في البدء
كان الإقلاع من مطار محمد الخامس صوب القاهرة، حوالي الساعة الواحدة وخمسة وعشرين دقيقة. كل مرة أقل الطائرة، وتبدأ في الصعود إلى الأعلى تدريجيا، تنتابني هواجس وذكريات، وتحوم حولي وتلفني في قماطها وقائع قد تكون أليمة أو مفرحة. المهم أنني لا أتدخل في اختيارها، ولذلك أتساءل لماذا دائما تحتلنا وقائع بعينها دون غيرها، ومن بين غيرها، في زمان ومكان محددين، هل الأمر مجرد استحضار لماض عابر؟ أم حنين ضائع؟ أم خوف من الآتي؟ أم هو خليط من كل هذا، وغيره كثير..؟
بعد مرور بعض الوقت، استوت الطائرة على خط مستقيم،، كنت أتصفح بعض الجرائد الوطنية، التي تقدم للزبناء المسافرين دون غيرها، من قبل الخطوط الملكية، وأخرى كنت قد اشتريتها، من دكانين في أحياء الدار البيضاء، قرب شارع أنوال، حيث كنت التقيت المناضل عبدالسلام الشفشاوني قبل يوم من السفر، أي 30 مارس، وفي اليوم الموالي كنت قد انتقلت إلى المطار عبر القطار وبالضبط عبر محطة الوازيس.
كانت الطائرة عبر شاشاتها العديدة المبثوثة أمام كل مقعد على حدة، تعرض معطيات الرحلة المتعلقة، بمستوى الارتفاع عن الأرض، ودرجة الحرارة الخارجية، والساعة المنتظرة للوصول إلى القاهرة، والمسافة التي قطعت، والمتبقية، وقياس السرعة الذي يتجاوز 900 لقطع أزيد من أربعة آلاف كيلومتر جوا، في زمن يقدر بخمس ساعات.
من هنا إلى هناك، أو من هناك إلى هنا، عبر أجدادنا الأشاوس هذه المسافات بلياليها ونهاراتها وسهولها وجبالها ومغامراتها مشيا على الأقدام والخيول والجمال، بعد هروبهم، من تلك الحماقات السياسية، وحسم الصراع بواسطة السيوف، من أجل سلطة أو مال وسخين، أو استعادة حق مهضوم، أو ارتحالهم لدواع اقتصادية ودينية، أو رغبتهم الجامحة في الاكتشاف.
كانت الطائرة تمخر عباب السحاب وتلتهمه، أحسست ببعض الضيق لشعوري بالحرارة الزائدة، لأنني كنت مصابا بنزلة برد، أعدت تقليب وقراءة الصحف التي كانت بين يدي، قبل أن تقدم لنا وجبة خفيفة من الأكل دجاجا أو سمكا؛ حيث طلبت السمك المرفوق بشيء من الأرز وشريحة من الجبن ودانون وكوكاكولا، وبعده شاي ليس على الطريقة المغربية، مزجته بالحليب.
كنت من حين لآخر أطل عبر النافدة الصغيرة إلى الفضاء الخارجي، الذي نحن داخله أو هو داخلنا، بعد حين بدأت أقرأ وأتصفح مداخلة الصديق العزيز الفاضل شعيب حليفي، حيث كان من المقرر أن نشترك سويا في مؤتمر ثقافي وعلمي من تنظيم مكتبة الإسكندرية، حول الرواية المغربية والمصرية، بيد أنه تعذر عليه ذلك.
قبل ذلك كنت قد تكلمت هاتفيا مع الأستاذ حسام عبد القادر من مصر، وباشرت الاتصال ببعض الأصدقاء بالمغرب قبل المغادرة (بوشعيب الشرقاوي، ومعرف حجاج، ود.التائب عبدالله الذي لم أستطع الحديث إليه)، وأعدت الاتصال بشعيب حليفي من أجل توديعه، وترتيب أمور السفر وبرنامجه العلمي، ثم أختي خديجة وزوجها بفرنسا. كانت معي زوجتي فخوث ثوريا، كنا نتجاذب أطراف الحديث توزعت بين المشاعر المشتركة، وانشغالات أسرية ليست طارئة.
أحاول أن أغفو بعناد، لكن الغفو كان أعند، استبد بي بعض القلق والحرج من نفسي، حيث استطاب البرد السكن في جسدي لأيام وهو الملتاع بالحساسية، كانت الشمس دافئة والجو صافيا، قبل أن يحل الشفق الأخير، بخفوت ضوء النهار وغيومه الهائمة في فضاء الله، كنت أدون ما يخطر ببالي من حين لآخر، وأسجل ما أفعله وأشاهده وأتأمله، وأكتب بشكل متقطع ودون ترتيب ولا تنظيم، لم يستهوني متابعة فيلم أمريكي على الشاشة، كل كان منشغلا بمجاله، ومن حين لآخر، ترتفع أصوات أطفال أو حوارات ثنائية بين بعض الركاب.
الزمن هنا له معنى آخر، معنى الاندلاق والتسرب في أعماق الوجود، وهو نفس الإحساس الذي يتملكني كلما استقللت الطائرة، أستشعره جارحاً حاداً، من بعيد يتلألأ لون مائل إلى للصفرة والحمرة الخفيفة، في حين كنا نغوص في اللون الداكن مثل مح في بيضة، حيث بدأت درجة الحرارة تتراجع.
مع بداية النزول إلى أرض مطار القاهرة، أو كما يسمونه الإخوة المصريون الميناء، تعانق بطل وبطلة الفيلم المعروض على الشاشة، الذي كنت فقط ألمح بعض لقطاته، بعد أن خرجا من جحيم مواجهة خرافية، حيث كانا يصارعان وحشاً كاسراً وضخماً، ومع هذه اللقطة انتهى الفيلم. ومع مرور الجينيريك وفي خضم صوت المذيعة بالإعلان عن لحظة الوصول، وملامسة الأرض، خيم ظلام الليل على مصر.
فــي مـصر:
كنت دائما أتطلع لأن أكتب عن سفرياتي، لكن لا أدري ما الذي كان يكبحني ويشلني، اليوم قررت أن أتمرد على ذاتي، وأطلق هذه العادة السيئة، أي "الإضراب" عن الكتابة في مواقف تضيع ولا نعرف كيف نسردها من خلال الذاكرة، بتحريض من شعيب حليفي وتواطؤ من حوافز باطنية تدعوني لذلك.
وجدت مرافقي في انتظاري، حيث سيسافر بي، من القاهرة إلى الإسكندرية (أزيد من 220 كيلومترا ليلا: كان يبدو الوضع الأمني هادئاً، الناس تتحرك بشكل عادي، تقضي أغراضها اليومية، وهناك زحمة كثيفة في القاهرة وفي طريق الإسكندرية. بعد أن قمنا بتبديل عملة الأورو، بالجنيه المصري، اقتنيت شريحة الاتصال التابعة لشركة فودافون Vodaphone، حيث توجد ثلاث شركات للاتصال بمصر، واشترى مرافقي قنينتين من الماء والمونادا.
تحدثنا عن مصر وأحوالها ومنتوجاتها، أما الكلام في السياسة فكان عابرا، ليس لأن مرافقي، كان متبرماً أو متحفظاً، ولكن الحوار جال في أمور أخرى، غير أنه من حين لآخر كانت تصدر بعض التعليقات. مصر عادت كما كانت قبل، والله الشيء الوحيد الذي نجحت فيه الثورة أنها أزاحت التوقيت الصيفي، ولم تتم العودة إليه بشكل نهائي، وهو التوقيت الذي بكرت بإقراره الحكومة المغربية.
يسوق الناس سياراتهم وشاحناتهم بطريقة جنونية لا احترام فيها لليمين ولا لليسار، أنستني معاناة السياقة في المغرب، ربما شأن السياقة، شأن السياسة بمصر.
وصلنا حوالي الواحدة ليلا إلى الإسكندرية وحللت بفندق ومطعم اسمه سان جيوفاني يقع على الشاطيء، كنت في حاجة لأن أتمدد وأستريح وآخذ قسطا من النوم.
في شوارع القاهرة والاسكندرية تعلق العديد من الإعلانات الكبيرة الحجم والإشهارات والصور، سواء في اللافتات أم واجهات المباني، أم من خلال الكتابة على الجدران، تعلق الأمر بأمر شخصي مهني، أو عام، هناك أيضا الشعارات السياسية المختلفة المتلونة حسب تلون الأحداث السياسية والايديولوجيات، وما جرى ويجري في مصر الآن، من تدافع على مستوى الأمن والسياسة، ومسألة الترشيح للانتخابات السياسية.
في الأوطيل تجد صورا لفنانين مصريين مشهورين من الرعيل المؤسس للسينما المصرية وفنانين من السينما العالمية، وصور للسادات، التي يمكن أن تجدها معلقة في مناطق معينة من محافظات مصر، لكن صور الراحل جمال عبدالناصر تصادفها في أمكنة كثيرة من مدن مصر وشوارعها، وحتى في الأرياف، وأسماء متاجر باسمها.
كل مواطن مصري تحادثه تجده مستعدا للبوح بالمكتوم والرحيل بك إلى أقاصي الجراحات الذاتية والجماعية، إن لم يكن هو المبادر، وفي كل نقطة لا يخرج الحديث عن السؤال عن الجنسية التي تحمل، وعن مصر، وهواجسها السياسية والأمنية والاستحقاقات السياسية، هناك انخراط جماعي وفورة مصرية مشتركة اندلعت في مصر بعد ردح من الزمن خيم عليه الصمت والتردد، يمكن أن تقرأ في السياسة ما يخطر على البال وما لا يخطر.
يا رب احمي مصر
مصر أم الدنيا.
لا لحكم العسكر .. لا للانقلاب.
C.C سفاح، قاتل
بأمر الشعب عبد الفتاح السيسي رئيسا لمصر.
الكثير من أصناف السيارات التي لا تجدها إلا بالكاد في المغرب، أو أصبحت قليلة، وكانت منتشرة منذ عقود مثل فيات وبيجو القديمتين، هي التي تملأ شوارع الاسكندرية، وأخرى لا تعثر عليها بالشكل الذي ألفناه في المغرب. من المظاهر المثيرة التي يمكن أن تقرأ سوسيولجيا ونفسيا وثقافيا، والتي تعكس طبيعة الشخصية المصرية بمكنوناتها ولا وعيها الجمعي ذلك النسق السائد على مستوى انتشار كتابة الأدعية والرجاء في الله، والدعوة إلى الله والشهادة .. إلخ على الجدارن والشوارع كما في السيارات.
يقول محاوري وهو مواطن مصري عادي: السيسي رجل وطني، حمدين صباحي لا أحبه، دائما مع الجهة الغالبة، ومد يده للإخوان، عبد الناصر رجل لم يخضع لأمريكا.
وسألته على من سيصوت. أجاب: طبعا السيسي، أزال بذلته العسكرية وقبل أن يضحي برتبه العسكرية من أجل الشعب.
في اليوم الذي وصلت فيه كان إيقاع مظاهرات جامعة الأزهر، هو الخبر المنتشر، لكن الاحتجاجات وأشكال الغضب الجماعي لم أر لها أثرا في الشوارع والمدن والمحافظات التي زرتها، وبعده سيطغى على الإعلام حدث التفجيرات الإرهابية في القاهرة، وفي كل هذا الحياة الاجتماعية اليومية عادية، حيث يتطلع المواطنون إلى الأمن والاستقرار والإقلاع الاقتصادي بعد أن ساد الركود أكثر من قبل، كما قيل لي.
الحيطة الأمنية قائمة في جل المرافق الإدارية والمركبات التجارية الاقتصادية الكبرى، وليست هناك مظاهر ضخمة للحضور الأمني والعسكري في القاهرة وغيرها، لكن تلمس تباينا على هذا المستوى، إذ يصادفك حضور عسكري واضح في محافظات معينة في الطريق والمجال الحضري، مثل مدينة الإسماعيلية.
بعد المشاركة في مؤتمر الرواية (المغربية والمصرية) الذي نظمته مكتبة الإسكندرية واللقاء بمجموعة من مثقفي ومبدعي الإسكندرية، سافرت إلى الإسماعيلية (200كيلومتر)، عبر طاكسي عادي كي أقترب أكثر إلى واقع الأحداث بمصر.
مدينة الإسماعيلية مدينة عصرية أسسها الخديوي إسماعيل، ولذلك سميت باسمه، وجميلة تتميز بخضرتها ومياهها، وهي المدينة التي تعرضت إلى العدوان الثلاثي إلى جانب بورسعيد، والسويس، ومدن أخرى، وتوجد بها جامعة قناة السويس تضم حوالي 27 كلية. في الطريق إليها استغللت المسافة الطويلة للاستطلاع حول الوضع السياسي الصعب الذي تجتازه مصر، من أفواه المواطنين .. وأصواتهم الملتهبة، ويبدو أن فئات واسعة من المجتمع تؤمن أن السيسي هو الحل وتمقت الإخوان.
الإخوان كذابون في عهد مرسي كان النور ينقطع بصفة متواصلة، ولهم مصالح وشركات ومؤسسات مالية ضخمة في كل ربوع مصر .. ربي ينتقم منهم.
وفي محاولة لمعاكسته قلت لسائق الطاكسي: ألم تصوت غالبية الشعب على مرسي، ودستوره نال الحظوة و القبول الشعبي أيضا؟
يرد بتأكيد ويقين: في الانتخابات التي أعقبت سقوط مبارك، الذي فاز هو شفيق، ولكي تهدأ الأحوال تم تزوير وتفويت الرئاسة لمرسي، من لدن الفريق الطنطاوي، وعين مرسي بدله السيسي الذي بدوره أزاح مرسي، ودستور مرسي كان مزوراً، والإقبال كان ضئيلا، وفي عهده وقعت مشاكل كثيرة أمنية واجتماعية، فلكي تحصل على البنزين ينبغي أن تبيت في المحطة، والنور كان ينقطع لأيام.
قبل دقائق، وأنا أكتب هذا الأمر انقطع فجأة الكهرباء، نزلت إلى تحت، وسألت أحد الشغالين بنادي الفيروز، الذي أقمت فيه بالإسماعيلية وجزء منه كتبته بساحة نادي هيأة التدريس أمام قصر الثقافة بجوار نقابة المحامين، وكنت قد بدأته بالإسكندرية بالأوطيل.
قال: النور ينقطع لوقت محدود في كل مقاطعات مصر بالتناوب: آه .. هذا هو حال مصر، الله يمشي الأمور.
هذا إحساس جماعي تجده في شوارع وحارات ومدن مصر، الكل يتحدث في شؤون البلد ومصيرها، والدعوات ملأت الأماكن، شعور يعكس حالة اللاتوازن واللاستقرار والتوجس مما قد يأتي، لكنه أيضا يعبر عن عمق وطني، عن الإيمان بمصر وتاريخها.
سألني أحد حراس السيارات بالقاهرة من أين أتيت؟
قلت له: من المغرب.
قال لي: وأنا من الظهر والعشاء .. اعتقد أني أمزح معه، قبل أن يعود إلى الواقع، بعد تنبيهه على أن هناك وطناً باذخاً اسمه المغرب. هذا المواطن لا يعرف إلا مصر، هي مركز العالم وهي أرض الأنبياء الذين يحفظونها، والله يرعى هذه البلاد، وهو اعتقاد يتبناه كثيرون. كان ساخطا ومتذمرا من الوضع إذ يرى أن أصل الداء هو النهب والأنانية والفساد المالي، بحيث إن كل مسؤول في موقع ما، وإلا نال منه ما شاء دون موجب حق.
مقهقها. تصور، أنهم منحوا الأم المثالية لراقصة (ذكر اسمها، وأنا لا أتذكره الآن، لأنه عادة ما أنسى أسماء الممثلين والفنانين جملة) وليس لدكتور أو غير ذلك،
أين يوجد المغرب؟ هل عندكم مال كثير؟
«.....،........ »
لكي أنتقل من الإسكندرية إلى الإسماعيلية، قبل أن أعود إلى القاهرة، مررت على مدن كثيرة، مثل: كفر الدوار، ودمنهور، وإيتاي البارود، وطنطا، وبنها، والزقازيق، وهي تنتمي لمحافظات البحيرة، والغربية، والقليوبية، والشرقية، قبل أن ألج محافظة الإسماعيلية.
كان في انتظاري د. أيمن تعيلب الذي أحاطني بعناية خاصة، ولم يقصر في شيء والتقيت بعميد كلية الآداب وعميد معهد اللغة العربية والترجمة بجامعة قناة السويس، الذي له أكثر من سبعة عشر مؤلفا، وكانت لنا جلسة عمل، حيث اتفقنا على مسودة للتعاون والتبادل، الثقافي والعلمي، وحضرت مناقشة للماجستير، وجالست أدباء ومثقفين مصريين من مختلف الجامعات، من أمثال د. أيمن تعيلب وعبد الرحيم كردي، حسين حمودة، ومحمود الضبع، وفي الاسكندرية شوقي بدر يوسف، و د. أحمد المصري، ومحمد عطية وآخرين.
استقلينا، أقصد أنا ود. أيمن تعيلب، طاكسي صغيرا لينقلنا إلى نادي الفيروز، في الطريق دار حوار وجدل بين صديقي العزيز أيمن والسائق.
أين وليت ومع من التقيت، الكل ملآن، الكبار والشباب يتكلمون، من فئات اجتماعية مختلفة من المثقف إلى الموظف والعامل البسيط، والتاجر والعاطل.
يقول: كله زي بعضه .. الجيش والإخوان.
يضيف: مصر فرعونية.
وأردف: بأي حق أحاكم وآخذ القصاص من أي كان، والحقيقة غائبة، وما أدراني بهذا المعطى أو ذاك، وكيف يمكن الحكم على شيء لم أطلع عليه.
أنا لم أصوت على الدستور، لأنني لم أطلع عليه، وكنت مشغولا بأمور البيت والأسرة .
واسترسل: تقدمت لاجتياز مباراة سائق بالجامعة، فطلبوا أن يكون مستواي الدراسي محدودا لا يتجاوز الابتدائي.
أليس من المفروض أنني سأتعامل مع دكاترة، ومسؤولين لهم تكوين عال .. أيعقل أن أرفض لهذا السبب؟ ألم يكن الواجب أن يؤخذ ملفي لهذا الاعتبار؟
رؤية المثقفين، رغم اختلافاتهم تروم رسم منطق لما يجري في مصر، بعضهم لا يتناول الموضوع لتحفظ ما، أو إنهم أقل اندفاعا من الآخرين، فهناك من يعارض الإخوان ويرى في السيسي ملاذا للأمن، وهناك من يميل لحمدين صباحي، وهناك من يرى أن السلطة، مهما كانت، فهي فاجرة، والمجتمع المصري، ومعه العربي، في حاجة إلى رجات عنيفة تخرجه من عنق الزجاجة إلى التاريخ، وكل طرف يسوق أسبابه ودواعيه، وهناك من يعتقد أن الوضع يتجه نحو تأمين الحياة السياسية والاجتماعية، وأن المجتمع المصري يسترجع أنفاسه، ومن المؤكد في هذا الخضم، أن الكثير من الناس يشتكون من الانفلاتات القائمة وعدم الانصياع لأية سلطة قانونية.
حالات سائبة، ينبغي أن ترتدع، وأن تشعر بالخوف من سلطة القانون، كما عبر أحد المبدعين المصريين، الذي كان يقلني إلى محطة الإسكندرية، وأيضا من يرى أن الآتي غامض ومفزع، وثأر راقد ويختمر، بحكم أن دماء كثيرة سالت في محافظات كثيرة غير القاهرة وبأبشع الصور، التي لا يمكن أن يتخيلها المرء، لم تنقلها الوسائل الإعلامية العربية والغربية.
لواء مصري أسر لي، أن الأمن في هذه الظروف الصعبة لا يمكن أن يتحمل الأعباء المطروحة عليه، في ظل امتناع المواطنين وتبرمهم من الأمن، واعتبارهم أن هذا الجهاز عدو لهم. وكما حكي لي فإن مقرات الأمن ووجهت في جل المدن خلال الثورة بالعنف والحرق والتخريب وإتلاف الوثائق، وقتل بعض المسؤولين بعد تعريتهم، كما ولدتهم أمهم في الشوارع.
حكى لنا أحد المثقفين، على لسان أحد رجالات المخابرات الذي تجمعه به علاقة شخصية، أن مشكلة مصر تكمن في وجود فئة محدودة جدا لا تتعدى حوالي 2000 شخص تتحكم في الثروات المصرية تلعب في الخفاء، ولا يمكن أن تتخلى عن مصالحها بسهولة.
ومع ذلك فإن الحياة مستمرة، والمجتمع يمارس أشغاله ومهنه وعلاقاته وطقوسه اليومية والتزاماته الاجتماعية من أفراح وزواج وتوددات عاطفية، واعتزالات رومانسية، وخصومات وتدافعات، ومحلات تجارية مفتوحة؛ وصحف تصدر، وفلاحون يفلحون أراضيهم، وطلبة يقبلون على التحصيل، وأخبار عن حوادث وتفجيرات بعضها حقيقي، وآخر لا وجود له على أرض الواقع، وقد يذاع في التلفزيون الرسمي، مثلما حصل في إحدى الكليات بالإسماعيلية.
يقول الراوي: الشعب المصري طيب وغلبان، ويريد أن يعيش في أمان.
السيسي فيه من صفات جمال عبد الناصر.
الإخوان حينما كانوا في الحكم، يصرحون بالشيء ونقيضه في نفس اليوم، سياسة الإخوان مائعة.
قلت: ولكن حمدين صباحي محسوب على جمال عبد الناصر أيضا.
حمدين صباحي غير قادر على تسيير دفة البلاد، وليست له تجربة، وهو مجرد صحافي، ولا القوة .. وليس أي واحد دخل السجن، أو عبر عن موقف في مرحلة ينبغي أن يتسلم الحكم.
الجيش هادئ يتصرف بترو لكن حين يقرر شيئا لا يتردد في التوجه إليه مباشرة.
بدون شك، فإن مصر تجتاز مرحلة دقيقة في حياتها وتاريخها المعاصر، تضافرت فيها عوامل داخلية وخارجية، والموضوع يتعدى الإخوان والسيسي، إنه سعي للبحث عن الهوية الضائعة، وعودة جمال عبد الناصر بهذه القوة الرمزية، من قبل المخيال الشعبي الاجتماعي. ويدخل ضمن هذا السياق الذاتي والتاريخي، في الوقت الذي أصبحت فيه مصر عرضة للعبثين الداخلي والخارجي، من قبل قوى قزمية وذات نفوذ مالي واستخباراتي.
جاءني مرافقي على الساعة الرابعة صباحا كما تم الاتفاق كي ينقلني من الإسماعيلية إلى القاهرة، شاب في مقتبل العمر باكلوريوس تجارة، يعيش مع أسرته، نحيف، كان يدخن من حين لآخر سيجارة، وشأنه شأن كل المصريين، يتكلمون بعفوية ويخوضون في السياسة وراهن بلادهم ومستقبلها.
ما رأيك في الانتخابات الرئاسية ومرشحيها؟
ليس هناك إلا السيسي.
«...........»
وحمدين صباحي (بتهكم).
وحين سألته لماذا؟ (أي هذا التهكم حينما ذكر صباحي) قال: كيف يترشح في مواجهة مرشح له حضوره الشعبي القوي؟ يقصد السيسي.
وهذا الإقرار بشعبية السيسي الكاسحة تلمس عند فئات اجتماعية مصرية كثيرة، ومع ذلك فإنه يرفض أن يصوت على الإثنين، لأن صباحي متلون وليس له نفوذ ليطبق ما يعد به، والسيسي خدم الشعب من موقعه وزيرا للدفاع، وكان ينبغي، أن يحافظ على هذه الصفة، لكن للأسف لم يلتزم بما صرح به، عندما أعلن أنه لا طموح له في الرئاسة قبل أن يقلب رأيه، وهذا ما فعله الإخوان، إذ أعلنوا في بداية الأمر أنهم سيكتفون بنسبة محدودة في مجلس الشعب، ولن يخوضوا في الرئاسة، قبل أن ينقلبوا على أنفسهم، الشعب المصري طيب، سأدلي بصوتي حينما يأتي الذي أريد، وهو غير موجود حاليا.
في الطريق ترى الجيش في مواقع معينة، في المدينة والطريق، والمطار، وغير ذلك، وتلاحظ أن الحافلات مكدسة بشكل كبير قرب نقط الجيش، لأخذ قسط من الراحة أو النوم أو تناول الطعام لأنها تحس بالأمان قربه، كما أوعز لي مرافقي.
أما بعد:
حين وصلت إلى الإسكندرية، وبالضبط إلى الفندق الذي من المفروض أن أقيم فيه، أخبرني العامل أن اسمي غير مدرج في لائحة الحجز، آنذاك كان مرافقي قد راح إلى حال سبيله، بعد أن ودعني بسرعة في باب الفندق، وجد العامل نفسه في حيرة من أمره، لا يعرف كيف يتصرف، وبدت عليه بعض العصبية إنه أمام شخص أجنبي، وليس معه مرافق، ويقول له: إن اسمك غير وارد في لائحة الحجز، مسني أيضا شيء من التوتر والعصبية الداخلية، لم أعرف في هذه اللحظة كيف يمكن التصرف، قبل أن يتصل العامل بشخص ما لا أدري إن كان مسؤولا أو عاملا معه، وأخبرني، بعد ذلك، أن الحجز موجود لليلتين لا غيره. ونبهني أيضا أنه بإمكاني أن أتناول وجبتين من الأكل في النهار ليس إلا، وأي زيادة في الوجبات أو الليالي ستكون تحت طائل مسؤوليتي، انزعجت كثيرا من هذا الوضع وحين طرحت الموضوع على مستشار إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية، حسام عبد القادر مقبل، أعلمني أن المكتبة لا تتكفل إلا بيومين للأجانب ويوم واحد للمصريين، وأنها أخبرت مختبر السرديات بالمغرب بمضمون هذا الاتفاق العجيب، ولذلك ينبغي أن أواجه حتفي وحدي طالما أنني اخترت التورط عن طيب خاطر.
ورغم أنني أعرف أن ما قاله غير صحيح، فقد استعلمت من جديد الإخوة في مختبر السرديات، وأكدوا لي أن ما قيل لا يمت للحقيقة بصلة، وحين طلبت منهم أن ينقلوني إلى الإسماعيلية رفضوا، بلسان مخاطبي حسام عبد القادر مؤكدا أنه لا يمكن أن يتصرف في أي شيء خارج ما هو محدد (يومان فقط في الفندق مع أنه تمت تأدية اليوم الثالث في أخر لحظة، وأكلتان فقط في النهار ليومين والنقل من وإلى القاهرة).
في الوجه الآخر:
ظل د. أيمن تعيلب على اتصال دائم بي، وأبدى أسفه وغضبه لما طرأ، رغم أنني لم أكن ضيفه ولا ضيف المؤسسة الجامعية التي ينتمي إليها، في الصباح جاءني د. أحمد المصري والشاذلي مقتطعا وقتا من عمله، وأوصلاني مشكوران إلى المحطة، وأصر أحمد المصري على تأدية واجب النقل من جيبه، وبعد الوداع، كنت كلما كان يكتنف الغموض بعض المواقف ووقائع الرحلة التفصيلية، وأرمي بالهاتف لمواطن مصري يحدث د.أيمن تعيلب، لكي يشير إليه، في المساعدة لي، ويشير لي بما ينبغي أن أفعل وأتصرف، إلى أن وصلت وكان الود والترحاب والاحتضان الإنساني والعلمي اللافتين من قبل د.أيمن تعيلب و د. كردي عبدالرحيم؛ عميد كلية الآداب وعميد معهد اللغة العربية والترجمة بجامعة قناة السويس، وأيضا الزملاء الأساتذة في الجامعة، إنه الوجه الآخر للشعب المصري الأصيل، والمستوى الراقي والحضاري لأدباء ونقاد وعلماء في مجالاتهم، هذا ما علق في مخيلتي قبل العودة إلى الدار البيضاء يوم الاثنين سابع أبريل.
بداية الرحلة:
ضجيج لا متناهي، يغمرني، أتذوقه يمشي في الأرض والحقول والطرقات والشوارع، والأشجار وأصوات الناس وحذرهم من واقع مفجع وتطلعات مكتومة، ونظام الحياة، والاستمرار في عنفوانها الكاسح المبتلع لكل الشحنات النفسية والصراعات الذاتية والسياسية والاجتماعية. من هنا ابتدأت الرحلة لعلها تعيدني في يوم إلى حيث أتيت من حيث أتيت، أو تحلق بي خارج الدائرتين، وتحولني إلى كائن يعتاش على أنينه، وحنينه إلى نفسه وإلى رحلة تدوم بدون توقف في ذواتنا وهوياتنا ومناطق الظل في حيواتنا.