تواجهنا في قراءة هذه الكتاب مجموعة من الصعوبات المبدئية لا يمكن تفاديها مطلقا، وهي صعوبات تمتلك مشروعيتها من مبدأ تفرضه موضوعية القراءة، خصوصا عندما يكون الموضوع المدروس يقع خارج حقل التداول المعرفي الذي نهتم به، أو قل موضوع مركب ومعقد يتداخل فيه الديني بالدنيوي، ويحتاح إلى وعي مشاكس. ستكون القراءة في مثل هذه الحالة مشروطة بحيثيات وبحذر،شرطان يجب أن يتحققا في مثل هذه الحالة·
(1) - أن لا نخل بحق الكتاب وبحق الكاتب الذي يختفي وراءه·
(2) - أن تكون هذه المناسبة فرصة لطرح قضيته للسجال والمناقشة·
موضوع الكتاب هو دراسة تحليلية نقدية، مستفيضة حول فكر تنظيم القاعدة، ومؤسسي الأصولية الإسلاموية ورصد لتحولاتهما من حيث المساحة الزمنية التاريخية،ومن حيث المساحة المكانية الجغرافية، ومن حيث المدارس والمذاهب والتوجهات، ومن حيث التطور الداخلي للفكر الأصولي الجهادي في قضاياه وإشكالاته،وإجماعاته واختلافاته، وفي مفاهيمه ومصطلحاته.ابتداءا من المبادئ النظرية الأولى التي وضعها مفكرو الأصولية في مرحلة التأسيس إلى أن صارت أصلاً بحد ذاتها ومعيناً ينهل منه الأصوليون اللاحقون " مدا وجزرا من حسن البنا وسيد قطب إلى الظواهري وابن لادن مرورا بعبد السلام فرج وعمر عبد الرحمان وغيرهم، من الإخوان المسلمين إلى الجهاد والقاعدة مرورا بالجماعة الإسلامية وجماعة التكفير والهجرة.ص29.
جاء هذا الكتاب نتاج انغراس كاتبه المزمن في قضايا الراهن والامتلاء بفيض الحاضر فهو مسكون بمغريات الحفر في سهوب القيم الاجتماعية التي تهدد الوجود والموجود الإنساني، ينصت لنبض المجتمع وتحركاته،يبحث في متشعب والمقلق والآني، مشخصا الداء بصورة بارعة باحثا عن حلول يتجلى ذلك بنوع خاص في متونه القزحية والمتشعبة التي تنشر في منابر إعلامية.
في البدء، يفرض وجوبا افتراس هذا العنوان،بالبحث في المعاني التي يمكن أن تفيض بها الموسوعة الإدراكية ومقامات التلقي،ووضع الحضور في دوائر انشغالات هذا الكتاب. يعتبر العنوان "دعاية منمقة"، وله أدوار متعددة، يشير إلى عوالم وأكوان قيمية، يبدو مضللا في دلالاته المباشرة، لكنه ثري في إيحاءاته الفكرية، "إن وظيفة العنوان هي وسم بداية النص،أي تشكيل النص باعتباره سلعة.. إن للعنوان دائما وظيفة مزدوجة: تلفظية وإشارية"[1].
على مستوى المعنى المباشر ـ والسائد حالياـ يعتبر تنظيم القاعدة فكر ونشاط جهادي تأسس بغايةتدريب المجاهدين لمقاومة الاحتلال الروسي لأفغانستان أطلق عليه اسم تنظيم القاعدة، وحول، بعد ذلك، حربه ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها،بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم الجهاد الإسلامي المصري.
أما مفهوم الأصولية فقد أسال لعاب العديد من الدارسين في التدليل على أهم عناصره وصفاته" سواء بإيعاز من منطلقات الأصولية المسيحية أو بمبرر الانطلاق من القرآن والسنة وربط الشريعة بالدولة والمجتمع" بتعبير روجيه غارودي فهل يمكن عطفه على تنظيم القاعدة، لأن العطف في الاصطلاح اللغوي والنحوي هو ربط لفظ بلفظ سواء كان فعلا أم اسما أم جملة بشرط أن يعطف على مثل ما عطف به؟ أضف إلى ذلك، العنوان الفرعي الذي يشدد على الطابع العنفي "أسس التكفير وأهداف التفجير"؟
إن الأصولية ـ من منظور الكاتب ـ ليست عودة إلى الأصول المقدسة والينابيع الصافية، ولاهي الإيمان الراسخ بالحقائق المطلقة أو ربط الإيمان بالحياة في طي لعنف الزمن والتاريخ نحو لحظات سرمدية دائمة الإشعاع والحضور فحسب، وإنما الأصولية الإسلاموية تضيف إلى ذلك كله، التسلح بمنهجية العنف والتدمير كحقيقة بنيوية في الثقافة الإسلاموية الأصولية"ص19 والقصد من هذا التعريف، أننا إزاء فكر بركاني لايخمد يتكلم بالجرح والنزيف، الأصولية، "بما هي عنف منظم لابديل عنه"، متنوعة المشهد وتحولات المقصداستقصى الكاتب بنيتها ووظيفتها، وميكانيزماتها:ووقف عند أسسها التاريخية، والفكرية، والشرعية.
إذن هو طرح جديد لمفهوم يستوحي ماهيته من غطاء الخطاب ديني " إسلاموي" ومنهجية تأويلية أحادية ومفرطة معنى، إن الإشكالية المطروحة هي إشكالية فهم واستيعاب الخطاب الديني وفي مقدمته فهم القرآن بالذات: وآليات اشتغاله وأنماط توظيفه.وإذا كان السؤال الذي حرك الجابري مثلا في مباحثه وتحليلاته هو.: كيف نفهم التراث؟ فإن السؤال الذي يقف وراء دراسات ادريس قصوري هو كيف نفهم الحاضر ونقرأه؟ أو بالأحرى كيف نفهم بلبلة الصراعات ـ المغلفة بالخطاب الديني ـ التي تعيشها الدول العربية الآن؟. يرى الدكتورإدريس قصوري أن المعركة الدائرة الآن في العالم العربي هي تجسيد لصراع بين موقفين أو طريقتين في التعامل مع ما يجري من أحداث، أي بين قراءتين: قراءة تسعى إلى تطبيق آليات العقل الغيبي الغارق في الأسطورة والخرافة والتأويل الخاطئ، وهي قراءة الأصولية الإسلاموية. وقراءة تسعى إلى الانفتاح على التاريخ الانساني وهي التي تسم نفسها بميسم الحداثة والتنوير. فنكون أمام ضياع للحقيقة أو على الأقل أمام تعدد الحقائق.
ومن ثم انتقل إدريس قصوري إلى الحديث عن الأليات التي ترتكز عليها الأصولية الإسلاموية،وعن الخلفية السياسية للتكفير واستراتيجية الإرهاب التي تشيد من خلالها الأصولية الإسلاموية أحكامها التكفيرية واختياراتها للاستراتيجية الإرهابية كمنهجية للحل الوحيد للوصول إلى السلطة، مفككا أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، واقفا عند أهدافها ومنطلقاتها التي تتلخص في " الاستلاء على الحكم وتنصيب الحاكم الحربي" من أجل تطبيق شرع الله ص60 ـ، والعمل على هدم كل المقومات والأسس الغربية ـ متحدثا بتفصيل عن استراتيجية الإرهاب،والماهية التي يرتكز عليها عند الأصولية الإسلاموية باعتبارها" تفتخر بحمل هذه التسمية بالمعنى الديني، لأن الإسلام " نادى" بالإرهاب وجعله شكلا من أشكال الجهاد إن لم يكن صنعوا له في الوسائل والمقاصد"ص80.
مما سبق يبدو أن الكاتب قد ولج كينونة الانشغال المقلق للأصولية الإسلاموية من بوابته الكبرى، بعد ترصد لحيثياته مما يجعل دراسته بريئة من الارتجال الموضوي " نسبة إلى الموضة"، يتجسد ذلك بوضوح في قدرته على تمثل أنساقها معنى ومبنى، وبالتالي يأتي عمله انعكاسا لثراء قراءاته، وغنى تأملاته، وخط بقلمه حصيلة لمعارفه بوعي نقدي ورؤيوي يقول:" إن أدبيات الجماعات الإرهابية وتصريحاتها المستمدة من مختلف بياناتها وبلاغاتها التي توازي العمليات الإرهابية تفيد بأنه من الخطإ الحديث عن هدف واحد أو عن اختزال الظاهرة، لاسيما أمام استمرارها وتوسيعها وعنادها، في عنصر بعينه وفي سبب معين بذاته. ولهذا لابد من النظر إلى المسألة في مختلف أبعادها وحصر غاياتها التي لم تعد تبدو بسيطة أو ظرفية، وإنما تشكل غايات استراتيجية مركبة وعميقة تشتغل بتفاعل نسقي شامل يعبر بحق عن تعقيد وعن مدى استعصائها؛ بحيث لابد من أن تؤخذ على أنها قضية مجتمع بكامله ومنطقة بأسرها قبل أن تكون عمليات وإجراءات سلطة ترابية هنا وهناك"ص162
ولهذا كله شكل الكتاب حدثا هاما لسببين متفاعلين
أولا: سياقي: متعلق بالسياق الاجتماعي المتدهور وظهور تيار "فكري اسلاموي" في المعركة السياسية التي تشهدها البلاد العربية اليوم، مقابل ذلك غياب الخطاب الفكري والفلسفي، وهيمنة خطاب شعبوي مكشوفة نواياه وشفاف،على مستوى المعطى الاديولوجي.
ثانيا: بنيوي مرتبط ب"بلور" الكتاب نفسه الذي يرتكز على سؤالين: كيف نعرف؟وماذا يمكن أن نعرف؟ مجيبا عن ذلك من مستويين: الهندسة الذهنية والفكرية، ومستوى الماهية والخطاب. يتجلى ذلك بوضوح في الفصل الثالث منه المعنون ب" تنظيم القاعدة: الماهية الخطاب، تناول فيه تضاريس تنظيم القاعدة بالحفر في مرجعياته بدءا بالاسم:، والعضوية وشروطها، والعدالة وأسسها،وقوفا عند طاعة الأمير وضوابطها والسمات المميزة لها، ورفض تعدد الجماعات الإسلامية خصوصا الجهادية منها" بدعوى تشتيت شمل المسلمين وإهدار طاقاتهم،وتخريبهم وإثارة العداوة والبغضاء بينهم...."ص120 ويختم هذا الفصل بالوقوف عند أتون الخطاب واللغة أو مسكن الفكر القاعدي: منه الجهاد، التكفير، القتال، الانقلاب العسكري،رفض الديمقراطية، الكذب....إلخ.
لقد رصد الدكتور إدريس قصوري أهداف التفجير وقسمها إلى قسمين:
1ـ أهداف مباشرة: تتجلى في:
أـ أهداف سياسية للإرهاب: تسعى بالأساس إلى جعل الدول عاجزة وسلطتها تغذو مشلولة..وأجهزتها ومؤسساتها ومرافقها وشخصياتها مستهدفة من طرف الإرهاب وتحت نيرانه. من أجل إطلاق شرارة الفوضى وتقليص النشاطات السياسية والقصاص وإظهار العجز والإنفراد بالأحزاب...
ب ـ الأهداف الاقتصادية: ترمي الأعمال الارهابية كلها إلى استنزاف الأنظمة والدول اقتصاديا، فتعمل على تقويض خطط التنمية والإبقاء على مظاهر الفقر والبؤس والأمية..بحجة أن الترف والنعيم والحصول على الشغل والتمكن من الزواج وتكوين أسرة والتوفر على سيارة.. وكل هذه المظاهر والإمكانات والمميزات تؤدي إلى الاستكانة للحياة الجديدة وللنعومة التي تولد الجمود والكسل وقبول استمرار الحال ومعاداة الجهاد وما يتطلبه من تجلد وخشونة وقساوة عيش وترك المنازل الدافئة وهجر أحضان الزوجات وعدم الخضوع لعواطف وتأثير الأبناء للالتحاق بالمجاهدين والمرابطين في الجبال وتعلم فنون الحرب والقتال في غربة الكهوف والصحاري والاستعداد للتفجير داخل المدن.
ج ـ الأهداف الاجتماعية: غايته تشتيت البنى الاجتماعية، واستغلال الأجواء الوطنية والدولية الساخنة لتجييش الناس ضد الأنظمة.
2ـ الأهداف غير المباشرة للتفجير لخصها الكاتب في: أهداف ثقافية وعسكرية وإعلامية
لاشك أن محاولة إدريس قصوري في درس الأصولية الإسلاموية ينطوي على جديد، يتمثل أولا في إعادة النظر في هذا المفهوم من منظور البحث والتقصي الأكاديمي، على قدر من الجرأة،ومعالجة منظومة فكرية إسلاموية رهينة مسلّماتها وقواعدها الكبرى،وليست بالمهمة الصعبة على كاتب متخصص في تحليل الخطابات ويمتلك جرأة الإنصات العميق لكينونة التيار وتعهد البحث والتأليف من حيث كم المقالات والحوارات الإعلامية.وتكمن أهميته أيضا في كونه أثار النقاش حول موضوع شائك في أوساط المفكرين والأكاديميين.
ومن بين الخلاصات التي يمكن أن يأتي بها القارئ لهذا الكتاب أن الخطاب الأصولي الإسلاموي، السلفية الجهادية المقاتلة منه، يحمل الكثير من الميثولوجيا والسلفية والقدرية والغيبية، يعاني من أزمة إيديولوجية عموما، وهي ملتبسة من فرط عموميتها. يجيز الترهيب والقتل وحمل السلاح وفن القول أيضا، وتهيمن عليه النزعة الدوغمائية، والحل من منظور الكاتب إدريس قصوريلتجاوز هذا"الدستور الجهادي"، يقوم على تعميق الخط الديمقراطي وتبني فكر استراتيجي يولي أهمية للاقتصاد لتحسين شروط الحياة الاجتماعية.
يقول "ولعل رفع التحدي بين السلفية الجهادية المقاتلة، ومن خلالها تنظيم القاعدة، وبين أنظمة دول شمال أفريقيا الممثلة في الجزائر وموريتانيا والمغرب وليبيا وتونس، يتوقف أساسا على من سيسارع إلى كسب رهان الفوز برضى المجتمع، ومن سيحرص على الوصول إلى أعماقه علما أن الفرق الواضح اليوم بين القاعدة التي اختارت أقصى الأسلحة والتضحية الجسمانية وبين المسؤولين السياسيين وكل الفاعلين الاقتصاديين الذين يريدون الانتصار على الارهاب بدون تضحيات سياسية ومالية لصالح المجتمع والاستقرار". ص197
ينخرط هذا الكتاب في صلب إعادة الوعي بما ينتجه الفكر العربي المعاصر وما يطرحه من تيارات و قضايا، خصوصا بعد التحولات الهيكلية التي شهدتها وتشهدها الساحة السياسية والفكرية العربية، كقضية الحرية والديمقراطية وعلاقتها بالتنمية،وغيرها من المسائل التي تتفرع عنها، وقضية الأصولية الإسلامويةباعتبارها قضية جوهرية، من منظور الكاتب، لا تستقر عند حدود الإشكال الذي تفيض فيه الأقوال وتتكاثر فيه الأطروحات،ـ وقد عرضها وأثار النقاش حولها ـ وإنما يرتقي إلى ما وراء صوغ طريقة التفكير في التكفير والتفجير، وتمثل الموضوع والمنهج في آن واحد ووضع السبل الكفيلة للمعالجة.
ويشير إدريس قصوري، أيضا، إلى أن هذه القضية قد وصلت إلى ما يمكن اعتباره مأزقا ابستيمولوجيا يحتم العمل على تضافر الجهود وتحويلها إلى إشكال آخر يفتح آفاقا جديدة وعامة تثري عملية النظر في الدواعي التي أنتجت إشكالية الأصولية الإسلاموية، وسيرورة استمرارها... وكشف أو بالأحرى فضح خباياها.
إن ما يميز الجهد الجدير بالملاحظة في هذا الكتاب هو التراكم الاستقرائي للوقائع الاجتماعية التي تغرز جذورها في العقل الأصولي الاسلاموي وهي تعود إلى تقليد فكري ذي مسحة دينية قديم مما جعله يشكل اختلافا كليا للمعنى بالنسبة للوضعية الآنية، ويبدو واضحا، أن الاختلاف يكمن ليس فقط في طرق التعبير والممارسة، بل في بنية المدلولات نفسها، مما جعلها تفتقد إلى بنية معيارية وصادقة للقيم المستوحاة من القرآن الكريم والسنة النبوية مثلا: في السلفية نجد "سلفيات" حتى صارت تعرف بأشخاص بعينهم، تظهر وتختفي بتغيرات فجائية. ويصبح سعر التنافي باهظا للغاية. ولا نبالغ إدًا إذا نعتنا السلفية المغربية بالسكونية تسعى إلى تبرير مظاهرها السلبية " وإصرارها المعمى" بغطاء ديني.
بتلخيصنا القضايا التي تناولها هذا الكتاب، يجب أن نلاحظ أولا أن الأصولية الأسلاموية تفرض صعوبات في التحليل للتعرف عليها، وذلك يتطلب مجهودا خاصا من التجريد، والدرس الذي يجب أن نستخلصه من هذا الكتاب هو أن قضية الاصولية لايمكن أن تشكل غائية وإلا لأمكن تجاوزها بسرعة؛ بل تبني وعيا خطيرا بكل ما تنطوي عليه هذه اللفظة من معنى، ولايمكننا إلا أن نكون قلقين في أن نرى موضهم تستولي على نموذج معين من فئات الشعب وتعطينا منه نسخات فقيرة ومشوهة فكريا، وبعقلية قادرة على الانتحار، وقتل الإنسان ونشاطات الذات، وتلك أبعاد أخرى.