نظّم الاتحاد المغربي للزجل، مهرجانه الوطني الثاني، للزجالين الشباب، تحت شعار، "الزجل الشبابي من النمطية إلى التحديث"، وذلك يومي 30 و31 ماي الماضي، بمدينة تيفلت. وقد اختار الاتحاد، تخصيص هذه الدورة، لأحد شعراء هذا اللون الإبداعي، ألا وهو المرحوم الشاعر محمد الخوتاري.
ما ميز هذه الدورة، هو الحضور المتميز، لشعراء ونقاد، أكّدوا مرة أخرى، أن للقصيدة الزجلية، عُمقاً موصولاً بهاجس السفر الأورفي. هذا السفر المستديم، الذي لا ينفك عن أن يدفع بالسؤال الشعري نحو التخوم القصية للذات، والأشياء، والعالم، نحو ما يسميه موريس بلانشو، بالجدارة الوجودية لذات جمعية مغبونة، في هويتها الحرة.
وباعتباري واحدا من الذين أثثوا مائدة الندوة النقدية الثانية، فضلا عن أنني، ومنذ مدة، ليست بالقصيرة، وأنا أتابع عن كتب، هذا الرافد الشعري المائز، إبداعا ونقدا، أرى أنه آن الأوان، بالنسبة للمؤسسة الثقافية الرسمية، لكي تقف، بوعي ثقافي مسئول هذه المرة، وعي يؤمن بالتعدد والاختلاف الشعري، قلت ينبغي الوقوف عند هذا الأفق الشعري الجديد، بعيدا عن أي دوكسا شعري، ذاك الذي يتبرم، غمزا ولمزا، من هذا الاختيار الشعري، بعد أن فرض نفسه على العدو والصديق.
لأجل هذا وذاك، ولأن المناسبة شرط، ارتأيتُ أن أقف عند هذا المفترق الشعري، مسجلا بعض الملاحظات، التي، ليس من شك، أنها ستحفر أخدودا، وستجترح سؤالا، في وعي كل مهتم، بهذا الألق الشعري المغربي الآخر.
فبعد أن ظل، شعرُ الزجل، بالمغرب، يعاني سنين طويلة، من التهميش والإقصاء، الممنهج والمقصود، من قبل عسس ميتافيزيقا الشعرية المعيارية، استطاع هكذا مقترح، أن يفرض نفسه، منذ تسعينيات القرن المنصرم، مثلما استطاع أن يُثبت جدارته وأحقيته، في الولوج إلى مملكة الشعر، منتزعا، بعد طول معاناة، بطاقة الإقامة الرسمية، في وطن الشعر، على الرُّغم من كيد، من يُسميهم، ياكوبسن، ببوليس الأدب.
ولبالنظر إلى طراوة، هكذا اعتراف، تقف مجموعة من الإشكالات والحفر، في طريق هذا الوافد الجديد، لابد من الالتفات إليها، وكذا التعاطي معها، بجدية ومسئولية. إن أول إشكالية، ينبغي الحسمُ معها، هي مسألة التّسمية. فبالإضافة إلى تسمية " الزجل"، هناك من يسمي هذا الصنف من الشعر، بالشعر العامي، كما هو الأمر، عند الناقد اللبناني مارون عبود. فيما آثر بعضُ الشعراء، وسم هذه التجربة، بالشعر المحكي، على غرار الشاعر ادريس بلعطار. قد يبدوا للبعض، أن مسألة التسمية، ليست بهذه الأهمية، ما دام المقصود واحدا. لكنني أرى، شخصيا، في ضرورة الحسم، مع الاسم، خطوة كبيرة، نحو التأسيس والتأصيل.
لقد حقق الزجلُ، بالمغرب، منذ تسعينيات القرن المنصرم، كما أسلفتُ، نقلة نوعية، وإضافة ضافية، وبادية للعيان، كمّا ونوعا، لمشهدنا الشعري المعاصر. تحقّق هذا، بعد أن أصبح الشاعر-الزجال، أكثر انفتاحا، على حقول معرفية عديدة، وأصبحت، من ثم، الكتابة الشعرية، عنده، تتغذى وتتقوت، من مجالات الفلسفة، والأسطورة، والحكاية الشعبية، والشعر العالمي، وبالتالي تكونت لديه رؤية شعرية، واضحة ومخصوصة، يكتب من داخلها، ما جعل المنجز الشعري الزجلي الراهن، يتميز بالثراء والانفتاح على الكونية. ولعل الترجمات التي حظيت بها بعض الأعمال الشعرية، لمجموعة من الشعراء، لأكثر من لغة، كأعمال الشاعر مراد القادري، وبعض مجاميع الشاعر إدريس أمغار المسناوي ، تمثيلاً لا حصراً، تؤكد الزعم السالف.
وبلغة الإحصائيات، بلغ عدد المجاميع الشعرية، التي صدرت، منذ بداية العقد التسعيني، إلى حدود سنة2011، كما هو وارد في كتاب (شعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة)، للباحث محمد بوستة، أكثر من280 ديوانا. هذه الغزارة في الإنتاج، تثبتُ حقيقة واحدة، مفادها أن الشعراء الزجالين، لهذه المرحلة، قد آمنوا بضرورة نقل الزجل من الشفاهي إلى الكتابي، أقصد التدوين (تجربة الكنانش)، والطباعة الحديثة.
ومن بين الأسماء، التي كان لها حضورٌ كبير، في هذه المرحلة، كما ونوعا، نذكر أحمد المسيح، إدريس المسناوي، مراد القادري، رضوان أفندي، عزيز بنسعد، ادريس بلعطار، محمد الراشق، علما أننا نسجل اقتحام المرأة لهذا المجال الإبداعي، الذي ظل حكرا على الرجل والفحولة، ما جعله يتنفس برئة أخرى، نسوق هاهنا بعض الأمثلة: الشاعرة فاطمة شبشوب، نعيمة الحمداوي، نهاد بنعكيدا، الزهراء الزرييق...الخ.
ولقد تأطر هؤلاء الشعراء، في إطار مؤسسي رسمي، ظهر بتاريخ 24 أبريل 1996م، تحت إسم "الرابطة المغربية للزجل". إلا أن هذه التجربة ، سيكون مآلها الموت، بعد تجميد أعمالها لمدة ست سنوات، حيث سيعقبها إطارٌ مؤسسي آخر، منذ 12 أبريل2011 ، تحت اسم "الاتحاد المغربي للزجل". هذه الانعطافة، من حيث الكم والكيف، ستكلل بتنظيم مجموعة من المهرجانات واللقاءات، على غرار مهرجان الزجل، الذي نظمته بلدية مكناس سنوات1990، و1991، و1993، بتعاون مع اتحاد كتاب المغرب، وكذلك المهرجان الأول للزجل، الذي نظمته الرابطة المغربية للزجل سنة 1997م بتيفلت، فضلا عن المهرجان الوطني للزجل، الذي دأبت وزارة الثقافة المغربية، على تنظيمه بشكل منتظم بمدينة ابن سليمان منذ 2006م. هذه المكتسبات، ما كان لها أن تتحقق، لولا إصرار الشعراء، على النضال، إبداعيا وميدانيا، من أجل كسب رهان الاعتراف.
وبالمقابل، لم تكن الفعالية النقدية، في مستوى هكذا تراكم، بحيث ظل الناقد المتخصص، في أغلب الأحيان، يتبرم من هكذا منجز، بنية مبطنة، تخفي تخوفاً شديداً، من المغامرة والمخاطرة، في الخوض في تجربة غير مضمونة. وحتى المواكبات النقدية، التي حاولت أن تلامس هذه التجربة، على قلتها، تميزت بالسطحية تارة، وبإسقاط أحكام جاهزة على النصوص تارة ثانية، وبالمماثلة بين الزجل والشعر المُعرب تارة ثالثة. اللّهم إذا استثنينا بعض الدراسات الأكاديمية، التي لا تتجاوز، حسب علمي، بضع أصابع اليد الواحدة، كدراسة الشاعر مراد القادري (وهي في الأصل عبارة عن أطروحة لنبل الدكتوراه، حول الشاعر أحمد المسيح)، ثم دراسة الباحث محمد بوستة (وهي عبارة عن بحث في ماستر علم النص وتحليل الخطاب، حول تجربة الشاعر إدريس أمغار المسناوي)، مثلما هو الحال لكتاب الباحث محمد داني، حول نفس الشاعر.
فما أحوجنا اليوم، إلى آليات نقدية جديدة، لتحليل هذا الخطاب الشعري الجديد، آليات في مكنتها أن تنصت للنص الزجلي، ولما يقوله، كما في حوزتها، وهذا هو الأهم، القدرة على تأسيس وعي نقدي جديد، يأخذ بعين الاعتبار خصوصية النص الزجلي. وعي نقدي قادر على اجتراح القصيدة الزجلية، بدون أعطاب، وقادر على الولوج إلى التجاويف الداخلية، والطبقات السفلى لها.