تقدم الكاتبة المصرية في هذا المقال قراءتها لتجربة الكاتبة التونسية، بادئة بمسرحيتها الشعرية ـ التي ننشر في هذا العدد نصها الكامل ـ ومواصلة قراءتها مع بقية أعمالها القصصية والنقدية.

تجليات الإنثوية في تجربة حياة الرايس

هويدا صالح

إن لصورة المرأة في السرديات العربية حضورها السوسيوـ ثقافي، وخلخلة مختلف البنيات الرمزية للمتخيل الإبداعي الذي يرتبط في تشكلاته وارتباطاته بعدد من المعطيات السوسيو ـ ثقافية والتاريخية والميثولوجية يعد مهمة صعبة لأن هذه العناصر تحضر في الخطاب السردي لارتباطه بالمجتمع، وبالتالي بخصوصياته وسماته السوسيوـ تاريخية التي تضمر كل المحددات والعوامل المشكلة لمنتوجاته الثقافية الفكرية والحضارية مما يؤدي إلي التأثير على طبيعة اشتغالات الكتابة الإبداعية، وهذا يحيل إلي النظرة بعمق علي وضعية وخصوصية المرأة كنموذج. فهي الآخر المهمش و من خلال رؤيته و تجلياته، ونظرة المرأة تجاه العالم والأشياء، فإذا كانت صورة المرأة في السرد تتشكل ملامحها انطلاقا من اختزالها في جسد شبقي وكائن مخادع ومخاتل ومسبب لتعاسة وجحيم الرجل، وصار الرجل علي يقين أنه كلما أحكم سيطرته عليها وعنفها وعذبها كلما اكتملت فحولته ورجولت،ه وبالتالي عاش في أمان، فإن المسكوت عنه واللامقول يؤطر هذه الرؤية الذكورية التي حددت وضعية المرأة في المجتمع العربي، والسرد صورة لهذا المجتمع، وانعكاس لرؤاه وأيدلوجياته المتحيزة ضد المرأة، التي ورثت الميراث الثقافي من القهر والعنف الموروث منذ الحضارات القديمة، وحتي اليوم، وإن جسد المرأة هو نتاج وضعيتها الطبقية والاجتماعية وأن النظرة الشبقية للمرأة وحصرها في المحدد الجنسي باعتبارها موضوع اللذة الذكورية، إن هو إلا تعبير مقنع عن حالات التيه والفقر والمعاناة الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع العربي، وهذا يكشف وبعمق عن صورة المرأة بين السارد والمجتمع.

تحيلنا السرود أثناء معالجتها لشخصية المرأة إلى بعض التفاصيل والجزئيات، التي تحدد سلوكها وفضاءاتها الأنثوية، ومرجعياتها الثقافية وتاريخها البيولوجي، وتقزيم دورها في المجتمع، وبنظرة سيسولوجية للتاريخ الثقافي للمرأة العربية، نجد أن قهر المرأة لجسدها أشد. فمنذ اللحظة الأولي المولود الأنثي قد يكون مرفوضا في بعض البلدان العربية التي ورثت الفكر الذكوري البدوي، ومارست القهر علي الأنثي منذ البداية، كما تمارس المرأة علي الأنثي قهراً أشد علي جسدها وليس أدلّ علي ذلك من عملية الختان التي تصر عليها الكثير من الأمهات في كثير من البلدان العربية. أما علاقة المرأة / الرجل فتمثلت في تلك النظرة المتوارثة منذ الأساطير الأولي كما سأشير في موضع آخر من هذا البحث، منذ أن انحسر وأُقصي دور المرأة، واقتصر علي الوظيفة البيولوجية، منذ أسطورة إنانا وجلجامش في ثقافة بلاد الرافدين، في البدء كان الفكر الطوطمي، وكانت المرأة تمثيلا قويا للطبيعة، فهي واهبة الحياة، وراعيتها، وكانت النساء إلهات خالقات وسيدات الأكوان، فمعظم الحضارات القديمة تحيزت ضد المرأة.

حملت الأسطورة الجذور الثقافية الأولى المؤسسة على ثنائية الجنس البشرى، المرأة والرجل. وكانت الكيفية التى تأسس عليها هذا الفهم، هى الربط بين الجنس والخطيئة، وكانت المرأة تمثيلاً قوياً لهما معاً. لقد بقى هذا الربط أصيلاً فى الميثولوجيا البشرية، ومتنقلاً فى التحولات التى طرأت عليها "كما أن الأسطورة، وعلى مسار تاريخ طويل، عملت على تعزيز نفسها من خلال مؤسسات دينية كبرى، ظل العقل التحليلى طريقة الوصول إلى أساساتها المبنية والمرتكزة على جسد المرأة وعلي مسار تاريخ طويل، لكنها أيضاً الأساسات المبنية علي عقلانية تؤسس للقمع لا للاختلاف من منظور فكرة الخطيئة نفسها" (1).

كانت عشتار إلهة الحب والعشق والإنجاب، هذه وظيفتها، واهبة الحياة، أمثولة الخصوبة التى تقاوم بها الموت وتحمى الجنس البشرى من الفناء. هكذا تدعو عشتار جلجامش إلى مضاجعتها، لكن جلجامش، مسكون بالخلود، يرفض دعوتها، ويتهمها بالدنس ويذكرها بخطاياها. فى سياق آخر، تدخل "تيامة"، الإلهة الأنثى فى صراع مرير مع "آنو"، الذى اغتصب من "تيامة" عملية الخلق، فصار الخلق من الفم بدلاً من الفرج.(2) وبقراءة ما حدث بين جلجامش وعشتار وتيامة أو إنانا نجد أنفسنا أمام ثنائية السماء والأرض، الأعلى والأدنى، المغيب والمجسد، الروح والجسد، المقدس والمدنس. وهكذا يمكن القول، إن ثنائية المرأة والرجل، هى شكل لثنائية كبرى تضع الثقافة فى مواجهة الطبيعة. وكأنما الثقافة هى سعينا البشري للخلاص من الخطيئة الأولى. ومن ثم، ففى تاريخ الثقافة البشرية، تكون المرأة هى الجانب المسكوت عنه، المرغوب تهميشه، والذى فى أفضل حالاته يكون موضوعاً لا ذاتاً، مفعولا به لا فاعلا.

ومنذ ذلك التاريخ، منذ ورثت الحضارات التالية ذلك الفكر الذكوري الذي اختزل المرأة في الجسد، لم ترق علاقة المرأة بالرجل، في المتن الحكائي المدروس، إلى مستوى التحرر والتحضر الكاملين. فقد ظلت المرأة حبيسة جسدها وحاجتها الملحة إليه، حتي يضمن أمنها الذاتي والنفسي معا. ولعل في مثل هذه الحاجة الملحة ما يقود المرأة، بصورة أو بأخرى، إلى استخدام إغرائها الجسدي، حتى تبلغ حاجتها وتلبي رغبتها. وإن كانت المرأة في تجربة الوجود الأولي هي التي قادت إلي المعرفة، عندما أكلت من الشجرة المحرمة، شجرة الخلود، شجرة التفاح في الجنة، فإن الرجل مجرد تابع لها، وهل يتساوي ألم الكشف المعرفي ببهائه وجماله بالتلقي دون ألم أو معاناة ؟ هيهات بين لذة المرأة، تلك اللذة التي تنبثق من تعب، وبين لذة الرجل التي تنثال عليه دونما جهد أو معاناة. ربما صارت الذات وتشظيها، والجسد وما يمارس عليه من طقوس، هو الموضوع الأثير في الآونة الأخيرة من إبداع المرأة، علي نحو ما رأينا في كتابات بسمة النسور في (مزيدا من الوحشة) وأحلام مستغانمي (فوضي الحواس) وحنان الشيخ في (حكاية زهرة) ونبيلة الزبير في (إنه جسدي) وهالة كوثراني في (الأسبوع الأخير) وقبلهن هدي بركات في (أهل الهوي).

كما تقول فرجينيا وولف في مقال لها بعنوان: "المرأة والكتابة الروائية": "وصف كتابة المرأة في الوقت الحالي وبشكل مختصر، تتسم بالشجاعة والصدق، وإنها تبقي علي اتصال دائم بمشاعر المرأة، لم يعد في هذه الكتابة طعم المرارة، إنها نوع من الكتابة لا يصر علي الأنوثة، ولكننا في نفس الوقت أن كتاباً تكتبه امرأة لن يكون مماثلاً للذي يكتبه الرجل، لقد أصبحت هذه السمات في كتابة المرأة أكثر انتشاراً مما كانت عليه، وهي نفس السمات التي تعطي الأعمال حتي من الدرجة الثانية والثالثة قيمة تجعلها حقيقية وصادقة مع نفسها"(3). وانطلاقاً من فكرة أن المبدع يقدم لنا عالمه الإبداعي بفكر واحد، ورؤي هي بنت اليقين المطلق له حتي لو اختلفت الأجناس الأدبية التي يقدمها لنا، فكان لزاما علي أن أعرض لثلاث نماذج لحياة الرايس تبين فيها صورة المرأة بشكل جلي وهذه النماذج هي مسرحيتها الشعرية (سيدة الأسرار) والمجموعة القصصية (ليت هندا) وقصصها المتفرقة (رسائل لا يتحملها ساعي البريد) وكتاب (جسد المرأة).

وأول نص سنتعرض له هو مسرحيتها الشعرية (سيدة الأسرار)، وطبعا مسرحية شعرية ربما تجدونها أبعد عن السرد، ولكنني بقراءة المسرحية وتحليلها وفق قراءة نسوية أشير إلي نقطتين: الأولي رؤية حياة الرايس العصرية للمرأة الأسطورية عشتار التي تمثل التمفصل الحقيقي الذي انحرفت عنده الرؤية التحيزية ضد المرأة، فعشتار وجلجامش مرحلة هامة ومفصلية انحرف عندها الخط البياني الذي حوّل مسار المرأة الطوطم مركز الحضارة الإنسانية إلي المرأة المهمشة، المتهمة بكل التهم التاريخية التي يتناقلها الفكر الذكوري حتي الآن، المرأة الواقعة تحت قهر التابوهات بشتي أنواعها، فمسرحية سيدة الأسرار تعالج قصة تمثل تاريخ أسطورة المرأة في حضارة بلاد الرافدين.

السبب الثاني الذي جعلني أغوص في عالم مسرحيتها مساحات السرد الذي تقدمه فيما يشبه المشاهد القصصية المتجاورة، فالمسرحي كدراما شعرية تعني في العموم بفكرة الدراما والفعل والأداء وتهتم بما يوحي للقارئ بأن الحدث يحدث أمامه الآن، ولكن حياة الرايس في عملها هذا انتهجت طريقة الحكي عن أو الرواية عن في مشاهد عديدة مما حول مسار العمل من دراما آنية إلي سردات مشهدية متراصة ومتتابعة.

وقبل أن ننظر إلي رؤية حياة الرايس لصورة المرأة / عشتار في الملحمة نستعرض باختصار كيف غيرت الملحمة فكرة المرأة / الطوطم مانحة الحياة إلي فكرة التابو وتهميش دور المرأة وإقصائه. إن أسطورة جلجامش في سياقها التاريخي أول نص تمجيدي لثقافة الذكورة وبداية ملحوظة لردم التراث الطوطمي الأمومي الذي تحكم بالسياق الحضاري قبلها، فهناك دفن حقيقي لانكيدو ودفن رمزي لتراث سيطرة المرأة على مقدرات المجتمع والحضارة، وبذلك تأتي هذه الملحمة على الحافة بين زمنين متضادين.

ولأنها تقع على مفترق الطرق وفي مفصل تاريخي حاسم نرى كاتبها يحتار في اتخاذ موقف من النساء، فجلجامش نفسه ومع تمجيده المتوقع لامه " ننسون" نراه يذم عشتار ويسخر منها ويتهمها بكل التهم التاريخية اللاحقة التي سيستخدمها الذكور في النيل من الإناث، فهن غادرات ماكرات لا يخلصن لأحد ويلوثن من يتصل بهن، لذا يرفض جلجامش الاقتران بعشتار ويذمها مع بنات جنسها في نص طويل.

ما أنت إلا موقد تخمده ناره في البرد
باب خلفي لا يحمي من ريح أو عاصفة
قصر يسحق الأبطال من حماته
حفرة يخفي غطاؤها كل غدر
قار يلوث حامله
قربة ماء تبلل حاملها
حجر كلسي هش في سور صخري
حجر كريم.. في بلاد الأعداء
صندل يزل به منتعله
أي حبيب أخلصت له أبدا
وأي راع افلح يرضيك دوما
تعالي أفضح لك حكايا عشاقك

إن عصر جلجامش عصر انتقال السلطة من الأنثى إلى الذكر ومن الطوطمية الى الأبوية، فهل العصر الذي نحيا فيه الآن عصر قبول لفكرة حكمة المرأة وعودة مركزيتها، أو لنقل تخفيف من غلواء تهميشها واحتقارها باعتبارها الآخر المدنس المهمش ؟

ما نشهده حولنا لا يثبت ذلك، ولكنه يُشير إلي إمكانية حدوثه، فنحن في زمن التحولات الكبري.
تبدأ الكاتبة في فكرة إسباغ الإنسانية علي الملكة الإلهة وحاجتها الملحة للبوح، ولننظر في فكرة البوح، هي فكرة نسوية لا محالة، فحاجة الكاتبة الأنثي إلي البوح بالمسكوت عنه، إلي البوح بما أوقعه عليها التاريخ من ظلم، استجلاء صورة الأنثي غير المكمم فمها، فتح كوة لها لينظر العالم إلي داخلها، بل رغبتها الملحة أن يصير الداخل خارجا كهاجس أولي للكتابة النسوية، الملكة والإلهة تحتاج فقط لتصرخ فلتسمعوا لي لأنني في النهاية محض أنثي ترغب في أن تكشف عن داخلها، أن تخبركم باللامقول الذي ظل كامنا سنين طويلة.......
وبإشارة من الإلهة عشتار تتوقف كل حركة، تخر العذارى ساجدات. تتقدم وزيرة الإلهة إلى مقدمة الخشبة:
ـ " اليوم يتوقف كل شاك عن الشكوى وكل داع عن الدعاء وكل ناذر عن النذر وكل متضرع عن أي ضراعة، اليوم تنقلب الأدوار وتتبدل المواقع من أجل سماع قصة عشتار:

مأساة بحجم الآلهة.
من قال إن الآلهة لا تحتاج إلى لحظة بوح ؟
ومن قال إن قصص الآلهة أقل مأسوية من قصص البشر؟
عشتار تخرج عن صمتها:
"امرأة مثلكن أنا
امرأة من سلالة الآلهة
و امرأة من نسل النساء
أحببت
فتألقت وتوهجت نيزكا في الظلام
ثم في العالم الأسفل سقطت
على تموز وقعت عيني
أنا إلاهة الأرض المرحة الشهوانية الشهية
أحببت تموز حبا جارفا
تموز إله النبات وتكاثر الحيوان.
على تموز وقعت عيني
في أقصى جنوب سومر ـ في أكاد ـ
أقدس المدن السومرية
انجذب بولع أحدنا إلى الآخر
واتحدنا اتحادا رقيقا
في عناق انتشائي لم ينفصم

وكأن الكاتبة كانت واعية تماما حين تؤكد علي فكرة تبادل الأدوار، أو لنقل رجوع الوضع إلي طبيعته المحتمة والمقدرة، فهي تستجلي صورة طمست بفعل آلاف السنين من النعوت والأوصاف التي أطلقها جلجامش، وتناقلتها الأجيال جميعها وراءه

" اليوم يتوقف كل شاك عن الشكوى وكل داع عن الدعاء وكل ناذر عن النذر وكل متضرع عن أي ضراعة، اليوم تنقلب الأدوار وتتبدل المواقع من أجل " اللغة عند حياة الرايس رغم أنها تهجس باللغة الشهوانية الجسدانية إلا أن الكاتبة لا تلجأ لتلك اللغة، بل تلبسها ثوب المجاز الاستعاري والكنائي، فهي تلمح ولا تصرح، تكني بلغة مجازية عن حالة شبقية جسدانية:

كان الإله الشاب يحمي حيوانات
السماء وحيوانات الأرض
يدرأ عنها أخطار أشعة شمس
الظهيرة المحرقة..
هذه الأشعة، اشتعلت في جسدي
حينما على تموز وقعت عيني

وتؤكد في موضع آخر من النص بلغتها الوجدانية علاقتها بتموز، وأنهما يكمل أحدهما الآخر، فالمرأة عند حياة الرايس لا تجد في الرجل الضد المعادي، بقدر ما تري فيه الاكتمال والتوحد، كما تؤكد علي دور المرأة الأسطوري، المرأة مانحة الحياة، مانحة الخصب والنماء، وهذا هو المقلوب التاريخي لتشويه جلجامش للمرأة التي وصفها بأخسّ الأوصاف وأحقرها، ها هي كاتبة من هذا القرن تعيد البهاء لوجه المرأة، تعيد إليها كرامتها التي أهدرت، ودورها الذي تشوه، فهي وتموز الرجل سيعيدان للبشرية خصوبتها المفتقدة تقول:

أما الآن فلم أعد راغبة إلا
في الرجل الوحيد الذي عرفت
الحب في أحضانه
وعرفت ذلك الإحساس (الجديد عليّ)
بالامتلاء والكمال السعيدين لأناي الخاص
ذلك الإحساس الذي لا يمنح إلا
للرجل والمرأة اللذين لم يخلق
أحدهما إلا للآخر
هذا الاشتهاء للواحد المفرد
جعل الإلهة التي ـ تفتح أرحام النساءـ
مثالا تحتذيه جميع النساء
فليس بكاف أن تشبع لذة الاتحاد الجسدي
الحواس فقط
بل عليها أن تروي القلب أيضا
وقد روى تموز بالحبّ قلبي
عندما ضمّ قلبه إلى قلبي
وكلّ معانقاتي قبله لم تكن
تعادل عناقا واحدا من تموز
الذي توّج بالحبّ قلبي

وتواصل الكاتبة تقديم رؤيتها للمرأة التي تكون علي استعداد للتضحية بحياتها من أجل من تحب، فها هي مليكتنا عشتار، تقرر أن تنزل للعالم السفلي عالم اللاعودة، حتي تعيد تموز ثانية وتبعث الحياة فيه، ولكنها تتعرض من جديد للظلم والفهم الخاطئ فها هم العامة يرون في تضحيتها رغبة من ملكة السماء في السيطرة علي العالم السفلي، عالم أريشكيجال:

كنت أحب تموز
وكنت مستعدة لكل المخاطر من أجله
لكي أبرهن لكل الناس أن على المرأة
العاشقة أن تقبل كل التضحيات
لكي تفوز بالرجل الحبيب وتحتفظ به
وعليها بدافع الحب ألا تتراجع
أمام المخاطر مهما بلغت ولو كانت
الموت نفسه
ولذلك شرعت بارتياد طريق الجحيم
لأبعث في تموز الحياة من جديد
بتحميمه في الينبوع المقدس.

وبعد أن تفديه، تأسرها ملكة العالم السفلي أريشكيجال، ولكن وزيرتها، تدور علي المعابد، تستعطف الآلهة، أن تعيد إنانا أو عشتار مانحة الحياة والخصب إلي الكون، وتفلح في إقناع إله الحكمة أن يساعدها، وحين تعود المرأة المقدسة، تجد حبيبها قد نسيها، وجلس في بهائه وجماله يعزف نايه لامرأة أخري، فعل وفاء وتضحية يقابله فعل غدر وخيانة من الآخر الرجل،،، فتثور في لحظة غضبها وتسلم حبيبها لمملكة العالم السفلي وتتعرض ثانية لظلم العالم الذي لم يقدر تضحيتها ولا دورها في منح الحياة:

اعتزمت النزول إلى العالم الأسفل
بيت الأموات المخيف المظلم من أجل
استعادة تموز حبيبي وزوجي.
لكن الناس لم تقدر تضحيتي.
واتهموني بأني لم أكن لأكتفي
بمملكة "الأعلى العظيم" بل أردت
أن أبسط نفوذي أيضا على
"الأسفل العظيم".

وتقدم لنا حياة الرايس رؤيتها لدور المرأة الطوطمي الأمومي، فهي أصل الحياة، وهي من تعمر الأرض، وهي الخصب والزرع، وهي كل مظاهر النماء علي الأرض:

أيتها الأم الكبرى
لا تنزلي
إذا نزلت من سيعمّر الأرض بعدك ؟
أنت الأم الأولى
ولدت كل البشر من رحمك
وأنت ملكة الكون
إيقاع جسدك ينبض كما إيقاع الطبيعة
أنت الأم وأنت الأرض
أنت الأنثى وأنت الخصب
أنت الزرع وأنت القمح
أنت الحياة وأنت الولادة التي لا تنضب
يفيض جسدك بأجساد أخرى

ولا تنس أن تؤكد أن السلام والحرب بسلاح الكلمة والمحبة هما وسيلة المرأة، وهذا يحيلنا طبعا للرؤية النسوية التي تري أن الرجال هم سبب الحروب والدمار للبشرية، وأن كل الكوارث التي مرت بها البشرية علي مرّ التاريخ سببها الرجال،وأن المرأة هي الصانعة منذ أول التاريخ، وهي المخترعة لكل ما يسهل الحياة علي الأسرة، وهي التي تحمي المجتمع وتحافظ علي كينونته حين يكون الرجال في الحرب، وتتفق حياة الرايس دون وعي مع فكر الناقدات النسويات اللواتي يتساءلن عن إغفال التاريخ لدور المرأة، حين يكون الرجال يشعلون الحروب والدمار من كان يظل في القري والمدن يحافظ علي الأسرة وينمّي الزرع ويخترع ويصنع ما يسهل الحياة للأسرة.

بأسلحتك السلمية جعلت الجنس الأضعف بدنا
أقوى قدرة وخلقا
كنت المسؤولة الأولى
عن حياة الأطفال وما زلت
رغم كل الانقلابات التي حصلت
أنت أول من أحسّ برجفة
الوليد حين ولد
حوّلت جلود الحيوانات إلى
ملابس وأغطية ومفارش
فكنت النسّاجة الأولى
تحيكين نسيج الحياة.
وتغزلين خيط القدر.

وبعد هذا التحليل لصورة المرأة في مسرحيتها " سيدة الأسرار " نعمد إلي عمل آخر لتكتمل رؤية عالمها، وتتضح صورة المرأة فيه، والعمل الذي سأقوم بتحليله هو " ليت هنداً "، وقبل التماس مع عالمها القصصي نشير في عجالة إلي العلاقة بين القصة القصيرة والرواية، وأسباب اتخاذ نموذج قصصي لتوضيح صورة المرأة، في حين قد يري البعض أن الرواية هي أقرب الأجناس السردية التي تبين فيها صورة المرأة.
يشير ( سيد الوكيل ) في كتابه " أفضية الذات " إلي أن الرواية فن مكتمل ومكثف وذكورى، وأنها تميزت بالفحولة المطلقة، من هنا تستمد الرواية حضورها المركزى، بحيث تبدو القصة إلى جوارها مغرقة فى هامشيتها كأنثى، فهي سردية صغيرة أعطت مساحة ممكنة للمهمشين وقليلى الشأن أن يعبروا عن أنفسهم. " امتلكت القصة هذا الوعى مبكراً، وكان مضمراً فى أسباب نشأتها الأولى، ومن ثم يمكن القول إن القصة القصيرة حملت المشروع الحداثى للإنسان بوصفه مركزاً للكون، وجسدت بشكل فلسفى رغبته فى موت الأب ( ذلك الرجل النبيل بشكل مطلق)، وعلى مستوى تقنى، جسدت رغبته فى هدم سلطة الشكل،هذه السلطة التى حددت منذ البداية طبيعة الأنواع الأدبية، ومن ثم يمكن تصور أن القصة القصيرة ومنذ نشأتها الأولى جسدت تهديداً مباشراً لمركزية النوع، الذى هو أحد تمثيلات الخصوصية الثقافية، وكأنها تمهد العالم لعصر جديد من التنوع الثقافى الواسع على نحو ما يعيشه فى لحظته الآنية " ( 4 )

إذن القصة القصيرة ثورة من ثورات الحداثة، نجحت في أن تخلخل مركزية الشكل الروائي، بل وغيرت القصة القصيرة في تطور الرواية نفسها، وما يكتب الآن باسم الرواية الحداثية أو ما بعد الحداثية ما هو إلا سردات صغيرة متجاورة ولذا عند الحديث عن عالم حياة الرايس القصصي في مجموعتها " ليت هنداً " وقصصها المتفرقة رسائل، لا نبعد كثيرا عن صورة المرأة في السردات العربية. فالقصة بوصفها ظاهرة ارتبطت بمرحلة الثورة علي الشكل المركزي للرواية برصانتها وفحولتها وفكرها الذكوري، هي أقرب للروح الأنثوية، وهي الشكل السردي الذي أعطي المساحة للازمة للمهمشين كي يقفزوا إلي بؤرة الضوء والتركيز. وفي مجموعة ليت هندا تقدم حياة الرايس صورة تشابه الصورة التي يحملها الشعر العربي، فهي صورة الأنثي المثال، الأنثي الحلم التي يرغبها كل الشعراء، وحين يحصلون عليها ستنفتح لهم كل الآمال والأحلام، ولا يغيب علينا دلالة الاسم هند، المحبوبة التي تحيلنا للحنين الماضوي كما أشرنا فيما سبق، وفي بداية القصة التي أخذت المجموعة اسمها ليت هندا تعدد أسماء النساء الأحلام اللواتي لهن في المخيلة الجمعية العربية، فتذكر سعاد التي لم تبين عندها ودعد وليلي وغيرها من النساء اللواتي لم ينتظرهن شاعرها فقط ينتظر هندا:

" ترى كيف تعيش هند ؟ . بيت كبير يطل على البحر غرفة واسعة، تدخلها الشمس، من كل جانب، غرف دافئة أثاث عتيق نادر تحف ثمينة إخوة أب وأم يجتمعون حول المائدة، ثم يفترقون أو ربما لا يجتمعون لذلك تضجر هند، فتقرأ الشعر وتبحث عن شاعر هند في حاجة شديدة إلى شاعر................ فلتذهب المعجبات الأخريات إلى الجحيم! لن أسترضي ليلى أو دعد ولن أتوسل سعاد بعد الآن لست أدري لماذا أحببتهن ؟ إنهن عاديات جدا، بل تافهات، كما أني لا أفهم سبب غرورهن؟ سأنتقم من سعاد وأنسيها تلك التسلية اللعينة، بضرب المواعيد الباطلة كم انتظرتها في البرد، تحت المطر وعلى الأرصفة حتى اعتلج البرق من دماغي سأجعلك تنتظرين يا سعاد ! العمر كله ".
هند هنا تمثل للشاعر الحلم بالثراء والاستقرار، هو حلم عصري يناسب العربات الفارهة، ودار للنشر، والانتشار كشاعر، وهو يمثل لهند حلم الطيران والتحليق في عوالم من الخيال، عوالم الشاعر التي تخيلتها دوما

ولكن الواقع المؤلم يفيق العاشقين، فهند تكتشف فقر حبيبها، تفر منه وتبحث عمن يوفر لها استقرارا ماديا وأسريا، وبذا نجد أن الكاتبة تصور لنا ببراعة انهيار الحلم علي صخرة الواقع، كلاهما اكتشف زيف حقيقة الآخر، فلا هو الغني الحالم الشاعر الذي يصوغ الأحلام من أجنحة الفراشات، ولا هي الثرية التي ستحقق له حلم الثراء والشهر:

" واقتحمت هند في يوم من الأيام عليه بيته ومن يومها اختفت إلى أن كان اليوم الذي تلقى فيه محمود عيسى رسالة منها تقول فيها: "صديقي الشاعر،
لقد راعني أن يجمع الفقر بيننا !
صحيح أنك أغرقتني شعرا و لكنه ليس كل شئ
لقد عشت طوال عمري، في عائلة تتوارث الفقر .
ظننت أن الشعر والشهرة سينقذانني من فقري
لكن جارنا الجزار إسماعيل كان يملك بيتا مؤثثا، لا ينقصه شيء
وعندما طلبني للزواج ! فكرت
أعتقد انك ستقدّر الموقف ".

إذن المرأة الحلم حين توضع في اختبار حقيقي ما بين الحم والواقع، تختار الواقع، تفضل الجزار علي شاعرها الفقير، هو انتقاد للمجتمع القاهر لأبسط آمالنا.
وفي قصة " طقوس سرية وجحيم " تعكس الكاتبة صورة الحلم، فالمرأة هنا هي الشاعرة التي تنازلت عن حلمها وألقها لصالح الواقع والمجتمع، رضيت بنسيان حلمها، وتزوجت وصارت أما، وكأن لا مكان للشعر / الحلم في واقع فقير يضغط علي أرواحنا، فالذات / المرأة هنا تعافر من أجل إقامة حياة لها ولطفليها، تتشظي بين العمل والسوق وعودة الزوج، والسعي لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار لأسرتها الصغيرة، ولا نعرف بحلمها إلا بعد أن يقابلها أحد معارفها القدامي، الذي يحاسبها دون أن يعي علي ضياع حلمها من أجل الزواج:
"كيف حالك أنت؟ منذ تخرجت من الكلية لم أرك ولم أسمع أخبارك. سوى أنك تزوجت من أحد المعجبين بشعرك أيام الجامعة.

"نعم تزوجت وأنجبت "
ينظر إلى ابني: "صار لك ابن ما شاء الله ".
أصحّح " بل ابنان، الآخر بالبيت ".
يقول: " والشعر ؟
أبلع غصتي: الشعر صار كالكحول السريّ رائحته من رائحة المنكر.
يلاحقني الدكتور بأسئلته:
"مالك صمتِ ؟ أين هو الشعر من حياتك ؟
"لقد أصبح مشروعا مؤجلا ينتظر أن يكبر الأطفال ".
يبدي الدكتور استغرابا
ما علاقة الشعر بالأطفال؟
أو هكذا أنتن " النسوان " لا تنتظرن من الدنيا سوى عريس إذا وجدتنه أسقطتن العالم وأقبرتن مواهبكن ".

إذن الكاتبة تؤكد من جديد علي أن الفقر والمجتمع يسلبنا المرأة أبسط أحلامها، أن تكون ذاتها، أن تتوحد مع حلمها، النار تتأجج داخل المرأة، صرخات ابنها تختلط بصرخات داخلها المتمزق بين حلم ضائع وواقع ضاغط: كلمات الدكتور تسبقني إلى أركانه.... تخلخلها.....تقوّضها... انحني على سرير ابني أتفقده.
صراخه يختلط بصراخات أخرى في داخلي
" أشياء البيت توترني، تعثرني، تبعثرني... فوضاه تؤججني كجمرة خامدة تحت الرماد هبّت عليها رياح شتوية.
أركض بساعات النهار نحو ليل لن يأتي هذه الليلة كما يأتي كل ليلة ".

ولا تكتفي الكاتبة بتصوير الحلم الضائع، بل توجه صفعة نسوية شديدة لرجل لا يري في زوجته سوي جسد، رجل يطالب بحقه الزوجي غير معني بروحها المتعلقة بكتابة قصيدتها التي تلح عليها، ويظهر سؤال يحرك البركة التي خلناها راكدة تري لو أن الزوج هو الشاعر، وفي حالة كتابة قصيدة، هل كان سيسمح لزوجته أن تخرجه من حالته لأنها تريده الآن في سريرها الذي حتما كان باردا دونه ؟ والسؤال الآخر الذي يتفجر الآن نتيجة لهذه القصة الدالة، هل يري المجتمع في إبداع المرأة ترفا ورفاهية وتزجية وقت فراغ ـ حتما ـ غير موجود في الأوساط الفقيرة اجتماعيا ؟:

ـ أتركني رجاء أريد أن أكتب
ـ اكتبي في أوقات الفراغ...
ـ هذا الليل لي !
ـ واجبك كزوجة إن لم تؤده أوّل الليل لا يسقط عنك آخر الليل.
أوف " صالح" يكفي من المزاح
أنا لا أمزح... ليس الوقت وقت كتابة.
بالروح قصيدة معلقة
سأكتفي بالجسد وأترك الروح للقصيدة تعالي...
تمسّني رياح جنونية...أهّب واقفة كشجرة تهرب من فأس حطاب يريد شقها شطرين، لتواجه معزولة العاصفة.

لم أخلع قميص نومي تلك الليلة ولكني كنت كشجرة خريف تسقط عنها، أوراقها شيئا فشيئا...لم يعد هناك ما يدعو للتستر على الحلم ".
تعلن الكاتبة أجراس الخطر وتطالب المرأة بالتمرد، بالتوحد بحلمها، بالبحث عما فقدته في معركة الحياة اليومية، تطالبها بالانتصار لحلمها القديم ـ تؤكد علي أهمية الإبداع لدي المرأة فهو الذي يساعدها علي ترتيب العالم من جيد، ففعل الكتابة لدي الذات الساردة هو الحياة، هو الوطن الوحيد الذي فقدته، هو حلم الحرية:

وبدأت أعيد ترتيب العالم من جديد
وأهيئ نفسي لعمر لا يفنى...
لما أنخلع الباب وانتصبت على العتبة قامة رجل كنت أعرفه. لكنه بدا لي الليلة بشعا مترهلا أكثر من العادة...كقاطع طريق منزوع من سلاحه، لا يزيّنه سيفه تقدم نحوي كالحيوان الجريح.
ـ أتدرين ما يسمى ما فعلته الآن ؟
ـ أنا لا أعرف إلا شيئا واحدا هو أني في حالة كتابة
ـ أنت في حالة نشوز. أنت ناشز.
فليكن !
ـ أنسيت أنك زوجة ولك واجبات ؟
ـ اتركني رجاء
ـ أنا لا أفعل سوى المطالبة بحقوقي ".

وتقدم لنا الكاتبة مفارقة عن ازدواجية تفكير الرجل الشرقي، في الوقت الذي يمنعها فيه من ممارسة حقها في الكتابة والتعبير عن ذاتها:
لم يكن "صالح" يمهلني التفكير أو الاختيار فقد كان يتوعد ويهدد يهتز فوقي وينتفض حتى همد.
ثم تركني وخرج. عند الباب التفت إليّ قائلا:
بإمكانك أن تكتبي الآن !...
قمت إلى الدش أفتحه أطلت الوقوف تحته... ساعات والماء يغمرني ولا يغسلني.... عندما خرجت من الحمام لم أجده.
كان قد غادر إلى الجامعة ليبدأ محاضراته. عن الحريات وحقوق الإنسان. إذن فعل الكتابة كما تري الساردة هو ترتيب العالم، هو فعل يوازي فعل الخلق، هو الوطن المغزول من خيوط الروح، المخلوق من حبر وورق.

أما في مجموعة قصص رسائل لا يتحملها البريد، تعبر بنا القاصة نهر الحنين، تغوص بنا وتبحر، تغوص وتطفو، ولا نقدر علي التقاط أنفاسنا، فهي لا تقدم المرأة الأسطورة كما في عشتار، ولا المرأة الرمز المثال كما في ليت هندا، ولا المرأة المقهورة تحت ضغوط المجتمع والذكورة والسلطوية كما في طقوس سرية وجحيم، هذه المرة تقدم امرأة من نوع خاص، امرأة تعيش في سلام مع الآخر / الرجل رغم حجم المأساة التي تعيشها، امرأة تحلم بجمع شقيها كما تخبرنا الأسطورة الهندية، أن كل زوجين متآلفين يظلان يبحثان عن بعضهما، ومن يعيش سعيدا في الحياة من يجد نصفه الصحيح، وشقه الموافق له، امرأة حياة الرايس في قصص رسائل البريد والتي قصدت أن أختم بها امرأة تعشق بصدق، امرأة غزلت حلمها بهذا الشقيق لروحها بمهارة الشاعرة، ولغتها، وحس الساردة وعالمها الزاخم، هي تحيا مأساة حقيقية لأنها تعشق آخر يخيرها بينه وبين الوطن، وتختار في النهاية الوطن، وتفترق عن الحبيب الذي فضلت أن يظل حلما لا يُطال، يظل صورة في الخيال، تختزل العالم والفرح وكل شيء في سبيل انتظار رسائله.

الرسالة الأولي عنونتها بـ " نوستالجي " حنين دائم لا ينتهي، ترحل وتتركه، ولكنها تنتظر رسائله، والحنين في السردية الأولي نوعان، الأول حنين للحبيب الذي تشعر بالشغف نحوه، والثاني الحنين لطقوس استلام الرسائل، هي تكره الفاكس والبريد الإلكتروني، هي تطرب لدقة ساعي البريد علي شباكها، تعشق صوت جرس دراجته، تقع أسيرة تواطئه الجميل، فقط لتنتظر الحبيب، هي تقدم صورة أنثي شاعرة وفاعلة في آن، هي تخالف صورة هند المفعول بها وكذلك صورة دعد وليلي ولبني، هي هنا تقدم صورة فارقة ومائزة، صورة المرأة الفاعلة، التي تُخير بين الحبيب وبين الوطن، وتختار الوطن طواعية، وتظل تنتظر الحبيب وتشتاق، فقط تشتاق:

" وصلتني و أنا ارتشف القهوة بتوتر و أتلكأ في الخروج حتى يمرّ ساعي البريد و ينقر على زجاج النافذة التي أنتظره منها كل صباح ..
ما زلت ارفض أن تبعث لي رسائل عن طريق الفاكس أو البريد الإلكتروني رغم طول الانتظار، رسائل البريد استقبلها بطقوس خاصة لا أريدها أن تنقرض في عصر البرقيات و التلكسات و الفاكسات و الإيميلات و الومضات .

أريد أن استلم رسائلك و أنا في غرفتي في فراشي بذلك الكسل في العينين .و الخدر اللذيذ في جسدي كأنما على الفطرة الأولى و احب أن تفاجئني رسائلك صباحا و تباغتني في نومي و تقتحم أحلامي .و اترك بابا للانتظار مواربا بين حين و حين سينقر عليه المطر محمّلا بالحنين ".
وفي رسالة أخري عنوانها " لعبة الأمكنة "، تواصل الكاتبة شجو الذات الساردة في البحث عن الحبيب الذي تنازلت عنه طواعية، تقدم لنا مفارقة طريفة، فهي تبحث عنه في الوقت الذي يبحث عنها، ويتبادلان الأمكنة والأدوار، وكأنها إيزيس الباحثة عن أوزيريس، لتمنحه الحياة:

هل هي صدفة أن أضع حقائبي في نفس الغرفة التي أعددتَ فيها منذ قليل حقائبك و سافرت ؟ هل تكون حقائبنا حلّت و رحلت في نفس المطار و في نفس اليوم و نحن نعدّ لنفس المفاجأة ؟ ان آتيك فجأة و دون سابق إنذار و أن تسافر لي دون أن تهاتفني أو تعلمني بمجيئك ؟ أهي لعبة الأمكنة ؟

أحضر فتغيب
تصل فأرحل ؟
هل قرّر المكان أن لا يكون لنا معا هذه المرة ؟ بعدما رتّب لنا لقاءنا الأول ذات يوم في ذات المدينة ؟ لكي يبقى الهوى هكذا معلقا بين حقيبتين، في اتجاهين متعاكسين يحملهما نفس الشوق "
وفي رسالة جديدها عنوانها:
" كلما أنكسر أقرأ رسائلك " تواصل القاصة الاستدعاء والتماهي مع صورة الحبيب، تأتي بتفاصيله ورائحته، فقط حين تلامس رسالته، تستعين به علي الوحدة والفقد، والانكسار، تستدعي جملة قالها لها ذات بوح " كلما أنكسر أقرأ رسائلك ِ:
" أفتحها و استفتح بها يومي كما يستفتح النهار و جوده بالشمس هي ضوئي و هي نوري و هي مصباح حدسي في حالك الأيام .
أبحث فيما بين سطورها عنكِ . عن تفاصيلك عن وجهك عن غياباتك عن هذا المنفى الذي ينخرنا من الداخل قطرة قطرة و لحظة لحظة لا أجد غير ذاكرتي التي ألجأ إليها . كلما أنكسر أقرا رسائلكِ "
أنا أيضا أحمل رسائلك بلسما لجراح الأيام و درعا لطعنات السنين "

وكأن الذات تري في العشق درءا للعجز ولزحف السنين، تري فيه الأمان الوحيد من القهر والانكسار.
في كتابها جسد المرأة تواصل الكاتبة بوعي الغوص في قضايا شائكة تخص وضعية المرأة في المجتمع، ولكن هذه المرة من خلال تحليل سيولوجي وثقافي وليس من خلال السرد.. فقضية المرأة ـ بحسب الكاتبة ـ لم تعد قضية فردية تخص المرأة وحدها، وإنما هي قضية سياسية تخص المجتمع ككل لأنها متعلقة بحرية الفرد وبالحقوق المتساوية بين المواطنين وبديمقراطية النظام، إذ لا معني لحرية المرأة في مجتمع كله عبيد.
بهذه الكلمات بدأت الكاتبة كتابها وطرحت أهم إشكالية تغيب عن الكثيرات من الناقدات النسويات اللاتي يطالبن برفض التحيز ضد المرأة، بل ويغالين أحيانا بالمطالبة بالتحيز الإيجابي لصالح المرأة لرفع الظلم الذي استمر قرونا عنها..

هي قضية شائكة التي فجرتها الكاتبة في كتابها، فقضية المرأة اقتصادية وتربوية وسياسية وثقافية.
ولأن الكاتبة مغرمة بالميثيولوجيا فقد بدأت طرح قضية المرأة السياسية بقصة أسطورة أثينا، وأثبتت في سرد محكم أن التهميش السياسي للمرأة، وإبعادها عن الحياة السياسية جاء منذ عهد اليونان، وتعرض الكاتبة في براعة ولغة سردية كيف بدأ الإقصاء السياسي للمرأة منذ عهد اليونان، الذين تفاخروا طويلا بالديمقراطية، فما ميز مجتمع أثينا في العالم القديم هو الديمقراطية، ولأن الفكر الذكوري المسيطر في اليونان بسبب آراء الفلاسفة اليونان الذين تحيزوا ضد المرأة وجعلوها كائنا ناقصا غير مكتمل، بل ومدنس، لأن الفكر الذكوري هو المسيطر فقد تناسوا ديمقراطيتهم ومنعوا النساء من التصويت الانتخابي.

ولا يفوت الكاتبة في هذا السياق أن تثبت تباين الفكر في مصر القديمة والحضارة الفرعونية، فتؤكد أن تلك الحضارة لم تتحيز ضد المرأة بل علي العكس فقد أعطي الفراعنة للمرأة وضعية ربما لم تتكرر حتي في الحضارات الحديثة، فالمرأة في مصر القديمة هي الأم المقدسة، وهي الزوجة الإلهية المعظمة، وهي واهبة الحياة، وليس نماذج مثل نفرتيتي وحتشبسوت و نفرتاري وكليوباترا وقبلهن جميعا تي تشيري جدة أحمس وزوجة سقنن رع عنا ببعيد.

ثم تضع الكاتبة يدها علي موطن الداء لتخلف مجتمعاتنا الشرقية الحديثة عن المجتمعات الغربية في وضعها لجسد المرأة تحت سلطات متعددة سواء كانت سلطة سياسية أو سلطة اجتماعية أو حتي سلطة الجان الذي ربما تلجأ إليه المرأة بنفسها أحيانا ليكون وسيلة للهروب من القهر النفسي والاجتماعي للمرأة.
ثم تختتم الكاتبة كتابها بالحديث بشكل مفصل عن تجربة المرأة التونسية في التحرر، وتعرض لأهم رموز الفكر التحرري للمرأة، وتفصل الكلام عن الطاهر حداد المفكر الذي نادي بتحرير المرأة، وتعرض تجربة مجلة الأحوال الشخصية، وكيف أنها أوصلت المرأة التونسية ـ بخلاف وضع المرأة في معظم البلدان العربية ـ أوصلت المرأة التونسية إلي ما وصلت إليه الآن.

مصادر الدراسة
1 ـ تركى على الربيعو: العنف والمقدس والجنس فى الميثولوجيا الإسلامية ـ المركز الثقافى العربى ـ بيروت ـ 1994.ص 145
2ـ نفسه، ص 150
3ـ يمنى طريف الخولى: النسوية وفلسفة العلم ـ عالم الفكر ـ الكويت ـ أكتوبر وديسمبر 2005
4 ـ سيد الوكيل: أفضية الذات: الهيئة العامة لقصور الثقافة، آفاق نقدية ـ القاهرة ـ 2006.
6 ـ كلاريسا بنكولا: نساء يركضن مع الذئاب ـ ترجمة مصطفي محمود محمد ـ مكتبة الأسرة ـ القاهرة ـ 2005.
11 ـ فرجينيا وولف: غرفة تخص المرء وحده ـ ترجمة سمية رمضان ـ المشروع القومي للترجمة ـ المجلس الأعلي للثقافة ـ مصر ـ