هذه قراءة لرواية القاص المصري حمدي الجزار (سحر أسود) تطرح الرواية باعتبارها نموذجا لكتابة روائية مغايرة تسعى إلى التعامل مع الموت باعتباره أحد تجليات الحياة في هذه المرحلة الجديدة.

السحر الأسود يكفن الحاضر

شوقي عبدالحميد يحيى

"أصابني مس.. عليل، ومريض بهذه الآلة التى أعرفها كما أعرف لون أظافرى وسوء طويتى، الكاميرا المخبولة، الوحش، تقترب وتفضح، تبتعد وتكشف، تغوص في التفاصيل، تبصر الأعمى، تصدم وتذل، تُجمل وتُكذب وتعري الجميع من الثياب والنيات، تصطنع وتداري، تجمع الأضداد والتناقضات، مزهوة بوجودها وحده، تسلبنى الإرادة والاختيار، متهورة وهمجية، بربرية من زمن الأصنام الجديدة" . (1)

بهذه الفقرة يكثف حمدى الجزار رؤيته الكلية، ورسالته التى أراد توصيلها عبر مائة وواحد وسبعين صفحة معنونة بـ(سحر أسود). تنتهى الفقرة بجملة شديدة الإيجاز وقوية التعبير "بربرية من زمن الأصنام الجديدة". البربرية تفتح منجما علي العشوائية، المادية البهيمية، اللاقانون، زمن إنسان الغابة، كل يفعل ما يريد، أوبدقة أكثر كل ما يستطيع. و"زمن الأصنام الجديدة"، في هذا العصر، كل يصنع لنفسه صنما يتعبد له، فهذا يجعل الجنس معبده، وذاك يجعل من المال ديدنه، والجميع يعيش حياته حياتين، حياة ظاهرية أمام الآخرين، ويتوارى بها عن حياة أخرى حقيقية وراء الظاهر، لا ترى بالعين الطبيعية فاستعان بعين الكاميرا، تلك التى عشقها، تلك التى تبتعد وتكشف، وتقترب وتفضح، تجمل وتعرى، وتجمع الأضداد.

تبدأ الرواية بفصل مستقل ـ سماه د. مجدى توفيق الفصل صفر ـ ثم يبدأ عد الفصول بعده، فيبدو كمقدمة، أوافتتاحية لفصول الرواية. يتحدث الفصل عن عم ريحان، يتردد الراوى في البداية في ذكر اسمه، يعرفه بـ "الرجل العجوز"، وكأنه يريد أن يتركه للمطلق، ثم يعود ويحاول إدخالنا في حظيرة الواقع المعاش، فعرفنا أنه عم ريحان. شغلته صنع الأكفان، ويصنع الكفن من قطعة من القماش الأبيض، يخيطها ريحان من طرفيها بالخيط الأبيض، وكأنه يصنع منها كيس ليوضع الميت بداخله.

وتبدأ بعد الفصل التمهيدي لريحان، فصول الرواية وتتعدد، علي شكل الفصول المنفصلة المتصلة، كل فصل يتحدث عن مشهد من مشاهد الكاميرا كاشفة عما وراء السطح. ويبدأ أولا في الحديث عن والده، امتلأ وجه أبيه بالبثور والتجاعيد، وجهه مستطيل، فماذا صنعت فيه الكاميرا "كان يبدولي من خلف العدسة بلا بثور في خديه، ولا تجاعيد عميقة علي ناصية وجهه المستطيل الكبير" (2) . صنعت الكاميرا من الوجه شيئا آخر غير حقيقي:
"حينما تتلاحق الصور، تتسلسل فوق شاشة المونيتور الصغيرة تصبح شيئا آخر غير الذي رأيته بعينىّ راسى الواسعتين الكبيرتين. العينان اللتان استغنيت عن النظر بهما منذ سنوات طويلة، وركبت مكانيهما عدسة واحدة زجاجية واسعة ودقيقة، تضع علي الواقع غلالة رقيقة شفافة، تجعل الألوان الكابية الكالحة ألوانا ساطعة مبهجة، وتجعل المشهد نكثفا موجزا مقطوعا من الحياة، شريحة دقيقة واضحة التفاصيل" (3). إلا أنها ليست دائما تحيل القبيح جميلا، بل غالبا ما يكون العكس هوالصحيح:

"كنت أنظر إليهم هؤلاء المتحدثين المهذبين المحترمين في شاشة المونيتور الصغيرة أمامى، فأراهم بنى آدميين آخرين غير هؤلاء، مخلوقات أخري غير تلك التى أراها بعيني رأسى بشحمهم ولحمهم وستراتهم الأنيقة وألسنتهم الطويلة يزعقون ويخطبون من خلف منصتهم الفخمة ووجوههم فقط هي الظاهرة والمرئية. وجوههم وجوه ممثلين محترفين يجيدون إخفاء أنفسهم خلف خشبة المنصة، كانوا لا يرتدون ملابس داخلية تستر أعضاء أجسامهم وعوراتهم المسترخية. كنت أرى أفخاذهم السمينة مترهلة وشاحبة تكسوها التجاعيد والعروق الزرقاء النافرة، والدوالي المنتفخة، وأعضاءهم ـ وأعضاؤهم ـ المنذورة للإثمار منطمسة نائمة رخوة، مجدبة مثل بركة أسنة سوداء"(4) .

تستعرض الرواية بعد ذلك العديد من سلبيات المجتمع، ويركز بصفة خاصة علي التليفزيون، بصفته مصورا، ولما للتليفزيون من تأثير سلبي علي المشاهد، حيث يحيل المشاهد إلي متلق سلبي، ثم لما للتليفزيون من سلطة وقدرة علي تكوين وجدان المشاهد: "فقط أحس جردل ماسبيروالضخم الملئ بكل شئ في هذه الدنيا ينسكب فوق دماغي لآخره، ويترك ملابسي قذرة ملوثة، وجسدي عفن خربان، يحيلني إلي آلة جيدة لحشوأدمغة الخلق بالزيف والباطل والحقائق والأوهام والجمال والقبح والمتعة. آلة تفكير جبارة، هائلة، متعددة الوظائف، تفكر للجميع، وتبني لهم عالما وهميا من اختراعها. آلة تلاحقك بالصور والأفكار والأحداث حتى تصير أمامها أعمى، كامل العمي لا تري شيئا علي الإطلاق. لا يمتلك أحد الأن فرصة ابتكار تلفزيونه الخاص، بنفسه، لنفسه. لا منفذ" (5). ويستطيع الجزار هنا رسم صورة قلمية تصور إحاطة التليفزيون بالمشاهد بما لا يدع له فرصة الفرار أوالتفكير، أحال الناس إلي كتلة سلبية، مستسلمة، ولا فرار، ولا منفذ. ويؤكد ذلك علي نفسه هو وكيف أنه تحول إلي آلة تصنع ما يريده الآخرون، لا ما يريده هو، حيث يحيل إنسان العصر إلي مجرد آلة خالية من المشاعر، مؤكدا ذلك في استمرار علاقته ـ الراوي ـ مع فاتن مجرد علاقة جسدية، فهو إنسان لا يعرف ما هوالحب: "ونحن عائدين إلي القاهرة، قالت فاتن إن باسم كان يحب لمياء حبا عميقا. يجوز، علي الرغم من أنني لست متأكدا أبدا من معني كلمة "يحب" هذه. أبدا." (6)، رغم طول العلاقة وكل ما دار بينه وبين فاتن هذه، وحيث يعود ويؤكد ـ كرمز لجيل بأكمله ـ اختفاء الرومانسية والعمق والانخراط في السطحية والمادية:

"إن الكلمات الأكثر ابتذالا من قبيل: الحب، الغرام، الهوى، العشق .. ألخ، مجرد أصوات تخرج من الحنجرة، والأحبال الصوتية، واللسان والشفتين، أصوات مبهمة، قاصرة، عاجزة، مكررة، لا تقول شيئا، لا معني لها، ولا دلالة، ولا غاية. أصوات لاشئ، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل، وأنا الذي لا أهوى الكتب والقصص للأسباب نفسها، ولا أجد ضرورة للتعبير بالكلام" (7). فإذا ما ربطنا بين تلك الرؤية ورؤيته ـ الراوي ـ للجنس، ذلك التعبير المادي ـ عندما يخلو الجنس من الجانب المعنوي ويتوقف عند كونه استمتاع جسدي، نستطيع أن نشكل تلك الصورة القلمية التي سعي حمدي الجزار لرسمها:

"أخذتها في حضني، وصرت أثرثر، أتكلم كلاما كثيرا يأتي من مكان عميق مجهول في نفسي. الجنس .. الجنس أيقونة أيامنا هذه. أيقونة وحيدة صارت مقدسة، ربما أكثر من أي شئ قدسه الناس طوال تاريخهم الطويل. الجنس بكل صوره ولغاته وأنواعه وأوضاعه طافح كفيضان عظيم هائل في ثرثرات النساء علي عتبات الدور في الأحياء الشعبية، وفي النوادي الخاصة والأثرياء، في الأحاديث والدردشات والنكت التي يتبادلها العمال والموظفون والأطباء والفلاحون والسياسيون والفنانون ورجال الأعمال، وكل الأعمال.. في البيوت، والشوارع وعي كراسي المقاهي والمكاتب والبارات... ألخ"(8) ، فهكذا تحول الجنس كممارسة جسدية مادية بحتة إلي أيقونة حياة، وهكذا احتل المنزلة الأولي في حياة مجتمع بكافة مستوياته وطبقاته وانتماءاته.

وهكذا ينجح الجزار في رسم صورة لمجتمع احتلت فيه المادية منزلة أولي حتي اختفى الجانب المعنوي، أوكاد. ويتلاقي الجزار في هذه الجزئية "ما للتلفزيون من تأثير علي المشاهد" مع رواية (خيانات شرعية) لسمير عبد الفتاح حيث دارت بالكامل، تقريبا، حول نفس الفكرة. كما يتلاقي مع رواية (كائن العزلة) لمحمود الغيطاني في تصوير سلبية المشاهد واستسلامه، الأمر الذي يشكل من الروايات الثلاث ـ مع غيرها ـ رؤية جديدة لأساليب العصر وتأثيرها علي الفرد والمجتمع، والتي تشكل أحد إرهاصات تولد رواية جديدة للقرن الواحد والعشرين، معتمدة علي البعد الواحد للرؤية.

فإذا كانت رواية الستينيات من القرن الماضي قد اعتمدت علي الرمز كأحد أساليبها في الهروب من سطوة السلطة وتسلطها، وهروبا من بطشها، واعتمدت الرواية فيما بعد الستينيات علي التهويمات والغموض تعبيرا عن الضياع والتشتت وعدم وجود الهدف القومي الجامع، وغياب الرؤية الواضحة للمستقبل، وضبابيتها الرؤية، فإن ذلك كله أدي إلي السلبية وعدم الانتماء والعزلة، خاصة عزلة المثقف الذي رأي غياب دوره ومعدومية تأثيره، فتقوقع في عزلته مشاهدا من بعيد، يرقب حركة المجتمع في إضطرابه وفوضاه، وسطحيته، وفي ظل إنفتاح الكلام، واتاحة فرصة الجعجعة في الفضائيات والصحف المستقلة، أصبحت الرواية تسير علي السطح، تستعرض أكثر مما تتعمق، وتبحث في الأسباب، لم يعد هناك حدث يتتبعه الكاتب من البداية إلي النهاية، فلم يعد هناك أحداث جسام تستوجب التتبع والمتابعة، وأصبحت الرواية تسير في خط عرضي مستقيم، بعد أن كانت تسير في خط رأسي، أومتعرج، وأصبحت ذات رؤية أحادية ومستوى واحد للقراءة، بعد أن كانت تحمل أكثر من مستوي.

وبعد استعراض رواية (سحر أسود) للعديد من مسالب المجتمع وسلبياته، وبعد تغافل متعمد لريحان ـ صانع الأكفان ـ علي مدي ثلاثين فصلا، يعود الراوي ليتذكره لسببين: أولهما، ليدخله في نسيج العمل وأحد المؤثرات علي وجود وتكوين الراوي، حيث يقول: "ما أعرفه عن ريحان كثير، لدرجة أنني تائه داخله، فيه، لدرجة أنني أكاد أنسي عنه كل شئ. إنه موجود في ركن مظلم من جسدي (لا هنا تعبير الكاتب ـ من جسدي ـ ولم يقل من روحي) مثل سلسلة عمودي الفقري، أعرف أنها موجودة هناك، قلما أراها أو ألمسها كي أتأكد من وجودها في موضعها. ريحان فقرة في هذه السلسلة المنسية. شبه المجهولة في ظهري، ولكن لا قيام ولا حركة ولا انحناء بدوتها.. إنه موجود دائما فوق دكته الخشبية" . (9)

إذن فوجود ريحان ملاصق للراو لصق الموت المتتبع له المتربص القابع في عموده الفقري، وهوالتعبير الرمزي الوحيد في الرواية. وهو الخيط اللامرئي من عناصر الرواية الأساسية التي يحافظ عليها الجزار، مع بقية من حبكة ـ أيضا غير منظورة. الأمر الذي يحسب للجزار، حيث يبين كيف أنه درس الرواية في أصولها وهضمها، ثم حاول الخروج من عباءتها دون التمرد عليها، ودون افتعال التحديث، فجعلها كالخط المائي في العملة الورقية، وهو أحد ما تميز به حمدي الجزار في روايته الأولي، وإن كان بها قد تجاوز العديد من أخطاء البدايات، مما يجعلها تتجاوز العمل الأول.

فريحان إذن يدخل في جسد الراوي فاعلا ومؤثرا، الموت بمعناه الإكلينيكي الملتصق بالبشر عامة، والموت بمعناه الذي جاء في الرواية "التطهر" الملاصق للمثقف المسكون به، والساكن فيه، والموت باعتباره رمزا للموت، هوما يقودنا إلي العنصر الثاني، أوالرؤية الثانية لوجود ريحان، ثم تاخر ظهوره طوال هذه الفصول.
فلننظر ماذا يفعل ريحان طوال اليوم:

"كان كل مساء حين يكون علي وشك إغلاق دكانه يمسك الكفن الذي قضي يومه في خياطته بيم يديه المعروقتين الماهرتين، وببطء يبدأ في فك الخياطة محاذرا أن يحدث أي قطع في الكفن. يفك ما خاطه ليعود الكفن كما كان، قطعة قماش بفته كبيرة طولها نحوالمترين وعرضها متر، يطويها بعناية ويضعها علي الرف الخشبي إلي جوار قماش الأكفان الأخري.

في الصباح يأتي بهذا القماش نفسه ليبدأ في خياطته من جديد. هكذا كل يوم، يخيط القماش في النهار ويفضه في المساء" (10) . فريحان كل يوم ينتظر من يموت غير الموت في شحيح في هذه الأيام: "ولأن الموتي قليلون هذه الأيام"، ولكن لمذا الموت شحيح هذه الأيام ؟. يجيب الجزار: "كنت أعرف أن الكفن مثل ملابس الإحرام التي يذهب بها الحجاج إلي بيت الله الحرام لا تخيط. فقط قطعة قماش أبيض تلف الجسد، تستر العورة ويترك بقية الجسد عاريا، ثوب بسيط أبيض نقي مثل لفة الوليد. الوليد والحاج والميت ثلاثة أنقياء يستحقون هذا الملبس الرحيم".

فالموت هنا هو التطهر، هوالدخول كأحد أضلاع المثلث الطاهر، الطفولة والحج والموت، وهو ما يريده الجزار لوطنه، لا يريد له الموت، ولكن يريد له التطهر، العودة للبراءة، العودة للنقاء. ولكن ذلك يبدو مطلبا لا يتحقق فكل يوم يبحث ريحان عمن يتطهر، عمن يموت، غير أنه في كل يوم يصنع الكفن وينتظر، لكن أحدا لا يموت، فالموت عزيز هذه الأيام. وعندما ظهر ريحان في الفصل التمهيدي، فرش القطعة الأولي من الكفن، وظل ينتظر من يرقد حتى يخيط الجزء الثاني من الكفن وليغطي الميت، غير أن سلسلة الخطايا التى طالعتنا طوال الفصول المتعددة وبصورها المتعددة، وقبيل النهاية، نهاية الرواية، ونهاية يوم ريحان، يجمع كل تلك الخطايا والسيئات والسوءات، يضعها علي القطعة المفروشة من الكفن، ويوسدها، ثم يخيط عليها القطعة الأخري، وكأنه يدفن كل تلك الرزايا , وكأن الجزار يود دفن السلبيات، وتطهير المجتمع، في رواية جاء اسلوبها طبيعيا سلسا مناسبا في مواضعه، متدفقا حتي لا يدع مجالا للقارئ في الهروب، بعد ما غابت أساليب التشويق التقليدية من حبكة ظاهرة، أوغموض في الحدث، في رواية غاب فيها الحدث، وإن كثرت فيها الحوادث.

shawkyshawky2004@yahoo.com


1- سحر أسود - حمدي الجزار - ميريت - ص 162
2 - ص 20
3 - ص 23
4 - ص 24
5 - ص 45
6- ص 109
7- ص 110
8 - ص 62 - 63
9 - ص 156
10 - ص 157