي لإنتاج وعي جديد بالنصوص الروائية يستكنه ما تتوشح به عمق معرفي متجدد، وتطور دائب في أساليبها التعبيرية، وفي مقدمة هذه الأسئلة التي يثيرها الباحث: إذا كان باختين حدد وظيفة المبدع في التنسيق بين الأساليب وصهرها بشكل متناغم داخل النسيج الروائي، فأين يكمن إذن أسلوب المبدع؟ وماذا عن دور الكاتب حينما تكون الشخصيات متشابهة في لغاتها وأوعائها ولا تستدعي منه بالضرورة التدخل للتوليف بينها؟25

هذه الإشكاليات العميقة هي التي تصدى الباحث لمعالجتها من خلال فصلين هامين سنعنى بتوضيح ما تضمناهما من قضايا نقدية.
- فصل وسمه الباحث بـ "الحوارية الروائية"، وقد كشف من خلاله عن الدور الذي لعبته الحوارية الباختينية في تجاوز انغلاق الشكلانية الروسية، لتشديدها على تفرد الجنس الروائي عن الخطاب الشعري بالتعددية الأسلوبية النابعة من اختلاف الأوعية، وتباين رؤى الشخصيات، فضلا عن تعالقها مع مختلف اللهجات واللغات المتجذرة في الواقع الاجتماعي، كما تتصل هذه الحوارية ـ من منظور بوعزة ـ في تمييز باختين بين نمطين من الكلام:

الكلام الآمر: وهو حسب الباحث غير قابل للأسلبة ولا يمكنه أن ينتج خطابا ثنائي الصوت لكونه غارق في الكليانية والتصور الأحادي الناجز للحقيقة (كلام السلطة والمؤسسات والخطابات الدينية).

الكلام المقنع: وهو الذي يولد من منظور الباحث «إمكانات دلالية جديدة تعمق الفعل الحواري للرواية المتعددة الأصوات»26

ومما يغني أيضا هذا البعد الحواري الذي تكتنز به الرواية عنصر التناص الذي استرشد به مجموعة من منظري البنيوية خلال الستينيات من القرن العشرين في تجاوز ما أسماه الناقد الأمريكي فردريك جيمسون "سجن اللغة".27 ورغم ما قدمه الباحث من إضاءات هامة تتجلى في حصره بعض أشكال التناص مستعينا باجتهادات نقاد عرب بارزين كمحمد مفتاح، وسعيد يقطين، إضافة إلى رفض بعض المقاربات التي تحاول تأصيله في النقد العربي من خلال المماهاة بينه وبين مفهوم السرقات الشعرية عند القدماء، متغافلة عن خصوصية السياق الفكري والفلسفي الذي رافق تشكل وتطور استراتيجية التناص في النظرية الأدبية الحديثة خلال القرن العشرين؛28 إلا أنه كان بالأحرى أن يربط بوعزة مناقشته لمفهوم التناص بتلك الملاحظات النفاذة، والإشكاليات الجوهرية التي أثارها عن موقع المبدع داخل حوارية باختين، ولذلك فإننا نتساءل إذا كان صاحب (شعرية دوستويفسكي) من اجترح التناص رغم عدم توظيفه لهذا المصطلح في كتاباته ليرتبط فيما بعد بالناقدة جوليا كريستيفا مشيرا من خلاله إلى الطابع الحواري الذي يميز الجنس الروائي، ويجعله في تشرب مستمر لمختلف اللغات والأساليب واللهجات الجياشة في الواقع الاجتماعي. فهل استطاعت الجهود التنظيرية والتطبيقية التي عرفها المشهد النقدي الغربي خلال فترة الستينيات من القرن العشرين ممثلة في البنيوية والسيميائيات تطوير مفهوم التناص لكي لا يظل منحصرا في حدود إبراز وظيفة الرواية التشخيصية للأنساق خارج نصية، وما يترتب عن تذويبها في النسيج الداخلي للنصوص من طاقات تدليلية وافرة؟.

وتساوقا مع هذا الطرح فإننا نعتقد أن جهود بيير زيما النقدية تعتبر إسهاما لافتا في هذا المجال لكونه رغم الإقرار بتعددية الأصوات والإيديولوجيات في الرواية، إلا أنه ظل ملحا على ضرورة تحقق الخاصية الإنتاجية للتناص من خلال احتفاظ الكاتب بسلطته الخاصة في توجيه المعنى، وترجيحه لتصور ما، ضمن التصورات الموجودة في النص، وذلك حيث يقول:«إنه من الواضح إذن أن الكتابة الخيالية بعيدة عن أن تكون ذات صلة بلغة محايدة تستخدمها أثناء ابتكار تقنيات جديدة، إنها على العكس من ذلك تتطور داخل وضعية سوسيولسانية، متخذة موقفا مع أو ضد بعض السوسيولهجات.»29

أما إذا انتقلنا إلى الفصل المعنون في الكتاب بـ "البوليفونية الروائية" فيستوقفنا الجهد البناء الذي بذله الباحث بوعزة في تفسير خصوصية الشكل البوليفوني عند باختين، وما يكتنز به من أبعاد جمالية ومعرفية، وهكذا يرى بوعزة أنه لإنتاج وعي منهجي بهذا المفهوم يجب تتبع جذوره التي ترتبط بحقل الموسيقى، حيث عرف هذا المفهوم تطورا واختلافا في أساليبه باختلاف الاتجاهات الموسيقية لكل عصر، ليظل تحققه الأسمى مرهونا بتعدد الأصوات وتعارضها بشكل متوازن.30 كما يفرق بين كيفية حضور هذا المفهوم عند ميلان كونديرا وميخائيل باختين، ومفاد ذلك وقوف كونديرا بهذا المفهوم عند حدود تساوي المساحة بين حكايات وفصول الرواية دون استحضار لحمولاته الاجتماعية والفلسفية31 خلافا لباحثين الذي استفاض في تفسير هذا المفهوم، واعتبره سر تميز الفن الروائي، ومصدر غناه الفكري، ويتحقق انطلاقا من احتفاظ الشخصيات باستقلالها داخل النص، وتحررها من وصاية الكاتب وتوجيهاته، وبذلك يعكس هذا التعدد في أصوات الشخصيات داخل النص الروائي تعددا في الأوعية ووجهات النظر، ويعد الروائي الروسي دوستويفسكي ـ من منظور باختين ـ الممثل الأبرز لهذا الشكل في تاريخ الرواية الأوروبية لما عرف عنه خلال رسم شخصياته الروائية من براعة في تفريد كينونتها، وحرص على عدم إنجازيتها محتفظة بنزوع حواري في أعماقها موشى بروح الجدل، إلا أن السؤال الأبرز الذي يثيره بوعزة في هذا السياق «هل يعني هذا التعدد في أشكال الوعي أن الكاتب لا موقف له؟ وهل نفهم من التعدد الصوتي أن الرواية البوليفونية ليست لها إيديولوجيا؟»32  

وخلافا للتأويل الذي قدمته جوليا كريستيفا للنص البوليفوني عند باختين والمتمثل في اعتباره «لا يملك إيديولوجيا خاصة لأنه ليس له موضوع إيديولوجي. فهو جهاز تعرض فيه الإيديولوجيات، وتستنفذ ذاتها في تصادمها»33، متساوقة في هذا التأويل مع مد البنيوية الذي كان مهيمنا خلال اكتشاف وتلقي أعمال باختين على المشهد الثقافي الفرنسي، ومستجيبة لمقولاته عن موت المؤلف، وهو الطرح أيضا الذي نادى به حميد لحمداني حينما ذهب إلى أن باختين يتشبث بفكرة الحياد المطلق للكاتب مختزلا وظيفة الرواية للحوارية في تشخيص الإيديولوجيات المتصارعة في الواقع الخارجي.34 خلافا لهذه التأويلات يقدم محمد بوعزة تصورا مغايرا يشدد من خلاله على عدم تحييد باختين لموقف الكاتب؛ لأن في هذا الإلغاء نسفا للبوليفونية من أساسها نتيجة ارتهان تحققها بالجهد الذي يبذله الكاتب في «تنظيم أشكال الوعي المتعددة داخل الرواية، وتشخيصها بشكل متساو، لا يؤدي إلى هيمنة وعي واحد»35 .

وللاقتراب أكثر من خصائص الشكل الروائي البوليفوني يقارنه محمد بوعزة بخصائص الشكل المونولوجي الذي يتميز بالحضور الطاغي لسلطة الكاتب، ورسمه لشخصياته بطريقة ناجزة تنقل أفكاره، وتعكس إيديولوجيته، ومن هذا المنظور يشي هذان الشكلان من البنية الروائية، باختلاف منظوريهما في كيفية فهم حقائق العالم واستكناهها، وبتنوع في مرجعياتهما الفلسفية والجمالية مما ترتب عنه جدلا واسعا بين الباحثين في تقويم عوالقهما المعرفية والاستيتيقية، وفي هذ الاتجاه إذا كان باختين انحاز في تنظيراته للشكل البوليفوني عند دوستويفسكي لما تميز به من تنسيب لأوعية الشخصيات، وتفريد لمواقفها، مقللا بالمقابل من قيمة الشكل المونولوجي الممهور برؤية مفردة للعالم، فقد انساق وراء هذا الطرح الباختيني جملة من النقاد العرب كما هو الحال مع الدكتور حميد لحمداني الذي ثمن بدوره الرواية الديالوجية وأشاد بأهميتها النابعة من كونها «تعرض للحقيقة التاريخية الواحدة من منظورات وأساليب متعددة في لحظة واحدة، مما يجعلها ضمنيا ترفع شعار نسبية امتلاك الناس للحقيقة، وهذا ما يعطيها بالذات طابعها الشمولي، في تصوير الواقع الإيديولوجي الثقافي، في الوقت الذي تحتفظ فبه الرواية المنولوجية بسلطة الحقيقة المطلقة، وبهيمنة النظرة الواحدة للعالم.»36.

وعلى هذا الأساس نصل إلى خصوصية التلقي الذي ميز تفاعل محمد بوعزة مع هذه التنظيرات للشكل الروائي، ومن إضاءته النفاذة مقاربة هذين النمطين من الشكل الراوئي بعيدا عن معيار المفاضلة، لأنه من جهة يستحيل الفصل بين البوليفونية والمونولوجية داخل الخطاب الروائي، كما أن لكلا الشكلين الروائيين جماليته النابعة من إمكاناته التعبيرية37، والدلالية، وهكذا فإنه من الإجحاف ـ حسب بوعزة ـ تبخيس قيمة الرواية المونولوجية، وما التحفت به من ثراء في تجاربها الوجودية والإنسانية كما هو الحال في روايات كافكا، وموزيل، وجويس وبروست التي استمدت توهجها الفكري والجمالي من الانزياح عن النزعة الانعكاسية التمثيلية، وتوليد مسافة فاصلة عن العالم تمكنها من نقده، والنفاذ إلى جوهره وهو ما نعته أدورنو بـ "جماليات النفي أو السلب"38، وهنا أود أن أثير جملة من الإشكاليات الجوهرية التي تعد تخصيبا لما قدمه بوعزة من إضاءات لماحة، إذا كان باختين في تفضيله للرواية الحوارية المحتفية بالتعدد والاختلاف متأثرا بخصوصية سياقه التاريخي والسياسي الذي كان يعرف وقتئذ تجذرا للمد الشيوعي الستاليني الغارق في الكليانية، وعبادة الفرد الواحد، فمن الضروري أن لا يتعامل النقد العربي مع تنظيراته بجاهزية تامة، حرصا على تخصيص أسئلته وتنسيبها وفق ما تتفرد به الرواية العربية من أنساق فكرية وجمالية مائزة متشابكة مع سياق تاريخي خاص. وهكذا بدل أن يدور السجال حول المفاضلة بين الشكلين المونولوجي والديالوجي، يبدو لي أنه من الأولى أن يتم التساؤل عن مدى قدرة الرواية المونولوجية على تحقيق فنيتها التي تكون مهددة بسبب مغالاتها في الدفاع عن رؤية مفردة تراها مشروعة، وحاملة لقيم مضيئة في ظل لحظة تاريخية معينة؟

وهو الطرح الذي نادت به يمنى العيد بقولها «لئن كان سؤالنا الذي نطرحه على النص معني بكشف الموقع، وبمناقشته، فإنه أيضا معني بقدرة الراوي على توليد الإيهام الفني المقنع بما يقول. على أنه ليس من كشف للموقع، نقوم به، إن لم يمارس الراوي لعبته الفنية فيخلق نصه»39، ومما يعضد تصورنا أيضا اعتراف باختين نفسه بشرعية النمط الروائي المونولوجي شريطة نجاحه في تجنب الوعظية والدعائية، وتخليق جمالية محفزة للقارئ، وإن كان ذلك يبدو من منظوره عملية جد شاقة يقول:«إن الرواية الاجتماعية الإيديولوجية، الرواية المتحيزة اجتماعيا هي، في نهاية الأمر، شكل أدبي مشروع كل المشروعية. وإن رفض اعتبار هذه المشروعية رفضا استيتيقيا خالصا، لهو حكم مسبق ساذج خاص بنزعة جمالية مصطنعة ... إن تنظيم المادة الخام الاستيتيقية انطلاقا من أطروحة إيديولوجية واجتماعية محددة بوضوح وبدون قتل واقع الحياة الملموس أو جعله جافا، لهي مهمة جد شاقة وعويصة»40، وفي ضوء هذه الاعتبارات تكون للرواية الحوارية جمالياتها النابعة من تنسيب الأوعاء، وتوفير إمكانات تدليلية وافرة أمام القارئ للتفاعل والمشاركة في توليد الدلالة، كما تكون للرواية المونولوجية جمالياتها النابعة من مواراة الرؤية المفردة التي تتبطن بها عبر استراتيجيات فنية تتجلى مثلا في شعرية اللغة، والايهام بتعدد زوايا النظر.

ب) التشكيل اللغوي وإشكاليات البحث عن ممارسة نقدية روائية جديدة.
يحاول الباحث الأدبي محمد بوعزة في الفصل الأخير من كتابه "حوارية الخطاب الروائي" الموسوم بـ "التشكيل اللغوي الروائي" تنسيب النظرية الباختينية، وتخصيبها بمفاهيم جديدة لإنتاج ممارسة نقدية أكثر استبصارا بخصوصية الخطاب الروائي ومستوياته اللغوية والتعبيرية. وهكذا يرى بأن راهن النقد الروائي يزخر بثلاثة اتجاهات نقدية رغم أهميتها تظل قاصرة عن تقديم تحليل شمولي لمميزات اللغة الروائية، وعوالقها المعرفية والاستيتيقية والإيديولوجية.

يأتي في مقدمتها اتجاه السرديات الذي رغم نجاعته في توصيف تقنيات الخطاب الروائي، إلا انه تدثر بنزعة شكلانية مجردة تمثلت في إفراغه البنية التعبيرية للنصوص الروائية من حمولاتها الفكرية والاجتماعية41.

أما الاتجاه الثاني فيتجلى ــ من منظور الباحث ــ في شعرية باختين عبر اللسانية التي رغم إضافاتها النوعية فيما يخص إضاءة تعالق اللغات والأصوات والأساليب داخل النصوص الروائية، إلا أن محدوديتها تجلت حسب بوعزة في الارتقاء بالرواية الحوارية إلى مستوى المعيار، وبالمقابل تجريد الرواية المونولوجية «من أية قيمة أدبية، لمجرد أنها تحتفي بالأسلوبي المناجاتي الذاتي»42، وعدم تشييدها أية إواليات لروز استراتيجياتها الخطابية.

وينضاف إلى هذين الاتجاهين نمط أخر من الدراسات الأسلوبية المتشربة لأسس البلاغة التقليدية التي يحكمها مبدأ التحيز للشعر، والاحتفاء بلغته الراقية المكتنزة بالترميز والاستعارة على حساب النثر الغارق في ما هو عادي ومبتذل حسب مقاييسها.

في ضوء هذه المحدودية التي تسم هذه الاتجاهات الثلاثة يجترح محمد بوعزة مفهوم "التشكيل اللغوي" لرفد الدراسات الروائية بمقترب نظري ومنهجي يمكنها من الكشف عن آليات اشتغال اللغة الروائية في النص الروائي، ومن خصائصه اعتبار اللغة الأداة الأساس لتشييد أدبية الرواية، وتخليق منظورها للعالم، فضلا عن استقصاء وظائفها على مختلف المستويات النصية في ديناميتها وتعالق أبعادها التصويرية والحكائية والترميزية مما يضع حدا للأسلوبية التقليدية التي كانت تنحاز للمستويات اللغوية الممهورة بخصائص الشعر والذات المبدعة، ولأجرأة هذا المفهوم وتحديد تمفصلاته الأساسية، يقدم بوعزة خطوطه العريضة في خطاطة تنجدل داخلها ثلاث لغات أساسية هي التالية:

1- اللغة الغيرية التي تعكس الدور الخلاق الذي تقوم به الرواية في تنسيب مختلف اللغات والأساليب والأصوات الموجودة في الواقع الاجتماعي، فضلا عن استرفاد عدة خطابات ونصوص وصهرها داخل البنية التعبيرية للرواية مما يثري بعدها التدليلي والفني، وهنا يقر بوعزة بنجاعة الحوارية الباختينية في تحليل هذه الجوانب المتعلقة بالتعددية الأسلوبية، إلا أنه يكشف عن محدوديتها في توصيف بلاغة الرواية المونولوجية نظرا لانحيازها للرواية البوليفونية المتعددة الأصوات، لذلك يدعو بوعزة لتمثل كشوفاتها وتخصيبها بإضافات منهجية جديدة تغني الرؤية النقدية للرواية البوليفونية نفسها التي لا تنبجس قيمتها فقط مما تجيش به من تعدد في الأوعاء والإيديولوجيات، وإنما ترتبط أيضا بما تضمه من خصائص سردية وتخييلية ليتم الانتقال على صعيد الممارسة النقدية من إيديولوجية البوليفونية الروائية إلى سردية البوليفونية الروائية، كما يسعف هذا التطعيم النقدي لشعرية باختين بتقديم مقاربة جديدة للرواية المونولوجية بعيدا عن مبدأ المفاضلة والمقارنة مع الشكل البوليفوني، ولكن في ضوء جمالياتها الخاصة المتجلية في أساليبها المتدثرة بغلائل التخييل والشعرية والبوح الذاتي لمواراة رؤيتها المفردة من جهة، وتفجير منافذ خصبة أمام القارئ للتأويل من جهة ثانية.

2- اللغة السردية: حيث يستثمر بوعزة في هذا المستوى مفهوم الصيغة الذي اجترحته السرديات للكشف عن الخطابات المشكلة لنص الروائي، وما تنماز به من خصوصية أسلوبية وتعبيرية، وهو ما يسمح بمواجهة إشكاليتين أساسيتين تتصلان بشعرية الرواية ومجازيتها، ومفاد ذلك عند محمد بوعزة تجاوز الأسلوبية التقليدية التي كانت تقوم أدبية النصوص الروائية في ضوء المفاهيم المتحدرة من نقد الشعر، وخصائصه النوعية المرتبطة بالتصوير المجازي والاستعاري مما ترتب عنه الحكم بدونية الفن الروائي وهامشيته، ولذلك فشعرية الرواية تروم في ضوء التشكيل اللغوي عند بوعزة النزوع بالممارسة النقدية نحو أفق جديد قوامه توسيع شعرية الرواية لكي لا تنخزل في حدود ما هو استعاري وجزئي، وإنما تطال مختلف الإمكانات التعبيرية، والعلاقات الانشطارية المحركة لدينامية النص الروائي.

3- التذويت: تتجلى مغايرات هذا المفهوم الذي يتصل بالصوغ الذاتي للغة في متابعة مختلف تمفصلات فعل الذات وحركيتها المنصهرة داخل النسيج الروائي في شكل صيغ خطابية ونصية ومؤشرات بلاغية، وما يكمن خلفها من تنسيب في العلاقات، وتشظي في السرد، وتكسير في وحدة الذات نفسها.

هذه إذن هي أبرز الاستراتيجيات التي تشكل خصوصية التشكيل اللغوي كإبدال نقدي جديد يتغيا الباحث بوعزة بواسطته تطوير النظرية الباختينية لتجاوز محدوديتها، وتخصيبها بإجراءات منهجية جديدة تقارب الشكل الروائي في مختلف أنماطه، وتسعف الممارسة النقدية في مقاربة مستويات الخطاب الروائي في ديناميتها، وتفاعل مختلف أنساقها اللغوية والتعبيرية والسردية، دون فصلها عما تتشربه من حمولات مرجعية واجتماعية وإيديولوجية.

والواقع أنه على نقيض بعض الجهود النقدية العربية التي اتسم تلقيها النقدي للحوارية الباختينية بالجاهزية التامة، والافتتان الكلي بمفاهيمها النظرية والإجرائية معيدة بذلك نفس أحكامها المعيارية، ودون الحرص على إعادة إنتاج مفاهيمها في ضوء ما تتفرد به النصوص الروائية من خصائص فنية وتعبيرية ملتحفة بأبعاد مرجعية خاصة. على نقيض هذه الدراسات التي لازالت ممتدة في النقد العربي والمسهمة دوما في تغريب أسئلته، وتكريس تبعيته للمحمول النقدي الغربي، فإنه لا يسعنا إلا أن نثمن هذا الجهد البناء الذي قدمه الدكتور محمد بوعزة من خلال هذا الكتاب، وتمكن بواسطته من تنسيب النظرية الباختينية وتجاوز إطلاقيتها النظرية، وتفكيك مصادراتها وأحكامها المعيارية، وتطعيمها بإواليات نقدية جديدة مستوحاة من التطورات النقدية التي عرفها المشهد النقدي العالمي بعد باختين، فضلا عن الوعي بخصوصية الخطاب الروائي الناضح بإمكانات فنية ومرجعية نابعة من شروط دنيوية، ومجتمعية فارقة يظل استحضارها مطلبا أساسيا خلال التفاعل مع النظريات النقدية الغربية لتخصيص أسئلة النقد العربي، وتفريد رهاناته المعرفية والمنهجية.

الهوامش:

1) جورج لوكاتش: نظرية الرواية ترجمة الحسين سحبان، منشورات دار التل، الرباط الطبعة الأولى 1988م، ص65.

2) ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، الرباط الطبعة الثانية 1987، ص117-118.

3) يمكن اعتبار ندوة الرواية العربية التي أقيمت بمدينة فاس سنة 1979م منعطفا حاسما نحو الانفتاح على الحوارية الباختينية، وتمثل مفاهيمها خاصة مداخلة محمد برادة الموسومة بـ "الرؤية للعالم في ثلاث نماذج روائية"، التي ركب من خلالها بين مفهوم رؤية العالم عند غولدمان، والتعدد الصوتي عند باختين. الرواية العربية واقع وآفاق، تخطيط وإشراف محمد برادة، دار ابن رشد بيروت، الطبعة الأولى، 1981م، ص130.

4) محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس: في الثقافة المصرية، دار الأمان، الرباط الطبعة الثانية 1988م، ص106.

5) مقدمة محمد برادة للخطاب الروائي، مرجع سابق ص17-18.

6) د.أحمد الجرطي: النقد الروائي عند يمنى العيد دراسة في الخلفيات والمفاهيم، دار البوكيلي القنيطرة، الطبعة الأولى 2012م.

7) د.محمد بوعزة: حوارية الخطاب الروائي التعدد اللغوي والبوليفونية، منشورات اتحاد كتاب المغرب الطبعة الأولى شتنبر 2012م.

8) المرجع نفسه، ص10.

9) المرجع نفسه، ص11.

10) المرجع نفسه، ص14.

11) المرجع نفسه، ص17.

12) المرجع نفسه، ص18.

13) المرجع نفسه، ص18.

14) المرجع نفسه، ص.18

15) المرجع نفسه، ص20.

16) المرجع نفسه، ص21.

17) المرجع نفسه، ص27.

18) المرجع نفسه، ص28.

19) المرجع نفسه، ص28.

20) المرجع نفسه، ص28.

21) المرجع نفسه، ص31.

22) المرجع نفسه، ص32.

23) المرجع نفسه، ص34.

24) المرجع نفسه، ص36.

25) المرجع نفسه، ص40.

26) المرجع نفسه، ص46.

27) رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 1998 ص71.

28) محمد بوعزة: حوارية الخطاب الروائي، مرجع سابق ص48-49.

29) حميد لحمداني: القراءة وتوليد الدلالة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى 2003م، ص32.

30) محمد بوعزة: حوارية الخطاب الروائي، مرجع سابق ص63.

31) المرجع نفسه، ص58.

32) المرجع نفسه، ص61.

33) المرجع نفسه، ص62.

34) المرجع نفسه، ص62.

35) المرجع نفسه، ص63.

36) د.حميد لحمداني: أسلوبية الرواية دراسات سيميائية أدبية لسانية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1989م، ص45.

37) د.محمد بوعزة: حوارية الخطاب الروائي، مرجع سابق، ص66.

38) رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، مرجع سابق، ص62.

39) د.يمنى العيد: الراوي: الموقع والشكل، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1986م، ص161.

40) ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، مرجع سابق، ص174.

41) د.محمد بوعزة: حوارية الخطاب الروائي، مرجع سابق، ص74.

42) المرجع نفسه، ص74.

43) المرجع نفسه، ص80.

44) المرجع نفسه، ص80.

45) المرجع نفسه، ص83.

46) المرجع نفسه، ص 84.