استهلال واهداء
ليس من السهل أن أشرح عمق العلاقة التى تربطنى بشجرة النخيل، فهى علاقة ممزوجة بالجينات، متداخلة مع أنسجة الجسم وأوعية الدم، منصهرة فى تلك المادة التى تصنع الوعى وما فوق الوعى وما تحت الوعى، يكفى أنها أطعمتنى فى طفولتى وأطعمت أجيالا من أهلى وأسلافى، وهناك ما يقرب من ألف وأربعمائة عام من التاريخ المدون والثابت فى السجلات والوثائق يربط بين أهلى وهذه الشجرة .
وعبر رحلة مضنية فى التاريخ خاضها أهلى وانتقلوا خلالها من سهول جبل نفوسة فى بلدة قنطرارة إلى مناطق تاهرت بالجنوب الجزائرى وإلى بلاد الجريد التى تربط بين تونس وليبيا والجزائر ثم عودة إلى عمق الصحراء الليبية التى وصلوا إليها منذ ستة قرون وأنشأوا بلدة مزدة، ظلت أشجار النخيل هى مصدر الغذاء الأساسى لهذه الأسرة التى صارت عشيرة، والهاربة من ظلم وبطش الطغيان والاستبداد .
وهي مصدر غذاء كريم لا يكلف أهله عنتا، ولا يحتاجون معه لتقديم تنازلات لأهل السلطة فى العاصمة والحواضر الكبيرة، ولهذا عاشوا كراما أحرارا، ونأوا بأنفسهم فى واحات النخيل المحاطة بسياج من المفازات الصحراوية وبحار الرمال بعيدا عن لقمة العيش المغموسة فى غموس المذلة والمهانة
الانتماء لأشجار النخيل إذن هو انتماء لفضاء الحرية وشمسها وهوائها . الانتماء لذلك الشموخ وتلك الكبرياء، وكل المعانى التى صارت شجرة النخيل رمزا لها وعلامة للاهتداء إليها . ومهما كان الغذاء الذى تقدمه هذه الأشجار فقيرا متقشفا إلا أنه أشهى وألذ من الموائد الباذخة التى يصعب نيلها بغير إهدار شيء من ماء الوجه، خاصة في تلك الأوقات العصيبة التى مر بها أهلنا، ومرت بها بلادنا فى عصور سالفة، ويكفي ما اكتشفته علوم الغذاء من فوائد طبية وغذائية في التمور، لتاكيد قيمة هذا الغذاء، وأهميته، ونعمته على الناس، كما يكفي النخلة شرفا ورودها عشرين مرة في القرآن الكريم، ونصحه للسيدة مريم العذراء بأن يكون غذاؤها بعد ولادة المسيح، ثمار النخيل، عندما قال لها "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" في سورة مريم، كما ان نبينا الكريم محمد صلوات الله عليه، أعطى النخلة شرفاً عظيماً وكاد يساويها بقيمة البشر، عندما أوصانا وأوصى أتباعه بتبجيلها، وتكريمها، قائلا " أكرموا عمتكم النخلة ".
وذكر في الإنجيل أن أنصار السيد المسيح عليه السلام قد فرشوا سعف النخل في طريقه عندما دخل بيت المقدس لأول مرة، إذ أن سعف النخيل كان عندهم علامة النصر، وكان الاحتفاء بأشجار النخيل لافتاً في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد،مؤكداً أهمية وقدسية هذه الأشجار . أما بالنسبة إلى اعتناء الادب العربي نثرأً وشعراً بهذه الشجرة، فهو تراث زاخر شامخ غزير، ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى مقطع شعري جميل، لمؤسس دولة الأندلس عبد الرحمن الداخل، وهو يرى شجرة نخل في غربته الاوروبية، تضع رأسها في زرقة السماء، منفردة بنفسها، فأهاجت شجونه وأيقظت حنينه إلى ديار أهله في بلاد العرب، فقال تلك الابيات الشهيرة في المقارنة بين غربته وغربة تلك النخلة:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة * * تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى * * وطول أنثنائي عن بنيّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة * * فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك عوادي المزن من صوبها الذي ** يسح وتستمري السماكين بالوبل
وبعد، فهذه شذرات من سيرة ذاتية اقتصرت على سنوات الطفولة التى عشتها فى بلدة مزدة منذ ساعة مولدى إلى أن غادرتها وأنا صبى فى الرابعة عشرة من عمرى عام 1957 م، سيرة طفولة إلا أنها معجونة بسيرة القرية وأهلها بتاريخها وتراثها وألوان الأدب والفن التى يمارسها الناس فى واحة تقع على مفترق طرق القوافل .
مزدة كانت المحطة الأولى فى حياتى التى أفضت بي إلى محطات كثيرة فيما بعد، والبلدة التى أفضت بي إلى مدن لا حصر لها نثرت عبرها سنوات العمر، بدءا بطرابلس العاصمة التى صارت عنوانا ثابتا ودائما لى، إلى مدن أقمت بها إقامة مؤقتة، مثل القاهرة ولندن والرباط وأثينا وبوخارست التى ساقتنى الأقدار للعمل والإقامة سنوات عديدة بين أهلها، ثم مدن ربطتنى بها علاقة عمل دون إقامة طويلة مثل بيروت التى أصدرنا فيها مجلة الثقافة العربية فى مطلع السبعينات، وباريس التى أصدرنا بها مجلة الوحدة فى مطلع الثمانينات، ومدن أخرى عبر قارات العالم الخمس ذهبت فى سياحات إليها، وكانت مصدر تعليم وثقافة ومتعة، ولكن تأثيرها مع ذلك لن يعادل التأثير الذى تركته تلك البلدة الفقيرة الموغلة فى الصحراء فى نفسى .
بيتنا فى مزدة الذى عشت فيه أعوام الطفولة كان هو البيت الأول فى سلسلة بيوت لاحصر لها تنقلت بينها دون أن أستقر فى واحد منها،مثل المدة التي استقررت فيها بين جدران هذا البيت، ولمدة تزيد عن اربعة عشر عاما، لأنها بالتاكيد هي أطول مدة اقمتها في بيت واحد في حياتي حتى كتابة هذه الذكريات، لأن طبيعة الحياة التى عشتها منذ خروجى من مزدة، كانت عامرة بالسفر والترحال والانتقال من بيت إلى بيت .
وكان أهالى مزدة هم الصفحة الأولى فى كتاب العلاقات الإنسانية التى جمعتنى بأناس من مختلف الأعراق والأديان والألوان والثقافات والشرائح الاجتماعية، والذين أسهموا فى تعميق فهمى للحياة وطبائع الصداقات التى جعلت رحلة الحياة أكثر يسرا وأقل ضنكا وتعبا، ولا شك أن الأجزاء التالية لهذه الذكريات ستشع بإذن الله بذكر هؤلاء الأصدقاء، وللحديث عن التجارب التى عشتها، والبيوت التى سكنتها، والمدن التى زرتها، أو أقمت فيها، والوجوه والأسماء والأماكن التى اتصلت بها أو اتصلت بى، منذ ان غادرت بلدة مزدة صيف عام 1957، وللتوثيق فانني نشرت الفصول الخاصة بحياتي في القرية تباعا في صحيفة الوطن السعودية واضفت الى هذه الفصول، فصلين كنت قد نشرت احدهما وهو مرفأ الذاكرة في مجلة العربي منذ سنوات بدعوة كريمة من صديق عزيز هو الدكتور محمد الرميحي رئيس تحريرها في ذلك الحين، والفصل الثاني عن التكوين كتبته لمجلة الهلال بدعوة كريمة من الصديق الاستاذ مجدي الدقاق فلهما التقدير والتحية لانهما دفعاني لاستجلاء بعض صفحات هذه السيرة، الا ان هذين الفصلين اخرجاني قليلا على السياق الذي اردته لهذه السيرة بان تكون سيرتي في مرحلة الطفولة، ولهذا فساستميح القاريء عذرا انني وان كنت انشغلت حقا بالنظر في جذوري التربوية منذ ايام الطفولة وتأثيرها في مسألة التكوين، الا انني عرجت قليلا على مراحل تلى مرحلة الطفولة، وهي التي سيكون مجالها اجزاء اخرى غير هذه الفصول التي اردت تكريسها لبواكير العمر، فليعتبرها القاريء اشارات لما سوف ياتي، او مجرد عناوين، لان الاهتمام والتركيز سيبقى منصبا على مرحلة الطفولة . واذا كان لابد لي ان اهدي هذه اصفحات كما جرت العادة في مثل هذه الكتب فلتكن قرية مزدة باهلها، وهم اهلي، والنماذج البشرية المليئة بالدفء والمودة والرحمة التي وردت في هذا الكتاب وكل من احاطني في سنوات الطفولة بعطفه وحنانه، هم الجهة التي يتجه اليها هذا الاهداء واثقا من انني ساحمل معي عبق تلك الايام وعبق تلك الاماكن الى آخر العمر.
المؤلف
الطفل والاشجاروالتحدي
(ذكرياتي عن سنوات التكوين)
كنت دائما أقف مبهوراً، ومملوءاً بالدهشة والرهبة، أمام الظواهر التي عرفتها البيئة القروية الرعوية البدوية التي أنتسب إليها بحكم المولد والنشأة، وهي ظاهر الاشجار السامقة العملاقة، التي أراها تضرب جذورها وسط مناطق جبلية، وأرض صخرية جرداء، عارية من أي غلاف نباتي، ومن بينها أشجار مثمرة مثل اشجار التين والزيتون، التي تنبت هنا فرادى، ودون صاحبٍ يغرسها ويتعهدها بالعناية والرعاية كما في البساتين، مع أشجار أخرى ذات صبغة صحراوية، تنتشر في الشعاب مثل أشجار الطلح والسدر والاثل والبطم، تتحدى بخضرتها، ونضارتها، وأوراقها الغزيرة وأغصانها المرفوعة كأذرع خضر، تؤدي طقسا دينيا وتصلي لخالق الكون، البيئة القاحلة المجدبة، وقيظ الشمس الذي يتحول في الظهيرة، حديدا مصهورا ينزل من السماء، دون وجود لاحد يسقيها بالماء او يتعهد ارضها بالحرث والتقليب والتسميد، لانه لا وجود لتربة عند الجذور والجذوع وانما صخور من الصوان واحجار البراكين السوداء تناطح بعضها بعضا، ولا وجود لماء غير تلك الامطار النادرة التي تهطل مرة كل عام او عامين، واذا هطلت فهي ضئيلة شحيحة لا تصنع سيلا ولا يبقى له اثر فوق الارض .
اقف امام هذه الاشجار مندهشا، مستعظما قدرة الخالق على اجتراح المعجزات، غير واع وانا اعبر مرحلة الطفولة بصلة الرحم التى تربطني بهذه الاشجار وما يجمع بيني وبينها من تشابه في المنشأ والظروف، وما خطته لي الاقدار التي غرستني في ارض الادب، نبتة حوشية تنمو دون ان يتعهدها احد بالرعاية والعناية والسقي والتهذيب والتشديب، بل دون ان اتجاوز في تعليمي النظامي المرحلة الالزامية، فقد ولدت ونشأت في ظروف تشبه مولد هذه الاشجار ونموها، وسط قحط البيئة الصحراوية القاحلة الجرداء وقيظها وقسوتها، وفي واحة على تخوم الحمادة الحمراء، قلب الصحراء الكبرى، واكثر مناطقها وعورة وجفافا وقحطا، حيث لا شيء غير سيوف الرمال، ومنابت الريح الصرصر الهوجاء، ولا ادري ماهي الصدفة التي ادخلتني دون اندادي من اطفال العائلة، الى المدرسة الابتدائية بعد قضاء عامين او ثلاثة اعوام في كتّاب القرية، وهي مرحلة تشبه مرحلة الروضة في المدن، انتهت عندها دراسة اغلب اقراني، الذين ذهبوا لرعي الجديان ومرافقة ابائهم في الحرث والحصاد وجمع الاحطاب وحش الاعشاب للاغنام وجلب الماء من البئر . الحاصل انني دخلت المدرسة الابتدائية في القرية ومدتها اربعة اعوام، يعتبرها الاهل نهاية المطاف في مجال التعليم، فلا وجود في القرية لاحد امتدت دراسته ابعد من هذه الاعوام الاربعة، يأخذ بعدها الشهادة التي تنتهي عندها احلام الدارسين لانها تكفل لصاحبها وظيفة كتابية في السلك الوظيفي تنجيه من بطالة ومجاعة تلك الايام، وكانت صدمة كبيرة لهؤلاء الاهل عندما اطالت الحكومة عمر المدرسة الابتدائية وجعلتها ستة اعوام، تلتها صدمة اكبر هي ان الوظائف التي كانت مفتوحة امام حملة الشهادة الابتدائية اختفت لان مدارس جديدة ظهرت بعد الابتدائية، وشهادات اكبر منها، صاروا يضعونها شرطا لمثل هذه الوظائف، واذكر عندما انتقل بي والدي من القرية الى طرابلس، لارى هذه المدينة الكبيرة لاول مرة في حياتي، بعد ان ختمت المدرسة الابتدائية، يبحث بين المعاهد المتوسطة عن اقصرها مدة، وبعد الطواف الطويل، تم قبولي في مركز للتدريب الفني والكتابي، انشأته منظمة اليونسكو، يمكن للدارسين فيه، الالتحاق بالوظائف الكتابية الحكومية بعد اكمال الدراسة التي تستغرق ثلاثة اعوام . التحقت بالقسم الداخلي بهذا المركز الذي كان اغلب المدرسين فيه من المصريين والشوام، وثلاثة او اربعة مدرسين انجليز يتولون تدريس اللغة الانجليزية التى كانت مادة اساسية في المنهج الدراسي، حيث اكملت الاعوام الثلاثة وتخرجت لانخرط في مجال الوظيفة وانا لم ابلغ السابعة عشرة من عمري . وكانت هذه الاعوام هي كل حصيلتي من التعليم النظامي، وكل ما اتى بعد ذلك من معارف كنت التقطه التقاطا من ارصفة الشوراع ودروب الحياة .
القراءة.. القراءة
لم نكن في القرية نعرف شيئا اسمه الدراسة الجامعية، ولم يكن هناك بين اهلها من تخرج منها، لانه لم يكن هناك وجود لجامعة ليبية في الاربعينيات او مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، واذكر عندما سأل مدرس بالمدرسة الابتدائية تلاميذ فصلنا عن المهن التي يريدون امتهانها عندما يكبرون، لم يسمع الا ثلاث اجابات، هي شرطي، وسائق، ومدرس في المدرسة الابتدائية، لان مهنا مثل المهندس والدكتور والمحامي والطيار واستاذ الجامعة او الاخرى التي تتصل بالفن مثل الملحن والمخرج والممثل والمطرب لم تكن معروفة، اجابة رابعة واحدة قلتها انا، من وحي كتب المطالعة التي تضع هامشا للتعريف ببعض الادباء، عرفت منها ان هناك مهنة اسمها اديب، فقلت للمعلم انني اريد ان اكون اديبا، وشد ما استغرب لمثل هذا الجواب ولعله ضحك استهزاء من قولي، فاثار بضحكه روح التحدي في نفسي وجعلني وانا في العاشرة او دونها اباشر في تاليف كتاب ينتمي لعبث الاطفال، واحرر صحيفة حائطية اسميتها الامل، وجدت بعض اعدادها في مخازن المدرسة بعد تلك الفترة بثلاثة او اربعة عقود.
النهم للقراءة، كان هو البديل للدراسة النظامية، وقد قادني هذا النهم منذ اعوام الطفولة الاولى الى التهام كل ما وجدته من كتب اطفال في مكتبة المدرسة، وكانت تحتوي على كل طرح المطابع في هذا المجال، المكتبة الخضراء، وسلسة اولادنا، وكل ما كتبه الاساتذة كامل كيلاني، ومحمد عطية الابراشي، وسعيد العريان، وما ترجموه من القصص العالمية مثل قصص هانز كريستيان اندرسون، وما اقتبسوه من قصص الف ليلة وليلة، منتقلا بعد ذلك الى قراءة كل روايات التاريخ الاسلامي لصاحب الهلال جورجي زيدان، وكنت احيانا اقضي الليل قائما لانني لا اريد ان اترك الرواية قبل انهائها، وانهيت مرحلة الدراسة الابتدائية بقراءة كتب المنفلوطي وترجماته، واستطيع ان اقول ان الفرسان الثلاثة الذبن غرسوا في طفولتي روح الابداع وشحنوا وجداني بعوالم الخيال والجمال هم كامل كيلاني وجورجي زيدان ومصطفى لطفي المنفلوطي، ويمكن القول ايضا انني قبل ان اغادر القرية بدأت اتعرف على المحدثين من الكتاب في مجال القصة امثال احسان عبد القدوس ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله باعتبارهم كتاب الادب الرومانسي في تلك الفترة من مطلع خمسينيات القرن الماضي، وعقب انتقالي الى طرابلس اكتشفت اقرب كاتبين الى نفسي من كتاب القصة والرواية، وهما نجيب محفوظ ويوسف ادريس.
تراث البادية
لابد قبل الانتقال من مرحلة الحياة في القرية، التي عشت بها حتى بلغت الرابعة عشرة من عمري، من الاشارة الى مصادر اخرى للتكوين الثقافي غير المطالعة، هي الثقافة الشعبية الثرية التي تزخر بها قرية على مفترق الطرق التي تعبرها قوافل الصحراء، بدءا من الخرافات التي نسمعها من نساء العائلة بما في ذلك السيرة الهلالية، الى اغاني الافراح، الى تلك التي تصاحب عمليات الحرث والحصاد ودرس السنابل والورود على الماء وطحن الحبوب بالرحى، والاشعار الشعبية التي يتناقلها الناس عن مؤلفيها من فحول شعراء البادية مثل المريمي والزناتي وابن وحيدة وغيرهم، ورغم اقامتى مع اسرتي داخل القرية، في منزل كبير به كل المنافع، ويعلوه برج يرتفع اكثر من عشرة امتار فوق الارض بناه الاجداد لصد الغزوات القادمة من الصحراء، الا انني حصلت على نصيبي من الحياة في البادية التي تنتقل اليها اسرتي في بعض المواسم، حيث الاقامة في الخيام، وسط ثغاء الشياه ورغاء الابل، ونهيق الحمير، وعواء الذئاب القادم من القفار المحيطة،وشاركت في المناشط والالعاب التي يؤديها الاطفال بالبادية والاعمال الهينة التي تسند اليهم وشاهدت الناس في كدحهم اليومي حرثا وزرعا وجنيا للمحاصيل، وانطبعت في ذهني مظاهر الحياة البدوية، وما يرافق افراحها واتراحها من تراث وطقوس وفنون، وانبهرت ببهاء الصبح عند ابلاجه في تلك البطاح، وعاينت الحزن الشفيف الذي تبعثه في النفس مشاهد الغروب وزحف العتمة على الدنيا الفسيحة الشاسعة الواسعة فتجعلها كتلة من العماء والسواد، واحسست برهبة تلك المفازات اللامتناهية التي لا يحدها حد، وعرفت ما يعنيه المتنبي عندما قرأته فيما بعد، وهو يصف تلك المفازات الصحراوية المرعبة الخادعة، بقوله " يهماء يكذب فيها السمع والبصر" فالاشياء فعلا تأخذ في الصحراء احجاما غير احجامها الحقيقية، والاصوات تتنوع وتتباين فيبدو فيها صوت الريح كأنه مأتم تنوح فيه النساء الثكالى، ودعك من سراب الصحراء الذي يصنع من انعكسات اشعة الشمس على الحصى انهارا وبحيرات كاذبة من الماء، وعن هذه الفترة من حياتي في الريف والبادية والقرية، تدور صفحات هذا الكتاب "الانتماء لاشجار النخيل "، والاجزاء الذي تليه من سيرتي الذاتية.
الرحيل الى المدينة
كان لابد وانا انتقل الى مدينة طرابلس عام 1957 ان ابحث عن اترابي ممن يشاركونني هواياتي الادبية، ووجدتهم في فرقة للتمثيل انشأها في ذلك العام الصديق الشاعر والكاتب المسرحي عبد الحميد المجراب، وتضم بين اعضائها كتابا صاروا فيما بعد رفاق طريق على درب الكلمة هم نجم الدين الكيب، وبشير الهاشمي، ويوسف الشريف، وعبد الله هويدي، وعلى مختارالحاراتي، قبل ان تتوثق صلتي بادباء من ابناء جيلى خارج الفرقة مثل على فهمي خشيم ومحمد احمد الزوي ومحمود نافع وخليفة التكبالي ويوسف القويري وعبد الكريم الدناع وفوزي البشتي واحمد الحريري، وادباء اكبر سنا مثل على الرقيعي وخالد زغبية وكامل عراب وامين مازن، وكان هؤلاء الادباء الذين ينتمون الى المدينة او وفدوا اليها في مراحل مبكرة من حياتهم، هم نافذتي على الادب، اعاروني الكتب من مكتباتهم، وارشدوني الى عيون الادب المترجمة الى العربية مثل تلك التي كانت تصدرها دار اليقظة في الشام، للادباء الروس، فتعرفنا على تولستوي وديستويفسكي وجوركي وتشيكوف وجوجول وترجنيف، وعن غير هذه الدار تعرفنا على كتاب مثل سارتر وهيمنجواي وجي دي موبسان واميل زولا وديكنز مما كانت تنشره دار الاداب او روايات الهلال واذكر انني شاركت في تأبين ارنست هيمنجواي عند رحيله في مطلع الستينيات، ولم اكن احتاج لمن يدلني على الادب العربي فقد كان المركز الثقافي المصري، بمقره القديم بشارع المغاربة، كريما في اعارتي ما احتاجه من الكتب، وكان تركيزي على الابداع القصصي والمسرحي، بدءا من توفيق الحكيم ومحمد فريد ابو حديد ويحي حقي ومحمود تيمور وصولا الى الاجيال التالية لهؤلاء امثال نجيب محفوظ ويوسف ادريس ومحمود البدوي ويوسف الشاروني وعبد الرحمن الشرقاوي وسعد مكاوي وعبد الرحمن الخميسي وغيرهم وكان لادب المهجر نثرا وشعرا مكانته المرموقة في وجدان ابناء جيلي ممن قرأوا انتاج جبران خليل جبران وايليا ابي ماضي وميخائيل نعيمة كما كان لادب الانسة مي باسلوبها الرومانسي وروحها الشفافة وجمال انوثتها ابلغ الاثر في نفسي، وكان ارتباطي وثيقا بالشعر الحديث الذي يكتبه شعراء الحداثة بدءا من نزار قباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في الشام والعراق الى شعراء وادي النيل صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري ومحي الدين فارس وتاج السر حسن وجيلي عبد الحمن، دون ان ننسى شعراء اخرين مثل شاعر العامية صلاح جاهين وشاعر الكلمة الغنائية كامل الشناوي وشعراء الفحولة والجزالة اللغوية مثل الجواهري وعمر ابو ريشة وبدوي الجبل ومحمود حسن اسماعيل الذين اسعدني الحظ بالتعرف اليهم في مطلع حياتي الادبية عند مشاركتي في بعض المنتديات الادبية .
وبعد امتلاكي ناصية النشر تعرفت في ليبيا بعدد من ادباء الجيل السابق وكبار صحفييه امثال احمد قنابة وعلى مصطفى المصراتي وعبد الله القويري وخليفة التليسي وعبد اللطيف الشويرف وعبد السلام خليل وعبد القادر ابو هروس ومحمد فريد سيالة وفؤاد الكعبازي وكامل المقهور وعبد ربه الغناي وحسن السوسي وعلى صدقي عبد القادر وعلى ابوزقية ومحمد الشاوش ومحمد فخر الدين وفاضل المسعودي ومحمد عمر الطشاني وعبد الهادي الفيتوري ويوسف هامان وكانت الصحافة قد فتحت لي صدرها لابدأ وانا دون العشرين اباشر نشر قصصي ومقالاتي، ومنحتني صحيفة طرابلس الغرب فرصة ان اكتب عمودا يوميا من اعمدة الرأي عنوانه " لا تسرع الخطى " كما شاركت في كتابة البرامج الصباحية اليومية للاذاعة في عهد الاساتذه صالح الشنطة وعبد العزيز الرحيبي وشارف الترهوني ومن بعدهم مصطفى بن شعبان، وكان لابد لكتابي الاول ان ينتظر بضعة اعوام، حتى اكتملت لي مجموعة قصصية اسميتها " البحر لا ماء فيه " نالت الترتيب الاول عام 1965 ضمن الجوائز التي خصصتها حكومة ذلك الزمان للاعمال الادبية، ولاقت هذه المجموعة ترحيبا كبيرا من الاوساط الادبية وحققت لي اعتراف المجتمع الادبي محليا وعربيا بمكانتي الادبية واحتفى بها كتاب وادباء كبار من امثال الدكتور عبد القادر القط وفاروق منيب في صحيفة الجمهورية وفاروق عبد القادر في روز اليوسف والدكتور نيقولا زيادة في لبنان واسهم في تقديمها كاتبان احببتهما وربطتنني بهما صداقة عميقة استمرت الى حين انتقالهما الى دار البقاء هما الدكتور يوسف ادريس والشاعر صلاح عبد الصبور.
الرحيل الى القاهرة
كانت اولى رحلاتي خارج ليبيا، هي الرحلة الى القاهرة . جئتها في مطلع عام 1962 موفدا في دورة تدريبية بالمعهد العربي لتنمية المجتع، التابع لمنظمة اليونسكو ومقره قرية سرس الليان بالمنوفية، وهناك التقيت بعدد من كبار اساتذة الجامعات المصرية الذين كان لهم ابلغ الاثر في تكويني الثقافي، اذكر منهم الدكتور سعيد عبده، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتور رشدي خاطر، والدكتور عبد الفتاح الزيات، والدكتور لويس كامل مليكه والدكتور حامد عمار والدكتور محمود الشنيطي ومدير المركز الاستاذ محمد سعيد قدري، كما انغمست خلال عامي 62ــ 63 في الحياة الادبية والفنية خارج المعهد فلم تفتني مسرحية من مسرحيات تلك المرحلة الخصبة بانتاج نعمان عاشور وميخائيل رومان وسعد الدين وهبة وتوفيق الحكيم وغيرهم مع ما اضافة مسرح الجيب من اطلالة على الادب الطليعي في العالم مع ما قدمه المسرح القومي من عيون الادب العالمي لتشيخوف ودورينمات وبريخت، ولم اترك ندوة او محاضرة استطيع ان احضرها الا حضرتها وتعرفت على عدد كبير من الادباء المصريين ما تزال علاقاتي وثيقة مع الاحياء منهم حتى اليوم .
كانت فترة وجودي في القاهرة، فترة حاسمة في ثقافتي وتكويني، لانها اخرجتني من اغلفتي المحلية، وجعلتني على تماس مع الهموم العربية وعرامة المشاعر القومية،خاصة وان مصر كانت في ذروة نشاطها القومي، كما كان المعهد الذي قضيت فيه تلك الفترة، يضم طلابا من جميع الاقطار العربية، تجمعني بهم فصول الدراسة كما تجمعنا حفلات السمر،وممارسة الهوايات وجمعيات النشاط الاجتماعي حيث كنا نقيم جميعا في القسم الداخلي للمعهد، وكان انهماكي في الحركة الثقافية كبيرا عند عودتي الى ليبيا، يسوقني حس قوي بالمسؤولية ازاء تنمية وتطوير الواقع الثقافي، الى حد نسيت فيه واجبي نحو نفسي بصفتي مبدعا، واتجهت الى الاسهام في انشاء وتحرير مجلات ادبية مثل الرواد، وليبيا الحديثه، والاشراف على الابواب الثقافية في صحف مثل الرائد وطرابلس الغرب والحرية والميدان والحقيقة والطليعة وغيرها، وقيادة حملات صحفية مثل حملتي من اجل الاهتمام بالجنوب الليبي، وعودة الاعتبار للمجاهدين الليبيين والكفاح من اجل الارتفاع بمستوى المرأة والمطالبة برعاية الدولة للفنون وانشاء فرقة للمسرح مثل المسرح القومي الذي تلقيت تدريبا على ايدي كبار مخرجيه من امثال فتوح نشاطي وكمال يسين وعبد الرحيم الزرقاني ونبيل الالفي .
وقد وضعتني هذه الحملات في حالة مواجهة مع السلطة وعرضتني للمثول امام المحاكمة التأديبية، كما انشأت فرقة مسرحية هي فرقة المسرح الجديد كنت اقوم بكتابة المسرحيات لها والقيام باخراجها، وكنت غارقا في دوامة العمل لا اكاد ارفع رأسي منه، حتى جاءت صدمة الهزيمة عام 1967تدق ناقوس الفجيعة في حياتنا، وتنعى لنا عالما من الاحلام التي تقوضت والامال التي اجهضت، وكان كل ما اردته تلك الايام هو ان اهرب من هذا الواقع، واستبدله بواقع جديد مخالف للواقع العربي، وجوه جديدة، وافكار جديدة، ومعالم جديدة واناس يتكلمون لغة غير اللغة التي استهلكناها في منصات الخطابة والشعارات الرنانة الكاذبة، ومظاهر غير المظاهر المألوفة التي يغطيها اينما اتجهت رماد الهزيمة، وتحقق لي هذا الهروب عندما التحقت ببعثة لدراسة المسرح في بريطانيا بترتيب من المجلس الثقافي البريطاني عام 1968.
السفر الى لندن
وبسفري الى لندن، انفتحت امامي ابواب الادب والفن في تلك المدينة، لانهل من معينها منذ اول يوم، حيث اسعفتني معرفتي باللغة الانجليزية على سرعة التواصل مع مختلف المجالات الثقافية، خاصة وانني ادخل الى هذه المجالات من ارحب واوسع ابوابها وهو باب المسرح، ابي الفنون الذي تعتبر لندن العاصمة الاولى له في العالم اجمع بلا منازع
لتمتزج هذه الروافد الجديدة، مع روافد الثقافة العربية التي استقيتها من منابعها في الوطن العربي .
وعندما عدت الى طرابلس بعد ثلاثة اعوام كان قد حدث تغيير في الحكم، الا ان رسالتي كانت في الجانب الثقافي فاندفعت بقوة اقتحم ميادين العمل الثقافي، حيث صرت مديرا للمعهد الوطني للتمثيل والموسيقى واستعنت بخبرات كبيرة من مصر في وضع قواعد جديدة له نقلته من معهد مسائي الى معهد يقدم شهادات معترفا بها ويتفرغ الطلاب للدراسة فيه، كما توليت رئاسة تحرير صحيفة الدولة التي صار اسمها صحيفة الثورة وتطويرها واستلمت مسؤولية مدير عام ادارة الفنون والاداب ثم اسهمت في تأسيس المؤسسة العام للصحافة وعملت رئيس تحرير لصحيفة الاسبوع الثقافي ورئيس تحرير لمجلة الثقافة العربية في الوقت ذاته، دون ان اتخلى عن اثراء الحياة الادبية والفنية، فانصرفت فترة من الوقت لتأسيس اتحاد الادباء والكتاب، وعملت امينا عاما له بعض الوقت، وقمت بتأليف واخراج عدد من المسرحيات من بينها المسرحية الغنائية هند ومنصور التي كانت تدشينا للمسرح الغنائي في ليبيا، ومسرحيات اخرى مثل زائر المساء وصحيفة الصباح وغيرهما، وعلى وفرة هذه الاعمال فقد قمت بانجازها في مدة وجيزة لا تزيد عن ستة اعوام، عدت بعدها للسفر والتجوال الذي شمل اغلب بلدان العالم، مستهلا الرحلة السندبادية بالعمل مستشارا اعلاميا في لندن، ومسؤولا عن بناء قاعدة اعلامية وثقافية في وقت اشتدت فيه المعارك الاعلامية بيننا وبين دوائر الخصوم، حيث توليت رئاسة المجلس الثقافي العربي، وتوليت رئاسة تحرير مجلة ازيور الثقافية والفجر العربي السياسية وفلسطين الحرة النضالية وكلها باللغة الانجليزية كما اشرفت على مجلة تصدر بالعربية هي الملتقى واسهمت في الاشراف على مجلة يصدرها مكتب الجامعة العربية باللغة الانجليزية هي شؤون عربية . وعرضت لي مسارح لندن عددا من المسرحيات هي "الغزالات" و"زائر المساء" واخيرا "غناء النجوم"، كما صدرت لي خمس روايات مترجمة الى الانجليزية عن كبرى دور النشر في لندن ونيويورك وخمس مجموعات قصصية ومجموعة مسرحيات، وصارت لندن مقرا ثانيا لي بعد طرابلس، لا اغيب عنها حتى اعود اليها خلال العقود الثلاثة الماضية، وقد بلغت سنوات اقامتي في لندن اكثر من عشر سنوات، واقمت كذلك في مدن عربية غير طرابلس هي الرباط والقاهرة، وبيروت التي كانت اقامتى بها متقطعة اثناء طباعة مجلة الثقافة العربية بها في السبعينيات، وتجددت الصلة بعد انتهاء الحرب الاهلية، وتشرفت بتمثيل ليبيا في اثينا، عاصمة اليونان رئيسا للبعثة الدبلوماسية بها واقمت بتلك المدينة الجميلة خمس سنوات انتقلت بعدها لاكون رئيس البعثة السياسية الليبية في رومانيا التي اكتشفت غزارتها بالمناطق السياحية الجميلة التي لم اعهد لها مثيلا في البلاد التي زرتها، واستضافني اتحاد كتاب الصين مرتين لحضور ندوة اولى عن روايتي حقول الرماد وندوة ثانية عن الثلاثية الروائية بعد ترجمة هذه الاعمال واعمال قصيرة اخرى الي الصينية وقد اصدر الاتحاد كتابا عني يضم وقائع الندوتين ودراسات اخرى عن اعمالي نشرتها صحف الصين . وفاتني ان احضر ندوات اخرى عن اعمالي المترجمة في براغ وموسكو ووارسو، الا انه لم يفتني حضور ندوات بعدد الكتب التي صدرت في لندن وهي اكثر من عشرة كتب وندوات كثيرة شهدتها طرابلس والرباط وبيروت وتونس والجزائر والقاهرة التي شرفتني بالنصيب الاكبر من هذه الندوات في الاتيلييه ونادي القصة ومعرض الكتاب وكانت اخر هذه الندوات تلك التي اقامها بكرم واريحية المجلس الاعلى للثقافة عن انتاجي الادبي في مجال الرواية والمسرحية والقصة القصيرة وقد امتدت لمدة يومين وشارك فيها اكثر من خمسة عشر كاتبا واديبا .
آخر ما صدر لي اسطوانة ممغنطة تضم سبعين كتابا من تأليفي، وعشر كتب اصدرها نقاد وباحثون اكاديميون عني وترجمات للغة الانجليزية ضمت اثني عشر كتابا، هي حصيلة ما جمعته من انتاجي الادبي.
اما اخر ما انتهيت من كتابته فهو اثنى عشرية روائية، هي اول اثنى عشرية من هذا النوع في الادب العربي، باشرت نشرها مجلة ايلاف الاليكترونية وقرينتها الورقية الصحراء المغربية، ارجو ان تصدر في كتب خلال هذا العام . كما انجزت قصصا نشرت بعضها صحيفة الاهرام على مدى اشهر مضت في هجاء البشر ومديح الحشرات والبهائم تصدر هي الاخرى في كتاب عما قريب، ارجو الا يعتبرها القراء تشاؤما وعدمية، وانما خبرة حياتية قادتني الى معرفة انواع من البشر، نبلاء وانذالا، ومعرفة اخرين تصورتهم انذالا وهم نبلاء، او تصورتهم نبلاء وهم انذال، وصدق رايته في ثياب الكذب، وكذب ارتدى اقنعة الصدق، واختبرت حقيقة بيت الشاعر المتنبي الذي يقول :
ومن عرف الدنيا طويلا تقلبت على عينه حتى رآى صدقها كذبا
التحدي كان عنوان الرحلة منذ البداية
وانظر خلفي متأملا حصاد هذه المسيرة فاجد سبع عشرة رواية، وعشر مسرحيات، وخمس وعشرون قصة للاطفال والفتيان، واكثر من مائة قصة قصيرة، والاف المقالات الموزعة بين ثلاثين كتابا، ومئات البرامج المسموعة والمرئية التي لا احتفظ بتسجيل لها، ومشاركة في مئات المؤتمرات العربية والدولية واعداد لا تحصى من جوازات السفر، تحمل تأشيرات دخول الى اغلب مدن العالم
تزوجت وانجبت ثلاثة اولاد وابنتين
انجبوا حتى الان خمسة احفاد
ومازال التحدي مستمرا ولن ينتهي الا بسقوط آخر ورقة في شجرة العمر، والحمد لله اولا واخيرا مرفأ الذاكرة
عن العشرين عاما الأولى من حياة الفتى القروى الذى بدأ الرحلة بلا حقيبة ولا متاع
تكاد الذاكرة أن تكون عنوانا للإنسان وتعبيرا عن وجوده فوق الأرض فما الإنسان لولا الذاكرة؟ لولا هذا الإعجاز الذى ميزه به الله عن بقية الكائنات بل ما التاريخ، وما التراث الإنسانى كله، وما التدرج الحضارى الذى أوصل الإنسان إلى تحقيق كل هذه المبتكرات والمكتسبات الكثيرة، عبر تراكم المعارف والخبرات السابقة للجنس البشرى إن لم يكن ذاكرة أكثر شمولا من مستوى الإنسان الفرد، هى التى سجلت وحفظت وكانت قادرة على استرجاع واستحضار ما حدث فى السابق، وحققت من خلال ذلك هذا التراكم الذى تحتاجه صيرورة التقدم والنهوض ولم يكن غريبا بعد ذلك، أن نرى كيف أن احدث منجزات العصر، التى ابتكرها العقل البشرى ليدخل بها الألفية الثالثة من تاريخه الميلادى، لم تكن غير هذه الذاكرة الإلكترونية، التى اتسعت لكل المعارف والمعلومات وربطت كل قاطنى الأرض بأحدث واسرع وسيلة للتخاطب والاتصال، وهى شبكة الانترنيت .
الذاكرة إذن، مرادف للحياة الإنسانية، ومفتاح لها، وهى بالنسبة الى الأدباء على وجه الخصوص، أداة العمل والانتاج، فلا منبع تنبجس منه أعمالهم، ولا مصدر ينهلون منه إبداعهم، غير هذه الذاكرة، التى جعلها الله تزداد مع توالى الأزمنة وتعدد التجارب، ثراء وغنى، ولا تمحل أو تنضب حتى يصل الإنسان إلى ارذل العمر .
وعلى مرفأ الذاكرة أقف اليوم، لأستعرض هذه الأطياف والرؤى التى تمر أمامى وجوها وأحداثا وأسماء وأمكنة تتتابع وتتوالى وتعبر مرفأ الذاكرة، لا كما كنت أراها وهى تتحرك على تلك الرقعة الفسيحة، زمانا ومكانا، التى نسميها أرض الواقع، ولكن كما يحدث فى الأحلام، عندما تتداخل مختلف المشاهد والوقائع والأشخاص، بل الأفكار والكلمات والأزمنة الأمكنة، وأرى فى دقيقة واحدة من زمن الحلم، ما استغرق حدوثه أعواما من عمرى وعمر تجاربى فى الحياة .
على أطراف الحمادة الحمراء، تلك المفازة التى تشكل امتدادا لبون صحراوى شاسع تعتبره كتب الجغرافيا أكبر صحراء فى الكرة الأرضية، تمتد من شواطئ المحيط الأطلسى غربا إلى شواطئ الخليج العربى شرقا، مع وجود فاصل مائى هو البحر الأحمر على أطراف تلك المفازة، تقع بلدة مزدة التى انتمى إليها وينتمى إليها أسلافى، بها ولدت فى اليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر 942، وبها قضيت سنوات الطفولة والصبا، فلم أغادرها إلا وأنا على مشارف الخامسة عشرة من عمرى .
علاقة مركبة تلك التى تربط البلدة بذلك الفراغ الموحش المهول الذى يبعث إليها برياح القبلى العاتية الساخنة، كما يبعث إليها بالقبائل الغازية فى أزمنة القحط والمجاعات والجفاف، إلى حد أنها استعانت بولى صالح من أوليائها هو سيدى نصر –وللاسم هنا دلالته التى لا تخفى على القارئ- وجعلت ضريحة عندما توفاه الله، سدا يصد زحف الغزاة القادمين من عمق الصحراء دفنته وأنشأت مقبرة حول ضريحه، عند الجهة القبلية من البلدة، ليتولى هذا الرجل المبارك دفع الأذى عنها بما لديه من جاه ومكانة عند الله .
ويرغم خوفها من بدو الصحراء، فإنه لا حياة لها بدونهم، بل لا مبرر لوجودها أصلا لولا وجودهم، فقد أنشئت لتكون حلقة الوصل بينهم وين العمران، ومركز التسويق والتجارة والبيع والشراء، التى يقصدونها بأغنامهم وأصوافهم وجمالهم، يقايضونها بالبضائع التى تجلبها دكاكين البلدة من طرابلس، عاصمة البلاد، وثغر ثغور ليبيا، في الشاطيء الجنوبي للبحر الابيض المتوسط، ولذلك فإن المهنة الأساسية لأهل البلدة هى التجارة، حيث كان والدى واحدا من تجار البلدة، له حانوت فى قلب السوق، وفى هذا الحانوت أو الدكان، كنت أقضي جزءا من وقتى عندما كنت طفلا، أساعد والدى، وأذاكر كتبى وكراريسى، وأحيانا أقرأ لوالدى وصحبه بعض الكتب الدينية والتراثية .
ثمة تاريخ طويل يربط بلدتنا بالعلم والعلماء، منذ أن كان أهلها قنطرار – وهي العشيرة المؤسسة لبلدة مزدة- يعيشون فى قرية قنطرارة بجبل نفوسه، التى هدمها الأغالبة وظلت أطلالها حتى الآن تدل على ذلك التاريخ الدموى القديم عندما شنقوا عددا كبيرا من علمائها ونكلوا بأهلها، لأنها كانت المركز العلمى لسكان الجبل، الذى كان مواليا للدولة الرستمية فى تاهرت، معاديا لحكم بنى الأغلب وأسلافه، لذلك لجأ من نجا من مذابح الأغالبة إلى الصحراء، وأسس بدلا هجرة خارج البلاد ومنذ سبعمائة عام هذه البلدة التى أسماها الناس مزدة، ومعناها المسجد أو المدرسة الدينية بالتعبير البربرى المتداول فى تلك الأحقاب، ورغم هذه المكانة العلمية التى ظل أهل البلاد يتوارثونها جيلا عن جيل، ورغم أننى انتمى لبيت عالم هو جدى الفقى أحمد بن عبد الله القنطرارى، الذى كان معلما للقرآن فى المدرسة القرآنية، إلا أن العلم فى تلك الفترة التى بلغت فيها سن الالتحاق بالمدرسة، لم يكن غير دراسة القرآن فى الكتاب لأعوام محدودة، أو قضاء أربعة أعوام فى المدرسة الابتدائية الوحيدة، التى أضافوا إليها فيما بعد عامين، فصارت ستة أعوام تنتهى بعدها كل فرص وأفاق التعليم فى بلدة مزدة. .
كانت الأعوام التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، أعوام قحط وجفاف ومجاعات شملت ليبيا كلها، شرقها وغربها، وكان لابد نتيجة لهذه الظروف أن تتأثر تجارة والدى ويصيبها الكساد كأى شيء آخر فى البلاد، ولهذا فقد كنا نعيش عيشة الكفاف، وكان والدى يبحث عن مصادر رزق اخرى تدعم الدخل القليل الذى يأتيه من الحانوت، فكان كغيره من أهل القرية يتطلع كل يوم إلى السماء، بأمل أن يرى سحابة عابرة، ويصلى مثلهم لله، يسأل أن يصيب غيثها الأودية القريبة، التى هى ملك مشاع لأهل القرية دون سواهم، يخرجون لحرثها فى مواسم الحرث أو يستعيضون عن الحرث بربيع تكثر فيه الأعشاب، يلاقونه بعائلاتهم وشياههم وينتقلون من بيوتهم للإقامة فى الأودية والبرارى طوال أشهر الربيع ولم تكن هذه الرحلة ترفا أو نزهة وإنما فرصة لالتقاط لقمة العيش من هذه الموارد التى يتيحها مجيء الربيع، مياهه وأعشابه، وحليب الشياه، وما ينتج عنه من زبد واجبان .
مشكلتى مع رحلة الربيع، أنها كادت أن تقضى على مستقبلى الدراسى، لأن موعد الخروج إليها كان يأتى مباشرة قبل أداء الامتحان فى المدرسة الابتدائية التى التحقت بها، مما انتج تعارضا بين الدراسة وبين مشاركتى فى رحلة الربيع، حسمته العائلة لصالح الربيع، ولم يكن ذلك شيئا مثيرا للاستغراب، طالما أن أغلب الأولاد الذين فى سنى كانوا يتفرغون لرعى الجديان فى مثل هذا الفصل، ومساعدة أهلهم فى الحرث والحصاد أو البيع والشراء، أو مجرد اللعب فى ساحات القرية المتربة، لأن ذلك أقل تكلفة من شراء الحقيبة المدرسية والقميص الجديد، وزوج الأحذية وغيرها من أشياء يحتاجها التلميذ ولا يحتاجها من تخلف عن الدراسة، لأنه يستطيع أن يمشى حافيا، مرتديا قميصه القديم، دون أن يلحقه لوم وتعزير المجتمع المدرسى، طلابا ومدرسين، وهناك عاملان اثنان أنقذانى من هذا المصير وجعلانى استأنف الدراسة، أولهما الجفاف الذى استفحل ومنع الناس من مواصلة الخروج لملاقاة الربيع، لأنه لم يكن هناك ربيع، غير الأرض الشعثاء الغبراء وعواصف الرمل والحصى لكل من يغامر بالابتعاد عن جدران أبنية البلدة، وثانيهما، هو شغفى بالمطالعة وتفوقى فى دروس الكتابة والقراءة، الذى جعل مدير المدرسة الأستاذ الصديق الدردارى رحمة الله، يلح على والدى أن يتركنى أواصل تعليمى، والسبب فى هذا التفوق، يرجع إلى أننى ذهبت وأنا فى سن الروضة إلى المدرسة القرآنية لمدة عامين، تعلمت أثناءها الأبجدية، وجئت إلى المدرسة الابتدائية وأنا متمكن من القراءة، أملك ذلك المفتاح السحرى الذى أتاح لى فرصة الولوج إلى عالم مبهر جميل هو عالم قصص الأطفال خاصة تلك المستوحاة من ألف ليلة وليلة كنت قد شغفت بهذا العالم المليء بالسلاطين وملوك الجان الطيبين الذين يقولون للإنسان شبيك لبيك، فيتحقق له كل ما يريد من هذا العالم الزاخر بالأعاجيب والمفاجآت، وهو عالم التقيت به، وتعرفت عليه عن طريق الحكايات التي كنت اسمعها من عمتي قبل النوم، وهي السيدة التي تولت رعايتى فى طفولتى، ثم انتقلت إلى عالم القصص المكتوبة، التى حددت فيما بعد مسار حياتى، والتى كنت استعيض بها عن اللعب مع الصغار، وامكث بصحبتها داخل البيت طوال ساعات النهار ولكن السؤال الكبير هو كيف يمكننى الحصول على هذه القصص ؟
لم يكن واردا بطبيعة الحال، أن أولد فأجد مكتبة داخل البيت فى انتظارى، فما أبعد واحة فى عمق البرارى القاحلة الجرداء، عن مثل هذا التقليد، حتى ما كان يملكه جدى الراحل من كتب دينية وتراثية، ضاعت وأتلفها الإهمال وحملات التفتيش التى كان يقوم بها جنود الحامية الإيطالية على البيوت بحثا عن المجاهدين، ولم تكن هناك مكتبة تبيع الكتب أو دكانة تبيع الصحف والمجلات، لأجد بينها شيئا صالحا للأطفال كى اشتريه، وكانت سعادتى لاحد لها عندما عرفت أن هناك مكتبة تابعة للمدرسة، عامرة بكل أنواع الكتب، ولكن هذه الفرحة انطفأت عندما اخبرونى أن مدير المدرسة يمنع التلاميذ من استخدامها كى لا تلهيهم هذه القراءة الحرة، عن متابعة دروسهم، وقراءة كتبهم المدرسية، ثم سمح تحت إلحاح عدد من التلاميذ وتأييد عدد من المدرسين لمطلبهم، بأن يستعير التلميذ كتابا واحدا فى الأسبوع، ولأن هذا التدبير لم يكن يرضى نهمى لقراءة أقصى عدد من الكتب، فقد لجأت إلى زملائى التلاميذ، وطلبت منهم أن يستعيروا لى كتبا لأقرأها وأعيدها إليهم، واستطعت بهذه الحيلة أن أقرأ عدة كتب كل يوم. قرأت جميع كتب الأستاذ كامل كيلانى، عميد مؤلفى قصص الأطفال، وسلاسل المكتبة الخضراء، وأولادنا، وقصص كثيرة مترجمة مثل ساندريلا وبينوكيو وسجين زندا والزنبقة السوداء وروبنسون كروزو ورحلات جليفر، شكرا لمصر ولدار المعارف التى كانت تصدر هذه السلاسل، والتى لولاها لكانت طفولتى أقل سعادة وبهجة، كما قرأت قصصا مقتبسة من كتابي الأغانى وكليلة ودمنة، وحكايات التراث العربى مثل سيرة عنترة، وقيس وليلى، وتطورت قراءاتى على مدى الأعوام التى قضيتها فى مدرسة مزدة، فوصلت إلى روايات جورجى زيدان المستوحاة من التاريخ الاسلامي، وغيراها من قصص دينية مثل قصص الأنبياء، وعرفت المنفلوطى، فقرأت ترجماته لماجدولين والشاعر والفضيلة وفى سبيل التاج ومؤلفاته: النظرات، والعبرات، باجزائها المتعددة، التى كنت أبكى وأنا أقرأ بعض لوحاتها القصصية . وعرفت فى العامين الأخيرين من إقامتى فى البلدة، بعض قصص المحدثين، خاصة أصحاب الاتجاه الرومانسى، أمثال محمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعى، وأنشأت داخل المدرسة جمعية للنشاط المدرسى، قدمت من خلالها بعض المسرحيات المدرسية كان من بينها مسرحية شعرية عنوانها عاشق الذهب قمت فيها بالدور الرئيسى أمام جمهور البلدة، وأصدرت أعدادا من صحيفة حائطية أسميتها الأمل وعندما سألنى المدرس وأنا فى الصف الثالث الابتدائى ماذا أريد أن أكون عندما أكبر، قلت دون تردد، أريد أن أكون أديبا، ولعلنى لمحت ابتسامة إشفاق تطفو على وجه المدرس، ظننتها سخرية، لأنه لم يكن بالتأكيد يتوقع إجابة تختلف عما كان يسمعه من بقية التلاميذ مثل مدرس وموظف وشرطى باعتبار أن مهنا مثل المهندس والمحامى والدكتور لم يكن لها وجود فى البلدة وبالتالى فلا أحد يعرف عنها شيئا، ولذلك فإننى ما أن خرجت من الفصل حتى صممت على أن أقدم له الدليل على جدية مقصدى، وشرعت على الفور فى تأليف كتاب عن الحرية من وحى استقلال ليبيا الذى أعلن قبل ذلك الوقت بقليل، ولعل زميلى فى إنجاز هذا المشروع الصديق رمضان على مزدة، مازال يحتفظ بأصول هذا الكتاب الذى عكف طفلان فى العاشرة من عمريهما على تأليفه ليكون دليل شعبهما نحو طريق الخلاص والانعتاق .
وأثناء تلك الفترة وقعت فى يدى بعض الأعداد القديمة من مجلة الرسالة وبهرنى أسلوب محررها المسؤول الأستاذ أحمد حسن الزيات، وأعداد أخرى من مجلة الهلال تعرفت من خلالها على أسماء وأساليب الكتاب الكبار من أمثال العقاد وطه حسين وأعجبتنى مقالات ذات أسلوب شاعرى كانت تكتبها السيدة بنت الشاطئ كما وقع فى يدى عدد واحد من مجلة الأديب اللبنانية، قرأت فيه قصة قصيرة تنتمى للأساليب الحديثة، تركت انطباعا لا يمحى فى نفسى، ولعلها شكلت جزءا من رؤيتى تجاه هذا الفن منذ ذلك الوقت، لانني كنت اعود اليها، واجد فيها، مع كل قراءة جديدة، جوانب وابعاد جديدة، وكانت القصة لأستاذنا الكاتب المبدع الدكتور عبد السلام العجيلى، وكان عنوانها "مصرع محمد بن أحمد حنطي"، وقد يندهش القارئ إذا قلت له، إننى ما زلت وعلى بعد خمسة وأربعين عاما، أذكر تفاصيلها بأكثر مما أذكر تفاصيل قصة قرأتها منذ يوم أو يومين، وقد قادتنى هذه القصة الى قراءة كل ما عثرت عليه من كتب هذا الكاتب النابغة، الذى صار فيما بعد واحدا من الأصدقاء الأعزاء الذين افخر بصداقتهم وأفرح فرحا شديدا كلما أتاحت المؤتمرات الأدبية فرصة الالتقاء بهم .
لم تنته أعوام الدراسة فى مزدة، حتى كنت قد قرأت أغلب ما احتوته مكتبة المدرسة من قصص، وأحيانا كنت أقرأ كتبا خارج مجال القصة، بعضها أجده أكبر من إدراكى فارد الكتاب آسفا لأننى لم استطع فهمه، كما حدث عندما استعرت الجمهورية الفاضلة لأفلاطون أو البيان والتبيين للجاحظ .
فى صيف عام 1957، تركت البلدة ولم أعد إليها بعد ذلك إلا زائرا فقد أضحت مدينة طرابلس ومنذ ذلك العام هى مقر إقامتى الدائم، الذى لا أغادره، إلا لأعود إليه حتى لو استمر الغياب عدة أعوام .
تركت بلدة مزدة بعد أن رسمت بصماتها فوق وجدانى، وتركت شيئا من أضوائها وظلالها وعبير أرضها ممزوجا بدمى وأنفاسى على مدى العمر، وأسهمت فى وضع اللبنات الأولى، لتكوينى الأدبي، بما زرعت فى نفسي من حب للحكايات والأهازيج، وغناء الأعراس، ومدائح النبى فى أعياد المولد النبوى الشريف، والإنشاد الدينى فى بقية المناسبات الدينية والاجتماعية، غير ما قدمته لى مدرسة القرية من كريم العطايا والنفحات الإنسانية والروحية، حتى رحلة الربيع، التى كانت سببا فى تأخير دراستي، كانت فى حقيقة الأمر نوعا من التعليم، تعرفت من خلاله على أساليب الحياة التى كان يحياها ثلاثة أرباع الشعب الليبى، وعشت حياة الخيام، وركبت الحمير والإبل، ورعيت الجديان مع أترابي، وشاركت فى جمع الأحطاب، وجلبت الماء من البئر، واستمتعت بدفء النيران الكبيرة التى نشعلها فى تلك البرارى ليلا، ونسهر بجوارها تحت سماء مرصعة بنجوم لا تحصى، يتلألأ نورها القوى كأنها مصابيح إلهية تضئ ليل البادية، وفتنتنى مشاهد الشروق والغروب فى تلك السماء الصافية، والآفاق المفتوحة، والفضاءات التى ليس لها حد، وتشربت الغناء البدوي فى مختلف أشكاله، حداء يصدح به أحد الرجال، لحث الإبل على السير أثناء السفر، وأهازيج يغنيها الرعاة وهم يسقون أغنامهم، أو تغنيها النساء وهن يردن على البئر، أو يجمعن الأحطاب، أو يجلسن فجرا على الرحى، وحضرت أعراسا بدوية ارتفعت فيها الزغاريد ودوى فيها البارود، وتسابق فيها الفرسان على خيولهم .
ورأيت وأنا أصل مرحلة الوعى والإدراك، التحول التاريخى من عصر إلى عصر، يحدث أمام ناظرى وشاهدت عن قرب الانتقال من أساليب معيشة وانتاج، توارثها الناس ودرجوا عليها جيلا بعد جل، وعلى مدى آلاف السنين، إلى أساليب حديثة وأدوات انتاج عصرية، وقرأت كتبى على قناديل الزيت، ومصابيح الغاز، قبل أن تدخل الكهرباء إلى بيوت القرية، حيث كنت هناك لحظة وصولها، كما كنت هناك عندما جاء أحد جيراننا بأول جهاز مذياع يدخل بيتا من بيوت أهل البلدة، فأنشأنا زحاما أمام بيته حتى اضطر إلى إخراجه ووضعه على كرسي أمامنا، ونحن جلوس فوق الأرض ننظر باندهاش إلى هذا الصندوق الذى يغنى ويروي الأخباروالحكايات، ويرتل آى الذكر الحكيم، وكانت تلك هى بداية التحول الكبير، الذى جاء بمخترعات العصر الحديث إلى قريتنا، وغيرها من الدساكر والقرى فى أرياف العالم .
التحقت فى طرابلس بمعهد متوسط، أنشأته اليونسكو ضمن برنامج المساعدة الثقافية لليبيا، التى تقول عنها النشرات الاقتصادية الصادرة عن الأمم المتحدة فى بداية الخمسينيات، بأنها أفقر دولة فى العالم بين أعضاء الهيئة الأممية، ينقسم المعهد إلى قسمين التجارى والمهنى، ويحتل موقعا بأجمل أحياء المدينة، وأكثرها ازدحاما بالمآثر المعمارية الشهيرة، التى تفنن المهندسون الإيطاليون فى تشييدها، لتكون مقارا لمؤسسات الإدارة الاستعمارية، وأماكن للترفيه وأخرى للعبادة خاصة بالمستوطنين، فورثها الشعب الليبى، وفى شارع أطلقوا عليه شارع "هايتي"، وهى الدولة الصغيرة التى حسم صوتها فى الأمم المتحدة الصراع لصالح استقلال ليبيا، كان مقر المعهد الذى انتسبت الى قسمه التجارى، وأقمت بين جدرانه كطالب بالقسم الداخلى من عام1957 إلى .196، هى كل مدة الدراسة بهذا المعهد، وكانت هذه المدة القصيرة التى تنتهى بالحصول على شهادة التخرج، سببا فى شدة الإقبال على المعهد، باعتباره يمثل أقصر طريق للحصول على وظيفة مضمونة بجهاز الدولة، نتيجة لندرة الكوادر الإدارية فى ذلك الوقت، بالإضافة إلى أن مدير المعهد السيد ستيفنسون الإنجليزى الجنسية، ونائبه السيد وليم الهولندى، كانا حريصين على أخذ الخريجين بنفسيهما إلى المصارف والإدارات الحكومية، لضمان الحصول على وظائف لهم. انتقلت من البيئة القروية الرعوية، البدوية، والحياة فى إطار العائلة الكبيرة، وتحت إشراف الأب بشخصيته المهيمنة على أجواء البيت والعائلة، وأسلوب حياة أقرب إلى الفطرة والطبيعة، إلى مدينة كل شئ فيها مغاير لبيئة ومجتمع القرية، بمتاجرها ومسارحها ومقاهيها، وضجيج سيارتها، وسطوع أضوائها، وجمال شوارعها، وفخامة بيوتها وعمائرها، وزحام أسواقها، وتنوع وبهاء الملابس التى يرتديها رجالها، وجرأة وجمال نسائها الأجنبيات، اللاتى ينثرن عطرهن الفاتن الفواح، فى الميادين الفسيحة التى تحف بها الأقواس والشرفات، وتزينها النوافير وأشجار الزينة، وحيث كانت الجالية الإيطالية تهيمن على مراكز الترفيه والتجارة، وتضفى جوا أوروبيا إيطاليا على العاصمة الليبية، وتعهد لنسائها بإدارة المقاهى والمطاعم والحانات والأندية، وكان جمال الحدائق وروعة شاطئ البحر، مصدرا للحظات من الهناء والسعادة، تقدمها طرابلس الفاتنة لفتى ريفى، يغترب لأول مرة عن قريته وأسرته .
واصلت وأنا فى المدينة قراءة الأعمال الأدبية بهمة اكثر وعزيمة اشد، مما كنت أفعل فى البلدة، فالمصادر التى تتيح لى حرية الاختيار لا حصر لها. مكتبات كثيرة تبيع جميع ما يصدر فى المشرق العربى من مجلات وصحف ودوريات، مكتبة عامة تقع فى وسط المدينة، وفى ميدان الشهداء، تتبع الحكومة، تتخصص فى الدوريات، حيث كل ما يصدره العالم العربى من صحف ومجلات على مختلف أشكالها واهتماماتها وتوجهاتها، متوفر وموجود ومتاح مجانا للجمهور، وفى هذه المكتبة كنت أقضى اغلب ساعات الفراغ ونهارات العطل والإجازات الى حد ان مديرها الاستاذ شعبان الشريف، صار واحدا من اعز الاصدقاء، وفي المساء كنت أعود محملا بكتب استعرتها من المركز الثقافى المصرى، لأعكف على قراءتها بالقسم الداخلى، وفى هذه الأثناء تعرفت على أغلب رموز الأدب والثقافة أمثال الحكيم وطه حسين والعقاد ومحمود تيمور ونجيب محفوظ ويحى حقى وجبران ومى زيادة، وأعجبتنى الطريقة المبتكرة التى كتب بها يوسف إدريس قصصه القصيرة، وأعجبنى الشعر الغنائى الذى كان يكتبه نزار قبانى، وأدمنت قراءة مجلة أدبية أسبوعية كانت تصدر فى القاهرة تلك الآونة اسمها الرسالة الجديدة يرئس تحريرها يوسف السباعى، وأخرى شهرية اسمها كتابى قرأت من خلالها ملخصات أهم الأعمال الروائية العالمية كان يصدرها كاتب اسمه حلمي مراد، وأذكر أننى فى تلك المكتبة الحكومية، المتخصصة فى الدوريات، قرأت عام 1958 العدد الأول من مجلة العربى، التى صرت واحدا من قرائها الأوفياء الذين داوموا على قراءتها حتى اليوم .
وبدأت، يوما بعد الأخر أحاول استكشاف الأجواء الأدبية فى العاصمة، وأتعرف على ملامح الأدب الليبى الذى لم أكن حتى ذلك الوقت أعرف عنه شيئا، لأن عدد الكتب التى أصدرها كتاب ليبيون كان قليلا جدا، وهذا القليل لم يكن متاحا لقارئ صغير فى السن مثلي، يقرأ قراءة عشوائية، دون منهج أو خطة، فاتجهت إلى الصحف والمجلات المحلية التى كانت رغم قلتها تحفل بإسهامات الأدباء الليبيين، وتنشر قصائد ومقالات الجيل الذى عاصر مرحلة المقاومة الوطنية، وتشير إليه بإكبار وتقدير مثل أحمد رفيق المهدوى وأحمد قنابة وعلى وأحمد الفقى حسن وأحمد الشارف الذى توفى فى تلك الفترة، مع العناصر الشابة من أدباء جيل الخمسينات أمثال الأساتذة على مصطفى المصراتى وخليفة التليسى وعبد القادر أبو هروس ومحمد فريد سيالة وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم جميعا.
وبعد انقضاء عام واحد على وجودى فى طرابلس، أى عام 1958، انضممت إلى فرقة مسرحية اسمها فرقة الأمل، التى تضم بين أعضائها عددا من الادباء الناشئين هم عبد الحميد المجراب وبشير الهاشمى ويوسف الشريف ونجم الدين الكيب وعبد الله هويدي وعلى مختار الحاراتي، ومع هذه المجموعة التى صرت ركنا من أركانها، بدأت أولى الخطوات الجادة والحقيقية على طريق المغامرة الأدبية والإبداعية، فقد انتقلت من مرحلة العبث الطفولى الذى كنت أمارسه فى الصحف الحائطية التى أحررها، والقراءات العشوائية، إلى قدر من المسؤولية، سواء فى تنظيم واختيار ما أقرأ، أو فيما أسعى لتحقيقه كأديب من أدباء المستقبل. كان كل أعضاء المجموعة ينتمون إلى بيئات شعبية فقيرة، واستطاعوا وهم الأكبر سنا منى تكوين أنفسهم تكوينا ذاتيا عصاميا، وواصلوا العمل والدراسة فى وقت واحد، ولديهم جميعا حس كبير بمسؤولية الكاتب، وضرورة أن يكون للأدب دور اجتماعى ومساهمة فى رفع درجة الوعى لدى المواطن، وبهذا الفهم والتوجه كانوا يكتبون قصصهم وأشعارهم ومقالاتهم التى صارت تعرف طريقها إلى النشر. كان الوسط الأدبى فى تلك الأيام مولع بالأدب الروسى، نتيجة للمد اليسارى الذى عرفه الوطن العربى فى تلك الحقبة، وكانت دار اليقظة فى سوريا ودور نشر أخرى قد ترجمت أهم أعمال تولستوى وجوركى وتشيخوف وديستويفسكى وغوغول وترجنيف وسيمينوف وشولوخوف، وكانت هذه هى الكتب التي وجدت هؤلاء الأصدقاء يتحمسون لقراءتها فاستعرتها منهم وقرأتها مثلهم وصرت مفتونا كافتتانهم بهذا الأدب الذى قادنى الى قراءة أعمال كثيرة مترجمة من الشرق والغرب. كان صديقنا نجم الدين الكيب قد تعرف على علم كبير من أعلام الأدب العربى، جاء من مصر إلى ليبيا ليشارك فى تأسيس أول جامعة ليبية، هو الأستاذ محمد فريد أبو حديد، الذى كنت أعرف كتبه وقرأت له منذ أيام الطفولة عملا للفتيان أحببته كثيرا هو جحا فى جانبولاد وحدث أن كنت جالسا فى مقهى البريد مع نجم الدين، عندما جاء الأستاذ أبو حديد إلى المقهى فقدمنى إليه، ولا أستطيع الآن ان أصف ذلك الشعور بالفرح، والرهبة وأنا أمد يدى لأصافح ذلك الأب من آباء النهضة الأدبية الحديثة، بملامحه الأبوية، وسمته الجميل، وفيض الحب والحنان الذى رأيته فى نظرته وابتسامته. صورة مشرقة ومبهرة للأديب فى كهولته، وكل ما أردته فى تلك اللحظة هو أن أكون هذا الرجل عندما أكبر .
بعد مرور ما يقرب من عام ونصف، من التحاقى بفرقة الأمل، وفى ديسمبر 1959 أرسلت مجموعة خواطر أدبية لصحيفة أسبوعية اسمها الطليعة فنشرتها فى أبرز أبوابها وهو يوميات الطليعة ولكن بعد أن أسقطتْ اسمى، وعندما اتصلت بهم أبدي احتجاجى اعتذروا لى وأفسحوا فى الأعداد التالية مكانا لباب أسبوعى اكتبه تحت عنوان خواطر وتأملات وكانت صحيفة فزان التى تصدر فى الجنوب قد اكتسبت سمعة بين الأدباء على اعتبار أنها أكثر جرأة من صحف العاصمة الواقعة تحت سيطرة الحكومة الاتحادية، فأعطيتها أول قصة قصيرة اكتبها ونشرتها عام .196. تحت عنوان " هارب إلى المدينة" وبدأت منذ ذلك التاريخ أصنع لنفسى اسما فى عالم الكتابة الأدبية والصحفية وأحرر بابا يوميا فى جريدة الدولة الرسمية طرابلس الغرب اسمه "لا تسرع الخطى"، ثم انتقل فى العام التالى إلى واسطة إعلامية أكثر انتشارا هى الإذاعة لأحرر لها أبوابا يومية صباحية مثل مجرد رأى وحكمة الأجيال دون أن أهمل نشاطى فى مجال المسرح الذى بات يأخذ منى ساعات المساء بعد أن دعانى مجموعة من الجيل المسرحى الجديد لتأسيس فرقة من فرق الهواة تعنى بقضايا التحديث والتجديد فى المسرح توليت إدارتها وانهمكت فى إعداد برامجها والمساهمة فى عروضها بالكتابة والإخراج والتمثيل ولا تزال هذه الفرقة تواصل رسالتها حتى الآن وقد بقيت مديرا لها ولم أتركها إلا بعد تأسيسها بسبع سنوات عندما أنشأت الدولة أول فرقة للمسرح الوطنى وكنت ضمن الأعضاء العشرة المؤسسين لها والذين حظوا بشرف العمل تحت إشراف واحد من عباقرة الفن المسرحى تمثيلا وإخراجا هو الفنان التونسى الراحل محمد العقربى .
كنت أثناء ذلك قد أكملت دراستى بالمعهد التجارى، والتحقت بقسم الإعلام التابع لإدارة الجمعيات التعاونية، وفضلته على العمل فى إدارات أخرى، باعتباره قريبا من المجال الصحفى، وقد شجعنى على ذلك وجود شخصية فكرية تدير المرفق، هو الأستاذ محمد أبو زيد الشريف، رحمه الله، الذى نشر قبل ذلك الوقت كتابا عن الاقتصاد التعاونى، ورآه بديلا مقبولا للنظامين اللذين يتقاسمان العالم وهما الرأسمالى والماركسى، ولأنه جاء إلى هذا المجال من حقل التعليم، فقد تجاوب معى تجاوبا كبيرا عندما أكتشف أننى عازم على إتمام تعليمى، رغم الظروف التى تكبلنى، أهمها أننى صرت مسئولا مسؤولية كاملة عن إعالة أسرتى، بعد أن أقفل أغلب التجار فى البلدة دكاكينهم، ومن بينهم والدى، نتيجة التحاق بدو الصحراء، الذين يعتمدون عليهم فى تجارتهم، بالعمل أجراء لدى الشركات الأجنبية التى اكتسحت الصحراء بحثا عن النفط، وفى مستهل عام 1962 لاحت فرصة دراسية متواضعة لكنها تتلاءم مع ظروفى، حيث سيبقى المرتب جاريا أثناء فترة البعثة، رشحنى لها الأستاذ الشريف كى أذهب إلى مصر، في بعثة تتولى مسئوليتها هيئة الأمم المتحدة، ولمعهد أنشأته الهيئة الدولية هناك، لتدريب الكوادر العربية فى مجال الخدمة الاجتماعية، هو المعهد الدولى لتنمية المجتمع، الذى يقع فى قلب الريف المصرى وفى قرية من قرى المنوفية اسمها "سرس الليان "، وكان الالتحاق بهذا المعهد فرصة ذات ثلاثة أبعاد، يتمثل بعدها الأول فى المكان، فقد كان المكان يقع فى عمق البيئة الشعبية الريفية، لشعب من أعرق شعوب الأمة العربية، وفى قلب المحيط الذى جاء منه السواد الأعظم من الشعب المصرى، وهو محيط الريف والفلاحين والزراعة النيلية، والبعد الثانى يتمثل فى الزمان أى عامى 62 - 63 حيث بدأت التجربة الناصرية فى مصر تبلور مشروعها الاشتراكى، وبدأ جيل الستينات الذى ترك بصمة قوية فى الحياة الثقافية، وفى الإبداع الأدبى والفنى، يصنع أكثر اللحظات ازدهارا فى هذه المجالات، وثالث هذه الأبعاد يتصل بالعنصر الإنسان، فقد تعرفت بشكل عملى، ومن خلال الممارسة اليومية، والمعايشة الحية، لهذه العينة من المواطنين العرب القادمين من المشرق والمغرب، على الوشائج العميقة التى تربط بين أبناء هذه الأمة وأضيف هنا هامشا صغيرا طالما أننا نقف على أرض الكويت التى منها تصدر مجلة العربى، وهو أننى كنت سعيدا وأنا أرى دولة الكويت ترسل ضمن بعثتها شابا فلسطينيا اسمه زهدى، وترسل أيضا فتاة من طلائع النساء المتعلمات اسمها لؤلؤة، التى احتفلنا بخطوبتها على زميل لقبه العطار، والتي صارت من رائدات التربية والتعليم هي السيدة لؤلؤة القطاني، حدث هذا منذ ما يقرب من أربعة عقود، فأين يا ترى هؤلاء الأصدقاء الآن؟ وقد تأكدت منذ تلك الأيام صلتى بالرؤى والأفكار الوحدوية، في اطار من التعامل الحر مع هذه الافكار، وليس الارتباط العقائدي كما حدث مع اصدقاء ثم تجنيدهم، في احزاب قومية، هذا عن جانب الزملاء، أما عن جانب الأساتذة، فقد استقطبت الهيئة الدولية مجموعة من أكفأ العناصر الأكاديمية، الذين توثقت صلتى بهم بسبب الرابطة الأدبية، إضافة إلى الرابطة التعليمية أمثال الدكاترة عبد الحميد يونس ورشدى خاطر وعبد الفتاح الزيات ومحمود الشنيطى وسعيد عبده ومحمد سعيد قدرى ولويس كامل مليكه ومازلت التقى أحيانا بأستاذنا محى الدين صابر وأتابع إسهامات أستاذنا حامد عمار. كانت الحياة الثقافية خارج المعهد، تضج بالحركة والنشاط والحيوية، وكنت استخدم صفتى الصحفية لدخول المحافل الأدبية، والكتابة عنها للصحف الليبية، وقد أتاح لى ذلك الالتقاء بعدد كبير من الأدباء والفنانين، وإجراء حوارات صحفية معهم، واشتركت فى عضوية النادى التابع لمسرح الجيب، وشاهدت أغلب عروضه، وحضرت الندوات التى كان يديرها النقاد الكبار محمد مندور ورشاد رشدى ولويس عوض وعبد القادر القط ورجاء النقاش، وحرصت على أن يكون جزءا من تدريبى العملى في المسرح القومى بالأزبكية، وكان رئيسه ضابطا مثقفا اسمه آمال المرصفى، اتاح لى فرصة الاستفادة من مخرجى الرعيل الأول أمثال فتوح نشاطى، وعبد الرحيم الزرقانى، ونبيل الألفى، وكمال ياسين وتعرفت على المخرجين الوافدين حديثا من بعثاتهم الدراسية مثل الأستاذ سعد أردش والصديق الدكتوركمال عيد الذى جاء إلى العمل فى ليبيا خبيرا للمسرح وانتدبته للعمل أستاذا بالمعهد الوطنى للتمثيل والموسيقى عندما كنت مديرا لهذا المعهد .
توثقت، خلال هذه الفترة، علاقتى بعدد من المبدعين الكبار، بينهم الدكتور يوسف إدريس الذى كنت شديد القرب منه والمحبة له، واستفدت من عمق ملاحظاته على ما اكتب، وتواصلت هذه العلاقة إلى أن انتقل إلى دار الخلود، كذلك فارس القصيدة العربية الحديثة الأستاذ صلاح عبد الصبور، الذى لم أعرف له مثيلا فى الصفاء والشفافية والنبل وشاعرية المعاملة والسلوك، وتعرفت فى ذلك الوقت على أصدقاء أعزاء، أضاءوا سماء مصر الأدبية وأضحوا من أكثر نجومها لمعانا، مثل الأستاذة عبد لله الطوخى وصبرى موسى ورجاء النقاش وشقيقة الراحل وحيد النقاش وأحمد عباس صالح، الناقد والمفكر، الذى لم تنقطع لقاءاتى به سواء فى مصر أو لندن حتى انتقل اخيرا الى دار البقاء.
لم أنقطع خلال هذه المدة التى قضيتها فى القاهرة عن كتابة القصص والرسائل الصحفية إلى الجرائد الليبية، وقد جمعت ما نشرته لى هذه الصحف من قصص قصيرة، اخترت من بينها عشر قصص لإصدارها فى كتاب بعنوان " الجراد"، وهو اسم قصة من قصص المجموعة حظيت باهتمام كبير، وترجمت إلى لغات كبيرة، وأعادت نشرها صحف فى المشرق كمثال لنضج هذا الفن فى ليبيا مثل مجلة المعرفة السورية وجريدة الطريق اللبنانية وقرأت لناقد شهير، هو الأستاذ أفنان القاسم، دراسة فيما بعد، نشرتها له مجلة شؤون فلسطينية، يقول فيها عن هذه القصة بأنها كانت تدشينا لكتابة قصصية جديدة تحتفى بالبطولة الجماعية بدل البطل الفرد، أقول بأننى أعددت هذا المخطوط للنشر، وأعطيته لأستاذنا الدكتور عبد الحميد يونس من أجل تصويب ما قد يكون فيه من أخطاء، ويبدو أنّه تحدث عن المخطوط أمام أحد الصحفيين فنشر عنه خبرا فى الصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام وكان ذلك فى مطلع عام 1963 وبعد أسابيع قليلة من مرور الذكرى العشرين ليوم مولدى .
لم تنشر المجموعة تحت هذا الاسم، ولكنها نشرت تحت اسم جديد، وجدته أكثر شاعرية هو "البحر لا ماء فيه" بعد أن قدمتها إلى اللجنة العليا للفنون والآداب فى ليبيا لتدخل ضمن مسابقة الأعمال الأدبية التى أعلنت نتائجها عام 1965، ولتفوز بالمرتبة الأولى فى مجال القصة القصيرة، وكان الشيء الذى يبعث على الفخر بالنسبة لى، هو أن أعظم الكتاب الليبيين شاركوا فى هذه المسابقة، وبينهم نوابغ خلد الشعب الليبى ذكرهم وأطلق أسماءهم على المدارس والميادين مثل القصاص الراحل خليفة التكبالى الذى أخذ كتابه الكرامة الترتيب الثانى بعد كتابي، وعلى الرقيعى الشاعر الكبير الراحل، الذى نال الترتيب الثانى فى الشعر .
تلك إذن، هى العشرون عاما الأولى من عمرى، بما حفلت به من أحداث، وما حققته أثناءها من اعتراف المجتمع الأدبى بمواهبي، وما حملته من أعباء ومسئوليات قبل بلوغها بعدة سنوات، بما فى ذلك إعالة أسرتي، ورعاية أخوتي، الذين كانوا أصغر سنا مني. إنها الأعوام التى وضعت الأسس لكل ما أنجزته خلال أكثر من سبعة وثلاثين عاما أعقبتها وانظر اليوم إليها بكثير من الزهو والفخر، مدركا أننى أنتمى إلى جيل انتخبته الظروف التاريخية ليكون حلقة وصل بين عصرين وعهدت إليه بمهمات جسام قبل أن يتخطى عتبات الطفولة والصبا، عارفا في الوقت ذاته أن ذلك قد لا يتكرر مع أجيال أخرى ويجب ألاّ يتكرر، فمن حق أى فتى دون العشرين أن يستمتع بسنى المراهقة والصبا وأن يواصل تحصيله العلمى وهو متحرر من الأعباء والمسؤوليات.
كان ذلك هو كتابى الأول الذى أصدرت بعده أكثر من ثلاثين كتابا شملت مختلف مناحى الإبداع، الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقالة الفنية .
وكانت تلك الجائزة هى بداية الطريق الذى أوصلنى لأن أتشرف باستلام عديد الاوسمة والجوائز وكانت رحلة القاهرة، هى الرحلة الأولى التى أعقبتها رحلات لاحصر لها إلى مختلف قارات العالم، بعضها لحضور حفلات تكريم أقيمت احتفاء بانتاجى الأدبى، الذى أسعدنى أن أجد من الأجيال الجديدة من جعله موضوعا لعدد من الأطروحات الجامعية، وأن أجد من المترجمين من رآه جديرا بالنقل إلى لغات شعوب أخرى، مما اسهم فى وضع اسم بلادى على خريطة الأدب الإنسانى العالمى .
تلك كانت بداية المشوار المرهق الممتع الطويل، لذلك الفتى القروى الصغير الغشيم، الذى وجد نفسه وهو فى السابعة عشرة من عمره، مقذوفا فى ميادين العمل والإنتاج والصراع، بلا موارد ولا إمكانيات ولا حقيبة، لأنه لم يكن يملك أمتعة وأغراضا تستحق أن يهيئ لها حقيبة. وحده كان يمشى فى الطريق الوعر، من أجل أن يصنع لنفسه مكانا فى العالم الواسع، دون يكون هناك أحد فى الأفق يمد له يدا، يعينه ويرشده ويدله على الطريق، وحده كان يمشى، ولا يزال .
ملامح قرية اسمها مزدة
ونشأة طفل من ابنائها
لن أقول ما قاله بطل "اعترافات قناع" للكاتب الياباني الراحل يوكو ميشيما، بأنني كنت على وعي بما كان يدور حولي لحظة ميلادي، وأنني قادر على وصف ذلك المشهد الذي استقبلني عند خروجي من ظلمة الرحم إلى ضياء الدنيا، إلا أنني ونتيجة لما سمعته من أحاديث وحكايات عن الأيام الأولى لوجودي في الحياة، استطعت الإلمام بجوانب ذلك المشهد، واستحضار صورة واضحة عما حدث لي أثناء تلك الأيام من أحداث، أستعيدها في خاطري وكأنني كنت واعيا بها، مدركاً تمام الإدراك ما حصل لي بعد ولادتي المتعسرة وما عانيته من مشقة، بسبب الحالة المرضية التي واجهتها والدتي بعد إنجابي، وجعلها غير قادرة على إرضاعي، فكنت أبحث عن طعام فلا أجده لدى تلك الأم المريضة التي جف الحليب في صدرها، ولا أدري كم مضى من الوقت قبل أن يجد لي الأهل نساء مرضعات، توافق موعد إنجابهن لأطفالهن مع ميلادي، ورضين بالتناوب على إرضاعي، لأنه لم يكن ممكنا لامرأة واحدة، تعيش تحت تلك الظروف القاسية، في شتاء عام 1942م ان تقوم باداء المهمة -وبعد ثلاثة أعوام من انفجار الحرب العالمية الثانية، وإقفال المنافذ والسبل التي يأتي منها الرزق، وندرة الطعام - أن تجد في صدرها ما يكفي من الحليب لإرضاع طفلها، وطفل إضافي يلقون به في حضنها. ولم يكن حليب "الكيكوز" أوغيره من أنواع الحليب المعلب أو المجفف الذي يباع في الصيدليات لإرضاع الأطفال قد أصبح رائجاً في أريافنا العربية، وهكذا شاء لي الحظ، أن أعيش على هذه المنح السخية من الحليب البشري، تدره صدور نساء قرويات فقيرات، صرن بسبب هذه الجرعات من حليبهن أمهات لي بالرضاعة وصار أطفالهن، من أولاد وبنات، أخواتي وإخوتي. وكن يقدمن هذه الخدمة تطوعاً، إذ لم تكن تقاليد قرية "مزدة" التي أنتسب إليها تسمح للمرضع أن تتلقى أجراً مقابل حليبها، كما هو الحال في مناطق أخرى، ولذلك فإن كل ما تلقيته من غذاء في تلك الأيام المبكرة من عمري، أبعد عني شبح الموت وأتاح لي فرصة أن أعيش وأنمو نمواً طبيعياً، كان عطاءً سمحاً كريماً، وهبة خالصة لوجه الله .
لا أدري الآن، وأنا أدنو حثيثا من إكمال العقد السادس من عمري، ما الذي تركته أخلاط الحليب الذي رضعته من صدر نساء القرية في تكويني، وما الذي أورثه لي من خصال أو زرعه في وجداني من بذور، فنحن نعرف من خلال ما قاله لنا الباحثون في علم النفس، أن لتلك المرحلة المبكرة من أعمارنا، تأثيراً بالغاً في مسيرتنا عبر الحياة، وهي التي غالباً ما تحسم وتحدد ما سيؤول إليه مصيرنا بعد ذلك. طبعاً لا يمكنني الحكم على تأثير تلك الأيام إلا من خلال الملامح الرئيسية في حياتي وتكويني وأهمها أنني نجوت من أمراض كثيرة، لم يستطع أن ينجو منها أتراب لي، ولدوا في تلك الظروف الصعبة التي ولدت فيها، وعاشوا أحداثاً كالتي عشتها في طفولتي، فهي ظروف قضت على فرص توفر الغذاء الأساسي والضروري لكل كائن حي، أعني في حده الأدنى الذي يساعد الإنسان على البقاء، ويساعد الطفل على النمو نمواً طبيعياً، إذ كان هذا الغذاء نادراً، إلى حد أن كيس الدقيق الذي لا يزيد عن كيلو جرام، كان يصرف للأسرة بالكوبون، بل جاءت سنوات، اختفى فيها الكيس واختفى الكوبون، ووجد الناس أنفسهم في تلك المناطق النائية عن العمران، يواجهون أعوام الجوع والمسغبة دون عون من الدولة.
بل جاء وقت، لم تكن فيه دولة تسيطر على البلاد، خاصة أثناء تلك الفجوة بين اندحار إيطاليا، التي كانت تحتل ليبيا، وبين الزحف العسكري لقوات الحلفاء، متمثلة في الجيش البريطاني، ولم تنل قريتنا من غنائم الحرب إلا القنابل التي كانت ترميها طائرات الحلفاء على بيوت القرية، بسبب وجود فرقة من المجندين من أريتريا وإثيوبيا، تابعة للجيش الإيطالي، كانت تعسكر في القرية وتستعد لقطع الفرص على جيش فرنسا الحرة القادم إلى حرب الصحراء من تشاد.
بل إن هذه الظروف تقضي، بخلاف الطعام، على فرص الحصول على ما يحتاجه الإنسان في أول العمر من حب وحنان، لأن الناس تحت قسوة الفقر والخوف وانعدام الأمن، وانتشار المجاعات والأمراض وقطاع الطرق، يهربون للنجاة بحياتهم، ويهجرن في بعض الحالات أطفالهم، وفي الأغلب الأعم، هم لا يجدون وقتاً لتدليل الأطفال والاعتناء بهم، وقد رأيت في مناسبات أقل قسوة من أيام الحرب، خاصة أثناء انتقالنا لقضاء أشهر في البادية، كيف أن الأهل هناك يتركون طفلهم في القماط ويذهبون لالتقاط رزقهم، في الحصاد أو جمع الأحطاب أو جلب الماء، حيث يغيبون النهار كله عن ذلك الطفل، الذي لا يجد من يرضعه أو يطعمه إذا جاع، أو يسقيه إذا عطش، أو يزيل عنه اللفائف ويتولى تنظيفه إذا احتاج إلى هذه الخدمات الأساسية التي يحتاجها كل طفل رضيع، ورأيت بعد ذلك تأثير هذا الإهمال على سلوكهم ونفسياتهم عندما وصلوا مراحل النضج والشباب، باعتباري كاتبا مهنته فهم ودراسة نفوس البشر وسلوكياتهم وما يطرأ عليهم من تحولات روحية ونفسية.
رأيت كيف يتحول ذلك الجوع القديم للحب والحنان، إلى جوع أبدي، وطاقة مدمرة تفسد حياة صاحبها، وتدمر علاقاته بالآخرين، لأنه سيعيش حياته ينشد بطريقة مرضية ما فقده من حب وحنان، محاولاً أن يستحوذ وحده على اهتمام الناس وحبهم، ومهما وجد من يعطيه هذا الحب وهذا الاهتمام، فهو لن يشبع حاجته، لأن وقت الإشباع قد مضى مع تلك الأيام التي قضاها مهملاً في القماط، يطلق الصرخات دون أن يجد من يسمع صرخاته أو يهرع لنجدته.(هامش صغير اضيفه بعد سنوات من كتابة هذا النص، فقد كتب هذا الكلام ونشر في وقد كان الطاغية الليبي المسمى معمر القذافي يتسيد على المشهد في بلادنا، وكانت هذه الاشارة الى حالته المرضية والى الطاقة المدمرة التي يبدو ان لها جذورها في تربيته البدوية البائسة حيث الحرمان من العطف والحنان اسهم في اظهار المسخ التي عانت ليبيا من ارهابه وجنونه واجرامه لاكثر من اربعة عقود، لم اذكر اسمه واثقا ان كل من قرأ هذا الكلام كان يستطيع ان يتكهن بمن عنيت)
الجوع إلى الطعام يصنع ذلك أحياناً، عندما يتمنى الطفل قطعة خبز يراها في يد الآخرين ولا يستطيع الحصول على مثلها، أو حبة فاكهة، أو قطعة حلوى، ويعيش ما تبقى من عمره يلعب تلك اللعبة التعويضية الخالدة التي تفسد حياته هي الأخرى، محاولاً أن يستحوذ على كل ما في الدنيا من خبز أو فاكهة أو حلوى، دون فائدة، لأن مخازن العالم كلها، لن تستطيع أن تشبع ذلك الجوع القديم. لذلك فإنني أحمد الله حمداً كثيراً على تلك الجرعات من حليب الأمهات الفقيرات، لأنها أشبعت حاجاتي لما يحتاجه الطفل الرضيع من عطف وحنان بمثل ما أشبعت حاجتي إلى الطعام، ومنحت حياتي شيئاً من الأمن والأمان، جعلني أشعر بنوع من الاكتفاء والتوازن عندما أتعامل مع أي أحد في الدنيا، أو أنشد أي شيء من حوائجها. وأحس، دون مباهاة أنني نموت نموا طبيعياً، ووصلت سن النضوج بشكل متوازن بين النضج البدني، والنضج النفسي، والنضج العقلي، والنضج الانفعالي.
ولم أجد حاجة في نفسي لكي ألعب تلك اللعبة التعويضية التي يلعبها بعض أبناء جيلي ممن فاتهم أن يحققوا إشباعاً لحاجتهم في سنوات الطفولة، فأصابهم ذلك النقص في الحُب أو الطعام، بشروخ نفسية لا سبيل إلى علاجها.
فى خدمة كتاب الله
إلى تلك البقعة الموغلة فى الصحراء ارتحل الهاربون من اضطهاد الحكومات، واستقروا بين أطلال المستوطنات الرومانية القديمة التى أقيمت فى عهود غابرة كحصون وقلاع وخطوط دفاعية أثناء الحرب بين الجرامانتيين وجيوش الإمبراطورية الرومانية، ولازالت هذه الآثار موجودة، بعد أن تراكمت فوقها، أثار أخرى،وسبقتها حضارات أكثر قدما، مما يوحى بأنها كانت مناطق خصبة، لم يبق منها الآن إلا اطلال، وجبال عارية جرداء، وأودية لا تسيل فيها المياه إلا نادرا. ورغم إنّ أهل قنطرارة، او الفلول الباقية منهم، الذين هربوا الى الصحراء وأسسوا بلدة مزدة، قد تركوا المذهب الإباضى الى المذهب المالكى، الا أنّ علاقتهم بتدريس علوم القرآن استمرت معهم، فكان الناس يقصدونهم لهذا الغرض، كما كانوا هم يسافرون الى البوادى والمراكز الحضرية للعمل مدرسين للقرآن، ولقد اشتغلت الاسرة التى انتمى اليها بالفقه وتدريس القرآن، وكان بين هؤلاء الاسلاف رجلا اشتهر بتخصصه فى قراءة القرآن على طريقة الامام قالون، حتى التصق به لقب" القالونى" الا انه لم يصبح اسما للأسرة التى أخذت فى البداية لقب" ابن الحاج"باعتبار أن من يذهب لأداء فريضة الحج ويعود سالما، يصبح موضع فخر لأسرته، يتباهى به أهله، ويجامله الآخرون بإطلاق هذا اللقب عليه، حتى يصبح جزءا من اسمه. ثم جاء جدى لوالدى، وهو الفقيه أحمد عبد الله القنطرارى، ليعيد الأسرة الى لقب الفقيه،وقد كان عالما من علماء الدين وفقيها يعلم القرآن فى الزاوية القرآنية الكبيرة، التى أسسها فى أربعينات القرن التاسع عشر، صاحب الطريقة السنوسية، محمد بن على السنوسى، وهى الزاوية التى أنشأها بعد زاوية البيضاء فى شرق البلاد، وكانت أكثر من مجرد مدرسة، كانت مركزا علميا، ولها أقسام داخلية لإيواء الطلاب القادمين من الصحراء، وقد انخرط فى هذه الزاوية، كمصلح ومعلم ورجل يتولى حل المنازعات بين الناس، وهداية اهل البادية الى اتباع الطرق السلمية التى يقرها القرآن، ونبذ العادات والممارسات التي نهى عنها، بدءا باساليب الغزو التى كانت موجودة، ومشاكل الثأر وغيرها، وقد تعلم على يديه علماء بعضهم صار صاحب سمعة وصيت فى تلك المناطق، وكانت لجدى رحلات علمية كثيرة لا أدرى ان كانت قد وصلت به إلى الجغبوب عاصمة الدعوة
السنوسية، للتبحر فى علوم الدين أم لا، إلا اننى أعرف انه ذهب الى بعض مناطق الجبل الغربى، ودرس على يديه أناس فى منطقة مسكة، وككله، حيث زاوية، " ابى ماضي" التى تربطها بزاوية" مزدة " وشائج علمية عريقة . وقد توفى جدى الفقيه أحمد فى بداية العقد الاول من القرن الماضى، وترك بنتين وأربعة أبناء، أصغرهم والدى، وأكبرهم عمى محمد، الذى كان خلال فترة الاحتلال الإيطالى لليبيا شيخا لقنطرار، وقد عاش صراعا مريرا مع الإيطاليين خاصة عندما اكتشفوا تعاونه مع المجاهدين، فأطاحوا به، بعد ان ظل لأكثر من ثلاثين عاما شيخا للبلدة، وقد مات فى الخمسينيات وهو كفيف البصر، وكنت وأنا صغير أقوده الى مجالس العلماء، ولقاء أصحابه من اهل الجهاد مثل المجاهد الأسطورى أحمد السنى، وكان لهذه الجلسات أبلغ الأثر فى تعميق اتصالى بالبيئة العلمية، واستيعابي منذ طفولتى لصفحات مشرقة من تاريخ النضال الليبى . كان الابن الثانى هو عمى الفقيه على، وكان فقيها وعالما ورجلا من أهل الله، كما يحكى عنه، لأننى لم أره ولم اعرفه، فقد غادر القرية مع ابن له اسمه محمد،لمهمة تعليمية فى بادية برقه، حيث هجر القرية وانقطع كل اثر له منذ ذلك التاريخ .
والابن الثالث هو عمى الفقيه عبد الله، وقد عاش إلى بداية الستينيات، وكنت قريب الصلة به، وكان له بستان يقوم بفلاحته فى القرية، وكنت فى طفولتى أقضى أغلب وقتى فى هذا البستان، المحاذى لبيتنا، ويعهد إلىّ عمى بسقاية بعض الأشجار والنباتات، وكان شعورا جميلا أن أرى بعض هذا الغرس او هذه النباتات وهى تنمووتكبر يوما بعد الآخر. وكان رابع هؤلاء الابناء، والدى إبراهيم الفقيه، الذى اشتغل منذ صباه بالتجارة، وكان له حانوت فى بلده مزدة، يتعامل فيه مع أهل البادية بيعا وشراء، كما كان الحانوت اشبه بالنادى الذى يلتقى فيه اصحاب والدى يعدون الشاى ويحمصون الفول السودانى الذى يتناولونه مع الشاى، ويتذاكرون في اوضاع البلاد واستذكار الماضى. كما كانت لوالدى اغنام يعهد بها لرعاة خارج القرية، فلا نراها الا في الربيع عندما نذهب مع اغلب العائلات فى البلدة، لملاقاة الربيع في البراري، والاستفادة بألبان وأصواف هذه الاغنام. لوالدى اختان، هما عمتى رقيه، التى كانت ايضا امرأة صلاح وتقوى،وقد رأيت فى طفولتى الناس يقصدونها، ويتوسلون بجاهها عند الله، لقضاء حوائجهم ويطلبون ان تباركهم وتدعو لهم . كما كانت لها مواهب فى قول الشعر، لم تسرف، للأسف الشديد فى استخدامها لهذه الموهبة، لأننى سمعت من نساء العائلة قصائد تنسب اليها تتغنى بجمال الطبيعة وتصف فيها الاودية التى كانوا يرحلون اليها فى فصل الربيع. اما الأخت الثانية لوالدى، فهى الارملة التى احتضنتنى وعكفت على تربيتى وصرت ابنا لها، لأنها ترملت دون ان يكون لها ابناء ذكور، فصرت احظى بعنايتها ورعايتها، فى حين اهتمت والدتى بابنيها لأثنين الأصغر سنا منى وهما محمد ومفتاح.
واسم هذه العمة هو" ياقوته " الذى كانوا يصغرونه، فيدعونها "قويتة" حتى صرنا لا نعرفها الا بهذا الاسم، وكانت سيدة مكافحة، عميقة الايمان، كرست حياتها، بعد وفاة زوجها، لإعالة اسرتها وتربية بناتها الثلاثة، بالكدح والعمل الدؤوب، فكانت تصنع العباءات واردية الصوف فى بيتها ليبيعها لها اخوها فى دكانه، وكانت تحرص على الاستفادة من حصة زوجها فى الارض المشاع التى تصلح للحرث، فلا تتركها دون حرث وحصاد، وكنت ارحل معها لملاقاة الربيع كما ارحل معها لمواسم الحصاد وذهبت معها الى الجبل الغربى فى الصيف عندماتنضج ثمار التين والعنب هناك، لتقايضها ببضائع تنتجها فى مزدة مثل اثواب الصوف وشكائر القمح والشعير.
وكانت هذه العمة أما ثانية لى، غرست فى نفسى إكبار المرأة العاملة الكادحة واحترامها، مما انعكس فى كل ما كتبته من اعمال ابداعية، اعطيت فيه للمرأة دوراايجابيا، بل انعكس فى الاداء والأفكار التى جعلتنى انتمى منذ بدايتى فى مجال الكتابة الى الأقلام التى تناصر قضية المرأة، وتدافع عن حقها فى العمل والتعليم فى المجتمع الليبى، وخصصت فى بعض مراحل العمر، مقالات اسبوعية اكتبها عن هذه القضية، وجمعت بعضها فى كتاب خاص بالدفاع عن قضايا المرأة فى المجتمع هو "كلمات من ليلى سليمان " . وقد ظهرت ملامح هذه البلدة المكافحة فى بعض الشخصيات النسائية التى تناولتها فى قصصى ورواياتى ومسرحياتى، خاصة شخصية العمة" مريومة" فى روايتى "فئران بلا جحور " بل ان موضوع هذه الرواية، وما ارتبط بها من ذكريات، جاء بسبب رحلة من هذه الرحلات التى سافرت فيها مع عمتى الى البادية، والتقينا بهؤلاء الناس الذين جاءوا للبحث عن عمل فى الاودية الخصبة المليئة بحقول القمح والشعير فوجدوا ان كل هذه الحقول قد اكلتها الجرابيع .
دعاء رجل من أهل الله
يسمونها بوابة الصحراء، لأنها آخر المراكز الحضرية التى يبلغها المسافر من مدن الشريط الساحلى، قبل ولوج البون الصحراوى الشاسع، الذى يشكل الجزء الأهم من الصحراء الكبرى، وهو الجزء المعروف باسم "الحمادة الحمراء".
تلك هى بلدة مزدة التى أنتمى إليها، والتى تمثل حلقة وصل بين البادية والصحراء، ومركزا تجاريا يقصده أهلنا من قاطنى الخيام للتسوق وقضاء شئونهم الإدارية من المكاتب التابعة للحكومة، وكان طبيعيا أن يشتغل اهل البلدة بالبيع والشراء، فهم يشترون ما يعرضه أهل البادية من إنتاج كالتمور والأصواف والمواشى، وبعض المنسوجات اليدوية، المصنوعة من شعر الماعز ووبر الإبل وصوف الأغنام، ويبيعونهم ما يحتاجون إليه من المواد الاستهلاكية والسلع التموينية التى يجلبونها من العاصمة ولذلك فإن عدد الحوانيت فى تلك البلدة الصغيرة التى لم يكن عدد سكانها فى الأربعينات والخمسينات يزيد عن مائتى عائلة، يبلغ عددا يفوق عدد العائلات نفسها، ولم تكن عائلتى استثناء من ذلك، فقد كان ابي يملك هو الآخر حانوتا، يأتيه أهل البادية من كل صوب، ويضعون أحمالهم ويعقلون جمالهم فى الساحة التى أمامه، قبل أن تتحول هى الأخرى إلى بناء يضم مزيدا من الحوانيت وكثيرا ما جاء والدى بهؤلاء الزبائن من أهل البادية إلى بيته كضيوف، خاصة فى شهر رمضان الكريم، حيث لم يكن ممكنا أن يترك أهل البلدة، زائرا من زوراها دون دعوته للإفطار معهم، مهما كانت صعوبة الظروف الاقتصادية التى مر بها الناس. أذكر ذات إفطار، وأنا فى الخامسة أو السادسة من عمرى، أن أحضر والدى رجلا كفيفا مع اثنين من مرافقيه، إلى البيت، وكان مظهر الرجل الكفيف مظهرا مزريا، بعباءته العتيقة ولحيته الشعثاء، وأثار الجدرى المحفورة بقوة فى وجهه، مما أحدث شيئا من الضيق والنفور منه، لدى كل أهل البيت، عدا والدى طبعا، ولكن الرجل ما أن استقر جالسا فى بهو البيت المفتوح، الذى نتخذه مكانا للجلوس وتناول الطعام فى أماسى الصيف، وليالى السمر الرمضانية، حتى تحول إلى شخص يشع سناء وبهاء ووسامة، وبدأت طاقات النور تنبجس وتتدفق من حضوره المدهش، المبهج، الجميل، بسبب ما بدأ ينشده من مدائح وأناشيد وادعية ذات ألحان شجية، عذبة، وبصوت طلى اخاذ، فيه مع المهارة، مهابة وجلال، يهز الوجدان، ويطرب الإسماع، ويحدث فى النفوس الحاضرين، بما فيهم الطفل الصغير الذى كنته، حالة من البهجة والانفعال القوى العميق، بما يقول، وعندما تحدث ساردا بعض الحكايات الدينية التراثية، كان سرده مؤثرا مثل إنشاده، وكان يعزز هذا السرد بالأشعار والأهازيج، ويترك سامعيه فى حالة متذبذبة بين الطرب والبهجة، أو الحزن والأسى، تأثرا مما يقوله في المقاطع الحزينة، بحيث كانت ليلة من الليالى التى انطبعت فى وجدان كل من حضرها من أفراد أسرتى، نساء ورجالا، واذكر فى ختام ذلك الإفطار، عندما وقف الرجل استعدادا للخروج، أن امسك بى والدى، وجاء بى إلى الشيخ الكفيف، يسأله أن يباركنى، فما كان منه إلا أن وضع يديه على كتفى، ثم أمسك بهما بقوة، وصار بهزنى وهو يواصل تلاوة أوراده وتسابيحه، التى تتخللها دعواته لى بالخير والفلاح، طلب بعدها كوبا من الماء، ارتشف منه جرعة أبقاها فى فمه، ثم ولشدة ذهولى، قذف بذلك الماء الموجود فى فمه، والممزوج بلعابة، في جسمى، قبل أن ينزع قبضته عن كتفى، ويرسلنى طفلا مباركا، معمدا بالماء واللعاب، قائلا لوالدى بالا يخشى شيئا على مستقبلى، والا يقلق من ناحيتى، لأن عناية الله ترعانى.
لا أدرى اليوم، مدى ما أسهمت به تلك البركات الممنوحة لى من شيخ جليل، فى تشكيل حياتى، وحجم تأثيرها فيما حدث لى بعد تلك الليلة الرمضانية المحفورة فى ذاكرتى، وما إذا كانت حقا قد هيأتنى للطريق الذى مضيت فيه وهو الانتساب إلى أشرف وأنبل مهنة عرفتها الإنسانية، مهنة الكتابة الأدبية والإبداعية، لأننى فعلا، وبرغم ما تعنيه الكتابة من مسؤولية، وما قد يصادف أصحابها من آلام ومتاعب، فخور بالانتماء إليها، وإلى عشيرة الكتاب والمبدعين، ممن ارتفعوا فوق الاعتبارات العرقية والإقليمية والدينية، وتجاوزوا حدود الزمان والمكان والوطن والأمة، ليلتقوا على صعيد الأخوة الإنسانية، وتعميق الوشائج بين أفراد الأسرة البشرية، وتوجيه رسالتهم إلى الناس جميعا من ولدوا منهم ومن سيولدون .
وسأظل مدينا بما أنجزته فى حياتى لذلك الشيخ الكفيف، لأنه زرع فى نفسى، منذ تلك اللحظات المبكرة من عمرى إحساسا بالأمان والثقة والقوة النفسية والمعنوية التى تعينني على مواجهة المستقبل.
وعندما توفى والدى منذ أكثر من ثلاثين عاما، عليه رحمه الله ورضوانه، كان قد شاهد شيئا من نبوءة ذلك الشيخ تتحقق، فقد رأى اعتراف المجتمع الأدبى بموهبتى، واستقبال الاعلام والصحافة لأول كتبي، وإشادة النقاد وأساتذة الأدب، فى الصحف والإذاعات، بإنتاجى، وعاش سنواته الأخيرة يسمع اسمى كثيرا فى البرامج التى قدمتها للإذاعة، ويقرأه فى الصحف التى حررت بها أبوابا يومية فى ذلك الوقت.
لم يكن أصحاب هذه الدكاكين فى القرية يكتفون بعملهم فى حوانيتهم كمصدر وحيد للرزق، لأن للتجارة مواسم ازدهار، ومواسم كساد وركود، وبمثل ما تتأثر بسنوات الخصب وهطول الغيث فهى تتأثر بسنوات القحط والجفاف، ولذلك لابد لصاحب الحانوت من تدبير دخل إضافى عن طريق المشاركة فى الحرث والحصاد، أو تربية الأغنام أو الاعتناء بأشجار النخيل. ولم يكن والدى يتأخر عن الذهاب إلى الحرث فى الأرض المشاع التى تملكها البلدة، والتى يخرج كل رجالها لحرثها، كما كان يتولى بنفسه الذهاب للعمل المترتب عن الحرث، وهو الأكثر مشقة وعناء، أى الحصاد. ولأنه كان دائما يحتفظ مع رعاة البادية بجملين أو ثلاثة جمال، كما كان يحتفظ لديهم بمجموعة من شياه الماعز، فقد كان امتلاكه للجمال، ميزة، تجعله يشرك أكثر من شخص من أهل البلدة، ممن لا يملكون جمالا مثله، وأحيانا لا يملكون بذورا ولا عدة للحرث، لمقاسمته عناء الحرث والحصاد، مقابل نصيب فى المحصول. وفى مناطق أخرى غير قريتنا، يسمون مثل هذا الشريك الذى يدخل بجهده فقط "خماسا" أى له خمس المحصول، أما لدينا في مزدة، ونتيجة لأن هذا الشريك غالبا ما يكون صاحب نصيب فى الأرض أيضا، فالنسبة التى يأخذها أكثر أنصافا من مجرد الخمس.
ومازلت أذكر الآن، واحدا من أولئك الرجال الذين درج والدى على الاستعانة بهم فى الحرث والحصاد والذى رأيت فيه - بعينى الطفل – نموذجا للإنسان الخارق الذى يملك قدرات فوق ما يملكه الآخرون.
كان ذلك فى موسم الحصاد، وهو بخلاف موسم الحرث الذى لا يستمر لغير يوم أو يومين، ولا يذهب إليه إلا الرجال، موسم يتواصل ويستمر لعدة أسابيع، وغالبا ما تخرج الأسرة لتعاون الأب فى حصد وجمع المحاصيل، ولأن ذلك الموسم كان أول موسم حصاد أحضره وأنا فى بداية تفتح الوعى، وفى الأعوام التى سبقت دخول المدرسة النظامية ورغم القيظ ومشقة الحصاد، وصعوبة العمل فى النهار، إلا أنه، ما ان يأتي المساء ويبدأ انعقاد الجلسات التي تضم اهل النجع، حتى يتحول الموسم إلى مناسبة للفرح والابتهاج والاستماع إلى الحكايات والمشاركة فى الأهازيج والاغانى أحيانا، هذا عدا الأغنيات التي ترافق عملية الحصاد، وما يتبع الحصاد بعد ذلك من جمع السنابل فى بيادر، ودرسها فى ضوء القمر، صحبة الغناء، وما ينتج عن تلك الأجواء من لعب ومرح للأطفال الذين فى سني، مما جعل موعد الذهاب إلى الحصاد، فى الأعوام التى تلت هذا العام، مصدر بهجة لى لأننى أعرف أن هناك أياماً قادمات من المرح واللعب فى ضوء القمر. ولابد من القول هنا، أن هناك مناسبتين مبهجتين فى حياة أهل القرية، أولاهما، ملاقاة الربيع، وهى عادة كانت موجودة أيام طفولتى، عندما تخرج كل عائلة من بيتها في القرية، للإقامة أياما فى البرارى، وتشييد خيمتها على ضفة احد الأودية، أو بين الشعاب، خلال فصل الربيع، وإحضار الشياه التى كانت خلال فصول العام الأخرى تودعها لدى أحد الرعاة بالبادية، لتتولى حلبها، ومخض الحليب، لاستخراج الحامض، الذى نسميه " اللبن"، والذى غالبا ما يكون جزءا أساسياً من وجبتى الغذاء والعشاء مصحوبا عادة بالتمر، واستخراج الزبدة التى نصنع بها وجبة نسميها "العصيدة"، علاوة على ما تجود به نباتات البادية وأشجارها، فى موسم الربيع من ثمار تدخل فى مكونات الغذاء.
والمناسبةالثانية هى موسم الحصاد .
فهاتان هما المناسبتان اللتان تخرجان أهل القرية من روتين حياتهم ورتابة أيامهم، وحياة العزلة بين الرجال والنساء التى يعيشونها داخل جدران بيوتهم، الى افق جديد، ونكهة جديدة، وبهجة تلمس أثارها فى كل منحى من مناحى حياتهم، تتيحها لهم فرصة اللقاء بالطبيعة، واستقبال الأرض التى أخرجت أعشابها وأزهارها، ورسمت تكويناتها الجميلة في فصل الربيع، كذلك خلال ايام الحصاد، فإنها الطبيعة أيضا، إلا أن هذه المرة تنتج طعاما يبقى معهم على مدى عام كامل، وهو طعام كريم، لا ياتي عن طريق تجارة او سمسرة يمكن ان يخالطها اخذ ورد، أو تلحقه شبهة حرام، فهو يأتى نقيا من أرضهم، حيث لا فضل لأحد على أحد، ليشكل مصدرا من مصادر الأمن الغذائى لهم ولأولادهم، لأن حارث هذا الإنتاج وحاصده، يعرف أن لديه مصدرا ثانيا للرزق، لا تحجبه سقوط المدن تحت الحصار، كما كان يحدث في زمن الحرب، عندما تنقطع الطرق مع العاصمة، ولا يمنعه تخلف الزبائن من أهل البادية عن المجيء لشراء بضائعهم، كما يحدث فى أيام الأزمات عندما يلوذ البدوى بصحرائه.
هذه الصلة المتجددة بالطبيعة، وهذه العلاقة المتميزة المنتجة مع الأرض، وهذا النظام الاجتماعى الذى منع الاحتكار، وجعل الأراضي الزراعية ملكية مشاعية لأهل البلدة جميعا، بحيث لا أحد يملك شبرا واحدا أكثر من بقية الناس، كل هذا تحول إلى شعور بالبهجة وإحساس بالأمان، وارتباط عميق بهذه الأرض، التى توزع خيرها على الجميع بالتساوى، وتقدم عطاءها سمحا كريما لأهل البلدة دون تمييز .
طبعا قد يتأخر هطول الأمطار، ويشح عطاء الأرض، وتجدب الوهاد والسهوب والوديان، ولكن الناس، وبسبب الخبرة التى تراكمت عبر العصور، وضعوا صيغة لمواجهة هذه الحالة، انهم يعتمدون في مواجهة هذه الحالة، على حياة الزهد والتقشف التى يتبعونها، والتى تجعل، حتى من يصيب وفرة فى الرزق، فيتوسع فى سكن، وينفق الأموال على تحسين هندامه ومركوبه، يحافظ على عاداته الاستهلاكية القديمة، التى تجعله قريبا من الآخرين ممن هم أدنى دخلا منه، وتمنحه شيئا من المناعة ضد الصدمات، لو تغيرت حظوظه، وشحت مواد الرزق لديه، ولعل هذه العادات المتأصلة فى البيئة الليبية، هى التى جعلت المجتمع الليبى مجتمعا لا يعرف التفاوت الطبقى، أو التمايز بين الناس.
وفى هذا الموسم الذى رأيت فيه حقول الشعير لأول مرة، التقيت أيضا بذلك الرجل الذى اتخذ فى ذهني صورة بطل من أبطال الأساطير
موسم الحصاد
لمجتمع الواحة، أفراحه الكثيرة المتنوعة التى تختلف عن أفراح المدن. فهى أفراح، ذات طبيعة بدوية فى أغلبها، تحتفى بالطبيعة وترتبط بكثير من تجلياتها ومظاهرها، كالاحتفال بقدوم الربيع، وموسم الحرث، وموسم الحصاد، ومواسم جنى الثمار والمحاصيل، منها جنى البلح، والفواكه التى تزرع سنوياً وتعتمد على مياه الأمطار، مثل البطيخ والشمام، علاوة على المناسبات الدينية والاجتماعية، بما فيها المناسبات التى تخص شخصاً أو عائلة، كالأعراس، وأفراح الختان، والمواليد الجدد، والتى على الرغم من خصوصيتها يشارك فيها كل سكان الواحة. وموسم الحصاد من المواسم الكبيرة التى يحرص كل أهل الواحة على المشاركة فيه، حتى أولئك الناس الذين غادروا الواحة، وذهبوا إلى مناطق نائية للعمل فى الجيش أو الشرطة مثلاً، لا بد أن يعودوا إلى حرث أرضهم وحصدها، والاستفادة من محصولها فى تحقيق الأمن الغذائى الذى يسعى إليه كل الناس، وقد يفيض إنتاج عام من الأعوام، فيأخذ طريقه إلى السوق، ويجلب لأصحابه دخلاً إضافياً، ويحقق لهم سعة فى الرزق.
وكان انتقالى مع أسرتى إلى البادية، خلال موسم الحصاد، فرصة للتعرف على مجتمع البادية، وأسلوب الحياة هناك، الذى يختلف عن أسلوب الحياة فى القرية، ففى القرية أو الواحة، لنا بيوت كبيرة ذات باحات واسعة، وفي كل بيت مرافق، لايكون البيت بيتاً بدونها، مثل المطبخ ودورات المياه، كما أن الماء، كان وفيراً فى البيوت، فمن لا يملك بئراً فى بيته، استأجر سيدة تجلب الماء من البئر القريب، الذى تمتلئ به البراميل الكبيرة، ويستهلكه أهل البيت دون اقتصاد أو خوف من نفاذه. بينما نجد أنفسنا عند الانتقال إلى البادية، نعيش فى خيم لا تعادل فى اتساعها حجم غرفة واحدة من غرف البيت، دون منافع أو مرافق، مما لا نتصور أن الحياة يمكن أن تعاش بدونها، مع الشح الشديد فى المياه التى يتعب الأهل فى جلبها من بئر بعيدة، وعلى الرغم من ذلك كله، نجد أنفسنا قد تكيفنا مع الحياة الجديدة، وكنت شخصياً، أعتبر أيام الرحيل إلى البادية من أسعد الأيام فى حياتى، لأنها كانت تعنى لى شيئاً ثميناً هو الحرية.
الرجل الذى جسد أمامى قيم البادية وشيم أهلها، هو ذلك البدوى الذى استعان به والدى فى مواسم الحصاد.
فقد كنت فى الحقل مع والدى، عندما رفع رأسه، ثم أخذ المنظار المكبر الذى لا يفارقه عند انتقاله إلى الريف، وقال بفرح:
- ها هو إبراهيم قد وصل.
اتجهت ببصرى إلى حيث اتجه، فرأيت على مرمى البصر، شبح رجل ترتفع به الأرض وتنخفض، يحثّ الخطى نحونا، وما أن اقترب، واتضحت ملامحه، حتى وجدت أن صورته تماثل تماماً الصورة التى رسمتها له فى خيالى، من خلال ما قاله والدى عنه. فقد رأيت رجلاً طويل القامة، عريض المنكبين، فى أوج القوة والشباب، له ملامح كأنها مرسومة بالحبر الداكن على رقعة من حجر الصوان البنى الفاتح. جاء يرتدى ملابسه العربية النظيفة، وعباءة صيفية خفيفة وما إن جاء وقت الحصاد، حتى أمسك بالمنجل، بيد قوية كبيرة وأصابع غليظة، فإذا بأكوام السنابل تتهاوى عن يمينه وشماله، كان يتقدم على كل من يشارك فى الحصاد، ويقودهم أحياناً فى الغناء بصوت جهورى.
- يا زرع أرحل
جاك المنجل
وكانت متعته فى أوقات الراحة أن يذهب بين الشعاب يبحث عن الأفاعي، مستخدماً عصا متشعبة الرأس، يمسك بها الأفعى عند منطقة الرأس، ثم يقبض عليها بيده بحيث لا يعطى فرصة للأفعى لكى تحرك رأسها، وياخذ سكينته يجز بها ذلك الرأس، ويصنع لنفسه فى المساء وجبة مطبوخة او مشوية من لحم الأفاعى.
كان إبراهيم أول وآخر إنسان أراه فى حياتى يأكل الأفاعى، وينصح الآخرين بأكلها، لطعمها الشهى أولاً، ولما لهذا اللحم من فوائد فى تقوية مناعة الجسم ووقايته من الأمراض كما يقول.
وعلى الرغم من أن حقل الشعير الذى يخصنا لم يكن أصغر الحقول فى ذلك الوادى الكبير المليء بالزرع، إلا أنه كان أول حقل ينجز عملية الحصاد، والسبب الذى يعرفه كل الناس، هو وجود هذا الرجل الخارق، الذى لا يوجد فى قاموسه عمل من أعمال البادية عصى على الإنجاز، فالأرض الوعرة التى يتهرب الناس من حصدها، تستهوى منجله أكثر من الأرض السهلة المنبسطة، وعندما شرد أحد الجمال، وكان من ممتلكات سيدة طاعنة فى السن من أهلنا، وتعاون أهل النجع جميعاً للبحث عنه فلم يجدوه، كان الأمل الوحيد لتلك العمة، هو أن يتصدى إبراهيم للمهمة، بعد أن فشل الآخرون وفعلاً غاب إبراهيم نهاراً كاملاً، ومع نهاية النهار جاء راكباً الجمل، لتستقبله نساء النجع بالزغاريد، وعندما جاء موعد الدرس وتذرية البيادر، وتنقيتها وتعبئة الشعير فى الغرائر، كان إبراهيم قد تحول إلى آلة بشرية، تقوم بكل هذه المهمات فى سرعة قياسية. وكان مع كل هذه القوة، وشدة البأس التى يمارس بها أعمال الرجال، صاحب فكاهة ودعاية، ومهما كان الموقف صعباً، شديد التوتر والعصبية، كانت تلك الابتسامة العريضة، التى تسفر عن أسنان ناصعة البياض، والتى تغطى كامل الوجه، كفيلة بحل أى مشكلة. وكان يحب صحبة الصغار، الذين يتجمعون حوله عندما يبدأ فى إعداد عشائه، من لحم الأفاعى، يتحرقون شوقاً وفضولاً لمعرفة ما سيحدث له بعد ذلك، ويندهشون لأنه ظل كما هو بعد أن تناول وجبته، وكثيراً ما رأيته يتبسط معنا، ويحكى لى ولأطفال أكبر مني، ويقدرون على استيعاب كلامه، طرفاً من رحلاته ومغامراته. رأيت إبراهيم وعرفته وأحببت شخصيته النادرة المثال، المليئة بشهامة الرجال، خلال ثلاثة مواسم للحصاد أو اربعة، ثم انقطعت صلتى بعالم البادية. تفرغت بضعة أعوام للدراسة فى البلدة، ثم انتقلت وأنا فى الرابعة عشرة من عمرى إلى المدينة، لأقيم فيها إقامة دائمة، وظلت صورة إبراهيم عامل الحصاد وصديق والدى تملأ وجدانى، وتحضرنى بكامل ملامحها، كلما تذكرت تلك الأيام.
مرت أعوام كثيرة، انتقلت فيها من القرية إلى المدينة، ومن الطفولة إلى الرجولة، وعالم المدرسة، إلى طواحين العمل والوظيفة، ومن براحات القرية وبراري الربيع وحقول الشعير إلى صناديق المدن المتمثلة فى الشقة والبيت والسيارة. وحدث بعد ثلاثة عشر عاماً من وجودى فى المدينة، أن أخذت سيارتى لإصلاحها فى مقر الشركة التى تبيع ذلك النوع من السيارات. وهو مقر كبير، له بوابة وحارس وحاجز حديدى. أوقفت السيارة عند البوابة، أنتظر أن يخرج الحارس من غرفته، ليرفع الحاجز، وعندما خرج، رأيت رجلاً تهيأ لى أنني أعرفه. أثار الأمر فضولى، فأوقفت السيارة بعد أن تجاوزت الحاجز والبوابة ورجعت لأرى الحارس. وكانت المفاجأة أن هذا الرجل، الذى ظهرت على وجهه علامات الشيخوخة المبكرة، وأحنت السنوات قامته المديدة. لم يكن غير إبراهيم عامل الحصاد.
المراوحة بين البادية والمدينة
لم أكن لاصدق أن ذلك الرجل القوى، الذى يصارع الريح، ويهزم المفازات الصحراوية الشاسعة، ويجسد روح الصحراء فى نضارتها وعنفوانها، هو هذا الحارس الذى تلون وجهه بصفرة الهزال، ولكن الواقع المؤسف يقول إنه هو إبراهيم عامل الحصاد، وصديق والدي ورفيقه في رحلات البادية. ذكرته بنفسى فأخذنى بالأحضان، وترقرقت عيناه بالدموع وهو يذكر تلك الأيام، وكانت الذكرى السنوية الأولى لوفاة والدى قد حلت منذ أيام فمضى يتأسف ويعبر عن حزنه لرحيل صاحبه، ويروى طرفا من ذكرياته معه، ويسألنى فى نهاية اللقاء أن كان والدى قد ترك لى شيئا من حكمته استعين به على مغالبة ظروف ومشاكل الحياة.
وكانت كل جوارحى تصرخ به، لماذا تركت بيئتك الطبيعية، وبيتك الذى لا حد له إلا الأفق، ولا سقف له إلا السماء، وجئت للعمل فى المدنية حارسا على باب جاراج ملئ برائحة المازوت وعوادم السيارات؟ لماذا تركت فضاءات الكرامة والحرية، وجئت إلى مدينة لا تعرف قيمتك ولا تملك براحا يتسع لمهاراتك. إذ لا وجود فى المدينة لوعول تطاردها ببندقية صيدك، ولا حقول شعير وحنطة جديرة يساعدك ومنجلك، ولا بيادر للسنابل تنتظر مدراتك، ترفعها فى وجه الريح، فتغدو شعيرا بلون الفضة، أو حنطة تلمح كالذهب. ليس فى المدينة ليل يتسع لأغانيك الشجية ولا نجوم تنصت لذاك الغناء وهوام وسوائم وأنعام تتحاور معها، وتتخير من بينها ما يصلح لغذائك سواء كان وعلا أو أفعى.
ولكن إبراهيم لم يكن يملك الجواب، فالجواب يكمن فى مرحلة من مراحل التحول الخطيرة التى لها جوانبها الإيجابية الكثيرة، ولها جوانبها السلبية التى كان إبراهيم واحدا من ضحاياها.
مازلت كلما تذكرت إبراهيم واقفا فى تلك البوابة، ملأت قلبى غصة لا علاج لها، وشعرت بالأسى له ولرجال مثله، ولدوا وتربوا وتآلفوا وتكيفوا مع تلك البيئة البدوية، وتطورت مهاراتهم وفق متطلبات واحتياجات الحياة هناك، وكان للمتفوقين منهم مثل إبراهيم، شرف أن يكونوا دائما فى مقدمه الصفوف، ينجزون الوعد، ويغيثون من يستنجد بهم، ويسدون خدماتهم التطوعية للمجتمع البدوى الذى ينتمون إليه، ويؤدون الأعمال الخارقة التى لا يقدر عليها إلا الأشداء من رجال البادية، مثل الدخول فى صحراء التية بحثا عن جمل ضائع، حصد حقول الشعير والحنطة فى أشد أيام القيظ، وتسلق أكثر الشعاب وعورة لاقتلاع نبات الحلفاء، وإذا عز الطعام أخذ بندقيته وذهب يطارد الوعول والغزلان والأبقار الوحشية ليجلب لأهله الغذاء، وعندما يريد أن يضع لنفسه وجبة استثنائية ذهب يطارد الثعابين ليشوى لحمها فى مواقد الحطب، وهو فوق ذلك كله يحتطب ويرعى ويمنع الذئب من الوصول الى أغنامه ويذهب إلى الآبار والأودية ليسقي غنمه أو إبله، ويقضى حياته فى حالة تفاعل خصب مجيد كريم مع بيئته ومجتمعه.
التحول الذى حدث بعد ذلك كان تحولا خطيرا، فجائيا، دراميا بكل معنى الكلمة، داهم الناس كما تفعل السيول والفيضانات التى تأتى فى غير مواسمها.
بدأ فى ليبيا استكشاف النفط، ثم استخراجه وتسويقه وتصديره، وبدأت الحياة مع مطلع الستينيات تأخذ منعطفا جديدا، فالبيئة البدوية، التى كانت مصدرا من مصادر المعيشة لعدد كبير من الناس، بدأت تشهد تحولا عنها، ونزوحا لأهلها الذين وجدوا، بعيدا عنها، عملا أكثر يسيرا ودخلا افضل وأكثر جدوى، فقد كانوا فى الصحراء، ورغم الكفاح والجلد والعناء، يعيشون عيشة الكفاف، فما أن جاءت فرصة الانعتاق من قسوة تلك البيئه حتى هرعوا للعمل فى شركات النفط، أو فى سوق الخدمات، الذى نشأ بفضل هذه الشركات، وصار ينمو ويتسع ويستقطب كل يوم المزيد من العمال والأجراء.
ولا أدرى ما هى الظروف التى اقتلعت نبته صحراوية مثل إبراهيم من مناخها وبيئتها وتربتها، وجاءت تحاول إعادة غرسها فى أرصفة المدينة بكل ما يرافق ذلك من نتائج مؤسفة حزينة. وهو بالضبط ما حدث فى حالة إبراهيم، فقد رأيته ذابلا، حزينا، تزحف الشيخوخة على ملامحه، رغم أنه فى أوج رجولته، واتصوره قاوم هذا النزوح الكبير من الصحراء إلى المدنية بضع سنوات، ثم وجد نفسه فى النهاية وحيدا بين كثبان الرمال، وقد خلت تلك الشعاب والاودية من الصخب الذى يصنعة الناس بنجوعهم وأغنامهم وكلابهم واهازبجهم وأغانيهم، ووجد نفسه مرغما على أن يرحل وراء أخوته وأبناء قبيلته الذى سبقوه للعمل والإقامة فى المراكز الحضرية فلم يجد فى المدينة عملا يتفق مع مؤهلاته غير الجلوس طوال النهار بإحدى البوابات، تحاصره الحيطان العالية وأبراج الأسمنت، بعد أن كان جواب آفاق، يتحرك مع حركة الليل والنهار، يدرع المفازات الصحراوية شرقا وغربا، ويمضى متسلقا خيوط الشمس كما تفعل وعول الصحراء.
قد تكون الحياة فى المدينة أكثر رخاء ويسرا، وهى بالتأكيد أكثر نفعا وفائدة بالنسبة للنشء الجديد، الذين سيوفر لهم، هذا الاستقرار، فرص الانتظام فى الدراسة والتحصيل العلمي، ولكن حجم المعاناة النفسية سيكون كبيرا لمن تآلف مع البيئة الصحراوية، وتزداد المعاناة استفحالا عندما يكتشف هذا البدوى أنه غير قادر على التكيف والتأقلم مع معطيات الحياة الاجتماعية فى المدنية، وفي الوقت ذاته غير قادر على أحياء عاداته وتقاليد البدوية وسط هذه البيئة المغايرة بمعنى أنه عندما تخلى عن أفراح المجتمعات البدوية وأساليبها فى الاحتفال بالحياة والأهازيج والأشعار والأغانى والرقصات التى تتفق مع الحياة بين النجوع ووسط الحقول والاودية، لأنه لم يعد ممكنا ممارستها وسط الشوارع التى تكتظ بالسيارات وإشارات المرور ومتاجر الهامبورجر، كما لم يستطع في الوقت ذاته أن يتبنى الأساليب المدنية الحديثة فى الاحتفال بالحياة كالأندية والمنتجعات والملاهى وغيرها كحفلات أعياد الزواج والميلاد فبقي معلقا بين ثقافة قديمة لم يعد قادرا على ممارستها، وثقافة جديدة غريبة لم يستطع أن يتآلف معها، أو يجد نفسه فيها. وانعكس هذا أيضا على حياة المدن نفسها، التى تعرضت لزحف أهل الريف والبادية، فتلونت أجواؤها بلون أزمة هؤلاء الوافدين الجدد، الذين ذرّوا فوقها رملا كثيرا كان عالقا بأقدامهم، وأصابوها بعدوى الخوف من الجديد، مع استحالة الرجوع إلى الماضى، فصارت مدنا لا تملك من هذه الصفة إلا الشكل فقط، أما الروح فهى بدوية ريفية، تنتمى إلى مجتمعات الرعى والصيد وهى لا تملك صيدا ولا مراعيا.
ألف عام من العزلة
كان أول سؤال أطرحه على نفسي، عندما صرت أعي ما حولي، وأسافر خارج قريتي، نحو مناطق الحضارة والعمران، وأشاهد الفرق بينهما وبين البيئة الصحراوية القاحلة، التي تحيط بقريتي، هو لماذا ترك الجد الذي جاء إلى هذه المنطقة الشعثاء الغبراء العارية الا من الرمل والحصى، كل المناطق الخصبة الأخرى، واختار هذه البقعة النائية عن الساحل، الموغلة في الصحراء، التي تحاصرها الأرض الجرداء، والجبال الصخرية العارية من الأشجار، مكاناً لسكناه؟
وهو سؤال لم أعرف إجابته إلا بعد مرور سنوات كثيرة، تأتّى لي خلالها أن أقرأ التاريخ، وأعرف نزرا يسيرا، عن الظروف التي ساقت المؤسسين الأوائل لقرية مزدة، إلى هذه المناطق البعيدة عن الساحل، واللجوء إلي عمق الصحراء، للإقامة والاستقرار، مع أنهم لا ينتمون إلى البادية، ولا يعيشون حياة أهلها التي تعتمد على الرعي والترحال، فهي مسألة لم تأت اعتباطا، أو بسبب الصدفة العمياء، وإنما جاءت في سياق تاريخي، ولظروف شديدة القسوة، أرغمتهم على الهروب من مواطنهم القديمة، إلى هذا المكان الذي وفر لهم السلام والأمان.
وهؤلاء الناس الذين استوطنوا مزدة، اسمهم قنطرار، وهي العشيرة التي جاءت منذ ما ستة قرون، وأنشأت في هذا المكان مركزاً علمياً لأهل الصحراء، حيث يأتي الناس لتعلم القرآن، مما جعلهم يطلقون على هذا المركز اسما بربرياً يدل على الجامع والمدرسة القرآنية، هو مزدة، ويجعلون منها حلقة وصل بين أهل البادية وأهل الحضر، ومركزاً للتبادل التجاري، علاوة على قيامهم ببعض الأعمال الزراعية الموسمية، التي تتيحها الظروف البيئية، وطبيعة المناخ، ونسبة هطول الأمطار، وهي نادرة شحيحة، ومزدة هي الرحلة الثالثة، أو الرابعة، في تاريخ هذه العشيرة التي عانت طويلاً من الاضطهاد، وتنقلت بين ليبيا وتونس والجزائر، وبسبب ما تضمه هذه العشيرة من علماء، فقد أصبحت بسرعة هي العاصمة الإباضية لمنطقة الجريد، في الهجرة الاولي من جبل نفوسة، الى بلاد الجريد، وهي المنطقة التي تضم أغلب الجنوب التونسي حالياً، كما يقول الكتاب الذي أفرد فصولا عن تاريخ قنطرار والذي كتبه المؤرخ التونسي الدكتور صالح باجيه، تحت عنوان الإباضية بالجريد، الصادر عام 1973م، عن دار أبو سلامة في تونس.
ويورد الكتاب اقتباساً من كتاب أخر للزعيم والمجاهد الليبي سليمان الباروني، يقول فيه بأن قنطرارة التي كانت في جبل نفوسه، كانت ذات عمارة واسعة، وثمار متنوعة، وعيون جارية في ذلك العهد، وإن لم يبق منها الآن إلا شيء قليل من النخيل، والحقيقة أن أطلال تلك القرية مازالت قائمة حتى الآن، قريبا من عين ماء شهيرة تتبع لها، هي تيجي، التي أصبحت قرية استوطنتها إحدى القبائل البدوية الشهيرة في ليبيا، وهي قبيلة الصيعان، كما يورد كتاب الدكتور باجية اقتباسا من ابن خلدون في كتابه تاريخ البربر، بأنه كان يوجد من نفوسه عدد هام يقطنون بلدة قنطرارة، التي تاسست في نفطة، وقد لعبت هذه القبيلة دوراً أساسيا وحربياً في الجنوب الشرقي في العصور الإسلامية الأولى(ص15) وينقل المؤلف عن كتاب كشف الغمة ومصادر أخرى، الكارثة التي وقعت لأهل قنطرارة باعتبارها مركزا للدعوة الإباضية وعاصمة لجبل نفوسه عندما قام إبراهيم بن الأغلب (وهو غير إبراهيم المؤسس لدولة الأغالبة وانما ابراهيم المجنون كما كان يسمى) بعد الإنتهاء من معاركه فهجم عليهم بغتة عند طلوع الفجر ليعمل فيهم قتلاً ويختار من علمائهم وفقهائهم ثمانين عالماً فشد وثاقهم ثم أمر ابراهيم المجنون بقتلهم، وهكذا كانت قنطرارة كما يقول هدفاً لابن الأغلب الذي حاصرها وقضي عليها، وتقول مصادر اخرى ان عدد العلماء الذين قضوا في تلك المواجهات وصل الى اربعمائة عالم من اهل قنطرارة .
وسرعان ما ازدهرت قنطرارة الجديدة في منطقة الجريد، لتصبح كما يقول الكتاب عاصمة للمنطقة، ومركزا للدعوة الإباضية، وتخريج العلماء، ويقول أيضاً كثر فيها المشايخ والطلبة، وازدهرت فيها حركة العلم، وبقيت مقصد علماء الإباضية الى أواسط القرن الخامس الهجري، وكان كبار العلماء كما يقول المؤلف يقصدون مسجد قنطرارة لأخذ العلم، واشتهر بعض الأئمة من هذه العشيرة بالتجديد في المذهب الإباضي، كما يقول المؤلف وعلى رأسهم نفاث بن نصر القنطرارى، ومرت بالمنطقة مرحلة عامرة بالقلاقل والفتن أدت في منتصف القرن الخامس، إلى أن ينزح أهل قنطرارة النزوح الثاني، عائدين إلى مواطنهم الأصلي دون أن يستطيعوا هذه المرة الاستقرار في مكان معين، فقد كانت تلاحقهم السلطات التي تخشى على نفسها من منازعتهم الحكم، ولم يجدوا بداً في نهاية المطاف من اللجوء إلى الصحراء، هرباً بمن تبقي من عوائلهم وأطفالهم، فابتنوا لأنفسهم هذه القرية التي تحاصرها الجبال، وجعلوا بيوتهم أشبه بالحصون والأبراج، ومنحوها اسما كذلك الذى منحوه لمواطنهم السابقة فى جبل نفوسه وفى مناطق الجريد، وهو قنطرا ر الفوقية وقنطرا ر الواطئة، وهجروا المذهب الأباضى إلى المذهب المالكى، إلا أنهم ظلوا أهل علم وفقه يعلمون أهل البادية علوم القرآن، مما جعل الناس يطلقون على قريتهم اسما يتصل بهذه المهنة، كما اشتغلوا بالتجارة مع أهل البادية ومناطق الجنوب الليبى، وأسهموا إسهاما كبيرا فى معارك الجهاد ورد الغزوات عن عمق الوطن الليبى .
وهكذا تهيأ لى بعد سنوات من الحيرة، ان أعرف جزءا من تاريخ أجدادى، ولماذا لجأوا إلى هذه البقعة النائية فى عمق الصحراء الكبرى .
القرية والقبيلة ومجتمع البادية:
تشتهر المجتمعات الصحراوية بأن تكوينها الاجتماعى يعتمد على القبيلة، فالقبيلة فى مثل هذه البيئة التى يتراجع فيها دور الدولة وسلطانها، تصبح هى الدولة، وهى البديل لمؤسساتها التى تفرض الامن والنظام والقانون .
الا ان للقبيلة أمنها ونظامها وقانونها وتشريعاتها التى تسميها تقاليد وعادات، والتى لا تتفق دائما مع انظمة وقوانين الدولة، ولهذا كان الصدام بين الدولة والقبيلة فى عصور قديمة امرا لا مفر منه، خاصة وان هذه الدولة، كانت فى اغلب المراحل التاريخية السالفة، دولة غازية، جاءت من وراء البحار لتمارس اسلوبا جائرا فى الحكم، وهى وان اتفقت احيانا فى الدين الذى تنتمى اليه هذه القبائل، كما كان حال الدولة العثمانية، الا انها تختلف فى كل شيئ اخر، لأنها جاءت من بلد بعيد، وثقافة مغايرة، وقومية اخرى غير تلك التى ينتمى اليها اهل البلاد .
وقبائل الصحراء قد تتحالف مع بعضها البعض عندما تجد نفسها فى مواجهة خطر يداهمها، كما يحدث عند مجيء قوة أجنبية، لفرض هيمنتها وبسط سلطانها على هذه القبائل، الا انها تعيش فى نزاع دائم فيما بينها .
ليست فقط نتيجة الصراع على الأودية فى مواسم الحرث، أو بسبب الآبار ومنابع الماء، أو للاستيلاء على مناطق الرعى، وإنما لوجه الغزو والسطو كما تفعل العصابات، ويكفى ان تجد احدى القبائل نفسها اكثر قوة وعتادا، ورجالا من قبيلة اخرى، لتقوم بالهجوم عليها والاستيلاء على اموالها ومواشيها .
ورغم وجود القبائل البدوية من حولنا فى بلدة مزدة، المحاطة بالصحراء من كل جانب، الا ان البلدة لم تكن ذات طبيعة قبلية، ولا يشكل هذا الاسم دلالة او معنى قبليا، انما هو انتساب لقرية " قنطرارة " بجبل نفوسة . التى جاء منها اهل مزدة، ونتيجة لمئات الاعوام من العزلة، تصاهر هؤلاء القوم، واندمج بعضهم ببعض، حتى اصبحوا عائلة كبيرة واحدة، وعاشوا على التجارة، مستقرين فى قريتهم، يحمون انفسهم من هجمات القبائل البدوية، بأبراج كبيرة طويلة، يستخدمونها فى اطلاق الرصاص على مهاجميهم، ولهم تاريخ فى صناعة البارود، وتجهيز البنادق، وبيعها فى السوق، مما جعل لهم هيبة بين القبائل التى صارت تتفادى الهجوم عليهم .
اذن فالقبيلة لم تكن النظام الاجتماعى السائد فى المناطق الحضرية، مثل مزدة، بل ان بعض ابناء القبائل الصحراوية الذين اقاموا واستقروا فى البلدة، تحولوا الى جزء من نسيجها الاجتماعى، وانسلخوا عن قبائلهم، وأنتموا الى أهل البلدة، وهذا ما أنتج حالات من المصاهرة، بين هؤلاء الناس وبين أهل البلدة الاصليين، كما هو الحال فى اسرتى، عندما تزوج والدى من عائلة تنتمى الى الزنتان، وصار هؤلاء الزنتان أهلا وأخوالا . ورغم نشوب نزاعات قبلية فى المناطق الصحراوية، الا ان ظاهرة الغزو التى كانت سائدة لأحقاب طويلة، وهجوم قبيلة على الاخرى، كانت قد انتهت تماما، وأصبحت جزءا من الماضى، فقد نشأت تحالفات بين القبائل لمواجهة الغزو الايطالى، ثم جاءت الدولة الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية، وانهيار دولة الاستعمار الايطالى، لتجد وضعا قبليا مختلفا، لا يعاديها، وانما يتصالح معها ويبدى استعداده للدخول تحت سلطتها .
وتضاءل مفهوم القبيلة فى مختلف مناطق الحياة، فلم نره يظهر الا فى موسم الانتخابات النيابية، ولفترة وجيزة جدا، تسود فيها العصبيات وتعلو لغة الانفعال والعاطفة، واقترن المفهوم القبلى فى ذهنى بالصحراء، لاننى رأيته يختفى تماما من المدن، سواء الداخلية التى سافرت اليها في طفولتى، مثل منطقة " غريان "، او العاصمة ذاتها التى سافرت اليها بعد ذلك للدراسة والإقامة، حيث لم اجد اثرا لهذا العامل القبلى، فى التعامل والعلاقات .
وخلال حياتى فى القرية كانت العلاقة بين اهلها، وبين القبائل البدوية، علاقة مستقرة، ثابتة، واضحة، امنة، لا تشوبها اية شائبة، فأهل البادية يأتون الى البلدة، لبيع مواشيهم وأصوافهم، وشراء احتياجاتهم من غذاء وكساء، وأهل البلدة يفتحون دكاكينهم لتقديم هذه الخدمة لهم، والعمل كحلقة وصل بين هؤلاء الناس وبين العاصمة .
ثم يعود هؤلاء البدو، بعد زيارة البلدة، الى نجوعهم فى هدوء وسلام .
بدأت هذه العلاقة التى استقرت على هذا الحال، لمئات الاعوام، تهتز ويصيبها شيء من القلق والتوتر، وكان ذلك فى أعقاب اكتشاف النفط، وما نتج عنه من انتعاش للدورة الاقتصادية، وارتفاع لمستوى المعيشة، مما جعل اهل البادية يطمحون الى الاستقرار كبديل لحياة التنقل والترحال، ويرغبون فى العثور على مناطق يستوطنونها، ويقيمون بها، ليتيحوا لأنفسهم فرصة تعليم اولادهم، والاستفادة مما تقدمه الدولة من خدمات فى العلاج والإسكان والتشغيل والتعليم وغيرها، واستقطبت بلدة مزدة، باعتبارها اكبر مركز حضرى فى تلك المناطق الصحراوية، عددا كبيرا من هذه العائلات البدوية، التى جاءت تحيط البلدة بحزام من الاكواخ والعشش، وتضغط على الحكومة من اجل ان تبنى لها المساكن الحديثة لإيوائها .
وكان صعبا على بعض أهل البلدة، ورجالها الكبار فى السن، الذين تعودوا على حياة الاستقلال ببلدتهم، وإدارة شئونها بأنفسهم، ان يرضوا بمثل هذا الزحف البدوى عليهم، وحاولوا مقاومة المخططات التى تسعى لتوطين البدو، ولكن دون جدوى، فقد بدأت هذه المخططات تأخذ طرقها الى التنفيذ، وبدأ هؤلاء الوافدون الجدد الى البلدة يصبحون هم الاغلبية فيها، وأتاحت لهم التشريعات الحديثة التى تقضى بأن يتم تعيين رجال السلطة المحلية، بالانتخاب او الاختيار الشعبى، فرصة تعيين عناصر من بينهم لاحتلال هذه المواقع، مما زاد من ضيق وكدر اهل البلدة الاصليين .
إلا ان حياة الاستيطان والاستقرار، سوف تفعل فعلها فى تحطيم وإزالة الحواجز القبلية، وسيصبح الوافدون الجدد، جزءا من النسيج الاجتماعى لبلدة مزدة، بحيث تضيع الخطوط الفاصلة بينهم وبين أهلها القدامى، ليتم اختيار الناس لمواقع المسؤولية، بسبب مؤهلاتهم وكفاءتهم، لا بسبب انتمائهم لهذه القبيلة او تلك، فمسيرة التطور كفيلة بإذابة هذا الكيان الاجتماعى الذى ارتبط بالبيئة البدوية والرعوية، والذى نسميه القبيلة .
المدارس والمدرسون بعد الحرب
خرجت ليبيا من الحرب العالمية الثانية وقد تحررت من كابوس الاستعمار الايطالى، الا انها خرجت مثخنة الجسم بالجراح، نتيجة للمعارك الطويلة والكثيرة التى دارت فوق أرضها، والتى كان وقودها وجنودها أعداد هائلة من ابنائها ممن حاربوا مع الجيشين، مع المحور والحلفاء على السواء، ففى حين انخرط المجاهدون فى الجيش الليبى المتحالف مع الانجليز، كان هناك جيش أخر جنده المستعمرون الايطاليون بالقوة من ابناء الوطن ليحاربوا به جيوش الحلفاء، وكان كلما وقع مجند ليبى مع الطليان أسيرا فى أيدى الانجليز، يضمونه الى جيشهم، أى الى الفرقة الليبية التى تحارب معهم، ليستأنف هذا الاسير القتال فى الصف المعادى للايطاليين، ولم تكن مثل هذه الدراما الناتجة عن الحرب، والتى تجعل المواطن الليبى يرى أهوال الحرب مرتين، مرة وهو يحارب مع جيش المحور، ومرة وهو ينتقل ليحارب مع جيش الحلفاء، الا واحدة من عشرات المفارقات الغريبة الاليمة، والفصول الدامية التى تجرع ويلاتها هذا الشعب.
ورغم ضآلة عدد المداس الاولية التى تستوعب الليبيين، فقد توقفت هذه المدارس بما فى ذلك المدرسة الاسلامية العليا التى تأسست عام 1936، وتوقفت عام 1939 بسبب الحرب. (وهى المدرسة العربية الوحيدة فى ليبيا التى تقدم لأبناء البلد تعليما يتجاوز المرحلة الابتدائية) .
ثم انتهت الحرب وحسمت لصالح الحلفاء، وأصبحت ليبيا محمية بريطانية، وجاء عام 1945 أى عام انتهاء الحرب دون ان تكون فى البلاد مدرسة ولا مدرسون .
ولم يكن امام العناصر الليبية فى الادارة العاملة تحت سلطة الانتداب البريطانى، الا اللجوء الى الشباب العصاميين من أهل البلاد، ممن ثقفوا أنفسهم تثقيفا ذاتيا، للاستعانة بهم فى الخطة التعليمية التى استهدفت انشاء مدرسة ابتدائية فى كل منطقة أو حي من المناطق والأحياء المأهولة بالسكان .
فتم انشاء دورات سريعة، بعضها لمدة عام واحد يلتحق بها من نال تحصيلا علميا اوليا فى الكتاب او بعض المدارس الايطالية الابتدائية، ممن وصلوا سن الشباب شرط اجتياز اختبار القبول ليتم تأهيله خلال هذا العام كمدرس بهذه المدارس .
وكانت قد مضت بضع سنوات على تأسيس المدرسة الابتدائية عندما التحقت بها فى اواخر الاربعينيات، لأجد أن أغلب المعلمين جاءوا من العاصمة، بعضهم يرتدى البذلة الافرنجية، التى لم تكن مألوفة لدى أهل القرية فى ذلك الوقت، والبعض يرتدى الملابس الوطنية، وبينهم مدرس واحد من أهل المناطق البدوية، وكنت استغرب كيف استطاع مثل هذا البدوى القادم من صحراء لا مدارس فيها ان يكون معلما، وعرفت انه ابن أحد شيوخ القبائل ممن توفرت له فرص الاقامة والدراسة والذهاب الى طرابلس لاجتياز دورة المدرسين، مثله مثل معلم اخر من ابناء البلدة، التحق بالمدرسة في أثناء إعادتى للصف الاول الابتدائى، الذى اعدته بسبب ذهابى مع اسرتى فى رحلة الربيع قبل انتهاء العام الدراسى، فجاء هذا المدرس ليتولى التدريس خلال ذلك العام الذى اجتزت فيه عقبة العام الاول .
وكان هذا المدرس، يرحمه الله، هو ابن شيخ مجاهدى الجنوب الليبى، ومنطقة القبلة، السيد " احمد السنى "، واسمه " محمد "، قد نال تعليما دينيا فى زاوية " مزدة " ثم ذهب الى تلك الدورة وتخرج منها حاصلا على اجازة التدريس، وكان جارى فى المقعد شقيق أصغر لهذا الاستاذ هو "السنوسى أحمد السنى "، الذى أصبح جراحا وأستاذا لأمراض القلب.
اما مدير المدرسة، فقد كان رجلا متقدما فى السن، هو الشيخ " الصديق الدردارى "، صاحب ثقافة دينية واسعة، جعلته وهو الغريب عن البلدة، يحظى بمكانة عالية بين أهل البلدة وشيوخها، فهو معهم فى صلاة الجماعة بالمسجد، وهو زميل لهم فى الجلسات المسائية التى تعقد أمام الدكاكين، وهو ضيف فى بيوتهم، يستشيرونه فى بعض المسائل الدينية، وفوق هذا وذاك فهو المربى والأستاذ والمسؤول الاول على تعليم وتنشئة اولادهم، وقد كان دائما انيقا فى بدلته العربية التى يرتدى طاقمها كاملا، بما فى ذلك بعض القطع التى يهمل الناس فى القرى ارتداءها لأنها موجودة لغرض الاناقة والزينة، ويختار دائما أجود هذه الاطقم وأغلاها ثمنا ليكون مثالا لمدير المدرسة الذى يفرض احترامه وهيبته على الجميع، ولم اره يرتدى البذلة الافرنجية الا مرتين او ثلاث مرات اثناء استقبال شخصيات كبيرة جاءت لزيارة البلدة وتفقد أحوالها، وكان يرتدى مع بذلته الافرنجية " الطربوش "، الذى كان عادة ما يرتديه الوزراء وكبار موظفى الدوله .
ولأن عدد الطلاب فى ذلك الوقت لم يكن كبيرا، فقد كان" الشيخ الصديق " يعرفنا واحدا واحدا، وينادينا بأسمائنا ويتصل بآبائنا ليخبرهم عن مستوى ما نحققه من تقدم فى أدائنا المدرسى، وإذا ما رأى طالبا نجيبا مهددا بأن يقطع دراسته بسبب ظرف عائلى، يذهب الى عائلته ليثنيها عن التضحية بمستقبل الولد .
وكان الشئ الوحيد الذى اغاظنى منه، هو أنه منعنى ان استعير غير كتاب واحد كل اسبوع من مكتبة المدرسة، خوف ان تلهينى القراءة الحرة عن قراءة كتب المنهج .
ورغم اننى نجحت فى التحايل على قراره هذا، واستطعت ان اقرأ ما شئت من الكتب، الا اننى لم افهم كيف يمكن لمثل هذه القراءة الحرة ان تعطل تلميذا فى السنة الثانية او الثالثة بالمدرسة الابتدائية عن قراءة كتب المنهج لأن لا منهج لديه، ولا غاية غير ان يجيدالقراءة والكتابة .
ثم أعود لأقيس الامر بمقاييس ذلك الزمان، حيث كانت الشهادة الابتدائية تمثل شيئا مهما، يكاد يوازى فى أهميته ( العملية على الاقل ) شهادة الجامعة هذه الايام .
وحيث كان الفاقد ممن يلتحقون بالتعليم عظيما، فقد رأى الرجل ان يمنع اى شيء يمكن ان يشكل تهديدا لالتزام التلميذ بالمنهج المقرر، وأداء الواجب المنزلى، مبالغة فى الحرص على ان يقطع أعوام الدراسة بامان وسلام ونجاح .
رحم الله الشيخ الصديق الذى كان بالنسبة لنا جميعا ابا ثانيا، ومربيا من طراز رفيع، وقبل اتمامى مرحلة الدراسة الابتدائية بنحو عام أو عام ونصف على ما اذكر، تقاعد الاستاذ الصديق وعاد الى مدينته " غريان"، ليخلفه استاذ من مدينته نفسها هو الاستاذ " محمد قشوط " الذى كان من جيل اكثر شبابا، وجاء الى إدارة المدرسة بعد ان قضى بضعة أعوام مدرسا اثر تخرجه من معهد المعلمين بطرابلس .
ورغم ان اهل البلدة الذين ارتبطوا بالأستاذ الصديق لسنوات طويلة، تأسفوا لغيابه، الا انهم سرعان ما انتبهوا الى مؤهلات الاستاذ قشوط، الذى اتبع اسلوبا حديثا فى الادارة، وجعل النشاط المدرسى جزءا من العملية التعليمية، ولابد اننى فى عهده حررت صحيفتى الحائطية "الامل " وقدمت لجمهور البلدة مسرحية " عاشق الذهب " وهى الانشطة التى قابلها الاستاذ قشوط بإعجاب واندهاش، لأنه رآها ذات مستوى أكبر من عمر تلميذ فى المرحلة الابتدائية، وصار يعاملنى معاملة خاصة، ويحيطنى برعايته وتشجيعه، ويثنى ثنائا كبيرا على انشطتى امام بقية المدرسين، مما جعلنى اندفع بقوة وحماس فى مثل هذه الانشطة، التى وجدت فيها تعبيرا عن هذه الميول الادبية والفنية التى اكتشفتها فى نفسى .
واذكر ان علاقة الود والصداقة التى ربطت بينى وبين هذا المربى الفاضل استمرت حتى بعد ان انتقلت من مدرسة البلدة الى طرابلس، وكان هو فخورا بأن يرانى اواصل مسيرتى التعليمية، وازداد فخرا بى وهو يسمع اسمى فى الاذاعة ويقرأه فى الصحف، بعد ان صرت اكتب وأنا لم اتجاوز العشرين من عمرى لهاتين الوسيلتين الاعلاميتين .
الفقراء الأغنياء
وأودية الذكريات
"يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف " هكذا يقول الله فى كتابة الكريم ولا أجد وصفا اكثر دقة من هذه الآية يصدق على الحالة التى كان عليها اهلنا وبيتنا فى بعض اعوام الضيق والمسغبة .
تلك الاعوام التى شحت فيها الموارد، وتراجع فيها المستوى المعيشى لكل الناس فى الريف الليبى تراجعا قويا بسبب الجفاف من جهة، وقسوة الظروف السياسية التى رافقت المراحل الاولى للاستقلال عندما اعتبرت هيئة الامم المتحدة ليبيا افقر دولة تحظى بعضوية الهيئة الأممية .
وبعد ان كان دكان والدى فى أعوام سابقه عامرا بكل أنواع السلع التى تفيض عن مساحة الدكان،فيبحث لها عن مخازن فى البيت، وبعد أن كان زبائن والدى من اهل البادية يأتون بإبلهم فيشترى الواحد منهم حمولة جمل من البضائع، أصبح الدكان خاويا الا من بعض المواد الاستهلاكية البسيطة كالشاى والسكر، واختفى زحام الزبائن والمشترين وان ظل عامرا بأصدقاء والدى، يستخدمونه كالنادى الذى يلتقون يتسامرون فيه .
ورغم شح الموارد وتراجعها الى درجة الصفر أحيانا، استطاع والدى ان يدير حياة أسرته دون أن يظهر عليه اى اثر لهذه الازمة الاقتصادية التى استفحلت وطال امدها، وأبقانا فى منجى من المذلة بان ضمن لنا حدا ادنى من العيش، وامن لنا غرفة علوية فى البيت عامرة بالشعير، تعطينا احساسا بالأمان، وتمنحنا اليقين بان الطعام مهما كان متواضعا، فهو موجود، ولو فى صورة رغيف من خبز الشعير الحاف، نتناوله ونمشى بعد ذلك فى شوارع القرية، موفورى الكرامة. والدى يفتح الدكان كعادته كل يوم، ويستقبل صحابه، يستمر معهم، ويتبادل معهم الدعابات، متأملا ان تذهب هذه الحالة العارضة، رغم انها استمرت اعواما، دون ان يشعر احد من اهل البلدة بما نحن فيه من ضائقة مالية الى درجة اننى سمعت اشاعة يرددها الناس، تقول بأن السر وراء هذه الحالة من الرخاء التى تعيش فيها اسرتنا، هو ان والدى عثر على كنز أخفاه فى بيته، وصار يصرف منه على اسرته وأسرة اخته الارملة، اذ ان هؤلاء الناس الذين اخترعوا شائعة الكنز، لم يجدوا تفسيرا لهذا الصمود فى ظل الازمة الاقتصادية التى اصابت كل اهل البلاد، وأقفلت الدكاكين، وجعلت الناس يبحثون عن طعامهم بين حشائش الارض وأوراق الشجر، وأرغمت بعض التجار على مزاولة أعمال يدوية كصناعة الفحم، أو البحث عن وظيفة غفير لدى الحكومة، الا بوجود سر فى حياة " ابراهيم الفقيه "، جعله لا يعبأ بهذه الازمة ولا يتأثر هو وأولاده بانعكاساتها التى الحقت الاذى بكل الناس، ونسوا ان هذا الكنز لم يكن غير القناعة والتعفف والصبر والأمل فى الغد، والثقة فى رحمة الله، مصدقا لقوله تعالى : " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " .
والحقيقة إنّ تجارة والدى لم تعد الى سابق ازدهارها أبدا. كل ما حدث، هو بعض الانفراجات البسيطة التى تأتى غالبا بسبب هطول الامطار التى ينتج عنها حرث الاودية المجاورة للقرية، أو غرس بعض الغلال الموسمية . فى هذه الاودية كالبطيخ والشمام، أو الخروج اليها فى فصل الربيع .
وقد وردت أسماء هذه الاودية فى شعر شعبى لكل من عمتى" رقية " وعمتى " قويتة " مثل وادى غنى، وأم الضفا، وشعاب جابر، والمقراز، ووسيعة، وهذه الابيات التى سجلتها هى جزء من شعر كثير ضاع أغلبه، وظل قليل تردده نساء العائلة .
تقول عمتى رقيه فى وصف احدى رحلات الربيع :
منزل " غنى " و" ام الضفا " ما أبهاهم
ياريتنا ديمة الربيع قداهم
منزل" غنى" بالغــــــنية
"وأم الضفا " تضفى عليك الدنــيا
وتشهى منازلهم بسمح أسماهــــم
وترد عليها أختها ياقوتة، أو قويته، كما كانوا ينادونها، ببعض الابيات التى تصف مناطق اخرى وتتكرر فيها كلمة " رأيت " وهى تنطق بالعامية الليبية " ريت " إذ تقول :
ريته غدير يرقــــــص
وريته عشب نوار كيف أيفقس
فى " شعاب جابر" ريت خير مكدس
شهى خاطرى ديمة على تتبيـعة
ريت فى الربيع وريت فى التربيعه
وريت خير فى " المقراز " وأرض وسيعة
وهى أودية لا تعنى شيئا مهما لأبناء الجيل الجديد، إلا أنها بالنسبة لى ولأبناء جيلى من أهل القرية، ستظل موطنا للذكريات الجميلة، يشدنا اليها الشوق والحنين على الدوام .
قبر بين الهضاب
على الرغم من انني لم اكن اتحمل اية اعباء وانا ارحل مع اهلي الى البادية، بكل ما يقتضيه هذا الرحيل والاقامة في البراري، من مشقة وعناء، سواء في أعمال الحصاد أو الحرث او الرعي او جلب الماء او جمع الحطب او غيرها من المهام ومستلزمات الحياة خارج القرية وداخل الخيام والنجوع، بسبب صغر سني،الا انني كنت اشارك فيما يشارك فيه اترابي الصغار من اعمال اقرب الى للعب، مثل رعي الجديان بجوار النجع، او مرافقة احدى نساء العائلة في اثناء ذهابها لجلب الماء، او جمع الحطب، فانني لا استطيع ان اذكر سوى مهام قليلة كلفت القيام بها، وسببت لي ضيقا وكدرا كبيرين . اولهما حدثت في موسم من مواسم جني البطيخ، فقد جرت العادة ان يتم غرس البطيخ في اودية قريبة من القرية، لا تبعد عنها اكثر من مسافة اربع او خمس ساعات سيرا على الاقدام، وقد استقر الرأي ذات يوم ان اقوم انا بمرافقة الجمل الذي سيضعون فوقه حمولة البطيخ، لنقلها الى دكان والدي في البلدة، ولم تكن هذه هي المشكلة، فالطريق واضح من الوادي الى البلدة، لا لبس فيه ولا ابهام، يمضي في خط مستقيم، من حقل البطيخ الى موقع الدكان، وقد قطعته مع بعض افراد اسرتي عشرات المرات، بالاضافة الى ان الجمل خبير بالطريق، يستطيع ان يقوم بالمهمة بمفرده لولا الخوف من ان يجد قطعة ارض معشوشبة، تغريه بالاكل فيقضي النهار كله بها، على الرغم من حمولة البطيخ التي تجب ان تصل البلدة في اسرع وقت ممكن، ولذلك فان الامر يحتاج الى شخص مهما كان صغير السن، يرافق الجمل وحمولته في هذا المشوار القصير الى البلدة، وسنعرف مدى سهولة المهمة عندما ندرك ان هناك مكانا فوق شبكة البطيخ مهيئا لركوب هذا المرافق فوق ظهر الجمل، وما عليه الا ان يمسك الرسن ليحافظ على اتجاه الجمل ويحثه على السير حتى يصل سريعا الى محطة الوصول . كل ذلك لم يكن يثير اية مشكلة، او يسبب لي أي نوع من الضيق او الازعاج، بل اجده تكليفا يوحي بالثقة ويبعث على الزهو، لانني صرت عنصرا تعتمد عليه الاسرة في مثل هذه المهمام الموكولة دائما للكبار، المشكلة تكمن فقط في التوقيت، فلكي يصل البطيخ مبكرا الى السوق لابد ان ابدأ السفر قبل ساعتين او ثلاث ساعات من بزوغ النهار، أي في آخر الليل، حيث سأبقى هذه الساعات المتبقية على شروق الشمس، سائرا بجملي في البراري المقفرة، وسط ليل مظلم لا تضيئه الا النجوم، كنت استطيع، منذ ان بدأت الرحلة، ان أرى طريقي واضحا على ضوء الكواكب، وانا اجلس فوق ظهر الجمل، الذ ي مضى يمد عنقه الطويل، ويضرب باقدامه القوية الارض الصحراوية الصلبة، المغطاة بالحجارة والحصى، غير عابىء بثقل حمولته من البطيخ، المرصوص في جانبي الشبكة، تتدليان على جانبيه .
ومضيت ابدد وحشة الطريق ببعض الاغاني البدوية التي كنت اسمعها تقال اثناء السفر، من بينها اغنية عن الابل، يقول مطلعها:
يا سايقين البل يا جمالة
ولم تمض على انطلاقي غير ساعة او اكثر قليلا حتى ظهرت في غبشة الظلام رؤوس هضاب بعيدة بينها ممر جبلي، لابد من عبوره في الطريق الى البلدة، وتذكرت الان فقط ان هناك على جانب الممر الجبلي قبرا مزروعا في سفح الهضبة، كثيرا ما دارت حوله الاحاديث وحول الشبح الذي يظهر للمسافرين ليلا في هذا الممر الجبلي، وهو امر يؤكده البعض وينفيه البعض الآخر، الا انه كان كفيلا بان يثير في ذهني شتى الظنون، ويضعني في حالة توتر وعصبية، غير عارف ماذا افعل، والجمل يقترب من تلك المنطقة المخيفة، وانا في حالة تحفز واستنفار لاية حركة او نأمة، وصمت البراري الذي لا يقطعه الا صرير الجنادب، وسكون الليل وظلامه، والظلال الباهتة التي تصنعها النجوم لبعض النباتات الصحراوية، كل ذلك يضيف خوفا الى خوفي من ظهور الشبح المزعوم، ويجعلني اكاد ابكي مما انا فيه من ضعف وهوان، وافكر جديا في الرجوع، اشد الرسن والوي عنق الجمل واعود من حيث أتيت، الا ان الاحساس بالعار، وانا أعود الى أسرتي مرعوبا خائفا، جعلني اقاوم الخوف، واواصل الطريق حتى دخلت الممر الجبلي، حيث قبر هذا البدوي المجهول، وقد علته احجار بدت كبيرة مخيفة تثير بظلالها الفزع . لم استطع ان افعل شيئا وانا اراقب الجمل يندفع بي في المكان المرعب الا اللجوء الى القرآن، فصرت اقرأ ما احفظه من قصار السور، وجسمي ينتفض ويرتعش، ولم يتوقف عن ارتعاشه الا بعد ان اجتزت القبر بسلام، غير مصدق انني نجوت من مطاردة ذلك الشبح . الحادث الثاني الذي كان مصدر خوف وقلق حدث ذات صباح وانا اشارك في جلب الماء من البئر، عائدا الى النجع على ظهر الحمار، يتدلى من على جانبيه برميلان من الماء، عندما صرخ احد المرافقين لي في رحلة جلب الماء، ان اتجمد فوق الحمار، والا اقوم باية حركة، واستغربت لهذا الصراخ قبل ان اكتشف انه يشير الى عقرب كبيرة الحجم، تتمشى مرفوعة الذيل، بجوار ساقي، فوق طرف الرداء الذي افترشه واغطي به البردعة التي اجلس فوقها، ولا اذكر الان ان كانت العقرب قد وصلت فعلا الى ساقي التي تجمدت من الخوف، قبل ان تتجمد بفعل الامر الذي اصدرته اليها اثر نداءات الرجل، فلم تستخدم ذيلها في مهاجمة ساقي وضربها، او ان هذا ما تهيأ لي، وملأ قلبي رعبا لانني فعلا بقيت لمدة لحظات لا استطيع ان احرك ساقي، حتى بعد ان تمكن رفاق الرحلة من استخدام العصا في نفضها من فوق الرداء، واسقاطها فوق الارض وقتلها . هذان الحادثان من حوادث الرعب، هما ما تبقى في ذاكرتي من حوادث كثيرة، يلتقي بها قاطن البادية، صغيرا كان ام كبيرا، بعضها لم اكن واعيا به لانه حدث في طفولتي المبكرة، ووصلتني اصداء عنه مما يتداوله افراد العائلة من احاديث الذكريات، مثل حديثهم عن انقاذي في اللحظة الاخيرة وانا اوشك على الغرق في بحيرة صغيرة من صنع الامطار وصلت اليها زاحفا في العام الاول او الثاني من عمري في غفلة من اعين الاهل .
الأنجم وغزالات النور
لا أستطيع أن اذكر الان ما الذى كنت اكتبه فى صحيفة الامل الحائطية، التى كنت أحررها فى المدرسة الابتدائية فى منتصف الخمسينيات، أو ما هى القضايا العامة التى كانت تشغل طفلا فى العاشرة من عمره أو فوقها بقليل .
فى وقت لم يكن فيه أى مصدر لأخبار الوطن، وأخبار العالم، عدا ما يتم تناقله مرويا عن القادمين من العاصمة، فلم يكن التلفاز أو الاذاعة المرئية شيئاً معروفا فى عواصم العالم الثالث، فما بالك بقرية صغيرة نائية فى عمق الصحراء، أما المذياع أو الراديو فما زال شيئا مبهرا لا يملكه إلا علية القوم، بل إن محطة الاذاعة الوطنية ذاتها التى يمكن للمذياع أن يتلقى إرسالها واضحا لم تكن موجودة، فرغم أن ليبيا عرفت فى الثلاثينيات الاذاعة المحلية فى طرابلس تابعة لمحطة " الراي" الايطالية، وتذيع حصة صغيرة باللغة العربية من مقر المعرض التجارى الدولى الذى لا يزال موجودا حتى الان، الا أنّ هذه المحطة انتهت بانتهاء الاستعمار الايطالي، وأنشأت الادارة البريطانية إذاعة أخرى محلية لا يتعدى إرسالها مدينة طرابلس، تبث عدة ساعات، من مقرها فى الصمعة الحمراء، امام المستشفى المركزى حاليا، وظلت قائمة الى عام 1956، عندما أنشأت الدولة الليبية إذاعة وطنية بشارع الزاوية يصل إرسالها الى مناطق أبعد من العاصمة .
بالنسبة إليّ شخصيا فقد رأيت أول مذياع عام 1953 وكان هذا المذياع الوحيد فى قريتنا ويملكه صاحب أعلى منصب فى المنطقة وهو" المتصرف " الذى حل محله الضابط الانجليزى، وباشر عمله فى مزدة بعد إعلان الاستقلال وكان مجاهدا معروفا اسمه " شرف الدين " .
حيث ذهبت الى بعض افراد اسرتى لحضور مناسبة عائلية أقامها فى بيته، وشاهدت مع بقية الحاضرين هذا الصندوق العجيب الذى يغنى، ويتكلم، ويقرأ القرآن، ويعزف الموسيقى، وأذكر النقاش الذى كان يدور فى بيوتنا عقب هذه الزيارة، الى بيت المتصرف ومن اين يستطيع هذا الصندوق العجيب جلب ما يقوله من غناء وأقوال وأحاديث، فلم تكن فكرة أن هناك محطات مخصصة لبث هذه المواد الدينية والغنائية والأدبية راسخة فى الاذهان .
ولم يكن هذا المذياع، الذى لا وجود لجهاز غيره فى البلدة، متاحا لان يراه كل الناس، كما لم يكن لائقا ان يطرقوا باب المتصرف، يسألونه ان يريهم هذا الاختراع العجيب، ولم يحدث هذا التعارف بين المذياع وبين اهل القرية، الا عندما احضر احد المواطنين، وهو مشرف محطة الكهرباء السيد" الهاشمى عبد القادر " مذياعا الى بيته، وقد أصبح ذلك اليوم مشهودا فى البلدة، فنتيجة الحاح الناس عليه، ووقوف الاطفال امام بيته يسترقون السمع الى هذا الجهاز، قام بشهامة وأريحية فأخرج الجهاز من البيت، وأحضر كرسيا ووضع فوقه الجهاز، وكرسيا ثانيا وضع فوقه البطارية التى تشبه بطارية السيارة، وجلسنا جميعا فوق الارض امام المذياع، وصاحبه يحرك أزراره شمالا ويمينا يبحث لنا عن شيء نفهمه، وقد سمعنا من الصفير اكثر مما سمعنا من الكلام والغناء، وسمعنا من الرطانات الاجنبية أكثر مما سمعنا من الكلام العربى، وقد سبق لى ان أتيت على ذكر هذه المناسبة، ولكن لا بأس من إعادتها لطرافتها وقد أفلح صاحب المذياع فى العثور على محطة عربية واضحة تبث أغنية .
لا أذكر المطربة التى تغنيها إلا اننى أذكر حتى الان مطلعها الذى يقول :
ما أريده والله ما أريده
لو مفتاح الجنة فى ايده .
ولأن الناس أغلبهم من الاميين، لم يستطيعوا فهم كلمة " ما أريده " التى نطقتها المطربة مدغومة الحروف فقد سألوا صاحب المذياع باعتباره خبيرا بلغة صاحبه، أن يشرح لهم ما تقوله هذه المطربة ولا أدرى حتى الان، ان كان قد تجاهل هذا المعنى الحقيقي، لكى لا يحرج الجالسين عندما يفسر لهم الاغنية عن الحب تقول على لسان المطربة، لا اريده حتى لو ملك فى يده مفتاح الجنة، أو انه فعلا لم يفهم المعنى، لأنه حاول اثناء الشرح ان يحيل الاغنية الغرامية الى اغنية دينية، قائلا ان ما تقوله المغنية هو " مريض والله مريض " باعتبارها واحدة من نساء المدينة فهى لا تنطق حرف الضاد مثلنا، وإنما تقول بدلا من مريض، مريد والله مريد، وهى تتمنى لو ان هذا المريض الذى سيلاقى وجه ربه قريبا ان يملك فى يده مفتاح الجنة، الذى لا يحصل عليه الانسان الا بالتقوى والعمل الصالح .
وبعد هذه الواقعة بقليل صار متاحا لكل الناس سماع المذياع، لان صاحبى القهوتين الوحيدتين فى البلدة وكل منهما اسمه الهادي، الاول الهادي بن نصر، والثاني الهادي الملقب ب"العم هويدي"، قررا جلب جهازين، ووضعهما فى خدمة الجمهور، وكان ذلك متوافقا مع افتتاح الاذاعة الوطنية عام 1956، ومتوافقا ايضا مع احداث كبيرة شاهدها العالم العربى وهو العدوان الثلاثى على مصر، وأحداث عالمية اخرى هى اجتياح الاتحاد السوفيتى للمجر، واذكر كيف كان الناس يتزاحمون صغارا وكبارا، لسماع أخبار معركة السويس من هذين المذياعين .
وهكذا دخل نبض العالم وإيقاع الحياة فيه، ليمتزج بنبض الحياة فى البلدة .
أما الصحف والمجلات فلم يكن يرد الى القرية اى شيء منها، اللهم الا اذا احضر احد المدرسين القادمين من المدينة صحيفة أو مجلة، وكل ما أذكر رؤيته من المجلات هو اعداد من مجلتى " المصور وأخر ساعة " مليئة بصور قادة الثورة المصرية،ومن بينهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وقد صار يتناقلها الطلاب والمدرسون بحماس ولهفة، كما حصلت مرة على عدد قديم من مجلة الكواكب، كان لها الفضل فى تعريفى بنجوم الفن فى مصر، ممن اسهموا فى تشكيل الوجدان العربى فى العصر الحديث، ووقعت فى ايدى ايضا بعض الأعداد القديمة من مجلتى الهلال والرسالة، ليتحقق من خلالهما التعارف بينى بين نجوم الادب والفكر قى هذه المرحلة، وفى سنتى الاخيرة فى المدرسة وصلت اعداد من مجلة "روز اليوسف " كانت تنشر حلقات من رواية "إحسان عبد القدوس " "فى بيتنا رجل " تابعت قراءة فصول منها، كما وضعت الصدفة فى طريقى عدداً من مجلة الاديب " اللبنانية " احتفظت به لعدد من السنوات بعد ذلك لأنه يحتوى على قصة قصيرة تنتمى الى عالم الحداثة كانت أول قصة قصيرة ذات طابع فنى حديث أقرأها، وأصاب بحالة افتتان وانبهار بها كتبها كاتب قصصى من جيل الرواد، مازال يثرى الحياة الادبية بإبداعه الجميل وهو أستاذنا " عبد السلام العجيلى" .
طالعت آلاف القصص القصيرة الطويلة التى لم أعد أذكرها، بعض هذه القصص طالعتها منذ اسبوع فقط وضاعت التفاصيل من ذاكرتى، ولكن هذه القصة التى قرأتها منذ ما يقرب من نصف قرن فهي مازالت تشع وتتوهج بكامل تفصيلها فى ذاكرتى، ومازالت الانجم الكثيرة والمضيئة والجميلة التى رآها بطل القصة تركض أمام عينيه مثل غزالات من الضياء تنير مناطق عميقة فى عالم الوجدان .
كان عنوان تلك القصة هو " مصرع محمد بن احمد حنطى " وكان لافتتانى بها صلة كبيرة بحبى لفن القصة القصيرة الذى كرست له جزءا من سنوات العمر وأنجزت فيها سبعة كتب أو اكثر .
السينما أيضا كانت تحظى فى اوساط المدرسة بالاهتمام والانبهار رغم خلو القرية منها، لأن هناك دائما طالبا أو مدرسا ذهب الى المدينة، وشاهد السينما، وجاء يحكى للآخرين عما رأى من أفلام، أما اللقاء بصور تتحرك وتتكلم فوق الشاشة البيضاء فلم يحدث إلا عندما جاءت بعثة فنية تعمل مع هيئة دولية، لتقدم لأهل البلدة ليلة مع الافلام القصيرة بعضها أفلام ارشادية عن الوقاية الصحية، وبعضها الاخر أشرطة إخبارية سياسية ورياضية، وكان الشاب الذي قاد هذه البعثة السينمائية الى القرية، ليبي من بلدة العجيلات تربطه صلة قرابة ببعض اهلنا في مزدة، فأراد ان يؤثر اقاربه بهذه المكرمة، وقد صار هذا الشاب فيما بعد سفيرا لبلاده في الارجنتين، وغيرها من بلدان هو الاستاذ بشير خليل بن فضل .
ورغم شح مصادر الاخبار وضعف الصلة بأحداث العالم، فالبلدة لم تكن معزولة عن الدنيا، كان المدرسون يبذلون جهدهم مع التلاميذ الصغار فى توعيتهم بأهم القضايا الوطنية التى تشغل الناس، ويشركونهم معهم فى أهم القضايا التى ينشغلون بها، وأبلغ دليل على ذلك المدرس الذى كان يتلقى رسالة كل أسبوع من صديق له يحدثه عن مشاهداته وحياته خارج البلاد، فكان يأتى ويقرأ لنا هذه الرسائل داخل الفصل .
قوة الكلمات
كثير من الرحالة الأجانب، الذين كتبوا عن رحلاتهم فى الصحراء الليبية،مروا بقرية "مزدة"، وكتبوا عنها يصفون الطابع الدينى الذى تتميز به، ومن بين هؤلاء الرحالة الألمانى الشهير" هنريش بارث" الذى زارها فى أربعينيات القرن التاسع عشر وأهتم بالكتابة عن معمارها المتفرد، ورسم بعض الصور لبيوتها وقلعتها الشهيرة التى بناها الأتراك، كما أعتنى آخرون بالحديث عن اولياء القرية ومزاراتها، بل أن طبيبا إيطاليا قضى بالقرية عدة أشهر فى عشرينيات القرن الماضى، لم يتورع عن نعتها ببلاد الدراويش والحواة والمشعوذين فى كتاب معروف اسمه " بلسم للأفاعى" ترجمة الكاتب الليبى" جمعه أبو كليب"، وقد استوحى المؤلف اسم الكتاب مما رآه فى قرية" مزدة" عندما زار بيت إحدى السيدات الزنجيات التى تشتغل بالسحر، ووجدها تستخدم المراهم ورحيق الأعشاب فى علاج إحدى الأفاعى التى تربيها وتستخدمها في العاب الحواة التي تقوم بها، لأن هذه الافعي الثمينة التي تمثل مصدرا من مصادر رزقها، أصيبت بوعكة مرضية، كما شاهد هذا الطبيب ساحرا آخر يتعامل مع الجن، ويطرد الأرواح الشريرة من أجسام النساء، وقد زاره الطبيب فى بيته الذى كان مليئا بنساء يطلبن العلاج على يد هذا الحكيم الساحر.
إذا تركنا أجواء هذا الطبيب الإيطالى وقفزنا الى عقد الخمسينيات وما شاهدته فى صباى من مثل هذه الأجواء، فأننى يمكن أن أتحدث عن ثلاثة أنواع من الناس ينسب اليهم أهل القرية قوة روحانية تميزهم عن الآخرين
النوع الأول:رجال من أهل التقوى والصلاح كان أبرزهم شيخ داكن السمرة،يسكن كوخا فى أرض زراعية يطلق عليه" باتى ابراهيم" يعتقد الناس فى كراماته،ويتداولون حديث رجال من أهل القرية، ذهبوا الى الكعبة الشريفة لأداء فريضة الحج، وشاهدوا باتى ابراهيم هناك يؤدى المناسك رغم أنه لم يكن قد غادر القرية.
وكنا نأتى صغارا ونلعب بجوار كوخه فلم يكن ينهرنا، وانما كان يتبسط معنا ويبش فى وجوهنا، وكان يعيش في الكوخ بمفرده، على طرف احدى المزارع، ولا ادري مصدر رزقه، ولكنه فيما يبدو كان قبل شيخوخته ملتحقا بخدمة عائلة السني ولعله يعيش على ما يتلقاه من عون ياتيه من اشياخ هذه العائلة.
وهناك رجل ثان يسكن روضة بإحدى المقابر وهو سيدى" ابراهيم سبيطه " ينسب اليه الناس انواعا من الكرامات خاصة فى نجدة الملهوف.
النوع الثانى: من الناس وهم الدراويش، الذين يهيمون فى البوادى، ويظهرون ويختفون، فيتكفل أهل القرية بإطعامهم عند ظهورهم، مثل ذلك الزنجى الأفريقى صاحب اللكنة الأعجمية الذى يظهر فى القرية يكلم نفسه، ويظنه الناس يخاوى الجان، وكان اسمه "ابراهيم اتاى " وهناك رجل يشبهه اسمه إدريس ينتمى الى عائلة من العلماء، إلا انة درويش يهيم على وجهه فى الطرقات يكلم نفسه وينسب له الناس أنه يستطيع أن يدخل الكدر على قلب أى تاجر يمتنع عن تقديم الصدقة له، فيهدده قائلا :
" انظر الى الدرج الذى تضع فيه النقود" فيفتح التاجر الدرج ليجد أن العملة الو رقية التى يمتلكها تحولت الى مجرد اوراق بيضاء، يصعقه ما حدث لامواله، ويصرخ مستنجدا بالرجل الدرويش أن يأخذ مايشاء ويعيد له نقوده كما كانت.
النوع الثالث: اكثر خطورة وهم الشعراء الشعبيون وليس كل الشعراء، وانما فصيل منهم يمتلك مقدرة سحرية على إنزال الأذى، وتتواتر الحكايات عن عدد من الشعراء كتبوا قصائد غاضبة تحمل وابلا من اللعانات على خصومهم مع ذكر أنواع الأذى وصنوف المحن التى سيتعرضون لها، وتكون هذه القصائد من الصدق بحيث يتحول ما جاء فيها الى واقع. والشواهد كثيرة جدا على شعراء تصوروا أو تنبأوا بأشياء حدثت بتفصيلها كما وردت فى قصائدهم.
فالشاعر" ابن سعد الله المشاى" الذى تنبأ بإفلاس تاجر من خصومه بسبب الحريق الذى سيحدث لمخازنه ودكانه، لم تمض سوى أسابيع حتى تحققت النبوءة .
والشاعر الشعبى" سيدى عمر" له رهبة فى مزدة وبواديها منذ ان انشد قبل الحرب قصيدة هجاء فى قاطنى منطقة اسمها" الشهب" قائلا:
دار الشهب يا صهبى خطاهم
سبع اجيال بنعيط وراهم
وهو يخاطب ضريح احد الأولياء اسمه " صهبى " قائلا له : " دع عنك أمر دارالشهب لأننى سأطلق صرختى خلف سبعة أجيال من أهل هذه الدار. ووصف فى قصيدته كيف أن قذائف النار ستصيب تلك المنطقة، التى تعرضت فعلا لقصف الطائرات المغيرة التى ارسلها جيش الحلفاء لضرب الحامية العسكرية الإيطالية فى القرية.
وهناك حكايات اكثر غرابة عن شعراء اخرين، ربما في مناطق اخرى غير مزدة،تثيرقصائدهم الفزع في قلوب الناس،لأنهم رأوا كيف تتحول الكلمات الى حقائق مرعبة.
فكان الجميع يسعون لكسب ود ورضا هؤلاء الشعراء،الذين اكتسبوا بفضل هذه السمعة قوة معنوية ونفوذا يوازي قوة ونفوذ اهل السلطة .
ودون أنكار لوجود قوة روحية لدي بعض الناس الا ان قوة هؤلاء الشعراء يمكن نسبتها إلي قوة اخرى غير هذه القوة الغيبية الروحية، هي قوة الكلمات، وإذا كان للكلمة في البوادى والأرياف،وبين اهل القرى،هذا التأثير رغم ان قائليها رجال اميون،محدودو المعارف والمهارات العلمية،وهم لم يقولوا قصائدهم غالبا إلا بدافع الابتزاز وقضاء مصلحة تتصل بأمورهم المعيشة،فما بالك عندما تصبح هذه الكلمة سلاحا في ايدي المصلحين والمفكرين والعلماء والمبدعين من رواد النهوض والتقدم،بما يملكون من معارف وخبرات، وبما يتوفرون عليه من ثراء اللغة العربية، وامكاناتها التى لا يملكها اصحاب القصيدة العامية، بالإضافة الى ما يملكونه من طاقات الإخلاص للبيئة التى ينتسبون اليها والرسالة التى يحملونها.
ان جذور هذا الإيمان بالكلمة التى كرست حياتى لخدمتها، يعود الى تلك المنابع التى نهلت منها فى طفولتى، وقد ظل ذلك الشاعر الشعبى الذى يجترح المعجزات بقصائده، ويفرض سطوته وسلطانه على عقول وقلوب الناس، راسخا فى وجدانى، كما ظل صوته مع أصوات أخرى كثيرة تترد فى ذاكرتي، كمثال على قوة الكلمات ومفعولها السحري.
في البدء كانت الحرية
تتميز بلدة مزدة بنوع من المعمار لا يشبه أي معمار أخر في ليبيا، خاصة تلك البيوت القديمة التي تحول غالبيتها الى أطلال في هذه الأيام، والتي تعلوها أبراج عالية تمتد إلى خمسة أو ستة أمتار فوق البناء، لاستخدامها في أغراض القتال ورد الغزوات المقبلة من الصحراء، ويبدو أن أهل البلدة جاءوا بهذا النوع من المعمار من هجرتهم الطويلة إلى المناطق الحدودية، بين تونس والجزائر، وقد ذكر الرحالة الألماني الشهير هنريش بارث الذي زار هذه الواحة منذأكثر من مائة وخمسين عاماً مضت، أنه لم يشاهد مثل هذا المعمار، وهذه الأبنية ذات الأبراج، إلا في بعض المدن الجزائرية، ويطلق أهل البلدة على البرج القصبة، كما يفعل الجزائريون، وقد كان البيت الذي ولدت وعشت فيه سنوات الطفولة، يقع ضمن خمسة بيوت أخري ملاصقة لبعضها بعضاً، تعلوها مثل هذه القصبة التي تقوض الآن جزء منها، ومازالت مع أنقاض البيوت القديمة، تمثل شاهدا على جهود أولئك الأسلاف الرواد، الذين أنشأوا البلدة. كان بيتنا يحتوي على جزء قديم، أضيف إليه بناء حديث، وكانت به غرفة علوية نستخدمها للتخزين، وأمام هذه الغرفة شرفة أو مسطبة، جعلتها مكاناً مفضلاً أفرش فيه بساطاً، وأجلس لمطالعة ما أعود به من المدرسة من كتب الأطفال، التي كانت تقدم لي متعة تغنيني أحياناً، حتى عن اللعب مع بقية الأطفال. كنت قد قضيت عامين أو اكثر أذهب إلى المدرسة القرآنية التي كانت بالنسبة إليّ أشبه بالروضة. المدرسة الابتدائية الوحيدة في البلدة وهي مدرسة أنشأها الإيطاليون لأولادهم، او لكل من يرضي أن يتلقي تعليمه باللغة الإيطالية من اطفال الليبيين، لمدة أربعة أعوام، وهي كل مدة الدراسة فيها، ثم تحولت إلى مدرسة عربية فور خروج الإيطاليين، ولعلها تعطلت عاماً أو عامين بسبب الحرب، عندما تعرضت القرية لقصف المقاتلات التابعة لجيش الحلفاء، خلال تلك الأعوام، وعادت في منتصف الأربعينيات بمناهج وكتب عربية، والمدهش حقا أن المدرسة احتوت على مكتبة، يستغرب الإنسان وجودها في قرية صحراوية مثل هذه القرية، ومدرسة ابتدائية، لا يزيد فصولها على أربعة فصول، لأن فيها أمهات الكتب التراثية والدينية، علاوة على أخر واهم ما ترجم إلى العربية من اللغات الأخرى، إلى كل ما صدر من كتب في الأدب شعراً وقصة ودراسات نقدية خلال الخمسين عاماً الأخيرة، كما لا أذكر أن هناك كتاباً من كتب الأطفال صدر باللغة العربية، إلا كان موجوداً في المدرسة، لأنني شخصياً وخلال أعوام الدراسة الأولى قرأت كل قصص الأطفال الموجودة في المكتبة، وكنت أبحث في الفهارس عن مثل هذه الكتب فلم أجد أن هناك كتاباً واحداً غائباً عن مكتبة المدرسة، وهي كتب أستعيرها منذ عامي الأول في المدرسة، لان الايام التي قضيتها في المدرسة القرآنية كانت كافية لآن تجعلني أجيد القراءة، وأبحث عن هذه القصص وأقرأها، بينما كان بعض أقراني يتعلمون حروف الهجاء، ولأن للمدرسة نظاماً يمنع التلميذ من استعارة أكثر من كتاب واحد في الأسبوع، لكي لا تجور القراءة الحرة، على قراءة المنهج المقرر، فكنت أطالب من زملائي في الفصل استعارة هذه الكتب لي، فاقرأ بدل الكتاب الواحد عشرين كتابا في الأسبوع، من هذه القصص التي لا تأخذ وقتاً طويلا في القراءة، وهي قصص مقتبسة من التراث العربي، وألف ليلة وليلة، وأخري مترجمة من التراث العالمي،عن كتاب مثل داريان فو، صاحب روبنسون كروز، وجوناثان سويفت، صاحب رحلات جيليفر في عالم الأقزام، ورحلاته في عالم العمالقة، وقصص هانز كريستيان أندرسون، أما الحصيلة الكبرى فكانت لعميد مؤلفي قصص الأطفال في العالم العربي كامل كيلانى، وكتب دار المعارف التي يقوم بتأليفها عطية الأبراشي وسعيد العريان ومحمد فريد أبو حديد وغيرهم من عظماء المربين والمبدعين واكملت خلال ثلاثة او اربعة اعوام قراءة كل ما جان موجودا من كتب الأطفال، فاحترت ماذا أقرأ من كتب لا تتوافق مع عمري ومداركي، ومازالت إلى الآن لا أدري من هو ذلك المربي العظيم الذي أحضر إلى مزدة، وفي بحر أعوام قليلة، وفي فترة كانت ليبيا تصنف فيها بأنها أفقر دولة في العالم، هذه الذخيرة من الكتب النفيسة، فهو جدير بالشكر والتحية والعرفان، استحق أن نستنزل على روحه شأبيت الرحمة، والحقيقة فإن معلميّ ذلك الزمان كانوا نوعاً راقياً من الرجال، وكان التعليم بالنسبة لهم رسالة وليس وظيفة، ولا يمكن أن أنسي روح الأبوة التي كان يعاملنا بها مدير المدرسة الشيخ الصديق الدرداري، عليه رحمة الله، الذي كان في عمر والدي، كما لا أنسي المعاملة الراقية التي كنا نتلقاها من المشرف المدرسي، وهو رجل من أهل البلاد نناديه عمي التونسي، الذي كان يكره أن يري مدرساً يضرب تلميذا، فصرنا نلجأ إليه على الرغم من مركزه المتواضع في المدرسة، لكي يحمينا من غضب المدرسين، ولا أدري متي التحقت بالمدرسة بالضبط لأنني لم أكن أكمل العام الدراسي بسبب ذهابي مع أهلي لملاقاة الربيع والبقاء عدة أشهر خارج القرية، فتكرر بقائي في الصف الأول عاماً أو عامين ولم أنتظم إلا في العام الدراسي .5- 1951م وصرت منذ تلك السنة الدراسية أنتقل من فصل إلى فصل دون رسوب، وكانت كتب المنهج المدرسي تأتينا جاهزة من مصر بل هي الكتب المقررة ذاتها في المدارس المصرية، وأذكر أن كثيراً من كتب المطالعة والتاريخ كانت تحمل صور الملك فاروق في أولي صفحاتها، وظلت هذه الكتب معتمدة لدينا حتى بعد الإطاحة بفاروق، وكانت تحتوي على قطع نثرية لأدباء معاصرين مثل العقاد وطه حسين وغيرهما مع هامش صغير للتعريف بالأديب، ورسخت في ذهني كلمة أديب، وأحببت هؤلاء الناس الذين يكتبون هذه الخواطر والقصص الجميلة، فتمنيت أن أكون مثلهم وأذكر أن أستاذاً سألنا ونحن في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي عن العمل الذي نحب أن نمارسه عندما نكبر، ولأن قريتنا لم تكن تعرف مهنا مثل مهنة الدكتور أو المهندس أو المحامي، ولأن التجارة في القرية مهنة بائرة كاسدة، فلم يستطع أحد من التلاميذ، أن يقول غير المهنتين الوحيدتين المعروفتين بأنهما مورد كريم للعيش، وهما مهنة التدريس والشرطة، فأجاب الجميع بكلمتين مدرس أو شرطي، عدا اثنين هما أنا وطالب أخر قال إنه يريد أن يكون سائق سيارة، وقد انتهي به الأمر بأنه أصبح يعمل سائقا باحدى المصالح الحكومية، أما أنا فقلت له دون تردد أريد أن أكون أديباً، وأذكر أن المدرس وجد غرابة فيما قلت وسألني من أين عرفت هذه الكلمة، فذكرت له كتاب المطالعة، وأشرت إلى الكتب التي أداوم على استعارتها من المكتبة، ولا أدري إن كان هذا الأستاذ أو واحدا غيره هو الذي ساعدني في توجيه قراءاتي، لأنني شكوت له حيرتي بعد أن نفدت كتب الأطفال، وحدث لي نوع من الارتباك فيما أستعيره أو يستعيره لي بقية التلاميذ من كتب إلى حد أنني استعرت كتاب الجمهورية الفاضلة لأفلاطون، ظنا مني أنه قصة للأطفال، فوجدته شيئاً يتعذر فهمه على طفل فوف العاشرة بقليل، فقام هذا الأستاذ بإرشادي إلى روايات التاريخ الإسلامي لجرجى زيدان، وكتب المنفلوطي، ثم وجدت من أعارني من خارج المدرسة قصص أرسين لوبين ومغامرات روبين هود، وتعرفت في الأعوام الأخيرة من المرحلة الابتدائية على قصص يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله الغارقة في عالم الأحلام والرومانسية، وكانت المرحلة الابتدائية قد تحولت من أربع سنوات إلى ستة أعوام، وبدأت في هذين العامين الآخرين أسجل خواطري في دفاتر ومسودات، ثم قمت بتحرير صحيفة حائطية أسميتها الأمل، كما أنشأت فرقة للتمثيل، وقدمت لأهل القرية في إحدى المناسبات الوطنية تمثيلية شعرية مدرسية، وكانت موجودة في كتاب المحفوظات اسمها عاشق الذهب، وأدركت أن الأديب لكي يكون أدبياً فلا بد أن يؤلف كتابا، وهكذا شرعت مع زميل من أقاربى فى تأليف هذا الكتاب. كانت البلاد تعيش أجواء الاستقلال والاحتفالات التي تنظمها المدارس في بداية الخمسينيات بهذه المناسبة، فشجعني ذلك على أن أجعل الكتاب يدور حول هذا العيد الوطني، وأن أجعل له عنواناً يتفق مع هذه المناسبة، وهو شروق شمس الحرية على الديار الليبية، وكان أول مقال أكتبه في حياتي لأرسله إلى الصحف يحمل عنوان: الحرية.
الإرادة والمواهب المشنوقة
كانت مفاجأة جميلة ان اعرف فى سنوات متأخرة، ان هناك فريقا مسرحيا تأسس فى بلدة مزدة فى الاربعينيات، وان مدرسا مغرما بالمسرح جاء وافدا من طرابلس للتدريس بمدرسة البلدة، انشأ من طلاب المدرسة الكبار، ومن بعض الشباب النابه والموهوب فى مزدة، فرقة للتمثيل قدمت عروضا مسرحية فى البلدة، وخارجهاعندما سافر هذا المدرس بالفرقة للمشاركة فى احتفالات اقيمت فى مناطق اخرى .
الا ان هذه الفرقة لم تعمر طويلا، فانتهت وانتهى نشاطها بمجرد نقل ذلك المدرس الى مدينة أو قرية أخرى .
ولم اكن وأنا استأنف نشاطا مسرحيا فى البلدة من خلال المدرسة اعرف هذا التاريخ، ولم أكن قد شاهدت فى حياتى عرضا مسرحيا، او اعرف شيئا عن المسرح، الا من خلال ما قرأته فى كتاب المحفوظات من نصوص مسرحية، وشرح المدرس لهذه النصوص، وهو يطالبنا بحفظها .
ولا أدرى كيف طرأت على ذهنى فكرة انشاء فرقة للتمثيل داخل المدرسة، ولا اذكر الان من استعنت به على انشائها، فقد صار الامر كله غاطسا فى ضباب لا ارى من خلاله الا بعض الومضات، وصارت الذاكرة لا تعرض فوق شاشاتها الا صورة مشوشة ممزقة، تحتاج الى مهارة لوصل بعضها ببعض، ولا بد ان ذلك حدث من خلال جمعية اقمتها للنشاط المدرسى وأصدرت من خلالها صحيفة حائطية اسمها " الأمل " فى منتصف الخمسينيات، وفى ذلك الوقت ايضا قدمت المسرحية المدرسية " عاشق الذهب " .
ولا اذكر الان تفاصيل ما حدث، سوى اننى اقف ملقيا اشعار المسرحية بلهجة تمثيلية، وسط حشد من أهل البلدة الجالسين على الأرض، فيما يشبه مسرح الحلقة، لانه لا وجود لمنصة ولا ستارة، مجرد مساحة فارغة، فوق الارض، يتحلق حولها الناس، وقد وضعت ماكياجا على وجهى يظهرني وكأنني رجل كبير فى السن، وارتديت جبة تجعلنى أبدو فى صورة التاجر المرسوم فى الكتب التراثية، وأمامى صندوق وضعت فيه اموالا اكتنزها وأتغزل بها .
كان هناك آخرون يشاركون فى القيام بأدوار هذه المسرحية التى قمت ببطولتها، وقمت باعداد المكان لعرضها، وكان مؤلفو مثل هذه النصوص المسرحية، يراعون مسألة انها ستقدم فى مدارس لا تعرف الاختلاط، فكان كل الممثلين من الذكور، ولم يكن هناك دور نسائى يجعل تقديم المسرحية صعبا .
وكان ذلك هو أول عرض مسرحى اشارك فيه، ولا أدرى كم سنة انقضت، قبل ان أعود الى بلدتي، لأقدم عرضا اخر، كنت قد اتممت دراستى بالبلدة، ورحلت للدراسة والحياة فى مدينة طرابلس، وشاركت هناك فى أنشطة مسرحية يقيمها الهواة، وجاءتنى دعوة من البلدة لإحياء إحدى المناسبات التى لم أعد اذكرها، فعدت وفى غضون ايام قليلة قمت بإعداد نص مسرحى شعبى، وقمت بإخراجه وبتقديم الدور الرئيسى فيه، وكان العرض هذه المرة فوق ركح أقمناه خصيصا لهذه المناسبة، وسط ساحة البلدة، وشاركنى فى التمثيل صديق موهوب فى تقديم الادوار الفكاهية كما شاركنى فى ترتيب العرض وإخراجه الى النور هو " رمضان على مزدة " الذى آثر أن يترك هوايته المسرحية فيما بعد ويصرف جهده للتعليم، كما كان معنا رسام له شأن وكاتب واصل الرسم والكتابة الا انه ضنين بنشر انتاجه وتقديم معارضه هو " عمر أحمد جبريل " ولابد ان أذكر زميلا ثالثا من أبناء جيلنا له الفضل فى تأسيس نادى مزدة الثقافى، الرياضى، الذى قدم مواسم غطت مناشط شتى فى عهد إدارته هو " أحمد قريرة " .
ولا بد من الاشارة هنا، الى أنه رافقنى، فى سنوات المدرسة الابتدائية، عدد كبير من الصبية أصحاب المواهب ممن كانوا ينالون ثناء المدرسين على نضجهم المبكر، سواء فى التعبير أو الرسم، أو مستوى الذكاء الذى ابدوه فى حل المسائل الرياضية، أو بسبب تفوقهم فى احدى المواد الدراسية مثل التاريخ والجغرافيا، وكان موضع غبطة، ان لم يكونوا موضع غيرة وحسد، من بقية التلاميذ، خاصة عندما يكثر مديح المعلمين، وما يتوقعونه من مستقبل زاهر لهؤلاء الاطفال النابغين .
ثم تمضت الاعوام، فإذا بهذا النبوغ يتلاشى، وإذا بتوقعات المدرسين تنتهى الى خواء وفراغ، وإذا بهؤلاء الصبية يكبرون ليصيروا رجالا خاملى الذكر، بعضهم ترك الدراسة بعد انهاء المدرسة الابتدائية، وبعضهم واصل حتى فاز بشهادة متوسطة، وانتهى به الامر مدرسا للأطفال، أو موظفا يسلم نفسه للروتين الحكومى، كما هو حال اغلب من عرفت من اولئك الزملاء النابغين .
والسؤال هو ما الذى يطفئ هذا الاقباس التى ومضت فى بواكير العمر، ويقتل نبوغها، بدل ان يزداد تألقا واشتعالا ؟
والجواب طبعا ان ذلك يحدث بسبب ظروف الحياة، التى عاشها هذا الجيل المفصلي، الذى تفتح على الحياة فى ظروف استثنائية، لم تتح له فرصة ان يكتمل تكوينه، او يجد من يرعى مواهبة، فتكاثف الجهل وغياب الدولة ومؤسساتها على خلق مواهبه .
ولا ادرى كيف استطاعت قلة محظوظة من أبناء جيلنا ان تنجو من هذا المصير، الا اننى يمكن ان اغامر فأقول ان الامر يرجع الى الصدفة وحدها كما يبدو، او لتباين الظروف، فكلنا شركاء فى التعرض لمثل هذه الظروف البائسة التى تضافرت على خنق المواهب الصغيرة الناشئة، وانما هناك درجة من الارادة، لعبت دورا بجوار الصدفة فى صناعة هذا الفرق .
اما الذى صنع هذه الارادة وجعلها أكثر قوة لدى البعض، وشديدة الضعف لدى البعض الاخر، فأستطيع ان اقول ان ذلك يرجع الى قوة الموهبة، فكلما كانت الموهبة كبيرة كان ذلك أدعى لأن ترغم صاحبها على ان يجد لها منفذا ومنبرا، وتمنحه أظفار ومخالب يحارب بها الظروف التى تريد قتله، وباعتبارى واحدا من أعضاء هذه الفرقة الناجية، التى استطاعت ان تقهر الظروف التى قهرت أصحاب المواهب من اترابى، أقول ذلك لا لأزكي نفسي، وانما لأقدم لأبناء الجيل الجديد شهاداتى من واقع الخبرة الحية وما صاحبها من كدح وعناء .
الدخول فى المتاهة الحمراء
لم أكن فى طفولتي قد رأيت " الحمادة الحمراء " ذلك الجزء من الصحراء الكبرى المتاخم لبلدة مزدة عدا في ومضة عابرة ورحلة مع جدي استمرت يوما وليلة، اما الزيارات التي تستمر عدة اشهر فقد كانت لاطرافها، ولم تكن رحلات الاهل التى تخرج فيها الاسرة بكاملها لملاقاة الربيع، أو الاخرى التى أخرج فيها مع والدى لحضور مواسم الحرث، أو الحصاد،، تبعد كثيرا عن البلدة، فحدودها دائما هى هذه الشعاب والأودية المحيطة بها، الا ان الحمادة الحمراء كانت حاضرة حضورا قويا فى الذاكرة الجماعية لأهل البلد، فى أحاديثهم، بمثل ما هى حاضرة فى تراثهم شعرا وقصة وغناء، فهى التى يقطعها التجار من أبناء البلدة فى ذهابهم الى جنوب البلاد لجلب التمور او مع القوافل التى تقطع الصحراء الى بر السودان، وهى التى يسكنها البدو الذين يأتون الى البلدة للتسوق، وهى التى يذهب اليها الناس فى رحلات لصيد الغزلان وهى التى يجلب فيها الناس " الكمأة" أو " الترفاس " كما يسمونه محليا، وبكميات كبيرة فى الاعوام التى تكثر فيها الامطار والسيول .
والحكايات عن الحمادة الحمراء غزيرة، ومتنوعة، بعضها يتصل بمعارك الصحراء التى خاضها، أهل هذه المنطقة ضد المستعمرين، وبعضها يتصل بحديث الجن، وأهل الخفاء، وما يقيمونه من أعراس وحفلات لا يراها إلا من كشف عنه الحجاب، وحكايات اخرى حزينة تنقل أخبار أولئك الذين تاهوا أثناء عبورها، وماتوا جوعا وعطشا، وتروى أحداث حقيقية عن قوافل بكاملها أودى العطش بحيات كل من فيها من بشر وحيوانات .
قضيت أعوام الطفولة دون أن أراها – عدا تلك اللحظات العابرة- وعندما كبرت وصرت أزور القرية وأذهب فى جولات قصيرة الى بعض أريافها أقود سيارتى بعد أن كثرت الطرق المعبدة التى تشق تلك البرارى والقفار، كنت أظن فى حالات كثيرة اننى قد وصلت الى الحمادة الحمراء وخاصة وأنا أرى من حولى تلك الفيافى التى تغطيها الرمال، لأننى أجد دائما من يقول لى أن هذه الارض جزء من البادية، ولكنها ليست الحمادة الحمراء فهى شيء أخر، غير كل ما رأيته وعرفته فى هذه البرارى .
وعندما حصل وذهبت اليها في عدة زيارات كان يستمر بعضها عدة ايام، أدركت حقيقة هذه الفروق بين الحمادة الحمراء وبين بقية المناطق البدوية المألوفة لى .
كان الطريق الذى ندلف منه الى الحمادة، يمر بعدد من الهضاب، والمعابر الجبلية، والأودية التى تنمو على أطرافها اشجار السدر والأثل والبطم، ورغم أننا كنا نقطع ما يقرب من مائة ميل عبر هذه الأودية والشعاب والهضاب والمفازات الرملية، الا ان هذه كلها لم تكن صحراء الحمادة، لأن الحمادة هى تلك التى وصلنا اليها بعد أن تركنا خلفنا هذه المناطق، ودخلنا فضاء لا نهائيا، لا يحده، ولا يلوح فيه على مدى البصر أى شيء، إلا انعكاس الضوء على الأرض فيصنع ما يشبه غدران الماء الخادعة التى يسمونها السراب، وقوس الافق يطبق على هذا الفضاء كأنه خيمة جبارة ذات لون أزرق .
توغلت فى الحمادة الحمراء التى بدت مثل بهو عملاق، بلا أعمدة فلا هضاب ولا شعاب ولا أودية ولا نتوءات، ولا أشجار ولا ارتفاع ولا انخفاض، فى مستوى الارض، يفسد هذا البساط من التراب الأحمر، الممتد بلا حدود فوق أرض منبسطة، ومصباح معلق فى سقف الكون، هو الشمس، يضئ هذا البهو الذى ليس كمثله بهو فى الدنيا، بهذه المهابة والجلال والرعب .
كان الوقت الذى ذهبت فيه الى الحمادة الحمراء، وقت احتجبت فيه الامطار، ولذلك فقد ارتدت الحمادة الحمراء لونها الحقيقي، ولم تتزين بذلك الغلاف النباتى الاخضر، الذى يغطى وجهها فى مواسم الخصب وغزارة الامطار .
والذين رأوها فى تلك المواسم يتحدثون عن أشياء عجيبة تصنعها عبقرية الطبيعة فى البيئة الصحراوية، حيث تتحول هذه المتاهة الحمراء الى بساط مزخرف بفضل أعشاب الربيع، ذات الالوان المتعددة التى اتخذت أشكالا هندسية كأنّ ملايين الايدى هى التى غرست هذه الزهور والأعشاب وجعلتها تظهر فى شكل مربعات ومستطيلات حمراء وصفراء وخضراء وذهبية وبنفسجية وغيرها من الالوان والأشكال .
كانت الحمادة تمتد امامى بوجهها الحقيقى خاليا من المساحيق والزينات، وكنت أفكر كيف كان الناس يعيشون فى هذه المفازات الموحشة، ومن أين كانوا يحصلون على الغذاء فى أزمنة الجفاف، التى تمتد لعدة أعوام، وكيف كانوا يطيقون طقسها المتقلب، الذى يصل الى أقصى درجات البرودة ليلا، ويتحول الى شياظ من النار أثناء الظهيرة. الغريب حقا أن هناك أقواما مثل الطوارق مازالوا حتى فى أيامنا هذه يقاومون الاستيطان وحياة الاستقرار، ويرفضون مغادرة هذه الفيافى المقفرة الجرداء الغبراء، وهذا الفراغ الهائل الموحش الذى يملأ القلب رعبا .
أمطار فى البادية
على الرغم من أننى لا أنتمى إلى أسرة بدوية تعيش فى الخيام، وتعتمد فى مواردها الاقتصادية على الرعى وتربية الحيوانات، وتجوب الفيافى بحثاً عن الكلأ والماء, إلا أن للبادية إسهاماً أساسياً فى نشأتى وتكوينى، وفى نشأة وتكوين أبناء جيلي، ممن ولدوا فى الأربعينيات وقبلها، ومهما كانت القرية بعيدة عن الصحراء، فإن للصحراء حضورها القوى فى حياة الليبيين، وفى عاداتهم وتقاليدهم، وأسلوب معيشتهم ونظرتهم للحياة، ويمكن للإنسان أن يشاهد هذا التأثير فى المدن الساحلية الكبيرة مثل بنغازى ومصراته وسرت، التى تقع مباشرة على شاطئ البحر، ومع ذلك فإن انتماءها الى الصحراء يطغى ويغلب على انتمائها للبحر. وتجد الناس يعيشون على الساحل دون أن تكون لهم علاقة به، فهم لا يعتمدون فى رزقهم على عمل له صلة بالبحر، كصيد الأسماك وصناعة القوارب والاشتغال بمهن النوتية والبحارة. وعند بناء بيوتهم فغالباً ما يختارون أماكن بعيدة عنه. على الرغم من أن مدينة طرابلس التى أنشأها البحارة الفينيقيون، ارتبطت حياتها بالبحر كميناء من موانئ البحر الأبيض المتوسط الشهيرة، ذات التاريخ البحرى العريق، فان نسبة قليلة من سكانها الليبيين، ممن توارثوا الحرف البحرية جيلاً عن جيل، ظلوا مخلصين لماضيها التليد، ونافسوا الجاليات الأجنبية التى عاشت فى منطقة باب البحر، وامتهنت صيد السمك، كالجالية المالطية واليونانية إلى وقت قريب مضى .
أمابقية سكانها فقد ظلوا محافظين على جذورهم البدوية، وظلت طرابلس وعبر مراحل متعددة من تاريخها تحكمها معادلة البحر والصحراء، والبداوة، والتمدين، فحيناً تكون الجولة لصالح البحر، وحيناً لصالح الصحراء، وإذا كان هذا حال المدن الساحلية، التى تغسل الأمواج أقدامها، فكيف الحال مع واحة فى قلب الصحراء مثل بلدة مزدة التى أنتمى إليها. العلاقة بالصحراء هنا، علاقة حياة وبقاء، لأن أهل القرية يعتمدون اعتماداً كاملاً على الصحراء وأهلها، فى تجارتهم وتدبير معيشتهم، منذ أن كانت التجارة قوافل عبر الصحراء، إلى أن أصبحت سيارة شحن تجلب البضائع من المدينة،لتتكدس فى حوانيتهم بانتظار البدو لشرائها.
انقطعت منذ أعوام الطفولة علاقتى بعالم البادية، الذى كانت القرية على تماس يومى معه، ولم يبق من تلك العوالم الغاطسة فى سديم الوعى الطفولى، سوى أطياف عائمة الملامح لرجال ونساء، وتجمعات بشرية، تقيم أفراحها فى الصحراء، كما بقيت لمشاهد الطبيعة ومظاهرها فى تلك البوادى، رواسب فى عقلى ووجدانى، تجعلنى أفرح للأمطار الآن كما كان أهلى يفرحون بها قديماً، فى كل الأوقات وفى كل الأماكن، حتى وأنا اركب باخرة وسط البحر، لأنها تعنى بالنسبة لأهلنا الخير والخصب ووفرة الرزق وتقهقر شبح العطش والمسغبة. أذكرها عندما كانت تهمي في البراري، وتصنع مسارب صغيرة تداهم خيامنا، فيخرج اهل الخيام، يصنعون الحواجز الترابية التى تمنع السيول من التسلل إلى الأمتعة بالداخل، بينما نجرى نحن الأطفال تحت المطر، نرقص ونغنى قائلين :
يامطر يا خالتي
صبي على قطايتي
قطايتي مدهونة
بالزيت والزيتونة.
لتنشأ فى قاع الوعى تلك الرابطة مع المطر، التى تشبه علاقة النسب والدم. ويأتى الأهل يطاردوننا ويعيدوننا إلى الخيام خوفاً من الآثار التى تترتب عن الاغتسال بماء المطر. ولعل أعظم تلك المشاهد، وأكثرها بهجة، مشهد السيل الذى يأتى هادراً متدفقاً، يصنع من الوادى الذى عرفناه جافاً، فارغاً، لا شيء فيه غير الصخور والأحقاف التى تتخذها الرعاة مقيلاً لأغنامهم، نهراً قوياً، سريع الجريان، لعدة ساعات، تخرج العائلات تتفرج عليه، وتنطلق حناجر النساء بالزغاريد، لمنظره الذى يهز الوجدان نشوة وفرحاً.
وأكثر ما كان يميز رحلة الربيع، بالنسبة إليّ، هى العلاقة بالحيوانات، متجاورين فى نومنا وقيامنا وقعودنا وذهابنا وإيابنا، مع الحيوانات، على علاقة يومية معها، سواء الشياه التى تنام فى زريبة تجاوز الخيمة، أو الجديان التي يشارك الاطفال فى رعيها، أو البهائم التى نستخدمها فى النقل والترحال، وهى الحمير والإبل، وأحياناً الخيل، ولم يكن غريباً أن تعهد الأسرة لطفل فى السادسة أو السابعة، أن يقود الحمار أو الجمل أو الحصان إلى منابع الماء. أو يعود به من هناك محملاً بالأحطاب، أو بقرب الماء أمام إلى الخيمة.
وكانت تنشأ علاقة من هذا الجمل أو الحمار أو الحصان، بحيث أعتبره صديقاً، أتفقده وأرعاه، وأحمل إليه أكله وشربه إذا كان مقيداً بجوار البيت. وقبل هذه الحيوانات، والنباتات ومظاهر الطبيعة ومشاهدها، يبقى البشر، الذين رايتهم فى تلك البيئة، وحفروا ذكراهم فى وجدانى، مثل هذا الرجل، الذى يستعين به والدى فى مواسم الحصاد، وظل فى ذهنى، ابن البادية، فى أبدع تجلياتها، العم ابراهيم كيجمان، واذا كنا قد تعرفنا الى تلك الشخصية العامرة بالمعانى الإنسانية، كما التقطتها عينا طفل فى السادسة من عمره، فان هناك شخصيات اخرى بقيت في وجداني لانها كانت تشكل معلما من معالم ذلك الزمان في البلدة واريافها، كما عرفتها زمن الطفولة.
طرف من حديث الحرب
اسمه" خير غزال"، أحد الشيوخ المقيمين ببلدة " مزدة "، ممن وفدوا اليها من القبائل الصحراوية، واختاروا الاقامة بها حتى تجذروا فى ارضها وأصبحوا جزءا من اهلها .
كان السيد " خير غزال " شيخا جاوز الثمانين بعامين او ثلاثة اعوام، عندما زرته في بيته الانيق، الذي تظلل مدخله عدة اشجار، تقف تحت ظلها سيارة نصف نقل، هو الذي يتولي قيادتها ويقضي بها مصالحه، لانه رغم العمر المتقدم استطاع ان يحافظ على حيويته ونشاطه ولياقته النفسية والبدنية . ذهبت اكثر من مرة لزيارته فى هذا البيت، بعد ان علمت انه احد الذين شاركوا فى حرب الحبشة . رايته اول مرة فرأيت رجلا حاز على نصيب من اسمه، فوجهه يشع بفيض من نور السماحة والكبرياء، وينبئ بوسامة الروح وجمالها، مما جعلنى احس طوال الساعات التى قضيتها فى ضيافته بأننى فى حضرة رجل صالح من اولياء الله . يتحدث اهل القرية عنه دائما بود وتقدير واحترام، فهو يعيش فى سلام مع نفسه ومع الآخرين، ويتحدث يصوت هادئ عميق عامر بالدفء الانسانى، وتطل من عينيه نظرة حانية مفعمة بروح الابوة ومعانيها التى تؤكدها لحيه تشع بياضا فوق صفحة الوجه باسمراره الداكن وملامحه الودودة التى توحى بالطمأنينة والأمان والسلام .
رجل من جيل الآباء ممن عاشوا حياة تشبه حياة ابطال الاساطير، وسط هذه البيئة الصحراوية القاسية، العنيفة، ذات الموارد الشحيحة، وتآزرت مع البيئة، قوى
الطمع والجشع التى صنعت ظاهرة الغزو والاستعماري، وأنبتت تيارات اجرامية فى الفكر والسياسية، مثل النازية والفاشية، التى كان هذا الرجل، وأبناء جيله، ضمن ضحاياها،
الا ان هذه المسيرة الحافلة بالأهوال والمعارك، لم تستطع كسر ارادته وانما جعلتها اكثر عنادا وإصرارا على المواجهة والتحدى، وأغنت وجدانه بالتجارب العميقة التى خرج منها اكثر ايمانا وتقوى، وسكبت فى روحه، رحيق الحكمة، التى لا يفوز بها الانسان الا بالكفاح والكدح والصبر على الشدائد، ومغالبة الاهوال والمهالك، وكان الحصاد هذه الشخصية الثرية، النبيلة، وهذه الشيخوخة الهادئة المطمئنة الكريمة، التى يعيشها السيد " خير غزال " فى دارته الانيقة الجميلة ببلدة مزدة .
كان عمره لا يزيد عن سبعة عشر عاما عندما وجد نفسه عام 1936 يساق
مرغما الى حرب لا شأن له بها، ضمن جنود الحملة الايطالية التى سافرت من طرابلس الغرب الى بلاد الاحباش لغزو تلك البلاد ووضعها تحت سيطرة ايطاليا الفاشية .
لم يكن هو الفتى البدوى اليافع الذى يرعى الشياه فى بادية مزدة، يعرف شيئا عن المهمة التى يسقونه اليها، او البلاد البعيدة الذى سينتهى به المطاف محاربا فوق
ارضها، ولم يكن يستطيع الا ان يقابل بالدهشة كل شيء يراه، بدءا من التدريب على ا لسلاح، والتدريب على ركوب الطائرة الحربية، والقفز منها كغيره من جنود المظلات، ثم ركوب السفينة التى تمخر البحر، وفوقها خمسة آلاف جندى أى خمسة او ستة أضعاف سكان بلدته مزدة فى ذلك الوقت .
ثم البحر بأمواجه العاتية، فى رحلة تستغرق اكثر من اسبوعين من طرابلس الى الشاطئ الجنوبى لأفريقيا، وبالتحديد شاطئ الصومال الايطال، كما كانوا يسمونه فى
تلك الفترة .
كل ذلك كان يشكل مصدر دهشة واستغراب، للفتى البدوى الذى كان فى حالة
ذهول، غير مدرك ابعاد هذه الصورة التى يتحرك فى اطارها، ولا المأزق الذي يساق اليه، والمكيدة التي تدبر له، كانوا قد اخذوه، ضمن مجموعة من شباب البلدة، وكان الامر يصدر من الحاكم الايطالى الى شيوخ القبائل بتجنيد كل رجل قادر على حمل السلاح، فيسعى الشيوخ لتحقيق تلك المعادلة الصعبة وهى ارضاء الحاكم دون الحاق اضرار جسيمة بأهلهم وقبائلهم، فيجندون للحاكم بعض الرجال، ويتغاضون عن البعض الاخر لكي لا يحرموا اسرة من عائلها. يأخذون من هو أصغر سنا، لم تعتمد عليه العائله بعد، مثل "خير غزال " الذى وجد نفسه ضمن المجندين الذين تم تدريبهم وإرسالهم الى شواطئ الصومال، للانضمام الى الجبهة الجنوبية، فى حين ذهبت سفن اخرى الى شواطئ اريتريا، للانضمام الى الجبهة الشمالية التى يقودها المارشال " بادوليو"، وكانت المفاجئة التى تنتظر المجندين الليبيين هى ان رئيس الجبهة الجنوبية، لم يكن غير الجنرال "جرسيانى " المشهور باسم" جزار ليبيا" والذى سقط على يديه عشرات الآلاف من الشهداء من اهل هؤلاء المجندين الليبيين، كان اخرهم شيخ الشهداء " عمر المختار " عام 1931. لان " جرسيانى " انتقل من ليبيا، بعد ان اباد جزءا من الشعب الليبى فى معسكرات الاعتقال، وقضى على المقاومة الشعبية، ليظهر من جديد قائدا لهذه الجبهة، وبالتالى قائدا لهؤلاء المجندين الذين اجرم فى حق بلادهم . مفارقة مؤلمة من مفارقات تلك الحرب بالنسبة لهم، الا ان السيد " خير غزال " الذى كان فتى فى اول مراحل الشباب، لم يكن واعيا بتلك المفارقة، وكان امامه وقت طويل ليتعلم من زملائه الكبار الدوافع والأسباب وراء وجودهم فى ذلك المكان، كما كان هو وبقية الليبيين يتعرضون لعملية غسيل مخ مستمرة، من اجل ان يحصل منهم الايطاليون على اداء حربى قوى، لان هؤلاء الايطاليين، عندما قاموا بحملتهم لغزو ليبيا، جلبوا معهم جنودا من مستعمراتهم الافريقية، وبالذات من اريتريا، وكانوا يطلقون عليهم " احباشا"، فربطوا بين المجازر التى اقاموها للشعب الليبى اثناء الغزو، وبين هؤلاء المجندين الافارقة الذين كانوا يعملون تحت اوامر الايطاليين .
وفى لعبة استعماريه مكشوفة ارادوا ا قناع المجندين الليبيين بأنهم الان يذهبون فى رحلة مقدسة لرد الثأر، والانتقام من هؤلاء الاحباش، الذين سفكوا دماء اهلهم، هذا طرف مما يرويه لى السيد " خير غزال "، ويتحدث ايضا عن وصوله لأرض غريبة لم يكن يظن ان هناك شيئا يماثلها فى الدنيا، خاصة تلك الادغال والغابات التى كان يقطعها مع بقية افراد الجيش سيرا على الاقدام، وعن اساليب المقاومة المسلحة للأحباش والذين كانوا كثيرا ما فاجأوا فرقته وقفزوا على جنودها من فوق قمم الاشجار، مسلحين بالسكاكين والسهام والرماح، ويقاتلون وهم يطلقون الزغاريد وصيحات الفرح، وعن المرأة الحبشية أخت النجاشى، التى قادت جيش الحبشة ضدهم ببسالة وكفاءة، وعن استعمال الايطاليين للطائرات فى القتال، وكيف كانت ترمى لهم بالمؤونة وهم محاصرون فى الغابة وبين الجبال، وترمى على القرى والمدن الحبشية بالغازات السامة، فيكون لها الفضل فى حسم المعركة لصالح الايطاليين،)وكلمة "
فضل "هنا لا تنطبق على المقام لان ما حدث خزى وخيبة وعار من طرف الفاشيين (. والخسة تتمثل ايضا فى انهم كانوا يضعون الليبيين فى المقدمة ليكونوا بمثابة ذرع يحمى الجنود الايطاليين من هجوم الاحباش، كما يحتوى كتاب الجرائم حرق اكواخ القرويين، انتقاما لضابط ايطالى قتله الوطنيون الاحباش، او لمجرد الانتقام ورد الاعتبار بعد هزيمتهم فى احدى المعارك مع الجيش الحبشى، ومن جانب اخر فقد كان الليبيون كما يقول السيد " خير غزال"، تجنبون اى قتال مع المسلمين الاحباش، او مهاجمة قراهم، كما قام بعضهم بتقديم المعونة سرا لعناصر المقاومة الاحباش، ومدهم بالمعلومات والسلاح، لاستهداف مواقع القيادة الايطالية،وقد كان الجنرال " جرسيانى " هدفا لمحاولات اغتيال نجا منها ليحتل فى النهاية الحبشة، ويتم تنصيبه حاكما عاما لها، ونائبا لملك ايطاليا فى عاصمتها " أديس أبابا ."
ذكريات كثيرة يحملها هذا الرجل الثمانينى، استمعت لبعضها باعتباره شاهدا على
فصل من الفصول التى عاشها، وعاشها معه رجال من اهل قريته، واخرون من كافة مناطق ليبيا، ذهبوا يقاتلون في حروب الايطاليين، عسفا وظلما وقهرا، وقضى بعضهم في تلك الحروب، وعاد بعضهم ليقول شهادته عن تلك الفصول المؤلمة التي عاشها شعبنا في ظل المستعمرين، وهناك في جعبته وقائع وأحداث قد يتسع الوقت لكتابة طرف اخر منها .
نماذج شعبية اختفت من حياتنا
لا استطيع ان اترك الحديث عن ذكريات القرية، دون ان اعرج على وصف النماذج الشعبية، التي تمثل جزءا من تراثها، وتعبر اصدق تعبير عن روح الحياة فيها، وتشكل تجليا وتجسيدا لبعض عاداتها وتقاليدها، وكان اهم هذه الشخصيات واكثرها حضورا في المناسبات المفرحة والحزينة، والذي يحظى بحب الصغار قبل الكبار، هو خالي سليمان، ولا ادري لماذا يطلق عليه الناس لقب خالي، ولكن هكذا وجدتهم ينادونه، منذ ان بدأت اعي ما حولي . استطيع ان اخمن ان عمره في ذلك الوقت، عندما بدأت التعرف على شخصيته، كان في الاربعينات، في تلك الفترة من اواخر اربعينيات القرن الماضي، ولم يكن قد تزوج بعد، كما كان يرتدي قميصا طويلا، فقد كان ايضا يرتدي معطفا صيفيا كبديل للعباءة التي لم يكن يرتديها وكان يحيط وجهه بلثام يغطي فمه اوانفه بسب شق في شاربه الاعلى أراد ان يخفيه عن الناس، ولم يكن خالي سليمان يمتهن عملا معينا، فكل الاعمال في البلدة عمله، كان اشبه بمتعهد احتفالات القرية، ومناسباتها المفرحة والحزينة، فلا يمكن ان يقام عرس او مأتم، دون ان يكون خالي سليمان، هو الشخص الرئيسي في تنظيمه وترتيبه، وهو يفعل ذلك تطوعا ودون اجر، غير ما يتناوله من طعام وشراب، وهو لا يكتفي بانجاز المراحل الاولى للحفل التي يحتاج فيها اهل الفرح اذا كان فرحا، لشراء ما سينحرونه من خراف، واحضار من يتولى مساعدته في الذبح والسلخ، ثم احضار من يقوم بالطبخ وتدبير ما يحتاجه أهل الحفل من اطباق وصحون واكواب وقدور، وانما يقوم بالبحث عمن سيتولى احياء الحفل بالغناء، ويذهب بنفسه لابلاغ الناس بالحضور فيدق عليهم بيوتهم، او ينتقل اليهم في بساتينهم ودكاكينهم ومكاتبهم، ويلاحقهم في المسجد والمقهى دون ان ينسى احدا، او يهمل دعوة شخص مهما كان ضئيل الشأن، ثم يتولى بنفسه الترحيب بهؤلاء الضيوف، عند وصولهم الى مكان الحفل، ويقودهم الى مكان جلوسهم، ويتولى اثناء البدء في مآدب الطعام، خدمتهم، اذ يحضر لهم صحون الطعام ويقوم بسكب الماء على أيديهم عندما يغسلونها قبل الاكل وبعده، اما في المآثم فهو اول من يحفظ الروتين الذي قد لا يعرفه كل الناس، فيتولى نيابة عن اهل الميت تدبير من ياتي للقيام بطقوس الغسل، ومن يتطوع لحفر القبر، ومن سيقرأ القرآن على روح المرحوم ثم او او المرحومة، يطوف على الناس لابلاغهم بموعد الجنازة، وفي الحالتين، أي في حالة الحزن او الفرح، يكون الخال سليمان هو اخر من يعود الى بيته، لانه غالبا ما يقيم ليلا ونهاراً في مكان العرس او المأثم، ولا باس في الايام الاخري من ان يراعي حاجات الناس، بما في ذلك ربات البيوت، ليساعد امرأة عجوز في حمل طحينها الى المطحن، او شراء حاجة لها من السوق، كما كان الناس جميعا يلجأون اليه في المهمات الصعبة، ومثال ذلك اصحاب السيارات ممن امتلكوا هذه الكائنات الحديدية، قبل ان تكون القرية مؤهلة لانشاء ورشة لاصلاح السيارات، فكان هؤلاء الناس يلجأون اليه عندما يصيب العطب سياراتهم، لانه هو الذي يعرف سائقا، او رجلا وافدا على القرية، يجيد اصلاح المحركات، او يعرف مكانا يحضر منه قطعة غيار للسيارة المعطوبة، وكان الخال سليمان رجلا شهما مرحا، صاحب دعابات واحاديث ساخرة، وكان مكانه المفضل الذي يحب ان يقضي فيه اوقات فراغه هو المقهى، حيث يجلس للعب الورق مع بقية الزبائن، وينتظر من يأتي من اهل القرية يطلب خدماته، ليترك المقهى ويقوم مسرعا لنجدته، وكان يحب ان يزورني في دكان والدي عندما اكون فيه بمفردي، لان والدي ذهب للصلاة في المسجد، فادعوه للجلوس واعتذر لان سخان الشاي ليس جاهزا كما هو الحال عندما يكون والدي موجودا، ومستعدا لاستقبال ضيوفه بكأس الشاي، فيقول لي الخال سليمان ساخرا ومداعبا ان عدم وجود الشاي جاهزا، لا يمنع من أن يأخذ الشاي في شكل حشائش بما يلزمه من سكر، لاعداده في البيت، فاقوم من فوري، وبسبب حبي له، فاضع في قرطاس الورق قليلا من الشاي وفي قرطاس آخر ما يناسبه من السكر وانا احس بالفرح لانني خدمت هذا الرجل الذي كرس حياته لخدمة الاخرين، وقد توفي الخال سليمان في منتصف السبعينيات وبوفاته تغير شكل الحياة في القرية واختفى مثل هذا العمل التطوعي الذي لا يتولاه شخص من خارج العائلة الا باجر، واصبح القول الذ ي قالته والدة الشاعر عمرو بن كلثوم لام الملك عمرو بن هند عندما سألتها ان تقضي لها حاجة من الحوائح، وهو ان كل من له حاجة عليه ان يقوم بها بنفسه، الا ان القرية كافأته واعطته بمثل ما عطاها فقبل سنوات عديدة من وفاته قام اهل القرية باختيار عروس له، وتولوا كل ترتيبات الفرح، كما انهم استطاعوا ان يبذلوا جهودهم مع سلطات الحكم المحلي، فكان من اول الفائزين بمسكن شعبي من المساكن التي شيدتها الحكومة في ذلك الوقت، واعطتها مجانا لفقراء القرية، واذكر انني زرته في اواخر عمره، وكان طريح الفراش، في بيته الشعبي، وكان على الرغم من المرض مازال قادرا على الدعابة والحديث المرح، الا ان الوقت قد تأخر عن تسجيل أي شيء من ذكرياته ومحفوظاته، لان شعرا كثيرا كان الناس يقولونه في مثل هذه المناسبات التي تضم احياناً كبار الشعراء وحفاظ الشعر، فكان الخال سليمان يعرفه ويستظهره احيانا، بل ان لبعض هؤلاء الشعراء قصائد، كان الخال سليمان احد ابطالها، لانه يذكرونه شاهدا ويذكرونه شخصا امينا نزيها محبا للناس والحياة، وقد اخذ الخال سليمان كل هذا الشعر، وكل هذه الذكريات معه الى القبر عندما مات، لاننا لم نكن من النباهة بحيث نسجل منه ما عاشه من تجارب خصبة غنية، وما رواه عن اولئك الشعراء الذين رحلوا الى دار البقاء قبل اعوام من رحيله.
ونماذج اخرى
مواصلة للحديث عن بعض الشخصيات المتميزة التى عرفتها فى القرية، لابد أن اذكر واحدا من اصدقاء والدى الحميمين، يماثله عمرا، ويتوافق معه مزاجا، حيث كان يقضى امسياته جالسا مع والدى امام الدكان او في وسطه حول عدة الشاى، صحبة عدد من الاصدقاء الآخرين، الا ان " الاومباشى " كما كانوا يلقبونه، هو الذى يسيطر على الحديث، اغلب الوقت، فقد كان روائيا بالفطرة، تتدفق الحكايات على لسانه يسيرة، سهلة، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح، وهى ليست حكايات شعبية، او قصصا من نسج الخيال، وانما تجارب عاشها، ووقائع مرت فى حياته الغنية الحافلة بالأحداث، فقد عرف السفر والترحال منذ أعوام الطفولة، يصحب القوافل التى تسافر الى الجنوب، وقد ورد ذكره فى بعض القصائد الشعبية باعتباره أصغر من قطع الصحراء من ابناء القرية، ولذلك قصة طريفة، فقد عير احد الشيوخ واسمه " احمد النعاس " صاحبه "على الماي"، لأنه يريد ان يقطع الصحراء بناقته العجوز المثقلة بأعباء حوارها الرضيع قائلا :
ياسى على فزان ما توصلها
تلبة كبيرة والحوار قتلها .
فرد عليه صاحبه بقصيدة جاء فيها :
ياسى حمد فزان ما هى جوبة
والعبد كان ما وصله مكتوبه
حتى " حمين " قبلنا واصلها
" وحمين " الذى تشير اليه القصيدة لأنه قطع الصحراء ووصل الى فزان، هو تصغير لـ " عبد الرحمن حموده "، اي الاومباشي نفسه، الذى كان طفلا عندما ذهب صحبة إحدى القوافل، ثم ظل يعمل بتجارة القوافل ويسافر معها الى مختلف بقاع الأرض، وعندما أعدت إيطاليا جيشا لغزو الحبشة فى منتصف الثلاثينيات، استعانت ببعض المحاربين الليبيين، وأصحاب الخبرة فى التعامل مع الأفارقة مثل " عبد الرحمن حموده "، وعملت على اغرائهم، وأحيانا ارغامهم على العمل معها فى هذه الحملة، وكان هو ضمن المحاربين الذين ذهبوا الى بر الأحباش، وبقى هناك بعد انتهاء الحرب ضمن العاملين فى الإدارة الإيطالية لبضعة أعوام، حتى جاءت الحرب العالمية التى أنهت الاحتلال الايطالى للحبشة فعاد للقيام بأعمال اخرى وأدوار أخرى لم أعد أذكرها، رغم أنه كان ياتى على ذكرها فى مجلس والدى، حيث كنت اتخذ مكانا قريبا من هذا المجلس أعاون والدى فى الدكان، واستمع لحكايات هذا الرجل، وعندما كبرت وسافرت الى المدينة ازددت معرفة بأهمية هذا الرجل، وقد كنت التقى فى المدينة برجال يماثلونه فى العمر، عاشوا معه وسافروا الى بلاد الاحباش مثله، والتقوا به فى " فزان " او برقه، وعندما يعرفون اننى من " بلدة مزدة " يبادروننى بالسؤال عنه ويحملوننى تحياتهم اليه، حيث كان مازال على قيد الحياة فى ذلك الوقت، فكنت انقل اليه هذه التحيات فور ان اعود الى القرية، وقد رحل دون ان يفكر احد فى تسجيل جزء من هذه الحكايات الكثيرة التى عاشها والتى قضى جزءا من عمره يحكيها لأصدقائه .
من بين هؤلاء الرجال، الذين كانوا يترددون من وقت الى اخر على دكان والدى لحضور جلسات المساء، قريب من اقاربنا، فتح فى اواخر عمره دكّانا للجزارة، وكان رجلا مشهودا له بالبسالة فى الحروب هو " احمد بن محمد " فقد كان مرافقا للمجاهد الكبير سيدى " احمد السنى " وخاض معه اغلب معارك العمر . واثخنت جسمه الجراح من اثر هذه المعارك التى شارك فيها، وكان كثيرا ما يحمل الرسائل من السيد احمد السنى فى منطقة " مزدة " الى والده فى واحة " الجغبوب " على الحدود الليبية المصرية، اى مسافة الفى كيلو متر، يقطعها مشيا على الأقدام وسط مفازات صحراوية وشعاب جرداء، بكل ما يصاحب هذه الرحلة من مفارقات وما يعترضها من صعاب، وما يعانيه صاحبها من برد او قيظ او جوع اوعطش وفقا لاحوال الطقس ومفاجآت السفر .
اذكر من الحكائين الكبار رجلا اخر اسمه " عبد الله بشير " عاش ردحا كبيرا من عمره خارج القرية، متجولا فى انحاء البلاد اثناء عمله مع الادارة الايطالية بعد انتهاء المقاومة، ثم عاد فى شيخوخته الى القرية التى بقى بها الى ان توفى فى منتصف السبعينيات، واذكر انه ترافق فى العمل مع الحاج " محمد حقيق " صاحب التآليف الشعبية، الذى توفى هو أيضا فى الفترة نفسها وقد ذكر لى الحاج حقيق انه استفاد من قريحة وذاكرة " عبد الله بشير " الذى كان رغم إجادتة للحديث باللغة الايطالية، " امى " لا يقرأ ولا يكتب، الا انة صاحب فصاحة وبيان باللهجة الشعبية، وصاحب معين لا ينضب من الحكايات، وقد رافقته اكثر من مرة فى رحلات بين مزدة وطرابلس، فكان طوال الرحلة التى تستغرق ثلاث ساعات، لا يتوقف عن سرد الحكايات، وكنت انصت مبتهجا لحديثه، لا احس بطول الطريق ومرور الوقت حتى اصل الى البيت .
وقبل ان انتقل الى الحديث عن سيد هؤلاء الحكائين وملك الرواية الشفهية واسمه "الطاهر حنيش "، الذى ذهب هو الاخر الى حرب الحبشة، وشارك فى الحرب العالمية الثانية، وبقى اسيرا لدى الانجليز اكثر من خمسة اعوام، والذي ساعود الى حكاياته في موضع اخر من السيرة، سأذكر احد الحكائين المتأخرين، وقد مات منذ عامين فقط، واسمه " سوف الجين " على اسم اكبر الاوديه فى منطقة " مزدة "، وقد كان هو الآخر لا يقرأ ولا يكتب، ويعمل سائقا لأحدى الحافلات التى تعبر الصحراء، الا انه صاحب موهبة عظيمة فى سرد القصص، وكانت تربطنى به علاقة ود وصداقة، فأقضى كلما ذهبت الى القرية وقتا بصحبته، استمع الى حكاياته وطرائفه، وكان الذين يسافرون معه فى الحافلة عبر" الحمادة الحمراء " يعتبرون السفر معه نزهة وترفيه، لأنه لابد ان يقف بهم فى منتصف الطريق ليشعل النار ويعد لهم شايا فى الصحراء، وفى مرة اخرى يطهى لهم طعاما يشتركون فى دفع ثمنه، مستفيدا من مرونة المواعيد بالنسبة لمثل هذه الحافلات، التى تعبر الصحراء مستمتعا بإنصات هذا الجمهور الغفير لقصصه وحكاياته.
وعندما اصيب سوف الجين بجلطة الزمته الفراش، ثم قضت عليه بعد ذلك، استغربت كيف يمكن لهذا الانسان الخلى البال، المفعم بالمرح وروح الدعابة، الذى يأخذ الحياة مأخذا سهلا يسيرا، ويمضى معها ضاحكا هازلا لاعبا، ان تعرف مثل هذه الامراض المرعبة طريقها اليه، وهى امراض يربطها الاطباء بالضغوط النفسية، والكدر والضيق والتشنج والعصبية وحدة المزاج، وهى اشياء لم يكن لهذا الصديق الراحل اى علاقة بها .
الهروب من القرية
لا أظن ان الحياة فى ظل الإدارة الاستعمارية وخلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، كانت تتيح فرصة الهجرة من القرية الى المدينة، بمثل ما كانت تتيحها ظروف الحياة بعد انتهاء العهد الاستعمارى .لان الذين اختاروا الانتقال الى المدينة من أهل قريتنا كانوا يمثلون نسبة ضئيلة جدا مقارنة بالخروج الكبير من القرية الذى رافق السنوات الأولى من الاستقلال، خاصة بالنسبة للشباب الذين نالوا تعليما اوليا فى القرية ثم ذهبوا لمواصلة تعليمهم خارجها، واستقرت بهم الحياة بعد ذلك فى المدينة، عدا نسبة قليلة ممن عادوا لشغل بعض الوظائف الحكومية او التدريس بها .
وليس ما يعنينى الآن هو هذا النوع من الهجرة، وانما نوع اخر يمكن ان نطلق عليه هروبا او فرارا، وذلك الانتقال الذى يأتى فجأة، وتعقبه قطيعة مع الأهل لا يدرى الا الله متى تنتهي، كما حدث فى الحرب العالمية الثانية، مع عم لى سبق ان جئت
على ذكره هو " الفقى على " الذى ترك القرية ومعه ابنه، ولم يعد اليها ولم يتصل بأحد من أهله فيها، وانقطعت أخباره واخبار ابنه،منذ ساعة مغادرتهما القرية، ورغم محاولة فهم اسباب تركه للقرية بهذه الطريقة المفاجئة، إلا اننى لم أظفر بأى اجابة، كل ما يمكن أن اتكهن به هو أنه خرج مغضبا وأنه لم يحاول بسبب هذا الغضب، ان يقوم بأى اتصال ليقول اين استقر به المقام، رغم أن لديه ابنة متزوجة، كانت واجبات الأبوة تقتضي ان يتصل بها، ويطمئنها على نفسه، وعلى شقيقها الذى أخذه معه الا أنه لم يفعل.
او لعله فعل ورسالته لم تصل فى تلك الأيام البالغة القسوة لأن كل حكايات الأهل عنه تقول انه كان رجلا رقيق المشاعر، جياشا في عواطفه، ولم تكن رحلاته السابقة لهذه الرحلة التى كان يفارق فيها القرية، تزيد عن عدة اسابيع او اشهر، يقضيها فى البادية لتعليم أهلها القراءة، ثم يعود، أما هذه الرحلة فإنه لم يعد منها ابدا، كل ما وصلت عنه من أخبار أنه ذهب الى شرق البلاد، أو ما كانوا يسمونها منطقة " برقه"، وظل هناك الى ان مات، ولا بد ان ابنه الصبى مات ايضا، لان العائلة وبعد ما يقرب من ثلاثة عشر عاما من رحيله استنفدت كل الوسائل بحثا عنه دون فائدة فقد ارسلت من يقتفى اثره واتصلت ببرنامج المغتربين في الإذاعة لتقديم بلاغات عنه عبر الأثير دون فائدة، وقد كان برنامج " بريد المغتربين " برنامجا يحظى بشعبية وإقبال كبيربين، لان ظروف الحرب وما رافقها من مجاعات، جعلت أناساً كثيرين يغادرون اوطانهم، بحثا عن فرص العمل، التى لم تكن فى ذلك الوقت موجودة إلا مع الجيوش المتحاربة. ولم يكن ممكنا أن تجد الناس وسيلة اتصال افضل من الاذاعة التي بدأت عام 1956 إرسالها علي المستوى الوطني، للبحث عن أنباء الذين هجروا قراهم واستقر بهم المقام قي مكان اخر .وقد ظل مصير عمي علي وابنه محمد غامضا حتى هذه اللحظة.
الرجل الثاني الذي ترك القرية،وغادر الاسرة هاربا،هو ابن عم لي اسمه "علي" ورغم انني لا أعرف شيئا عن ظروف هروبه في اوائل الاربعينات،عدا البطالة،فإننى اعرف كل شيء عن ظروف عودته بعد عقد ونصف من غيبة طويلة، عاشها بعيدا عن القرية، يلتقط لقمة عيشه عن طريق اعمال يدوية عضلية، لأنه لم يكن قد نال أى حظ من التعليم .
وقد حدث مرة ان ارسله احد التجار مع سيارة نقل من "بنى غازى " الى" طرابلس " لينقل له بضاعة اشتراها من اسواقها وتشاء الصدفة ان يمر احد شباب العائلة وكان يماثله فى العمر، ويعرفه منذ ايام الطفولة والصبا، من امام الدكان حيث تقف السيارة، ورآه يساعد العمال فى نقل البضائع فأشتبه عليه الأمر، وأحسّ بقوة الشبه بين هذا الرجل وابن عمه الغائب، فأنتظر امام الدكان حتى وجد فرصة يسأل هذا الرجل ان كان هو فلان ابن فلان فما كان منه إلا انه انهار باكيا وهو يحتضن ابن عمه ورفيق طفولته .إلا أنه رفض الرجوع الى القرية، قائلا بأنه على مدى الأعوام التى مضت، كان يحلم بالعودة متشوقا الى أن يرى امه وأباه العجوزين، وأخوانه الذين لم يرهم طوال كل هذه الأعوام، وكان يؤجل يوم العودة الى ان يوفر مبلغا يعود به الى أهله، ويفتح به دكانا أو يشترى أغناما، ولكنه فشل حتى الآن فى توفير هذا المبلغ، وهو سيحس بخيبة الأمل والفشل، اذا عاد على هذا النحو، الا ان قريبه اقنعه اذا تأخر فى العودة أكثر من ذلك، فإنه لن يجد أحدا من والديه حيا، لأنهما بلغا من العمر عتيا .
وسيكون اثما عظيما ان يبخل عليهما بهذه العودة، ولم تمضِ إلاّ بضعة أيام على هذا اللقاء، حتى عاد الابن الغائب الى قريته والى أهله، واكتسب فى القرية اسما جديدا وهو" الشرقاوى"، لكونه عائدا من شرق البلاد، متأثرا في نطقه بلهجة تلك المناطق. وكان الشرقاوى يملك موهبة فى سرد الأحداث، وروايتها، وكنت استمع للحكايات التى يرويها عن سنوات اغترابه، وما صادفه خلالها من عجائب وطرائف ومتاعب، وأما أخر قصص الهروب فقد حدثت فى بيتنا وقام بها أخى غير الشقيق واسمه "على " ايضا، وكنت واعيا بما حدث، لأنه حدث فى بداية الخمسينيات و" علي" قد شارف العشرين من عمره، حيث اراد فى لحظة ضيق وكدر من الحياة فى القرية، ان يهجرها، ويبحث عن مستقبله فى مكان اخر، ولأنه يعرف ان والده سيعارضه ويمنعه بالقوة من السفر، صمم ألا يخبر أحدا من افراد العائلة، الى ان مر النهار كله ولم يعد الى البيت، فأرسل والده يبحث عنه، ليعرف ان ابنه غادر القرية فى سيارة نقل متجها الى " طرابلس "، وكان الخبر صدمة للأب الذى بدأ يرى فى ابنه الكبير الرجل الذى سيتحمل معه اعباء الحياة، وحانت فرصة لذهاب الوالد الى العاصمة، فمضى يبحث بين أهل القرية هناك عمن قد رأى ابنه، وكان الجواب المؤسف الذى يتلقاه فى كل مرة انه لم يرونه، واستيقظت فى قلبه جراح الأخ الشقيق الذى سافر الى مصيره المجهول، فازداد قلقا بعد ان عاد يائسا الى القرية، ومرت عدة اشهر قبل ان يأتى من مدينة بنى غازى، شاب من أهل القرية يعمل جنديا فى الجيش الليبى، ليقول انه رأى عليا هناك، وأنه الأخر انضم للعمل في الجيش، وأنه سيأتى لزيارة أهله عندما يحين موعد استحقاقه للأجازة السنوية . كان هذا الخبر يكفى لأن يصنع فرحة فى البيت، ويعيد إلى الأب المفجوع فى غياب ابنه الابتسامة التى هجرت وجهه .
وفعلا عاد الابن الغائب الى بيت اسرته زائرا، قبل نهاية العام، يداوم الزيارة فى الاجازات والمناسبات الى حانت فرصة انتقاله من الجيش الى الشرطة، ورجع ليقيم في البلدة قريبا من اهله، مستمتعا برضا والده عليه.
بين الجبل والصحراء
مناسبات نادرة تلك التى غادرت فيها بلدتى الى قرى ومراكز حضرية اخرى، قبل انتقالى منها للحياة فى العاصمة، والسبب هو أنها تقع فى منطقة نائية، حيث لا وجود لقرى
على مسافة ثمانين كيلومترا، فى منتصف الطريق الى العاصمة طرابلس، خاصة وان الدواب، مازالت فى تلك الارياف، هى الوسائط التى يسافر بها الناس فى اغلب تنقلاتهم، لذلك اقتصرت تنقلاتنا ورحلاتنا على الأودية والشعاب القريبة، حيث يلتقط اهل البلدة رزقهم، رعياً وحرثاً وحصادا .
هناك رحلة واحدة سافرت فيها مع جزء من عائلتى الى قرى الجبل الغربى وأنا في حوالي العاشرة، اثناء موسم جنى التين، حيث اقمنا هناك خلال فصل الصيف . والنظام الذى كان متبعاً فى تلك القرى الجبلية مثل الاصابعة والقواليش، التى تشتهر بأشجار التين، هو قيام اهل القرية ممن يملكون عدداً من بساتين التين، بتأجيرها طوال الموسم لمؤجرين يأتون من خارج هذه القرى، فيعيشون على ثمارها خلال تلك الفترة، ويعودن بما يجففونه منها الى مقر اقامتهم الأصلى ..
ولا ادرى شخصيا، ماذا كان الدافع وراء هذه الرحلة .لعله نوع من النزهة الصيفية على طريقة اهل الريف، وإقتداء بعائلات من اهل قريتنا سبق لهم ان قاموا بهذه الرحلة، مما دعا والدى الى ارسالنا الى هناك، وبقى للاهتمام ربما بحانوته فى البلدة، ووجدت نفسى انا وأخى الاصغر " محمد "، وعمتنا التى تتولى تربيتنا، نقيم فى خيمة على مشارف تلك البساتين، ومن حولنا نجوع ومضارب اخرى، نمرح وسط بستان مليء بالأشجار المثمرة بثمار التين، صار ملكا لنا لمدة شهرين او ثلاثة، فكنا نتغذى بثماره ونترك بعضها ليجف بحيث يسهل جمعه فى شكائر، عدنا بها فى نهاية الموسم الى بلدتنا . وكان وجودنا فى تلك المنطقة مناسبة لزيارة اصدقاء وأصهار للعائلة يقيمون فى عاصمة الجبل الغربى " غريان "، وكانت المفاجأة اننى وجدت الناس هناك لا يقيمون فى منازل مبنية فوق الارض مثلنا، ولا يقيمون فى خيام مثل اهل الريف والبادية، وإنما فى بيوت محفورة فى جوف الأرض، لها نظام عجيب لم ار له مثيلا فى كل ما رأيته من بيوت بعد ذلك، فهى لم تكن كهوفا او نوعا من الغيران المنحوتة فى الجبال، وانما بيوت لها نفس نظام البيت المبنى فوق الارض، الا ان هذه البيوت محفورة فى جوف الارض، وهى ارض منبسطة وبيوت كأنما بنيت فوق الارض ثم جاء من حفر حفراً بذات الحجم واسقط فيها هذه البيوت حتى استوى سطحها بسطح الارض، الا انه سطح مفتوح على السماء، ومنه يأتى الضوء والهواء لمجموعة الحجرات التى تصل الى خمس وست حجرات، ولكل بيت مدخل طويل، هو عبارة عن سرداب ينحدر من مستوى الارض الى مستوى ارضية البيت، ولا تستطيع وأنت تمشى فى طريق البلدة ان تميز هذه البيوت الا بتلك الحواجز الترابية التى تحيط بها، لتمنع دخول السيول عند هطول الامطار.
وعرفت اثناء تلك الزيارة، اغلب البيوت فى قرى غريان على هذه الشاكلة، وبقيت كذلك الى الستينيات عندما بدأ الناس يبنون بيوتا عالية، بالا حجار والاسمنت، وتخلوا عن هذه البيوت التى بدأت تختفى، او تتحول الى اماكن للتخزين .
كانت هذه هى الرحلة الوحيدة التى عدت منها الى القرية بحصيلة من المعلومات، يمكن لى ان استخدمها فى المقارنة بين مستوى الحياة فى قريتنا ومستواها فى القرى الاخرى، وعرفت اثناءها، ان هناك مناطق اكثر خصبا وازدهارا، فالأرض كانت كلها خضراء عامرة بأنواع كثيرة من اشجار الفاكهة مثل التين والعنب والتفاح والبرقوق والكمثرى والمشمش، وغابات كثيفة من اشجار الزيتون، بينما كانت مزدة واحة صغيرة، تملك مساحة محدودة جدا من الارض الخضراء، يحيط بها بون صحراوى، شاسع، قاحل، وجبال جرداء، عارية، الا من الصخور الحمراء والسوداء، وعلى مستوى اخر، فإننى لم ار فى تلك المناطق بيوتا مثل هذه البيوت الواسعة الكبيرة التى نملكها فى القرية، وأبراجا عالية مثل ابراجنا، ولهذا فقد كان احساسى بالغبن لغياب تلك البساتين والمزارع والحقول الخضراء، يوازيه احساس بالفخر والاعتزاز بوجود هذه البيوت الواسعة الكبيرة التى يقيم بها أهلى.
رمضان فى القرية
برغم قسوة الحياة فى قرية ليبية على حافة الصحراء، وسوء أحوال المعيشة وانخفاض مستواها لدى أغلب الناس بما فى ذلك تجار القرية وأصحاب الدكاكين فيها، وهى الفئة التى تنتمى عائلتى إليها، خاصة فى حقبة الأربعينيات، أى تلك الأعوام التى أعقبت الحرب العالمية الثانية بما رافقها من كساد وشقاء وضنك، فإن شهر رمضان الكريم يأتى ويأتي رزقه معه، يصل وهو يحمل معه دائما بشائر الخير واليسر والبركة لكل البيوت، ونظل كبارا وصغارا نتطلع الى اشراقة هلاله، حتى لو جاء فى صيف قائظ شديد الحرارة لأننا نعرف أن لرمضان مكافآته الكثيرة، وأن هناك فوق الأجر والثواب، تلك الحالة الاجتماعية التى تجعله شهرا يختلف عن بقية أشهر العام حيث تلتئم العائلات ويحضر الغائبون، ويكثر الأضياف وتطول جلسات السمر، أما الموائد فإنها عامرة بالطيب من الطعام والشراب الذى لا نراه إلا خلال هذا الشهر، وبالنسبة لنا نحن الأطفال فإننا نتطلع الى هذه الموائد ونتطلع الى ما يرافقها من حلويات، بعضها يكون الوالد قد أحضره من المدينة، فلا تظهر إلا على موائد الإفطار، كما نعرف اننا سننعم بوقت من السمر والمرح، يختلف عن بقية الليالى التى يذهب خلالها الناس الى النوم مباشرة بعد صلاة العشاء .
طعام أهل القرية فى الأيام العادية لا يزيد عن طبق واحد، بما فى ذلك الموسرين منهم، بل يمكننا القول أن ذلك ينطبق على كل الليبيين فقراء وأغنياء، الطبق الواحد يشملهم جميعا، ويبقى الفرق فى نوع هذا الطبق وقد يكون حساء أصفر لا نكهة فيه غير نكهة الكركم، وهو الإدام التى يستخدمه الفقراء الليبيون مع العجين المطبوخ الذى نسميه " العيش " أو طبقا عامرا باللحوم كما فى بيت الأغنياء .
أما فى رمضان فإن الأطباق تتنوع فى بيوت كل أهل البلد فمن تقاليدنا فى هذا الشهر أن يكون أول الأطباق الساخنة هو طبق الشوربة، الذى يأتى مباشرة بعد تحلية الريق بالتمر تيمنا بالسنة النبوية الكريمة، وقد يكون هذا التمر مصحوبا بالحليب أو اللبن الحامض، إذا كان موسم حلب ومخض، وعدا الطبق الرئيسى الذى تتصدره قطع اللحم مهما كان نوعه، أرزا أو برغلا، أو تلك المصنوعة من العجائن، فهناك دائما بعض الأطباق الجانبية التى تختلف من منطقه الى أخرى، غير السلطة والفاكهة أما الشاى، فى ليل رمضان، فلا بد أن يكون مصحوبا ببعض الحلويات المحلية مثل الكعك والغريبة، أو المستوردة من دكاكين العاصمة التى تصنع الحلويات الشرقية المعروفة كالبقلاوة والكنافة وغيرهما .
وإذا كان الوقت صيفا أو قريبا من الصيف فإن البطيخ الأحمر غالبا ما يكون ركنا اساسيا من أركان المائدة الرمضانية، فالعطش فى مثل هذه النهارات القائظة الطويلة يسبق الجوع، ولأن المجتمع فى القرية له تقاليده التى تفصل بين النساء والرجال، فإن القرية تنقسم الى تجمعات نسائية وأخرى رجالية . وفى حين تحتل النساء البيوت، يتزاورن ويلتقين فى تجمعات صغيرة، خاصة أهل البيوت المتجاورة التى يضمها أحيانا سور واحد، فإن الرجال يذهبون الى الدكاكين حيث يلتقون فى حلقات للسمر حول عدة الشاى، بعد فراغهم من أداء صلاة التراويح .
أما الاطفال فيتوزعون حسب أعمارهم بين البيوت ينصتون الى خرافات إحدى العجائز اذا كانوا صغارا، أما اذا بلغوا سن الصبا فإنهم يذهبون الى الشارع يلعبون الكرة، أو يؤسسون جيوشهم وحكوماتهم الوهمية . ومنذ طفولتى كان أهلى يحرضوننى على الصيام، حتى لو لم أتمكن من صوم النهار كله، فأنه يكفى أن اصوم جزءا منه، وهكذا حتى صرت وأنا مازلت دون سن البلوغ أصومه كاملا وأذهب مع والدى للصلاة فى المسجد .
وأذكر شهرا من أشهر الصيام جاء فى فصل شديد القيظ، وتوافق ان كان موسم حصاد خرجت فيه مع والدى الى الوادى، حيث كان بإمكانى ان افطر عندما احسست بوطأة العطش نتيجة لصغر سنى، فقد كان الرجال الذين يحرق العطش حلوقهم، يواصلون العمل تحت اشعة شمس عنيفة قاسية، دون طعام أو شراب، واذكر انه لم يكن يمر يوم، دون ان يسقط احد الرجال مغشيا عليه من الاجهاد والعطش، من بينهم قريب فى سن الشباب أسرع والدى لإسعافه بأن أحضره ليتمدد فى ظل الشجرة، وصار يضع له قطرات من الماء فى فمه قطرة، وراء قطرة، وعندما افاق عرف انهم سقوه قطرات من الماء ظل غاضبا حزينا لأنه لم يكن يريد أن يفطر ويكسر صيامه، وكان والدى يحاول افهامه ان الإفطار كان ضرورة لإنقاذ حياته، واستمرار حالة الإغماء قد تنتهى بوفاته، ومع ذلك لم يفارقه الإحساس بالخجل بأنه افطر يوما من أيام رمضان . ولا يزال الشعب الليبى من أكثر الشعوب الإسلامية تشددا فى المحافظة على أداء هذه الفريضة، وإذ يمكن للمجتمع أن يتسامح مع إنسان لم يحافظ على أداء الصلاة، أو آخر أرتكب أحد الموبقات كالقمار أو شرب الكحول، إلا انه لا يتسامح أبدا مع من يستهتر بفريضة الصوم .
رحلة الحجيج ومكانتها في الذاكرة والوجدان
منذ ان وعيت على الدنيا في مطلع اربعينيات القرن الماضي، وجدت امامي ذلك المشهد الاحتفالي، الذي تخرج فيه القرية نساء ورجالا واطفالا الى الضاحية الشمالية من القرية، لملاقاة موكب الحجاج العائدين الى القرية من الاراضي المقدسة، بعد اداء فريضة الحج، فقد جرت العادة ان يتلقى الناس هؤلاء الحجاج قبل وصولهم القرية، ودخولهم الى بيوتهم، حيث يتحلق حولهم الناس، يتباركون بهم، ويتلقون منهم الدعوات الصالحات، ويهنئونهم بسلامة الوصول، لان وصول الحاج سالما، كان في دهور سابقة شبيه المعجزات الى حد ما، ان المثل الشعبي يقول عن الانسان الذي يطلب تنفيذ عمل عصي المنال، بانه كمن يريد الحج والسلامة معا، لان ضمانهما شيء يشبه المستحيل، وبرغم ما طرأ على وسائل المواصلات من تطور، وما تحقق لطرق الحج من امان في الاربعينيات، الا ان الناس لم تكن لتتخلى عن التفكير القديم الذي يقرن الذهاب الى الحج بالاخطار والمهالك، ولا يقتصر الذهاب الى خارج القرية على الرجال والاطفال دائما، فقد يواتي الحظ السعيد نساء القرية، فيشاركن ايضا في افراح عودة الحجيج، اذا كان بين هؤلاء الحجاج امراة او اكثر، فيصنعن زحاما آخر تتصاعد منه الادعية والزغاريد، وهذا الاحتفال الجماعي الذي يقام عند مشارف القرية، لا يغني عن احتفالات اخرى تقام في كل بيت من بيوت العائدين من مكة المكرمة، حيث تتعالى الزغاريد، وتنحر الخراف، وتقام الولائم فرحا بعودة الحاج الى اهله سالما، واكتسابه هذا اللقب الجليل، الذي كان يحظى باجلال الناس واحترامهم، وهو لقب الحاج، او الحاجة اذا كانت امراة . لم يكن هناك احد من عائلتي قد سافر الى الحج في تلك المرحلة المبكرة من عمري، حيث كان الحج امرا عسيرا على المواطن الفقير الذ ي لايملك فائضا من المال يتولى توفيره وادخاره لعدة اعوام، يستطيع خلالها ان يجمع ثمن الرحلة المقدسة، بل مرت اعوام غاب فيها مشهد الاحتفال بالحجيج من كل المدن والقرى، لانه لم تكن هناك فرصة امام أي انسان لاداء مناسك الحج من بين الليبيين، بسبب ظروف الحرب التي استمرت بضعة اعوام وقطعت الطرقات البرية والبحرية التي تقود الى ارض الحجاز، وهي اعوام لم احضرها ولكنني سمعت الناس يذكرونها باسف وحسرة، لوجود شيوخ كانوا يهيئون انفسهم للحج، ويجمعون له ما يحتاجه من نفقات ثم فاجأتهم الحرب ومنعتهم من الذهاب، وجاءهم الاجل دون اداء هذه الفريضة، فذهبوا بحسرتهم لملاقاة حتوفهم، ولكن الله غفور، رحيم، يعلم ما تخفي الصدور وما انتواه هؤلاء الناس الذين سيلقون في دار البقاء اجر واستقبال من ادى مناسك الحج، وكان اول الذاهبين من عائلتى لاداء مناسك الحج والدي رحمة الله عليه، الذي كان الحج يمثل امنية عزيزة لديه، وكنت اذهب معه احيانا في جولاته في المدينة فيناديه من لا يعرفه بلقب الحاج، فيأسف للرجل قائلا له بانه مازال يتطلع ليوم تتيح له الاقدار الذهاب الى تلك الديار المباركة، واشتهرت في الخمسينيات ومطلع الستينيات باخرة تؤجرها ليبيا لنقل الحجيج اسمها ماريانا لاتسي، الا ان شركة الخطوط الليبية التي تأسست حديثا في تلك السنوات بدات في تسيير رحلات الى جدة، لنقل الحجيج فاختار والدي ان يسافر بالطائرة وان يبدأ الاحرام من المطار، ضمن وفد من رجال قريته فذهب وعاد، وحظى عند عودته الى القرية من رحلة الحج بذات الاستقبال التقليدي الذي تعده القرية لركب الحجيج عندما تخرج في ضاحية القرية بكل ما يرافق هذا الخروج من طقوس وعادات .
كانت الهدايا التي ينالها هؤلاء المستقبلون، هي المسابح واعواد البخور، اما الهدايا الخاصة التي تقتصر على اهل الحاج والدائرة القريبة من اقاربه فهي تتمثل في بعض الجلاليب وسجادات الصلاة واثمن هذه الهدايا كان دائما قليل من ماء زمزم، يهديه الحاج لكبار عائلته ليكون جاهزا لتغسيله به عندما تحضره الوفاة، دون ان ينسى ان يحتفظ بشيء من هذا الماء لنفسه، اما للصغار فهي جرعات قليلة على سبيل التبرك والدعوة بالشفاء من أي داء .
ولم يكن والدي وهو يستقبل المهنئين من اهل القرية ليكل او يمل من رواية تفاصيل الايام التي قضاها بدءا من وصوله جدة، وانتقاله الى مكة، واداء طواف الاستقبال، ثم الذهاب الى المدينة لزيارة قبرالرسول والصلاة في مسجده، وتحية رفيقيه ابوبكر وعمر، وزيارة البقيع حيث مقابر الصحابة وشهداء الاسلام، وزيارة بعض المواقع الشهيرة في معارك الاسلام مثل معركة احد، في جبل احد، ثم العودة الى مكة واستكمال المناسك الاخرى، من طواف وهرولة بين الصفا والمروة، والذهاب لمنى ومزدلفة، ورجم الشيطان، وصولا الى اهم مناسك الحج وهي الوقوف فوق جبل عرفات، ولم يكن ينسى وهو التاجر الخبير، ان يذكر لهؤلاء الزائرين انطباعاته عن الاسواق التي انبهر بها، في جدة ومكة والمدينة، وما رآه من انواع غريبة، من الواضح أنها تأتي من بلاد السند والهند .
ولم يكن يعدم احيانا ان يكون بين هؤلاء القادمين من الحج شاعر من فحول شعراء البادية الذين هجروا الصحراء الى القرية واقاموا فيها، فيسرد كل هذا الكلام الذي كان يسرده والدي نثرا، في قصيدة اكثر حدقا ومهارة في وصف ما رآه وما سمعه وما قام به من مناسك، يحفظها الناس، ويعيدون سردها، بل ان بعض هذه القصائد يتناقله الناس جيلا وراء جيل، ليحفظه الذاهبون الى الحج فيتعلمون من خلال هذا الشعر، كل ما يجب عليهم القيام به من مناسك، وما ينتظرهم من تعب او راحة في السكن والاقامة .
اعوام كثيرة مضت عن آخر مرة شاركت في مثل هذه المظاهر، وانتفعت بالدعاء والتسابيح التي تقال في هذه المناسبة، ذهبت بعدها بنفسي لاداء هذه الفريضة، كما ذهبت في مناسبات كثيرة اخرى لاداء العمرة، وكانت الوسائل قد تقدمت، والوكالات التي تتولى رعاية الحجيج، قد تكاثرت وتنوعت، وصارت لها اماكن فخمة للاقامة ووسائل مريحة للمواصلات، لدرجة صار ما يذكره جيل الوالد عن المتاعب التي يلاقونها اثناء الحجيج، امرا لا ير له المسافر مثلي، مع هذه الوكالات الحديثة، شبيها، بمثل ما كان جيل والدي، ايضا لا يعرف تلك المتاعب والاهوال التي كانت تلقاها اجيال قبلهم لم تعرف البواخر ولا الطائرات وانما تسافر على ظهور الابل اذا كانت سعيدة الحظ، اما اذا كانت اقل حظا فهو سفر على الاقدام، كما كان يذكر الرواة او بعض كتب الرحالة ممن قطعوا المسافة من المغرب الاقصى الى ارض الحجاز على اقدامهم في رحلة قد تستغرق حولا كاملا .
تتقادم العصور وتتنوع وسائل السفر والمواصلات، ولكن نداء الحجيج لبيك اللهم لبيك، يظل على مر العصور يتصاعد من هؤلاء الملايين من المسلمين، الذي جاءوا من مشارق الارض ومغاربها، لاداء هذه الفريضة من فرائض الاسلام الخمس، مصداقا لقوله تعالى :"واذن في الناس بالحج يأتوك، رجالا، وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق " صدق الله العظيم .
ثقافة تلك الأيام
لم تدخل الكهرباء بيوت القرية التي أنتمي إليها إلا في أواسط الخمسينيات، قبل ذلك كان المحرك الصغير الذي ينتج الكهرباء يقتصر عمله على تزويد بعض الدوائر الحكومية بالطاقة اللازمة لإنارتها، وحمل المياه إليها، وتشغيل أجهزتها مثل أجهزة الاتصال والمخابرة مع المدينة، كما كان هذا المحرك يتولى إنارة الشوارع الرئيسية في البلدة خلال الساعات الأولي من الليل، وكان مشهدا مألوفا أن يخرج بعض التلاميذ من بيوتهم خاصة أثناء فترة الامتحانات يحملون كراريسهم وكتبهم المدرسية، يطالعونها تحت أعمدة النور في الشارع، وكان مصدر الترويح خاصة للأطفال الذين في سني ذلك الوقت، هو ما يسمعونه من حكايات ترويها الجدات والعمات .
وقد كانت لي عمة متقدمة في السن مات عنها زوجها ولم تكن قد أنجبت أولادا عدا بناتها المتزوجات هي عمتي ياقوتة أو قوتيه كما كانوا ينادونها، اتخذتني أبنا لها، يحظى برعايتها وينام على سماع حكاياتها، وأحيانا كان الأطفال الذين في سني ينشئون حلقة خاصة في المناسبات والأعياد التي تلتقي فيها مجموعة من العائلات، ويظلون لساعات طويلة يستمعون لحكايات وخراريف تتناوب اكثر من امرأة على سردها لهم، وتنقسم انواع الحكي الى ستة انواع:
هناك أولا الخرافة أو الحدوتة الشعبية المبنية على الخيال الصرف، والتي قد تتشابه مع خرافات تروى في مناطق اخرى أو لدي شعوب وثقافات غير شعبنا وثقافتنا، ولكنها تتلون بلون البيئة والمحيط، ويمكن أن نضيف إلى هذا اللون نوعا من الأحاجي التي كنا نجتهد ونحن أطفال، ونتبارى في محاولة العثور على حلول لها، فهي تصف شيئاً موجودا في البيئة وتسألك أن تسميه .
وهناك الحكايات التي تروي تاريخ المعارك والحروب التي خاضتها القرية، خاصة في الحقبة الأخيرة من الجهاد الليبي ضد الاحتلال الإيطالي، وكان شهود هذه المعارك مازالوا أحياء يعيشون بيننا، وكثيرا ما سمعنا هذه الحكايات من أفواههم، وكنت شخصيا قد ولدت تحت قصف القنابل التي ضربت قريتنا في الحرب العالمية الثانية، نتيجة لوجود معسكرات إيطالية في البلدة .
النوع الثالث حكايات مستمدة من التاريخ العربي، وأضحت تراثا مشتركا لكل أبناء الأمة العربية، وقد أضاف إليها الخيال الشعبي أحداثا أحالها من تاريخ إلى أساطير، وأهم هذه الحكايات سيرة بني هلال، التي تلونت بلون البيئة الشعبية، ويتكلم ابطالها بلهجة اهل تلك المنطقة، وتخصصت بعض نساء القرية في راوية أحداثها وأشعارها التي تستخدم التعابير الشعبية الليبية ولهجة المنطقة التي تنتمي إليها القرية .
وهناك نوع رابع من الحكايات له هواته الضالعون في سرده وروايته وعلى رأسهم عم من أعمامي اسمه الطاهر، شغوف بالبحث عن تاريخ القرية والأنساب التي ينتمي إليها أهلها والمناطق التي جاءوا منها، وهي حكايات يختلط فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالأسطورة .
النوع الخامس من الحكايات والذي كان يحظى بشعبية كبيرة في تلك الأزمنة، هو ذلك الذي يتصل بالجانب الروحاني ويعتمد في وقائعه علي سيرة الأولياء الصالحين الذين عاشوا في المنطقة أو اتصلوا بها وكرامتهم، بل إن عدد الدراويش في تلك المرحلة كان كبيرا وكنا نراهم يجوبون الشوارع بأسمالهم الخضراء، والناس ينسبون إليهم كرامات شتى.
أما النوع السادس فهو لا ينتمي إلى أدب القصة الشعبية أو الرواية الشفهية للتاريخ، وإنما إلى الشعر، فقد برع أهل القرية في تأليف الأهازيج الشعبية، وظهر بينهم فحول من شعراء العامية، وكان بعضهم يتابع أحداث القرية بالتعليق، فلا يكاد يحدث شيء مهما كان بسيطا، إلا كان موضوع قصيدة شعبية يتناقلها الناس. الغالب على هذا النوع من الأدب الشعبي شعرا ونثرا هو الشجن خاصة تلك الحكايات والقصائد التي تتحدث عن تاريخ القرية وتغريبه أهلها ومعارك الكفاح التي عاشها الجيل الماضي والتي يشكل الحزن نغمتها الأساسية.
لقد انقرضت الآن هذه الألوان الأدبية، ومات رواتها، بعد أن زحفت الوسائل العصرية تلون الحياة بألوانها، ولا أدري إن كان هناك من أعتنى بحفظ ذلك التراث او قام بتسجيله، وعن نفسي، فإنني لا أستطيع استذكار إلا القليل مما سمعته وعاينته، في تلك المرحلة المبكرة من عمري، وأبدأ بالخرافات التي سمعتها من عمتي فهي أيضاً تنقسم إلى ثلاثة أقسام هناك كما أسلفت القول، الأحاجي القصيرة التي لا تزيد عن جملة واحدة والتي تبدأ بلازمة تقول : "سمي وخود بلاد" أي قل الحل، وسأهبك مدينة، وهناك الآن فصول في بعض الكتب تقدم أمثلة لهذا النوع من الأدب الشعبي، اذ يقول السائل مثلا "طويل بلا ظل فماهو؟ " ويكون الجواب" هو الطريق"، أو لغز آخر هو "تذبح اليوم ويسيل دمها غداً، ماهي؟" ويكون الجواب "هي الحناء" أو لغز ثالث يقول "هي في يدي وصياحها في الوادي" ويكون الجواب هو البندقية. أو "سطل ماء معلق في السماء" ويكون الجواب "سحابة"، وهكذا مما يماثل اختبارات الذكاء، أو مسابقات الفوازير كما نراها اليوم في التلفاز، ونسمعها في المذياع، وهي أنواع من الأحاجي والألغاز التي تتشابه وتتماثل في مختلف المناطق .
والغريب أن الأدب القصص الشعبي، يماثل في تقسيماته تلك التقسيمات المعتمدة في الأدب المكتوب عربيا وعالميا، أي إن هناك ما يمكن أن نسميه قصة قصيرة، وهناك ما ينتمي في فصوله وتتابع حلقاته إلى الرواية، أو القصة الطويلة، وأغلب هذه القصص قصيرها وطويلها التي سمعتها من عمتي وأنا صغير، عرفت عندما كبرت أنها تتشابه مع قصص وملاحم شعبية ليبية، يتداولها الناس في شرق البلاد وغربها، وهناك طبعا ما يمكن أن يكون له ما يماثله في مناطق أخرى من العالم العربي، إلا أن الأكثر غرابة إنني وجدت بعض هذه القصص تتشابه مع قصص موجودة في بلاد بعيدة مثل الصين، وإن اكتسبت لون تلك البلاد في أسماء شخصياتها، وطعامهم ولباسهم، أما كيف رحلت هذه القصص وتناقلتها الأفواه من خلف أسوار الصين إلى عمق الصحراء الليبية، فتلك مهمة علماء الأنسنة والتداخل الحضاري وميثولوجيا الشعوب، الذين يدرسون مثل هذه الظواهر، وما على أمثالنا من قراء ومتلقين إلا الاستمتاع بهذه الحكايات التي انتقل بعضها من الأدب المسموع إلى الأدب المقروء.
وتبقى الثقافة الشعبية معنا، عبر كل مراحل العمر وأطواره، تسهم فى بلورة نظرتنا للحياة، وتضيف الى معارفنا وخبراتنا مزيدا من العمق والنضج حتى بعد وصولنا سن الرشد واكتمال الرجولة ( او الانوثة لدى الاناث )، الا انها فى مراحل العمر الاولى، يبقى لها فضل التأسيس ووضع اللبنات الاول فى التكوين الفكرى والثقافى للإنسان، فهى تسبق الثقافة الاخرى التى نقرأها فى المدارس، ونطالعها فى الكتب والصحف، ونسمعها فى الاذاعات وأشرطة التسجيل، ونشاهدها فى دور العرض المسرحى والسنيمائى، وقاعات المحاضرات ومعارض الفنون وغيرها، فهى الاغانى التى تهدهدنا بها امهاتنا فى المهد، والخرافات التى نسمعها من جداتنا عند النوم، والألعاب التى نشارك فى لعبها مع اقربائنا ونحن اطفال، وهى كل ما نسمع ونشاهد ونحن ننمو وسط مجتمع له افراحه واتراحه ووسائل تعبيره عن هذه المناسبات السعيدة والحزينة .
الامثلة الشعبية كما قلت سابقا، هى احدى هذه الموارد التى تنتمى لمعين الثقافة الشعبية، والتى اسهمت مع الالوان الاخرى فى ارضاعنا ونحن صغار ثقافة اهلنا وبيئتنا . وهى بقدر ما فيها من عظة وعبرة، فإنها ايضا، احدى المجالات التى يستخدمها الخيال الشعبى فى اظهار مهاراته فى اللعب الفنى، وقدرته على التشكيل والتلوين اللغوى، حتى لو اضطر الى ان يخالف العقل والمنطق، كما هو الشأن مع الابداع الادبى، وما فيه من مدارس تعتمد على شطحات الخيال والارتفاع فوق الواقع وشروطه وقوانينه العقلية، وإذا كان الكاتب المسرحى الشهير " توفيق الحكيم "، قد كتب مسرحيته العبثية " يا طالع الشجرة " اعتمادا على اغنية شعبية مصرية تحتوى على صور غير عقلانية تقول :
يا طالع الشجــــــرة
هات لى معاك بقرة
تحلب وتسقيــــــنى
بالمعلقة الصيـــــنى ......
فإن كل ادب شعبى يحتوى على هذه الصور الفنية الهزلية، التى تخرج على نطاق السائد والمألوف، وتتمرد على حدود التفكير المنطقى العقلانى كما تعرفه، فهناك فى امثالنا الشعبية الليبية مثل يقول
" مـات البحـر
صلـى عليه الحوت "
بمعنى ان البحر مات فقامت الحيتان بأداء صلاة الجنازة عليه . وهو تعبير يصور مدى الحرية التى يمكن للخيال الشعبى ان يأخذها فى ابداعه الادبى، وهناك العاب كنا نلعبها ونحن اطفال، تحتوى على كلمات لا معنى لها، ولا هدف سوى اللعب بالأوزان مثل :
يا مديق يا حديـــق
وين كنت البـــارح
فى جنين صالح ( اى جنينة صالح )
ايش كليـــت
من تفاح ومن نفاح
وابحث فى كل قواميس العالم، وفيما تعرفه الشعوب من فواكه وغلال فلن تجد "نفاح" التى جاءت بها الاغنية لمجرد تعزيز القافية والوزن على غرار اغنية اخرى يقول مطلعها :
" اسم الله قــــــــــــــاش
علــــــــــــى القشقاش "
وطبعا لا معنى لهذه الكلمات سوى الاحتفاء بحرفى القاف والشين. وهناك اغنية شعبية تعودنا ترديدها فى احتفالاتنا، تقول:
يا قمر علالى علالـــــــــــى
سافرى وتعالى وتعالـــــــى
قلينى لخوالى، لخوالــــــــى
خوالى فى ترهونة، ترهونة
ذبحوا لى فكرونه، فكرونـه ......
وهى اغنية طويلة مليئة بالصور الساخرة التى تنتمى لأدب اللامعقول، كما يقول الاصطلاح العالمى لهذا النوع من الكتابات .
اما الاغانى والاهازيح والأمثال التى تقال على ألسنة الحيوانات، وتضع على السنتهم الحوارات السافرة فهى ايضا كثيرة فى الادب الشعبى الليبى، ومثال ذلك اغنية من اغانى الحصاد، كنا نرددها مع الكبار، تتحدث عن النملة ذات الحزام المحبوك على جسمها، تناجى الفأر وتشكو اليه همومها، وتحذره من الخطر القادم قائلة له، ايها الفأر لقد جاء اهل الزرع وآن لنا ان نرحل، فرد عليها الفأر بأنه لن يرحل عن ارضه حتى ولو دفع حياته ثمنا لذلك . وهذه هى كلمات الاهزوجة القصيرة التى استوحيت منها مشهدا فى روايتى " فئران بلا جحور ":-
جت النملة بحزيمهـــا
جت للفار تناجى فيـــه
قالت له يا فار ارحـــل
والزرع جوه اماليــه
قالها، والله ما نرحــل
حتى ايدبوا رأسى فيه
ونعود للأمثال الشعبية ذات الجماليات الفنية، التى وصلت فيها البلاغة الى مشارف عالية، ترقى الى مستوى التعابير الفصيحة التى صاغها الادباء والحكماء، مثل ذلك التعبير الشعبى الليبى الذى يقول :
" يبيع الريح للمراكب "
فالريح قوة محركة تحتاجها المراكب احتياجا ضروريا وأساسيا، هذا صحيح، ولكن الصحيح ايضا ان الريح عنصر من عناصر الطبيعة، لا يباع ولا يشترى، فانظر كيف استطاع الخيال الشعبى ان يصنع من هذه المفارقة تعبيرا جميلا، يصور مكر ودهاء الانسان القادر على ان يبيع الريح للمراكب . ويستخدم المثل الشعبى الريح فى سياق اخر عندما يقول " اصحاب السعد، يحطب لهم الريح " بمعنى ان المحظوظ، لايحتاح لأن يتعب نفسه فى التقاط الحطب، لأن الريح يجمعها له، فهو مثل يحاكى قوة التعبير الموجودة فى نصوص دينية وتراثية، تضرب المثل فى القوة والسلطة والحظ، بمن يستطيع ان يحرك الريح ويسخرها لخدمته .
وتستطيع الامثال الشعبية ان تصف حالات، وتضيء مناطق فى السلوك والمعاملات، لا تقوى على وصفها وإلقاء الضوء عليها، الا هذه الاداة القوية من أدوات التعبير، كالمثل الذى يقول " وين احتجت لك يا وجهى،خبشوك القطاطيس " اى اليوم الذى احتجت فيه الى وجهى، خدشته القطط، وهو يعبر عن المفارقات المحرجة والسيئة التى كثيرا ما تصادفنا فى حياتنا .
وبقدر ما كانت هذه الامثال اسلوبا من اساليب التخاطب بين الناس، فقد كانت جزءاً من العملية التعليمية التى يستخدمها الكبار فى تلقين الصغار، دورس الحياة، وبلاغة الحديث، وأناقة التعبير، قبل ان تكتسح المجتمع الحديث، بلاغة الاذاعة والتلفاز، ورغم ان الامثال والأهازيج الشعبية والخرافات ما تزال موجودة، الا انها لم تعد حاضرة فى حياتنا بذات الزخم والقوة، عندما كان حديث الدواوين والمرابيع، ومجالس السمر، وحكاوى العمات والجدات قبل النوم، هى وسائل الترويح والترفيه والتوعية، التى كان لى، ولأبناء جيلى، فرصة ان نتغذى منها فى طفولتنا، وإذا كان لى ان اجازف بوضع تشبيه لثقافة الامس التى رضعنا منها، وثقافة اليوم التى يرضعها ابناؤنا، فهو ان رضاعتنا كانت طبيعية من ضرع الأم، وأما رضاعة أولادنا فهى من الحليب المحفوظ فى الصيدليات.
العرس باعتباره ظاهرة مسرحية
العرس فى القرية، ليس مناسبة خاصة بأهل العريس والعروس، كما هو الحال فى المدينة، وإنما هو عيد من أعياد القرية غالباً ما يشارك فيه كل الناس، حتى إذا اعتبرناه مناسبة تخص أهل العرس، فكل سكان القرية لهم من الارتباطات العائلية والقبلية ما يؤهلهم لأن يكونوا جزءاً من هؤلاء الأهل، وهذا هو الحال فى قريتنا، فى تلك المراحل التى شهدتها فى طفولتى، عندما كانت القرية مقتصرة على سكانها الأصليين، قبل أن تتم عملية توطين البدو، ونزوحهم من البادية للاستقرار فى المراكز الحضرية، حيث استوعبت مزدة عدداً كبيراً منهم.
أهم ليالى العرس فى تلك الأزمنة كانت ليلة النخيخ، وهى رقصة ريفية بدوية، اختفت من الأعراس الليبية الحديثة، حيث كان يقام الحفل فى باحة واسعة، غالباً ما يكون حوش بيت العروس، ولأن الأعراس تقام فى فصل الصيف، فالطقس غالباً ما يكون مناسباً لهذه الاحتفالات المقامة فى الأماكن المفتوحة. وهى الليلة الوحيدة من ليالى العرس التى يلتقى فيها الرجال والنساء فى مكان واحد، ولكن دون اختلاط، بمعنى النساء يجلسن فى جانب، والرجال فى الجانب المقابل، وبين الجانبين، تمتد البسط المخصصة للصبايا الصغيرات اللاتى يقمن بعملية النخيخ، وهو عبارة عن رقصة نسائية تستخدم فيها الفتاة شعر رأسها الطويل، المشبع بالزيت، الذى يلمع تحت أضواء القناديل ومصابيح الغاز، وتبقيه متهدلا أمام وجهها، وتجلس فى صف واحد مع عدد من زميلاتها، قد يصل عددهن إلى عشر صبايا، بينهن العروس، وعلى نقرات الطبل، وأنغام المزمار البلدى المسمى المقرونة وإنشاد شاعر شعبى يتولى القاء الاهازيج، تقوم هؤلاء الفتيات بتحريك رؤوسهم ليتحرك مع حركة الرأس الشعر الأسود الطويل، ويتهادى شمالاً ويميناً، مصحوباً بحركة الكتفين واليدين كما تفعل راقصات المعابد الهندية، وتتعالى الزغاريد بين الحين والآخر، من النساء، مختلطاً بصوت الموسيقى وغناء الشاعر، بينما يتحول الرجال إلى كورس يردد مع الشاعر مقاطع الزجل والغناء، ومجامر البخور تعبق بالروائح الذكية التى تضيف جمالاً ونكهة لهذه الليلة المتميزة من ليالى العرس، وقد استفدت من ذكرياتى حول هذه الليلة، فى المسرحية الغنائية التى قمت بتأليفها وإخراجها للمعهد الوطنى للموسيقى والتمثيل فى ليبيا، هندا ومنصور حيث قمت بإحياء هذا التراث وتقديمه فى لوحة فنية على المسرح. انقرضت رقصة النخيخ، مثلما انقرضت عادة حمل العروس على الهودج بعد أن كثرت السيارات وأصبح أهل القرى، مثل أهل المدن يستعيضون بالسيارة عن تلك العادة الجميلة التى تعطى البيئة الريفية العربية خصوصيتها وتميزها. مظهر آخر من مظاهر العرس كان يجتذبنى، ويستحوذ على إعجابى هو ما نسميه فى قريتنا العراسة، وهو تقليد لم ينقرض بانقراض الهودج والنخيخ، إلا انه فى السنوات الأخيرة صار يتراجع أمام الأساليب الحديثة، عندما راجت فى المدينة، والأرياف، فكرة شهر العسل، وصار العروسان يرحلان لقضاء هذا الشهر فى الأماكن السياحية بعيداً عن محل إقامتهما، بينما يقتضى نظام العراسة أن يبقى العريس مقيماً فى قريته أسبوعاً بعد العرس، يلتقى أثناءه بأصدقائه كل يوم على مآدب الغداء والعشاء التى يتناوب هؤلاء الأصدقاء على إقامتها. وخلال هذا الأسبوع تنشأ دولة وهمية، يكون العريس سلطانها، ويختار صديقاً يكون هو الوزير الذى يدير الدولة مع السلطان، ويعين له حاجباً ورئيساً للشرطة وقاضياً، ويشكل بقية الشباب جمهور المواطنين وقد اشتركت فى سنوات الصبا مع بعض المجموعات التى كانت تؤلف العراسة، حيث كان دوري أن أقيم مأدبة فى بيتنا لأعضاء هذه الدولة الوهمية، حرصاً منى على أن أحضر ألعابها وأشارك هؤلاء الشباب دعاباتهم ومشاهدهم الفكاهية. وكان دورى في هذه الدولة والوهمية ونتيجة لصغر سنى، هو أن أتولى مع بعض زملائى المناوبة على حراسة السلطان، لأنه يجب ألاّ يبقى بلا حراسة، لكى لا يتعرض للاختطاف، ولقد رأيت فى تقليد العراسة شكلاً من أشكال المسرح البدائى، الذى عرفته مجتمعاتنا منذ أزمنة قديمة، وصار جزءاً من الفلكلور الشعبى لبلادنا، فدولة العراسة دولة بكل مقاييس الدولة فى المسرح، وهى تنصب المحاكم، وتقيم السجون، وتتولى تنفيذ عمليات الإعدام، كما يحدث فى المسرح، وما تقتضيه من تقنيات الإيهام المسرحى، وأذكر فى إحدى المرات التى كنت أقوم بواجب الحراسة لأحد هؤلاء السلاطين، وتركته بضع دقائق بمفرده فى المربوعة أو الديوانية، التى يخصصها أصدقاء العريس للقاءاتهم، وجاءت امرأة عجوز اسمها سليمة البهلولة، وهى تشبه بطلة رواية حرودة للكاتب المغربى طاهر بن جلون، وقد سميت كذلك لأنها تهيم على وجهها فى شوارع القرية، وتغشى البيوت وتتولى قضاء بعض المصالح لبعض الناس الذين يرسلونها لشراء شيء من السوق . وعندما وجدت العريس بمفرده قررت اختطافه. لأنه ليس من حق السلطان مقاومة خاطفيه، اذا كان بمفرده، فقد ذهب معها حيث قادته إلى بستان قريب وسألته أن ينتظر تحت إحدى الأشجار وعادت لترى ماذا يفعل أعضاء العراسة الذين حان موعد ذهابهم إلى وجبة الغداء، ولم يجدوا سلطانهم. أنقذتهم من حيرتهم عندما أبلغتهم بأنها هى التى اختطفته، ولن تطلق سراحه إلا بفدية كبيرة، واضطروا إلى تجميع المبلغ الذى طلبته، ليعود إليهم السلطان المخطوف وكان جزائى الحبس والغرامة والحرمان من الطعام ليوم كامل بسبب تقصيرى فى أعمال الحراسة. وحدث فى مرة أخرى أن جاءهم مرسول يحمل لغزاً من أحد الشعراء الشعبيين وتقتضى أصول اللعبة، ألا يتناول شباب العراسة طعاماً حتى يردوا على الشاعر بالحل الصحيح للغز. وظلوا يوماً كاملاً حائرين، لا يجدون حلاً، حتى اهتدوا إلى شاعر آخر أعطاهم الحل، وكتب لهم بناء على طلبهم، مجموعة أبيات من شعر الهجاء فى الشاعر صاحب اللغز. وغالباً ما يحاول عضو العراسة الذى يتولى منصباً، أن يرتدى الملابس، ويخلق الأجواء التى تتفق مع المنصب، فالقاضى يرتدى أثناء إصدار الأحكام جبة واسعة، ويضع على وجهة لحية مستعارة، ويأتى إلى مكان العراسة راكباً حماراً على عادة القضاة فى الأزمنة القديمة، والوزير يرتدى أحياناً عمامة، ويضع فى يده عصا الشرف، وقائد الشرطة يرتدى خوذة، ويضع بندقية من الخشب، فهو نوع من المسرح المرتجل، يشبه فى كثير من جوانبه، ما عرف فى أوروبا بالكوميديا دى لارتى، التى تقوم بتقديمها فرق تتجول فى الشوارع، مما يدل على أن الظاهرة المسرحية متأصلة فى تراثنا الشعبى، وعندما نعتنى بالمسرح، ونقيم له المعاهد، ونبنى له البنية المسرحية ودور العرض، ونستعين به فى إثراء الحياة، لدى شعوبنا، وتعميق الوعى لديهم، وإدخال المسرح والتمثيل بأنواعه، كعنصر من عناصر الترفيه والتثقيف، فلن يكون ذلك غريباً على روحنا، أو دخيلاً على ثقافتنا، لأن له جذوره فى هذه الثقافة، والأمر لا يقتصر على ليبيا فقط، فنظام العراسة، كما عرفت موجود فى كل دول المغرب العربى، تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، أما الأقطار العربية الأخرى التى لا تعرف مثل هذه التقليد، فإن لها تقاليدها المشابهة له، ولها تراث ينتسب إلى ما يسميه دارسو المسرح فى ثقافتنا العربية، ظواهر مسرحية، مثل التى ذكرها الدكتور على عقلة عرسان فى كتابة عن هذا الموضوع، وهى ظواهر منتشرة فى أرجاء الوطن العربى، تؤكد أن للمسرح جذوره القوية فى ثقافتنا وتراثنا.
ألوان من الفن الشعبى فى طريقها للانقراض
هناك ألوان كثيرة من الفن والأدب الشعبيين، تدخل فى التكوين الثقافى لابناء جيلى ممن نشأوا نشأتهم الأولى فى أربعينيات القرن الماضى، وهى ألوان صارت تتراجع، بل تختفى، بعد التحولات الكثيرة التى شهدها المجتمع خلال العقود الخمسة الماضية، فقد كانت الأربعينيات مرحلة مفصلية فى التاريخ الليبى وفي تاريخ أغلب شعوب العالم، وعاشت ليبيا ظروف الحرب العالمية بمثل ما عاشتها أوطان كثيرة أخرى، وخرجت منها مثخنة بالجراح، تعانى شدة العوز بأكثر مما عانت فى أزمنة سابقة، وترقب بعيون دامعة أثار الدمار البادية فى أغلب المدن والقرى، وما أصاب حقولها ومراعيها من اذى بعد أن حولتها الجيوش المتحاربة إلى حقول للألغام، ومازالت هذه الحقول التى تسمى حدائق الشيطان، تفتك بضحاياها حتى الآن، ولم تكن البلدة التى نشأت فيها استثناء من ذلك، فثمة مساحة شاسعة من الأرض المحاذية للقرية، استخدمت أثناء الحرب مطارا لنقل الجنود، من طرف الإيطاليين والالمان، ثم قاموا بتلغيمها قبل انسحابهم النهائى، ومازالت إلى يومنا هذا منطقة مقفولة، لا يستطيع أحد استخدامها فى أى غرض من الأغراض، ومازالت اللافتات تحذر من الاقتراب منها، ورغم الجهد الذى بذلته السلطات لتنظيفها من الألغام، إلا أن بعض هذه الألغام تعذر الاهتداء إليها، وقد وقع ضحية هذا الحقل عشرات القتلى، ممن لم يكونوا يعرفون شيئا عنه، ولم يستطيعوا قراءة اللافتات التى تحرم الاقتراب منه0
ورغم الكوارث الناتجة عن الحرب، فقد كان هناك شئ إيجابى خرج به الليبيون من هذه الحرب، هو انتهاء احتلال الفاشستى الإيطالى الدموى الذي جثم على صدرالبلاد لأكثر من ثلاثين عاما، ولذلك فأننى عندما كبرت قليلا وصرت على وعي بالأشياء التى حولى، لم أجد أثرا للإيطاليين فى قريتنا، فقد رحلوا جميعا، وحل مكانهم ضابط بريطانى يستخدم مواطنين ليبين فى الإدارة.
كانت الإدارة البريطانية هى التى استلمت حكم البلاء، من الإيطاليين، عندما دخل مونتجمرى بجنوده إلى طرابلس عام 1943، بعد طرد قوات المحور، وقد انضم إليه الجنرال الفرنسى "اوكلينك" الذى قاد القوات الفرنسية من تشاد، واكتسح بها ليبيا حتى وصل شرق البلاد، تحت قيادة الزعيم شارل ديجول ولأن القرية التى انتمى إليها، هى عاصمة تلك المديريات الصحراوية المنتشرة فى "الحمادة الحمراء"، فقد أرسلوا إليها ضابطا كبيرا اسمه "تاور"، ظل مقيما بها إلى نهاية عهد الإدارة البريطانية عام 1952 ومازلت اذكر صورة ذلك الضابط فى لباسه العسكري بلونه الكاكى، طويل القامة، يحمل عصاة شرف فى يده، ويذهب فى زيارات عمل يومية لعلماء البلدة وزعمائها الروحيين، ولان احد هؤلاء الزعماء له مقر قريب من بيتنا، فقد كنت أرى الحاكم الانجليزى عن قرب، قادما لزيارة الشيخ أحمد البدوى، فنتوقف انا واصحابي عن اللعب، ولا نعود اليه إلا بعد أن يختفى، وقد عرفت فيما بعد أن لهذا الحاكم اهتمامات استشراقية، وأنه ضليع فى اللغة العربية التى درسها أثناء أقامته فى الجزيرة العربية، كما عاش طرفا من حياته فى إيران، وأنه يحب مجالسة العلماء، ومشاورتهم فى مصير البلاد، كما كان يلتقى بأحد زعماء الجهاد الشيخ أحمد السنى، الذى استقر فى قريته مزدة شيخا للزاوية القرآنية، كما كان هو والشيخ البدوى من ذوى النشاط السياسى والمساهمات الكبيرة فى بلورة الرؤية السياسية للبلاد وهى تستشرف مرحلة جديدة، وتأتى الوفود لزيارتهما وخطب ودهما، لما لهما من اتباع فى هذه المساحة الشاسعة، من وسط وجنوب البلاد، وكانت ليبيا تعيش مخاضا عظيما عشية الاستقلال، ونشأت فى تلك المرحلة مجموعة أحزاب سياسية لها أدارات وقيادات فى مدينتى طرابلس وبنغازى وفروع فى المناطق الأخرى، وكان والدى ينتمى لحزب المؤتمر، وهو أكبر هذه الأحزاب وأكثرها شعيبة، فهو الحزب الوطنى الذى يحظى بشعبية كاسحة، وكانت تصل لوالدى نشرات الحزب، وبطاقات الدعوة للاجتماعات والمؤتمرات التى يعقدها، وكان رئيس الحزب، هو الشخصية التاريخية الكبيرة، بشير السعداوى، الذى خاض فى شبابه معارك الجهاد، وشارك فى أعلان الجمهورية الطرابلسية عام 1920، وكان رئيس تحرير للصحيفة الوطنية التى صدرت تلك الأيام، فهو فارس من فرسان السيف والقلم، تم ذهب إلى المهجر وأقام فى سوريا، يقود حركة الكفاح السياسى من أجل تحرير ليبيا، فأسس جمعية لهذا الغرض، تقوم بإصدار النشرات والدوريات التى تفضح الممارسات الوحشية للاستعمار الإيطالى، وتحرض الشعوب العربية والإسلامية على مساعدة الشعب الليبى فى تحرير بلاده، ثم انتقل للإقامة فى المملكة العربية السعودية، مستشارا للمغفور له الملك عبد العزيز، قبل أن يعود فى عام 1947 ليقود هيئة تحرير ليبيا ويؤسس الحزب الذى انضوى تحت رايته كل المناضلين، حزب المؤتمر الوطني. كان اسم بشير السعداوى هو أكثر الأسماء تداولا، إلى حد أن الأطفال أمثالى كانوا يرددون الأغانى التى تذكر أسمه، مثل :
منين قالوا السعداوى جى
سخت وبخونى بالمى
(أى، عندما قالوا أن السعداوى قد جاء، أصابنى الاغماء من هول المفاجأة، فرشوا الماء فوق وجهى لا صحو)0
وهى أغنية كنا نسمعها فى الأعراس، وكانت هذه الأعراس هى المناسبات التى ننتظرها ونجد فيها فرصتنا للعب والمشاركة فى ألعاب الكبار، وإحدى أهم المزايا التى يتمتع بها الأطفال أمثالى، هى أننا نستطيع أن ندخل مجتمعات النساء، فنسمع الغناء، ونرقب مظاهر الفرح، ونشاهد طقوس العرس التى تقام للعروس، مثل تخضيب يديها وقدميها بالحناء فى ليلة الحنة، أو فى ليال وحفلات أخرى، مثل حفلة الجلوة التى تتحلق فيها الماشطات والزيانات حول العروس لتمشيط شعرها، واتمام زينتها، وهناك ليلة اسمها ليلة النجمة، تخرج فيها النساء من البيت يحملن الشموع، إلى مكان قريب، وتكشف العروس وجهها للنجوم، ربما طلبا لمباركة السماء، بما يرافق هذه الطقوس من غناء وزغازيد، أو عندما يتم نقل العروس على الهودج، وقد ارتدت ملابس العرس، فى طريقها إلى بيت زوجها، وغير ذلك من المظاهر والأنشطة التى تمثل ألوانا زاهية من تراث الشعب وفنونه فى مجالات الغناء والموسيقى والرقص والشعر الشعبى، وكلها اختفت الآن او في طريقها للاختفاء بعد أن حلت بدلا منها ألوان من الفن العصري، الذى يشبه السمك المعلب الذي لا تستطيع ان تعرف إلى أى بحر ينتمي.
حكمة الشعب فى أمثال وتعابير ومأثورات
لم يكن لطفل فى السنوات الاولى لتفتح الوعى، ان يعرف تعليلا لهذا التباين فى اللغة التى يتعامل بها الناس، فهو عندما يذهب الى الكتاب أو عندما يذهب الى المدرسة الابتدائية كان يجد فى الكتب والكراريس والألواح ولدى الفقيه او المدرس، لغة عربية اخرى، تختلف عن لغة الاستعمال العام التى يتخاطب بها الناس مع بعضهم البعض فى الشارع والسوق والبيوت، الا انه يمكن ان يفهم، اثناء وجوده فى الكتاب، ان هناك لغة شريفة، لها سمو ورفعة، هى لغة القرآن، وكان يمكن ان ينسحب شيئا من هذا الشرف الى لغة التعليم التى يتكلم بها الفقهاء والمدرسون، والحاضرة فى الكتب والمناهج، فلغلة التربية والتعليم لا بد ان تكون أعلى منزلة من لغة الشارع .
وعدا هذين المستويين من الأداء اللغوى، اللذين يواجهان الطفل فى بداية التحاقة بالمدرسة، هناك مستوى ثالث من الاداء اللغوى، كان سائداً بين الناس، فى تلك الفترة من بداية تكوينى وتفتح مداركى فى اواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضى. ورغم انه ينبع من اللهجة العامية، وينتسب انتسابا اصيلا اليها، الا ان به من التكثيف والترميز وجمال القول وجلاله ما يرقى به درجات فوق لغة الاستهلاك اليومى .
إنه ذلك المستوى الذى يتصل بالأمثال الشعبية التى يكثر تداولها بين الناس، ولم يكن غريبا ان تجد رجالا ونساء، لا تكاد تخلو جملة واحدة من كلامهم العادى، من مثل شعبى يعززون به تلك الجملة، حتى حديثهم مع الأطفال أمثالنا . ويمكن ان نضيف الى الأمثال، الأزجال والقصائد الشعبية، التى لا يكاد يمر يوم واحد دون ان تظهر قصيدة جديدة تعلق على الاحداث سلبا وإيجابا، وتتناول إحدى شخصيات البلدة مدحا أو هجاء، وكان بعض صبيان القرية يعمدون إلى اشهارها والترويج لها، عن طريق كتابتها على جدران خزان المياه الذى يتوسط القرية، ولا يبعد سوى عدة امتار من المسجد، والذى تشبه حيطانه المدهونة بمادة مصقولة، سبورة الكتابة فى المدرسة، اختاروا هذه الجدران لتكون الصحيفة التى يخطون عليها القصائد الجديدة والأخبار المثيرة التى تحدث فى القرية، وقد اكتشفت ان عددا كبيرا من اقاربى وقريباتى يقرضون هذا النوع من الشعر الذى لا يهتمون بتدوينه، او حفظه، ويعتبرون ان مهمته سريعة ومؤقتة تنتهى بانتهاء الحدث الذى اوحى به، عدا القصائد الشهيرة، والملاحم الطويلة، التى يكتبها شعراء اشتهروا فى المنطقة مثل " بن وحيدة"، وهو واحد من فحول شعراء ليبيا، ينتمى الى قبيلة الزنتان وعاش فترة فى مزدة، وشاعر اخر اسمه" محمد المريمى "، معاصر لابن وحيدة وينتمى لقبيلته وعاش بعض الوقت فى مزدة، ممن لهما أشعار مازالت الى الان يرددها الناس رغم مضيّ خمسة عقود على تأليفها.
وفى كلا الحالتين الأمثال والقصائد الشعبية، كانت اللغة تأخذ شكلا وتكوينا لا يتوفر للغة التخاطب، فهى لغة ذات ايقاع فى الأمثال، وذات ايقاع، ووزن وقافية فى القصيدة، وهى فوق هذا وذاك لغة مختارة، تقوم على الانتقاء الذى يحفظ لها جوانبها الجمالية، وكنت رغم ضعف مداركى، أجد متعة فى حفظ القصائد وترديدها، وسماع الامثال ومحاولة فهمها، ولا شك ان ميولى الادبية الطبيعية هى الدافع وراء الافتتان بلغة الامثال والقصائد، وولعى بالأهازيج والأغانى والحواديت والخرافات، ولا استطيع الآن، ان اتمثل او اعرف كيف كان موقفى حيال كثير من المفارقات والأشكال العبثية التى يحملها التراث الشعبى، إلا اننى بالتأكيد وقفت حائرا امام هذا التباين، وأحيانا التناقض الواضح فيما يقولة الناس من أمثال فعلى سبيل المثال، هناك كثير من الأمثلة التى تحث على الصبر وتمجده وتعزف تنويعات شعبية على المثل العربى " الصبر مفتاح الفرج " مثل " اللى يصبر ينال الخير" و"الأيام تمرض وتبرأ، والصبر هو دواهم " ( اى هو الدواء لعلل الايام )، وهناك في الوقت ذاته، أمثال تناقض هذه الامثال، وتسخر من الصبر مثل " الصبر حرق الدكان" " .
وهناك امثال تحض على الشجاعة مثل " يوم ديك ولا عشرة دجاجة "، و"اللى خالق الرأس يقطعه "، بمعنى ان الانسان لا يجب ألاّ يخشى الا الله، ثم تأتى الامثال التى تناقض الأمثال الاولى، قائلة " اللى خاف سلم " " وطبس تخطاك " بمعنى ان إحناء الرأس يجعلك تتفادى الضربات . و" اليد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها". وفى حين تحضك هذه الامثال على العمل الجماعي قائلة " حمل الجماعة ريش" و" وحط رأسك بين الرؤوس وقل يا قاطع الرؤوس" فهى فى ذات الوقت تقول شيئا مناقضا مثل " أخطى رأسى وقص" دع رأسى واقطف رأس من شئت، وهى تقول ايضا " اللى تغلب بيه العب بيه " كما تجد مثلا آخر يقول " خبز الشراكة ما يطيبش". وفى حين يقول لنا احد الامثال " ما يبقى فى الوادى الا حجارته" نسمع مثلا اخر يرد عليه " قعر الوادى ما يلم الا الوسخ".
وإذا كنت فى طفولتى اقف حائرا امام بعض هذه الامثلة التى تحض على الشئ ونقيضه، فقد عرفت بعد ان وعيت انه امر طبيعى ان تتباين مثل هذه الامثال والتعابير، لأنها نتاج مراحل مختلفة من تاريخ المجتمع، فما يقال فى اثناء الحرب غير ما يقال فى ازمنة السلم، وما يقال فى ايام المجاعات والاستبداد والغزو، غير ما يقال فى ايام الرخاء والحرية، ونحن غالبا ما نخرج هذه التعابير من سياقها وظروفها ونقولها تعزيزا لمواقف وحالات قد لا تكون مطابقة للحالة التى أنتجت هذا المثل او ذاك التعبير، مما يحدث الكثير من اللبس، كما تؤكد الدراسات ان لبعض هذه الامثال معنى مضمرا، يختلف عن المعنى الظاهر، نعجز احيانا عن الاهتداء إليه، فنظلم بالتالى هذه الامثال والتعابير التى يمكن اعتبارها وعاء لفلسفة الشعب وخلاصة تجاربه .