حينما..
حينما هاجموا الشاب ذا الخمسة والعشرين ربيعا، المدعو قيد سراحه واعتقاله معاد بلغوات الحاقد، كان يلبس ثوبا شفّافا من أحلام ثورية برائحة القرنفل والخزامى وبخور الصْلام. يقف وسط عشاق كرة القدم المتجاوزين لخمسين ألف نسمة قَدِمت لمشاهدة مباراة في كرة القدم بين نسر الرجاء البيضاوي، وفريق الحمامة البيضاء المغرب التطواني، جميعهم سُكارى بأوهام الانتصار الذي يخفي شراسة الهزائم المتتالية في الواقع، في ملعب كبير اسمه مغربنا .. وطننا..
حينما ارتموا للقبض عليه بعد تربص محكم بناءً على سيناريو من إنتاج وإخراج وتنفيذ السلطات الأمنية بالدار البيضاء، وتنفيذ الصقور المدربة.
حينما تمكنوا منه، والمباراة لم تبدأ بعد، غرسوا مخالبهم في جسده النحيل، الشبيه بجسد المسيح ومحمد كرينة وعبد اللطيف زروال .. فأنّت روحه حتى رجع صداها أنينا مديدا مُدويا في كل المدرجات والشبيه بأنين سعيدة النبهي ليلة استشهادها. ضربوه وصفدوه بالحديد نازعين عنه ملابسه إمعانا في تمزيق حلمه وتكسير كلماته المشتعلة قطعة قطعة.
حينما رموه في السيارة ، لم يتنفسوا الصعداء إلا حينما انطلقت بصفارتها تزغرد نحو اللقطة الثانية .. آنذاك فتح معاد الحاقد عينيه، وقد شعر بالألم الجسدي، فلم يجد أمامه سوى قولة لأبي الطيب المتنبي حارّة تتوجع في وجدانه، ثم صار يرددها أمام اندهاش الشرطة والمخبرين:
وأنّى شئتِ يا طُرُقي فكوني* * *أذاة أو نجاة أو هلاكا
وإذا لم يكن من الموت بد* * *فمن العار أن تموت جبانا
الحكاية
تقول الحكاية في وقائعها الكثيرة أن الشاب معاد الحاقد له سوابق في مصارعة رجال الأمن والإخلال بالفرح العارم لدى شعب كامل توقف زمنه على نتيجة مباراة في كرة القدم بين حمامة ونسر. ولأن معاد صائد ماهر فقد قررت الصقور تصيده خوفا واحتياطا.
ولو دخل معاد الملعب لتغيرت النتيجة لصالح فريق آخر اسمه "عكاشة فّاميلي"، ولربما عمّت الفوضى وتبخر الأفيون الكروي من رؤوس الجماهير وأدركت أن السيد المؤمن الصالح الورع رئيس الحكومة المغربية (صاحب أطول سيتكوم في المغرب ويأتي بعده سيتكوم السيد الوافا) يوميا، يدفع بالسواد الأعظم من المغاربة إلى الجنون والأفيون واليأس والفقر والمحنة الكبرى، ثم الضحك والبكاء والنحيب، وبالمقابل يمنح نخبة في حجم كمشة من رجال المال والأعمال والسياسة فرصا أخرى لمراكمة الثروة والسلطة. آنذاك سيعم الغضب، ويا للويل من غضب العامة إذا جاعت وتعرت وأحست بالقهر. لذلك كانت حركة اعتقال معاد استباقية قبل وقوع البلاء.
وتضيف الوقائع أن الحاقد كان في حالة سكر صوفي (وهو حالة كيميائية تترتب عن تماس بين الغضب والفرح بين الأمل واليأس) خطورته أنه مُعدٍ وسريع الانتشار والاشتعال، وتلك جريمة يُعاقب عليها القانون المغربي.
أما التهمة الأهم في محضر الشرطة المدون، فهي أن الصقور التقطته، مثل حبة قمح طرية، متلبسا ببيع تذاكر المباراة في السوق السوداء بثمن مضاعف!! وكان عليه أن يبيع نفسه بشكل سري في سوق موازين ومغرب التفاهات فيربح المال والتلفزيون والإذاعات والأعراس وملفات دعم المشاريع الفنية وصداقة أهل الوقت.
كان عليهم
كان عليهم أن يطرحوه أرضا ويقتلوه في الساحة العمومية الكبرى ثم يُقطعوه إربا إربا فيتفرق دمه بين كل القبائل مثل غيره، وبعد عشرين عاما تُفتحُ صفحة المصالحة التي تجبُ المظالم.
كان عليهم أن يخبروا الرأي العام بأنهم وجدوا في عروقه خمرا وليس دما، سيتسبب في ركود الشركات الكبرى والحانات ومراكز القمار وحزب العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة وكل المعاصر وأغاني الخاسر والداسر والقفل العاسر.
كان عليهم أن يصرخوا بأنه اعتدى على كل الشرطة والمنيرسو وسبب لها مرضا نادرا يصعب الشفاء منه.
كان عليهم أن يقطعوا لسانه وأصابع يديه ورجليه من خلاف ويسحلوا جلده لاكتشاف مفهوم الكلام.
الإصابة
مع وصوله عندهم سجلت الرجاء البيضاوي الإصابة الأولى إثر ضربة جزاء من رِجل لاعب عميد (كان قبل ذلك في مباراة سابقة قد قام بحركة غير رياضية للجمهور ونقلتها التلفزة ..وماذا بعد!). رموه في مكان بحجم الشبكة وانتظروا إلى أن سجل لاعب رجاوي آخر، اسمه حمزة بورزوق، الهدف الثاني مُعبِّرا عن فرحته بإشارة دالة للبدء بتقييد أقوال معاد الحاقد!! (أدانت الفيفا خلال هذه السنة هذا اللاعب لاستعماله المخدرات ... وماذا بعد!!).
قبل أن يشرعوا في استجوابه قال لهم من ذاكرة محمود درويش ما ارتابوا منه:
(هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا .. لنُدْرك أننا لسنا ملائكة .. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك!
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك!
أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟
وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف.
أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!
الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!)
الحلم
لم يتأخر النوم عن عينيه ولم يستسلم إلا لحلم كان مختبئا خلف جفونه.
القاضي: ما اسمك؟
الحاقد: معاد بلغوات الملقب بالحاكد.
القاضي: عمن تحقد؟
الحاقد: عن الحقد والظلم والقهر..
القاضي: مهنتك؟
الحاقد: عقل ولسان وصوت وإنسان.
القاضي: أنت ساحر وكاهن ونافخ في المزامير.
الحاقد: أنا الانكسار في تلك الحلقة الصغيرة. والدّويُّ في السماء والأرض.
القاضي: لماذا تغني؟
الحاقد: أغني لأتعب وأشعر بآلام الناس الذين تعتبرونهم أشرارا.
القاضي: أنت لا شيء.
الحاقد: أنا، سيدي القاضي، محض خيال، وعنفوان الأزل.
القاضي: ماذا تريد؟
الحاقد: أفتح عيني بلا خوف، وأمشي بلا ارتعاش، وأنام بلا كوابيس.
القاضي: من وراءك في كل هذا؟
الحاقد: خلفي أيها القاضي عواصف قديمة وسيل يركب الزمن.
استفاقَ معاد من غفوته ليشرعوا مرة أخرى في استنطاقه من جديد.
ويا قاتلي .. بطعنتك الغائرة .. لا سلاح بكفي
أنتَ هناك؟ هل تسمعني الآن. ربما في كلامك أسلاك عارية بها أعلى فولط وتمر من النهر الجاري؛ ربما كان عليك أن تقول الكلام بصيغة أخرى؛ ربما كان عليك إخفاء الحقد وإعلان المحبة؛ ربما كان عليك قتل الحقيقة والارتماء في حضن الاستعارة المراوغة.
تذكر، حينما تكون أمام القاضي العادل، تحسسْ لسانك وخاطبه شعرا:
أُريد يَداً فَي يَدي* *لأطرد هذا الظَّلاَمَ الكَثيفْ
قِفُوا كُلكمْ* *لأمسكَ غُصناً أخيراً مِنَ الشَّجَرَهْ
وأجْلُوا* *عَنْهَا الخريفْ
وَلا تَتْرُكُونِي إِذَا مَا سقطتُ* *لِلَيْلِ الذِّئَابِ المُخيفْ
كَكُلِّ الصبّايا وكلّ الرُّؤوس الَّتِي تنبت المغفرهْ
أريدُ من الله معجزة، تصدّ عن الرُّوح هذا النزيف
أريدُ قليلاً من الصمت كي أستطيع الصلاة
ويا قاتلي .. بطعنتك الغائرة
يا قاتلي عارياً، لا سلاح بكفِّي
ولا صديقْ .. يُرافِقُني نحو رقدتي الأخيرة
سواكَ وخنجرك المُستقيم بحنجرتي .. كالحريقْ
تمهل .. أري بين عينيك شكّاً
وصمتاً ورعباً كرعب الغريقْ.
(القصيدة للشاعر المغربي صلاح الوديع)