يقرأ الكاتب المغربي هذا الكتاب لكارل بوبر الذي استهدف التصدي لأبرز تجليات ومظاهر اللاعقلانية، متجسدة بالخصوص في النزعة النسباوية المسلمة بالمبدأ القائل أن الحقيقة ذات ارتباط حثيث بخلفيتنا العقلية، وموضحا الكيفية التي قوض بها حججها وتبيان تهافت مسوغاتها في أفق إحلال النقاش العقلاني الخصيب والمثمر بدلا منها.

التفكير النقدي ورهان تقويض الأطر المغلقة

من خلال مؤلف «أسطورة الإطار» لكارل بوبر

عبد القادر ملوك

لا اختلاف حول كون كارل بوبر هو أحد فلاسفة النقد بامتياز، كيف لا وقد قضى معظم حياته الفكرية المديدة في الدفاع عن النقد العقلاني حتى جعل منه طريقة للتفكير بل وطريقة للحياة تتمثل في استعداد الفرد الدائم للإنصات إلى الحجج النقدية، والبحث الدؤوب عن الأخطاء والتعلم منها. فنحن نلفي النقد حاضرا في أعطاف كتاباته في مجملها وعلى اختلاف المواضيع التي طرقتها، سياسية كانت، اجتماعية، تاريخية أو حتى علمية، هاجسه في ذلك الدعوة إلى مواجهة كل أشكال الأطر المغلقة التي تشل الفكر وتسد عليه منافذ كل تبصر وتفكير عقلاني متفتح يؤمن بالآخر ويدعو إلى المجتمع المفتوح والكون المفتوح.

ولأجل ذلك، كانت الغاية التي حددها لمبحثه هذا، تتمثل في التصدي لأبرز تجليات ومظاهر اللاعقلانية، متجسدة بالخصوص في النزعة النسباوية – التي تقوم على مبدأ فحواه أننا نستطيع أن نفكر من خلال إطار ترسم معالمه خلفيتنا العقلية، وأن الحقيقة تختلف من إطار إلى آخر- استهدف تقويض حججها وتبيان تهافت مسوغاتها في أفق إحلال النقاش العقلاني الخصيب والمثمر بدلها. لكن وقبل أن نتعرف على بعض مظاهر التفكير النسباوي، لنسفر، بادئ ذي بدء، الحجاب عما يقصده بوبر بأسطورة الإطار، تلك العبارة التي جعلها عنوانا لأحد فصول كتابه بل وأسبغها على المؤلف ككل، في دلالة معبرة على إدانته القوية لمفهوم الإطار وخطورة أن يتلبس بالعقول.

يتلخص مضمون أسطورة الإطار في كون ‘المناقشة العقلانية والمثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية، أو على الأقل ما لم يتفقوا على مثل هذا الإطار لكي تسير هذه المناقشة’. لقد رأى البعض أن هذا التعريف يمثل مبدأ منطقيا أو على الأقل قائما على أساس منطقي، بل نكاد نجزم بأنه ذات المبدأ الذي لا نكل من الدفاع عنه والمطالبة باستحضاره في نقاشاتنا وسجالاتنا، اعتقادا منا أننا حينما نتفق قبل المناقشة على مفرداتنا أو نتوحد حول تعريف بعينه لمفاهيمنا ومصطلحاتنا، نكون بذلك ندفع في اتجاه الخروج بنتيجة متفق عليها في النهاية ومرضية لمختلف الأطراف، أما دون ذلك فلا نرى في المناقشة إلا إبحارا بغير مجاديف وخبط عشواء مآله، دون مبالغة، الخصام والشجار. هذه رؤية عمومنا أما رؤية بوبر فمختلفة إذ هو لا يرى في ما أسميناه مبدأ سوى ‘مجرد تقرير فاسد وشرير، إذا عم اعتماده وتداوله سوف يدمر وحدة الجنس البشري وبالتالي ترتفع معه إلى حد كبير احتمالية العنف والحرب’، وهذا ما جعله يتصدى له ويكافحه متوسلا ببينات وشواهد من التاريخ نؤجل الحديث عنها ريثما نلتفت في عجالة إلى السؤال التالي:

أين نعثر على الخصوبة والإثمار، هل في المناقشة التي تتم بين أفراد يتقاسمون كثيرا من الآراء، أم في تلك التي تتم بين أفراد بأطر واسعة الاختلاف؟

ينتصر بوبر للشق الثاني على اعتبار أن المناقشة من الصنف الأول رغم كونها طلية ولطيفة إلا أنها تكون مجدبة وغير مثمرة على خلاف الثانية التي قد لا تكون لطيفة والأجواء فيها قد تكون مستعرة إلا أن النتائج التي تتمخض عنها تكون حتما جيدة، لا لشيء إلا لأن المناقشة لا تكون خصيبة ومثمرة إلا بقدر ما يستطيع المساهمون فيها أن يتعلموا منها أشياء جديدة. وهذا يعني أنه كلما كانت الأسئلة التي يطرحونها أكثر أهمية وأكثر خصوبة وكلما حفزتهم على التفكير في إجابات أكثر جدة لم تكن ضمن اهتماماتهم الراهنة، وكلما زعزعت آراءهم وخلخلت اعتقاداتهم كلما استطاعوا أن يروا الأشياء بعد المناقشة بصورة مختلفة واتسعت حتما آفاقهم العقلية. في المحصلة تعتمد الخصوبة والإثمار في مناقشة ما على الفجوة الأصلية بين آراء المساهمين في المناقشة والتي بقدر اتساعها تكون المناقشة أخصب، على ألا تكون المناقشة مستحيلة في الأصل كما تقرر أسطورة الإطار. إن المشكلة في نظر بوبر تكمن في أن سيرورة المناقشة تبدأ من سؤال خاطئ في الأساس مضمونه ‘كيف يمكن أن نؤسس أو نبرر أطروحتنا أو نظريتنا؟’ وهو سؤال يفضي إلى الدوغمائية أو إلى ارتداد لا نهائي في مسار التبرير، أو إلى المبدأ النسباوي القائل بالأطر العقلية الخاضعة للامقايسة والذي سوف نعرج عليه لاحقا. أما السؤال الذي يراه ‘داعية المجتمع المفتوح’ سؤالا صحيحا ومقبولا وتترتب عنه نتائج طيبة ومفيدة، فهو يعتمد الصيغة التالية: ‘ما معقبات أطروحتنا أو نظريتنا؟ وهل هي جميعا مقبولة لنا؟’ إن مقبولية هذا السؤال تكمن في تركيزه على المعقبات الأفضل في الأطر المختلفة المتناقشة، فهو يحاول أن يستبدل بجميع نظرياتنا نظريات أفضل، وهي مهمة يسلم بوبر بأنها شاقة وعسيرة، لكنه يؤمن في ذات الوقت بأنها ليست أبدا مستحيلة لاسيما إذا حضرت النوايا الطيبة والخيرة.

هذه هي الأطروحة الأساس في هذا المبحث والتي انبرى بوبر للدفاع عنها بكل ما أوتي من معرفة ومن خبرة راكمها على مدى سنوات طوال، فلطالما حذر من مغبة الأطر المغلقة في كل صورها، بل إنه سلط جام نقده بالدرجة الأولى على النسباوية التي رأى فيها أحد الوجوه الأكثر انتشارا المدافعة عن اللاعقلانية في عصرنا الراهن مادامت تسلم بالمبدأ القائل أن الحقيقة ذات ارتباط حثيث بخلفيتنا العقلية، الأمر الذي جعلها تختلف من إطار إلى آخر. فدعاة هذا الاتجاه ومناصروه ينطلقون من مقاييس للتفاهم المتبادل، حينما يفشلون في استيفائها، يزعمون أن التفاهم مستحيل.

يعثر بوبر على الإرهاصات الأولى للنسباوية التاريخية أو الثقافية لدى هيرودوت أبو التأريخ، وبالضبط في ثنايا أقصوصة تحكي ‘عن ملك الفرس ‘داريوس الأول’ الذي أراد أن يلقن الإغريق المقيمين في إمبراطوريته درسا. وكان من عادة الإغريق أن يحرقوا موتاهم (…) سألهم عن الثمن الذي يرتضونه كي يلتهموا آباءهم حين يتوفون. فأجابوه بأنه لا شيء البتة على ظهر الأرض يمكن أن يغريهم بفعل هذا. حينئذ استدعى داريوس الكالاتيين الذين يأكلون آباءهم بالفعل، وفي حضور الإغريق بمعونة من يترجم لهم، سأل الكلاتيين عن الثمن الذي قد يرتضونه لكي يحرقوا جثث آبائهم حين يتوفون. فكان أن تعالت صرخاتهم وناشدوه ألا يذكر مثل هذه الشناعة’. صحيح أن الأقصوصة تقدم دروسا في التسامح وفي قبول الغير واحترام عوائده وأعرافه، وهذا لعمري ما أرادنا هيرودوت أن نفهمه ونستوعبه، إلا أنها من زاوية نظر أخرى قد تسقطنا في شرك النسباوية، أي في النظرة التي تقضي بعدم وجود حقيقة مطلقة أو موضوعية، بل كل ما هنالك حقيقة عند الإغريق، وأخرى عند المصريين ويظل ثمة حقيقة أخرى هند أهل الشام وهكذا.

لا ينبغي أن يفهم من كلام بوبر هذا أن النسباوية في مجملها شر مستطير ينبغي محاربته والقضاء عليه، فهناك باعترافه حالات مخصوصة بالإمكان التعامل معها ومناقشتها بطريقة نسباوية، كما هو الحال مثلا مع مسألة قيادة السيارة التي تختلف بين انجلترا وأستراليا ونيوزلاندا، من جهة، حيث تتم القيادة على الجانب الأيسر وبين بقية العالم حيث القيادة تتم على الجانب الأيمن، فهي حالة لا ينبغي أن نحترز من عواقبها مادامت لا تشكل أي خطر بالنظر إلى أنها مسألة عشوائية واتفاقية لا غير. بيد أن الخطورة حسب بوبر تبدأ حين يلجأ بعض الناس إلى مناصرة الأسطورة القائلة إنه لا يمكن مناقشة أطر القوانين والعوائد مناقشة عقلانية، مسوغهم في ذلك أن الأخلاقية هي ذاتها الشرعية أو العوائد والسنن وبالتالي لا يمكن بأية حال الحكم بما إذا كان نظام من العوائد أفضل من الآخر أخلاقيا ولا حتى مناقشة هذا مادامت شتى الأنظمة الكائنة للقوانين هي فقط المقاييس المتاحة للأخلاقية، فبوبر يرى أن أمورا من قبيل إدارة شؤون الدولة واحترام الحرية، تجبرنا ألا نأبه بالنسباوية الثقافية. والجدير ذكره في هذا الصدد أن بوبر يعزو هذه النظرة إلى هيغل صاحب الصياغة الشهيرة ‘كل معقول واقعي’ و’كل واقعي معقول’، معتبرا إياه نسباويا ومطلقا معا. فهو يدعو إلى النسباوية حين يعتبر إن لكل إطار تاريخي وثقافي حقيقته، وعليه تتعذر المناقشة العقلانية بين الأطر مادام لكل منها معياره المختلف للحقيقة. وهو بالمقابل يدعو إلى المطلق حين يستمسك بمبدئه القائل بأن الحقيقة لكي تصدق صدقا مطلقا ينبغي أن تسري على كل الأطر. ومع ذلك يرى بوبر أن الصورة الأكثر جاذبية المتبقية عن هيغل هي تلك التي ارتبطت بمبدئه القائل بالحقيقة النسباوية. وهي الصورة التي سيقع تعزيزها أكثر بعد رحيله على يد كارل ماركس من خلال فكرته عن الحدود الطبقية للعلم (العلم البروليتاري والعلم البورجوازي) وبقاء كل منهما حبيس إطاره الخاص، ومن بعده على يد كل من ماكس شيلر وكارل مانهيم اللذين استمسكا، يقول بوبر، بفكرتيهما القاضية بأن لكل إنسان إطاره المفاهيمي الذي يتحدد عن طريق موطنه الاجتماعي. إن أمثال هذه الأفكار لم تفد الإنسان بقدر ما أضرت به، إذ كلما أبدى استعداده للتعلم من الآخرين وفتح أبواب أطره مشرعة في وجه أطر أخرى، اصطدم بعوائق خطيرة من النسباوية الثقافية، مبدأ الإطار المغلق. وهذا ما يدفعنا إلى أن نتساءل:

هل بمقدورنا التحرر من هذه السجون الذهنية التي تستغرقنا ؟

ليس باستطاعتنا، يقر بوبر، أن نكون أحرارا بصورة مطلقة، بل كل ما في مقدورنا أن نجعل سجننا أرحب وأوسع، وأن نتجاوز ضيق سجن من تستغرقه قيوده. ولأجل ذلك لا مندوحة لنا عن المناقشة النقدية لمختلف النظريات التي تؤطر رؤيتنا ونمط تفكيرنا، إذ وحده منهج المناقشة النقدية يمكننا من أن نتعالى على أطرنا المكتسبة من الثقافة وأيضا على أطرنا الفطرية وعلى منحانا الغريزي جزئيا نحو اعتبار العالم كونا من الأشياء المحددة خصائصها. لهذا السبب يعود بنا بوبر إلى جذور تشكل الفكر النقدي والذي يرهنه بما يسميه بالصدام الثقافي، إلى حد ربط فيه تشكل الحضارة الغربية بالصدام والمجابهة التي تمت بين أطر مختلفة على شاكلة ما وصفه هيرودروت عاليه، وهذا الصدام ارتبط على مدار التاريخ بمحاولات الإنسان الجريئة والمفعمة بالآمال لتفهم العالم الذي يحيا فيه تفهما نقديا؛ فالمعجزة الإغريقية الأصيلة التي تمثل الأصل الحقيقي للعقلانية النقدية والتي إليها يُرجع بوبر فضل إرساء بوادر التفكير النقدي، نتجت عن صدامات ثقافية واختلافات في الرؤى نسلط الضوء على بعض ملامحها في ما يلي:

يعزو بوبر ما توصل إليه هيراقليطس من أفكار خلدها التاريخ إلى تأثره الكبير بزرادشت، كما يعتبر أن اكسينوفان في نقده للإلهيات التجسيمية المتشبهة بالإنسان، تعلم من الصدام بين الثقافات الإغريقية والحبشية والتراقية. بارمنيدس من جهته، استفاد في تفرقته بين الحقيقة الواحدة النهائية غير الخاضعة للعرف الإنساني، وبين العرف أو الرأي المجمع عليه، من كسينوفان ومن الصدام الثقافي. فضلا عن أن أفكارا شتى صرنا نؤمن بها اليوم بل وأصبحنا نرفعها كشعارات يتم تمجيدها من قبيل، الديمقراطية، التسامح، والحرية كلها تولدت، يقول بوبر، عن الصدامات التي شهدتها الثقافات على مدار تاريخ الإنسان، أما العقلانية فيعتبرها إبداع إغريقي خالص نشأ دفعة واحدة مع أنكسمندر في إطار مناقشته النقدية لمختف الأساطير التفسيرية وبإيعاز من معلمه طاليس الذي شجعه على أن يرى ما إذا كان يستطيع الخروج بتفسير يختلف عن تفسيره، وهذا التشجيع أسفر عن أول فكرة جريئة حول وضع الأرض داخل الكون من قبل أنكسمندر سوف تفسح المجال لأرسطارخوس وكوبرنيكوس بعده، بل وتضمنت إرهاصا بالقوى عند نيوتن. وهذا لعمري درس أراد بوبر إطلاعنا عليه وتلقيننا إياه مفاده أن الوصول إلى الحقيقة أو بالأحرى الاقتراب منها ما أمكن، يتطلب المناقشة النقدية والبراعة في كل من نقد النظريات القديمة والابتداع التخييلي لنظريات جديدة.

هذا وينبغي أن نشير إلى أن الحديث عن أسطورة الإطار أو عن بعض أوجه حضورها لم يستثن أي مجال معرفي بما فيه مجال فلسفة العلم الذي نتخذه مثالا للدقة والمعقولية؛ فقد خصص له بوبر الشطر الأخير من مبحثه هذا، ناقش فيه المشاكل التي لطالما عاشها العلم وعانى منها في سيرورة تشكله وتطوره، مشاكل تخفى عن أنظار غير المتخصصين، أكيد، بحكم أنهم لا يعاينون إلا مخرجات العلم أي صياغاته النهائية، أما من اتخذ من العلم ديدنه فإنه حتما يعرف الكثير عن صراعات الأطر الموجودة بين العلماء أنفسهم أو بين العلماء ومن ينصبون من أنفسهم أوصياء على أساطير بعينها لا ينبغي المساس بها بأي شكل من الأشكال (حال الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى)؛ فبفعل الدوغمائية والتعصب وُئدت أفكار كبيرة، كان يمكنها أن تجعل وضعنا اليوم مختلفا بصورة من الصور: بفعل التعصب اتهم أرسطارخوس الساموسي بالكفر لأنه كان جريئا أكثر مما ينبغي بإعلانه مركزية الشمس بدل الأرض، وأحرق جيوردانو برونو علنا في قلب ميدان الأزهار بروما لأنه آمن بنظرية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس. وللسبب ذاته، رُكع غاليليو غاليلي، مفخرة إيطاليا، ودُفع دفعا إلى التراجع عن أفكاره، والأمثلة كثيرة عن آفات التعصب ودوره كعقبة كأداء تقف في سبيل العلم وتطوره. فكلما برزت إلى الوجود فكرة جديدة تحمل شيئا من الجموح الذي يخالف ما ألفته العقول واطمأنت إليه المعتقدات تم الإسراع إلى وأدها في المهد بدل أن يتم احتضانها وخدمتها بعناية حتى تسهم في إنارة الطريق نحو كشوف علمية ومعرفية جديدة. ولا نعدم الأطر المغلقة والأحكام المسبقة حتى بين العلماء كما قلنا عاليه، وهناك حالة شهيرة عن هذا الأمر، لا يفوت بوبر الإشارة إليها بنوع من المرارة والحنق، من بين حالات عديدة أخرى، تتعلق بنظرية إنشتاين في الفوتون التي نشرها صاحبها لأول مرة في العام 1905، وتم رفضها سنة 1913، لينال عنها، ويا للمفارقة، جائزة نوبل سنة 1921. بوبر في تعليقه عن الرفض الذي تعرضت له هذه النظرية اعتبر بأنها ‘حادثة مجيدة في تاريخ العلم، تبين كيف أن رفضا دوغمائيا نوعا ما قد يتأتى من قبل أعظم الخبراء المعاصرين متحالفا مع تقدير أكثر العقول تحررا’ ، ما يكشف بجلاء عن أن العلماء العظام يخفقون بدورهم في بلوغ موقف النقد الذاتي الذي يحول بينهم وبين الثقة الكاملة بأنفسهم بينما هم يصدرون أحكاما فادحة الخطأ على الأشياء.

يحدث هذا في مجال العلوم التي تنعت بـ ‘الحقة’، أما في مجال العلوم الإنسانية فالأمر لا يختلف كثيرا، أو لنقل أنه يزداد سوءا، إذ تزداد مساحة إقحام الذات في تشكيل المعرفة ومعها قد تزداد الأطر صلابة ومتانة وتسد بالتالي منافذ التفكير العقلاني النقدي الحر، ثلاثة أمثلة يعرج عليها بوبر بصورة خاطفة يقول انه لم يكتشف المماثلة التي بينها كرؤية وبين أسطورة الإطار ومن تم يتجاوزها إلا بعد ما مرت خمسون سنة، رؤية يتبناها، حسب قوله، قوم يعيشون في إطار مغلق، من أمثال الماركسيين (نسبة إلى كارل ماركس) والفرويديين (نسبة إلى سيجموند فرويد) والادلريين (نسبة إلى ألفرد آدلر). لا احد منهم كان مستعدا للتخلي عن الرؤية النظرية التي اتخذها حول العالم، بل إن كل حجة مضادة لإطارهم كانوا يعيدون تأويلها بالشكل الذي يجعلها تتلاءم داخله: فنقد الأفكار الماركسية يتم إرجاعه إلى الانحياز الطبقي، ونقد الأفكار الفرويدية يتم إرجاعه إلى الكبت ونقد الأفكار الادلرية يتم إرجاعه إلى الجدل لإثبات التفوق ومحاولة تعويض الشعور بالنقص.

لقد مكن تحليل بوبر لهذه النظريات من استخلاص درس مقتضاه أن كل ملاحظاتنا يتم تأويلها دائما بمعونة النظريات التي تؤطر رؤيتنا للعالم، بمعونة أطر هي بمثابة سجون، من لم يحصل له الوعي بها سيظل يقبع داخلها ويرزح تحت وطأتها، وسيظل لا يرى من الآراء إلا رأيه، وهذا ما تسهل ملاحظته في المناقشات التي يحضر فيها أفراد لم يقووا على نسيان ما تعلموه من غرائزهم وما حدث أن تعلموه من كل تجمع سجالي، أي أنهم يجب أن ينتصروا، فهم حين يجلسون حول طاولة للمناقشة يخالون أنفسهم داخل حلبة صراع لا لزوم فيها للإنصات والحوار الهادئ والبناء، وحدها لغة الانتصار تمارس صخبها في دواخلهم، فلا هم يستفيدون في النهاية ولا هم يفيدون غيرهم، ولربما لنا في بعض حلقات الاتجاه المعاكس التي تبتها قناة الجزيرة القطرية خير شاهد على ما نقول. أما من حصل لديه الوعي بأن الأطر سجون، فيؤمن في قرارة نفسه بأن المناقشات النقدية المهمة دائما عسيرة المراس، وأن النجاح فيها لا يكمن في الانتصار على الطرف الأخر في المناقشة بقدر ما يكمن في أبسط توضيح لمشكلة ينشغل بها المرء، بل وفي أضأل مساهمة في السير قدما نحو تفهم أوضح لموقفه الخاص أو موقف واحد من خصومه، شعاره في ذلك كما يقول بوبر ‘أن المناقشة التي تنتصر فيها بينما تفشل في أن تعينك على تغيير أو توضيح أفكارك ولو إلى حد يسير يجب اعتبارها خسرانا مبينا’.