حلت ذكرى وفاة الزعيم والمفكر علال الفاسي ومرت بصمت رهيب ودون المرجو من الاحتفاء، إلا نتفا هنا وهناك، مرت الذكرى وطويت دون أن تأخذ مكانها في نقاشات الفاعلين السياسيين والمجتمعيين، مرت وبيت علال متصدع والمقربون من فكره وحراس المعبد الذي بناه صاحب "الإنسية المغربية" متنافرون حول أعراض السياسة وبلاويها، مرت وخصومه من ورثة الاستعمار القديم/الجديد الذين نظر لطردهم من حمى الوطن المنشود وتقزيمهم في دولة الاستقلال الآتية هم سادة القرار بل من قال فيهم ذات يوم أنهم سرقوا منه ومن أترابه الاستقلال هم القادة الحقيقيون. لقد جعلت الولايات المتحدة الأمريكية من يوم ميلاد جورج واشنطن عيدا للرؤساء، وتحتفي الصين ومعها العالم بلغتها في ذكرى مخترع المقاطع الصينية كانغ جيه، ويحتفى بيوم اللغة الإنجليزية في ذكرى شكسبير...لكن ذكرى أبرز أبطال المقاومة الوطنية وأحد مؤسسي التاريخ المغربي المعاصر وأهم منظري دولة الاستقلال تمر دون أثر يذكر وكأن هناك إصرارا على موته واغتيال ذكراه. فلم هذا الإصرار؟
ينسى، أو يتناسى، كثيرون أن المنية وافت علال الفاسي يوم 13 من مايو 1974م في بوخارست عاصمة رومانيا وهو في أوج منافحته عن الوحدة الترابية للوطن في مشهد درامي نادر التحقق، يبين عن حقيقة الرجل وأسطوريته، وينسى خصومه قبل رفاقه أن التراث العلالي ليس مجرد أفكار وتراتيل بل هو مواقف. لذا لم تتوقف النخبة المغربية عن قراءة وإعادة قراءة التراث العلالي. وكل قراءة هي موقف . وكل موقف هو جواب عن سؤال واقعي أو فكري . حتى غدت صور علال كثيرة كثرة قارئيه : فهو الثوري والمثقف والسياسي والمناضل والعروبي والإسلامي والفقيه والحاكم والمقاصدي ... وكل عنوان هو دليل على صعوبة إخضاعه للتصنيف والضبط. ودليل أكبر على أن علالا قد جمع في شخصيته الكثير من التجاذبات التي عاشتها الساحة الإسلامية والمغربية في القرن العشرين. فقد رأى فيه أصحابه موسوعة حضارية تنقلنا إلى زمن الأمجاد والإبداع العربي الأصيل ، وزعيما قل نظيره في زمن غابت عنه الشخصيات الكاريزمية ، وتراثا لا ينضب إلى درجة محاصرته داخل دائرة محجمة من الانتماءات السياسية الضيقة. ورأى فيه خصومه محور الأزمات التي عصفت بالشعب المغربي وسبب المشاكل التي عانى منها ويعانيها المجتمع المغربي وأحد منظري السلطوية والتخلف ومأسسة الاستبداد . فمن هوى يا ترى علال ؟ إنه ظاهرة تتفلت عن الضبط ويصعب الإحاطة بها في ميدان دون آخر . لكن الحقيقة أن موسوعيته الفكرية وتعدد مشاربه الثقافية وتقلبه في دهاليز السياسة وبراثنها جعلته مثيرا للجدل والنقاش بين شيعته ومعارضيه وكثير التعرض للنقد حيا وميتا. عايش أحداث مغرب الحماية والاستقلال ، مناضلا ضد الاستعمار، وزعيما سياسيا لحزب قاد معركة الاستقلال، وقائدا لتجربة مغرب الاستقلال فاستطاع أن يكون تجربة فذة وتنفتح عينيه على مناح عدة ومستويات كثيرة، فنقلها بأمانة في مؤلفاته التي نشرت أو لا زالت في طريقها إلى النشر، وكونت لديه رصيدا من الواقعية لم يستطع الانفكاك منها حتى في أغرق الدراسات تجريدية. فاقترح مشاريع لإصلاح المجتمع كمدخل للنهضة المغربية . وعالج قضايا من صلب التجربة الوطنية . وولج عالم التشريع بكل تفاصيله فجدد وفق رؤيته الزمنية . غيبته السياسة وخلده الفكر . وقد قال عبد المجيد بن جلون: " إن علال الفاسي، يكاد لمن لا يعرفه يتصور أن في الوطن أكثر من علال واحد، فهناك علال الشاعر، وعلال المفكر، وعلال العالم، وعلال السياسي." وقبل مدة كتب الأستاذ عبد الكريم غلاب: " ليس من السهل أن يكتب كاتب عن علال الفاسي إلا إذا كان من الصبر بحيث يستطيع أن يتتبع هذا الرجل في أفكاره، وتخطيطاته واتجاهاته السياسية والفكرية والاجتماعية". ولم يخطىء طالع السعود الأطلسي حين كتب ذات زمان "علال الفاسي مِلك للوطن لكل الوطن، مِلكنا جميعا، إنه الزعيم غير القابل للاحتكار، وفي فكره الاستقلالي، لا خلاف معه ولا خلاف عليه ." وانطلاقا من هذه الملكية المشتركة لتراث علال ينبغي أن نتحدث ونتذكر ونؤسس مشاريعنا المستقبلية التي كتب عنها ومازالت تحمل راهنيتها: فالاستقلال الفكري قبل السياسي مازال لم يتحقق، والوحدة الترابية لم تستكمل، والهجمة الاستعمارية مازال أوارها مشتعلا بل زاد، والعدالة الاجتماعية التي جعلها محور مشروعه المجتمعي مازالت لم تتحقق... كل مشروع علال مازال قيد الإمكان، لأنه خطاب ارتبط حتى النخاع بالتجربة المغربية يتسم بروح نهضوية ضمنت له الخلود لردح من الزمن لأنه خطاب مقاومة نشأ في ظروف الممانعة . وخطاب الممانعة هو خطاب مؤسس وليس خطابا عابرا .
ونحن نستعيد ذكرى علال يمكننا فهم الذين يزعجهم علال وفكر علال ويصرون على اغتيال ذكراه فينا. كان هم علال هو الوطن وهويته وكيفية المزايلة عن فكر الاستعمار، بنفس إصلاحي يبحث في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عن مناط الوحدة ومظانها، فنظر لها لغويا وتربويا وسياسيا. لذا فذكراه هي ذكرى مشروع الوحدة في تمثلاتها المختلفة، والمصرون على اغتيالها يعيدون بمسميات وعناوين مختلفة اغتيال الوحدة.
قبل مدة طويلة، وقبل أن تتاح لي معرفة تراث علال الفاسي التقيت في إحدى الندوات بأحد أعلام اليسار المغربي وقال لي أنه ينام والنقد الذاتي تحت الوسادة، ففوجئت بالقول مما دفعني إلى سبر أغوار الكتاب وعجبت لذاكرة أغفلت ايقونة فكرية جاد بها الزمن المغربي الجميل.