أثار الاعلان عن النتائج الرسمية في مهرجان " كان " 67 العديد من رود الفعل الفرنسية الاعلامية الغاضبة المستنكرة والمستهجنة، وبخاصة بعد أن فاز مخرج تركي هو نوري بيلغ شيلان بأهم وأكبر جائزة في المهرجان، ألا وهي "جائزة السعفة الذهبية"، بفيلمه الروائي الطويل WINTER SLEEP" بيات شتوي الذي يستغرق عرضه أكث رمن ثلاث ساعات. وهو من أقوى الأفلام سينمائيا وفكريا وفلسفيا وجماليا التي عرضها المهرجان، ويقترب من روح الأعمال الأدبية الكبرى عند الانجليزي شكسبير أو الروسي تشيكوف. وكان أغلب النقاد في الدورة 67 رشحوه للحصول على السعفة، ولم يكن ينافسه اي فيلم آخر في المسابقة للحصول عليها إلا فيلم بعنوان "تيرنر" TURNERعن الرسام الانجليزي تيرنر تدور أحداثه في القرن 18 من اخراج البريطاني المخضرم مايك لي الذي حصد به ممثله جائزة أفضل ممثل في المهرجان.
وكانت المفاجأة في حفل الاعلان عن الجوائز يوم السبت 14 مايو أن الأفلام الفرنسية التي شاركت في المسابقة وهي: فيلم "سان لوران" لبرتراند بونيللو، وفيلم "يومان وليلة" للشقيقين البلجيكيين داردين الذي اضطلعت ببطولته الممثلة الفرنسية الجميلة ماريون كوتيار، وفيلم "البحث" لميشيل هاسانفيسيوس بطولة النجمة الفرنسية بيرينيس بيجو (الحاصلة على جائزة افضل ممثلة في العام الماضي)، وفيلم "سحب سيلزماريا" لأوليفييه السايس الذي تألقت فيه الممثلة الفرنسية القديرة جولييت بينوش. ثم فيلم "تمبوكتو" للموريتاني عبد الرحمن سيساكو وهو الفيلم الافريقي العربي الوحيد في مسابقة المهرجان الذي شاركت في تمويله جل المؤسسات السينمائية والمحطات التلفزيونية الفرنسية، لأنه بكشفه عن ايديولوجية ونظام حكم الجماعات الجهادية الارهابية، حين تحل في دولة افريقية، وما تفعله بأهلها من جلد وسجن وقتل وتعذيب، يتماشى مع سياساتها في تمويل مشروعات الافلام "الدعائية" التي تروج للخط السياسي الرسمي الفرنسي، وبخاصة بعد التدخل الفرنسي العسكري حديثا في إحدى الدول الافريقية، لتخليص أهلها المسلمين الطيبين العزل من الجماعات الارهابية.
صلاح هاشم في كان 67
وهكذا خرجت فرنسا التي كانت تطمع في الحصول على جائزة السعفة او الجائزة الكبرى بأحد أفلامها، خرجت من مولد سيدنا "كان" الولي، ومن مسابقة احتفاليته السينمائية الدولية بلا حمص، ولم تحصد إلا جائزة لجنة التحكيم (وزعت مناصفة) أو بالأحرى على نصف جائزة، لفيلم "وداعا للغة" لجان لوك جودار ( 84 سنة )، وجائزة "الكاميرا الذهبية" (الجائزة التي أنشأها جيل جاكوب رئيس المهرجان عام 1979 والتي يتنافس على الفوز بها كل الافلام الأولى لمخرجيها التي تشارك في جميع مسابقات المهرجان) حيث ذهبت الجائزة المذكورة هذه المرة الى فيلم "فتاة الحفل "PARTY GIRL الفيلم الفرنسي الأول بإخراج جماعي لماري آماشوكيلي وكلير بيرجر وصامويل تيس الذي عرض في حفل افتتاح قسم "نظرة خاصة" وشارك في مسابقتها. ولولا ان رئيسة لجنة تحكيم تلك الجائزة هي المخرجة الفرنسية نيكول جارسيا كما يدعي البعض، ماكان الفيلم حصل على تلك الجائزة.
ملصق فيلم البحث الفرنسي الذي شارك في المسابقة الرسمية
فرنسا تطعن في نزاهة كامبيون ولجنة التحكيم
في حين توزّعت جوائز المهرجان الرسمية التي أعلنتها المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون رئيسة لجنة التحكيم وصاحبة فيلم "البيانو الاثير" كالتالي :
جائزة "السعفة الذهبية" – فاز بها فيلم "بيات شتوي للتركي نوري بيلغ شيلان
الجائزة الكبرى – فيلم "العجائب "LES MERVEILLES للايطالية آليس روهواشر.
جائزة أفضل إخراج – فيلم "فوكسكاتشر " FOXCATCHERأو "صائد الثعالب" للأمريكي بينيت ميلر.
جائزة أفضل سيناريو- فيلم "ليفيتان" للروسي اندريه زفيجنتسيف.
جائزة افضل ممثلة – ذهبت الى الممثلة الامريكية القديرة النجمة جوليان مور عن دورها في فيلم "خرائط الى النجوم" للمخرج الكندي العملاق دافيد كرونينبيرج.
جائزة افضل ممثل – ذهبت الى الممثل البريطاني العملاق تيموثي سبال عن دوره الرائع في فيلم "تيرنر" للبريطاني مايك لي وتقمص سبال لشخصية الرسام تيرنر في الفيلم.
جائزة لجنة التحكيم – وزعت مناصفة بين فيلم "وداعا للغة" لجان لوك جودار (84 سنة) وفيلم "مومي" للمخرج الكندي الشاب إكزافييه دولان (25 سنة ).
جائزة "الكاميرا الذهبية" – ذهبت لفيلم "فتاة الحفل" الفرنسي..
السعفة الذهبية للفيلم القصير – ذهبت لفيلم "ليدي" لسيمون ميسا سوتو من كولومبيا .
المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون رئيسة لجنة التحكيم المسابقة الرسمية الدورة 67
وبسرعة كانت ردود الافعال الفرنسية على لسان العديد من النقاد والشخصيات السينمائية الفرنسية مثل الناقد السينمائي الفرنسي هنري شابييه، كانت في أغلبها غاضبة ومستاءة جدا وترى أن نتائج لجنة جين كامبيون جاءت مجحفة في حق السينما الفرنسية وافلامها، واتهم البعض مخرجتنا كامبيون برغبتها في احراج فرنسا. هذه الفرنسا التي ينصب احتفال "كان" السينمائي من صنعها، على ارضها، ولا يكون لها ولا لأفلامها اي نصيب من جوائزه التي توزع في حضرة الست كامبيون (المخرجة الوحيدة التي حصلت على سعفة كان الذهبية بفيلمها البديع "البيانو" عام 1993) توزع على افلام تبعث على النوم، وتدعو الى الاستغراق فيه، مثل ذلك الفيلم التركي الطويل "بيات شتوي" الذي منحته جين كامبيون سعفة كان الذهبية أرفع وأسمى جوائز المهرجان، ووقفت فرنسا كلها.. تتفرج ! .. ياللعار .
لقطة من فيلم تيرنر لمايك لي
كادرات من فيلم وداعا للغة لجودار الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم
«بيات شتوي» يبعث وا حسرتاه على النوم
بل وبلغ الأمر بالبعض من المتعصبين لكل ما هو فرنسي، وليذهب العالم كله الى الجحيم، الى اتهام جين كامبيون بالامبريالية الانجلوساكسونية، بالعمالة، وانها تعمل لحساب سياسة استعمارية انجلوساكسونية تمنح جوائزها للأفلام غير الناطقة باللغة الفرنسية أيا كانت، ومناهضة تماما لسياسات الفرانكوفونية الرشيدة .. في حين أشاد البعض الآخر بعدالة الجوائز التي وزعت واستحقاقيتها، فلم يكن معيار الحكم على الافلام عند جين كامبيون نوعها أو جنسيتها، كما ارتأت، بل فنيتها أو شموليتها الفنية ورؤيتها وضروريتها، وارتباطها أيضا بتطوير فن السينما من داخله، وبكل اختراعات وابتكارات الفن المدهشة، ولذا استحق فيلم "بيات شتوي" سعفة كان الذهبية وعن جدارة، لأنه لم يأسرنا فقط بسطوع وتوهج فنه، بل أسرنا أيضا بسبب التحدي الذي خاضه ونجح فيه الا وهو تحدي كيف تصنع فيلما من مشاهد حوارية ليس فيها إلا كلام، لكن كلام عن كلام كما يقولون يفرق، والمهم ليس في الكلام بل المهم في دلالاته وتأثيراته، ضروريته وعضويته في صلب العمل السينمائي ونسيجه الفني.
نوري بيلغ شيلان المخرج التركي مع سعفته الذهبية
فيلم " بيات شتوي " أعجبني جدا وكان الفيلم الوحيد الذي رشحته للحصول على سعفة كان الذهبية ومن دون منازع ..لماذا؟ لأنه يكرس فن السينما الذي هو فن الصورة عن جدارة للتأمل الفلسفي، ويجعل من المخرج التركي شيلان أشبه مايكون بـ"فولتير" تركي، أي فيلسوف ينقب ويفتش عن أسرار الحياة والوجود، ويسأل إن كانت الحياة تستحق أن تعاش، فلا شيء يحدث في الفيلم تقريبا، بل مجرد حادثة تقع حين يقذف غلام زجاج سيارة صاحب فندق ويكسره.. ومن عند تلك اللحظة يبدأ الفيلم بالدخول الى حياة صاحب الفندق ذاك الذي يعيش مع زوجته التي تصغره سنا، ومع شقيقته المطلقة التي تركت اسطنبول وحضرت لتقيم مع اخيها في الفندق الذي يديره ويحتشد الفيلم الذي يعرض أيضا للعلاقة بين الاثرياء والفقراء في تركيا، والعلاقة بين السادة والعبيد، وبين المالك والمستأجر، كما في مسرحية لتشيكوف. ويحتشد بالعديد من المشاهد الحوارية بين أبطاله، تجعلهم في وضع عمل كشف حساب لحيواتهم في كل لحظة، وهنا تكمن القيمة الاخلاقية والفكرية والفلسفية والجمالية للفيلم الذي يستغرق عرضه اكثر من ثلاث ساعات، ومع ذلك فإننا لا نشعر بالضيق او الملل او التململ أثناء مشاهدته .
وهو ايضا بسبب هذا "الديالوج" أشبه ما يكون بحكاية من دون نهاية، أو برواية بوليسية، ومن هنا "حالة الترقب والانتظار" التي يخلقها الفيلم، وتجعلنا مأخوذين ومشاركين في حواراته الدائرة التي نستلذها، ولا نشبع منها ابدا. اذ يحقق الفيلم من خلال حالة الترقب هذه سلسلة من الانقلابات و المفاجآت غير المتوقعة كما في مشهد الصلح في الفيلم حين يصل الغلام الى الفندق في صحبة عمه ليعتذر عن فعلته اي كسر زجاج سيارة بطل الفيلم وتعويضه عن خسارته، وحين يتقدم الغلام لكي يقبل يد صاحب الفندق اذا به يسقط مغشيا عليه ولا نعرف ان كان مات أو ماذا؟ كما يكرس نوري بيلغ شبلان في فيلمه للمنظر الطبيعي ويجعل الطقس يلعب دورا مهما في الفيلم ففي مثل ذاك طقس يدعو الى الاعتزال والوحدة ، تتوقد وتشتعل الرغبة في التأمل والهبوط من السطح الى الأعماق، في الداخل، من خلال الاستبطان الداخلي الصوفي الذاتي، والتوغل عميقا في دروب الروح .