تُرى هل جلس بابا الفاتيكان فرنسيس الأول بصفاءٍ مع نفسه، وطهرٍ من قلبه، بتصميمٍ وإرادة، ووعيٍ ومسؤولية، ليعترف أمام العالم كله بذنب قومه، وجريمة أتباعه، والخطيئة الكبرى التي اقترفها قادة شعوبه، وحكام بلاده، عندما سهلوا قديماً اغتصاب اليهود لأرض فلسطين، وهجرتهم إليها، واستيطانهم فيها، وطردهم لشعبها، وحرمانه من كل حقوقه المشروعة فيها.
فهل كانت وقفته الحزينة أمام جدار الفصل العنصري في مدينة بيت لحم، وصمته الخاشع أمام الجدار الاسمنتي العالي، وترجله اللافت الرائع، اعترافاً بالخطأ، وإقراراً بالجريمة، وطلباً للمغفرة، ودعوةً واضحةً لحكوماته بأن تعترف بالخطيئة الكبرى، وأن تقر بالجريمة البشعة التي ارتكبها آباؤهم، وكرَّسَ واقعها من بعدهم حكامُ أوروبا ورؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، المصرين على التمادي في الجريمة، والإيغال في الظلم، ومواصلة إسناد المعتدين، ومناصرة البغاة المحتلين، في مجافاةٍ واضحة للحق، ومخالفةٍ صريحةٍ للعدل.
فهل رأت الحكومات المسيحية في العالم كله، رأس الكنيسة المسيحية الأكبر، وعنوانها الأبرز، البابا فرنسيس الأول، وهو يترجل حزيناً، ويقف متأثراً، صامتاً وكأنه يصلي، خاشعاً وكأنه يعترف، في مدينة مهد المسيح عليه السلام، مستغرباً ماذا فعل اليهود الغرباء المهاجرون في الوطن الذي اغتصبوه، وفي البلاد التي احتلوها، وكيف أنهم غيروا البلاد، وشطبوا هويتها، وبدلوا معالمها، وضيقوا على أهلها، وشددوا عليهم، وأنكروا على أصحاب الأرض حقهم، وحرموهم من العيش فوق ترابهم، والتمتع بحرية وسيادة في بلادهم.
لكن هل يكفي الاعتراف فقط للتكفير عن الخطيئة، وطلب المغفرة والتماس الصفح، ونيل رضى وغفران الرب وأصحاب الحق، وإن كان الاعتراف من أعلى هيئةٍ كنسيةٍ في العالم، وهي الصرح الأكبر الذي يتوجه إليه مسيحيو العالم كله، ممن يؤمنون بالكنيسة ومرجعيتها، وأن رأسها البابوي يمثلها، وينطق باسمها ويعبر عنها، وأنه بأفعاله يعبر عن إرادة الرب ومشيئة المسيح، الذي هو في عرفهم يسوع المخلص، الذي ضحى من أجل أتباعه، وعانى في سبيل دينه، وقاوم دفاعاً عن حقه، متحملاً العذاب والآلام.
وهل يجدي البكاء والندم، وإبداء الحزن والألم، في التكفير عن جريمة العصر، وخطيئة العمر، ونيل رضا وغفران أصحاب الحق، وسكان الأرض، وهي الجريمة التي ما زالت ترتكب، والخطئية التي ما برحت تقترف، في فعلٍ عنيد، وإصرارٍ غريب، ونكرانٍ مجحف، فهل يغير الاعتراف الضعيف من الواقع شيئاً، وهل يبدل الحال إلى أحسن، ويعيد الأشياء إلى أصلها، والحقوق إلى أهلها.
أم أن الاعتراف الذي هو توبةٌ، يلزمه غير الإقرار بالخطيئة، والاعتراف بالذنب، وإبداء الحزن والندم، القوة والإرادة، والعزم الصادق، والتصميم على رفع الظلم، وإزالة الحيف، ومنع الاعتداء، والتراجع عن الأخطاء، وإعادة الحقوق والمظالم، وتعويض المتضررين بفعل الخطيئة، بما يرضيهم ويحقق آمالهم، وبما يسكن آلامهم ويبلسم جراحاتهم، ويعيد إليهم الأمل من جديد بقيامة الحق المجيد، واستعادته من جديد.
على درب الآلام التي سار عليها المسيح عليه السلام، يسير البابا فرنسيس الأول، ليعيد مجد الفدائي الأول، وسيرة الرسول المخلص، ويسوع الذي عذبه اليهود وآذوه، وحاربوه وقاطعوه، وتآمروا عليه وعلى أصحابه، فصلبوهم على الخُشُب، وعلقوا أجسادهم على قارعة الطريق، ونشروا أجسامهم بالمناشير، ودقوا عظامهم بالمسامير، وهدموا كنائسهم، ووسخوا بقاذوراتهم معابدهم، واعتدوا على صلبانهم ورهبانهم، وأسقطوا أجراسهم وحبسوا كهنتهم، واستهزأوا بقساوسهم ومذبحهم، وبمعمدانهم ومغارة رسولهم.
اليوم يقف بابا الفاتيكان في مواجهة عدونا وعدوهم، وقاتلنا وقاتلهم، الذي لا يحبنا ولا يحبهم، ولا يرى فينا ولا فيهم إلا "غويماً" خدماً وعبيداً، أو دواباً وحميراً، خلقوا ليركبهم ويقوموا على خدمته، فهو وإن كان يقتل أطفالنا، ويحرمهم من نعمة الحياة، ويغتال براءتهم وطفولتهم، فإنه كان يقتل الأطفال المسيحيين من قبل، وكان يصفي دماءهم، ويصنع بها فطيرةً لأعيادهم، يوزعها على شعبهم، ليفرح بها صغارهم وكبارهم.
وقد عانى من غيهم مسيحيوا أوروبا، وذاقوا مرارة العيش معهم، وبؤس الحياة إلى جوارهم، وتأذوا من قذارتهم، واكتووا من نار قروضهم، وربا ديونهم، إذ اعتادوا على الجشع، وتربوا على الطمع، ونشأوا على ظهور غيرهم، وأنفقوا من خزائن سواهم، حتى كانت لهم فيها بما سرقوا ونهبوا الغلبة والسيادة، والإمرة والقيادة.
إنك اليوم أيها الحبر الأعظم، يا صاحب الغبطة والقداسة، ترى بأم عينيك ماذا فعل اليهود بنا وبكم، إنهم لم يكتفوا بالاعتداء على المسلمين، وسلبهم دورهم ومساكنهم، واغتصابهم حقوقهم وأملاكهم، وتدنيس مساجدهم ومقدساتهم، بل إنهم اعتدوا على إخواننا المسيحيين، وضيقوا عليهم في الأرض المقدسة ليتركوها ويهاجروا منها، ويتخلوا عن أحلامهم ومقدساتهم فيها، فاعتدوا على كنيسة القيامة وغيرها، وصادروا أرضها، ووضعوا أيديهم على أوقافها، ونهبوا خيراتها، وما زالوا يلاحقون المسيحيين في الشطر الآخر من فلسطين، يريدون أن يشوهوا تاريخهم، ويسوءوا حاضرهم، عندما يفرضون عليهم الخدمة العسكرية الإلزامية، ليشاركوهم جريمة اغتصاب الأرض، وقتل الإنسان، وتدمير الحجر والشجر في الأرض المقدسة.
قداسة البابا، إننا اليوم في فلسطين المحتلة، مسلمين ومسيحيين، نناشدك أن ترفع صوتك باعترافك، الصريح والواضح، فتعلن للعالم كله الخطيئة التي ارتكبها آباؤك الذين منحوا اليهود الحق في إقامة وطنٍ يهودي قومي لهم في فلسطين المحتلة، وليكن اعترافك موجهاً لحكومات العالم المسيحي كله، ليتوبوا عن جريمتهم، ويستغفروا الله على خطيئتهم، ويصروا على تصحيح الخطأ، وليقفوا مع الشعب المظلوم، وينصروه على قاتله الظالم، الغاصب المستبد.
أيها البابا أعلن اعترافك، واجهر به بصوتك، ولا تكتفِ به محبوساً في صدرك، وليسمعه العالم كله، وأبدِ ندمك، وأظهر حرصك، ولا يمنعك الخوف، ولا يستبد بك الضعف، ولا يؤخرك الخجل، وانتقد المخطئين، وقل الحق المبين، مبيناً سبيل المجرمين، أدن فعلهم، واشجب عملهم، ولا تلتمس الأعذار لهم، واطلب من قومك أن يتخلوا عن نصرتهم، وأن يكفوا عن مساعدتهم، فالله لا يقبل اعترافهم، ولا يغفر خطاياهم، ولا يغسل قلوبهم، إن هم كذبوا في اعترافهم، أو مضوا في أخطائهم، ولم يقلعوا عن جرائمهم.
رد على سفهاء العلمانية هي الحل
يبدو أن بعض القراء لم يعجبهم مقالي "البابا يعترف في بيت لحم"، فلم يلجأوا إلى انتقاده والرد عليه، أو بيان عيوبه وتعداد مثالبه، ولم يتوقفوا عند أفكاره ومعانيه، ولم يردوا على كاتب المقال بلغةٍ علميةٍ رصينةٍ مؤدبة، تتناسب مع العقل والعلم والعصر الحديث، الذي يحترم التعبير والرأي الحر، والتفكير الإبداعي المميز.
بل قام هؤلاء الذين يحملون شعار "العلمانية هي الحل"، بتزوير مقالي، وتغيير العديد من مفرداته، بما يناقضها ويخالفها، مستخدمين كلماتٍ بذيئة لا تتناسب وعلمانيتهم التي يدعون، ولا تتوافق مع عصريتهم التي يحاولون الظهور بها، وأعادوا نشر مقالي موقعاً باسمي، بعد أن غيروا فيه وبدلوا، وزوروا وزيفوا، فجاء المقال مسخاً كوجوههم، ومحرفاً كفكرهم، ومشوهاً كعقولهم، يعج بالتخريف والهبل، والسباب والشتائم، ويكيل التهم والأباطيل على الإسلام والمسلمين.
خاطبت هؤلاء برسالةٍ خاصة، دعوتهم فيها للرد علي بلغةٍ علمية، وحجةٍ معقولة، وكلماتٍ بليغة، لا سباب فيها ولا شتائم، ولا كذب فيها ولا دجل، ولا حقد ولا ضغينة، وأخبرتهم في رسالتي لهم، أنه على الرغم من السفالة التي تظهر في ثنايا تزويركم، والسخافة التي بدوتم فيها، وكنتم خلالها سفهاء جهلاء عمياناً وحاقدين، كارهين لأنفسكم والإنسان، قبل أن تكونوا كارهين للعرب والإسلام.
نصحتهم أن يكتبوا أدباً، ويخاطبوا عقلاً، ويحترموا من يخاطبون، وقلت لهم أنني رغم الجهالة الكبيرة التي رأيتها فيكم، والحقد الذي يتسرب من كلماتكم، إلا أنني لن أشطب عناوينكم من قوائمي، وسأبقيها عندي، وسأواصل مراسلتكم، ولن أمتنع عن تزويدكم بما أكتب، فلست خائفاً من فكري، ولا أشعر منه بالخجل، ولا أتردد في التعبير عنه كيف أشاء، ومتى شئت، ولا أهرب بالسباب، ولا أدافع بالإهانات، ولا تعمي بصيرتي الأحقاد والضغائن.
للأسف هذه المجموعة من الحاقدين المارقين الفسدة، الذين يرفعون لواء "العلمانية هي الحل"، ويراسلون في الخفاء كالخفافيش، ويشتمون ببذاءة، يستهدفون دوماً إسلامنا العظيم، ويعتدون على مشاعره ومقدساته، وينالون بالسوء رجاله وأبطاله، ولا يستثنون من سفالتهم رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يتهمونه ويشتمونه، ويفترون عليه ويشوهون صورته، ويزورون كلامه ويعيبون أفعاله.
أدعو هذه المجموعة الضالة الضائعة، للكف عن جهالتهم، والإقلاع عن سوءهم، والتوبة من أفعالهم الخبيثة الحاقدة، فأفعالهم مكشوفة، ونوياهم معروفة، وحقدهم طاغي لن يصيب غيرهم، ولن يسمم سواهم، ولن يؤثر في غيرهم، ولن ينالهم من فعلهم إلا الندم والخسارة.