رومانسية المدخل اللامعقول :
"شخص ضئيل يقف تحت المظلة الخشبية، لا يستند على الحائط ، لا يتحرك.. امرأة فتاة صبية، تبدو طبيعية لولا حالة الجمود غير البشري، وجه رقيق شاحب تحيطه هالة من الشعر المتطاير، بقايا ابتسامة منكسرة، تمثال من لحم بارد، تحدق للأمام بعيون غائمة نصف مفتوحة، فمُها منغلق، عليه ظل ابتسامة.. كل شيء ميت فيها إلا القلب".
"ورد، تلك الفتاة الرقيقة كأن العشق قد شفّ جسدها، تحب حتى النخاع، يقتلها الإحساس بالفقد والغياب " .
- "انتظري هنا سأعود"
يقولها حسن، طويل القامة، صلب الملامح، في نهار رمادي ممط ر.. توقفا تحت المظلة الخشبية للمحطة ينتظران قطار يحمله للرحيل.
قالت بصوت مرتعد :
- أرجوك يا حسن لا تسافر؛ أنت تغيب طويلاً، سيكون هذا قاسيًا عليّ.
ويودعها وداعًا فقيرًا .
"كيف يتركها هكذا عرضةً للهواء البارد؟ لم يكن لجسد بهذه الرقة أن يتحمل كل هذا الإحساس بالافتقاد "
يصل القطار، يحمل الطلبة، من بينهم طلبة الطب، ومنهم عليّ - نهائي طب، فتى يعانى كثيرًا من المتاعب، تقدم لورد، وضع المعطف على كتفها، ولم يعرف أن هذا المعطف رابط لمصيره بمصيرها..
ويقرر أن يقوم بشيء نحوها؛ ربما بدافع المسئولية، التعاطف أو الإعجاب، ولكن.. كيف يبدأ ؟ أين الخيط الأول؟ بهذه (الصورة الحلم) -عميقة الرسم، متدفقة الرومانسية، شديدة العذوبة- يستهل محمد المنسي رواية "أنا عشقت".
يقنعنا ببراعة وصفه بإمكانية حدوث ذلك اللامعقول، لدرجة نتجاوز معها الحدث نفسه، ونشترك في البحث؛ فيصبح القارئ مسؤولاً - مع عليِّ- عن إيجاد طريق الخلاص و إحياء الأمل.. ويراه في هذا الرشيدي، حسن.. ابن البلد، المخلِّص، القادر على الانتشال من الضياع.
نتهيأ لجرعة رومانسية أخرى كما البداية.. ومع التوغل في القراءة، نُفاجأ بانقيادنا - بلا توقف- خلف الأجواء السوداوية، حتى أننا ننسى أحيانا تلك البداية شديدة الخصوصية.. نتبع الأحداث كأننا جزء من الأمل.. ننتظر اللقاء بحسن ليعود، ومعه وبه تعود الحياة.
المعقول، رحلة البحث ومرارة الواقع:
من موضع الحدث (المدينة العمالية المحبطة) وما تمور به من أحداث.. يلتقط الخيط يتجه للعاصمة بحثًا عن "حسن".. الأمل- الذي يرى كطالب للطب- أنه الوحيد القادر على إعادة (ورد) لحالتها إذا ما عاد ولمسها، ستسري الروح لباقي أجزاء الجسد المتصلب .. في العاصمة، تتشعب الأحداث وتتوالى، تتقاذف أمواجُها بطلَنا الباحث.. يهدهده الأمل ويفرّ منه، يُحبَطُ حينًا، يتفاءل أحيانًا، تختفي الحقائق وتتعرى أيضًا.. وسط دوامة عالم المال والجنس بل والعبودية.. تغلي المدينة من شدة القهر.. ينقلنا من الأحياء العشوائية إلى الضواحي الفخمة، ومن أسوار الجامعة إلى أسوار سجون تشوه بقمعها نفوس من يدخلها - ولو مظلومًا- “ القاهرة ليست مكانًا للسذج ولا لذوي النوايا الطيبة, إنها مدينة يتصارع فيها الجميع من مطلع الشمس حتى غروبها, ويعبق جوها بغبار النفوس الضائعة, لا مكان فيها للأوهام أو للجري وراء السراب.”
تلك المدينة التي تموج بكل التناقضات. فيها يصبح "عليِّ" جزءًا من الحدث.. حتى أنه يتورط - رغم الرفض بفطرته السوية- في جرائم أبشع من أن يتصورها. و من خــــلال الأحداث والمصاعب التي ألقى بنفسه في خضمها تتجلى حقيقة "مدينة بلا قلب"، عنوان - الديوان الشهير لعبد المعطي حجازي- كشعور مصاحب للقراءة.
تقنية البوح: ضحايا العشاق
"أحياناً ما يكون الحب بالغ القسوة يقتل جزءًا من الروح فلا تشفى ولا تسلو ولا تعاود العشق ".. عبارة مفتاحية لمضمون الرواية تَرِدُ على لسان (عزوز- مهرج السيرك) يستخدم الكاتب تقنية سردية سلسة .. تختلط فيها شاعرية الحلم بواقع صادم، كما يعمدُ لاستنطاق الشخصية: تروى عن نفسها بمنولوج داخلي، به ينقل أدق خلجات النفس.. يعريها، نسمع بوحها الصادق بشغف.. الكل يقع فريسة لعشق، لا يخرج منه كما دخل. فالشخصيات كلها تقريبا ضحايا لعشقهم وفتنته وانكساره.
عبد المعطى: عاشقٌ، شديد السذاجة، يسوقه عشقه للصورة؛ فيصبح خريجًا لسجون لا ترحم، ويذوق فيها وبال عشق أعمى.. سُمية يُسرى: الطالبة الثائرة، تنحدر- رغم طبعها المتمرد- فريسةً في ظلمات شركِ حبٍ موهومٍ؛ لتدفع الثمن الباهظ، وحيــــدة .. عزوز- مهرج السيرك: يترك فرقته، يستقر بالقرب من حبه المتوهم وآسرته الفاتنة، يكتفي منها بمجرد المرور بجواره و لو أن يظفر منها بنظرة تشفي أنين صدره الحائر.. حسن الرشيدي: يقع أسيرًا لعشق مختلف، يتغنى بالحرية، حرية الإنسان في اختيار مصيره وحياته الكريمة، ويرى أنه عشق يستحق أن يُدفع لأجله أغلى الأثمان ولو كان الثمن الإنسانية نفسها.. وحتى بطلنا "عليّ".. كلهم ضحايا لحبهم بشكل أو بآخر.
أبطالٌ و رموز لا تنتهي
المتتبع لشخصيات الرواية، لا يمكنه إغفال إسقاطاتها الإنسانية، الاجتماعية، والسياسية:
"ورد": الحبية المجهدة، أتعبها طول انتظار لمسة المحب؛ تبعث في جسدها روح (حياة) ذبلت.. ورد الإنسانة، محبطة الحلم تراه -على بساطته- مستحيلاً، تغذى حلمها بالآمال، وانتظار يدٍّ تسحبه ليرى النور يلامسه، لعله يقتحم أطراف الواقع المرّ؛ يخفف عن صدرها المخنوق بطول انتظاره.. قلب نابض، متمسك ببقايا حياة رغم إحباط يجرفها حد التلاشي لحافة الموت.. حلم مؤجل مفتقد.. وطن جريح، بحاجة لأيدي أبنائه وسواعدهم الفتية بها ينهض. البلاد الآسرة، تفتح ذراعيها وقلبها بل و"صدرها" أيضًا للمارّين العابرين؛ ليتركوا حقائب سفرهم المتعبة بحثًا عن ركن يضمهم؛ فيستقروا.
"حسن الرشيدي" الشاطر حسن.. صاحب الرؤية الرشيدة، نبتُ مدينة العمال المثقلة بالاحتجاجات، ابن الناشط العمالي، بين طبقة العمال الكادحين الحالمين ومنهم وبهم يحيا.. تغتاله اليد القاهرة للحلم .. الشاب الباحث عن حياة كريمة للإنسان، يسلك طريقًا غير الذي سلكه الأب؛ فيتعرض لاغتيال من نوع آخر، يُطارَد في حياته وعمله؛ ليصل لحالة من فقد الآدمية مجبرًا " قاتل". حسن.. جيل تغذى على إحباطات حــــلم الآباء، والتلاشي التدريجي لأمل تغيير كان منتظرًا في بناء مدينة فاضلة، وُعدوا بها مع ثورة تهدم الفروق الطبقية، تبشر بوجه جديد للوطن، وطن يحتضن الجميع بلا تمييز، يسقي أبناءه معنى الانتماء.. و يستفيق جيل كامل على كابوس يطول مع النكسة.
"عليّ": حلم نقي لدرجة السذاجة. قلب أبيض متشبث ببراءته رغم المتاعب، المانح بلا مقابل يأمله لنفسه سوى الرضا والسعادة بالمنح .. " لماذا يبدو وجهه بهذا الصفاء؟ كأنه واثق أن الحياة ستعطيه ما يريد! ".. المُصِّر– المتردد، لا يملك سوى بساطة وبراءة يواجه بها كل هذا القبح.. جيل الحلم بيوتوبيا وطن، هو جيل المنسي قنديل - إن لم يكن هو نفسه- (قمر على سمرقند)، (انكسار الروح) الراوي "عليّ" أيضًا.. لا يرى فيمن سبقه حلاً، في انتظار ميلاد جيل أنقى وأكثر قدرة على المواجهة.
العودة.."كلنا ملوثون"
ص404 - ص436 "نهاية الرواية" .. تعتبر رواية قائمة بذاتها؛ فيها من الرمز والأسى والمشاعر الهامسة والتصوير الحركي للأحداث، بعبارات غاية في الرشاقة، تعوض لحد كبير شيء من التفاصيل التي أغرق فيها وأطال- ربما لديه ما يبرر- أضاع القارئ فيها. تكشف عن ملامح الشخصيات من خلال الحوار سواء داخلي أو خارجي. " أنا الشاهد الأخرس الذي لم يحرك ساكنًا عندما وجدت نفسي في دائرة القتل وتركت الفزع يشل إرادتي" كان كريهًا .. شعرت بالخجل من صمته ...
-علي " أنت تعرف أنك لست بريئًا كما تتظاهر، يمكن أن يستيقظ الجانب المظلم داخلك عند أول ضغط " .. " السجن زرع في داخلي حسنًا آخر"
- حسن ينظر من النافذة المفتوحة يهتف مفزوعًا: " لقد ركبت القطار الخاطئ ".. عبارة ينطقها أحد الركاب تُلخص المشهد وما فيه من دلالات.. أخطاء الماضي والحاضر تطل بفجاجة، خطايا أبناء الوطن وصمتهم واستسلامهم للسير في ركاب من أجرم في حق الوطن وإن كانت النوايا حسنة. نكتشف أننا لا نسير في الاتجاه الصحيح؛ ومع ذلك لا نتوقف ولا نغير المسار ولا حتى نقفز من السفينة قبل الغرق، إنه الاستسلام التام للمصير أيًا كان.. كما نعيشه الآن ونكرره بمنتهى الحماقة.
مشهد وصول القطار وعودة حسن يهبها الحياة، يستحق القراءة المتأنية؛ لبراعة وصف اللحظة التي ظلت مرتقبةً مع بدابة الرواية، ننتظرها بشغف اللاهث للوصول، حيث (حسن ينقل إليها شيئاً من دفئه). مشهد دراماتيكي، يُروى على لسان عليّ: " يتقدم عزوز- المهرج، يقذف كرياته في الهواء.. يطل الركاب من القطار بصمت .. تستند ورد على كتف حسن ، أصرخ بأعلى صوت (إنه ليس هو)، إنه ليس حسن الذي أحببته لقد تلوث، أصبح قاتلًا، قاتل مأجور يقتل بدم بارد.. وربما تكونين أنت ضحيته القادمة.
تشعر ورد بالخوف من صياحي بالخوف منى تحتمي بصدر حسن الذي يلف ذراعه حولها ويجذبها مبتعدًا، لا ينسى أن يلتفت إلىَّ وعلى وجهه ابتسامة بريئة وخلفهما يسير عزوز وهو مازال يواصل اللعب بالكريات الملونة ".
أخيــــرًا :
رواية الحلم، حلم التغيير ببعث الروح تسري من القلب (العاصمة) في جسد الوطن وأوصاله. وارتطامه بواقع صادم يحمل عبء تركة هي محصلة سنين من الانهيار والفساد المتجذر بأيدي أصحاب المصالح في استبقاء الوضع القائم أرضًا خصبة لفسادهم.. رواية تأخذك ببساطة وشغف لعوالم قاتمة فيها من الرتابة حينا والتشويق أحيانًا.
غلاف الرواية، مدخل مشوق لعشاق (قراءة الصورة) حيث الأزرق الغامق يطغى بإيحاءات الحزن الشفيف .. الفتاة "خيال الظل" ووقفتها مستكينةً تحت مظلة خشبية لمحطة قطار.. إضاءة باهتة تنير لا تضيء في انتظار لحظة خروج مأمول..
نجح المنسي قنديل في صياغة عالم روائي خاص عنوانه" استمرار رغم الانكسـار".. بحس المتمكن من أدواته، وقدرة على تطويرها وتطويعها للتجديد، وأسلوب يشدّ حتى النهاية وبراعة في السرد والوصف، نظل نطلب منه المزيد لنرتوي، ويروي شغف من أسره عالم المنسي قنديل الروائي.
كاتب و ناقد من مصر