تقدم الناقدة التونسية هذا الكتاب الذي لم يلتزم بالحيز السجني ممثلا للقمع الروحي والجسدي بل وسّع مجال دراسته للقمع ليشمل المجال السياسي والاجتماعي والفردي. واعتمد على سبع روايات، القاسم مشترك بينها طرحها قضية القمع في مختلف أبعاده عبر رؤى مختلفة ومقاربات متنوعة. ويتميز الكتاب بتحليل مؤلفته لكل وجه من وجوه القمع المتعددة التي رمزت إليها الشخصيات المرجعية أو المتخيلة.

قراءة في كتاب «رواية القمع في تونس»

راضية كبير القارصي

إذا كان حديث البدايات مرادفا لمحاولة تفسير الظواهر وإرجاعها إلى أصولها أو هكذا يعتقد الدارسون فإنه يمكن إرجاع تاريخ قمع المدينة لأبنائها إلى سقراط الذي حرم من حريته واضطهد من أجلها حتى الموت. تاريخ القمع طويل قبل نشأة الدولة ومعها. هو تاريخ إلغاء الإنسان لغيره المخالف له في المواقف والاختيارات، إلغاء الإنسان لغيره وجه متأزم من إلغائه لنفسه أي زواله هو في صورة الآخر. وفعل القمع صاحبه كلام القمع وعارضه كلام الحرية وفعل التحرر. واستمرت الحرب سجالا بين سلطة ضرورية تتحول إلى قامعة فتُنْبِتُ في أحشَائها إرادةُ الحياة أصوات إلغاء مضاد نُسَمِّيهَا مقاومة ومنها المقاومة الأدبيّة النّقديّة التّأويليّة الّتي نحن بصدد عرضها والمتمثلة في كتاب «رواية القمع في تونس»، للناقدة منية قاره بيبان، دار نقوش عربية، تونس 2013، الواقعة في 193ص.

وحتى لا نوغل في التقديم، وإن كان نافعا، نُذكّر أن أدب القمع السياسي في تونس ظهر بين الناس في كتب مطبوعة منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي – هذا على حد علمنا – ظهر باللغة الفرنسية مع "Cristal" لـ G.Naccache، 1982، ثم مع رفيقاته ورفاقه مقاوما القمع البورڤـيبي وكان تصوير التجربة السجنية وما يحف بها محور أدب الذات المسجونة حتى جاء كتاب فتحي بلحاج يحي «الحبس كذاب والحي يروّح»، مكتوبا باللغة العربية وتلته كتب أخرى([i]).

أما في شرقنا العربي فيمكن إرجاع أدب السجن في العصر الحديث إلى مصطفى كامل والعقاد في كتابه «الحدود والسدود» ثم كانت الفترة الناصرية وإيجابياتها ومآسيها والساداتية التي عرفت اتفاقية كامب دافيد ذات الباع الطويل في الزج بالمثقفين في السجون وظهر معها من بين ما ظهر كتاب فريدة النقاش «السجن .. الوطن»، 1982، الذي تقول فيه : "لقد بات غريبا جدا أن يَعمل أحد بالسياسة من بين أبناء جيلي ويُفْلِتَ من تجربة السّجن، أصبح السجن إذن جزءا من الوجدان الوطني العام"([ii]).

أما فيما يخص تقديمنا اليوم فإن الناقدة منية قاره بيبان لم تلتزم بالحيز السجني ممثلا للقمع الروحي والجسدي بل وسّعت مجال دراستها للقمع واعتبرت أن أبرز تجلياته كما تقول في ص 146 : "هي تغييب الآخر ومحاصرته نفسيا وماديا وتكميم فمه أو قطع موارد رزقه – وقد يكون السجن أحد رموزه"([iii]).

ويبدو لي أنها استلهمت في ذلك عبد الرحمان منيف([iv]) وسارت مساره وكان قد تبنى هو بدوره في نظري عبارة رائد الدراسة السجنية نزيه أبو نضال في كتابه أدب السجون 1980 ([v]). وصار القمع يعني المجال السياسي والاجتماعي والفردي.

لقد اعتمدت الدارسة مدونة لها سبع روايات ورتبتها وفق تاريخ صدورها أو سنة الطبع. وهي :

1.                رواية «آخر الرعية»، لأبي بكر العيادي، صدرت عن دار L’Armathan، في باريس، سنة 2001.

وتدور حول القمع المتصل بالاستبداد السياسي الديكتاتوري في عهد بورڤـيبة.

2.                «دروب الفرار»، لحفيظة قاره بيبان أو بنت البحر، صدرت في تونس 2003.

وتدور الرواية حول القمع في محاور ثلاثة، العالم السياسي والذكوري المدني والديني المتشدد.

3.                «عيد المساعيد»، لرضوان الكوني، صدرت بتونس 2005.

وتدور حول القمع في أجهزة الدولة الإيديولوجية في الإعلام تحديدا وما يتصل به من مجالات.

4.                رواية «رجل الأعاصير»، للناصر التومي، تونس 2008.

وتدور حول القمع المسلط عن طريق الدمغجة الرسمية القائمة على الإغواء واللعب بالعقول.

5.                رواية «أبناء السّحاب»، لمحمد الجابلي، تونس 2010.

وتدور حول الشعور بالحصار والقهر الاجتماعي بأشكاله المتعددة أرق السؤال من أين بدأ الخلل؟

6.                رواية «برج الرومي أبواب الموت»، لسمير ساسي، 2011، وقد صدرت الرواية نفسها سنة 2003 بلندن تحت عنوان «آخر البرزخ».

وتناولت القمع والتعذيب في السجون وخاصة النفسي منه.

7.                «تراتيل لآلامها»، لرشيدة الشارني، بيروت 2011.

ودارت أساسا حول القمع المسلط على عائلة سجين الرأي في سنوات الجمر (على أن هذه الرواية ذكرتني بـ«شرق المتوسط» بعبد الرحمان منيف).

ومقاييس الاختيار، كما أوضحتها المؤلفة في المقدمة هي :

1.                محاولة تمثيل تنويعات الرواية التونسية في عقد من الزمن هو العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين حتى وإن كان هذا التمثيل جزئيا ص12.

2.                دورانها على قاسم مشترك: هو طرحها قضية القمع في مختلف أبعاده عبر رؤى مختلفة ومقاربات متنوعة. ص12.

مزية الكتاب الأساسية تتمثل في تحليل المؤلفة لكل وجه من وجوه القمع المتعددة التي رمزت إليها الشخصيات المرجعية أو المتخيلة ويعود إطار بعضها إلى زمن بورڤـيبة مثل «آخر الرعية» و«رجل الأعاصير» أو الزمن المطلق المؤسى له ببعض الإيحاءات الخفية.

يقوم جوهر هذا العمل النقدي على جهد تحليلي واضح بل مسهب أحيانا استغرق 175 ص من 193ص نفذت من خلاله المؤلفة إلى كل رواية على حدة تُحلِّلُ في البدء عنصرا قارا فيها جميعا هو مظاهر القمع وآلياته وأشكاله كما وردت في عوالم القمع السبعة أولها «آخر الرعية» وتاليها «دروب الفرار» وآخرها «برج الرومي، أبواب الموت» مرورا بـ«عيد المساعيد» ثم «رجل الأعاصير» فـ«أبناء السحاب»، فـ«تراتيل لآلامها».

هي رحلة في رواق السّجون الضيقة أو الفسيحة كما في سجون النفس. شُدَّت إلى جدار الرواق الكبير كلوحات متجاورة أو متناظرة، كُلُّ لوحَةٍ تحكي روايتها تتتَبَّعُ قامِعَهَا، تحاول القصاص بمداد الذاكرة الجريحة، الصَّمِيمة أو المتَخيلة، لوحة تتعالى منها التراتيل فلا ندري هل هي آخر ما يتعالى وفي الأخريين أعاصير وسُحُب ثورَة وأحلام تنضاف إلى دروب فرار أو مقاومة تنتهي ببرج متعالٍ جبَّارٍ عنيدٍ عميق الدهاليز يفتح على الفناء بعدما جرب السَّعادَةَ الزَّائفَة.

نَقْدُ النَّقْدِ الّذي نمارسه تَحَلُّلٌ من كلّ قيدٍ وممارسة لعملية الكتابة على الكتابة أو لِشَغَفِ الكتابة على سطوح الجراح الغائرة.

في هذا الركن الذي يمكن أن ننعته بالركن المضموني غابة كثيفَةٌ أو قُلْ هو ليل داهم بسواد منتشر : أساليب القمع ومظاهره كثيفة وما أكثرها وما أشد وطأتها على الضعيف الأعزل إلا مِنْ فِكْرٍ حرٍّ ووَعْيٍ نابض ولسانٍ طليقٍ : وَاجَهَنَا في الروايات قمعٌ بتوظيف الإعلام للدمغجة وغسل الأدمغة والتلاعب بالعقول وإغراء من أطلقت عليهم الناقدة : "المثقفين" وإغوائهم وإثارة نهمهم وقمع بتحريف التاريخ وإلغاء الغير إلغاء المستبد الغاشم (آخر الرعية) وقمع المشاعر والأحاسيس والأفكار هو صنو التعذيب وانتهاك حرمة الجسد.

كما يلقي قارئ هذه الدراسة ضربا آخر من القمع ساق إليه توسيع المؤلفة لمدلول القمع أدَّى إلى توسيع دائرة الروايات المتعلقة به ونَوَّعَ مَوَاضيعَهَا واهتماماتها مما قدْ يزُجُّ بهذا اللفظ في فضاء دلالي قريب لكنَّه مغاير له وهو الاستلاب L’aliénation ومرجعيته مخصوصة. ونرى هذا في رواية محمد الجابلي «أبناء السحاب»، أين تواجه الشخصية حصار السلطة وحصار المكان السّجن الكبير وحصار العولمة : الاستعمار الجديد وحصار الذات.

لا ننكر على الجابلي موضوع روايته ولا على المؤلفة اختياراتها في القمع لكننا نتساءل أين حدود القمع في الرواية وفي هذه الرواية بصفة خاصة؟.

أما الركن الثاني من هذا العمل النقدي المتمم للجزء الأول فيتعلّق بالفنيات الروائية التي أنيطت بها وظيفة تحويل اللوحات (أي الروايات) من مادة لغوية إلى ألوان ترى وأطياف تتراءى وأنخاب تساق وروائح تضوع.

تعْقُّبُ الفنيات الطويل أفضى هو الآخر بالناقدة إلى الإمساك بخيط ناظم في هذه الروايات، هو غلبة «التجريب» وإجراء السّرد بمختلف مقوماته على غير المجرى التقليدي.

وقد تفضلت الناقدة فوصفت هذا التجريب أو هذا الانفلات من مفهوم القيد بـ«ـالتّحديد» استدعته القدرة على مواجهة ضروب الاستبداد والقهر ص191.

أما التهجين بمعنى المزج بين أنواع من الخطابات المختلفة فكان قاسما مشتركا بين روايات عديدة.

وكان لأساليب السخرية والهزء والتورية أهمية في إنشاء صور كاريكاتورية للدكتاتور.

إن استفادة السيدة منية قاره بيبان من التيارات اللسانية النقدية الحديثة واضحة وكذلك من بعض الدراسات التطبيقية العربية ويظل اعتمادها واعتمادهم على مؤلفات ميخائيل باختين في الرواية ونظريته في حوارية الرواية مصدر استئناس واستلهام يسَّرَ كغيره من المصادر النفاذ للجزئيات الأساسية التي لا نرى رواية مهما كانت تقوم إلا بها أو بأغلبها.

ترفع الكاتبة مجهودها النقدي هذا لتحاول دفع شعور بالضيم طال المثقف في ظل متغيرات الواقع الاجتماعي والسياسي في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص ص10. فقد قرنت الناقدة المثقف التونسي بالمبدع والروائي على وجه التحديد ص10 وقصدت إبراز مجهود هذه الفئة التي تنتمي إليها موضوعيا في مواجهتها القمع كل بالطريقة التي اختارها وحسب مقدار ما كشفه من جرأة وتهيأ له من استشراف الآتي.

خاضت هي بدورها مغامرة النقد قارئة متفهمة مبدعة يغمرها هاجس إعادة إنتاج النصوص الروائية على نحو إيجابي مبدع يفكك ويعيد التركيب والبناء ليكشف عمّا خفي في مادة ا لعمل الروائي من وسائل فنية وَحِيَلٍ سردية ﭐندست فيها أساليب مقاومة القمع أو الكشف عن آثاره أو تعقب مساربه بحثا عن المواد الفنية المهرّبَة في أنفاق النفس وسجون المداد.

ثأر يطلبه الناقد الفنان المبدع من السلطة الغاشمة والأنظمة السياسية المنغلقة ونظائرها ومشتقاتها وحلفائها.

ترى لو لم تكن للمؤلفة هذه الأداة النقدية كيف كان يمكن لها أن تقتص من جحافل الاضطهاد والإذلال؟ كيف كان لها التعاطف مع أصوات الحرية المكتومة ؟

استنتاجات ومساءلات
نحاول أن نقدم بعض الاستنتاجات المتسائلة احتفاء بهذا الإصدار ومساهمة في تعميق أبعاده التأسيسية.

1.                كان يمكن للقارئ أن يخرج بفكرة أكثر ثراء عن مضمون الكتاب لو جاء تحليل خصائص رواية القمع في تونس تحليلا تأليفيا لا تجزيئيا مفصلا رواية رواية.

ومع ذلك نبادر بطرح سؤال الخصوصية.

2.                يسوقنا منطق التحليل وأسئلة البدايات وما تضمنته من مطامح معرفية، لا سيما وإننا إزاء باكورة إنتاج نقدي في مجاله، إلى التساؤل بدورنا عن نتيجة ينتظرها القارئ من هذه الدراسة :

هل تمكَّن هذا الجنس الفرعي من الرواية من اكتساب خصوصيات تميزه عن غيره من ضروب الرواية؟

نحن نعتبر أن عبارة «قمع» وخاصة «رواية القمع»، مصطلح يحتاج إلى مجهود تأصيلي لهذه العبارة حتى تصبح مصطلحا لأنها، وعند مستعمليها الأوائل، أبو نضال وعبد الرحمان منيف تتردد بين الاضطهاد، العسف، خرق حقوق الإنسان، الاغتراب، وقد تعكس وجهات نظر متباينة نسبيا في توصيف هذه الظاهرة الروائية.

3.                أمّا ما يُعَدُّ من النتائج حريًّا أن نسائله ما توصلت إليه الباحثة في قولها في «الخاتمة» : "شفَّت (روايات القمع) عن بعض جذور الاستبداد الثقافية وقد جسدتها عملية متجذرة وعكستها نخبوية المثقف وتقديسه المقولات والشعارات وغياب فاعلية حقيقية في تعامله مع السلطة ومع الآخر عموما". ص192.

وانتهت إلى اعتبار بعض الروايات قد «رسمت ملامح ثقافة تهيئ الفرد ليكون مشروع مستبد».

فالسؤال الذي نطرحه : هل أن الرواية لم تستطع أن تفلت من قيد الواقع المباشر وسلطة الانعكاس التي يبدو أن الناقدة تبنتها ضمنيا رغم الاحترازات؟ أم هي سيطرة الواقع وتأصليه وإحكام قبضته على الرؤية الفنية وأساليب السرد؟ أم أن هذه الروايات الواعية بأهمية الحرية قد خانها الزاد المعرفي أو الأداء الخلاّق الّذي يَنْجَحُ في كَسْرِ سلاسل الانعكاس بين المرجعي والمتخيل الروائي ؟ أم أن هاجس الكشف والإدانة ونشدان الخلاص كان من أوكد حاجات رواية القمع قبل سواه وهو ما يجعل منها روايات مناضلة، ملتزمة باللحظة، صرخات مكتومة حينا وصاخبة حينا آخر على ضفاف نهر القمع الطامي.

الخاتمـــــــــــــــة
حَسْبُ الناقدة منية قاره بيبان أن جمعت هذه الأصوات الأدبية الغاضبة، المنادية بالحرية والمتباعدة في الزمن والمتباينة في القيمة الفنية كذلك وشحذت ما بينها من أواصر ثقافية إنسانية صَمِيمَةٍ. عَرَّفَتْ بمجهودها الفني وربطت بذلك حلقة مفقودة ودشنت مبحثا نقديا لم يزل بَعْدُ بكرا في تونس وإن حرمها في رأينا منهج التفصيل لذة تعميق التأويل. لقد ربطَتْ حَلَقَةَ وَصْلٍ هي بحاجة إلى أن تكون بين رواية القمع في أقطار العالم العربي (كمصر والعراق وفلسطين والمغرب).

تفتح هذه الدراسة أو بالأحرى بعض العناوين من مدونتها بابا للمقارنة بين رواية «السجن» المكتوبة باللغة الفرنسية وتلك التي تلتها بالعربية من جيل الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي لأن كُتَّاب الثانية أغْلَبُهُم على الأقل، ينتمون إلى أفق ثقافي غير الذي انتمى إليه جيل التسعينات من القرن الماضي.

لا يسعنا إلا أن نقول تغيّرت ضحايا القمع وتنوّعت، استبدِلت الأجسادُ بالأجسادِ واستبدِلت الأرواحُ بالعدم، وصوت القمع لا يزال ملازما خطى المجتمعات العربية يحدوها، يأخذها مغلولة اليدين إلى طريق الدَّمَارِ وإن تفاءل المتفائلون.  


[i]. ـ أ ـ كتاب "برج الرومي".2011. ـ ب ـ حمدة العتال : لـ "محمد صالح فليس".

[ii]. نقلا عن نزيه أبو نضال أدب السّجون 1980 ص198.

[iii]. رواية القمع ص 196.

[iv]. عبد الرحمان منيف، مجلة "فصول"، المجلد II ج 3. 1992 ص 185.

[v]. نزيه أبو نضال "أدب السجون" بيروت 1980