بدت رواية (كتاب المراحيض) للقاص والروائي لؤي حمزة عباس الصادرة عن دار أزمنة في عمان 2007 صادمة بعنوانها وشكلها وشخوصها وتقنيات السرد فيها وتناولها بلغة جريئة لفعل يعدّ من المحرمات الاجتماعية ذكره صراحة ليس في حضارتنا بل في أكثر من حضارة. إذ ليست غريبة عنا نحن العراقيين عند الذهاب إلى المرحاض عبارات «زي الناس، أو اقضي حاجتي، أو أحاسب التجّار» كنوع من التورية. وحتى في اللغة الانكليزية يحاولون تحاشي هذا الفعل أيضاً، فهم يقولون to answer the call of nature (حرفياً تعني: ألبّي نداء الطبيعة). لا لشيء بل للهرب من ممارسة داوم عليها بنو البشر منذ بدء الخليقة ولحد الآن، في مشهد يتكرر، لكنه محاط بالسرية والكتمان، مشهد يتوحد فيه الإنسان مع أدنى الحيوانات وأكثرها بدائية.
إن الخوض في بعض العوالم اللامرئية وغير المألوفة برزت هنا وهناك في كتابات متفرقة في الأدب، نثراً كان أم شعراً. مثلاً في رواية (سنو وايت) للروائي دونالد بارتيم يلمس القاريء قطعاً كثيرة تثير الاشمئزاز والاسترجاع، بسبب اللغة التي يستخدمها هذا الروائي وهو يصف بطلته بجلدها الفاقع البياض كالثلج والتي تعيش في إحدى القرى وتمارس الحب مع كل أصدقائها السبعة. وهناك الكثير من الأدباء ممن تطرق بشكل أو بآخر في بعض الاستطرادات كمحاولة للإيغال في اللامألوف والغريب وربما المحرّم اجتماعياً ولغوياً. لكن أن تجد رواية من ألفها إلى يائها تتحدث عن المراحيض، سواء المادية منها أم تلك التي تعيش فينا وبيننا وتتمظهر تبعاً لتحولات الفعل السلوكي الذي يبتعد في كثير من الأحيان من بشريتنا، فهذه مسألة جديرة بالاهتمام كونها تؤسس لنقطة تحوّل في ثيمات الرواية العراقية الحديثة والعربية أيضاً وإخراجها من تقليديتها والزج بها في بيئة لا تجذبها إلى دنيا الرواية سوى خيوط واهية لكنها منسوجة بعناية وفق رؤى واستبصارات متكيفة مع العالم المتغير دوماً .. ولكن لنعد إلى (المراحيض).
العنوان الرئيس هو (كتاب المراحيض) يوحي، من بين أشياء أخرى، إلى أمور كثيرة بسبب انفتاح الدال "كتاب" إلى مداليل عدة تشير في معظمها إلى علمية ما سيطرح ودقته وانطوائه على أعراف وتقاليد وقوانين .. فلفظة "كتاب" تنقل تفكير المتلقي ولو للحظات على الأقل إلى واقعية تكاد تكون فوتغرافية في تصوير ما سيأتي بين دفتي هذا "الكتاب". خذ مثلاً (كتاب الخصائص) و (كتاب المناظر) و (كتاب الطبقات الكبير) ووصولاً إلى كتب العبادات التي تبدأ جميع فصولها بلفظة “كتاب": (كتاب الصلاة، كتاب الصيام،...الخ.). لكن القاريء سرعان ما يباغَت بالعنوان الثانوي (رواية تعرَّف) الذي يمحي كل الذي كوّنه عبر العنوان الرئيس أو يؤجله. وهذا التأرجح الذكي بين "الكتاب" و"الرواية" انعكس بدقة في محتويات هذه الرواية ـ الكتاب أو هذا الكتاب ـ الرواية في البناء السردي عبر الفصول والوصول والوقوف التي تقرّبها من النسق الحكائي. وبهذا العنوان الفرعي يمهّد الكاتب قارئه للجديد والغريب الذي سيأتي، وأن هذا الآتي ليس سوى الجزء البارز من جبل الجليد وما بقي منه ينبغي للقاريء اكتشافه بذات الطريقة التي سارت على هديها الرواية أو ربما بطرق أخرى .. وبالفعل فهي تعرّف القاريء منذ مدخلها بأن آدم ساعة هبوطه من الجنة واكله الطعام "وجد في بطنه ثقلاً...، فأحدث وخرج منه الثفل وآدم حتى الساعة يلتذ بما يخرج منه ... فيقوم وفي جسده شيء من خفة يخلقها الجهد والدفء والرائحة، وعذوبة غريبة توطد إحساساً مبهماً يسري في أسلاكه العصبية موحداً بينه وبين اشد الكائنات نتانة". نعم انه تعريف بشيء معروف ومشترك بين جميع بني البشر لكنه مغيّب قسراً لنتانة هذا الفعل أو لمجرد إزاحته إلى اللاوعي الجمعي. لكن الحقيقة المرّة التي لم يصرّح بها هذا التعريف هو أن هذا النزول الآدمي لم يكن لهدف سامٍ، بل لاستشعار اللذة بسبب الإفراغ المتكرر وكأنه هبط للقيام بهذا الدور ولإثبات حيوانيته.
أما الشكل الذي ظهرت عليه الرواية فهو "مدخل ومخرج" وما بينهما عدد من "الفصول والوقوف والوصول". وهذا الشكل يحاكي شكل الكائن البشري الذي يبدأ بمدخل (هو الفم) وينتهي بمخرج (هو الإست)، مع الإهتمام بالجزء السفلي كما يشير عنوان الرواية. أي على عكس معظم الكتابات التي عادة ما تؤكّد على الجزء العلوي من الإنسان بوصفه مالكاً لناصية الفكر التي تميزه عن بقية الكائنات غير المفكِّرة. لكن التأكيد على الإست وما يخرج منه إنما يدلّ على أن للإنسان صلات قربى مع غيره من الحيوانات وربما الجمادات لأنهم، وهو معهم، "يشكّلون الوجه الآخر، غير المرئي، لضرورات أجسادهم، حيث تؤاخيهم يد الطبيعة كي تعيدهم جميعاً لجملة أسرارها." في (المدخل) مبتدأ صادم : "منذ أن استل جبرائيل وسطاه من إست آدم ... وآدم حتى الساعة، يلتذ بما يخرج منه..." وفي (المخرج) منتهى واعظ يفيد بأن المراحيض هي أماكن تلقي فيها الأجساد كلماتها. وهذا المعمار رسم للإنسان شكلاً هو ذات الشكل الذي انفطر عليه منذ الأزل، أي أن كل التغيرات الكمية في حياته لم تحدث أية تغييرات نوعية على منظومة تعاطيه مع الطبيعة الأم لاسيما في مسألة التخلّي.
وإذا انتقلنا إلى شخوص الرواية، فلا نجد شخصية رئيسية وأخرى ثانوية، أي لا بطل في هذه الرواية ولا مناويء له. فكل الأبطال تصغر أمام فعل الإفراغ المستمر في أماكن غاية في السرية والحصانة. الأحداث، إذن، لا تُسرد بطريقة تقليدية بل يسردها راوٍ كلي المعرفة بأناه الاعتيادية التي تتحول في أحايين كثيرة إلى أنا مفخمة "نحن" (أي: أنا + أنت) في بعض المواطن. ويتحدث بصيغة الغائب تارة ثانية والمخاطَب تارة ثالثة وهو يغور عميقاً في ذات الشخصية التي يتحدث باسمها ونيابة عنها. ولكن حتى الـ (هو) والـ (أنت) تذوبان معاً وتبدوان للقاريء وكأنهما "أنا" الراوي أريد بهما إشراك القاري كونه طرفاً فاعلاً في مجمل الحكاية وطرد الملل عنه: "أن تعي بحاجة الجسد في مثل هذا الوقع العنيف يعني أن تجاهد في سبيل القفز على اللحظة الماثلة ... حيث ستقف في سنوات الحرب وحيداً تراقب زحف سنواتك في الزمن الحرام". فضلاً عن ذلك، تأتي إلينا الأحداث عبر بؤرة قص مسرحية ـ أي ترك الأحداث تجري على لسان شخوصها الأصليين، ورسم الحدث بحوارات مشحونة بسخرية عالمها المر كما هو واضح في القصص الجانبية التي ترويها شخوص وهي تستهجن الوضع المزري والتفتيش عن لحظة خلاص ولو في الزمن الحرام.
وقد تعضدت هذه التقنيات في عرض الأحداث بالاستئناس طوراً رابعاً بمقتبسات من هنا وهناك لكتّاب مختلفين ينتمون إلى حضارات وعصور مختلفة، مع ذلك يوحدهم اثر واحد وهو النظر من طرف خفي إلى فعل إنساني شاءت الحكمة أن تبقيه أساساً للبقاء. إن هذا "الميتا ـ قص" جرى استخدامه بشكل مبتكر هنا حيث تتم الإشارة إلى صاحب المقتبس روائياً كان أم قاصاً أم فناناً أم مؤرخاً، أي عدم إخفاء هوية المنقول عنهم، ربما دعماً لمفهوم الـ (الكتاب) الذي يشكل مبتدى العنوان الرئيسي. وهكذا هناك اقتباسات لجابر خليفة جابر، ونعمة الله الجزائري، و كاندنسكي، وغيرهم. وهذا التكتيك يذكّر بقصيدة (الأرض اليباب) التي يقتبس فيها اليوت أكثر من أربعين شخصية أدبية وفكرية معروفة بلغتها الأم. لكن ثمة فارقاً كبيراً بين الاثنين: اليوت جمع كل هذا الكم من الشعراء والكتّاب ليعطي مثلاً ساطعاً على الكولاج الشعري في قصيدته الملحمية، بينما في (المراحيض) لا تدلل اقتباسات المؤلف على الكولاج الروائي والقصصي فقط، بل تدلّل أيضاً على أن الجميع ينأون بأنفسهم من التطرّق إلى موضوعة المراحيض إلا لماماً في بعض كتاباتهم؛ بينما هذه الرواية هي خالصة للمراحيض بأي منظور تراها لإعطاء حكمة من أحط الأفعال أو ربما ليكون مرجعاً مرحاضياً كونه "كتاباً"!
وعند تجاوز كل ذلك، فإن (كتاب المراحيض) ينطوي على عدة مضامين إنسانية كبيرة ولو أنها مفاجئة وصادمة، ومن أهمها أن الإنسان هو ذلك الشيء المحصور بين فمه ومخرجه، انه بيت النتانة، تنحصر وظيفته في الأكل والتبرّز ليس إلاّ. وبذلك فالإنسان، أي إنسان، بغض النظر عن هيله وهيلمانه، هو ببساطة حيوان آكل ومتبرّز في آن معاً. ليس هذا فحسب، فالمراحيض بمدلولاتها المادية والمجردة أوضحت بأن الإنسان في زمن الحروب والزنازين والجوع والحرمان يتغوط ألماً وخوفاً ورعباً. وبهذا تنفصل هذه الأماكن من صيرورتها بيوتاً للراحة إلى سجون ومحاجر يعيش فيها الجندي والسجين والمحكوم بالإعدام لحظات من الإنفراد والعزلة والانقطاع عن الحلم الذي عادة ما يباغت المرء وهو يعيش هذه الأماكن في أن يخرّي ذهباً مثلاً. لكن الإنسان، رغم هذا يستغل أكثر الأماكن نتانة ليتغوط فيها همومه بعد انطباق فسحة الحرية الممنوحة في زمن القمع الفكري: "النصر لنا / آه يازمن / مالك وما للناس / دليلي احتار / يا حوم اتبع لو جرينا ... وما إلى ذلك من خربشات الرفض لنظام فاسد باتت ملامحه الكالحة منعكسة في كل سطر من هذه الرواية المحيّرة. تلك العبارات التي "تتمازج في تشكل تمائمي لتقطر حسراتها كاشفة عن سر الحزن، اللوث، والغربة، عن إحساسها الملحّ بالحاجة، ذكرى صداقة، وعسر الزمن". وهي تنبه وتذكّر وتدعو وتحذر وترفض و... وهكذا يتجاور فعلان في هذه الخلوة النتنة المقتطعة من زمن نتن: الكتابة والخراء ـ الأولى هي "لسان اليد" والثانية هي "حبر الجسد" الذي يكون أحياناً بلون الدم ليعكس حجم الظلم الواقع على هذا الجسد، وكلاهما (أي هذان الفعلان) تنفيس لحدث مختمر سلفاً.
إذن لاغرو بأن تؤرّخ (المراحيض) لجميع الأمكنة والمخابيء لاسيما السرية منها، وربما لجميع الأزمنة، لتكون مفاتيح سعادتها وأقفال أحزانها مرهونة بمدى الإنكسار والإذلال المنظم والمتكرر: المقابر المراحيض، الملاجيء المراحيض، الضفاف المراحيض،... السراديب المراحيض". هذه الرواية، بكلمات أخرى، هي سمفونية الأماكن المغلقة العازف الوحيد فيها هو الإنسان الحزين والمغرّب والمغيّب والمحوّل قسراً إلى مجرد ماكنة للإملاء والتفريغ، تلك السمفونية التي ضبط المؤلف إيقاعاتها بلغة مهيبة، جادة، رصينة وهي تصف اشدّ الأماكن نتانة وأكثر اللحظات تماهياً مع الفعل الحيواني. إن وصف القبيح بلغة جميلة (أي تجميل القبح) والدخول في أدق التفاصيل بشاعة عبر تكبير هذه الأمكنة والخوض في تاريخها وأنواعها وتفكيكها إلى مكوناتها الدلالية لهي نقطة تفرّد غرس القاص لؤي حمزة عباس بذرتها الأولى في جسد الرواية العراقية الحديثة برغم حساسية الثيمات التي طالها وصفه اللغوي الدقيق لأشد المضامين قبحاً كما أسلفنا. وهكذا يبقى (كتاب المراحيض) رواية ليست ككل الروايات وكتاباً ليس ككل الكتب.. إنها رواية كل الأمكنة المعزولة والسرية والمسكوت عنها وهي أيضاً رواية كل الأزمنة التي تذوب فيها لحظات الفعل الإنساني وسط هذا الانعزال الموحي إلى بشاعة تلك الأمكنة والأزمنة على حد سواء. وأخيراً، تبقى الحكمة المرحاضية رغم هذا وذاك مدوية بأن " تنظيف البطن هو اقل التباساً من تنظيف الروح".