مازلت أذكر الحدث كما لو أنها وقع اليوم أو أمس. ذلك أننا نحن مجموعة من الطلبة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، وقع اختيارنا، دون اتفاق مسبق، على أن يكون أستاذنا الشاعر محمد السرغيني مشرفا على أبحاثنا لنيل الإجازة. وقد كان أستاذنا يدرِّسنا مادتين مختلفتين هما الشعر العربي المعاصر والسيميائيات. وقد كانت السيميائيات في ثمانينيات القرن العشرين جديدة في الحقل التداولي العربي. يومها كان على وشك مناقشة أطروحة دكتوراه الدولة في جامعة السوربون الفرنسية. وكان موضوع الأطروحة متعلقا بالمتصوف الأندلسي ابن سبعين.
سمعت هذا الاسم أول مرة من قبل أستاذنا محمد السرغيني في اجتماع خصصه للطلبة الذين يشرف على أبحاثهم الجامعية في إحدى قاعات الكلية. والمناسبة هي أنه كان يعلمنا أبجديات البحث العلمي: كيفية التعامل مع المصادر والمراجع، وضع الاستشهادات بين مزدوجتين من أجل التمييز بين ما للباحث وما لغيره ولو كان الاستشهاد مكونا من كلمة واحدة، ضبط الهوامش والإحالات، ترتيب هذا الضبط الذي يبدأ باسم المؤلف وينتهي برقم الصفحة، وغيرها من الأمور المرتبطة بالبحث العلمي. في هذا السياق، ذكر أستاذنا محمد السرغيني ابنَ سبعين، وكيف أنه بذل جهدا كبيرا بحثا عن المصادر والمراجع ذات الصلة بهذا الأخير.
في ذلك الاجتماع لم تفته الإشارة إلى فوضى الهوامش والإحالات عند العرب في ذلك الوقت. فوضى اعتبرت عنده دليلا على افتقار العرب إلى الروح العلمية التي هي عمادُ البحث العلمي وركنُه المتين. وبالنظر إلى روحه العلمية، فهو لايحابي أحدا لهذا السبب أو ذاك البعيد عن العلم كالمدح والمجاملة ونحوهما، فقد طلبتُ أن يكون عضوا في لجنة مناقشة رسالتي الجامعية "المصطلح المسرحي عند العرب". لن أنسى، مادامت الذاكرة تشتغل، مناقشتَه العلمية وكلامَه الطيب الذي قاله في حقي في تلك المناسبة، وهو مسجل صوتا وصورة.
أهمية محمد السرغيني الباحث والعالم والشاعر المجدد في لغة الشعر العربي المعاصر، الذي لا يمكن فهم شعره إلا بعد التسلح بثقافة عميقة وواسعة تنهل من الثقافة الكونية وليس فقط من الثقافة العربية، غير خافية على المتتبع للثقافة العربية المعاصرة ومنها الثقافة المغربية. وقد نبش الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحيى في ذاكرة محمد السرغيني من خلال أحد برامج إذاعة طنجة، فكانت الإفادة الثقافية والنظر الثاقب في شؤون الثقافة عموما والشعر خصوصا. دام هذا النبش في ذلك البرنامج نحو شهر. وقد قدم السرغيني عن الشعر إضاءات في آخر حوار أجري معه إلى حد الآن، أجراه معه عبده حقي، الذي نُشر في العدد الأخير من مجلة "الثقافة المغربية" (عدد 37،أكتوبر 2013).
الذي دعاني إلى استحضار الروح العلمية عند محمد السرغيني، هو ما قرأته مؤخرا في كتاب جماعي. وقبل أن أذكر هذا الذي قرأته، أشير إلى أن ناقدا مسرحيا مغربيا كان قد ترجم مقالة نقدية ثم نشرها في مجلة "أقلام" التي كان يديرها عبد الرحمان بن عمرو (السنة السابعة عشرة، العدد 56، ابريل سنة 1982). أشار المترجم إلى مصدر الترجمة، وهو مجلة "بارتي/بري" عدد 30 سنة 1981). أعاد المترجم نشر المقالة النقدية المترجمة في كتاب صدر سنة 1992، وهو من منشورات عيون المقالات. كان عنوان المقالة النقدية المترجمة في المجلة المذكورة هو "مسرح الاكواريوم"، وفي الكتاب الصادر سنة 1992 كان عنوانها هو: "مسرح الاكواريوم وتقنية الارتجال". توجد تغييرات طفيفة في الأسلوب والصياغة، منها على سبيل المثال: "ففيما يتعلق لمسرحية "تجار المدينة" (أقلام ص77)، "ففيما يتعلق بمسرحية "تجار المدينة" (الكتاب ص46)؛ "بتبعية المناضلين أوالمناضلين السابقين" (المجلة ص79)، "بتبعية المناضلين والمناضلين السابقين" (الكتاب ص49)، يوجد هنا اختلاف في المعني تبعا للاختلاف الموجود بين "و" و "أو" في هذا السياق؛ "أما جريدة لموند..."، "أما جريدة لومند..." (الكتاب ص49). واستبدال "وكذا كل ما احنيناه" (المجلة ص77) بـ"وكل ما اقتنيناه" (الكتاب ص46)؛ و"متستر" (المجلة ص77) بـ"مستتر" (الكتاب ص46).
هذا إضافة إلى حذف كلمة "خلال" الموجودة في عنوان مسرحية لمسرح الاكواريوم، كان العنوان في المجلة هو:"القمر اليافع يحتضن القمر العجوز خلال ليلة كاملة"، وفي الكتاب:"القمر اليافع يحتضن القمر العجوز ليلة كاملة"، "La jeune lune tient la veille lune toute une nuit dans ses bras". أشار المترجم في المجلة والكتاب معا إلى أنه مترجم، كما أشار إلى مصدر الترجمة. وهذا عمل يحسب له، لاسيما وأن لغة الترجمة تتميز بالوضوح والسلاسة، هذا فضلا عن التعريف بمسرح الاكواريوم.
وكان هذا المترجم قد ترجم مقالة "أخطاء ترتكب في حق برخت ملخص بحث للأستاذ كلود روا" المنشورة في مجلة "أقلام" أيضا (السنة الأولى، العدد 7، ديسمبر 1964)، أعدا نشرها في الكتاب السابق الذكر المنشور سنة 1992 تحت عنوان "أخطاء ارتكبت في حق بريشت"، لكن دون الإشارة إلى كونها مترجمة. وقد أشرت إلى هذا في كتابي "نحو تحليل دراماتورجي" الذي صدر سنة 2004.
في هذه السنة أي سنة 2014، تم نشر كتاب جماعي في المغرب يتعلق بالفرجة. تضمن هذا الكتاب الجماعي مقالة نقدية. في إحدى صفحات هذه المقالة، تمت الإشارة إلى مسرح الاكواريوم أي إلى المقالة المترجمة السابقة الذكر. في إحدى فقرات المقالة النقدية المنشورة في الكتاب الجماعي ذُكر مسرح الاكواريوم، وذُكرت المسرحية المذكورة سابقا. في الكتاب الجماعي المنشور مؤخرا، ورد ما يلي: "كما فعلت مثلا فرقة "الاكواريوم" الفرنسية التي أعدت سنة 1976 عملا رائعا بمعية عمال مصنع". حكم صاحب المقالة المنشورة في الكتاب الجماعي على عمل الفرقة الذي أعدته سنة 1976، والمقصود المسرحية المشار إليها سابقا، بكونه "رائعا". هذا الحكم يتعلق بعرض مسرحي وليس بنص درامي، لهذا ذُكر الممثلون وعمال المصنع. هذا الحكم الانطباعي يدل على المشاهدة المباشرة. هل كان الأمر كذلك؟. إذا كان الجواب بالنفي فما هو الهدف من هذا الحكم؟.
زد على ذلك قوله في الكتاب الجماعي الصادر هذه السنة عن مسرحية "القمر اليافع يحتضن القمر العجوز ليلة كاملة": "وهو عمل يقوم على خطاب احتجاجي يعكس إضرابات العمال واحتلالهم للمصانع، وبأسلوب مسرحي يسترشد بالجماليات البريشتية، كما يقوم على شهادات حية: الشيء الذي دفع الممثلين إلى معايشة تجربة العمال وإعادة إنتاجها بطريقة شعرية" (الكتاب الجماعي ص52). مضمون هذا الكلام موجود في المقالة المترجمة. أضيف إليه في الكتاب الجماعي "وبأسلوب مسرحي يسترشد بالجماليات البريشتية"، وكذلك "بطريقة شعرية". ولأن الأمر يتعلق بعرض مسرحي، فإن هذين الحكمين الأخيرين يوحيان بأن الكتابة عن ذلك العرض المسرحي كانت بناء على المشاهدة. هل كان الأمر كذلك؟.إذا كان الجواب بالنفي، هل للحكمين معا مصداقية بالنسبة لصاحبهما ؟
في المقالة المنشورة في الكتاب الجماعي سنة 2014، تمت الإحالة على الكتاب الصادر سنة 1992 في الهامش الموجود في الصفحة الثانية والخمسين (ص52). في هذا الهامش ورد ما يلي: "انظر دراستنا لهذه المسرحية وللفرقة في كتابنا (...) عيون المقالات-الدار البيضاء 1992". هكذا تحولت الترجمة إلى دراسة، وتحول المترجم إلى دارس فنسب إلى نفسه ما سبق أن أقر هو نفسه بأنه ترجمة وليس دراسة له، لم يحوله أحد من مترجم إلى دارس في هذه الحالة. وبطبيعة الحال، فهذا ليس خطأ مطبعيا. ما هو المصطلح الذي يُطلق على هذا النوع من النسبة؟