ليس من السهل بمكان، كما يعتقد المتتبع العادي، تخلّص ليبيا الثورة من فكر بدائي في غاية التخلف، كرسه القذافي أو الكلب المجنون كما نعته الليبيون خفية على امتداد أربعين سنة. إنجاح مابعد الثورة، أصعب بكثير من إنضاج لحظة اشتعالها، خاصة إذا تعلق الأمر بأنظمة عربية شمولية على جميع المستويات، لا تتوقف ساعة واحدة، عن نسف أي شيء من ممكنات العقل والعاطفة الحالمة، ويبقون على ذائقة واحدة تصب قلبا وقالبا نحو التماهي مع تمثال الحاكم.
لا أحد منا، تخيل قبل الربيع العربي، إمكانية إزاحة القذافي عن عرش ليبيا، وبتلك الكيفية البشعة. أيضا، بنفس قوة دلالة الإحالة السابقة، فلا أحد مهما بلغ تفاؤله وجوديا وليس فقط سياسيا، بوسعه الظن أن ليبيا سيصلح وضعها بين عشية وضحاها، مبلورة على وجه السرعة فكرة انتفاضة 17فبراير2011، بسبب عوائق موضوعية وأخرى إقليمية بالغة الأهمية.
تتجلى معطيات الجانب الأول، في كون المسافة التي تبعد ليبيا عن مفهوم المجتمع المدني، تقدر بآلاف السنين، فهي بيئة صحراوية قبلية تتوزعها بحدة الطائفية والعشائرية، مما يستعصي معه اقتناع الأغلبية بمرجعية الديمقراطية المؤسساتية، أما عن الجماهيرية العظمى الاشتراكية، التي استفاض بخصوصها القذافي"طزطزة " نكاية بالامبريالية، فلم تكن غير مستشفى للمجانين، دفنت بين حجراته المظلمة، العقول الذكية، التي كان بوسعها أن تشكل المادة الخام، للطبقة السياسية التي ستحمل على أكتافها جينات بناء الدولة الليبية الحديثة، وردم هوة الفراغ كما نعاينها آنيا، بتأطير للمجتمع والاهتداء به نحو شاطئ الأمان. ولا شك، أن أغلبنا لازال يستعيد ضحالة خطاب مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي، احتفالا بسقوط القذافي، مبشرا مجموع رجال ليبيا، بالزواج من أربع نسوة، كي نستوعب المستوى التفكيري والإيديولوجي، لنوعية النخبة والطليعة، التي أورثها القذافي للشعب الليبي.
أما عن السياق الإقليمي، فالأمر واضح لايحتاج إلى تأويل، ذلك أن ليبيا البلد البترولي المتطلع إلى ولوج بوابة العالم المعاصر، يلقى نفسه باستثناء تونس التي تكابد، كالقابض على الجمر، وسط محيط عربي غارق في التخلف، تجذبه من مختلف الزوايا نحو المجهول، حتى لا ينجح في تحقيق نموذج خصب لمابعد زوال النظام القديم، قد يغري الشعوب العربية الأخرى كي تسرع إلى معانقة الحرية والحداثة.
تعاني ليبيا حاليا، من مشكل بنيوي، اسمه غياب الدولة. في بنغازي، نجد تنظيما دينيا متطرفا، قويا، محكم البناء والتنظيم يطلق على ذاته لقب "أنصار الشريعة"، يزداد أتباعه باستمرار، نتيجة توسع شبكة أعماله الاجتماعية والخيرية، له علاقة وثيقة بالتنظيم الدولي للقاعدة، هكذا أعلن عن إقامة إمارة إسلامية في منطقة "درنة"، متهم، بقتل وزير الدفاع فترة الثورة عبد الفتاح يونس، وتدبير الهجوم على القنصلية الأمريكية، الذي أدى إلى مقتل سفيرها.
في شرق البلاد، يتحصن المدافعون عن الحكم الفيدرالي، المتشبثون بنظام الملكية، الذي ساد ليبيا قبل انقلاب شتنبر1969. حينما، نروم صوب الجنوب، سنصادف توجها آخر، يعادي كليا أنصار الشريعة أو الملكيين، يتعلق الأمر، بقبائل الطوارق حليفة القذافي، التي تحتفظ دائما بكميات كبيرة من الأسلحة، يلزم توفر حكومة مركزية قوية في طرابلس، من أجل إعادة تجميعها.
إذن تباعد ولاءات الليبيين وتشرذمها، دون تمثل عميق لمؤسسة الدولة ودولة المؤسسات، مع انتشار السلاح بطريقة سائبة، منذ بداية القتال ضد القذافي، يجسدان تحديان مصيريان لأي حكومة، تريد أن تحظى بالهيبة والاحترام والمشروعية. فالعديد، من التنظيمات المسلحة لاتبالي بتاتا بوحدة الدولة، كما أن العديد من قادة الأجهزة الأمنية، يشتغلون لحساب تنظيمات متشددة.
أحدث ما أفرزه المشهد الليبي، في هذا الإطار، انسجاما مع كل التناقضات التي تلفه، تتحدث عن انطلاق حملة عسكرية للجيش الوطني، تحت شعار"عملية الكرامة"، يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، تستهدف ضرب معسكرات جماعة أنصار الشريعة في بنغازي، التي تستخف بقرارات المؤتمر الوطني الليبي. عملية حفتر، لازالت في بدايتها، تجري وفق صمت دولي، لأن القوى الكبرى، لاتريد ربما التورط في مواقف متسرعة، لاسيما وأن مبادرة الضابط المتقاعد، شبيهة بانقلاب وتمرد على الشرعية الوطنية، تشترك مع حيثيات صنيع الجنرال السيسي في مصر.
الولايات المتحدة الأمريكية، التي عاش اللواء حفتر، فوق أراضيها لمدة عشرين عاما، وبالضبط في ولاية فيرجينيا، لاجئا بسبب معارضته القذافي، منذ بداية سنوات التسعينات، ونسجه لعلاقات مع جهاز السي أي أيه، بهدف وضع مخططات لإسقاط النظام.أقول، أن واشنطن، امتنعت حتى كتابة هاته المقالة، عن إصدار تعليق واضح، يصنف طبيعة ما أقدم عليه حفتر، بحيث لانعلم، هل تدعم أم لا تدعم؟ فقط نتوفر على تصريح واحد للناطقة باسم الخارجية الأمريكية، جاء مضمونه فضفاضا ومبهما: "نحن ندين العنف من أي طرف، ولا نعتقد أنه الطريقة المثلى لحل الخلافات (…) نحن لسنا على اتصال بحفتر، ولا يمكننا دعم أو إدانة، ما يجري على الأرض، كما أننا لم نتدخل أو نساعد في مايحصل ونناشد جميع الأطراف الابتعاد عن العنف".
القيادة الأمريكية، التي يقض مضجعها إمكانية انبعاث شبح طالبان في ليبيا، تلاحق وقلبها على يدها آثار أسلحة، هيأت سابقا ظروف وصولها إلى الثوار الليبيين عندما ابتدأت الثورة ضد القذافي، كما كشف عن ذلك مسؤول في البنتاغون، لكنها حاضرا مكدسة داخل مخازن أنصار الشريعة، وأخرى تسربت إلى القاعدة وداعش.
اللواء حفتر، الذي قفز اسمه فجأة نحو الواجهة الإعلامية، بدعوى محاربة الإرهاب، معلنا ما يماثل حالة الطوارئ، بتجميده لعمل المؤتمر الوطني والحكومة القائمة، تثير شخصيته الارتياب والخوف عند كثير من الليبيين، لأن تلهفه لكرسي الحكم يذكرهم بمسار القذافي. تاريخ هذا الضابط، المدعوم عربيا كما تكشف التقارير، من طرف السعودية والإمارات عبر مصر السيسي، يعود تاريخه إلى سنة 1969، لحظة الانقلاب على الملك السنوسي. شارك في حرب1973، وقاد الجيش الليبي خلال معارك القذافي مع حكومة تشاد سنوات الثمانينات، لكنه أسر وأودع في سجن تشادي، صحبة مئات من جنوده، سيتخلى عنهم القذافي سريعا غير مبادر قط إلى محاولة السعي من أجل إطلاق سراحهم، فكان الشعور بالغدر، دافعا لإعلان هؤلاء الانشقاق عن نظامه، وتبلور مسعاهم بزعامة حفتر من أجل محاربة القذافي، فشكلوا اللبنات الأولى لجيش وطني معارض صيف .1988 ثم انطلق التعاون بين حفتر والمخابرات الأمريكية، حتى ساعة عودته من منفاه شهر مارس2011، كي ينضم إلى ثورة17فبراير، فكان بالفعل أحد قادتها الميدانيين.
هل هي حقا، معركة تطهيرية بغية تكريس هيبة الدولة وضرب مختلف أشكال الخطاب الانفصالي؟ أم أن الشرارة التي أشعلها حفتر، بقصف مواقع أنصار الشريعة، ستزيد النار المشتعلة أصلا، جمرا أحمر! تجر ليبيا إلى حرب أهلية شرسة، تمارسها الأطراف بالوكالة. من جهة، حلف السعودية والإمارات ومصر، ثم قطر من ناحية ثانية التي تدعم الإسلاميين. وحده المستقبل، قد يتكفل بالجواب.
(المغرب)