خص الروائي العراقي (الكلمة) بهذا النص الروائي الملحمي الذي يغوص بتاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ نشأتها بحدودها الحالية 1921 من خلال بنية تمزج الوثائقي بالفنطازي بتناول حركة كانت الأكثر تأثيراً في بلورة ملامح العراق السياسي الحديث إلا وهي الحزب الشيوعي العراقي وعالمه في علاقته بالتاريخ والمجتمع.

ليلة الهدهد (رواية)

إبراهيم أحمد

باب العزلة: فضاء سماوي!

شيخ من المجهول قال لي، وقد رآني في قلق

اقرأ الأرض، لا تقرأ الورق!

اقرأ العتمة، لا تقرأ الألق!

(شاعر مجهول يعتقد إنه عاش في أيس، قبل أكثر من ألف عام، وأيس مدينة قديمة في أعالي الفرات من العراق، ذكرتها بعض الكتب المقدسة على أنها عدن، حيث لا عدن أخرى)

 

(1) هذا ما حدث، لكم أن لا تصدقوا!

لم يكن أحد ممن يعرفون السيد يونس رحيم، أو سمعوا به، يتصور أن هذا الرجل الهرم جداً، الهزيل الجسد، الكليل البصر، سيكون بطل حكاية عجيبة مثيرة لا تصدق. لذا فإن من يسمعها يعتقد إنه قد جن، أو اعتراه خرف الهرمين، بل ربما حل في جسده شبح ماكر، أو أحد الكائنات الأسطورية التي يقال أنها تستوطن هذه القلعة العريقة الموغلة في القدم، والتي تحوي سكنه الصغير. من يفكر بغير ذلك، يتصوره شاباً أو كهلاً نشيطاً؛ فهو إذا كان صادقاً فلابد إنه بقوة وحيوية تمكنه من خوض غمار هذه الرحلة الهائلة الطويلة المرهقة، ويعود منها سالماً ليرويها بذاكرة متقدة جلية كاللهب. وإذا كان دعياً كاذباً كما قيل، فإن حكايته تدل على خيال جامح، لا يمتلكه الشيوخ العازفون عن الحياة؛ واقعاً أو خيالاً!

 منذ سنوات اعتكف يونس في قلعة أربيل كنسر عتيق فقد ريشه وأحلامه ورونقه. يعيش عزلة طويلة، وحصاراً ونبذاً من رفاقه، ومعظم أصدقائه القدامى.

في عصر رائقٍ خالطته نسمات باردة منعشة بعد ظهيرة ساخنة، التقى أصدقاء قلة تبقوا معه، رغم اللوم والتقريع والشكوك المسلطة عليهم من حزبهم وأصدقائهم الآخرين، وراح يروى لهم ما حدث له، وما رأى. بعضهم نقل ما سمعه منه بتفصيلات وقائعه، بنفس عفويته وحرارته في الحديث، بعضهم أطفأ كل شيء، وسفهه وأحاله ثرثرة مضحكة. ثمة شاب أجهد نفسه في صياغتها مقارباً الشعر، فجاءت غامضة جداً، قريبة من الطلاسم. آخر نظمها شعراً باللهجة الدارجة، وصيرها مرة مراثيً، ومرة نكاتاً . رغم تعدد الروي، واختلاف الكلمات والأساليب، أدرك من قرأها أو سمعها غرابة ما حدث. فمضوا يتناقلونها إلى بيوتهم، أو البارات والمقاهي. ثمة من وجد حكايته مشوقة مسلية ومضحكة، أو حزينة كئيبة تبعث على الأسى والملل، ولكنها كالحكايات القديمة؛ لا تخلو من عبرة. أخذ البعض وقائعها كمسلماتٍ وحقائق واضحة. بينما تداولها آخرون خرافات وتهيؤات وأوهاماً، خاصة بعد أن نمت وتضخمت على الألسن ورذاذ الأفواه. انتشرت الحكاية على أي حال. أضحى يونس مقصداً لكثيرين، يستحثونه للحديث بها ؛فيصغون له بانتباه وتعاطف، أو برثاء وإشفاق. بعضهم مست حكايته أوضاعهم أو سمعتهم، قالوا إنها (هراء وسخف، وإن بطلها هذا دعي ُ بلغ به الخرف والهذيان حداً يجب أن يحجر عليه بقرار محكمة؛ لتحكم أن كلامه وأحلامه وتصرفاته المادية والمالية لاغية أيضاً)؛ رغم إنه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً!

ظل يونس غير مكترث لما يثار حوله، متحدثاً بهدوء لمن يزوره، مختتماً كلامه دائماً بلازمة:

ـ هذا ما حدث، لكم أن لا تصدقوا!

تكاثر مستطلعو حكايته، والمتقصون لأصولها، بعد أن نمت كشجرة في جزيرة نائية مجهولة تحمل فاكهة غريبة: وجوهاً وكتباً، جواهر ولعباً، قناني خمور، وعظام طيور، هياكل أناس تعذبوا وماتوا، أناس لم يولدوا بعد. ورغم طولها وكآبتها وجدها البعض لا تخلو من تشويق ومتعة وفائدة. كان في كل مرة مع تغييره في الكلمات أو التفاصيل، ونبرة كلامه، وحرارته لا يخرج عن فحواها المدهش وغير المعقول والصادم لبعضهم. كثيرون أيضاً وجدوا في كلامه خلاصة روح هائمة نادرة في هذا الوجود، وتمنوا لو يستطيعوا أن يمدوا في عمره ليسمعوا المزيد من حكمته الممزوجة بالحركة والطرافة، وتأسوا أن عمر الإنسان مهما طال بالأغذية والأدوية أو الأدعية لكنه ينتهي دائماً، وبينما تزداد حاجة الناس إليه، لا يستفيد من حكمته سوى دود القبور!

تقاطر على يونس رحيم كثيرون، ولم يعد يسعهم بيته الصغير المتداعي: صحفيون وكتاب ومراسلو وكالات أنباء وسياسيون وفضوليون وهواة إشاعات، وجدل سياسي، وأصحاب نميمة وفتن. أحد الأشخاص وجد حكايته خلاصة للأسباب التي آل إليها حالنا اليوم؛ قال: يونس هو رائد (الفضاء الأسفل) و(مكتشف الأعماق الأرضية الأهم من أعماق الفضاء الشاسع) إنه حصتنا في هذا العالم، بينما لأوربا وأمريكا (رائد الفضاء إلى الأعلى)، وكل ينطلق من قدراته وحاجاته، والمكان الذي هو فيه!". رجل من المكلومين وهو والد لشابين شهيدين، قال: إن يونس هو (مكتشف الشهداء، والمدافع العنيد عن حقوقهم) مضيفين: أن هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل غيرهم، لم يجرؤ أحد حتى الآن أن يتكلم عنهم بصراحة، ويقترب من أعماقهم، ويتعرف على هول خسارتهم، وكيف صارت أرباحاً لرجال ونساء قطفوا الثمار المروية بدمائهم، دون أن يستحقوها، وما يجودون به على ذوي الشهداء؛ ما هو إلا فتات موائدهم؛ للتغطية على الصفقة المجحفة! من المؤسف إن ما يرويه يونس يمنح صحوة؛ لكنها جاءت متأخرة! آخرون وهم في محنتهم القاسية نظروا لما يتحدث به من زاوية عملية، أو فائدة مباشرة، فتطلعوا إلى معلوماته ونصائحه: آباء وأمهات يبحثون عن أبنائهم المفقودين، وفتيات وفتيان يبحثون عن أحبتهم الضائعين يتسلقون المنحدرات العالية ذات الدروب الملتوية إلى بيته؛ يريدون أن يعرفوا المزيد من التفاصيل عن حقيقة ما يقال عن هذه المعجزة التي بطلها هذا الرجل المنعزل في أعالي قلعة عتيقة غامضة، علها تكشف حقائق أو وقائع مجهولة ومبهمة عن مصير أبنائهم، وتلقي شيئاً من الضوء عما يجري اليوم من أحداث، وتقلبات تتعلق بالمصائر العامة، أو الشخصية! ويجلس يونس على سريره الحديدي المفكك؛ ليروي لهم ما رأى. يرد على أسئلتهم الكثيرة المتلاحقة. بعضها لم تكن تخلوا من فجاجة، كسؤال الكثيرين منهم: ماذا تتنبأ لنا ولبلادنا؟ هل سيتذكرنا العالم؟ هل سيقرون بفضل حضاراتنا القديمة عليهم؟ هل سيرفعون الحصار عنا؟ هل ستتغير الأوضاع؟ هل سيسقط طاغية بغداد؟ هل سنحظى بحياة رغيدة في وقت قريب؟ بعض الأسئلة ملتاعة كالقلب الذي شهق بها: هل رأيت حبيبي؟ نطقت به متلعثمة، فتاة لا تزال تحتفظ تحت شحوبها بجمال وفتنة. أعلمته باسم حبيبها الحقيقي، معتذرة إنها لا تعرف اسمه الحزبي، وهو الأهم في القضية، استغرقت بوصف ملامحه وخصاله ونضاله، ومكان استشهاده، سألت دون أن تنتظر إجابة سائلة: هل ستقوم بزيارة أخرى له وأصحابه؟ هل تستطيع أن تأخذني معك إليه، إذا ذهبت ثانية؟ أريد أن تقول له إنني باقية على العهد؛ لن أتزوج غيره! ولكن ثمة من بقى يسخر من يونس ضاحكاً:

ـ رائد فضاء تحت الأرض؟ كنا نتوقع أن يتوج سنواته التسعين بأن يكون رائد فضاء، يكتشف لنا كوكباً مأهولاً آخر في هذا الكون؛ نذهب إليه؛ وقد عجز عنه رواد الفضاء من الغرب والشرق، أليس هو حفيد أحمد بن فرناس البغدادي أول طيار في العالم؟ هذه المرة حتى إذا أذابت الشمس الشمع عن جناحيه، فهو يمكنه من قمة القلعة أن يمسك بذيل طائرة أمريكية ويحلق معها!

ويرد عليه آخر جاداً متفلسفاً:

ـ أعتقد إنه حاول أن يتخلص من جاذبية التاريخ التي هي أقوى من جاذبية الجغرافيا!

ويتدخل آخر بعد صمت وتأمل طويلين، لهؤلاء المتجادلين أو المتندرين بالحكاية قائلاً:

ـــ وما الضير إذا كان الإنسان لا يستطيع الخروج من هذا الكوكب الصغير بنفسه أن يخرج بخياله ويرى عوالم أخرى؟ أو النصف المظلم من عالمنا، ويعود أو لا يعود، فلا أحد يدري هل الحقيقة هنا أم هناك! أم هي لا هنا ولا هناك! وكل جهودنا في البحث عنها مضيعة لوقت ينبغي أن ننفقه مع كأس وامرأة حسناء، وقطعة موسيقية، أو قطعة صمت وظلال، وعبير وذكريات! ما قاله هذا الشخص، يشجعنا على أخذ حكاية العجوز يونس على محمل الجد، وسواء صدقنا أو لم نصدق ما يقوله، ألا ينبغي أن نصغي له؟ أو لمن روى عنه، ونحاول أن نعرف ما حدث؟ رغم إنني ومنذ الآن أرفض الانحياز لآرائه وأفكاره التي قد يريد فرضها علينا كضريبة أو ثمن لبطاقة دخول، ومشاهدة رحلته التي يقول أنها مثيرة ممتعة، كما هي مضنية وقاسية!

(2) لا تزال قلعة الآشوريين تعج بالأشباح ذوي الخوذ الحديدية!

في ذلك اليوم، يوم المعجزة كما أسماه البعض، فرح يونس لبزوغ الفجر. ضوءه الدافئ سيطرد أرقه وهواجسه وأفكاره الشائكة. مع ذلك أحسه يوماً غريباً كأنه قادم من جنة الأحلام القديمة. لكنه لا يحمل شذاها اللذيذ، إنما نكهة غامضة تدعو للتوجس. لليوم جناح طير يمس قلبه. خطر له أن ينظر إلى التقويم. في غمرة ذهوله المتواصل، اكتفى بهزة من رأسه، يأذن لليوم أن يأخذ تسلسله بهدوء بين أيامه العادية الرتيبة، قائلاً في نفسه، إنه مجرد قطرة براقة أخرى في سراب العمر!

تجاوز يونس رحيم الخامسة والثمانين من العمر، والبعض يقول إنه قارب التسعين. أضحى هيكلاً مهدماً يحفظه جلد أصر بقوة الروح، لا بقوة الدم على الاحتفاظ بنضارة الشباب ونبضه رغم أوجاعه ونحوله. قامة متوسطة مستقيمة، رأس أشيب ثابت على كتفين غير هزيلين، وجه أسمر مستدير عذب الملامح. عينان واسعتان لم تفقد بريقهما، يسكن بيتاً صغيراً متداعياً مؤجراً في منطقة السراي من قلعة أربيل، قريباً من مئذنة جامع ربما لقصرها يتخيلها مقطوعة الرأس. حين يسير في دروب القلعة، يحس أنه في عالم آخر، تتداخل به طرق السماء بطرق الأرض، النجوم بالحجارة، الغيوم العطرة بالسواقي الآسنة، طرق الحاضر بطرق الماضي، مكونة حياً خاصاً به تسكنه الأطياف والأشباح والطيور وربما الملائكة، والشياطين أيضاً. يسعى البشر تحته في شوارع المدينة بأحجام الأطفال، يتحركون بسيارات كأنها لعبهم. بيته والبيوت التي حوله بجدرانها المتهدمة، والآيلة للسقوط هي ملك لأناس هجروها وراحوا إلى قصور وعمارات شامخة بنوها في أحياء فخمة بعد أن اغتنوا في الظلال الوارفة للصراع القومي المتصاعد، والحروب وما ينبت على ضفافها الدموية عادة من سنابل ذهب، وصفقات كبيرة!

شعر أن هواجسه وأفكاره لا زالت جاثمة على قلبه، طاردته وأحالت ليله إلى صحارى أرق وهموم. نهض ببطء وسار بتثاقل إلى الحمام المتآكل الجدران. دهمته رائحته الثقيلة الجافة، أفرغ جسده الضئيل، سكب ماءً صيفياً دافئاً قليلاً على جسمه. ألقى نفسه على أريكة صغيرة رثة في حوش البيت فتطاير غبارها. شعر بالسماء تنسكب في روحه متغلغلة كماء في طين قديم؛ فيبعث تلك الرائحة الغامضة الشذية، ربما رائحة ذكريات قديمة تحللت ونسيت. تناول قطعة خبز بائت، وجبنة بيضاء، وقدحاً من الشاي، تلك وجبة مازالت تثير شهيته المحتبسة عادة. نظر إلى الكتب مركونة بجانب سريره، وأحس بالأسى أنه لم يعد يستطيع القراءة. ليس فقط لأن بصره قد ضعف، ولكنه يجد مزاجه يحرن ويكبو. وكل كلمة تثير شجنه لتفترسه ذكريات وفكر يراها حشرات شرسة تتسلل داخله! مع هذا وجد إنه مستعد لاستقبال صباح جديد، يضيفه؛ على استحياء لعمره المديد العسير. قضى لحظات طويلة يتأمل مدينة أربيل من شباك حجرته شبه المتداعية. جال ببصره في السماء الصافية الفارغة إلا من طيور عابرة. توقف قليلاً عند منحدرات القلعة القديمة المكسوة بالحشائش الجافة، وقد استحالت عهناً ذهبياً من لهب الشمس الطويل. الأفق أمامه يمتد متسعاً لتأخذه الضواحي الجديدة، ولا يتبينها سوى كتلاً بيض مشعة.

رغم عدم استطاعته صعود مرتقياتها وطرقها القديمة العالية الملتوية، صار متآلفاً معها، شاعراً أن هواءها الندي بعبير صنوبر، وماض بعيد يلائم أنفاسه الأخيرة. كان يتأمل ذرات الزمن مختلطة بلمعان الضوء، ويرى في نوافذ بيوتها الصغيرة إطلالات على المجهول من تاريخ هذه الأرض المكونة من حطام سيوف وجماجم، كتب، ومجامر بخور، وعطور وخمور! يتسلى كل يوم باستعادة الذكريات العتيقة لهذه المدينة، ربما هرباً من ذكرياته الشخصية، أو لترويض عقله كما يقول لكي لا يصيبه الخرف. يشعر بحنين ووجود أعمق حين يتذكر إن أربيل هي من أقدم مدن الدنيا التي ما تزال مأهولة! قبل خمسة آلاف سنة تقريباً بنى الآشوريون في هذا السهل الرحيب هضبتها الكبيرة حجراً حجراً. أعلوا في بنائها حوالي ستة وعشرين متراً تحسباً لهجمات الأعداء، حيث لا يوجد حولها نهر أو جبل يحميها. أسموها أرباـ إيلو، أي الآلهة الأربعة. أعلنوها عاصمة أبدية لمملكتهم! بعد أزمان طويلة حين بسطوا سيطرتهم على سهل وادي الرافدين مخضعين من تبقى من السومريين والأكديين والبابليين، نقلوا إلى قمتها كرسي الإلهة عشتار، ورفعوا مناصب سفرائهم إلى محفل آلهة السماء، وتلقوا رواتبهم وعطاياهم من السماء مباشرة: مزيداً من المطر والمراعي الخضراء وضروع الماشية المترعة بالحليب الدسم المعطر بزهور السفوح! ومن هذه الزبدة الكبيرة تنهض نساء ممشوقات القوام، ناهدات الصدور، لدنات البطون والأفخاذ، ترف شعورهن الذهبية مع آخر خيوط الشمس على الشواطئ البعيدة! في كل مرة يسأل يونس نفسه من هم هؤلاء الآلهة الأربعة الذين ساسوا بأرواحهم العظيمة هذه المدينة؟ فهي لم ترتح في مكانها بل راحت تجوب آفاق الدنيا والتاريخ، سفينة فتوحات واستطلاع وهيمنة! في كل مرة يجيب: لا أريد أن أستقي معلومتي من الكتب! العتمة والغموض أشد إمتاعاً! لذا كان يمارس في كل مرة معها لعبة التوقعات. كان يقول: من المؤكد، لم يكن بينهم إله الحب، بل إله الحرب، لو كان إله الحب بينهم لما طغى إله الحرب، ولكن هل يستطيع إله الحب الرقيق لي ذراع اله الحرب قوية العضلات؟ السجلات القديمة لهذه القلعة مكتظة بأخبار حروبها وفتوحاتها أزماناً طويلة. فهي ألقت بظلها على أهرامات الفراعنة في مصر، وحقول التوابل في الهند. طوع ملوكها الحديد لعضلاتهم؛ فصارت قلوبهم أقسى من الحديد. وركبهم جشع السلطة والثروة والشهوات؛ فراحوا يتصارعون على العروش. الابن يقتل أباه، والأخ يقتل أخاه، والزوجة تخون بعلها ومليكها؛ لتضع أبنها أو عشيقها مكانه! يجوبون أقاليم الدنيا، يقهرون حكامها وأبناءها ليأتوا برؤوسهم وجلودهم، يعلقونها عند مداخل قصورهم للزينة. كان بينهم إله الحكمة، هذا مؤكد، فبعضهم أحب المعرفة والاكتشاف والعلم، بنى إمبراطورهم آشور بانيبال مكتبته في مدينتهم نينوى فكانت أول وأكبر مكتبة في العالم القديم. لكن ماذا يفعل إله الحكمة مع إله الحرب، وقد أغلق أذنيه، وفتح عينيه على طرق الغزوات والثروات؟ إنه طرد إله الحب, وحين رأى الشبان يقصدونه غير مكترثين للحرب، قتله. قطع جسده وجعل القطط السوداء تأكله لتصير رمزاً للكراهية! تحالف الكلدانيون مع الميديين وقضوا على إمبراطورية آشور وأحرقوا ملوكهم أحياء، واحتلوا قلعتهم هذه! في الأزمان الأخيرة فني كثير من الآشوريين في صراعهم الطويل مع الأتراك والكرد والعرب. رحل كثير ممن تبقى منهم إلى أمريكا وكندا وبريطانيا وأصقاع الدنيا الأخرى. ثمة مجموعات نزحوا إلى بغداد والموصل، أو واصلوا عيشهم متناثرين في قرى اشتهرت بالأعناب والخمور والأديرة المأهولة بالرهبان المعمرين، والراهبات اللواتي طمرن جمالهن الفتان تحت مسوح سماوية ثقيلة! اليوم آلت معظم أرضهم الشاسعة للكرد القادمين من عزلتهم الطويلة في أعالي الجبال. جعلوا أربيل عاصمتهم، وراحوا يبسطون سيطرتهم على ما حولها. تضاءل ذكر اسمها في الكتب وسجلات الأمجاد الكبيرة. عاشت نصف القرن الأخير في طاحونة دم مع السلطة في بغداد. صارت تعيد إليها جنودها القادمين من وسط البلاد وجنوبه جنازات، أو مجرد أسماء ميتة، وتلتقط من الأرض المحيطة جثث رجالها ونسائها وأطفالها، في غارات وقنابل حارقة وسامة. بينما يتردد اسمها في بغداد في أوقات السلم القليلة مقروناً بلبنها اللذيذ مفعماً بنكهة النار، وزهور الجبال! ظل هذا التيار الدموي يطويه النسيان والتجاهل وراء الجبال، يطيح بزعماء وحكام العراق، ويطوي عهود حكمهم مع أكفان الموتى وينشر الشقاء بين العراقيين، ما جعل البعض يعتقد أن قلعة الآشوريين هذه لا تزال تعج بالأشباح ذوي الخوذ الحديدية! وفي دوامة كل ذلك دفع بيونس رحيم إلى رأس القلعة، ليسكن هذا البيت الصغير في محلة السراي بين العوائل الفقيرة، ويطل منه على الأفق المتوهج في شروقه وغروبه. يرى في التماعاته المبهمة أو الواضحة ما يشاء تفسيره من تاريخ وأحزان خاصة. صار كلما امسك ذرة منها زاغت من بين أصابعه المرتجفة، ورموش عينيه اللتين تغيمان بالدموع أحياناً. حين ينهض من جنب النافذة يحس جسده مفتتاً، تراباً لم يعد يستطيع الحنين، لأهل أو مرابع أصدقاء. صار يتوق لتراب القبر، وراحته التي لا تقطعها ساعة تنبيه، أو طرق على الباب!

ارتشف شاياً، واستمتع بنسمات الصيف قبل أن تسخن مع الضحى، مضى يفكر: إذا كان إله الحب قد عاد إلى برج القلعة، فلا شك إنه الآن عاطل عن العمل، أحيل على التقاعد، أو جرت رشوته بعاهرة أو غلام! أو إنه الآن في حجرته القريبة من السماء يستمني مستعيداً في خياله عبثاً، أجساد حبيباته الآلهات الشبقات القديمات! فلا حب هنا منذ زمن طويل! لا شيء غير الكراهية والتناحر، ضوارٍ تفترس بعضها، صراع على السلطة، تربص واغتصاب واستحواذ على الأرض والناس! يتذكر يونس دوما أن القادة المهزومين أو المتقاعدين في العراق لا يقضون بقية حياتهم في بيوتهم. هم محظوظون إذا طردوا إلى المنافي، أو اكتفوا بإرسالهم إلى المقابر، ولم يذبحوا ويسحلوا في الشوارع، وتحرق بقاياهم مع الأزبال! هو إذا عد نفسه قائداً، ولو صغيراً، فإن بقاءه حياً حتى الآن، دون أن يفقد حياته، أو عضواً من جسده، أعجوبة أو استثناء عليه أن يعيشه باستمتاع ويتأمله؛ ليعرف أن كان ذلك أفضل من موته! ليس الناس فقط يسألونني، أنا أيضاً أسأل نفسي ما الذي أتى بي إلى هذه القلعة؟ لماذا ارتضيت عزلتي واستسلمت للأحزان والصمت؟ سأتحدث فيها الآن باختصار: لقد أفلح سكرتير الحزب حمه سور وصاحبه كمتار بيس في السيطرة على قيادة الحزب الشيوعي، وقاما بإبعادي عن مكتب قيادته وفرضا طوقاً من العزلة، والنبذ والحصار عليّ. أسكنت قسراً في هذا المكان، فأنا لا زلت عضواً في الحزب، ويجب أن أخضع لقراراته مهما كانت جائرة. شيئاً فشيئاً ارتضيت وارتحت لعزلتي. ثم أين أولي وجهي؟ والمنطقة كلها مشتعلة صراعات وحروباً. لو عدت إلى بغداد لقتلت بقسوة أو مسخت. لا أريد أن ألجأ إلى بلد بعيد. لا أستطيع العيش في أي بلد في العالم مهما كان جميلاً ومرفهاً، فأنا مغروس في وطني، ربما أنا مشطور من النخلة، التي هي شجرتي المفضلة منذ صغري. رحت أعذب نفسي أيضاً، تارة بالذكريات وتارة بالأحلام. مرة بقذيفة من الماضي، ومرة بركلة من المستقبل. ولكي يكون الأمر واضحاً لا بد من حديث طويل يجرني إلى التاريخ، أحاول أن أجد فيه سر ما جرى. تاريخنا هو كعكتنا الكبيرة التي صنعناها جميعاً، ومهما رأينا عليها من عفن وتفسخ يجب ان نتقدم، لنأخذ قطعة منها، ولو على سبيل التذوق.

(3) لا تزال الحياة تزورني بين فترة وأخرى!

 ظل يونس يتمتع بذاكرة مشتعلة متأججة، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، قال له صديق قديم له من المولعين بحدائق بغداد، وكتبها النباتية:

ـ ذاكرتك شجرة جهنمي متوهجة بزهورها دائماً، تزيد ألقاً كلما كبرت!

ويفهم يونس أن ذلك يعني أنها شجرة زينة وبهجة عابرة لا تثمر، لكن صديقه يحبه ولا يغمزه، وقد أدرك ثغرة كلماته فبادر للقول:

ـ رغم الهجير الطويل ظلت ذاكرتك يا صديقي شجرة ورد وهاجة فواحة بالأحلام والذكريات وهذه هي الثمرة الأرقى.

ويرد يونس بتواضعه:

ـ لا يا صديقي! نخلة واحدة أعطت أكثر مما أعطيت في نضالي، أو حملت في ذاكرتي ومخيلتي!

ويبدو أن ذلك الحكم لا يزال ساري المفعول حتى الآن. أمراض شيخوخته تتفاقم، يحس بدبيبها بين مفاصله، وتحت لسانه، ويعجب لبشرته النضرة فوقها "بقيت أتحامل على نفسي،

من أجل ذكرياتي أدافع عن جسدي، حتى اليوم لم يتخل يونس عن ابتسامته، وبريق عينيه الصافيتين رغم وهنهما. مسح نظارته الطبية عدة مرات وحاول القراءة فلم يستطع. ألقى الكتاب السياسي القديم، وتناول كتاب مختارات شعرية كان يحمله معه أينما حل وارتحل، صار يحفظ معظم قصائده، لكنه درب نفسه على أن يستنشق رائحة كل شاعر من الورقة المكتوبة عليها قصيدته: ورقة شاعر الحب: عطر زهرة مقطوعة لتوها، شجرة احترقت بصاعقة. ورقة شاعر الحكمة: رائحة ضوء جمر يشع من تحت رماد ليل طويل. ورقة شاعر حنين وبكاء على الأطلال: رائحة احتراق عشب ودموع وروث. ورقة شاعر السياسة: رائحة عصافير تحترق في ليل بهيم، حديد ملتهب يغطس في دم بشري. كان يسمع خلالها نبض قرائحهم أيضاً، هدير شلالات تنحدر من جبال، مياه أمطار تسيل بوديان مليئة بالصخور، مستنقعات راكدة تتحرك بقوة ما تحتها من كائنات غامضة، ويقترب منها مهما اختلف معها في السياسة والفكر، ظل يحب كل هذه الروائح والخفقات متكاملة متراصة منسجمة، قوارير عطر في حجرة امرأة مهجورة تذكرها بعشاقها القدامى، دائما لها وحيها وبوحها وحزنها، أحياناً يستنشق روائحهم معاً، ثم يعود يفردها كباقة ورد، فيحس بروحه تمتلئ، ويعود لحسابه الطويل مع نفسه " تهمة كبرى قاسية أن يكون الإنسان معمراً في بلد يهرس الناس فيه بالحروب والاعدامات والكوارث! ترى أية ظنون وتساؤلات ستلقى علي منهم؟ ومن ضميري أيضاً؟ وماذا يختلف أن تعذبني ذاكرتي بشوكها، أو زهورها أو دخانها؟ كنت أقول أن ذاكرتي شعلة شمعة أريدها أن لا تنطفئ في هذه الريح،حتى تحرق آخر قطرة زيت ترسبت فيها من رحيق هذه الأرض، ثم تقول كلمتها وتمضي" وبعد أن وجدت الكلمات لا تجدي نفعاً في عالم يحكمه الضجيج والصخب الفارغ العنيد؛ لم أعد مكترثاً أن تنطفئ شمعتي، لكنني أعود أبحث عن أي شيء يبقي جذوة همومي مشتعلة: كتب لا أقرأها، رفاق وأصدقاء لا يفهمونني، ولا أفهمهم، أحلام لم تتحقق، أحزان اخترقتني كالرصاص، وأحزان أخرى لم تأت بعد، رغبات لا تتحقق، ولا أريدها أن تتحقق، شموع من خلايا نحل عطرة لا أشعلها! وغيوم كثيرة في القلب، كنت دائما أقول لمن يلومونني على حزني وصمتي: لو أعطوني كل أفراح الدنيا المبهرجة؛ لما بادلتها بلحظة حزن حقيقية تمنحني فرح الحكمة والصدق والأمل! هجرني رفاقي بعد رفقة زادت على الستين عاماً، من أخذهم الموت هم الذين ينبغي أن يعتبوا عليَ، حيث لم ألحق بهم، أو كنت بشكل أو بآخر قد تسببت في موتهم أو عجلت به، ومن بقوا على قيد الحياة، ولا يزالون أصحاء أو يستطيعون السير على أقدامهم، يحق لي أن أعتب عليهم، فأنا رغم بقايا قوتي منهك عليل أتلهف لروائحهم وكلماتهم التي أحسها تدب في روحي كالماء في تراب قديم! هجران الرفاق والأصدقاء يبعث شجناً لذيذاً حين يذكر بهجران الحبيب الأول في مطلع الشباب، لكنه يبعث قشعريرة باردة في الروح حين يذكر أيضاً بموت الروح قبل الجسد! كيف أنسى القانون الساري بين البشر مذ صارت لهم مصالح وسلطات على بعضهم: حين تكون ذا سلطة أو جاه أو مال يبتدع الناس كل وسيلة، ويشقون كل طريق ليصلوا إليك، وحين تخلو يداك من سلطة أو مال أو جاه يبتدعون كل وسيلة، وكل طريق ليبتعدوا عنك! بعض الناس لا يكتفون بقطيعتي، راحوا يلوثون اسمي وسمعتي ويدعون الآخرين لمقاطعتي، لم أكن أتصور أن كل هذه القسوة تربض كإبر القنافذ الحادة تحت بشرتهم الهادئة الناعمة! جاءت أيام صارت أفضل أمنيتي فيها الرحيل بالموت، بذلك تكون مغادرتي آمنة ومريحة لمن حولي، لا يستغرق تجهيز الميت طويلاً، ولا يكلف أحداً كثيراً، خاصة وإنني ادخرت لذلك قليلاً من النقود، وضعتها في مظروف بارز في حجرتي، حدث هذا معي مرتين، وكلاهما عشتها وشهدتها من تلفزيون في مقهى صغير لا يبعد كثيراً عن بيتي: عندما سحق الأمريكيون وحلفاؤهم الجيش العراقي في الكويت، وتناثرت جثثت عشرات آلاف الجنود العراقيين على الطريق، بينما كانوا هم يتقهقرون باتجاه بلادهم. اندلعت انتفاضة في الجنوب، هب فيها الناس بشكل عفوي فسيطروا على المرافق الحكومية، وأزاحوا، وقتلوا معظم أتباع الدولة والحزب الحاكم. ولكن الإيرانيين ورجالهم من العراقيين؛ تسللوا إليهم وسيطروا على مواقع قياداتهم، ورفعوا صور حكام إيران وشعاراتهم. أثار ذلك فزع حكام الدول المجاورة؛ فاتصلوا ببوش الذي أمر شوارزكوف قائد قوات التحالف الدولي لوقف زحفه إلى بغداد، بعد أن صار على مشارفها، وأعطى الضوء الأخضر لصدام لسحق المنتفضين. شاهدت ما حل بأبناء الجنوب من مذابح، وانتهاك وتشريد! وليلتها بقيت أتقلب أرقاً؛ أحاول ان أستنفر خبرتي في السياسة؛ لأعرف كم جهة شاركت في صنع هذه المأساة، حتى عييت!

هنا انتفض الكرد؛ فتصدى لهم ما تبقى من جيش النظام، رأيت ما حل بهم. هاموا مشتتين على سفوح الجبال على غير هدى. صاروا يتلقون الخبز والحليب لأطفالهم من أبواب طائرات الهيلوكوبتر الدولية المحلقة فوقهم. لم أبرح بيتي مع قلة من سكان القلعة, بقيت مع هذه المجموعة الصغيرة من الفقراء التي ظلت في بيوتها الصغيرة القديمة ينتظرون القتلة، أو أية مصائب أخرى! هرع مسعود البرزاني، وجلال الطالباني إلى صدام. رأيتهما في التلفزيون وهما يدخلان إليه، الواحد تلو الآخر، لا أدري بماذا تحدثا معه، وإذا كانا قد اعتذرا عما بدر من الكرد في انتفاضتهم، لكنني رأيتهما يقبلانه من كتفه. صدام لا يسمح لأحد أن يقبله من وجهه، منحاه ما يشبه قبلة الحياة، كان بأمس الحاجة إليها بعد أن كاد يتورى!

اقتربت من الموت وتمنيته! مرة أخرى قبل فترة قصيرة، جرى بين البرزاني والطالباني صراع على أموال الكمارك وغيرها من الأتاوات في المنطقة التي يتقاسمان النفوذ عليها، تطور إلى حرب دموية طاحنة قتل فيها المئات من الجانبين، فاستعان الطالباني بقوات إيرانية، واستولى على أربيل معقل مسعود البرزاني، وأجبره على الفرار منها مع فلول قواته، استعان مسعود بصدام، فأرسل له لواءً مدرعا وكتيبة من القوات الخاصة بقيادة ابنه قصي؛ هزمت بيشمركة الطالباني ومن معه من القوات الإيرانية، ولاحقتهم إلى ما وراء الحدود مع إيران. عاد البرزاني مع بيشمركته إلى أربيل، سمعنا صوته من أذاعته، وهو يكيل المدائح لصدام، ويصفه بالأب الحقيقي للأكراد، والذي يجب طاعته مهما قسا على أبنائه، والقائد الحكيم الذي لا يدرك حكمته إلا أصحاب البصيرة، وإنه مستعد لأن يلبي كل ما يأمر به! دارت مفارز الأمن والمخابرات على الفور يرافقها البرزانيون أدلاء على بيوت ومقرات ضيوفهم المعارضين العرب العراقيين. الذين لم يفيقوا من هول صدمتهم بوجود قوات السلطة حولهم حتى عاجلهم الرصاص والقصف بالقنابل. قتل المئات منهم، واعتقل كثيرون وأخذوا أسرى مقيدين إلى بغداد. سبوا عوائلهم ونهبوا بيوتهم ومقراتهم، حصلوا على وثائق تحوي أسماء أعضاء في أحزابهم وتجمعاتهم ومناصرين من مدن العراق المختلفة. كانت مذبحة كبرى، جاءني أحد الشبان الكرد المتعاطفين معي، عرض أن يأخذني إلى مكان آمن. شكرته ورفضت مغادرة بيتي، وجدتها مناسبة طيبة أو معقولة للخلاص، صرت أنتظر القتلة، أن يأتوا ويخلصونني من حياة أضحت فائضة عن حاجتي وحاجة الآخرين. وجدت الاستسلام للموت القادم من بغداد مريح جداً، تمنيت فقط أن يجهزوا علىّ بسرعة ودون تعذيب، صرت أتخيل الطريقة التي سيقتلونني بها، رضيت بكل طريقة لقتلي، فقط كرهت اقتيادي إلى أجهزتهم السرية في بغداد، أو عرضي في التلفزيون لإذلالي! قال الشاب الكردي: أمر مخز لنا، القادة الكرد هنا يقتلون ضيوفهم ومناصري شعبهم. الغدر صار لديهم تقليداً، وعرفاً وشيئاً يفاخرون به! بقيت طيلة الأسابيع التي مكثت فيها قوات صدام في أربيل أطل من نافذة القلعة؛ أرى مصفحاتهم وسياراتهم تجول وتصول، لم أخرج لأسلم نفسي لهم خشية أن يأخذ ذلك معنى تعاوني معهم، لم يفكروا أن في هذه القلعة المتآكلة هدفاً يستحق الملاحقة، انزل حزب البرزاني في شوارع أربيل فرق رقص ودبكات ومزامير وغناء، رافعة صور صدام وعلم العراق تهتف، وتحي الضباط والجنود القادمين محررين من بغداد! انسحب الجيش من أربيل، والمنطقة تاركاً إياها للحماية الأمريكية. سرعان ما عادت العلاقة بين الحزب الشيوعي وجماعة البرزاني إلى سابق عهدها، وكأن شيئاً لم يحدث، ولم يقتل العشرات من الرفاق هنا وفي بغداد، وغيرها بعد أن كشفت أسماؤهم وعناوينهم. هذه هي القاعدة، مادام رأس الحزب سالماً معافى؛ فالحزب بخير، ولا شيء يدعو للمساءلة! أصبت بخيبة أمل أنني بقيت على قيد الحياة، حتى صرت أعجب من استعصاء عمري على الانتهاء!

أحس يونس بقشعريرة، عاد يحدق من الشباك بجلسة جامدة. أخذه خلالها نعاس متقطع. قارب الظهيرة. آوى لفراشه عله يستعيض بالقيلولة عن سهاد الليل. الكهرباء منقطعة كعادتها، والمروحة المنضدية علاها الغبار. أنفاسه تتردد في صدره لهاثاً مرهقاً. توسل أن يغفو. صارت ساعة النوم أمنية كبرى. رأى نفسه ينزل جبلاً شاهقاً كان قد صعده في شبابه، وعلى ظهره زوادته وكتبه. الآن يصعده لاهثاً منهكاً متداعياً! واجهه البحر الذي لم يكن يراه من قبل في هذه البقاع الآسيوية المحصورة بين جبال وسهوب. بدا له الموج المتلاطم في اللجة ينوح ويتوعده. صار على الشاطئ، أخذ الموج يلاعب أقدامه: ثياباً هفهافة على أجساد فتيات جميلات راقصات يدعونه بما لم يدع له العمر كله. قال في نفسه؛ وماذا أستطيع أن أفعل وقد بلغت أرذل العمر؟ وقع في أحضانهن العارية البضة، لكن طرقاً شديداً ولجوجاً على باب بيته جذبه من بين أجساد الفتيات الحسناوات الراقصات فوق الماء، وألقى به على الشاطئ تحت شمس حادة الأشعة. أفاق على الباب يهتز ويكاد ينخلع، والجو صار حاراً. قال في نفسه "الأمر كذلك دائماً طيلة العمر، حلم جميل يقطعه طرق لجوج". ظل لابثاً في سريره الحديدي وفراشه المتهرئ، لا يريد أن ينزل منه. من هذا الذي يأتيه في هذه الظهيرة المشتعلة؟ من يأتيه أصلاً؟ أخرجه من حلم لم ينل فيه لذته العميقة الساخنة، لكنه أوحي له من جديد بحياة القلب والجسد، على هذه الأرض، أو في مكان آخر! وعمر آخر! كان يريد أن يتمثل ما جرى له أو يستعيد قواه المنهارة. أخذته فورة النزوات الغابرة. ظل الطرق يتعالى بإلحاح. لا يتوقع أحداً بالتحديد. أصدقاؤه ومعارفه هنا هم من رفاقه الذين تحدوا العزل والحصار المفروضين عليه بزيارات ولقاءات اقتصرت على مناسبات متباعدة جداً. أصدقاؤه الشبان بعد أن حذروهم منه؛ قلت زياراتهم أيضاً، ولا يأتون بمثل هذا الوقت عادة. خطر له أن يبقى لابداً في قيلولته ولا يهبط من فراشه، لو كان الطارق من أهل الدنيا لمل ومضي. ربما هو الحلم الرهيب نفسه، ليست واحدة من فتيات البحر الجميلات طبعاً، بل من أولئك الذين يظهرون في مناماته وكوابيسه يوجهون أسئلتهم الرهيبة، ويتوعدونه في عالم الموت. والريح تقرع الباب بدلاً عنهم. لكن الدق تواصل بإلحاح. تذكر إنه لم يفتح الراديو العتيق منذ ليلة أمس، وربما الآن جاء إليه النبأ العظيم: سقوط الطاغية، وانفتاح الطريق إلى بغداد. ولكن من تبقى من الأهل والأصدقاء؟ حتى قبورهم قد لا يجدها. أهو محمد البيرماني قد جاء ثانية؟ راودته مشاعر متناقضة بين فرح لعودته شرط أن لا يتحدث عن السلطة ووعودها ودولاراتها، وبين أن لا يكون هو فلا يراه ثانية. تحامل على نفسه، يجر قدمين متعبتين بالتهاب المفاصل، تغدوان في حر الصيف أقل وجعاً.

(4) هل جاءني الكردي بالنبأ السعيد المنتظر؟

قضى وقتاً هشمه الطرق والترقب، وصل الباب، كان شاباً كردياً على عتبته، قال يونس بصوت واهن:

ـ أهلاً وسهلاً ! ....خير؟

كان الشاب يعمل في مقر الحزب الشيوعي في أربيل، يأتي أحياناً مرافقاً لمسئوله الحزبي في زيارته المتباعدة. يتكلم العربية بصعوبة؛ مكسرة، متلعثمة، سلم عليه بتهذيب:

ـ رفيق انت اليوم عصر يحضر حفل افتتاح!

حرن الشاب في كلامه. راح العجوز يونس رغم تلاشي نبأ الأمل العظيم، يفرك عينيه ويمسد جبينه محاولاً أن يفهم ما يقوله الشاب، ظل ينظر إليه، أعاد الشاب كلماته، ومع المسافة التي طالت بينه وبين رفاقه قادة الحزب، راح يخمن ماذا سيفتتحون عصر اليوم، فهو لا ينسى إنه العضو المنحى من المكتب السياسي. المعزول والمنبوذ والمنفي داخل وطنه، وإن رفاقه الذين أصبحوا سجانيه لا يذكرونه عادة بما يسر، لكن أساريره تهللت بعض الشيء، فالحزب القديم يبدو إنه أدرك أخيراً ضرورة العمل العادي البسيط، والإنتاج المادي، بعد طول انهماك بالتهويمات الخيالية، والشعارات، واللافتات، والاجتماعات والمنشورات، وجمع التبرعات، والمظاهرات القديمة، التي لم تحقق شيئاً، ولم تحسم أمراً منذ ستين عاماً. خامره شيء من حلمه القديم أن نضالاتهم القديمة لم تذهب هدراً رغم النكسات والضربات والمصائب فهاهم يفتتحون شيئاً نافعاً، ورغم ثورته على سلوك بعضهم، وتغير قناعته بفكرتهم، قال في نفسه " ها هم يدعونه لشيء جيد، حتى ولو تباهياً" قال بلهفة:

ـ شراح يفتتحون؟

حاول الشاب أن يقول شيئاً لكنه لصعوبة نطقه العربية، وربما لعدم فهمه ما جاء من أجله يتلعثم ويتردد ويصمت. دعاه للدخول، تردد الشاب، فهو يعرف أن الرفاق القادة هنا لا يحبونه، لكنهم اليوم أرسلوه إليه، ربما غيروا موقفهم منه، دخل بهدوء، جلس متردداً، ظل يونس متحيراً يتساءل في نفسه ماذا سيفتتحون؟ وبينما كان يضع أمامه علبة كرتون صغيرة فيها قطع حلوى، والشاب يعتذر عن الأكل، أعاد عليه السؤال، عله استجمع تفكيره وقاموسه من المفردات فيعلمه بهذا الشيء الهام الذي سيفتتحونه ويدعونه لحضور حفل افتتاحه!

لم يستطع الشاب أن يعبر عما يعرفه عن هذا الشيء الذي سيفتتحونه.

فراح يونس يخمن ويساعده للنطق:

ـ سد مثل سد دوكان، جسر، مصنع نسيج؟

ـ لا رفيق.

ـ سايلو حنطة؟ معمل أحذية؟

ـ لا كاكا، هاي شنو!

ـ مدرسة؟ روضة أطفال؟ مكتبة عامة؟

ـ لا.

انكفأ مزاجه المنهك بعد أن أشعله حلم افتتاح شيء جديد مهم في هذه الأرض الغنية المقفرة المستنزفة بالصراعات المجنونة، لكنه لم يشأ أن يفقد الأمل الذي اشتعل فجأة، رغم أن نزعة يأس ساخرة تناوشته فجأة فسأل مبتسماً:

ـ مزرعة بطيخ؟ مطعم كباب؟ دكان دوندرمة؟ مكتب للتنجيم، والضرب تحت الرمل؟ شراح يفتتحون، انت حيرتني؟ فوجئ به يقول له :

ـ هسه عرف يقول رفيق: مقبرة شهداء حزب، راح يقصون شريطها!

لم يصدق ما سمعه؛ فعاد يسأله معتقداً أنه لكونه لا يجيد العربية؛ أخطأ في القول، لكن الشاب أكد:

ـ صحيح كاكا، مقبرة شهداء خالدين، نعم رفيق!

قال يونس بلهجة سؤال حازم:

ـ يفتتحون مقبرة للشهداء، ويقصون الشريط بالمقص؟ رد الشاب على الفور، وهو يحرك أصابعه بحركة قص كختان أو حلاقة:

ـ صحيح كاكا، مضبوط،يقصون شريط أحمر، تمام!

وجد إنه ليس في سياق بكاء مرير، إنما ضحك أمر:

ـ يقصون شريط أحمر؟ ها ؟

ـ نعم يقصون شريط احمر، رفيق!

اعتصرت قلبه غصة، كيف صدق أن رفاقه هؤلاء سيقدمون على بناء شيء جديد؟ لام نفسه إنه اندفع مع حلم بالخير، أي خير يرجى من هؤلاء؟ اخرجه من لجة همه صوت الشاب وهو يتحدث بطريقته المقطعة. عرف منه بعد كلام متعثر أنهم سيمرون عليه اليوم الرابعة عصراً، ليأخذوه إلى ضاحية قريبة من أربيل، حيث سيجري الاحتفال بافتتاح مقبرة لشهداء الحزب الشيوعي، برعاية سكرتيره العام.

ودع الشاب، وأغلق بابه، وعاد يجر قدميه بالشحاطتين العتيقتين، ثمة خلجات كانت تدفعه أن لا يصدق ما سمع، لكن صحوة عقله جعلته يردد: وهل يرجى منهم شيء غير هذا؟ شعر بعظامه تصل عليه بوجع مفاجئ. رغم ضحكه من كتب تفسير الأحلام، تساءل: ترى ألهذا كان يرى كوابيس الليل التي فر منها؟ كان يرى المئذنة العتيقة فوق القلعة أو يتوهمها، وقد استردت جزأها العلوي الذي يتصور إنه مقطوع لتميل به وتسقطه على رأسه، وحيثما فر منه نالته حجارته وسحقته. ثم يظهر ذلك المشهد ليجلده في الليالي: قرع ودوي شديدان، ويجد أمام بيته جمهرة هائلة من شهداء الحزب يقرعون جدران بيته ويلوحون بقبضاتهم العارية من اللحم والكفن ويسألونه: قل لنا لماذا قتلنا؟ ماذا حققتم مما وعدتمونا به؟ هل كان لموتنا جدوى؟ الكوابيس تقطع عظامه وأعصابه بمنشار وتغوص إلى روحه أكثر من آلام الروماتيزم، تفكك جسده فيتحملها صاغراً معتقداً أنها ضريبة النضال التي تأتي متأخرة باهظة عادة، خاصة إذا لم يفض سوى إلى مقبرة!

منذ سنوات طويلة وأنا أسمع أصوات الشهداء، في البداية كانت مع السكون الثقيل، ثم صارت كلمات كالفطر السام تنبت في غابة الصمت، تتفتح عن رسائل مشفرة ملغزة أحياناً أخرى، ثم همساً يجرح القلب، تحولت في الآونة الأخيرة إلى صرخات عالية، وقرع شديد على باب بيتي المخلع مختلطة بضجيج الأشياء حولي، يحيطون بي، يسألونني لماذا متنا؟ ماذا فعلتم بموتنا؟ هل استعملتموه بشيء مفيد؟ أم ركنتموه مع الثياب والأحذية القديمة والنفايات الأخرى؟ يبدو أن موتنا لم يفد الناس، لم يفد أحداً حتى أعدائنا الذين قتلونا، أقول لهم: لا ! كيف تقولون ذلك؟ مستعيراً عبارات من خطب المناسبات: أنتم عبدتم طريق الحرية، صنعتم السعادة للمحرومين، فتحتم آفاق المجد! ويعلو صوتي بنبرة فلسفية: الحياة العظيمة؛ من الموت العظيم! قبوركم ليست مظلمة فهي رحم المستقبل، ومصدر أنواره البهيجة! نعم يا رفاقي اطمئنوا، عودوا لنومتكم الهانئة في أحضان الخلود، وقروا عيناً، كل شيء بعد رحيلكم جيد، ويسير وفق ما أردتم وحلمتم! بينما أعرف أن من استفاد من موتهم هم رجال صاروا يتبجحون: قائلين أنهم يقودون حزب الشهداء، السائق يحس بالفزع والرهبة إذا وجد نفسه يقود سيارة فيها جنازة، كيف يقود هؤلاء قطاراً، حزباً فيه كل هذا العدد الهائل من الموتى؟ واسمعهم يعيدون القول: إذا كان موتنا غير مفيد، لماذا دفعتمونا للموت؟ ربما موتنا مريح لنا، لكن عذاب أمهاتنا، آبائنا، أحبتنا، هو الأكثر إيلاماً لنا! منذ سنوات طويلة وأنا أتعذب من حديثي المتواصل معهم، اشعر إنني مسؤول عن قتلهم! وعن فشلهم، وضياع آمالهم، أقول: يجب أن ألجأ إلى طبيب نفسي، طبعاً هو لن يفهمني، سيصف المهدئات والمسكنات، أتوقف قائلاً هذا مخجل، كيف أستنجد بالطبيب ليحميني من شهداء؛ لهم كل الحق في محاسبتنا، وقول ما يشاءون؟ وأظل أسأل نفسي؛ لماذا أرسلناهم إلى القبور؟ وبقينا هنا نتصارع على المواقع الحزبية، والمكاسب الشخصية، وربما أيضاً غداً على الثروات والمناصب والجاه والسلطة؟ نعم كل نضال يتضمن الخيانة، ولكن لماذا كان حجم الخيانة عندنا بهذا القدر؟ أي مجد يقوم على موت الشباب وحطام أهلهم وأحبتهم؟ يبدو إن إحدى خصال المجد قدرته على إخفاء العار!

(5) وعدناهم بأفراح وزهور، وأتيناهم بقبور!

في المرآة الصغيرة المعلقة بمسمار على حائط الفناء الصغير؛ وجد يونس وجهه يزداد شحوباً وصفرة، ثمة فراشة صغيرة كأنها روح هائمة تمر ملامسة بقايا شعره الأشيب تريد اختراق المرآة؛ فتصطدم وترتد إلى يده، ليدفعها جهة النافذة المفتوحة علها تنطلق. اتجه للحنفية الصدئة، وراح يغسل وجهه كأنما ليسقط عنه ما سمعه من كلمات. لماذا يدعونني لهذا الحفل بعد طول مقاطعة وحصار؟ وهل يخفى الأمر؟ يريدونني شاهداً على مأثرتهم العجيبة! قطعة أثرية من ماضٍ يعيدون استثماره، ثم ألست أنا قبراً متجولاً؟ كيف تكتمل القبور دون وجودك بينها؟ نشف وجهه وهو متردد في الذهاب، راحت شكوكه تتجمع جارحة في نفسه، يستثمرون اليوم في قبور الشهداء، يقصون لها أشرطة، ويهزجون؟ ولم العجب ألم أصدق كل بدعهم وساهمت في صنعها؟ عاد وتهالك على سريره، أخذ يضرب بكفيه على فخذيه النحيفين محركاً دشداشته البيضاء الخفيفة؛ يريد لجسده أن يتنفس. كان رفاقه الأقل عمراً، وصاروا قادته، يستشهدون بحركاته هذه؛ مدللين على عصابه وجنونه! هي عادته في لوم نفسه، وتقريعها كلما اعترته نوبة غضب على المسار والمآل كله، أو توقف عند سلوك رفاقه وتصرفاتهم، وقد صار عاما بعد عام يفترق عنهم ويحس بغربة عميقة حيالهم، وإذا كان قد صمت عنهم؛ فهو لم تكن تعوزه الشجاعة، إنما لأن لديه وفرة من الصبر، وقناعة أن مواجهة العدو تحول دون مواجهة رفاق الطريق. كان قد واجه الجلادين من رجال السلطة في مختلف العهود، حتى ليعجب هو نفسه كيف عبر مضائق الموت الكثيرة في طريقه الطويل. لا ينسى كلمة قالها له ضابط شرطة كبير في سجن بغداد:

ـ نقاؤك وشجاعتك تزيداني احتراماً لك، لكن احذر؛ فقد تقع بأيدي جبناء يستثيرهم نقاؤك وشجاعتك؛ فيقتلونك بسببهما، فقط لا غير!

بحت أصواتنا، وتهرأت أذان الناس، ونحن نسرد لهم وعودنا العظيمة، ونؤملهم بمستقبل طافح بعسل وحرير وأفراح وزهور، ثم اليوم نأتيهم بقبور!

ثمة شهداء أوصوا أن تبقى قبورهم على سفوح الجبال والوديان وفي أماكنها مهجورة منسية هائمة، ربما قالوا ذلك في لحظة غضب أو ندم، أو يأس وحزن، اليوم أدرك، كم كانوا محقين، لماذا يريدون اليوم وضعهم وراء أسوار مقبرة، أمن أجل هوس تسجيل الأمجاد؟ اية أمجاد؟ للقادة اليوم مشاريعهم، وجوه متوردة، كروش متهدلة، ثياب أنيقة، أرصدة ضخمة في البنوك، هالة قدسية. على الشهداء أن يحملوهم على أجنحتهم إلى ذرى المجد! مهمة صعبة أخرى تلقى على كاهل الشهداء، عليهم إنجازها بسرعة، استسهل القادة صناعة الشهداء، حين عجزوا عن أية صناعة أخرى، فهي مربحة ومضمونة: موادها الخام متوافرة هنا: أرحام نساء طيبات يمنحن لبناً نقياً، وأغاني مهود حزينة تحكي عن الوفاء! آباء طيبون يحسون دائماً بالتقصير؛ فيدفعون أبناءهم لإكمال مشوار حياتهم في نضال مرير لا ينتهي، صناعة الشهداء تعطي في النهاية النائمين حتى الضحى في أحضان عشيقاتهم؛ كراسي الحكم والمجد، وخزينة الدولة دفعة واحدة! أتعبه التفكير الذي يتمنى الفكاك منه، دون جدوى، وقف عند النافذة، أطل على جوانب القلعة، جدرانها البنية العالية مشعة في فضائها المتوهج، لاحت له المئذنة مقطوعة الرأس "كل شيء صرت أراه مقطوع الرأس؛ حتى الطيور والقطط والكلاب السائبة صرت أراها تسير مقطوعة الرؤوس، ما هذا؟ أهو أحد أمراض الشيخوخة؟ ربما أصلاً لا توجد مئذنة، يخطر لي أن السماء الصامتة هي في الحقيقة تتوسل الجبال والشوارع والبيوت والقبور أن تهبها كلماتها، وليس العكس! فأرض العراق قد مر عليها من العذاب ما يكفي لجعل ترابها سماءً مقدسةً!" عاد ينظر إلى التقويم على الجدار، كان على النمط القديم، مكون من رزمة كبيرة من الورق المائل للصفرة، يقابل فيها كل يوم ورقة عليها رقم كبير، وخلفها كلمات تتضمن حكمة اليوم، مع وصفة طبخ. أقتطع الورقة، كانت تحمل يوم 14 تموز2000، لم يقلبها ليقرأها، وجد الرقم يحمل حكمته وطبخته! قبل أكثر من نصف قرن وقع فيه ذلك الانقلاب الدموي، قتلوا الأسرة المالكة، رغم أنها خرجت من القصر حاملة القرآن مستسلمة، ملوحة بالشراشف البيض! سحلوا الوصي ورئيس الوزراء، توالت الانتهاكات والانهيارات، صارت للهواء والتراب عروقاً تتفجر بالدماء، الناس يسكرون ويغنون، الثور بجوارهم على الساقية؛ يدور معصوب العينين، يرفع من النهر الضحل ماءً عكراً. غامت عينا يونس، صدره يعلو ويهبط، خشي أن يكون عرضة لنوبة قلبية أخرى، تمدد على فراشه، قرر أن يكف عن التفكير ويستريح،ولكن هيهات!

(6) الحزب حوت، أعضاؤه أسماك كبيرة وصغيرة، تتصارع في جوفه!

ـ قضى الشهداء من أجل أمل طيب، وهمي أو حقيقي، وما دام فردوسكم لم يتحقق بعد؛ فاتركوهم يستمتعون براحتهم الأبدية دون ضوضاء!

ـ أنت رجل مهزوم، نحن وشهداؤنا منتصرون حتماً!

ـ ولكنني لا أرى نصراً، أرى موتاً وخراباً في كل مكان!

ـ أنت كليل البصر، يأسك وتخاذلك جعلاك لا تستطيع أن ترى أو تسمع!

ويتلفت يونس، يخمن أن سكرتير الحزب راضي سعيد يحاوره، لماذا يتجاهل وجوده؟

دعاني لأنني من الرفاق القدامى؛ ووجودي في الاحتفال يعني موافقتي عليه، وإقراري بأن الشهداء؛ لم يموتوا في ظل فكرة ضالة، أو بإهمالنا وأخطائنا ونوايانا اللاشعورية المرعبة.

ـ كيف تروج عنا؛ أننا لم ننجز شيئاً؟ أنظر معجزتنا الثورية: بنينا أكبر مقبرة للشهداء في العالم!

ـ ولكن لم لا يكون أكبر مستشفى للولادة؟ وإذا عجزتم عن ذلك، لم لا تتركوا الشهداء وشأنهم، ولا تزجوهم في ألاعيبكم؟

لا بد من ذهابي إلى المقبرة، أريد أن أكون إلى جانب رفاقنا، خاصة الشباب أستمع لبوحهم، وأقول لهم رأيي في ما يحدث! ولا بد لما يحدث، من شاهد! لم يجد في يديه المرتعشتين طاقة لحلاقة لحيته النامية المهملة منذ أسبوعين، قال "لا ضرورة لذلك فشعيراتها البيض، كادت في هرمي تعود سوداء كالحة كأنها مداعبة ثقيلة من الزمن، تبدو لي مناسبة أكثر لجو القبور" أخرج من دولاب خشبي واطئ باهت اللون مخلع في زاوية الحجرة، قميصاً وبذلة صيفية خفيفة حائلة اللون، لكنها نظيفة وتمدد على فراشه.

تلفت يحس بالصوت يأتي من الفراشة، شعر أنها روحه الهائمة تدور حول مرآة، تعكس سماء القلعة، أصاخ بسمعه مقترباً بحذر منها، وهي تحاول اختراق سماء المرآة كما حاول هو في شبابه اختراق سماء مرآة حياته، جاء الصوت ثانية مع خفق جناحيها:

ـ كانوا رفاقك، صعدوا المشانق، تلقوا الرصاص بصدورهم، ذوبت أجسادهم بالحوامض، لا تتخل عنهم!

همس لها، ليتني مت في ذلك الزمن السعيد رغم مصاعبه، زمن الوهم الجميل قبل تفجر الحقائق، كل ما أعانيه اليوم هو لأني لم أتخل عنهم!

ويأتي صوت الفراشة واهناً، وكأنها اخترقت زجاج المرآة، وصارت هناك في الجهة الأخرى في وسط قلعة الغيب والوهم:

ـ هل انتهى الأمر يا يونس؟ قل كلمتك من أجلهم!

ـ اطمئني يا فراشتي!

عاد إلى كوابيسه، رأى الحوت الهائل نفسه ينحدر من تحت جليد سيبيريا، إلى شاطئ دجلة، يخرج مع أهل بغداد ليراه، فجأة ينفتح في جسد الحوت باب يدخل منه خلسة لوحده، يجد داخله شباناً وشاباتٍ وكهولاً، يشربون البيرة والفودكا، حول موائد طافحة بالأطعمة، محتفلين يرفعون الأنخاب، يقول له أحدهم:

ـ نحن رفاقك، اشرب معنا الكأس حتى الثمالة!

ويقول:

ـ لكنه جوف حوت، معدة قابضة منبسطة!

قال كهل بينهم:

ـ ونحن سعداء داخل حزبنا العظيم، مهما هرسنا بمعدته العامرة!

وتقول فتاة حسناء بلهجة جريئة، متلمظة برشفة شمبانيا:

ـ هو بيتنا وسفينتا التي سترسو على جزيرة للسعادة لم يصلها البشر بعد!

استفاق. ظلت رائحة معدة الحزب عالقة في منخريه، تقبض رئته، كانت هي ذاتها رائحة الاجتماعات الحزبية الطويلة وقد احتملها سنيناً ثم صارت تصيبه بالغثيان، التفت جهة الفراشة كان توشك أن تحلق مخترقة سماء المرآة الزئبقي، هناك حيث ستغيب إلى الأبد، أهي الروح وقد آن رحيلها؟ وهمس لها:

ـ ما الفرق بين الحزب، أي حزب، وحوت يشفط الأسماك السائرة بين التيارات المائية إلى جوفه ليحيلهم إلى زيت؟

سمعها صوت نسمة تقول :

ـ لا فرق، فقط الحوت مسير بالغريزة، والحزب مسير بالأيدولوجيا، مع سبق الإصرار!

مرة أخرى يا فراشتي،دخلت كابوساً رأيت نفسي فيه باجتماع حزبي كبير، نتحلق حول صخرة كبيرة، فجأة سمعنا مسئولنا الحزبي يأمرنا:

ـ عليكم أن تقضوا عشر سنوات تلحسون الصخرة، حتى تجعلوها ناعمة بيضاء، تليق أن ترسم عليها صورة لينين العظيم!

قلت مندهشاً مستنكراً:

ـ عشر سنوات ونحن والجموع الهائلة معنا نلحس الصخرة بألسنتنا؛ لترسموا عليها صورة لينين العظيم؟ هذا كثير! هذا رعب!

أمر المسؤول الحزبي بإخراجي من الاجتماع صائحاً بالمجتمعين:

ـ اهتفوا خلفه، خائن، مرتد، جبان، منهار، منحرف، قصير النفس!

أسمعت يا فراشتي يا روحي الهائمة الشريدة على الدوام؟ كانت الفراشة قد اختفت داخل المرآة، وليس في صفحة المرآة سوى حبال غسيل منشورة عليها ملابس عتيقة مهلهلة تحركها الريح فتتموج وتصطفق، المنشدون حلقوا فجأة عالياً، وبقيت ثيابهم وراءهم ترقص لوحدها على الحبال مع بقايا النشيد، اغتم يونس وأحس رغم كرهه الخرافات بنذير شؤم!

ألا يبدو حضوري هذا الحفل محيراً للشبان الطيبين الذين يأتونني أحياناً، وأمنحهم النصيحة؟ سيعتقدون أنني راض عن هذه اللعبة، مشارك بها رغم خروجي من الحزب، سوف لا يعرفون حقيقة رأيي. أفضيت مرة لرفيق بالكابوس المتكرر قال: حوت الحزب هرس الأسماك التي في جوفه كلها، قتل شهداءه بأيدي أعدائه، كان قد بلعهم لأول مرة وإلى الأبد، طحنهم وأذابهم في معدته الواسعة، محا أفكارهم ورؤاهم الخاصة، وامتص زيت أروحهم وأجسادهم، سمن الحزب، وترهل، وصار أكثر من مرة وليمة دسمة للأعداء، والرفاق،الأسماك الصغيرة، غابت وإلى الأبد.

ظل صراعي معهم مناكفة أحياناً، وأحياناً صمتاً ولا مبالاة، لم يكونوا يكترثون لخلافي معهم على قضية الفكرة. تفاقم جدلنا وخلافنا؛ عندما صرت أطالب بمحاسبة كمتار بيس وصاحبه السكرتير حمه سور؛ فقاموا بتنحيتي وضرب الحصار عليَ في هذه القلعة.

ويواصل الشهداء قرعهم بابي، وتتعالى صيحاتهم: قل لنا لماذا قتلنا؟ ماذا فعلتم بتضحياتنا؟ وأتمنى أن يحطموه، ويدخلوا ويكتموا أنفاسي إلى الأبد، هذا ما يريحني، أكاد أتمزق لا أستطيع النوم، كيف يستطيع السكرتير السابق حمه سور، وكمتار بيس ومن معهما النوم؟ كانوا مهووسين باستقدام الشبان من أماكن دراستهم أو عملهم في أوربا واليمن الجنوبية وسوريا والجزائر وبلدان شتى ليموتوا على هذه الجبال، لا تدري من أجل ماذا ؟ أمن أجل الشيوعية ؟ أم قضايا القوميين الكرد؟ أم قتل الجنود الفقراء؟ لا أدري! وأظل أتقلب، لا أستطيع النوم حتى بزوغ الفجر، تأخذني غفوة؛ فأرى نفسي في حلم غريب لا أصدقه، أنا في حجرة كبيرة من الطين، فيها سرير من جريد النخل، عليها رجل مسن بثوب أبيض فضفاض، يتقلب مثلي في نومه أيضاً، ويا لغرابة الأمر؛ أعرف إنه جد الأنبياء جميعاً إبراهيم الخليل في فراش من قش، هل نحن في أور حيث ولد وواجه النمرود بالإله الواحد؛ فحورب وكان أول المنفيين العراقيين؟ ثمة جبل يطل من النافذة الكبيرة، إذاً نحن على شاطئ البحر المتوسط في مدينة قديمة لا أعرفها من فلسطين، ما زال يتقلب، وأعرف إنه شهد رؤيا، يذبح ابنه إسماعيل تقدمة وتقرباً من الله، لكن ثمة صوتاً يقول له: هذا كثير يا إبراهيم، أتشك في إيمانك؟ أتعتقد أن الله يرشى بما تتصارعون عليه من مادة أو مال؟ الله لا يريد سوى نقاء قلوبكم ومحبتكم لبعضكم، ما ذنب ولدك الطفل تذبحه لرب يملك الأكوان، وما فيها من بشر وشجر وحيوان وحجر؟ لكن إبراهيم يصر على منح الرب أغلى ما لديه، فيقتاد طفله إسماعيل، ويحمل سكينه ويصعد به الجبل، هناك على القمة، سيكون أقرب إلى الله، ويستطيع الله أن يشم جيداً رائحة دم طفله وهو يتفجر، وأقول في نفسي يا لبساطة الرجل، ينسى أن من يخلق الجبال والبحار يمكن أن يكون في جحر النملة أيضاً، وأصعد معه الجبل لاهثاً، الطفل لا يدري إنه سيذبح، يقبل يدي أبيه بحنان، ولا يدري أنها ستمد السكين إلى عنقه، وأنا صامت لا يخرج من فمي سوى أنفاسي المتقطعة، صخور كثيرة تعترض طريقنا. وأسمع الصخرة تقول له " توقف! ما هكذا يعبد الله" يجد الأب أخيراً البقعة التي يراها تليق بمذبح إلهي، ويمدد الطفل عليها، والطفل يضحك معتقداً إن أباه يغدق عليه من حنانه ويداعبه، يضع السكين على حنجرته، ويحس الطفل بلسعة الشفرة فيصرخ باكيا، ويتشبث بأبيه يريد حمايته جاهلاً حتى الآن إنه قاتله، وكما تنطلق بغتة عاصفة يرافقها برق، ثم صوت مدوٍ، تأتي مشيئة الله، كف يا إبراهيم، اعرض عن هذا، ويتوقف، ويسمع الوحي كله، خذ هذا الكبش واذبحه، هذا يكفي يا إبراهيم ما نحن بأكولين ولا نهمين، ولا متوحشين! ينهض إبراهيم ليذبح الكبش، فيكون هو الفداء والأضحية، وتستريح روحي واقترب من إبراهيم وقد عاد إلى صوابه وهدوئه، وعاد إليً صوتي ونبضي، أتعرف أيها النبي الكبير لقد غالى وبالغ أتباعك وأحفادك في الأضحية، صارت بيوت اليهود والمسلمين تفوح برائحة الدم، لا شيء سوى الدم، لا رائحة زهر ولا نبيذ ولا نغم ولا كلمات، لا شيء سوى الدم، حفيدك المسيح تقدم ليفتدي البشر بدمه؛ فيستريحوا من حكاية الدم هذه! لم يتوقف الأمر، صار الحال أكثر فظاعة، المتحكمون بالأديان والأحزاب صاروا يذبحون الناس، ليأكلوا هم الأكباش والخراف والدجاج، والنساء أيضاً! أيرضيك هذا يا أب الأنبياء؟ ويتقدم مني إبراهيم والسكين في يده، ظنته سيذبحني لأنني تجرأت وخاطبته، أحسست براحة، سيخلصني من آثامي وعذابي، فأنا ذبحت الطفل والكبش ورفاقي معاً، لكن إبراهيم اقترب مني وقال بصوت حزين عميق:

ـ إذا ظل الإنسان يأكل الإنسان، فستهبط السكين من السماء وتطهر الأرض! فهم لا يستحقونها!

صعقني كلامه، قلت متوسلاً هاذياً ربما لأكسب رضاه: نحن اقتدينا بك كثيراً، صرنا نكرم ضيوفنا بنحر الخراف، أبسط كلمة تودد لدينا نحن العراقيين،(أروحلك فدوه) بذلك خدمنا حكامنا وأحزابنا جيداً يا أبا أنبيائنا جميعا! انقلب ضاحكاً، اخرج دناً من الخمر، وراح يشرب،تركني دون اكتراث على قمة الجبل أتلفت حولي مستوحشاً، لا أدري ماذا أفعل، انطلقت عاصفة، وبرق ورعد ثانية؛ طوحت بي من الجبل إلى البحر، صحوت على صوت طرقات الشهداء على بابي، ذات الأصوات: لماذا ضحيتم بنا، ماذا تحقق؟

ـ واصرخ كالمجنون لا شيء! لا شيء!

وأهدأ قليلاً، يزلزلني صراخهم،أردد:

ـ لم يتحقق إلا الأسوأ! كفى أرجوكم أذهبوا إلي بيت حمه سور، إنه يعيش في بيت كبير مجاور لبيت حاكم المنطقة! من يسمعني يعتقد إنني مجنون، ليكن، إذا كان حديثي مع الشهداء يعني الجنون، لأكن مجنوناً!

وأجلس يغمرني العرق مرتجفاً، محاولاً عبثاً استعادة آلامهم العظيمة، اختلاجات أجسادهم وهم ينزفون ويحتضرون، شهقاتهم الأخيرة، وهم يطلقون أرواحهم في الهواء الراكد الواجم حولهم، الشهداء كلمة باردة نقولها بنفس الحروف التي نقول بها الكلمات الأخرى، يصعب أو يستحيل أن نعي حقيقتها، وأية عذابات وأوجاع تقلبوا فيها، واكتوى بها آباؤهم وأحبتهم، وهم يستعيدون وجوههم في يقظتهم وأحلامهم كل يوم، وكل دقيقة!

اليوم سأواجه سكرتير الحزب،عند باب المقبرة: "كف عن اللعب بجماجم الشهداء، أما كفتك لعبك المعروفة؟ " لكن هذه مهاترة، لا تليق بي، يجب أن أصمت، وأقول ما ينبغي قوله فيما بعد!

(7) جلال العطار، أين أنت الآن؟

رغم علمي أن جلال العطار مات في منفاه الأوربي البارد منذ سنوات طويلة، لكنني لا أريد أن اصدق أن صوته وشخصيته الصاخبة المثيرة، قد طواهما الثرى.

احتاجك اليوم يا جلال، علنا نستعيد في جلسة من أيامنا الغابرة حقيقة ما جري، لا على الأرض وحسب، وفي داخلنا أيضاً حيث نكتشف الخديعة، ثم نمضي مع الضلال، لا تفيق إلا حين لا جدوى! كان جلال العطار مدرساً للرياضيات في إحدى ثانويات بغداد، تعرفت عليه أواخر 1939، بمقهى حسن عجمي في شارع الرشيد، حيث يتجمع مثقفون كثيرون، كان أديباً روائياً، يعد متقدماً في مقاييس ذلك الزمان، فالروائيون والرواية قلائل في العراق آنذاك، كان قد قارب الأربعين، فارع القامة، ضخماً دون كرش، أسمر الوجه بدكنة، تتقدم رأسه صلعة دسمة، عليها حبيبات عرق حتى في جو الشتاء. إذا سار أو جلس سمعت منه لهاثاً، وشخرة خفيفة، يعتني بلباسه وبدلاته الأنيقة، ولد في أحضان أسرة موسرة في الموصل، ورغم إن الحياة الثقافية في هذه المدينة بعد رحيل العثمانيين عنها أخذت تتشكل وتنمو مع الدولة الحديثة على نمط جديد ومتطور، وصار له فيها حضور محسوس ومؤثر، إلا إنه هجرها قائلاً:(أردت أن أحك السياسة بالأدب؛ لأطلق شرارة تشعل حرائق في حياتنا الراكدة) لكنه لا يفصح عن هدفه من ذلك: أن يكون فيها بطلاً وقبلة للأنظار، زعيماً وطنياً كبيراً، ربما كان يستطيع ذلك أو شيئاً منه، لكن آفته أنه كان مهووساً بالخمرة والنساء والكتب والسياسة! بعد حب غريب أليم محطم، لم يتزوج، عاش حراً طليقاً يتنقل بين حانات بغداد والبصرة، وفنادقها الفخمة، ومواخيرها السرية والعلنية؛ بحثاً عن النساء الجميلات القادمات من مدن العراق، أو من تركيا ومصر وبلاد الشام! يصرف راتبه كله في لقاء امرأة في مجلس أنس، ثم يعطيها ظهره وينغمس مع رفقته في جدل سياسي حاد، يفسد اللقاء ويصل حد العراك، ومع ذلك ظل الكثيرون يحبونه، وينشدون صحبته(كان يقول: إذا تأخر وصول حوالة نقدية لي من الموصل، وأفلست فأنا مستعد أن أرهن أو أبيع بدلتي لقاء قنينة عرق في جلسة حلوة مع امرأة أو صديق) رغم إنه لم يفلس مرة، لكنه يقول ذلك تقليداً للشعراء الصعاليك العرب القدامى الذين يفاخر بانتسابه إليهم، أكثر من انتسابه لعائلته المعروفة، أو للمتنبي، أو أبي تمام. كان يسخر منهما قائلاً: المتنبي شاعر يوزع حكمه أين ما حل وارتحل، وهو أحوج الناس للحكمة، هل ثمة شاعر حقيقي يبادل شعره بكرسي السلطة؟ وأبو تمام حين كان مديراً لبريد الموصل، لم يوزع في المدينة كتاباً أو رسالة غرام أو حب واحدة، كان يوزع بيته الشعري: السيف اصدق أنباءً من الكتب! كان العطار مستعداً أن يقاتل كل شرطة العراق لكي يحصل على كتاب جديد أو قصيدة. أو قنينة خمر قائلاً :

ـ أنا أعرف أن رباعي المرأة والخمرة والكتب والسياسة قد ينجح، ويوصل صاحبه إلى قمة المجد في كل مكان في العالم، إلا في العراق، حيث لا بد لأحدهما أن يتحالف مع الحكومة، أو المجتمع ضد صاحبه؛ فيقتله ويحيله هشيماً! لذا حرصت على ان أكون يقظاً مهما شربت، وأن لا أنهك قلبي مهما كان جسد المرأة جميلاً يغري بالإبحار فيه!

تعلمت أن لا أسير وراء الثعلب حتى لو أوصلني للدجاجة السمينة، ولا أسير وراء الأسد، حتى لو أوصلني إلى عرش الغابة، لا أسير إلا وراء عطر زهرة بعيدة غامضة! كان بارعاً في صنع عداوات وتحالفات بين المرأة والخمرة والكتب والسياسة، فكان يتحالف مع الخمرة والكتب والمرأة ضد السياسة، ومرة مع الخمرة والكتب ضد المرأة، ولم يتحالف يوماً مع السياسة ضد المرأة أو الخمرة أو الكتب!

كم كانت جلساتي معه مفعمة بالجدل العميق، والكلمات الموحية! أستعيدها اليوم وأنا في عزلتي فاشعر بالتقصير. لماذا أهملتها في لهاثي مع الأيام والعمل السياسي الصاخب المجنون؟ لماذا استهنت بها ملحقاً إياها بفوضى شخصيته وتقلباتها وثرثرته أحياناً كثيرة. اليوم وأنا في عزلتي وحصار رفاق الفكرة لي، وتحولهم إلى سجانين لي صرت أتأمل بعمق وقناعة نصائحه، واستعيد جلساتي الطويلة القديمة معه، وأحاديثه الشيقة والحزينة! هي حياتي السرية الخاصة في هذه القلعة المدقعة المهجورة تقريباً!

(8) المطرقة والمنجل، والقلب بينهما!

مرة أخرى يقطع أفكاره دق حاد على الباب، نهض متثاقلاً، خرج من لجة أفكاره السحيقة المتلاطمة! وببهجة خفية تلمس ثيابه، وتعجب من نفسه كيف تهيأ للخروج وأعد نفسه للذهاب إلى المقبرة، دون قرار واضح! أنا ذاهب إلى الشهداء، وليس للحفل ولا للمقبرة، أقنع نفسه أخيراً.

وجد سيارة بيك آب أمام البيت في انتظاره، دهش أكثر إذ وجد شباناً يحملون أبواقاً ودنابك وصناجات وآلات موسيقية متنوعة. أدرك أنها ستستعمل في حفل افتتاح المقبرة. كعادة الشيوعيين، لا تتحقق مناسبة لهم ما لم يرافقها عزف وأغان وأناشيد ورقصات ودبكات. غناء وصخب حتى في اشد المناسبات حزناً، هذا جميل، ولكن هل ما نحن فيه مجرد حزن؟ قال في نفسه، لا أحد يلوم الغجر أنهم يحملون معهم قيثاراتهم إلى أعراسهم ومآتمهم، إنهم لم يعدوا أحداً بفردوس آخر غير فردوسهم المتنقل معهم! ساعده الشاب الذي جاء إليه على صعود السيارة، جلس لاهثاً، ظل ممتعضاً من الطبول والأبواق، وجدها ستقرع فوق رؤوس الشهداء وتقلق نومتهم، ربما ما زالوا يعانون الأرق منذ أدركوا أن موتهم ذهب سدى، سارت السيارة في طريق القلعة، وقد تناثرت عليه وحوله أزبال وأوساخ، تقطعه بين فينة وأخرى قفزات أطفال وصبايا ودجاج وقطط وكلاب، توقفت السيارة عند قوس الباب الكبير لبقايا القلعة، توقف السائق متحدثاً مع أحد معارفه، ثم انطلق بسيارته تتلوى مع الطريق الإسفلتي القديم المتشقق المنحدر بتدرج متلوٍ أتعبه. كان قبل هذا يرى فيه متعة غريبة، إذ هو هبوط من جبل أو قلعة موحشة إلى قاع مدينة صاخبة حديثة مكتظة بالناس والحياة يحتضنها سهل فسيح بيسر ونعومة. استقرت السيارة على الطريق العام.

لم يتألم يونس رحيم لأنهم ركنوه جانباً منذ قرابة العشر سنوات. لكنه تألم أن يهجره أو يتخلى عنه رفاقه من القياديين والمسنين ممن ليسوا ضمن ما سمي بعصابة السكرتير، ولقد امتثلوا خانعين للحصار الذي ضرب حوله! كثيرون راحوا يرددون ما روجوه "إنه يعاني وهن الشيخوخة والخرف، وضرباً من العته والجنون" رغم إنه قبل أيام من بدء معارضته لسياسة وأفكار الحزب كانوا يضربون به مثلاً على القدرة السحرية لفكرتهم التي تبقي من يعتنقها شاباً مهماً تقدم في العمر! نفذوا قرار إخراجه من الحزب ومحاصرته بدهاء، أبقوه يعيش قريباً منهم، أخذوا يمدونه بإعانة العيش فقط، جعلوها أقل من جراية التفرغ الحزبي، بحجة إنه لم تعد لديه مهام حزبية تقتضي الصرف، لا يكاد مبلغ الإعانة يفي بأوده وحاجاته البسيطة. لكنه كان بطبعه متقشفاً قليل الحاجات والطلبات. عينوا له مسؤولاً حزبياً يزوره في فترات متباعدة، لكنه كان يراقبه عن بعد، ويرفع تقارير لقيادة الحزب عن تحركاته، ومن يتردد عليه. لم يحاول الخروج إلى المنافي البعيدة، "ليس فقط لأنهم لا يسمحون لي بالإفلات من قبضتهم، أو لأن العمر قد بلغ منتهاه، ولم يعد يحتمل الغربة والبعاد عن تراب الأهل والأجداد، بل لأني حقاً أريد أن أشارك الناس عن قرب في معاناتهم، وفجيعتهم في ما آل إليه الوطن من مصير تعيس نتيجة ظروف عديدة لعل من بينها ابتلائهم بفكرتنا الهائجة المستحيلة!

توقفت السيارة، كان على الرصيف رجل ينتظرها على ما يبدو، عندما صار بمحاذة باب السيارة عرفه يونس، إنه كاكا قادر، كان يتردد عليه، يؤنسه ويتحاور معه، ثم انقطع كالآخرين؛ منذ ما يزيد على السنتين، سلم عليه بهدوء، وبشيء من التحفظ. لم يوجه له يونس السؤال المعتاد: منذ زمان لم أرك؟ وجده سؤال يقارب التسول، يصير المعزول متسول كلمات ونظرات عطف، لا لن أكون كذلك، ثم ماذا سيكون الجواب سوى تمتمة وصمت وتعال، وإذا كان الشخص مهذباً سيرد "هموم كثيرة، نركض ولا نلحق بشيء" لكن ليونس مع قادر ذكريات وأحاديث جميلة ثم هو قارب الثمانين، وجد يونس أن عليه أن يجامله خاصة وقد تذكر حكاية كان لا ينفك يرويها له فسأله: كيف حال الديالكتيك الآن؟ ضحك قادر، قال: بخير يعمل مثل ساعة القشلة! كان ذلك حديثهما القديم. عاد يونس لصمته، مستعيداً ذكرياته مع قادر؛ بعد إخراجي من قيادة الحزب، وفرض العزلة الإجبارية علي في القلعة. لم يكن يزورني إلا قليلون، بينهم قادر، كان يسكن غير بعيد في القلعة مع ما تبقى من عائلته الفقيرة، الآن صار ابنه ضابطاً في جيش البرزاني، وحصل على بيت في حي جديد، كان هادئاً ولطيفاً رغم إن أحاديثه قليلة ومحدودة. كان يصغرني بحوالي عشر سنين، كان همه أن يحدثني في كل زيارة كيف اعتنق الشيوعية دون أن يفقه منها سوى شيء واحد، هو أنها طريق الفقراء إلى النعيم، والخلاص من الظلم، كيف يتم ذلك؟ هذا لا يهم. وكل شيء يظهر في حينه. قال إنه ما أن قبل عضوا بالحزب في السليمانية؛ حتى كلف بقيادة حوالي 16 (ملا) من طلبة الدين في جامع كاك أحمد الشيخ، كانوا جميعهم بين أعمى وأعور وأطرش، وكانوا جوعى على الدوام. عرفت أن الذي كسبهم إلى الحزب قال لهم أن الشيوعية تجلب لهم الكثير من الطعام، وسيرسلهم الحزب إلى موسكو للعلاج في مستشفيات ترد البصر للعميان، والسمع للطرشان بقدرة الرفيق ستالين، وشفاعته عند لينين! فالشيوعي على كل شيء قدير، كانوا كلما جئتهم يسألونني هل جلبت لنا طعاماً من الحزب؟ وكنت أقول لهم:

ـ فيما بعد، فيما بعد، الحزب الآن فقير، وحين يستلم السلطة قريباً، سيصير غنياً؛فيوزع الأطعمة والأموال على الفقراء!!

وفي كل مرة آتيهم خالي الوفاض، وأخيب أملهم. فيعتريهم وجوم وصمت، ثم يسألني أحدهم :

ـ متى ترسلوننا إلى موسكو ليردوا لنا أبصارنا؟ ويسانده آخر، ليردوا لنا سمعنا؟

واضطر لمجاراتهم وتصبيرهم بكلمات مضحكة. فيقبلون ويسكتون. كنت قد لمست أن ثمة نزعة الحادية أيضاً جلبتهم إلى الشيوعية. فهم قد سمعوا أن الشيوعيين لا يؤمنون بالله. وحيث هم ناقمون على الله لأنه خلقهم بهذه العاهات. ويخافونه أيضاً. لذلك كنت ما أن أقبل عليهم حتى أسمعهم يقولون براحة ولهفة(خلص الدين، جاء الحزب) كنت مبتلى بأسئلتهم الكثيرة. كان أكثرهم يتأتئ ويفأفئ حين يتكلم لكنه يغدوا طليقاً حين يغني أو يجود القرآن، وكانوا يقضون وقتاً حتى ينطقوا كلمة الاستعمار، أو البروليتاريا، والإمبريالية والديالكتيك، التي كنت أنطقها أمامهم دون حاجة لها، فقط متباهياً، ودون أن أفقه معناها، صرت أقول لهم، لا تضيعوا وقتي الثمين بالتأتأة والفأفأة، غنوا لي الشيوعية والماركسية والإمبريالية وكل ما تريدون قوله اختصارا للوقت! صاروا يغنون ويجودون كلمات لينين وماركس وستالين وفقرات من ديالكتيكية أخرى مقلدين أصوات المقرئين المصرين! فكنت اسمعهم يرتلون آيات الشيوعية بدلاً من آيات القرآن فأحس بنشوة مضحكة. سألني أحدهم وهو يتلمس عينيه العمياوين:

ـ ما هو الديالكيتك؟

اكتشفت إنني لا أعرف ما هو الديالكتيك، تجاهلت سؤاله عدة مرات، لكنه ظل يسألني فأماطل بإجابته. حتى التقيت مسئولي الحزبي وسألته: ما هو الديالكتيك يا رفيق؟ تصنع الدهشة والغضب كمعلم اكتشف جهل تلميذه. قال: أنت عضو في الحزب منذ سنتين ولا تعرف ما هو الديالكتيك؟ يبدو لي إنك حمار حقاً، الديالكتيك هو مفكر سوفيتي عظيم كان نائباً للرفيق لينين. ذهبت إلى الرفيق الأعمى وقلت له بذلك. قال: ولكنني سألت شيخي عنه فقال:

ـ الديالكتيك هو ملاك عظيم. يصعد وينزل بين السماء والأرض. وردت أوصافه في اللوح المحفوظ، ولا يدركه إلا من شاء الله له جنته ورضوانه. جعلتني في حيرة. نعم إنه نائب الرفيق لينين، متى ترسلونني إلى موسكو ليردوا لي بصري؟

كانت حكاياته تدفعني لتأمل عماي الذي اكتشفته متأخراً، وكيف أن موسكو، أخذت مني ومن آخرين سمعنا وبصرنا وجعلتنا صم عميٌ، نرى ونسمع بعيونها وآذانها فقط ! حتى كاكا قادر، هذا الرجل اللطيف، انقطع عن زيارتي، خضع أخيراً لتوجيهات الحزب بمقاطعتي، هو الآن معي صامتٌ ونحن نتجه إلى مقبرة الشهداء، ماذا سنقول للشهداء؟ نحن رفاقكم القدامى، صرنا يقاطع بعضنا الآخر، يعزله، يسجنه، يذله، ينفيه، يقهره، هذه، مع مقبرتكم، كل منجزاتنا! كاكا قادر خضع أخيراً لقرار الحزب، الذي صار تابعاً لسلطة المنطقة وابنه ضابط فيها، أخذ ينشد خبزته، ومستقبل أحفاده، افهم صمته، كما علي أن أفهم جوابه، فقد كان بليغاً وحزيناً، فحال الديالكتيك عندنا كحال ساعة القشلة في بغداد؛ فهي لا تزال متوقفة منذ عشرات السنين! أليس من حقي ان أقول في كل مكان يعمل الديالكتيك؛ إلا عندنا نحن الشيوعيين! والمصيبة إننا ندعي ملكيته بالطابو!

(9) أرض معلقة بأجنحة الطائرات!

تلكأت السيارة قليلاً حين مرت ببناية محافظة أربيل المحاطة بحراسة شديدة، وأبراج مراقبة. استدارت وظلت تسير متمهلة. كان يونس قد زار أربيل مراراً في عمله الحزبي، ومكث فيها فترات متفاوتة، قبل أن يأتيها بهجرته الطويلة الأخيرة. حين وجد له المسؤول عن صلته مع الحزب سكناً في قلعتها القديمة، أدرك أنهم اختاروا له هذا السكن الشاهق المنزوي البعيد، لكي يحولوا بينه، وبين الخروج كثيراً من البيت والاختلاط بالناس والترويج لأفكاره. بيته الصغير الرث منفى محلي غير معلن، أو سجن لطيف بفضاء، وارتفاعات مضيئة. في البدء وجد عزاءً وأملاً في شبان يزورونه ويتقربون منه ويرونه رائداً لهم، ومجيباً متواضعاً على أسئلتهم الكثيرة! دون خوف من قيادة الحزب، أو من رجال في سلطة المنطقة، وأحزابها بعد انسحاب حكومة بغداد.

كان يتأمل المدينة من القلعة، تتسع مبتعدة عن نواتها الأولى الشامخة؛ مكونة أحياءً حديثة وبيوت جميلة راقية، ويجد في تجواله النادر القليل في المدينة راحة وسكينة، الآن الشوارع تعج بالسيارات المختلطة، آخر موديلات السيارات، تجاور عربات خشبية يجرها الرجال أو البغال. الدكاكين والأرصفة تعرض آخر ما وصلها من خيرات جبالها ووديانها الخصبة، ومستورداتها، أو البضائع المهربة من إيران وتركيا. أرصفة عليها تلال من البطيخ الأحمر والأصفر، وعربات محملة بأكوام الفاكهة يشم نكهتها الشهية، ممتزجة برائحة البنزين. الناس يرفلون بأزيائهم المتنوعة، الشروال الكردي، والبدلة الأوربية، المرأة الملفعة بثيابها الطويلة، والفتاة المتبرجة، يبدون له هادئين متحفزين فما يعيشونه لا يعرفون أهو نصر نهائي ثابت كما يوحي لهم به قادتهم، أم هو مجرد هدنة ستنفجر بخطوة هوجاء من السلطة في بغداد، أو من القادة الكرد، أو بتخل مفاجئ عنهم من الأمريكان! كثير من رفاقنا استشهدوا هنا، منذ الستينات، أتوا إلى هنا تخلصاً من ملاحقة الحكومات، أو منخرطين في كفاح مسلح ضدهم، مندمجين أو على مسافة مع المقاتلين الكرد في مشروعهم القومي! الحياة في المدينة تبدو الآن متدفقة مغمورة بشمس كثيفة، هواء حار رغم فوات الظهيرة، صيف الشمال لا يغدوا جميلاً رائقاً إلا في سفوح الجبال المكسوة بغابات الجوز، والتين والتوت، والزاخرة بالينابيع والشلالات. قطعت السيارة مركز المدينة، وانعطفت إلى طريق خارجي باتجاه الجبال. ومضت عبر سفح مرتفع ممهد تحفه أشجار تين وبلوط وأشواك، انفتح أمامها فضاء رحيب لأرض مستوية، تحملها هضبة واسعة، يمتد أفقها بعيداً لتلوح في نهاياته صفوف أشجار تلفها عتمات وأجواء مغبرة في قيظ صيف هو في منتصفه. لاح تجمع لرجال ونساء وصبايا وصبيان وصفوف من السيارات الصغيرة والحافلات.

كان أصدقاؤه الكهول والشبان يأخذونه بسيارة إلى مركز المدينة، أو ضواحيها للجلوس في مقهى، أو مطعم أو بار، ورغم إنه لم يعد يستطيع الشراب كذي قبل لكنه كان يجاملهم، أو يستجيب لنزوة الشراب القديمة في نفسه؛ فيحتسي كأساً من العرق، كان يقول وهو يرفعه بيد مرتجفة:

ـ في العرق شيء من جنون العراق ونشواته!

ويرفعون نخبه ضاحكين :

ـ في صحتك، وكم عرقت من أجل العراق!

يستمتعون بأحاديثه وحكاياته الشيقة، ويحاورونه بعمق ومتعة، يقولون ذلك يضيء عقولنا! في الآونة الأخيرة قلت لقاءاتهم معه، ضغط قيادة الحزب عليهم لعزله كان حثيثاً ومتواصلاً، هو أيضاً لم يعد في صحة ومزاج يستطيع بهما مجاراتهم، لكن ظلت ثلة من الشباب تقاوم عزل الحزب وتخترقه، وتصل إليه!

صار أكثر انكفاءً في بيته في القلعة، ملتحماً بذاك الكلام السري الذي صار يحفه مع هواء الأعالي. عبرت السيارة بوابة أو قوس كبير أشبه بقوس النصر، علقت على واجهته لافتة حمراء تحمل كلمات كبيرة (ضحى الشهداء بأرواحهم من أجل وطن حر وشعب سعيد) برزت خلفها صفوف قبور وكومة من الصور المؤطرة والمزججة، مركونة في زاوية مع لافتات من القماش الأحمر، وقد خطت عليها الشعارات بكلمات عربية كردية، وهجير ترابي أخذ يتسلل من نافذة السيارة ويجعل تنفس يونس صعباً، أخذ السائق يبطئ سرعة سيارته متحاشياً إثارة الغبار. توقف بها في نهاية صف سيارات صغيرة، تقدم رجل وساعد يونس في النزول، وراح يسنده حتى يتوازن في وقفته. آخر ساعد قادر على النزول، وما أن وطأت قدماه الأرض حتى توارى عنه. تقدم رجال وراحوا يصافحون يونس، وهو يبتسم بوهن مرحباً بهم. اقتادوه إلى سرادق كبير سقفه من القماش، وقد انتظمت تحته كراس بلاستيكية بيض بمساند، جلس على معظمها رجال ونساء يبدون من جلستهم الصامتة الواجمة أنهم عوائل الشهداء وذووهم، أقبل عليه أشخاص يحيونه ويعانقونه قائلين ضاحكين "ما زلت شاباً أقوى منا". رغم إن أكثر الذين سلموا عليه هم ليسوا من الحزب، هم أما مستقلون، أو من جماعات أخرى، ولكن ثمة شعور راوده؛ أيكونون اليوم، وبمناسبة افتتاح مقبرة الشهداء قرروا فك طوق العزلة عنه، وإطلاق سراحه من سجنهم الغريب هذا؟ لا!؛ ثمة كثير من الشيوعيين هنا، ممن يعرفهم، ويعرفونه، لم يتقدموا للسلام عليه، ومن يرحب به الآن هم ممن يسمونهم عرفاء الحفل، يقومون بواجبهم مع جميع الضيوف. كسرت الصمت أغان وأناشيد عربية وكردية أخذت تنطلق من مكبرات الصوت، رغم حزنها كانت أقرب لرقصات ودبكات، ميز بينها أغنية كانت تصرخ من شريط تسجيل قديم " مثل المطر للكاع دم الشيوعي" كان يغنونها في احتفالاتهم أيام الجبهة في بغداد، كان يونس يتذمر أنهم لا يعدون الأرض بمطر السماء، بل بمطر من دماء الشيوعيين، أية نبوءة نحس هذه؟ وها هي اليوم بعض من ثمار ذلك المطر، مقبرة ستفتتح بعد قليل! دخل شاب على صدره شارة حمراء، عريف الحفل، يتكلم العربية قال، مشيراً إلى الكراسي، كأنه يعتذر عن بقائها خالية:

ـ من المؤسف، كثيرون لم تصلهم دعواتنا!

عقب آخر معه يسنده:

ـ حب الناس لحزبنا، لا يحدده حضورهم لاحتفال أو مظاهرة!

نهض يونس، شعر إنه يكاد يختنق، مضى خارج السرادق، كنت أريد أن أقول له: " المقاعد الخالية هنا لا تعني أن جماهير الحزب قد أدركوا حقيقة الفكرة وغسلوا أيديهم منها، مثلما لم تعن مظاهرة المليون شخص التي كان الحزب يخرجها أواخر الخمسينات في بغداد أن الناس التحموا بالفكرة إلى الأبد" كان العطار يقول ويكتب آنذاك: نحن في هذه الأيام نعيش سكرة مجانية عامة، خمر مجاني، في بلد أضحى حانة للثوريين، يقدم خمرتها لهم بكؤوس من الجماجم، والثمن الحقيقي سيدفع لاحقاً، ليس في داخل الحانة بل خارجها. الحزب الشيوعي يقيس حجمه بعدد الناس الملتفين حوله، لا بحقيقة فكرته وشعاراته، ما سيبقى منها على أرض ملتهبة، لم يكن يريد أن يقر أن ما سيبقى من فكرته الهائلة هو ما يمكن أن يبقى من جبل ثلج وضعته في صيف بغداد، وهجيره اللافح، هذا ما كان يقوله العطار دائماً، جروا الكثيرين على طريق اللهيب والثلج، لعبة الحديد الأحمر المحمي، والماء البارد، وقعت كوارث، ومذابح، رجال ونساء تحطموا في السجون وفي المنافي في مسيرة طويلة صاخبة، أليس من حق بعضهم أن يقف ويسأل عن حقيقة ما جرى وينقض عليه صوت السكرتير:

ـ صرت مع أعدائنا تنتقد الحزب!

وينتفض بوجهه:

ـ ما دام الأعداء ينتقدون الحزب، فيجب على الناس أن يمدحوه، ما هذه المعادلة؟

أحس بوحشة وهو ينأى بخطواته، عاد للتجمع دون أن يدخل السرادق. بدا الرجال الكرد وكأنهم ليسوا أمام مقبرة، وهم يمضون بتعليقات، ونكات مرحة وقهقهات، كان يعرف حبهم للمزاح والضحك حتى في الظروف الصعبة، وكأنه تكيف غريزي أمام أخطار مستديمة، تداهمهم، أو يداهمون بها غيرهم! شاركهم ضحكهم بابتسامة صامتة، ثمة غموض يشغله، هؤلاء ممثلو أحزاب كردية، قتل لهم كثيرون في حروبهم مع السلطة، وفي حروبهم مع بعضهم، وفقدوا عشرات الآلاف من أبنائهم وأخوتهم، لا يدري كم من الألم والذنب في أعماقهم حيالهم، هم اليوم يقفون على أرض كبيرة استطاعوا انتزاعها حقاً أو باطلاً، نهائياً أو مؤقتاً، لديهم شبه دولة وحياتهم الخاصة، وتنظيماتهم الكبيرة المسلحة بالبنادق والشعارات الممتدة من ذرى الجبال حتى دماء أتباعهم التي عرفوا كيف يبقونها في حالة غليان قومي دائم، ربما لا وقت للحزن لديهم، فأرضهم لا تزال معلقة بأجنحة الطائرات الأمريكية، لا يدرون أيتخلى الأمريكان عنهم؛ فيهوون إلى أعماق الوديان السحيقة، أم يفون بوعودهم فيبقون واقفين على الأرض، وآنذاك يسورون قبوراً شهدائهم، أو يبحثون عنها في المقابر المجهولة حيث غيب الآلاف من الكرد في أماكن مختلفة . حزبنا هنا ضيف ثقيل يشتم طائرات الأمريكان، وينعم بظلال أجنحتها الوارفة، يفتتح تحتها مقبرة للشهداء، ماذا لو انسحب الأمريكان أو الكرد؟ طبعاً ستستلم جرافات السلطة قبورهم، لو بقيت قبورهم شاردة نافرة كغزلان وطيور في البراري؟ خرج من اشتباكه مع نفسه وأفكاره حين جاء مجموعة شبان وفتيات يحملون لافتات قماش بيض وحمر طويلة خطت عليها بحروف كبيرة عبارات: "حزب الشهداء، على طريق الشهداء " " استشهدوا ليعيش الوطن سعيداً " "نعاهد الشهداء؛ أننا على العهد ماضون " "قروا عيناً، النصر حليفنا" "كلنا مشاريع استشهاد" "الشهيد؛ أفضلنا جميعاً" " لكم المجد؛ عبدتم طريق الحياة بأجسادكم ودمائكم" "زهورنا الحمراء التي سقيتموها بدمائكم؛ لن تذبل، ولن تموت" " دماؤكم زيت لقاطرة المستقبل" ثمة شبان وفتيات يحملون أكاليل وباقات ورود، موسيقيون يعدون أوتارهم ودنابكهم وصناجاتهم، بينما البعض يتنحنح ويتجشأ ويسعل منظفاً رئتيه وحنجرته استعداداً للمنازلة بالغناء، أو الهتاف والخطابة، أعدو لها الكثير كالعادة! تذكر يونس كيف إن السكرتير حمه سور كان يفاخر دائماً بكلمات قالها له صدام بعد خروجه من احتفال في عيد الحزب في بغداد في عز شهر العسل الجبهوي، حضر على ما يبدو فقط ليقول له "رغم أننا نمتلك الإذاعة والتلفزيون لكننا نعترف لكم أنكم أفضل منا في الأغاني والأناشيد والرقصات، وإعداد الاحتفالات" لم يدرك السكرتير أن هذه سخرية مريرة منه، ومن الحزب،(احتفالات وهتافات وشعارات، هذا ما تجيدونه، انتم فقط كلام وأغان وموسيقى وأناشيد، ولا شيء غير ذلك) هذا ما أراد قوله لهم، بينما السكرتير وجماعته انتشوا بها حتى أن أحدهم قال :

ـ البعث يستقدم فرق غناء ورقص من لبنان ومصر وموسكو، ومع ذلك تبقى احتفالاته أدنى مستوى من احتفالاتنا!

مصير البلاد أضحى مباراة بين الحزبين المتحالفين على الأغاني الرديئة! واليوم يدوخون بها رؤوس الشهداء، بعد أن استراحوا منها سنوات تحت التراب. أدهشه الشريط الأحمر ممتداً بين عمودي باب المقبرة منتظراً مقص قائد الحزب، إذاً هو لم يكن شطحة خيال من الشاب الذي بلغه الدعوة. بدا الشريط وتر قوس ما يزال مشدوداً، رغم أن سهمه كان قد انطلق منذ زمن بعيد، ليته أصاب الرمال وحسب، أصاب معها قلوب الكثيرين، فلذات أكبادهم ومصائرهم ! بعض الشبان يحملون كاميرات فديو، وآلات تصوير أخرى، ويأخذ مواضع دقيقة منتظراً قدوم السكرتير!

(10) شهداء طاروا كالحمام، يقتنصونهم اليوم من نوافذ القوميات، والأديان والطوائف!

 

راح يونس يجيل نظراته، عيناه رغم الوهن والشيخوخة وظلمات الزنازين القديمة تدوران في محجريهما بحدة. المقبرة تمتد واسعة رحبة تصل صفوف قبورها ذات الشواهد البيضاء حتى أذيال الجبل، وتتسلق في حضنه مدارجاً متعرجة، ثم تختفي وكأن ضباباً أو عتمة حزينة تبتلعها أو تحلق بها، أو عادت بها مرغمة للتو من فضاء بعيد! عاد يحدق بالشريط الأحمر ذي السنجاف الذهبي. ثمة شاب وفتاة بملابس احتفالية يقفان أمامه، قالت الفتاة برقة وهي تشير لجمهرة المنتظرين:

ـ سيأتي الرفيق السكرتير قريباً!

ابتعد عنها، وقف عند حافة السياج، راح يطل على القبور الهاجعة، أحس إن لا مبالاتها هي هذا اللمعان الساطع من صخورها. قدر أن القبور المبعثرة كانت هنا في هذا المكان، والقبور المنتظمة بصفوف نقلت رفاتها من أماكن أخرى، هكذا نظموا المقبرة، بينما كان الشهداء ينظمون قبورهم بطريقة أخرى، ليس من الضروري أن نفهمها! لماذا تدخلوا بها؟ لم يدهشه تأخر السكرتير الرفيق راضي سعيد فهو يعرفه منذ شبابه في الحزب محباً للظهور والفخفخة متعلقاً بنزعات وتطلعات لقادة في الحزب تسربت إليهم من معاشرتهم لفترة طويلة رفاقهم في الأحزاب الشيوعية الحاكمة، وقد تشبع بتقاليدها وممارساتها أيام الدراسة في معاهدهم التربوية أو الحزبية! وهي مهما اختلفت تبعاً لخصالها القومية لكنها تظل تشترك بالأبهة والتعالي والغطرسة، مع حديثها عن التواضع الثوري وتمثيلها للكادحين والمعدمين، أضافوا لها في العراق ما اكتسبوه من طبائع وعادات مبتذلة في مخالطتهم لأعضاء في حزب البعث الحاكم، حين عملوا معهم حلفاء لهم. أو عبر مشاهدتهم في التلفزيون. سأل نفسه: هل هو متحامل على السكرتير الحالي وطاقمه القيادي، رغم إن ليس هو الذي دبر وصمه بالخيانة وعزله؟ ربما هو كان مشاركاً لهم، هذا لا يهم، لكنه جاء بصفقة مساومات للإبقاء على كل شيء كما كان، افلت السكرتير السابق وكمتار بيس، من أية حساب، أو تصفية لركائزهم ومصالحهم، أو مراجعة لسجلهم، لم يحدث في الحزب أي تغيير، تسلم السكرتير الحالي عربته صدئة مخلعة بلا بوصلة، وأبقاها كذلك، المهم أن يجلس وراء المقود.

(11) جلبة تبدد نعاس الشهداء!

تقدم من يونس رجل كردي من حزب البارزاني، كان يعرفه منذ فترة طويلة، سلم عليه بحرارة، لا يدري لماذا شعر يونس أنها مفتعلة، كان قصيراً، أعجف، وقف بجانبه، قال وهو يحاول السيطرة على أنفاسه:

ـ أسمعت؟ هنا محمد البيرماني!

كاد يونس يقول له "كان عندي البارحة" لكنه توقف لائماً نفسه، كفاك تبسطاً، حيث لا تفهم، أو يساء فهمك عمداً، استمر الرجل:
ـ لديه عرض مغر من بغداد، فصدام يعتقد أننا أصبحنا حلفاء أمريكا، وأصدقاءها المؤثرين عليها، عرض علينا أن يلبي مطلبنا، ويتنازل لنا عن كركوك؛ مقابل أن نقنع الإدارة الأمريكية بفك عزلته! خطر ليونس إن صدام رغم زجه البلاد في حروب؛ أدت أن يفقد بها الكثير من أرضه، وهو مستعد لتنازلات كثيرة من أجل أن يبقى في السلطة، لكنه لن يصل في التهاون إلى حد التنازل عن مدينة تقع في قلب العراق، وتضم سكاناً هم خليط من قوميات وأديان مختلفة. هذا الرجل يروج لأحلامهم وطموحاتهم . قال محاولاً معرفة مقصده:

ـ لا أعتقد أن القادة الكرد يتخلون عن شعارهم الوطني (الديمقراطية للعراق، والحكم الذاتي لكردستان)

قالها رغم معرفته إن هذا ليس سوى شعار عابر لدى قادة الكرد، تلاحقت أنفاس الرجل:

ـ اعتقد أن مصالحنا الآن تقتضي أن نؤمن حدود كردستان، ثم نناضل من أجل الديمقراطية!

صمت يونس متفكراً، وهل يعرف أحد أين تقف حدود كردستان؟ خرائط القادة القوميين الكرد تقول أنها تضرب في شواطئ الفاو جنوباً ملتهمة في طريقها نصف بغداد والجنوب، قال يونس:

ـ وهل تثقون بصدام؟

مال الرجل عليه، وجهه كان يفيض بفرح صبياني رغم الشيب الكثيف على حاجبيه:

ـ لقد تغيرت أشياء كثيرة، أقام صدام معنا علاقات طيبة جداً، بأذني سمعت كاكا مسعود يقول: أن صدام أبونا جميعاً!‍

أضاف وهو يتحرك بعيداً عنه:

ـ سيحضر محمد البيرماني إلى هنا، هكذا عرفت!

تطلع يونس خلفه متمتماً؟ ما هذا الذي يحدث؟ رغم كل ما أعرف، يبدو إنني لا أعرف! وعاد لذهوله. وجد نفسه يفكر مرة أخرى بالبيرماني، يبدو أن السكرتير راضي سعيد في لقاءات طويلة معه، منخرطاً بلعبة التسريب والإشاعات أو اللعب بالوقائع، والأنصار المساكين منهمكون وراء الجبال بقتال الجيش، السادر أيضاً بحروب، أو هدنات أخرى. الجميع ليس لديه شيء غير ذلك، لا شيء يسر القلب. ولكن ألا يدرك السكرتير أنه بدعوته البيرماني إلى هنا يؤذي الشهداء؟ يجرح مشاعر أهلهم؟ أتراه بذلك يمهد لإعادة التحالف مع صدام؟

لا أريد أن التقي البيرماني ثانية، هو مهما أسقطت عنه من قضايا تثار حوله، مهما أهلت عليه من ذهب الذكريات الجميلة التي جمعتنا في أزهى سنوات العمر، يظل مبعوث رجل طائش، خرب الوطن وكل شيء، حتى حزبه نفسه، والسكرتير مهما أسقطت من علاقاته الخفية مع السلطة، فإن جلبه له إلى مقبرة الشهداء يعني تبرئته القاتل من دم قتلاه.

جر يونس قدميه المكدودتين باتجاه جدار المقبرة الأمامي المبني بالحجر الجيري الأبيض. ود لو يدخل المقبرة لوحده يطوف قبور رفاقه. ينحني على الشواهد يتهجى أسماءهم ويتذكر وجوههم، ابتساماتهم، أيام نضالهم ومراحهم في سوح الجبال، يستذكر نكاتهم، تعليقاتهم، شتائمهم لكل شيء، حتى قيادة الحزب وشعاراته ومقدساته! الوقائع التي استشهدوا بها بعيداً عن الصخب والضجيج والأبواق والمزامير! تخيل قبور ابنه وحفيديه بينها، لسع إذ أحس أنه يميزهم. ود أن يلمس القبور كما كان يربت على أكتاف أصحابها وأيديهم، ورغم إنه أحس أن المقبرة اصطناعية، لعبة سياسية، ولا تمت لتلك المقابر التي صنعها الشهداء لأنفسهم، بعفويتهم في سفوح الجبال، فهي الآن مغلقة بالشريط الأحمر، ولا يجوز لأحد أن يدخلها قبل السكرتير، وضيوفه، هل سيدخلها البريماني معه؟ طبعاً، وإلا لماذا دعاه؟ سيقول إنه يريد أن يعيد البيرماني إلى صوابه وضميره، ألم يكن هو رفيقنا؟ عمل في الحزب وضحى سنوات وسنوات. نعم هذا صحيح ولكن لكل شيء مكان حسابه، ولا تخلط السكر بالملح، سيقول ربما هو سينقل لسيده في القصر صورة عن عظمة هذه المقبرة. هذا كله هراء، ومن يستطيع أن يقنع السكرتير بشيء، هو وحده من يرتب وقائع الحفل ومباهجه أن أرادوه وجودها، السكرتير الآن ولي أمر الشهداء، هو من جعلهم يولدون، يصنعون ثانية في مقبرته، هو قائدهم، وحدهم بأب واحد، هو نفسه، أنساهم آباءهم الحقيقيين، لم يعد لدموعهم وحسراتهم معنى، فقط حين يقص شريط المقبرة يصير هؤلاء الموتى شهداء، قبل هذا هم مجرد رفات ذائبة في الأرض!

ابني الذي قتل في الحرب مع إيران لم تحتسبه السلطة من الشهداء، لم يأتوا بجثمانه ليدفن بين قبور عائلته. دفن في إحدى القبور الجماعية التي كانت تحفرها البلدوزرات الضخمة في الحرب، مئات الآلاف من الجنود قتلوا في الحرب، أين قبورهم الآن؟ يقولون إنهم ما يزالون هائمين في الصحاري وعلى ضفاف الأنهار، وفي مجاهل الأهوار، والخلجان البحرية، يأتون في الليالي بثياب مهلهلة، يقرعون أبواب الأهل والأصدقاء ومقرات الأحزاب المتسلطة، والمهجورة ويسألون عن أهليهم وأطفالهم وأحبتهم، الشهداء هم الذين يذكرون الأحياء ويعانون من أجلهم، الأحياء أنهكهم الجوع والإرهاب ودخلوا مرحلة الغيبوبة عن ذكريات الأموات والأحياء، قال لي سائق تكسي جلب لي رسالة من ابنتي في بغداد " ثمة عوائل يتذكرون المنفيين في الخارج؛ لأنهم يرسلون لهم دولارات، هم لا يتذكرون الشهداء؛ لأنهم ليس لديهم دولارات!" تلك هي الحياة! الشهداء تقاطروا من كل جهات العالم، بانتظار سكرتير الحزب ليقص الشريط الأحمر ويمنح كل منهم (شهادة ميلاد شهيد)!

اختلج جسد يونس، غامت نظراته، كفكف دمعه، وعاد يتأمل القبور بهدوء، لاح له جانب منها وقد برزت فيه صلبان حجرية، الآن برزت تصنيفات للقبور حسب الديانة، عندما كانوا مدفونين في شعاب الأرض، كانوا يشعرون أنهم روح واحدة، يقتسمون العيش والمصير، ولا يسأل أي منهم الآخر عن دينه، أو طائفته، أو عرقه وقوميته؛ إلا ما تشف به اللهجة، أو الكلام العفوي. حين يستشهد أحدهم ويكون هناك متسع من الوقت، يرتبك رفاقه، وهم يسألون عن دينه أو مذهبه لدفنه؛ وفق طقوس وشعائر عائلته. كنت أتصوره لو نهض من موته؛ يرفض أن يسأل له عن دين أو مذهب، فهو اخترق المعابد والثكنات والمصارف، إلى حريته العظمى! كنا نصمت،كأننا نقول، لقد تعبت روح الرفيق من الطيران في العاصفة، والآن تأوي لحضن سماوي غامض دافئ! كنا ندفنهم متجاورين: المسلم والمسيحي والمندائي واليزيدي والكردي والعربي والتركماني ونقول، لقد ذاقت هذه الأرض من قوس قزح الناس، أكثر من قوس قزح الغيوم؟ وارتشفت من قلوب ألوان البشر والطيور والزهور! هل يمكن أن يأتي يوم تتعرف فيه على إنسان دون آخر، زهرة دون أخرى؟

(12) التزموا الهدوء! السكرتير، وضيوفه قادمون!

سمع جلبة تقترب وتتوقف، رأى سيارة سوداء تتوقف مثيرة غباراً، ثمة شاب بثياب أنيقة، يفتح بابها بانحناءة،هبط منها السكرتير متمهلاً، سار بخيلاء ومسحة حزن على وجهه بدت ليونس مفتعلة، فهو لا ينسى ضحكاته البلهاء في مواقف تقتضي البكاء، حف به أعضاء من قيادته؛ كانوا ينتظرونه مع حرس ومرافقين، تقدم منه مرحبين رجال ونساء من ممثلي الأحزاب والمنظمات. توقفت سيارة أخرى سوداء فخمة، نزل منها محمد البيرماني، أحاط به حرسه مرتدين ملابس كردية تقليدية، شاب بملابس مدنية وجسم رياضيي ووجه كالح ورأس حليق يلمع مثل كرة، يضع على عينيه نظارة سوداء غامقة يقف وراءه. تذكر يونس إنه لم يكن معه حين زاره، أشاح يونس عن السكرتير حين صار قبالته، سابقاً لم يكن يهتم لكونه الأكبر سناً والأطول نضالاً، كان يبادر للسلام والحديث مع الأصغر منه سناً والأقل درجة حزبية، ويولي السكرتير احترامه وحفاوته. اليوم يحسب كل شيء، ويقابلهم بجفاء، معتزاً بكرامته، وموقفه، ولكي لا يفسر تبسطه معهم إنه يتوسل عطفهم. ظل يبادر بالسلام على من هم في القيادة ويعرف أنهم طيبون، ولكن لا قوة ولا تأثير لهم في سياسة الحزب، ويأخذ عليهم أنهم ساكتون وراضون بنصيبهم! ولا يتقرب منهم أكثر من ذلك! فلا يحرجهم ويعرضهم للمساءلة، ولا يرفض من يبادر لتحيته بما فيهم السكرتير "تلك مرونة وثقة في النفس لا أريد التفريط بهما، مارستهما في صراعات حقب طويلة من النضال" لم يتحرك من مكانه، قرر أن لا يقترب من البيرماني، وان يصد عنه حتى لو تقدم إليه. رأى كثيرين يقبلون عليه مصافحين مرحبين ضامين أيديهم إلى صدورهم، بعضهم راح يعانقه فيقف هو متحصناً ببروده المعتاد. رأى آخرين يتهامسون، سمع من يقول (مبعوثه هنا، هل هذا معقول؟) رأى بعضهم ينسل تاركاً الحفل، السكرتير راضي يصافح من يتقدم إليه، يعانق بعضهم متبادلاً صيحات الاستبشار والضحكات الخافتة، والعالية! راح يونس يدير بصره على الوجوه، يريد أن يعرف هل حضر السكرتير السابق حمه سور، لو كان هنا لكان بجانب راضي والبيرماني ومع ذلك دار يونس ببصره بين الحاضرين باحثاً عنه، لم يجده. في عهده سقط آلاف الرفاق شهداء، لا أريد أن أقول إنه هو وحده المسؤول عن ذلك، فأنا أيضاً مسؤول، ولكن الرجل الأول في الحزب يوجه له سؤال آخر، هو الآن لا يريد أن يكون هنا فيواجه السؤال من عيون أمهات وآباء الشهداء. هو على ما يبدو يريد أن ينسى كل شيء، ألقى البدلة البروليتارية الزرقاء جانباً،وارتدى شرواله الكردي، الآن كما قيل يعالج من مرضه العضال، في بيته الكبير الذي منحه له قادة الكرد، لقاء خدمات حزبه؛ لقضيتهم القومية!

(13) لا تنكروا بيدر القمح المنخور؛ فهذا بذارنا وحصادنا جميعاً!

ثمة مظاهر حداد، ممزوجة بمظاهر بهجة وسرور، على وجوه منظمي الحفل، همس يونس لنفسه: لو لم نكن في موقف ملتو، لقلت لابد من إبداء القوة في حومة الموت، ذلك سر الصراع الأبدي، كنه الروح المصرة على البقاء في وجود صعب، لكنهم قلبوا المواقف؛ فلم يعد للشيء معناه. رأى السكرتير يتبختر بزهو من أدى واجبه كاملاً نحو الشهداء! لو كان العطار هنا لتذكر ما كتبه في إحدى رواياته (تنوء صدور الجنرالات بالأوسمة، تنوء صدور الجنود بدود القبور، وصدور الأمهات بالحسرات، هل هذه قسمة عادلة؟ مضى زمن الكلمات الضخمة يا جلال) حاول أن يصرف انتباهه بتأمل مقرنصات الإطار الرخامي لباب المقبرة المزخرفة عليه أوراق شجر وزهور، علا الضجيج،فما أن خطى السكرتير وبجانبه البيرماني وعدد من الأعضاء القياديين في الحزب باتجاه باب المقبرة حتى تعالت هتافات، وانطلقت زغاريد نسوة، يستعدن الزغاريد التي تطلقها النساء العراقيات عند تشيع جنازات الشبان غير المتزوجين، فيحولن الجنازة عرساً يزف به الشاب لحورية من الجنة. انبعثت من الآلات نغمات حاولت أن تكون لحناً جنائزياً. كان السكرتير قد رأى يونس، وتظاهر إنه لم يره، أراد منه أن يتقدم للسلام عليه، ظل يتلفت لا يريده أن يغيب عن نظره، لكي يتجه إليه مسلماً إذا يأس من مبادرته، هو يعرف عناده، تمنى لو تكون العزلة التي أحكموها عليه قد ألانت رأسه! سار باتجاه المقبرة متظاهراً إنه لا يراه، سار ونظرته مرفوعة إلى الأفق لكنها ترقب يونس، رآه يستدير ليذهب بعيداً، فاندفع نحوه فاتحاً ذراعيه يعانقه " لماذا يا رفيقنا العزيز؟ أهكذا تنقطع عنا فلا تزورنا وتحرمنا من لقاك"

راح يونس يرد عليه بهدوء وتعال : " أنا؟ " ولم يشأ أن يبد أي احتجاج أو استنكار أو عتب أو رفض. راح يرد على أسئلته عن صحته وحاله:

ـ كل شيء جيد!

وجد أن هذا أقصى ما يستطيع قوله، وهما جنب القبور، لم يشأ مناقشته بقضية المقبرة فالأمر قد حدث، وهو الآن في لجته، ولم يشأ ان يناقشه في طوق الحصار المضروب حوله، فالأمر قديم وهو يعيشه بكبرياء، ولا يليق بهذه اللحظات سوى الصمت. كل ما كان قد حضره في ذهنه وأراد قوله، وجده الآن غير مناسب، لا شيء سوى الصمت، الصمت دائماً! هكذا مضت الحكاية كلها منذ زمن طويل! أحاط بهما الجمع وبدا البعض مستغرباً أو متفكراً وأخرجت آلة موسيقية نغمة غير مقصودة، عدها يونس أنة أو صرخة مكتومة! تذكر أن كثيراً من الشهداء كانوا نزقين، أصحاب أراء ومواقف حادة، شكاءون، اعتراضيون، متبرمون، متمردون! اغتنم التفاتة من السكرتير لأحد الضيوف، فانسل من أمامه بخفة واختلط بالجمع. لمح أن البيرماني قد رآه جيداً، لم يتقدم إليه، حسناً فعل، أدرك إنني لا أرغب في لقائه، ليس بسبب ما حدث يوم أمس، هو يعرف مزاجي :استقبلته صديقاً قديماً، وأبلغته رأيي بما عرض علي، وانتهى كل شيء، لم الإطالة؟ سمع يونس السكرتير يقول :"قبور الشهداء هي رحم المستقبل " فأحس بقشعريرة، ما هذا التعبير البشع؟ عاد يرقب ما يجري متحفزاً، قال في نفسه إذا دعاه السكرتير للوقوف إلى جنبه فسيصده، ويفجر غضبه في وجهه،" أتمنى أن لا يحدث ذلك فالمناسبة هي للشهداء الذين أحببتهم وبكيتهم في ليالي الطويلة، ولا ينبغي أن أخدش أي أمر يتعلق بهم، هنا أهلهم وذووهم ويصعب إيضاح الأمر لهم. ينبغي أن أتنحى جانباً، أرقب الحفل من بعيد، أجوس في المقبرة خلف الحشد، ربما أتخلف بعد ذهاب الجميع لأتجول بين قبورهم أتحدث معهم، عل صاحب السيارة يوافق أن يمر علي بعد ساعة، أو أكثر ليعيدني إلى البيت، وإذا لم يكن ذلك ممكناً؛ أستطيع أن قف على الطريق، وأجد واسطة نقل إلى البيت. أو إلى وسط المدينة. أحاول أن استعيد قدرتي على صعود القلعة مشياً، .فهذا الخمول يكاد يقتلني.

(14) لير المقيمون في المنافي المظلمة، الحزب مستلقياً على ظهره في الربوع المشمسة!

اصطف الحشد أمام المنصة التي أقيمت أمام باب المقبرة محاطة بسنادين الورد، ارتفع صوت عريف الحفل بكلمة شرقت وغربت حول الشهداء أنهاها قائلاً :

ـ يتفضل الرفيق السكرتير بإلقاء كلمته القيمة!

وقف وراء المنصة الخشبية البنية الصقيلة متطلعاً بوجوه الحاضرين!

ثمة شاب يحمل كاميرا فيديو وقف بها أمامه مركزاً عدستها عليه، وآخر أتي من الخلف مسرعاً، كاد يصطدم بيونس حاملاً كاميرا أصغر يقول لزميل له يحمل أسلاكاً وأدوات:

-         ـ لا تنس،اظهر الأسماء على شواهد القبور، ستوزع أشرطة الفيديو،منظمات الخارج!

-         لم يدهش يونس، أن توزع أشرطة افتتاح المقبرة في الخارج كمنجزات عجيبة، يدعو العراقيون معارفهم من الأجانب لرؤيتها، أو مقارنتها بما لديهم حدائق ومصانع!

سمع صوتاً يوهوه في الريح خلفه فتلفت مصغياً، كأنه يخرج من احتكاك شاهدة قبر، بشاهدة أخرى، صوت طير عابر حط مستوحشاً :

ـ المنفيون نصف موتى فوق الأرض، يتعرفون على رفاقهم نصف الموتى تحت الأرض، هكذا يتوازن الوطن!

عاد الضجيج فأحس بوحشة، هل روع الطير فحلق بعيداً، لكن الصوت جاء مرة أخرى:

ـ صوروا جيداً! اضبطوا الألوان! لير المقيمون في المنافي المظلمة، الحزب مستلقياً على ظهره في الربوع المشمسة!

في اجتماع للمكتب السياسي عقدناه بعد خروجنا الأخير من الوطن، ثمة أعضاء بيننا كانوا واجمين عصبيين يكثرون من التدخين، تحدث عضو المكتب المسؤول عن تنظيمات الخارج، عن ظاهرة تخلي رفاق وأصدقاء لنا في الخارج عن الحزب وانشغالاته، بعضهم صار يختلف معه، وينتقده ويسفه أفكاره ومسيرته ويختط لنفسه طريقاً آخر، منصرفاً لحياته الخاصة. قال أحدهم بغضب وعلى وجهه اشمئزاز وازدراء:

ـ صارت مغريات الخارج تجتذب البعض للثروة والملذات، ليذهب أدعياء النضال، قصيرو النفس هؤلاء إلى الجحيم!

رد عضو قديم بهدوء :

ـ الناس ظلوا لأكثر من نصف قرن يتطلعون بأمل إلى الحزب، وناضلوا معنا بنزاهة ومشقة حتى ابتلعتهم المنافي، ماذا نريد منهم أكثر ذلك؟

رد عليه العضو الغاضب:

ـ نصف قرن ليست فترة طويلة في حياة الشعوب!

ـ ولكن نصف قرن تكفي لمعرفة ما هو ممكن، وما هو غير ممكن!

انبرى له عضو آخر، كهل أقرب للشيخوخة، كردي، يقول أنه مهندس، لكنه لم يمسك أداة رسم هندسي في حياته، يتظاهر بالتقشف فهو رث الثياب خشن الملامح، عرف بجموده وثقل دمه، والكثيرون يتحاشونه لفظاظته وغبائه قال :

ـ أعظم خصال حزبنا أنه طويل النفس!

قلت وقد اعتراني غضب كنت أجاهد لكبحه كي لا ينفجر:

ـ هل الحزب غواص في البحر؟ هاوي اكتشاف كهوف وآبار؟ أم هو مجموعة بشر، لديهم رئات وخلايا، أعصاب وأعمار محدودة!

كان السكرتير يرقب النقاش، ومن الواضح في نظراته أنه منسجم مع رفاقه الغاضبين على المتخلين عن الركب، تدخل حاسماً النقاش منقضاً على الرفيق مقترح مناقشة قضيتهم :

ـ رفيق أنت تبدد وقت اجتماع المكتب السياسي بقضايا ثانوية!

ـ الحزب يصغر، والمنافي الآن تكبر، وثمة مشاكل وصراعات وتمزقات كثيرة تحدث، كل يوم، هل هذه قضية ثانوية؟

قال بجفاء وحدة ملتفتاً إلي :

ـ لدينا قضايا أهم، أنت دائما تسفه قراراتنا ونظرتنا الهادئة!

ـ دائماً لديك قضايا أهم، ولكن لم نر منجزاً هاماً!

أشاح عني بعجرفته المعهودة، وبهروبه من المواجهة حين تصير جادة وحقيقية ودامغة!

في تلك الأيام كانوا يحضرون لإخراجي من المكتب السياسي، ربما هي إحدى القضايا الأهم لديهم، فأنا طيلة تلك السنوات لم أر قضية هامة واحدة قد أنجزت من هذا المكتب الذي كان قد أحيط بهالة سلطوية،مرعبة ومقدسة أيضاً!

-         أحس يونس بنبضه يتسارع، وبأنفاسه تتقطع ولم يقلق على وضعه، يعرف إنه مغتم لما يجري، ويود لو يستطيع أن يفكر أعمق وأبعد دون أن يفقد انتباهه لما يجري أمامه.

-         عاد الصوت يختلج في الريح، أهو صوت السكرتير هذه المرة، ولا يسمعه سوى يونس:

ـ اكتبوا للمنفيين على أشرطة الفيديو " تبرعوا من أجل كفاحنا المسلح، لا تصدقوا من يقول لكم أن أنصارنا يقاتلون، ولا يجدون من طعام سوى حساء فيه حصى أكثر من حبات العدس! ثم حين يموتون ندفنهم في قبور كبيرة ونتاجر بها، يصفها شعراؤهم: نجوم هوت تلثم الأرض، تذكر يونس أن أحد رجال السلطة قال عن قتلى حروبهم: لقد أتعبنا هؤلاء القتلى، لا نريد أن تصير قبورهم بثوراً في وجه وطننا الجميل، أنهم نجوم في سمائنا! لم يكن ذلك مجرد سوء تعبير، كانوا يتخلصون من قبورهم فعلاً: لم يعودوا يجلبون جثامينهم إلى ذويهم، بذلك يكسبون الصمت أيضاً، صاروا يدفنونهم في حفر كبير كالأغنام النافقة في وباء، ويسوون الأرض فوقهم، كانت البلدوزرات الهائلة المستوردة من ألمانيا لا تشبع من التهام جثث قتلى الحرب! أحس يونس كأن ثمة مباراة بين السلطة، والمعارضة في اللعب بالشهداء،ثم التخلص منهم بخلطهم بالنجوم، أو الشموس!

مضت برهة والسكرتير واقف يجيل بصره، هدر فجأة:

ـ لن أقول سوى أنكم أيها الشهداء أكرم منا جميعاً!

عبارة عتيقة، يرددها صدام كلما قتل آلاف الجنود في معارك فاشلة يخطط لها ويديرها من مخبئه، يقتلون، ومن يتراجع تتلقفه فرق الموت خلف الخطوط، ويوصم بالجبن. ويعود راضي يردد:

ـ حزبنا العظيم حزب الشهداء! دائما يجترح المعجزات، أهنئكم أيتها الرفيقات والرفاق بهذا الإنجاز التاريخي العظيم! العالم كله يرقب مقبرتنا، ويرى من يدخلها، ومن يخرج منها!

ما هذا الهراء؟ من يخرج منها؟ هل يقصد زوارها الآن؟ أم سكنتها الموتى؟ هل هي مجرد زلة لسان، أم هو يقصد أن له ولقيادته قدرة طرد الشهيد من المقبرة، وشموله بالنبذ والمحاصرة ووصمه بالخيانة، هي رسالة للأحياء، لنا سلطة على الأموات، فكيف عليكم؟ وهو الذي يعطي للشهداء حق الخروج من قبورهم لنزهة، أو لزيارة أهلهم، وأصدقائه في البلاد والمنافي.

قبل أن يترك المنصة تلكأ قليلاً، أحس بالمصور يقترب منه أكثر فوقف بوضعية جديدة فهي ستأخذ لغلاف مجلة، أو الصفحة الأولى في جريدتهم التي لا يقرأها حتى أعضاء الحزب!

عاد عريف الحفل إلى المنصة بصوت أوجع رأس يونس، اقترن بزعيق حاد لمكبرات الصوت، هو يتشاءم من عرفاء الاحتفالات، يتعجب كيف تتدفق الكلمات على ألسنتهم، متنافرة مختلطة لا يوحدها غير نبرة الرعد، سيل جارف يرفع في طريقه من الأرض أشياء كثيرة أي شيء يصادفه، كلام الناس، سدادات القناني، الدموع،الأوراق، الأوساخ، هم أحفاد خطباء الحماسة في حروب القبائل، ألسنتهم تصنع الانتصارات وتلغي الهزائم: نصب العريف الحفل قامته كرمح قديم قائلاً:

ـ الشاعر الكبير هاني الديواني، ابن الشاعر العظيم الراحل راشد الديواني الذي رافق حزبنا بكل انتصاراته وبطولاته، يلقي إحدى قصائده العصماء!

هز يونس رأسه بأسى، وهل من حفل للشيوعيين دون شاعر وقصيدة موزونة مقفاة؟ فرقة خيول وسيوف تنفلت من جيوش الفاتحين والغزاة القدامى؟ وللشاعر الديواني أو ولديه؟

برز الشاعر راشد الديواني الديواني عشرينات القرن الماضي، يمدح رجال العهد الملكي حيناً، ويهجوهم حيناً آخر؛ وفق حسابات خاصة يتقنها جيداً، بعد أن أغلقوا أبوابهم بوجهه، اتجه إلى المعارضة، تقلب بينها؛ حتى استقر مع الشيوعيين خاصة عندما برزوا قوة صاعدة بعد سقوط الملكية، ولكثرة تردد الدم في قصائده طالب خصومه ساخرين منه تعينه مديراً عاماً للمسالخ، أو لمصرف الدم لتهدأ نفسه الدموية. أفلح في أن يكون زبوناً جيداً للمصارف المالية، ومكاتب الطيران والسياحة، رغم ادعائه العوز دائماً؛ ليتلقى الهبات والمنح وجوائز المناسبات. له عشرون من الأبناء فتيان وفتيات من زوجات متعددات ظلوا كلهم سالمين معافين، بخدود متوردة وكروش ضخمة رغم كل ما تفجرت من حروب ومصائب، برز منهم شاعران. أكدا قاعدة أن الشعراء الدجالين كالطغاة يتناسلون ولا يغادرون الدنيا إلا بعد أن يخلفوا أمثالهم! الابن الأول هو هانئ الذي ينظم شعراً فصيحاً، والثاني: منتصر الذي ينظم الشعر الشعبي، وقد افلح في توريثهما كل عاداته السيئة: عطالته وتهالكه على المال والجنس والخمور كما أورث شعرهما كل عيوب شعره: قصائد مناسبات متكلفة فضفاضة طافحة بالمديح والذم والدعاية، والتهييج الدموي! ظل حتى وفاته عن عمر طويل مرافقاً للحزب في رحلات الشتاء والصيف، لا حباً به أو أيماناً بمبادئه، فهو يقول صراحة أنه لا يؤمن بها، إنما لأنه يوفر له ضيافة أبدية مفتوحة في الدول الاشتراكية، لا شاغل له فيها سوى الفتيات الصغيرات، والفودكا! كان الديواني يحث بقصائده الشباب على تلقي الرصاص بصدورهم، من أجل التمتع بالمجد في القبور، بعد أن ينتهي من قصيدته في ساحة أو شارع في بغداد يهرع إلى زاوية في بيت أو ملهى يجد فيها كأساً مترعة وراقصة وسجائر أجنبية فاخرة!

-         تقدم الشاعر هانئ إلى المنصة، تخيله يونس أباه راشد، بجسمه الطويل النحيف تعلو رأسه السدارة الفيصلية، يتكأكأ على المنصة مندفعاً كقذيفة منجنيقُ عتيق من جيش مهزوم، يشير بيديه الطويلتين كمجذافي قارب إلى القبور يريد شقها، هذه المرة جاء هانئ بقصيدة عمودية:

بهذي الجماجم نبني قلاعا يصير بها كل خير مشاعا

لهذي الجموع نرسي نظاماً يصير به كل أمر مطاعا

وجد يونس نفسه في مدينة الجماجم، بيوت، حدائق، طرقات أعمدة، كلها جماجم تحدق عيونها الفارغة في الناس حين يأكلون، يشربون، يعشقون، ينامون ويستيقظون، حمامات بحنفيات من الجماجم تسكب ماءً، دماً، كحولاً، دموعاً، تغتسل به الناس، تشربه، تطبخ به طعامها، تمتصه عروقها، عليها أن تتلقى ما تجود به هذه الجماجم وتصمت، وكم تحتاج هذه القلاع من الجماجم؟ يريدون النساء جاهزات يفرخن أكثر من الأرانب في الحقول! هل الديواني يقول هذراً أو هذياناً؟ أم هو ترديد لقانون قيد التنفيذ لقوى ثورية كثيرة، وفي نهج الشيوعيين هنا أيضا؟ سمعت صيحة، وتعالى صخب وضجيج، وصوت يقول:

ـ امرأة أغمى عليها!

نظر الديواني جهتها باعتداد، قصيدته تعطي مفعولها: إصابة أولى بين الجمهور، هدف رقم واحد يهز الشباك، ربما هي أم، أو أخت شهيد، مس قلب المرأة الواهي كالعادة صوت شاعر ساحر فأذابه كقطعة حلوى في فنجان قهوة، حقق الديواني نصره مقدماً‍‍‍!

حملوا المرأة وسمع صوت سيارة منطلقة، عاد يلقي قصيدته، ناظراً جهة القبور، لاحت في عينيه نظرة مشعة مبتهجة بنهم، فهذه القبور هي المائدة الشهية، البيدر العالي، رصيده المصرفي، والأسهم الآخذة بالصعود، كان الاستثمار جيداً، تعب والده كثيراً في صنع الشهداء، ثمة دائماً شعراء عصابيون نشيطون في صنع الشهداء، شرط أن لا يكونوا أبناءهم، يجدونها مهنتهم الأولى، يفخرون بها،ويتحدون من ينافسهم بالإنتاج! الشاعر هانئ يقول دوماً: ـ إنه مجد صنعه أبي وساهمت في زيادته وتحسينه، وسيستمر في صنعه أبني "محسد" الذي أخذت مواهبه تتفتح عن قصائد عمودية،وحرة طويلة! شلال الدم يتفجر وسيكون حوضاً للسباحة، يعيد للجسد عافيته وبشرته الناعمة، بدا الكثيرون مبهورين بهذه الكلمات المرصوفة كحلي مزيفة تبرق بيد بائع جوال، والديواني يتلفت مستغرباً: لماذا لا يغمى على امرأة أخرى؟، رجل، طفل، غراب، قطة ضالة؟

تقدم المصور وأخذ يلتقط صوراً له، رمقه بسرور فهي الصور التي يريدها بعد كل هذا المسار الطويل، وسيعلقها في صالون شقته في بيروت، أو الأخرى في لندن! وتنشرها صحيفة الحزب وربما صحف أخرى، وستقتطعها المناضلات المعجبات، ويعلقنها في غرف نومهن!

أعلن عريف الحفل عن بدء الحفل الفني،موسيقى وأغان كالعادة، انسل يونس بعيداً عن الجمهور. جلس عند سفح التل. أحس نفسه مرهقاً. كان يلهث. لا يدري كم مضى عليه هنا. سمع العريف يعلن: يتفضل قائد الحزب؛ لقص شريط مقبرة الشهداء!

نهض يونس مقترباً من الحشد. حرص أن يرى سلوك، وتصرفات السكرتير عن كثب!

(15) مقص يهرب من المقبرة؛ ليقص ثوب مولود جديد!

سار السكرتير باعتداد بجانبه البيرماني، بقامته اليابسة المتوترة، يسيران معاً في إيقاع تناغم فجأة باتجاه الشريط الأحمر ذي السنجاف الذهبي. ثمة فتاة كردية جميلة بثياب شعبية مزركشة موشحة بنقشات سود تحمل صينية مذهبة في وسطها منديل أحمر عليه علبة مقص سوداء، تقدمت من السكرتير مبتسمة وبانحناءة من رأسها مدت الصينية، وهمت بفتح علبة المقص، لكنه بحركة حازمة من يده أوقفها فجذبت الصينية، ووقفت ترنو إليه منتظرة إشارته. تحدث بشيء لأحد مرافقيه، فخف هذا وجذب برفق وهو يبتسم امرأتين مسنتين من بين المتجمهرين حولهم. كانتا قد تجاوزتا السبعين من عمريهما، إحداهما بثياب كردية سوداء عدا عصابة على الرأس تحمل لوناً زاهياً، والأخرى من الواضح أنها عربية وبثياب مدنية، وتبدو أقرب لموظفة أو مدرسة متقاعدة، وبثياب سوداء ووشاح خفيف على الرأس. كانتا حزينتين واجمتين وعيونهما الواسعات ذابلات من بكاء متحجر طويل، كانت المرأتان قد جرتا نفسيهما بعيداً عن الشريط، وقد شعرتا بثقل أن يكون بينهما وبين أبنائهما شريط وطقوس، لكن المرافقين عادوا ودفعوهما برفق وابتسامات مرتبكة إلى حيث يقف السكرتير أمام الشريط. حفت بهما فتيات صغيرات جئن بثياب بيض ذات حواش مزخرفة وهيئة ملائكة صنعت اجنحتهم من الورق الأبيض. شد السكرتير قامته المتوسطة الممتلئة، ورفع صوته قائلاً:

ـ اسمحوا لي أن أقدم لكم امرأتين عظيمتين قدمت كل واحدة منهما خمسة شهداء في مسيرة حزبنا المقدام، أطلب من إحداهما أن تقوم بقص الشريط،حيث ليس هناك أجدر من أم الشهيد تفتتح مقبرة الشهداء!

أشار إليهما بحركة من يدعو لمائدة لتتقدم واحدة منهما وتحمل المقص، راحت كل واحدة منهما تدعوا الأخرى لتقوم بذلك. قالت المرأة الكردية بعربية طليقة:

ـ أنت ضيفتنا، وأنت أجدر بقص الشريط!

كانت الأم العربية قد فقدت أربعة أبناء، وليس خمسة كما قال السكرتير زيادة في المبالغة، وكأن الأربعة شهداء قليلون، استشهدوا في كردستان بينما استشهد زوجها عندما اعتقلوه في بغداد ومات تحت التعذيب، كان معلماً معروفاً بشدة أيمانه بالشيوعية، وحرصه على تربية أولاده عليها، أضافت المرأة الكردية:

-         ـ أنت فقدت كل أبنائك مع زوجك، وأنا مازال لدي ثلاثة أبناء هم الآن رجال!

-         وأشارت إلى الجمع حيث يقفون.

لكن المرأة العربية ظلت تصر أن تقوم المرأة الكردية بقص الشريط وبدت خجلة محرجة، ومحطمة. أراد السكرتير أن يظهر كصاحب نكتة دائماً، فاجأ الجمع، قال مطلقاً ضحكة قصيرة:

ـ يبدو أن على أن أجري القرعة. لنرى على أي منهما سيقع الحظ فتنال شرف افتتاح هذه المقبرة العظيمة!

ظن كثير من الواقفين أن ما قاله مزاح وحسب، لكن يونس الذي يعرفه جيداً قال في نفسه " ما يزال على غبائه .. " راح السكرتير يبحث في جيبه مفكراً أنه سيبدو للحاضرين دقيقاً عادلاً وديمقراطياً، أخرج قطعة نقد معدنية كبيرة براقة، يبدو إنه كان قد وضعها في جيبه لهذه القضية، قال بصوت عال كساحر متمرس مشيراً إلى إحدى المرأتين:

ـ الصورة لك، والنقش لها!

ظلت المرأتان تبتسمان بحزن مستسلمتين رغم امتعاضهما، وإحساسهما بسخافة ما يقوم به، كانتا ضجرتين وتريدان الانتهاء من هذا الأمر التعيس بأي شكل.

أطلق السكرتير القطعة النقدية المعدنية في الهواء بحركة من كان لعبها كثيراً في صباه، أو في هذه الأيام. راحت القطعة تدور في الهواء وتلتمع في الضوء مثل حشرة بأجنحة فسفورية، تلقفها وأطبق يده الأخرى عليها، وفتحها واطل منها وجه صدام، ياللهول، هو هنا مرة أخرى؟ وعلى يد السكرتير؟ وفي هذا اليوم؟ وعند باب مقبرة الشهداء؟ ماذا يفعل هنا؟ قتلهم هناك، ألم يكفه ذلك؟ المهمة لم تكتمل بعد! أطل صدام جارحاً قلوب الأمهات بابتسامته البلهاء، ربما طائرة الأواكس أيضاً رأت وجهه يلتمع على يد السكرتير، نساء ثكالى تحجرت الدموع في مآقيهن وقلوبهن وينتظرن انتهاء لعبة سخيفة سمجة، لكن السكرتير، لم ير شيئاً من ذلك، سوى الصورة، ولتكن وجه صدام،ثم ماذا ؟ وهذا يعني أن قرعة قص الشريط قد وقعت على الأم الكردية، قال ضاحكاً مستبشراً:

-         ـ هيا يا رفيقة! وقعت عليك القرعة، تفضلي قصي الشريط!

حاولت مرة أخرى أن تهدي دورها للأم العربية، قائلة:

-         ـ أنت ضيفتنا، وأرجوك قصي الشريط!

-         لكن هذه جرت نفسها ولم تتمالك نفسها وراحت تبكي واضعة منديلها على وجهها، لم تعد تطيق أن ترى شيئاً، كانت تريد الانتهاء من هذا الأمر الآن وفوراً، وتدخل المقبرة وتقترب من قبور أبنائها الأربعة رغم أنها لم تكف عن زيارتهم مذ تسللت إلى كردستان قبل سنين، وأقامت هنا لتقضي ما تبقى من عمرها قريباً من قبورهم، بعد أن لم يتبق لها في بغداد سوى قبور زوجها وأهلها. التفتت الأم الكردية إلى البنت التي تحمل صينية المقص، ثمة مفاجئة أخرى تفجرت، لم تخطر على بال الفتاة الصغيرة المسكينة فحين فتحت علبة المقص شحب وجهها، وجدت العلبة فارغة!

-         كانت قد تعهدت بجلب المقص للحفل بصفتها عضوة في لجنة الاحتفال، وتذكرت أنها قبل خروجها من البيت طلبت منها أختها الحامل مقصاً؛ لتستعمله قليلاً في قص قماش حيث كانت تخيط ثوباً لوليدها الذي تنتظر قدومه بعد أيام، وقد خرجت من البيت مسرعة ناسية أن تستعيده، وربما المقص لم يزال بيد أختها تقص به ثياب الوليد الجديد، بينما الرفيق السكرتير يريده أن يؤدي به مهمة هنا بين القبور. نظر للفتاة شزراً قائلاً بلهجة مؤنبة:

ـ هذه لم تدبريها أيضاً!

صار يتلفت طالباً من مرافقيه أن يحضروا مقصاُ على الفور! لكي يذهب أحد إلى المدينة ويجلب المقص فإن ذلك يستغرق وقتاً، يبرد فيه الاحتفال. انهمك الشبان يدورون سائلين؛ إذا كان ثمة من يحمل مقصاً. راحوا يفتشون في محتويات سياراتهم وجدوا مقصات كبيرة جداً، تصلح لقص الحديد والمطاط لا لقص أشرطة رقيقة على أبواب المقابر. صاح بعضهم إن كان هناك من يحمل مقصاً. لزم الجميع الصمت، ومن هذا الذي يخطر على باله أن يأتي لمقبرة الشهداء حاملاً مقصاً؟ ماذا؟ أهو ذاهب لحفلة تنكرية تقص بها الذيول والقرون والشوارب؟ أم لحقل كروم لقص العناقيد الناضجة؟ لعل أحداً يحمل مقصاً من تلك التي تستعمل في تشذيب الشوارب، لكن هؤلاء عادة يخشون أن تستعمل في مهمة جنائزية فهي للأناقة والجمال والغزوات الغرامية! ومع ذلك فتش بعضهم في جيوبهم ولم يجد أحد منهم مقصاً، أو لم يكشف عن وجود مقص لديه! ما هذا المأزق الذي وضعنا السكرتير به عبر تعلقه وهوسه بمسألة قص الأشرطة؟ كان الرفيق يونس يرقب ما يجري وقد جف ريقه، ويجد صعوبة في تمالك نفسه، ملقياً خطبته داخل نفسه (ما هذا الهراء؟ أتعتقد أنك بهذا تقنع الأمهات؟ ماذا تضنهن؟ بائعات دجاج وخراف؟ حتى من تبيع خروفها أو دجاجتها يرتجف قلبها، ولا تتلفت لكي لا تراه يذبح؟ توقفون الأم لتقص شريط قبور أبنائها وهي التي حلمت أن تمسك مقصاً لتخيط ثياب أعراسهم وثياب أطفالهم! من يلومهن لو بصقن بوجوهكم؟ كل مزيتكم الآن، هو أن السلطة في بغداد الآن يقودها أوغاد، وأنذال لصوص، وقتلة) كان هو يعجب لماذا بلغ به الغضب هذا الحد ولم ينسحب، قر في نفسه أن عليه قضاء ما تبقى من عمره شاهداً يرى عن كثب ما يجري، خطر له أن المرأة الكردية التي يعرفها سيدة فاضلة حين وافقت على حمل المقص لقطع الشريط؛ كانت في الحقيقة تؤدي مهمة تعتقد أن أبناءها يطلبون الامتثال لها ما دامت بتكليف من حزبهم، ولكنها مازالت تنتظر المقص الذي اختفى بينما ضجت الأبواق والمزامير واللافتات والثياب الملائكية للصبايا وشريط باب المقبرة، بدا الشريط ليونس امتداداً لأشرطة كثيرة أخرى، حمراء دائماً، رسمت دروب الآلام ومنذ عهد بعيد! صاح أحد الحاضرين بصوت غاضب:

-         ـ هاتوا مقصاً، سكيناً، سيفاً، أنياب ذئب!

الرجل المجهول الذي انطلق صوته من الزحام كان في عمق اللجة المعذبة. معروف لدى يونس، إنه رفيق طيب قدم شهيدين من أبنائه الثلاثة، وهو الآن يقف على عكازة بعد أن فقد أحد ساقيه في هجوم شنه على موقعه أحد فصائل القيادة الكردية الحالية. يستطيع أن يسمع نبضه الغاضب عبر اللغط والضجيج.

عاد يونس يلقي خطبته كعادته على نفسه دون كلل، منعزلاً عن الحشد، عابراً الجماهير الواجمة المنتظرة،محدقاً بأكوام حجارة متناثرة : (لماذا إطالة الآلام؟ دعوا الأهل يلقون همومهم على كاهل الشهداء، دعوا الشهداء يلفظون أنفاسهم الأخيرة في أحضان أمهاتهم، لماذا تشنقونهم بأشرطتكم وشعاراتكم، افتحوا باب المقبرة على الفور) أفاق يونس على صيحة زاجرة غاضبة موجهة للسكرتير:

ـ اقطعه بأسنانك!

تلفت الجمع لم يعرف مطلق الصيحة، كأنها انبثقت من أحشاء الأرض، انطلقت ضحكات مكتومة، وعبارات مؤيدة وشامتة، والسكرتير يتظاهر أنه لم يسمع شيئاً!

(16) مقص من راعي الغنم، لراعي الجماهير!

انطلق أكثر من شاب هنا وهناك يبحثون عن مقص محدقين حتى في الحيوانات والعصافير العابرة علها صارت في هذه الأيام تحمل في رقابها مقصات! انطلق شاب إلى راع تمدد على الأرض بشرواله الفضفاض متوسداً كوعه بين قطيع من الغنم، انتشر يبحث عن الكلأ المتيبس في القيظ بين شجيرات السفح، سأله إن كان لديه مقص. كان هذا الشاب قدم من بغداد قبل سنوات، التحق مع أخيه بالفصائل المقاتلة، كان في مهمة في مكان آخر حين استشهد أخوه، ودفن دون أن يراه، والآن هو بلهفة للوقوف عند قبره، وقد أزعجته قضية هذا الشريط الذي يريد الآن مقصاً، ولعل المقص الآن عند الراعي. الرعاة يحملون المقص في مواسم جز الصوف، أو لقطع حبال الكباش الشرسة عند التلقيح، مقصات ضخمة بعض الشيء، تكلم معه بالعربية التي تتكسر كلماتها تحت أسنان الرعاة والفلاحين الكرد كما يتكسر تحتها الجوز والبلوط، ولكن عادة كلمات العرب لا تعطيهم ذلك اللب اللذيذ دائماً، سأل الراعي:

ـ بماذا تريد أن تستعمله؟

قال الشاب على عجل:

ـ سنقص به شريطاً صغيراً.

ضحك الراعي وقال :

-         ـ ماذا فعلت بكم المدينة؟ تعجزون عن قطع شريط قماش؟ ولا أدري بماذا تستعملون أصابعكم الناعمة؟

أضاف :

ـ كم شريط لديكم؟

رد الشاب بضجر وسرعة :

-         ـ شريط واحد، مقبرة واحدة!

لو فتش الراعي الكردي ذاكرته كلها حتى قبل نهوض الجبال في هذه الأرض، لما وجد ثمة علاقة بين المقبرة والأشرطة والمقص، إلا إذا كان الأمر يتعلق بسرقة الأكفان، وهذا ما استبعد حدوثه هنا، لذا فقد ظنه يمازحه فقال :

-         ـ إذا كانت لديكم أشرطة كثيرة فدعني أعيرك أكبر مقص عندي طوله حوالي المتر استعمله مع الأكباش، ويمكنكم أن تقصوا به حبالاً غليظة وأشرطة لألف سنة‍.

أحس الشاب بالرعب أن يظلوا لألف عام يقصون أشرطة وحبالاً على أبواب المقابر، ما هذه النذر المشؤومة التعيسة التي صار يزجه بها هذا الراعي الذي يريد أن يزجي وقته الطويل بالكلام؟ قال أريد مقصاً صغيراً، دهش الشاب حين أخرج له الراعي مقصاً جديداً وإن كان من معدن رديء، لكنه أقرب في حجمه لتلك المقصات التي يستعملها الرؤساء والوزراء في بغداد في قص الأشرطة عند افتتاح مشاريعهم في خطط التنمية المسماة بالخمسية والعشرية والانفجارية، والتي لا تنفذ عادة، أو تنفذ ثم تصيراً طعاماً للحروب، هذا ما يريده السكرتير، خطف الشاب المقص:

-         ـ سأعيده لك حالاً!

سمع الراعي يقول :

ـ أرجو أن ترفق به، فأنا استعمله في قص شعر أطفالي أيضاً، مع خرافي الجميلة التي تراها الآن!

قال الشاب في سره (ونحن أيضاً لدينا خراف جميلة، أكل الكثيرون لحمها مقدما، نيئاً ومطبوخاً) . كان الشاب متلهفاً أن ينتهوا من لعبتهم السمجة في قص الشريط، فهو يريد أن يقترب من قبر شقيقه الشهيد، وقبور أصدقاء ورفاق يحمل لهم في قلبه حناناً دافئاً، وذكريات جميلة، ولهؤلاء الذين بنوا لهم مقبرة أسئلة ومآخذ كثيرة، ليس وقتها الآن، وحين خطر له أن السكرتير سينزعج ويعترض ؛أنه أتى بمقص من راع للغنم، قرر أن ينفجر في وجهه ويقول له ما كان يتردد في قوله منذ وقت طويل، ويجد له متنفساً في أحاديث ونقاشات مع رفاق وأصدقاء (وماذا في الأمر؟ أردتم مقصاً، لم أجد لكم غير مقص راعٍ، غنم أو رفاق، كلها قطعان تسوقونها أمامكم إلى مراعي العشب أو الأيدلوجيات، لا فرق). لمس نظرات

حزينة مرتجفة من المنتظرين المتململين في وقفتهم، سمع من بعضهم ضحكات مكتومة، وضع المقص في صينية الفتاة الصغيرة، كان قد استعد للرد على السكرتير إذا تفوه بكلمة معترضة، لكن السكرتير تظاهر أنه لم ير، ولم يسمع شيئاً، كان متلهفاً لمقص أي مقص، وشريط يقص برعايته!

أمسكت الأم الكردية المقص بيد مرتجفة ناتئة العروق، وقد علت وجهها مسحة حزن كامدة، مترددة كأنها غير متأكدة أن عليها أن تقص شيئاً في هذه اللحظة، التي يقص بها قلبها، وإذ باغتتها عاصفة من التصفيق والهتاف، وزعيق الموسيقى قصت الشريط، وألقت المقص في الصينية، وتراجعت إلى الوراء باحثة عن رفيقتها الأم العربية ؛ تريد أن تتكئ عليها. وأخيراً دخل السكرتير المقبرة متقدماً الحشد، تعمد يونس إبطاء خطواته وسار على مهل منزوياً في آخر الناس، أحس بالراحة أن السكرتير قد أدرك نفوره منه، وامتعاضه مما يجري، وعرف إنه كعادته إذ يرفض عملاً أو أمراً، يحضره عادة؛ ليواجههم به ويدمغهم بخطئهم حيث كان هو بنفسه شاهداً عليه. كان هو أيضاً في أعماقه يعرف ما يدور بخلد يونس هذا المنشق المشاكس. لكنه لم يندم على دعوته؛ فهو بحضوره قد بارك خطوته، وأيدها أمام الحاضرين! بدأ السكرتير على أرض المقبرة مشية مختلفة وقبل أن يصل الصف الأول من القبور واجهته فرقة منشدين، فتريث أمامها وقد انفلتت حناجر أفرادها الشبان بنشيد صاخب بدو فيه مثل مجموعة من الديكة داهمها الفجر العظيم بأنواره ولم تفتح عيونها بعد، راحت تطوف حولهم فتيات بثياب بيض مجنحة موحية أن الملائكة قد التحقت بالحزب أيضاً؛ طاردة كل الشياطين التي تحوم حوله تريد القضاء عليه! وقبل أن يكملوا نشيدهم تجاوزهم رافعاً رأسه بشموخ وبنظرات مترفعة حاول جاهداً أن يلبسها حزناً وأسى، انفلت ليقترب من قبور الشهداء الذين ما زالوا أعضاء في حزبه. بعض النسوة أطلقن الزغاريد، تلك هي مزحة أخرى مع الشهداء، لكنها مغرية لهم : عرائس من حور الجنة الجميلات سيجعلن ليلتهم اليوم شبقاً وحباً وشهوات متفجرة حتى الفجر بعد جفاف الموت الطويل، محيلة غيوم الوحشة التي تغطى القبر إلى كلة بيضاء هفهافة في ليالي الصيف المقمرة الندية على السطوح. كان الركب يسير قوياً ثابتاً واثقاً من نفسه ومن كل شيء، وقد أتى حاملاً للشهداء أنباء عظيمة. أن كل ما ناضلوا من أجله ووهبوه أعمارهم اليانعة قد تحقق، طوبى لكم أيها المنتصرون، أكملنا شوطكم على أحسن وجه، وأفضل مسار، طريقنا منذ البدء كان صحيحاً، وحتى المنتهى سيظل الطريق الأوحد للجنة على الأرض، كل الطرق الأخرى لن تفضي سوى إلى الجحيم! وكلما نظر السكرتير للقبور أحس بالطمأنينة، فولداه ليسا بينهم، هما ليسا في العراق، انهما في الخارج، أحدهما يدرس الطب في إنكلترا، والآخر يدرس المحاسبة التجارية في ألمانيا!

كان البيرماني يسير بحذر، تختلط في ذهنه مشاعر كثيرة، غلب عليها شعوره إنه ضيف ثقيل هنا، وربما هذه القبور تكرهه، زاد من حرجه خطى حارسه ذي الرأس الرصاصي الكبير، تتوالى مسرعة، مستهترة، ضجرة. كان الحارس يكبت في بطنه الثقيلة ضحكة، يخشى البيرماني أن ينهره، فهو من رجال المخابرات في بغداد، كان يضحك في سره، قبل أيام حضر في الموصل حفل افتتاح قصر عظيم لصدام على نهر دجلة، كان مذهلاً، عجيباً، و"الشيوعيون لا تعجبهم قصورنا، يفتتحون هنا مقابر "!

(17) أيها الشهداء قفوا استعداداً، جاء القائد!

مضى السكرتير يسير بين القبور يرافقه حرسه على مسافة قصيرة. لم يفلت من عيني يونس اللتين امتلكتا هذا اليوم حدة في الإبصار كأنها تلقي شحنتها الأخيرة!

بدا له جنرالاً يستعرض جنوده، هم فقط شهداء، شهداء لا غير، يراهم منحنين خاشعين مبدين طاعتهم منتظرين أوامره، لو أوعز لهم بالنهوض من قبورهم؛ لوقفوا كجنود مبتدئين يؤدون له التحية! ولو أمرهم بتأدية مهمة جديدة لقاموا بها أفضل من ذي قبل، وسيفتشون عما هو أغلى من أرواحهم ليمنحوه، فقد كانت التضحية السابقة قليلة، ليبقوا ناعسين مرتاحين في ثراهم، فهم من أماكنهم الضيقة الصغيرة يؤدون مهمة صعبة جداً، لا يستطيع أن ينهض بها كل هؤلاء الأحياء الثرثارون من حولي، إنهم بعطائهم أرواحهم لنا، ثم الصمت دون المطالبة بشيء؛ يقنعون الناس بصواب فكرتنا ونهجنا وسياستنا وسلوكنا بدء من طريقتنا في إشعال السيجارة، إلى إشعال قلوب نسائنا، إلى إشعال الثورة في هذه الجبال الجرداء، من قال إن هذا مستحيل ؟ أكفان الشهداء، عبير عظامهم، كافور توابيتهم، هي النكهة المسكرة الأشد تأثيراً من رائحة الحاضر، بكل ما فيه من دول وجيوش وصناعة وزراعة وبورصات ومحلات عطور، ربحنا أم خسرنا الآن، هذا غير مهم، ولا يعني شيئاً، ألمهم أننا سندخل رحاب المستقبل حاملين دم الشهداء، رغم موتهم، هم الشغيلة المجدة الصامتة، النحل العامل الذي يملأ خلايا الحزب بعسل الذكريات المقدسة! بهم يغتني الحزب ويسمن ويقوى، ويبقى على فحولته، وبهم وحدهم يستطيع أن يسير متبختراً تياهاً على الآخرين، هم ثقله، ونواته العظمى التي ستخرج منها شجرتنا الخضراء العظمى، أستطيع القول بكل ثقة: (موتوا تصحوا!) ليترك حزبنا كل أعضائه الأحياء المشاكسين المتململين المتذمرين ويبقي على هؤلاء الموتى الصامتين دوماً، غير المطالبين بشيء، لا بنقد، ولا نقد ذاتي؛ فلا نضطر إلا للضرورة القصوى لطردهم أو عزلهم أو حرقهم معنوياً، من قال إن الشهداء لا يدفعون اشتراكات أو تبرعات؟ بذكراهم يجلبون العطف للحزب، فتزداد الاشتراكات والتبرعات ويكسبون أعضاء جدد للحزب! ‍

وبثقلهم تصلنا عطايا التوازنات الإقليمية والدولية، فهي تدفع على عدد الرؤوس الهالكة. نحن حزب الشهداء، تلك هي المعجزة الكبرى التي تجلت على أيدينا، والمنسجمة مع قانونا الجدلي: الحياة تنبثق من الموت! سنبني الحياة الجديدة بأيدي الأموات، وأيدي الأحياء معاً، ولابد من توظيف المزيد من الشهداء، كم هو مريح العمل معهم، إنهم بلا رواتب أو متطلبات كعصافير النوافذ، وكفراشات الحقول، اليوم أنا لا أفتتح مقبرة بل مزرعة شهداء يصير فيها كل شهيد سنبلة شهداء، وذهب وعملات صعبة، بذور نادرة من أرقى مادة في الوجود! العدم الجميل، حيث كل زهرة في هذه الأرض أخذت حمرتها وريها من دم شهيد، وكل نغمة طير هي آهة أخيرة لشهيد! هذا حصاد نضالنا، أكبر شهادة ووثيقة أرضية لنضالنا وانتصارنا، كثيرون قتلوا في حروب الدولة وذهبوا سدى، عندنا فقط بقي الشهيد حياً لأنه مات من أجل فكرة عظيمة، صحيحة، كلية القدرة، نحن لم نجبر أحداً على الانخراط في نضالنا. هم الذين تقاطروا علينا، هم الفراشات التي تساقطت على نور فكرتنا، هم الذين أجبرونا بعزيمتهم المتأججة على وضعهم في فصائل القتال والحرب! كانوا شباناً أغراراً يبحثون عن تحقيق الذات؛ فساعدناهم على تحقيق أرقى تجسيد للذات المتسامية!

أحس يونس أنه يسمع نبض عروق السكرتير، وإنه في أعماقه مشتبك معه، أحدهما ينطق الآخر في حوار أليم مكتوم، أحدهما يسمع ويعرف الآخر، ماذا يفكر، وماذا يقول الآن، وكلاهما يسمع الآخر مع الريح المدومة بينهما " لا يا راضي سعيد أنتم تبذلون أرواح الرفاق كما يبذل الأثرياء أموالهم على موائد القمار، تقامرون بأرواح الناس وهذه أتعس برجوازية، تزجون بالجموع في مسارات طويلة قبل التأكد من صحة الطريق، الفكرة لديكم أغلى من الإنسان، والوهم أقوى من الحقيقة، لم تتفحصوا الفكرة، حتى الفلاح البسيط يتأكد من صلاح أرضه قبل أن يلقي فيها بذوره، ومن سلامة بذوره قبل أن يهدر مائه. ومن صحة طريقه قبل أن يركب حماره، أنتم سرتم وراء أدلاء واهمين؛ فكانت الكارثة، وكان الخراب، اتركوا الأرض ترتب زهورها وناسها وطرقها، واخرجوا من المشهد، فأنتم فائضون عن الحاجة!"

ويهم يونس أن يقترب منه ليقول: وما جدوى الموت إذا كان اتجاه السهم في البندقية، هو عكس اتجاه السهم في بوصلة التاريخ، وعكس اتجاه القلب! ومرة أخرى يتعلل، إنه لا ينبغي أن يقلق راحة الشهداء، فيصمت!

أحس يونس بقدميه تميلان به ويكاد يهوي على الأرض، وأنفاسه تتسارع، تذكر أنه مجهد وإنه أرهق نفسه بالمجيء، ولكنه لم يندم، كان سيندم لو لم يأت، كثير من الشهداء أصدقاؤه، وهم أحبته جميعاً، والأهم إنه ساهم في مصيرهم، ولا يبرئ نفسه من جريرة موتهم، ومصيرهم كله! لكنه أرهق نفسه بالتفكير، أثقل على قلبه بهذه الأفكار والمشاعر التي لم يستدعها بل انثالت في عقله كأنها من سماء تجمعت فيها سحب حياته. صار يحس بدوار وبالأرض تميد من تحته، خطر له أن الشمس صارت تصفعه،تعاقبه، ترنح قليلاً،،تهاوى متلقياً الأرض بصدره، تنبه له بعضهم، تراكضوا إليه، صاح أحدهم:

-         ـ وقع الرفيق يونس، أسرعوا!

دخل يونس غيبوبته بهدوء، كمن يدخل حديقة قديمة له فيها ذكريات عشق ولهو وجد بعد غياب طويل، في غشيته لم يكن منقطعاً عما يجري، كان في حدة وعي وإبصار، لكنه لا يقوى على الحركة، ولولا إنه كان شاحباً، غائم النظرات متسارع النبض، وقد تركت السقطة ندوباً على حاجبيه وخديه؛ لظنه من يراه نائماً منسرحاً مع حلم عذب طويل. وبينما بدا للبعض أنه أغمي عليه، بدا لآخرين أنه مات، وما بدا على وجهه من مسحة حبور كان يشي أنه يحلق في عالم أحبته الأموات!

 

باب النهوض

 

لا تظلموا الموتى وإن طال المدى إني أخاف عليكم أن تلتقوا

أبو العلاء المعري

أخذكم الغياب يا أحبتي طويلاً.

سراب علت أمواجه الغيوم!

صار البحر كله قارباً إليكم!

من أين أتيتم ؟

من الأرض التي ما تزال أيامنا القديمة تتطاير عليها مع الغبار وأوراق الشجر؟

تلك الشواطئ التي أبحرت منها قواربنا؟

من بقايا القلب، وكسرات قنديله المنطفئ؟

الشاعر المجهول من أيس

 

(18) خيل للأمهات أن الأرض تلد أبنائهن ثانية؛ نيابة عنهن!

في اللحظة التي هوى فيها يونس على الأرض؛ اهتزت المقبرة. ومع تواصل ارتجاجها أفاق يونس من غشيته. ظن بعضهم أن ثمة زلزالاً يرج الأرض، جحظت عيونهم، رأوا شقوقاً ومهاوي وثمة برق ورعد يقصف ويدفعهم إلى الهاوية السحيقة، لكنهم وجدوا أنفسهم لا يزالون في أماكنهم، ظن قسم منهم أنهم سيلتحقون بعالم الشهداء الذين كانوا قبل قليل يتغنون به، ويعلنون أمنيتهم أن ينالوا شرف دخوله معهم، لكنهم أحسوا أنهم في هذه اللحظة أكثر تمسكاً بالحياة، وتشبثاً بها بأي شكل تكون، ندموا على أمانيهم التي يبدوا أن السماء قد أخذتها مأخذ الجد واستجابت لها. ما هذا الذي يجري؟ عاصفة من الغبار تشق الأرض، وتنهض منها موتاها، وتملأ الجو برائحة الكافور الخانقة، وعطن الأكفان. صرخات غاضبة تنبعث من الأعماق تحيل صمت عشرات السنين وكبتها إلى عويل هائل هادر مرعب، وجانب من السماء ينشق ويهوي في وهدة سحيقة من الأرض. أهو زلزال؟ بركان؟ انهيار أو انخساف أرضي؟ عاصفة ترابية عنيفة هزت جذور الجبال، ولا تلبث أن تمر؟ صاروخ أو قنبلة سقطت سهواً أو عمداً من إحدى الطائرات الأمريكية التي تجوب فضاء المنطقة؟ قصف مدفعي من الجيش العراقي؟ لا.. لا شيء من هذا، فالدوي والتفجر يأتي من الأعماق لا من الخارج! أدركوا أن مقبرة الشهداء تزلزل وتثور، وقفت الأمهات صامتات مصغيات بينما بعضهن رحن يولولن ويصرخن بانفعالات غامضة شتى. كن كثيرات، بعضهن فقدن ولداً أو ولدين، أو ولداً وبنتاً، بعضهن فقدن ولدين مع الزوج والشقيق، وربما أكثرهن فجيعة هي التي فقدت وحيدها مع زوجها، فظلت تدور في فراغ مريع، تشعر بالذنب أنها ما تزال تعيش. رحن يصغين لدوي الرعد المنبعث من الأرض، وبإلهام الأم شعرن أن كل قبر يتفتق الآن: زهرة وحشية مفصحةً عن مكنونها، دافعة من رحمها جسد الشهيد محدثة صوتاً كطلق النساء حين تلدن. يأتي الصوت مضاعفاً صاعداً، أحست الأمهات بغريزتهن أنهم أبناؤهن، وقد أخذوا ينهضون، رحن يشَمن الهواء: ذات الرائحة التي كانت لهم حين كن في الأزمان البعيدة يرفعنهم من المهود بعد نومة طويلة، خطر للأمهات أن الأرض تلد الأبناء والأحبة من جديد نيابة عنهن، لا عجب إنها أمهم الكبرى، تلدهم ثانية؛ فهم أولاد طيبون غير عاقين، ماتوا من أجل الناس: الأمهات النساء، والأرض معاً، الآن تلدهم وهم أقوى وأجمل؛ يستعصون على الموت والعذاب، وسوء الفهم. الأمهات يصغين وقد ارتعشت قلوبهن وصفت عقولهن، لم تصف يوماً طيلة الأزمان المليئة بالكدر والشقاء. الأرض تعيد لكل واحدة منهن كل صرخاتها وآهاتها وهي تلد ابنها الذي أضحى شهيدا قبل أن يجف حليبها على شفاهه. ترد الأبناء الشهداء الآن سالمين. يا لذكاء الأرض الطيبة، ودقة ذاكرتها! تعيد كل تفاصيل الوضع والولادة التي لا يمكن لأي أم أن تنساها حتى لو هرمت، أو شاخ الابن، أو صار عاقاً أو جلفاً. كل أم تذكر هذه الصرخات والأنات كأجمل نشيد للروح، وكآهة كبرى في هذا الوجود الأليم الذي لم يطلبه أحد، ولم يسع إليه، جلبه إليه الآخرون، الآباء والأمهات والأسلاف، الآن تعيدها الأرض لهن مضاعفة النبرة والمدى، تقرع بها أبواب السماء التي ردت النداء سابقاً قسوة وموتاً ودموعاً، وكأنها من صخر وليس من زرقة لازوردية فاتنة. رحن يصغين منتشيات وقد ملأت عيونهن دموع صافية، لآلئ دافئة لها أنغام خفية تداعب الجفون! كانت الأجساد المنبعثة تكتسب هالتها ليس من أسمائها وحسب؛ بل من الدموع المتفجرة في القلوب المكلومة المتطلعة، ومن المفاجأة التي قلبت الموت إلى وجود جميل باهر!

أدرك يونس مع الأمهات وبإلهام لم يكن مفاجئاً له، أنهم الشهداء ينهضون من قبورهم، ويثبون كالنمور بغضبهم المعهود، يمزقون ِشباك العدم التي نسجت حولهم، يكسرون صخور الصمت، وخدر رفاقهم الناسين لهم، يأتون من أعماق الماضي، ومن لحظة الأزل الأولى ورماد العصور، وربما من المستقبل أيضاً،،ليس فقط في زيارة حب، فهو كما عهدهم غير عاطفيين، وهذا عيبهم وحسنتهم معاً، في مهمة غامضة لا يعرفها، لكنهم أطيب من أن يلحقوا الأذى بأحد! كأنه لم يسقط، ظل واقفاً في مكانه بينما تبعثر الجمع، رأى السكرتير يلوذ بحلقة حراسه، الذين باغتهم دوي رعد الأرض، ظنوه قصف مدافع جيش السلطة، جذبوه إلى الأرض وغطوه بأجسامهم. التف حراس البيرماني حوله، وحاولوا جره إلى السيارة مسرعين لكنهم بوغتوا بهياكل عظمية تقف قبالتهم وتنتزع من أيديهم أسلحتهم بالسرعة التي تحدث فيها الأشياء في الأحلام، انطلقت رصاصات أصابت أجنحة الأطفال الورقية، لكنها لم تصب أي منهم بأذى، فر بعض حراسه، واسروا الآخرين وجذبوه منهم، قال أحد الشهداء للبيرماني:

ـ هذه أول مرة تلتقي فيها بقاعدة الحزب، لا شك أنك قد مللت الإقامة في القمة!

كان يرتجف، مولولاً :

ـ أنا مريض، وأدويتي ليست معي!

قال الشهيد:

ـ لدينا الكثير من الأدوية المناسبة لك، ستشفى على أيدينا حتماً!

سار أمامهم خانعاً. قال شهيد لحارسه ذي الرأس الرصاصي والنظارة المخابراتية:

ـ سنأخذك معنا، نريد أن نسمع منك كيف تعملون في جهاز المخابرات، لديكم قصص أكثر إثارة من قصص أشباح القبور!

لكن هيكلاً عظمياً لشهيد برز فجأة، وكان قيادياً، قال:

ـ أطلقوا سراح الحراس، محكمة الشهداء غير مختصة بالمجرمين العاديين!

أخلى سبيلهم، ركضوا كذئاب تخرج من المصيدة!

توالى اهتزاز الأرض، قصف من الأعماق، سمعوا صوتاً يقول :

ـ لا تخافوا نحن رفاقكم الشهداء، جئنا لمحاسبة قادة الحزب!

راح حراس السكرتير ومن معه ينظر أحدهم بوجه الآخر مستفهماً، البعض أدرك بسرعة ما يحدث، آخر ظل مستطلعاً لا يفهم شيئاً، تخلوا عن السكرتير وأعضاء قيادته ممتثلين لأمر الشهداء، وجدوهم قادتهم الأعلى. أخذ حراس وضع انبطاح وراحوا يطلقون الرصاص بشكل عشوائي، أصابوا هياكل شهداء، لكن الرصاص مر بها حزماً من الضوء. وجد السكرتير وأصحابه أنفسهم مكشوفين، ساروا متعثرين ممتقعي الوجوه، وثمة قوة مجهولة مبهمة ثابتة تجتذبهم للفوهة التي انفتحت بوابة إلى أعماق الأرض، كان السكرتير أكثرهم فزعاً وارتجافاً ممسكاً صدره؛ متصنعاً أوجاعاً في القلب! ثمة تيارات حرارية تخرج من مسامات الأرض وكأنها تعاني من حمى، ورغم إن الحرارة المنبعثة كانت عادية؛ إلا أن البعض شعر أن لظى جهنم صار يلفح وجهه فوضع يديه على عينيه،معتقداً أن أبواب الجحيم قد انفتحت، ولم يعد يدري في أي اتجاه يسير ليخرج من هذه الحومة المرعبة.

(19) قضية اختمرت في قبورنا، وأيقظتنا!

غمر يونس استبشار وأمل، تذكر إنه منذ زمن بعيد، على موعد مع هذه اللحظة، وجدها حقاً وعدلاً، لكنها تأخرت كثيراً. ما زالت الأرض تزلزل بعنفوان، أصيب جمع بالرعب فسقطوا مغشياً عليهم، لاذ آخرون بالشواهد فوجدوها مقتلعة، والقبور مفتوحة، بعض بقي ثابتاً في مكانه يشاهد ما يجري هادئاً منتظراً ما سيحدث بلهفة. الشهداء المتمرسون بالمعارك والاشتباكات القتالية اتخذوا تدابيرهم، وقفوا عند البوابة، وانطلق صوت في مقدمتهم:

ـ نعتذر للضيوف، ما قمنا به، كان محتماً علينا! لقد أفسحنا لهم الطرق للخروج إلى حيث يشاءون!

لم يكن الضيوف السياسيون بحاجة لنداء ليعودوا أدراجهم، أحسوا باهتزاز الأرض؛ فأخذوا ينسلون إلى سياراتهم، شاحبين مرتبكين، لا يجرؤن على التلفت وراءهم، غير مصدقين أن القبور تفتحت أمامهم وخرج أمواتها أحياً، استقلوا سياراتهم الحديثة، سمعوا أصوات محركاتها الخافتة، بعضهم راح يضحك، قائلاً:

ـ ألم أقل لكم؟ الشيوعيون غريبو أطوار، في حياتهم ومماتهم، والأفضل الابتعاد عنهم!

كان جميع الشهداء قد نهضوا دفعة واحدة، وكأن بوق النفير القتالي أيقظهم من نوم ثقيل لانتفاضة حامية كبيرة هائلة، وجدوها بشكل ما معركتهم الحقيقية الأولى والأخيرة! معظمهم بملابسهم القتالية التي دفنوا بها، بينما البعض الآخر، وهم القدماء غير المقاتلين بأكفانهم، بدت عليهم ثياباً مهيبة لا تزال ناصعة البياض، وتراب القبور عليها مجرد غبار طريق، ووعثاء سفر! أحاطوا بقادة الحزب وبمرافقيهم، تقدم أحد الشهداء، وكان على ما يبدو ناطقاً باسم الانتفاضة، قال بهدوء لقادة الحزب المرتجفين ذعراً:

-         ـ أنتم معتقلون، وعلى ذمة التحقيق!

أشار إلى درج كبير عند حافة البوابة يفضي إلى الأعماق وسط المقبرة لينزلوه، أحد أعضاء قيادة الحزب أراد أن يظهر أنه أكثرهم شجاعة سأل بصوت مرتجف:

-         ـ من أنتم؟

-         قال الشاب:

-         ـ نحن شهداء الحزب، كيف لا تعرفوننا، وكنتم قبل قليل تتغنون بأسمائنا ومآثرنا!

رد الرجل متراجعاً:

-         ـ معذرة، فأبصارنا كما تعرفون أضحت كليلة، فرصة سعيدة أن نلقاكم ثانية!

-         أجابه وهو يشيح عنه:

-         ـ ما كان للقاكم أن يكون فرصة سعيدة؛ لولا إنه لحساب مع العدالة!

-         عقب أحد الشهداء ضاحكاً:
ـ من المؤكد أن أبصاركم لم تكل من كثرة القراءة، فأنتم لا تقرأون، ولا تكتبون!

-         ـ وهل يترك لنا النضال فرصاً للقراءة أو الكتابة؟

-         قال الشهيد وهو يعتدل في هيكله العظمي:

ـ نضال السفرات واللهو، والدوران حول الطاحونة فارغة، والخرقة على العينين!

أراد عضو القيادة أن يقف ويواصل الكلام؛ فأمره الشهيد أن ينزل قائلاً:

ـ لك أن تقول ما تشاء أمام المحكمة‍.

أحس يونس كما في مرات نادرة قليلة أن الدنيا مهما بدت له مختلة غير متوازنة، لكنها تخبئ توازنها تحت ستر كثيرة. وإن الحقيقة لن تظل خافية، والعدالة لن تظل مهدورة! انحنى إلى الأرض، حمل كسراً من عظام شهداء نسوها، رافقهم، ودخل فوهة الطريق الجديد الذي انفتح إلى الأعماق!

فجأة انطلق شهيدان بهيكلين عظميين منخورين؛ جائلين بين من تبقى ممن كانوا مع السكرتير؛ باحثين عن كمتار بيس، وحمه سور، لحق بهم شهداء آخرون، عاصفة عظام بشرية تلاحق شبحين لكمتار بيس وحمه سور، كانا يظناهما قد جاءا مع المدعوين، بينما هما لم يأتيا، هما الآن لاهيين في مكان آخر. كانت عيون الشهداء تدور زائغة هنا وهناك، وقد توغلا بين الناس يبحثون عنهما فأصيبوا بالذعر، كانت صرخات الشهيدين ملتاعة غاضبة تنغرز كالنصال في الآذان! سقط الكثير من العظام، وأهيل كثير من التراب تحت أقدام الناس المتراكضة، والصيحات تتلاحق " أيها الجبان كمتار، أيها الجبان حمه، تعالا هذه ساعة حسابكما" . لم يأخذ الشهيدان موافقة قيادة الانتفاضة للانطلاق خارج مجالهما؛ بحثاً عن كمتار وحمة. اندفعا لوحدهما. وجذبا خلفهما الكثير من هياكل الشهداء. كانا يضمران حقداً عميقاً لهما، ومن عرفهما أدرك السبب، ولم يلمهما. فهما قد أوذيا منهما كثيراً. أحدهما، بعد أن غادر بيروت ملتحقاً بالأنصار, تاركاً زوجته "أمانة" لدى الحزب كما قال، زحف كمتار كالصل السام إليها مسلطاً عليها كل أساليبه الخبيثة حتى أوقعها في حبائله. والشهيد الثاني كان قد ترك زوجته وأطفاله في دمشق في عهدة الحزب أيضاً، فعملت عشيقة حمه في دمشق إلى جرها إلى لياليها وسهراتها مع حمه وأصحابه، وورطتها في علاقة مع أحد رجال المخابرات العراقية، الذي تركها لتتردى في حياة بائسة مبتذلة؛ فتفقد أبناءها. انطلق خلفهما حسن طلقة صائحاً:

ــ اطمئنا سنحاسبهما، لن يفلتا من كلمتنا! توقف فجأة: هي وأسفاه، كل ما لدينا! لم يستطع طلقة إيقافهما، ولا إيقاف عشرات الهياكل العظمية المنطلقة تبحث عن كمتار بيس، وحمه سور. كل منهم له قضية معهما! تدافع الناس هاربين من هذه المقبرة، وجدوها في كل لحظة تريهم بدعة وأعجوبة . كانت الأصوات تنبعث قوية غاضبة صارخة: كمتار بيس، حمه سور، تعالا، أيها الخسيسان، تعالا لمواجهتنا! كانت صيحاتهما تتلاشى بين صيحات الناس وزوابع غبار وأزيز محركات السيارات. بعض الهيكل هوت تحت أقدم المتدافعين، وتحت عجلات السيارات الحديثة الفارهة وقد اندفعت هاربة مولية أدبارها البراقة المزوقة، اختلطت تحت عجلاتها سيقان أحياء وموتى، اختلط دم جديد، برماد عظام قديمة على تراب أرض قاسية مشققة. لحقت بهم هياكل شهداء يريدون إرجاعهم: لا تتعبوا أنفسكم، هما لا يساويان ذرة رماد تتساقط من عظامكم! قال بعض من الذين لا يزالون يتمالكون رشدهم بين الحشد الخائف المذعور يعيدونهم: لا تتعبوا أنفسكم أيها الشهداء، كمتار بيس، وحمه سور لا يزالان هاربين من وجه العدالة، هما أجبن من يأتيا لمواجهتكم! التقط بعض الشهداء عظامهم المسحوقة، وحفنات من رمادهم وعادوا إلى فوهة المقبرة: سنمسك بهما يوماً، أين يوليان؟

كان السكرتير راضي سعيد ومن معه شاحبين مصفرين، يتلمسون طريقهم في عتمة الأعماق شاعرين أنهم مهددون بالسقوط في أماكن سحيقة، أمسك الشهداء بهم يقودونهم، ريثما توازنوا على أرض العالم الأسفل، واعتادت عيونهم العتمة، راحوا يغذون السير!

-         قال لهم قائد المجموعة :

ـ لن نقول لكم كما كان رجال السلطة يقولون لنا أمام ذوينا لحظة اعتقالنا ‎" تفضلوا معنا لمكان قريب،نصف ساعة وتعودون " ثم لا نعود أبداً، الآن سنقولها لكم صريحة :"تفضلوا معنا إلى مقرنا في العالم الأسفل، ولا ندري كم ستطول محاكمتكم، هذا يتوقف على صراحتكم، وشجاعتكم في الإقرار بالخطأ، وعلى كل حال ستعودون إلى بيوتكم، فنحن لا نعذب ولا نقتل"

خف ارتجاف السكرتير وجماعته، وشعروا ببعض الطمأنينة، الشاعر هانئ الديواني أمسك صدره متصنعاً الألم قائلاً بصوت لاهث:

ـ إنها نوبة قلبية، خذوني إلى المستشفى!

قال شهيد أمسك به من كتفه ضاحكاً:

ـ طيلة حياتك ثعلب ماكر، أما معنا فلا تستطيع‍! ستجد كأسك عندنا، ولكنها ستكون غير تلك التي تحتسيها في أنخاب لياليك البيروتية واللندنية!

جاء شهيد شاب، عظامه تومض وساعده في النهوض قائلا:

ـ هيا! اغتنمها فرصة لتشفى عندنا من إدمانك الكحول، والمال، والأيدلوجيا!

اقتادوه مع السكرتير وأعضاء قيادته وواصلوا السير، تقدم أحد الشهداء الشبان ليضع في أيديهم أصفاداً، منعه الشهيد المسؤول عنهم؛ قائلاً :

ـ لسنا جلاوزة سلطة، نحن طلاب حقيقة، لا نستعمل أصفاداً، ليس لدينا سوى الكلمات وهي أصفاد إذا شئت، وأجنحة، إذا شئت!

انطلق صوت شهيد بنبرة هادئة يطمئن الذين فوجئوا بهذا الحشر:

-         ـ لا تخافوا! ما نهضنا من الموت لنشر الموت! استيقظنا من أجل الحقيقة التي أخفيت عنا في حياتنا، وعلنا نكشفها في موتنا!

-         شهيد آخر قال:

-         ـ قضية اختمرت طويلاً في قبورنا وأرواحنا وتفجرت اليوم، نرجو أن لا نزعجكم بها!

تواصل نداء الشهداء قويا لا يحتاج لمكبرات الصوت:

ـ نشكركم لزيارتكم لنا، القينا القبض على قيادة الحزب، المتهمة بتضليل العدالة، والضمير الإنساني! وإذا أرد أحد من الأهل والأصدقاء القدوم لرؤيتنا، أو حضور المحاكمات فهذا يسعدنا، لا بد من التنويه أن المحاكمات ستكون كئيبة ومملة، لكن ستكون فيها فصول مثيرة على كل حال! يمكن لمن يشاء أن يكون محامي دفاع، أو شاهداً، أو مدعياً بحق شخصي، أو مدعياً عاماً، هذا سيساعدنا للوصول إلى الحقيقة والعدالة، كما لا بد من تنبيهكم: الطريق طويل، أرضنا موحشة وكئيبة، ومن يأتي قد لا نستطيع أن نوفر له طعاماً أو شراباً، لكننا نضمن له التنفس في عالمنا السفلي والحصول على هواء صحي!

-         جاء صوت آخر:

-         ـ كان بودنا أن يلقى رفاقنا الشهداء أمهاتهم وآبائهم وأحبتهم، ولكن للأسف نحن أمام حالة محزنة: فقد يوجد الشهيد هنا ولا وجود لأهله أو أحبته، وقد يوجد الأهل والأحباب ولا وجود للشهيد هنا، الأمر كله لقاء قصير عابر ثم غياب إلى الأبد، تاركاً وراءه حزناً ولوعة جديدين، لذا نطلب منكم أن تعودوا لبيوتكم لترتاحوا، انسونا إن استطعتم، ذلك أقرب لمنطق حياتكم الصعبة المريرة!

توقف إطلاق الرصاص، وهدأ الجو بعض الشيء، أخذ الأحياء الكثيرون المتبقون في المقبرة ينهضون، على وجوههم ابتسامات مرتجفة، نافضين الغبار، وشظايا الحجارة عن ثيابهم، كان قد تبقى بعض الشهداء لحماية ظهور المنتفضين، راح الصبية، أعضاء فرقة الغناء يصطفون محدقين بوجوههم وهياكلهم دون خوف أو نفور، ظهروا لهم أكثر امتلاءً ومهابة. راحوا ينظرون لبعضهم متفاخرين، لا شك أنهم عادوا مستجيبين لأغانيهم وأناشيدهم التي ترنموا بها مع دقات الدنابك مؤكدة أن الشهداء أحياء خالدون، وسيعودون لعالمنا الجديد حتماً، أجمل وأسعد، سمعوا أغانيهم وعادوا، لا بد أن عالم الأطفال أضحى سعيداً أيضاً، وحين سيعودون إلى بيوتهم يجدون الحلوى والطعام الشهي، وكل ما حرموا منه، الصغيرات أحسسن بأجنحتهن الورقية البيض المركبة على أذرعهن تصير أجنحة حقيقية من ريش طويل ناعم، وإنهن يطرن لجنات الأحلام؛ ملائكة حقيقيات، خطر للأطفال وبغموض تقديم أغنية ترحب بالشهداء القادمين من عالم الخلود، لن ينتظروا قائد فرقتهم ليوعز لهم بالغناء، في قلوبهم أغنية لهذه اللحظة العظيمة، سيتفجر الكلام واللحن من صدورهم دون تلقين وإعداد، فكل شيء أصبح ممكناً، حل العهد الجديد السعيد المنتظر، نحن الذين أعدنا الشهداء لهذه الدنيا من جديد! أغانينا وأناشيدنا، أحلامنا وتوسلاتنا أعادت آباءنا وأمهاتنا! وقف أحدهم قائلاً بابتهاج: بعد قليل سأعود للبيت مع بابا وماما،سأقبلهما، كانا صادقين حين كتبا لي ولأخوتي:" اعذرونا، تركناكم لوحدكم، استشهدنا من أجل عالم سعيد لكم" تحقق الآن كل شيء بسرعة، تحققت الجنة في الدنيا فجاءوا، لماذا لم يفتحوا المقبرة قبل عام، أو عامين؟ كنا لم نجع طويلاً ولم نحرم من الحنان واللعب، وأشياء كثيرة! شهيد أحس بما يدور في خلد الأطفال والصبيان، فخرج يخاطبهم:

-         ـ فرحنا بأصواتكم، ما زلنا نحملكم في قلوبنا حتى لو صارت رماداً، استشهدنا من أجلكم، أردنا لكم حياة أخرى، لكن ما حصل شيء آخر، لذلك انتفضنا اليوم، اعذرونا، فقد سببنا لكم الألم مرة أخرى! تفهموا عدم سماحنا لكم بالدخول لعالمنا وحضور المحاكمات الطويلة المعقدة،لا نريد لذاكرتكم الطرية أن تجرح، آسفون لترويعكم! عودوا لبيوتكم وربما حين تكبرون ستقرأون محاضر جلسات محكمتنا! أخذ الأطفال والصبيان يلوذون ببعضهم كزغب الطيور، وقد أحست بخطر، بعد أن طاروا بأجنحتهم الفتية إلى عالم زاخر بكل أمانيهم : لفائف طعام شهي في حقيبة مدرسية زاهية، بذلة جديدة دافئة في برد الشتاء، أقلام ملونة، معلم لا يعبس في وجوههم أو يقول لهم إنه جائع بسبب الحصار ويأكل من اللقيمات التي في حقائبهم، أخذوا يتلفتون ينظرون بوجوه بعضهم وقد أعتمت، يريدون أن يعرفوا ما هذا الذي يحدث الآن؟

رأى يونس أن ثمة حكمة مبكرة لدى الإنسان تسعفه في طفولته، وهي التي تعبر به المواقف الحرجة حيث يفشل الكبار، أدرك معظم الأطفال والصبيان أن حلمهم بالذهاب مع آبائهم وأمهاتهم الشهداء إلى بيوتهم ما زال مستحيلاً، فأخذوا يتوسلون أن يذهبوا هم إليهم حيث يكونوا، يحضرون المحاكمات. علهم يعرفون لماذا تيتموا وتعذبوا، تقدم صبي من الشهيد، وقال كلاماً أطول من قامته:

ـ نريد أن نعرف، نريد أن ننقل للمستقبل شيئاً من غرائب هذا الزمان!

أصر الشهيد القيادي على عدم السماح للأطفال بالنزول لعالمهم:

ـ أقبلكم جميعاً، ومعذرة لن أسمح لكم بالدخول، رغم إن قلبي كما ترون قد مضى في التراب لكن ما فيه من حب لكم لا يزال نابضاً، عالمنا السفلي سينفركم، أرجو أن تخرجوا من زمنكم بذاكرة أقل بشاعة، وتبنوا عالمكم بعيداً عن عقدنا ومصائبنا، والآن وداعاً، ولا أقول إلى اللقاء!

اندفعت الأمهات إلى البوابة متمتمات "نريد أن نكون معكم، حتى لو استحلنا رماداً" تراجعت بعض النسوة هلعات، ومعهن آباء وأشقاء، بعضهم يتمتم مع نفسه، أو يقول لمن يسير بجانبه:

ــ يجب أن أعود إلى البيت،لدي عائلة كبيرة أنهكها الجوع والخوف!

كثير من أمهات الشهداء وآباءهم وزوجاتهم وأخوتهم وشقيقاتهم أصروا على أن يتبعوا الشهداء، لقاء الأبناء والأحبة يستحق عناء قطع طريق العالم السفلي مهما طال؛ فخفوا يدخلون البوابة تحت الأرض، غير مبالين بما يعرفون عنه أنه عالم الاختناق والدود، والظلام المطبق، والحساب العسير!

-         مضت مجموعة الشهداء، في قبضتها قيادة الحزب، تتبعها مجموعات من الأمهات والآباء وغابت تحت الأرض، غادر المكان كثيرون، لكن آخرين دفعهم حب الاستطلاع، أو عدم إدراك ما حصل إلى السير مع الحشد المندفع يخب في طريق العالم الأسفل. كان البعض قد جاء لتأدية واجب عائلي، أو اجتماعي للشهداء، الناس هنا يزورون مباركين من ينتقل من بيت إلى بيت جديد، فلم لا يزورون الشهداء وهم ينتقلون من قبور قديمة إلى قبور جديدة؟ خاصة وأن بعضهم لم يكن يعرف عن أي شهداء يتحدث الناس، فكلمة شهيد وحدها تذكر بالجنة والثواب الجميل، وبطهارة ونقاء مفقودين، كان بين هؤلاء من ترك طريق النضال فعاد شخصاً عادياً، بعضهم انكفأ حزيناً محتفظاً بنقائه مستعينا على ذلك بالكحول أو التدخين أو الأغاني وذرف الدموع، أو كتابة الشعر جيده ورديئه، بعضهم اشتغل في المقاولات، أو التجارة فصار غنياً فاحش الثراء، لاشي يناضل من أجله سوى خزنته وكرشه اللذين لا يكفان عن الانتفاخ. آخر صار صاحب فنادق ومطاعم، متدينا ومتعصباً يدعو لتأسيس جمعيات للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. آخر احترف القوادة كهواية أو تجارة في بيوت فخمة للضباط وكبار المسؤولين، أو لأمراء الحرب من الكرد والعرب، آخر مارس قراءة الفنجان أو الكشف عن البخت في البيت أو المقهى أو خلال عمله موظفاً وفي أوقات الدوام الرسمي. بعض أصبح موظفاً كبيراً اشد تعصباً للحزب الحاكم من أعضائه السابقين. قسم من هؤلاء وجدوا أنفسهم ينزلقون مع الجموع التي ضلت طريقها بفعل رجة الزلزال، مدركاً ما حدث فقرر أن يرى الشهداء أصدقائه القدامى، ويستعيد معهم ذكريات قديمة، أو وجدها نزهة طريفة، يكسر بها رتابة أيامه الخاوية الهامدة!

عاود يونس هدوءه وهو يتأمل انتفاضة الشهداء براحة وسكينة، شاعراً بالسرور والفخر " هذا ما كنت أحلم به، هذا ما كنت أنتظره منذ وقت طويل، ما يتوارى، ونظن أنه قد ضاع إلى الأبد، هو هناك في مكان ما، ولا بد أن ينفجر بوجوهنا يوماً، ولكن أن ينفجر بهذا الشكل، فهذا ما لم أتصوره!"

يجب أن أصل بوابة الشهداء قبل أن تغلق، يجب أن أكون هناك بينهم، رائع إنني أتيت، ولم أحرن كحمار في بيتي أعلى القلعة!

-         عند البوابة قابل الشهيد المسؤول عن الانتفاضة يونس رحيم فعرفه على الفور، كان يكن له حباً خاصاً، مد يده له مصافحاً، ود يونس أن يعانقه، لكنه خشي أن يتفتت هيكله العظمي، قال الشهيد:

-         ـ أهلاً بك يا رفيق نحن نتابع موقفك الشجاع، ومعاناتك من أجل الحقيقة، ورغم أن الكثير من رفاقنا مشتاقون لرؤياك والتمتع بأحاديثك العميقة الصادقة لكنا نقدر وضعك الصحي، ويمكنك أن تذهب إلى بيتك لتستريح، لو شئت، فأنت برئ مما اقترف هؤلاء القادة!

أصر يونس أن يكون معهم:

-         ـ لم يتبق الكثير لي في هذه الحياة وليتني لقيتكم قبل سنوات، فالعيش معكم كان دوماً أمنيتي، يمكنني القول إنني كنت أعيش معكم فعلاً!

طوق الشهيد بعظام يده كتف يونس ودفعه برفق ليتقدمه وبقية الشهداء، في المسير، تواروا عميقاً. استدار الشهداء وتواروا خلف بوابة عالمهم التحتي، واستدار الأطفال والشبان ولحقوا بالحشد المغادر صوب المدينة، وأسرعوا بالخروج من المقبرة. كانت تسمع بين وجوم البعض، ووقع هرولتهم:

ـ حمداً لله على السلامة!

هدأت أرض المقبرة، وزال جوها المكفهر، كأنما لم تحدث عليها هذه الواقعة الغريبة الخاطفة!

(20) طائرات الأمريكان، تحرث قبور الشهداء!

كانت مجموعة من حرس السكرتير راضي سعيد، وأعضاء قيادته، قد انطلقت إلى المقر المركزي للحزب الشيوعي في أربيل. أعلموا من كان هناك من أعضاء القيادة؛ بما حدث في المقبرة. أجرى حرس البيرماني بأجهزتهم الخاصة اتصالات سريعة مع رؤسائهم في بغداد، انطلق قسم آخر إلى مقر القيادة الكردية في أربيل وطالبوهم بالعمل بسرعة لإطلاق سراح البيرماني من أيدي الشيوعيين، قال أحدهم:

ـ لقد غدروا برفيقهم القديم، استدرجوه إلي المقبرة؛ وخطفوه متنكرين بملابس تظهرهم كهياكل عظمية، وأشباح!

قيل أنهم حين أبلغوا صدام بخبر خطف مبعوثه، أطلق ضحكة، وردد المثل الشامي:

ـ فخار يكسر بعضو!

لكنه تذكر أن ذلك يشكل إهانة له، فأمر بإرسال إنذار لقادة الكرد، يحملهم مسؤولية ما حدث، وإن يأتوا بمبعوثه "حتى ولو من تحت الأرض"، مشيراً إلى إن وجود الشيوعيين بينهم يتناقض ودعاواهم بأنهم مخلصون له وحريصون على العمل والتنسيق المشترك مع الحكومة المركزية. من كانوا في مقر أربيل من قادة الحزب الشيوعي قالوا عن الذين بلغوهم بما وقع لسكرتيرهم وجماعته :" انتم تخرفون " " بسطاء سذج " " لديكم لوثة وخلل في قواكم العقلية" أهدأهم قال " رؤيتكم السياسية سطحية" . لكن الأنباء توالت عليهم مؤكدة أن سكرتير الحزب، ومن معه من أعضاء قيادته، والبيرماني وحمايته اختطفهم مسلحون مجهولون يقولون أنهم شهداء الحزب، ونزلوا بهم إلى العالم السفلي، اعتبروا كلمة (شهداء) مجرد اسم لعصابة مسلحة، وترجموا تسمية "العالم السفلي" على أنها تعني دهاليز وكهوفاً ومغارات لهذه العصابة المرتبطة بالسلطة وبالإمبريالية والصهيونية، وبأعدائهم الآخرين الكثيرين!

استيقظت فجأة، لدى بعض أعضاء اللجنة المركزية طموحات وتطلعات شهوانية! تمنى لو أن السكرتير لا ينجو من أيدي خاطفيه، ويختفي إلى الأبد، فيحل هو محله، وراح يجمع في ذاكرته كل ما يعرفه من سيئات شخصيته، وسلوكه وسياسته، يجد المبررات لسكوته عنها طيلة فترة قيادته الحزب، وينظر المرآة مكتشفاً في وجهه ملامح جاذبية جماهيرية عارمة تخوله أن يكون سكرتير الحزب، وربما رئيساً للعراق وقريباً أيضاً، حيث وجد أن ساعة الحتمية التاريخية قاربت أن تدق؛ معلنة وصول الحزب الشيوعي دست السلطة! اضمر ذلك، ومضى متصنعاً الحرص على السكرتير، ومن معه مزايداً في ابتكار خصال فذة له، مشمراً هو ومن معه عن سواعدهم، لكتابة بيان عما حدث. استدعي أعضاء الطاقم القيادي المتبقي على عجل، تأكدوا من الاختطاف، مهملين ما أسموه " خزعبلات تتزايد متحدثة أن الشهداء خرجوا من قبورهم وقاموا بذلك!" حدث نقاش حاد بينهم؛ إن كانوا سيشيرون في بيانهم إلى اختطاف البيرماني. تغلبت وجهة النظر القائلة بتجاهل موضوعه، لأن وجود مبعوث لصدام مع السكرتير، يثير فضيحة مفاوضاتهم السرية السابقة مع النظام في بغداد؛ في الوقت الذي يتحدثون في أعلامهم وويعلمون رفاقهم بأن قطيعتهم مع النظام الدكتاتوري نهائية، ويضر بسمعة الحزب كثيراً. وجدوا أن ليس بوسعهم تجاهل ذلك في التنسيق مع قادة الكرد للبحث عنهم مؤكدين على أن السلطة أرادت التخلص من البيرماني فافتعلت هذه المؤامرة الدنيئة في محاولة يائسة للخلاص من قيادة الحزب، وقد أضحت خنجراً في خاصرتها، وقاربت يوم تخليصها الشعب من هذا النظام. وبعد نقاشات استغرقت طويلاً كالعادة، خرج بيانهم:

"قادة الأحزاب الشقيقة والصديقة!

أحرار وشرفاء العالم!

قادة الرأي العام العالمي!

كافة رفاقنا وجماهير حزبنا المقدام، حزب الشهداء!

بينما كان الرفيق راضي سعيد سكرتير حزبنا، وبعض من رفاقنا أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، يفتتحون هذا اليوم مقبرة لشهدائنا الأبرار في ضاحية من أربيل، باغتتهم مجموعة من عملاء الإمبريالية والرجعية والصهيونية والسلطة الدكتاتورية، بهجوم غادر جبان، مستغلة كونهم عزلاً بين قبور رفاقهم الشهداء فاختطفتهم، واقتادتهم إلى جهة مجهولة! نحمل هؤلاء المعروفين لنا جيداً؛ مسئولية الحفاظ على أرواح رفاقنا القادة الميامين، ونعد رفاقنا وجماهير حزبنا وشعبنا البطل أننا سنلاحق هذه المجموعة الباغية؛ ونطلق سراح رفاقنا ليعودوا إلى مواقعهم في القيادة، وهم أشد إصراراً على النضال! لقد ملأ قادتنا مواقعهم بجدارة واقتدار وحكمة ومضوا بحزبنا من مأثرة إلى مأثرة، ومن انتصار إلى انتصار، من أجل المستقبل الشيوعي الزاهر، ما أرعب الأعداء وأفقدهم صوابهم؛ فأقدموا على فعلتهم الشنيعة هذه، إن حزبنا الذي قدم الآلاف من الشهداء لن ترهبه أو تفت في عضده مؤامرات الأعداء والعملاء والمأجورين، نحمل قيادة القوات الأمريكية في انجرلك التركية مسؤولية هذا الحادث الأثيم، ونطالبها بالكشف عن الجناة الأوباش، وإنقاذ رفاقنا!

نحمل السلطة في بغداد، وعملاءها من الجحوش في كردستان المسؤولية عن هذا الاعتداء الغادر ونطالبهم بإطلاق سراحهم فوراً!

عاش الحزب الشيوعي العراقي، حزب الشهداء!

عاشت الشيوعية!

والموت للإمبرياليين!‍

نسى كاتب البيان أن الاتحاد السوفيتي قد انهار وتلاشى فكتب بحكم العادة، "عاش الاتحاد السوفيتي العظيم"، لكن رفيقه تنبه لذلك فشطب العبارة! تناوب الأعضاء القياديون الخافرون في المقر الاتصال بالمسئولين الكرد في أربيل، لم يستطيعوا تحصيلهم، كان القادة الكرد في أربيل في حالة استنفار، خابرهم رئيس جهاز المخابرات من بغداد موبخاً:

ـ ما هذا الذي يحدث في مناطقكم؟ الشيوعيون العملاء، يتصدون لمبعوث السيد الرئيس؟ سنضطر لقطع كافة الإمدادات الحيوية عن مناطقكم، وأقفل الخط!

ألقى المسؤول الكردي سماعة التلفون، وقد اشتعل صدره غضباً على الشيوعيين الذين لم يعد من الممكن احتمالهم، يتمتعون بأجواء اتفاقاتنا مع المخابرات العراقية، ويزايدون علينا بشعاراتهم ضد السلطة، يتمتعون بحماية الطائرات الأمريكية، ويزايدون علينا بالوطنية، ويشتمون الأمريكان، من أية طينة هؤلاء؟ وقرر أن يرسل قوة لتطويق مقر الحزب الشيوعي، وإطلاق سراح مبعوث الرئيس، ويغلق المقر ويأمر من فيه بمغادرة كردستان على الفور! فهو يعتقد أنهم خطفوه وافتعلوا هذه المسرحية. كل يتهم الآخر، صار الوضع كخيط السمك الطويل، وقد عبثت به الريح فجعلته مشربكا معقدا، والسمكة لا وجود لها!

دخل غرفته أحد معاونيه يعلمه أن وفداً من قادة الحزب الشيوعي في صالة الاستعلامات يريدون مقابلته، قال بنبرة غضب:

ـ أجلبهم، هؤلاء المجانين!

ظل جالساً وراء مكتبه، لم ينهض لاستقبالهم، رد تحيتهم بزمجرة من أسنانه، مضيفاً:

ـ أطلقوا سراح مبعوث السيد الرئيس، وأغلقوا مقراتكم، وارحلوا فوراً!

كان الوفد مكوناً من أعضاء في المكتب السياسي، واللجنة المركزية، جعلتهم كلمات القيادي الكردي يبهتون، يفكرون أن من اختطف السكرتير؛ هم قادة الكرد، وليس غيرهم كما ورد في بيانهم الذي أتوا به. ومع ذلك مضى عضو المكتب السياسي الشيوعي، وهو كردي وحديثه باللغة الكردية جعل المسؤول الكردي يهدأ قليلاً ويصغي له:

ـ أرجو أن تستمع لنا، يبدو أنتم ونحن ضحية مؤامرة كبيرة تدبر لنا جميعا، ولا ندري كم من القوى تشترك بها، لقد سمعنا أن بعضها مختبئ تحت الأرض!

وأعربوا عن اعتقادهم أن مبعوث صدام قد أختطف من قبل عصاباته السرية في المنطقة والمنظمة من قبل ما يسمون بالجحوش، بهدف التخلص منه، بعد أن كثرت الوعود التي أطلقها باسم صدام، وهذه أفضل طريقة للتخلص منها!

وراح يشرح له كيف أن سكرتير الحزب، ونخبة من قيادته اختطفوا، مع مبعوث الرئيس!

أصغى له على مضض، قال بازدراء واضح:

ـ المهم عندنا العثور على ضيفنا الكبير مبعوث السيد الرئيس، فهو أمانة خطيرة في أعناقنا!

شاعراً في أعماقه بقوة الضربة، فالأمر يتعلق بمستقبلهم في حشد الكرد خلفهم وقيادة دولتهم المقبلة التي صار ثمة تعبير شائع يتداولونها حولها باشتهاء ونهم (دولتنا صارت قريبة جداً تلوح كامرأة جميلة عارية، خلف ستارة شفافة)، مستعيداً في نفسه كلام قائده: كنا على وشك الحصول على تنازلات كبيرة من بغداد، صلاحيات سياسية كبرى، وتنازل عن كركوك، هذه مؤامرة كبرى!

ظل الوفد الشيوعي يردد:

ـ ولكن المنطقة ما تزال ملغومة بعملاء السلطة الدكتاتورية في بغداد، وعملاء إيران بنفس الوقت!

فجأة خطر للمسؤول الكردي أمر هام، سكت برهة، وجدها فرصة رائعة، فهو لكي يبحث عن مبعوث الرئيس يحتاج أن تقوم طائرات بمسح المنطقة، والقيادة الكردية لا تستطيع مفاتحة القيادة الأمريكية في المنطقة لتقوم طائراتها بذلك، ستسألهم: كيف تتفاوضون مع رجال صدام على أرض هي بحمايتنا؟ ورغم أن الأمريكان يعرفون بكل علاقات الكرد مع أجهزة أمن ومخابرات صدام، وقادة قطعات جيشه، ومساوماتهم وألاعيبهم، ويغضون الطرف لاعتبارات تتعلق بخطط المستقبل، لكنهم يريدون أيضاً أن يسجلوا نقطة على القادة الكرد حتى لو كانوا حلفائهم، تلك هي السياسة، شيء ممتاز أنهم اختطفوا سكرتير الحزب الشيوعي معه، سنقول للأمريكان أننا نريد مساعدتهم في البحث عن السكرتير الشيوعي وجماعته، حلفائنا الثورين في هذه المرحلة القصيرة، مبعوث من صدام إليهم، والشيوعيون لم يعودوا مخيفين، فهم يتامى مساكين مذ سقط آباؤهم في موسكو. بذلك نجد البيرماني أيضاً!

تغيرت لهجة المسؤول الكردي وكلماته:

ـ همنا أيضاً ..العثور على رفيقنا، وحليفنا سكرتير حزبكم الشقيق!

وراح يصغي متظاهراً باهتمامه بتفاصيل موضوعهم ومطالبهم، لكنه فجأة فكر أن الشيوعيين لا ينتهي استرسالهم بأحاديثهم ومطالبهم، متذكراً قول مسئوله عنهم " إنهم أساتذة اللغو، يتحدث أحدهم سبع ساعات عن سبع قطرات مطر نزلت في اليمن الجنوبي الماركسي فقط لا غير " فقطع، كلام أحدهم قائلاً:

ـ قواتنا الآن تقوم بتمشيط منطقة المقبرة، سنخبر مركز الاتصال الأمريكي بما حدث، ليساعدونا في البحث عنهم من طائراتهم الاستطلاعية، ولكن هذا يقتضي تنسيقهم المباشر معكم، هل أنتم على استعداد لذلك؟

صار القادة الشيوعيون يتمتمون ويغمغمون مشتهين مستحين، كيف يشتمون الإمبريالية والصهيونية في بيانهم ثم ينسقون مع الإمبرياليين الأمريكيين بحثاً عن قادتهم؟ كيف يعيشون تحت مظلتهم الجوية؟ وكيف يحملونهم المسؤولية في بيانهم ويرفضون مواجهتهم لمتابعة البحث معهم في حقيقة ما حدث؟ طلبوا من المسؤول الكردي إمهالهم حتى يعودوا لاجتماع الكتب السياسي، والتداول في الأمر، قال المسؤول الكردي لهم وهم يخرجون، بلهجة لا تخلو من سخرية:

ـ الأمر مستعجل، ولا يحتمل اجتماعاتكم الطويلة!

وينقل لجماعته ما دار في اجتماعه بهم،فيهز المسؤولون الكرد رؤوسهم متعجبين أيضاً، ويقول أحدهم، وكان يوماً شيوعياً، وتحول للفكر القومي:

ـ ولماذا تستغربون ذلك؟ كل تاريخهم سلسلة تناقضات، وموقف ينسف آخر، ثم يعودون ليمجدوه كانتصار! يريدون من الناس إلغاء عقولهم ليروا مواقفهم صحيحة وأخلاقية، وأن يغنوا لهم!

ويعقب آخر مؤيداً :

ـ نعم هذه مواقفهم دائماً؟ يشتمون الإنجليز ونوري السعيد، ويتحالفون معهم عندما اقتضت مصلحة ستالين في حربه مع هتلر! ويشتمون البعثيين الذين ذبحوهم، ويتحالفون معهم إذا اقتضت مصالحهم كقادة ومصالح السوفييت! ويحاربوننا خدمة للبعثيين، ويثقفون أعضاء حزبهم وأنصارهم على أننا عشائريون وإقطاعيون وبرجوازيون وقوميون متعصبون! ثم بعد أن يلفظهم البعثيون ويلاحقونهم، يتحالفون معنا اليوم ويسموننا بالثوريين!

قال آخر:

ـ انتظروا بعد ساعة سيخابروننا يطلبون أن يهب حلف الأطلسي كله للبحث عن سكرتيرهم العظيم!

(21) اعتقلوا الراعي وأغنامه، والانذار يستدعي الأطباء والممرضات من اجازاتهم في ألمانيا!

قام المسؤولون الكرد بإرسال مفارز كبيرة من رجال حاملين أسلحة ثقيلة وخفيفة وانتشروا في أرض المقبرة ومحيطها لكيلومترين تقريباً، كان هدفها الأساسي البحث عن البيرماني وحارسه، قائلين أنهم يبحثون عن قادة الشيوعيين المخطوفين. عادت المفرزة بقبضة هواء، ووريقة صغيرة كتب عليها:(مشطنا المقبرة وما حولها. كان كل شيء عادياً وهادئاً، كنا قد اشتبهنا بشيء ظنناه قنبلة، ولكننا وجدناه علبة صغيرة سوداء فيها مقص، وقد ادعى أحد الرعاة إنه يعود له؛ لكننا احتفظنا به كدليل جرمي، واعتقلنا الراعي وتحفظنا على غنمه ..إلخ)

بعد وقت قصير، وصل عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلى مقر القيادة الكردية مبدياً استعداده للقاء مع الضباط الأمريكان، وتقديم كافة المعلومات المطلوبة التي تسهل عمل الطائرات والقوات الأمريكية في التدخل السريع، لمسح المنطقة بحثاً عن "الرفيق السكرتير، والطاقم القيادي الذي معه،وانتزاعهم سالمين من أيدي خاطفيهم" مضيفاً بلغة حماسية جديدة:

ـ لا أعتقد أن حلفاءنا الأمريكان سيتوانون في البحث عن قائد شجاع استهدفه أعداؤنا المشتركون في سلطة بغداد؛ بغدرهم وخستهم!

مضيفاً:

ـ لتكن هذه المأثرة عربون أعمال مشتركة، بل وتحالفات مشتركة في المستقبل!

وحين وجد قائداً كردياً مندهشاً من كلامه قال:

ـ وماذا في ذلك؟ ألم يتحالف رفيقنا ستالين مع روزفلت ضد هتلر؟ لنتحالف اليوم معاً لدحر هتلر بغداد!

راح القائد الكردي الذي توقع قدومهم بعد ساعة يقهقه وهو ينظر في ساعته قائلاً لزميله

ـ جاءوا بعد أقل من نصف ساعة، لقد راجعوا سجلات الحركة الأممية بسرعة! ألم أقل لكم إن وطنيتهم تعني عدم مخالفة الأممية حتى لو خالفوا العراق كله، وهكذا الوطنية وإلا فلا!

استجاب الجنرال الأمريكي قائد مركز الاتصال المسؤول عن المنطقة الآمنة بسرور لطلب الحزب الشيوعي، قائلاً لضابط آخر حاوره في الأمر (لم تعد الشيوعية تشكل خطراً علينا، لقد هوى الحوت الشيوعي كله في شباكنا، واعتصرنا زيته كله) وقام بالاتصال بدائرة الأركان في قاعدة أنجرلك التركية ليعرف إذا كانت طائرات الاستطلاع قد سجلت حركة أو حدثاً غريباً في منطقة المقبرة! جاءه الرد بعد قليل أن (أجهزة الرصد الزلزالي في الطائرات سجلت هزة خفيفة في سفح الجبل الذي يحتضن المقبرة, وقد فتحت كوة صغيرة إلى أعماق الأرض، انغلقت بعد فترة قصيرة، وثمة صخور هي الآن في حالة انزلاق!)

تحدث الضابط الأمريكي بذلك لعضو المكتب السياسي الشيوعي مضيفاً:

ـ ربما حدث خسف في الأرض، وقد غارت الأرض بقائدكم وجماعته!

اعتبر عضو المكتب السياسي ذلك تجديفاً، وافتراءً، وسخرية، إهانة أمريكية قذرة! ومع ذلك كظم غيظه وقرر مجاراته، فهو وحزبه يحتاجه الآن في هذه المحنة التي حلت بحزبهم،

القائد الكردي وجد ذلك مضحكاً ونكتة يحتاجها وأصحابه في هذه الجبال الجرداء التي عادت للصمت بعد اقتتال طويل، فقال:

ـ اطمئنوا، لا أعتقد أن سكرتير حزبكم وجماعته قد خطفوا، ربما هم دخلوا صوامع الدراويش الذين يكثرون في جبالنا؛ لكسبهم إلى صف الشيوعية، فأغووهم بما لديهم من حوريات الجنة!

أضاف ضاحكاً:

ـ ليلة حمراء، ليلتان، ويعودون!

أشاح القيادي الشيوعي عنه، وراح يتابع الضابط الأمريكي وهو يجري اتصالاته، كان الضابط يخرج من حجرته، ويمضي في ممر طويل إلى مقر قيادته، مرات عديدة، في المبنى الكبير المشيد على هيئة جمالون داكن الاخضرار في أرض واسعة، من الجدران الكونكريتية الجاهزة، وجاء ليقول :

ـ أوعزنا لطائرات الاستطلاع المسؤولة عن المنطقة الآمنة هنا، ولطائرات الأواكس عبر قاعدتنا في السعودية على الفور؛ لمراقبة صفوف قبور شهدائكم، والجبال المحيطة بها، كما أعلمنا مراكزنا الصحية في ألمانيا وفي السعودية والكويت بالحدث، وطلبنا منهم وضع مستشفياتهم وغرف العمليات الجراحية في حالة إنذار، واستعداد لقبول الحالات الطارئة، وانهم استدعوا الأطباء والممرضات من اجازاتهم وتحوطاً للطوارئ وضعنا قطعاتنا الجوية والبحرية المتقدمة في حالة إنذار متوسطة الدرجة!

كان هم القادة الكرد، إنقاذ مبعوث صدام. راحوا يتابعون الإجراءات الأمريكية بارتياح وحذر، وقد طمأنهم أن الأمريكان قد اتخذوا هذه الإجراءات الكبيرة إكراماً لعيونهم.

فأوعزوا من جانبهم لكتيبة مدججة بالأسلحة الثقيلة باحتلال السفوح الواطئة المحيطة بالمقبرة، ولمجموعة من المشاة تحمل البنادق والرشاشات بالانتشار بين قبور الشهداء ترقب التراب والحجارة بحثاً عن أية كوة أو حفرة أو ثقب يفضي لما قيل أنها سراديب تحت الأرض اقتيد إليها المخطوفون. كان مسلحوهم متوترين ممتلئين غضباً وتأهباً للقتل الفوري؛ معتبرين أن ما حدث مؤامرة كبيرة على الحكم القومي شبه المستقل في هذه الأرض. التي يشكك الأعداء بحقهم بها مدعين أنها آشورية وأكدية آلت للعراقيين. توالت أرتال مسلحة صاعدة سفوح الجبال المحيطة، ودخلت مجموعات أخرى المقبرة من جديد، وراحت تجوس بين قبور الشهداء بحذر وترقب. وجدوا المقبرة هادئة والقبور تبدو كمهود أطفال نائمين بعمق، وقد غمرتهم أشعة الغروب. لم يجدوا سوى زهور ذابلة، وبذور مختلطة لخشخاش وشقائق نعمان وشعير بري ونرجس جاف وأشرطة حمراء مقصوصة عند مدخل المقبرة، وفتات من هياكل عظمية مع قطع معدنية عليها أسماء شهداء، وبقايا رسائل وصفحات منتزعة من كتب نظرية وروائية وشعرية، وصور لفتيات ونساء ورجال وجمجمة منخورة منسية في كيس نايلون، وقد اعتبرت من بقايا الشهداء. عندما عرضت على عضو المكتب السياسي الشيوعي رفض استلامها، اعتبرها تعويضاً نهائياً عما حدث أو تمهيداً لغلق الموضوع؛ فبقيت مركونة في حجرة مسؤول كردي. لكنه تقبل بتأفف وعوداً من الضباط الأمريكيين والمسؤولين الكرد بالعمل الجاد والسريع للسيطرة على المكان، وكل شيء، وإنقاذ القادة المختطفين بأسرع وقت! ما كان يزعج المسئولين الكرد اختفاء البيرماني، وعدم عثورهم على أثر يدل عليه، وعجزهم عن تقديم تفسير لرئيس المخابرات في بغداد، كان يخابرهم متسائلاً وموبخاً، بين فترة وأخرى! ومن بين ما كان يقول لهم: أهكذا تكافؤننا بعد أن أنقذناكم من قوات الطالباني، والجيش الإيراني؟

ورغم تصاعد الاستطلاعات الجوية الأمريكية حارثة قبور الشهداء، مقلبة لها في السبر الشعاعي، وتوسع التحريات الأرضية الكردية، لم يعثروا على شيء، جاءت تقاريرهم تقول: لا شيء هناك، الوضع هادئ، لا يوجد ما يدل على عمليات خطف أو اعتداءات، وقد ضحك أحد المسؤولين الكرد لتقرير كتبه ضابط كردي أو كل إليه مراقبة وضع المقبرة يقول فيه (وجدنا قبور الشهداء في غاية الهدوء والانضباط) و(سنبقى نشدد الحصار على المقبرة الخالية ونراقب بابها ولن نسمح لأحد بالخروج منها إلا بموافقتنا وعلمنا)

لكنه عاد إلى كآبته ووجومه وهو يسجل الأمر الآتي من قائده الأعلى: أعملوا المستحيل للعثور على مبعوث السيد الرئيس!

(22) حذار أن تمسك بثيابك صرخة العالم الأسفل!

يتندرون، أن جو العراق الحار القائظ اللاهب، كون مزاج العراقيين القاسي، ومصائرهم المريعة؛ وجعلهم لا يخشون جهنم؛ فراحوا يرتكبون المعاصي، صاروا متمردين دائما حتى على الله! هنا في العالم السفلي تنحى طقس الأنواء العنيفة المكشوفة، عكس هواء الفوهة الحار بعض الشيء، ليحل جو يحرص على حياديته، لم يكن بارداً ولا ساخناً، نسماته تهب رخية منعشة تارة، ساكنة خانقة تارة أخرى، لكنها في هذه الأحداث لم تعد مضجرة أو مخيفة، ثمة رطوبة وجفاف، رائحة ترقب وانتظار، منذ عقود وفي أرض العراق حتى رائحة الولادة تحمل رائحة موت وشيك مفاجئ قبالة سماء فارغة! في هذه الساعات الغريبة صارت تحمل نكهة مواسم مختلطة، لا تخلو من بهجة!

ظل الشهداء،والمختطفون، والأمهات والأصدقاء،يسيرون في طرق قاحلة، وأرض ملحية غبراء، كلما عبروا بوابة خيل للبعض من الأحياء أنهم وصلوا رحاب العالم الأسفل حيث يقيم الأموات، فكانوا يتوقفون متحيرين، فيسحبهم الشهداء قادة الموكب ويطلبون منهم الصمت، يروحون يخبون في صحارى شاسعة مظلمة لا تضيئها سوى نجوم معلقة تحت سقف الأرض، قناديل منسية منذ بدء الكون، ويحفها صمت مدوي مهيب، قلب الأرض ينضج نفسه على نار هادئة أخرى غير نارنا الدنيوية ليتفتق عن حلم أزلي جديد، راح يونس يعد البوابات، وجد إنهم قطعوا ست منها، ولازالوا يغذون السير، وينزلون دون قرار، تذكر في تلك اللحظة ظلمة غابرة، هجس أنها ظلمة الرحم القديم الغامض، وفكر بأسى كم كانت سريعة تلك اللحظات المضيئة فوق سطح الأرض التي تفصل بين هاتين الظلمتين، كأنها جسر من زبد البحر،فقاعات، نغمات،جناح نسر عظيم كسرته العاصفة، كلمة حالمة لسكران شريد، ظهر أفعى وحشية تبدو ثابتة، بينما هي تدب خالعة جلدها، فتخلعنا معه، وتلقينا للريح! يا لتلك الأيام العسيرة، لا تخلو من عذوبة، كيف انقضت بسرعة، ولم تخلف وراءها سوى دفء ذكريات حزينة، ومعضلات لم تحل، وها هو الآن يواصل المسار الطويل، ليرى مع الشهداء فصلها الأخير! حاول أن يتذكر بعض ما يعرفه عما أشيع عن العالم الأسفل،وجد أن عليهم عبور البوابة السابعة؛ ليكونوا قد وصلوا نهاية المطاف، حيث الشمس في مغيبها تأوي وتطفئ جدائلها بدموع الأموات، وتستريح من شعلتها قبل أن تنهض في اليوم التالي، لتطل على الدنيا أماً حنونة مخلصة عليها أن تعد النار، والضوء لصغارها المساكين في الدنيا الزائلة، لينضجوا عليها غذاءهم، ويأكلوا ويواصلوا لعبهم الغافل قبل الموت! ما جعله يتيقن أنه في عالم الأموات الحقيقي وليس في وهم! رؤيته للكلب الأسطوري سربروس، ذا الرؤوس الثلاثة الذي يأكل جثث الموتى، ويربض عند باب المقابر يمنع الموتى من الخروج للحياة، ويمنع الأحياء من لقاء ذويهم الموتى. سمعه يزمجر بغضب مكتوم دون أن يجرؤ على مهاجمتهم، ربما لكونهم يسيرون موكباً كبيراً موحداً، ظل يهز بذيله، ويكشر عن أنيابه! كان يونس صامتاً طيلة الطريق، لم يكن يسمع مع الصمت سوى وقع أقدام مفرزة الشهداء، والقافلة الكبيرة التي هبطت معهم لتواصل شوطها الأليم العاثر ولكن تحت الأرض هذه المرة. سمع رجلاً يميل على شهيد كان يقود المفرزة المقتحمة ويسأله:

ـ أعرف أن حراس البوابة السابعة لا يسمحون لأحد أن يمر منها إذا كان يحمل سلاحاً، أو يرتدي ملابس نظيفة، أو نعلاً،أو يتمسح بعطر!

لم يستغرب يونس،وهو يغذ الخطى في العالم السفلي، ومنخرطاً في الحالة نفسها، إنه هو نفسه يكاد يعتقد بهكذا توقعات ومخاوف، عزا ذلك إلى طول رحلة الظلام التي تجعل أقوى العقول نهباً للأشباح والظلال الثقيلة العكرة، فهو الآن في عالم آخر طالما أنكره في تلك الحياة القصيرة الفانية، لم يستطع أن يهدئ وجيب قلبه! كان أسير حيرة: أهو في حلم أو كابوس؟

ظل الشهيد القيادي صامتاً، ولكن الرجل الغريب أضاف محذراً:

ـ يقولون أن من يخالف ذلك تمسك به صرخة العالم الأسفل، لتسلمه لجيش من الثعابين والوحوش والعقبان الجائعة!

قال القيادي بصوت ناعس وكأنه أفاق لتوه من نومة عميقة استمتع بها وهو يسير، وأراد مجاملة رجل قريب لرفيق له شهيد:

ـ هذه إجراءات قديمة ترجع إلى زمن انكيدو، وفي العالم الأسفل يطورون قوانينهم وتقاليدهم أسرع من العالم العلوي!

أحد القادمين من ضيوف الاحتفال، ظن الشهداء الخارجين من الأرض؛ مردة من الجان، فهو يعتقد أن هذه الأرض تعج بنوعين من الجان، نوع كفرة يعملون لحساب الشيطان، وجان مسلمون يتلون شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يعملون لخدمة المسلمين ومضايقة الكفار، أو أبادتهم وتخليص المسلمين مما يضمرون لهم من شر! قدر أن هؤلاء من الجان المسلمين، وقد هبوا ليعاقبوا الشيوعيين على إلحادهم وكفرهم ودعوتهم لسلب أموال المسلمين بحجة توزيعها على الفقراء، بينما هم يريدون منحها للروس المسقوف الكفرة حلفاء الشياطين، قال في نفسه: الآن صدق وعد الله، وما يقوله الأئمة عنهم في الجوامع والبيوت! كيف سهى عن ذلك، وجاء يؤدي واجباً لقراءة الفاتحة على قبر أحد أقاربه وهو ملحد عميل للشياطين وللروس؟ خاصة والشيوعيون لا يوزعون في احتفالاتهم لا كباباً ولا حلوى، ليس لديهم سوى أناشيد، أناشيد وأغان سخيفة لا تجلب سوى الجان والشياطين الكافرة! لن يغفر الله له ذلك، بماذا سيعاقبه الجان المسلم؟ شل تفكيره، وارتعدت فرائصه ووجد نفسه منساقاً مع التيار المندفع نحو فوهة العالم السفلي مع السيل الغائر في خسف الأرض، تذكر أن ثمة دعاء لطرد الجان والشياطين غير المسلمة، ومنح القياد للجان المسلم ليوصله حيث شاء له الله من أمان وخير. لكنه نسيه الآن وهيهات له أن يتذكره وهو يرتجف، أخذ يسمع كلام الرجال الذين يقتادونهم وتخاطبهم بكلمة: رفيق، استغرب فما سمعه عن الجان يقول أنهم يتخاطبون بلغة القرآن، ما هذا؟ هل نظم الجان أنفسهم كالشيوعيين أيضا؟ هل هناك جان شيوعي، وجان برجوازي، مثلما هناك جان مسلم وكافر؟ سار خانعاً يحاول عبثاً تهدئة نفسه ومحاولة تذكر آية الكرسي،" كنت أقرأها كلما صعدت السرير وقمت بتأدية حقي الشرعي مع زوجتي، كيف أنساها في هذه اللحظة الحرجة التي هي أخطر بكثير من الجماع، اللعنة، لماذا لا أتذكر آية الكرسي، إلا حين تخلع تلك البقرة ثيابها وتفتح ساقيها، وتدعوني للصعود عليها حيث ألهث كأني أصعد جبلاً " وجده أحد الشهداء متلكئاً فسأله:

ـ أتريد الخروج أم البقاء معنا؟

ـ أريد الخروج، من أين الطريق؟

أشار له إلى ممر ملتوٍ، فمضى نحوه متمتماً:

ـ لعنة الله على الشيوعيين الملحدين، أنسونا آية الكرسي، سأحملها في حجاب تحت أبطي، بل سأحمل الكرسي معي لأستريح عليه حيثما حللت وارتحلت، ولن أجلس على كراسي للشيوعيين أبداً!

هز يونس رأسه مستوحشاً، لم يكن يتوقع طبعاً أنهم حين هبطوا من المقبرة سيدخلون الجنة، فيرون غابات أشجار وارفة، وأنهار خمر أو عسل، تتفرع منها سواق وغدران تحفها مجالس حوريات وغلمان ناعمين بأنس وعشق ونشوة وطرب، لذا لم يستغرب أنه لا يرى سوى عماء، وغمر مديد، تضج منه رائحة ملحية، على العكس كان مستغرباً أن الشهداء ما زالوا أحياء يدبون في عالمهم بينما المعروف فوق الأرض وفق نظريته العلمية أن الموت هو نهاية كل شيء، وإن الحياة الأخرى هي من ادعاءات وخزعبلات أصحاب الأفكار الغيبية، صار يحتمل رائحة الملح الأبدي بهدوء، سمع الرجل الغريب يقول:

ـ ها نحن نجدكم في العالم الأسفل، بينما الناس يتغنون بكم معتقدين أنكم في الأعالي؛ تسكنون قصور الجنة، ترفلون بالحرير، تأكلون وتشربون الطيبات، وتعاشرون الحسناوات!

رد الشهيد بصوت مرح :

ـ حتى لو أرسلت لنا السماء من يدعونا للعيش في جنتها، كنا سنؤثر دفء رحم الأرض، نحن كما تعرف تعودنا على الحرمان والتقشف، ونخشى أن نفسد في الجنة!

-         ـ ظننت أن السماء غاضبة عليكم لأنكم أنكرتم إلهها، وغرستم عيونكم في الأرض ولم ترفعوا رؤوسكم إليها!

-         ـ لا،السماء التي لم يصنعها المبشرون البشر، لا تحقد ولا تثأر!

شعر يونس بالقلق عليهم، كيف اختاروا مرة أخرى طريق المكابدة والعناء فسأل:

-         ـ وهل أنتم مرتاحون هنا؟ قال الشهيد بهدوء:

-         ـ لقد اكتشفنا أن النوم تحت شغاف قلب الأرض لا يقل جمالاً ومتعة عن النوم في حضنها تحت غلالة القمر في ليالي الصيف، خاصة إذا لم تكن مهددة بزوار الفجر!

فجأة تلاشى الغبار وانجلى الجو صافياً، وهبطوا درجات عريضة لكنها هادئة الانحدار تحفها أنوار وعبير حزين، كاد يونس يسقط من الإعياء لكن الشهيد القيادي أسنده قائلاً:

ـ ها قد عبرنا البوابة السابعة!

(23) لكل إنسان غيمة في السماء هي قبعته، ستهبط على قبره باكية!

سمعت أصوات أبواق، وصيحات غامضة. الحراس المغمورون في الظلام يحيون موكبهم. دخلوا باحة كبيرة مغمورة بنور شمس غريبة، شعاعها يميل للخضرة، يومئ لربيع لن يأتي أبداً، مشبعة بهواء عذب رغم أنها تحت أسفل طبقات الأرض. كان قادة الحزب المعتقلون يسيرون بينهم مخذولين، وعلى سيمائهم ذهول ورعب، والسكرتير يتلفت محاولاً أن يجد بابتسامات الشهداء ما يطمئنه، لكنه مازال غير مصدق كيف نهضوا من موتهم الطويل، وهو ورفاقه القياديون معتقلون بأيديهم الآن، يريدون محاكمتهم. ترى ما الذي جعلهم يثورون؟ من حرضهم؟ أهو يونس رحيم؟ هذا العجوز المرتد الحاقد عليُ وعلى الحزب والشيوعية، إنه الآن يسير معهم طليقاً، ويبدو منتصراً. لابد إن ما قيل عن خيانته وتواطئه مع السلطة صحيح، إنه يستحق أكثر من الطرد والنبذ. لو عدت للحياة العادية على رأس الحزب لأجريت له محاكمة حزبية سريعة ولجعلته يلقى مصير الخونة والجواسيس الذين أرسلتهم السلطة من بغداد ليخربوا عملنا النضالي. رصاصة واحدة في الرأس تكفي. لا معنى للوقوف عند كونه شيخاً هرماً، وله ماض حزبي طويل! ولكن ألا يكون ما يحدث نتيجة لتراكمات أعمال وممارسات القيادة السابقة؟ ينبغي أن أركز في دفاعي على ذلك، لن يجدي القول لهم أنه تحريض من يونس، فهم يحبونه ويقدرونه كما يتضح لي الآن، وسيعاندون ويصيرون أكثر غضباً وشراسة ضدي! في عتمة النفق الملتوي أحس البيرماني بذله وعذابه، فهو ما كان ليتعرض لهذه المهانة لولا أن صدام زجه في هذه المهمة العسيرة دون ضمان، فعندما كان يرسل وفداً لمفاوضات مع قادة الكرد في مقراتهم الجبلية؛ يشترط عليهم أن يرسلوا له بعض أبنائهم أو أفراد من عائلتهم ليبقوا لديه وديعة؛ ريثما يعود الوفد. هم أيضاً حين يذهب أحد قادتهم إلى بغداد للتفاوض يطلبون أن يودع لديهم أحد أبنائه وديعة لديهم. كانوا يسمون عدم الثقة هذه أصول الضيافة، لماذا لم يشترط لحمايتي شيئاً كهذا؟ هل أنا رخيص لديه إلى هذا الحد؟ لماذا قبلت أن آتي بهذه المهمة دون ضمان أو عهد ملزم؟ هل صرت رخيصاً أمام نفسي إلى هذا الحد؟ في الباحة السفلى كان هناك جمهور كبير من الشهداء ينتظرون واقفين، عظام وجوههم تشع متوهجة، وقد استعادت فجأة رواءها القديم. ثمة سماء لكنها واطئة تحنو بنور مفاجئ، تتخللها سحب منخفضة تكاد تلتصق برؤوس الشهداء، حيث يلوح لكل شهيد قبعة من غيمة شاردة، تختزن أمطاراً مؤجلة دائما، لا تدري من أي بحر صعدت، من دموع أحبتهم، أم من سراب قديم طويل! سحابة رائعة طيرتها عن رؤوسهم ريح عاصفة عاتية، ولا بد في يوم ما أن تهبط فوق رؤوسهم باكية، ربما تبللهم بعرقهم في حمى الليالي الطويلة، أو بعرقهم من خجل أنهم فشلوا في قضيتهم المبالغ في ضخامتها، وكانوا سيئي التقدير! لم يجد يونس ذلك غريباً لأنه في الحياة الدنيا، التي لم يعد يتذكر متى فارقها، توصل في تأملاته: لكل رأس بشري غيمة في السماء، هي قبعته التي ستهبط عليه عند رحيله باكية!

كم رأى في الحياة من وجوه، كل وجه كان يختفي وراء سحابته الخاصة التي كان يحار في صخبها، أو نداها. لا يتذكر من جموع البشر الصاعدة أو النازلة إلا كتلاً من الغيوم تبعثرها أنواء السماء، الشهداء يبدون بملامح واضحة، رغم غياب وجوههم! سمع من يقول:

ـ ها قد وصلتم المكان المقصود، حطوا رحالكم!

وقف يونس متفحصاً المكان. كان أرضاً موحشة، معتمة أو قليلة الضوء، لا يعرف من أين تتسرب حزم نور خفيف من شمس أو نجوم أو عيون كائنات مشعة تحدق بهم، ربما هو كهف كبير، باحة واسعة هي قاع لتجويف بهواء يكفي لعدم الاختناق، رغم ذلك استمد من الحركات الطبيعية الهادئة لمن حوله من الشهداء والأحياء القدرة على تنفس عميق يتمسك بالحياة بمحاذاة هذا الموت القديم، ربما قاعات الوجود الأزلي، هكذا لا ترى جدرانها، ولكنها تحس بشكل غامض، ومع ذلك شعر براحة فها هو، أخيراً، يصل للمكان الذي يريده الشهداء، وما عليه إلا أن ينتظر، ويرى ما سيحدث! هب الشهداء بهياكلهم العظمية حين شموا روائح أمهاتهم وآبائهم. حدثت جلبة وقرقعة كأنها لم تكن تصدر عن عظام خاوية، بل عن معادن تصلبت بعد أن صهرت طويلاً! بدا ليونس أنهم في الجو المعتم تعرفوا على بعضهم بالرائحة والنبض الخفي، وليس بالنظر أو السمع، أدرك الآن أنهما ليسا أقوى الحواس مهما تباهى البشر بهما.

-         الأمهات أول من اندفعن باكيات من فرح نحو الشهداء، نبتت أجنحة لقلوبهن المكلومة المنهكة؛ فعادت قوية معافاة تريد أن تصل لأحبتهن : ابن، بنت أخ، زوج، أم، أب، صديق،جار، تهفو قلوبهن لمعانقتهم،تقبيلهم، سماع أصواتهم! بصمت وسكون، اندفعن إلى صفوف الشهداء يحتضن من يصادفن دون أن تميز الأم إن كان من تعانقنه هو ابنها، بنتها! كانت أذرعهن المفتوحة تتلقف هياكل الشهداء، كلهم أحبتهن! هنيهة صارت كل أم تدور بعينيها، تريد أن ترى ابنها أو بنتها وتتأكد من عودته للحياة سليماً معافى. لم يفطن إلى أنهن كن يعانقن هياكل عظمية؛ تصفر بها الريح، ليس فقط لأنهن كن مغشيات العيون بالدموع بل لأن بعضهن غمرتهن قناعة وسكينة : سيكسين عظام أبناءهن لحماً وعصباً من أحلامهن ورفيف أكبادهن! أخريات أدركن أن أبنائهن هياكل عظمية فقط، صرن يخففن من ضمهم إلى صدورهن خشية أن يتهشموا، وقف الرجال والشبان ينتظرون ريثما تنتهي الأمهات من العناق والبكاء والتقبيل الذي لا يردن أن ينتهين منه، ليتقدموا ويبحثوا بين هذه الهياكل العظمية المنتصبة، أو المنحنية، الدائرة بخفة، عن أبنائهم وأشقائهم بكامل أجسادهم وقوامهم. كانت النساء يشعرن أن ما رأينه وعانقنه هو تقدمة، وجبة أولى، مزحة فقط،والحقيقة الجميلة السعيدة؛ ستأتي فيما بعد، وقريباً وراء هذه الهياكل العظمية التي مهما حوت من رائحة أحبتهن، لكنها لن تكون هي أحبتهم! فالرائحة والعظام غير الجسد، ظلت عيونهم تدور في الفراغ دون جدوى، فعدن يعانقن الهياكل العظمية ويبكين! وما كان لأحد بينهن في تلك اللحظة ليعجب كيف تتعرف الأمهات على أبنائهن الشهداء، وهم دون لحم ودم، هل أن حبل السرة الذي يقطع لحظة الميلاد هو في الحقيقة يكسر السكين، ويظل موصولاً كخيط من النور، أو العتمة، أو الوهم؟ أم أنهن يختزن في قلوبهن الرائحة الأولى للأبناء فتجتذبهن إليهم أينما حلو أو ارتحلوا، ومهما مضى من الزمان أو امتدت المسافات؟ بينما الرجال يظلون مرهقين تعذبهم عيونهم المرتعشة الزائغة، يتمنون لو تساعدهم مخيلة الأمهات الجامحة! بدا الشهداء بهياكلهم العظمية المنخورة، المشعة أكثر رقة وسمواً، أطياف نور متخففة من نزعات الدنيا ومطامعها، بلا أحشاء وغدد، ولا بطون، ولا جيوب، ولا حقائب، ولا أوسمة أو ألقاب، دون أوراق وأسرار الحياة الحزبية الخانقة، يعودون من سفر طويل منحهم المزيد من الحكمة واللطف، لا بد إن شيئاً طيباً سيحدث، هفت قلوبهم كرجال لهذه الثورة في المقبرة كما لم تهفوا حتى أيام ما أسموها بثوراتهم الوطنية، وتراقص آمالها الكبيرة الخائبة! رأى يونس بشراً وسروراً على وجوههم، فشعر بنشوة عارمة تكتنف جسده فتعود قواه الغابرة وحماسه للحياة! طفقوا يتعانقون، لم يكونوا يكترثون أن يحدث لديهم سهو أو خطأ في التلاقي، لا يشغل الأحياء أن تحتضن أذرعهم الممدودة هيكلاً عظمياً لشهيد لا يعرفونه، ولا تعبأ الهياكل العظمية أن تحتضن جسداً يضج بالحياة وأحلامها وآلامها لا يمت لها بقربى أو معرفة! انزوت الأمهات والأخوات اللواتي معظمهن عانسات شاحبات الوجوه مترهلات البطون، والآباء بوجوههم اليابسة المجعدة المليئة بشوك الشيب مع هياكل الشهداء. ثمة أمهات أجلسن هياكل أبنائهن في أحضانهن وعكفن عليها يقبلنها ويهمسن لها ويناغينها وكأن الشهيد عاد رضيعاً غافلاً عن مصيره! حرص يونس أن يقف في زاوية لا لكي يرقب ما يحدث بهدوء، بل لكي لا يشغل الشهداء الذين قد يتعرفون عليه فيقبلون معانقين له متحدثين بما بينه وبينهم من شجون وحكايات، فالأهم الآن أن يعانق الشهداء أمهاتهم وأحبتهم وقد فارقوهم طويلاً دون وداع، ألا تبكي الزهرة غصنها، والغصن زهرته بقطرة نسغ، حين تفرق بينهما الريح؟ فكيف بالبشر؟ انشغل عن السكرتير المعتقل وجماعته، كانوا مفردين منبوذين لا أحد يقربهم، قال في نفسه، كم يكون السياسيون متطفلين زائدين مقحمين، أمام عواطف البشر ولهفتهم وتطلعاتهم، كانوا مهملين غير مراقبين ولو لم يكن المكان في القاع الأسفل من الكون، ومحاطاً بجدران ثقيلة معتمة؛ لهربوا دون أن يلتفت لهم أحد من الشهداء.

تعجب يونس كيف كانت محاجر عيون الشهداء الخاوية تدور وترسل أشعتها الكاشفة، عرف أن أشعة النظر هنا تجري بصورة معكوسة إذا تنطلق من العينين، وليس من الأشياء المنظورة. خشي وهو الحي أن لا يرى، لم يلبث أن اطمئن إذ وجد نفسه يرى وأفضل مما كان في حياته على الأرض، وعزا ذلك إلى طيبة الجو كله وغناه، كان قائد المفرزة التي نفذت عملية جلب قيادة الحزب قد تنحى جانباً إذ أدرك بسرعة أن مهمته قد انتهت. تقدم شهيد آخر، وقف وراء منصة من الصخر، لوح بيده مطمئناً الجميع بما فيهم المعتقلين، ثم انبعث صوته قوياً صافياً يدعو الحاضرين للجلوس في أماكنهم؛ فعم الهدوء، وأشار إلى بقعة كانت في وسط الباحة الكبيرة سلطت عليها دائرة من الضوء، وطلب من المعتقلين أن يبقوا فيها، قال موجهاً كلامه للسكرتير المعتقل ومن معه:

-         ـ أعتذر لكم، ولرفاقنا الشهداء؛ أننا استعملنا معكم أسلوباً فظاً مارسه الجلادون معنا، لكن ما حصل كان إجراءً اضطرارياً، ومعذرة إذا كان رفاقنا قد عرضوكم لشد أو إيذاء بدني، ومن جانبنا نستطيع أن نعدكم أنكم لن تتعرضوا لتعذيب، أو إهانة، أو إذلال، وستتركون في كامل إرادتكم للإجابة على أسئلتنا. لم نعتقلكم؛ لننتقم منكم؛ أو نؤذيكم، كل ما نريده منكم هو أن تتعاونوا معنا؛ لنصل إلى الحقيقة، بعد أن يئسنا من الحوار معكم طوعاً!

-         تقدم شهداء كثيرون يحدقون بحلقة قيادة الحزب، ويتمعنون بوجوههم تحت النور العكر، بعضهم أخذوا يهزون رؤوسهم، ويصفقون أكفهم، فتتساقط عظامهم ورمادهم، أدرك يونس على الفور عم يبحثون، ولم يتأسون، سمع أحد الشهداء، يصيح ملتاعاً:

-         ـ كنت أنتظر كمتار بيس؛ لي حساب عسير معه!

-         عرفه يونس، كان هذا الشهيد قد دفعه كمتار بيس للذهاب إلى كردستان، ليراود زوجته التي كانت شابة جميلة، بقيت لوحدها في بيروت مع طفلها!

-         قال شهيد آخر مخاطباً حسن طلقة: أتيتم لنا بتلاميذ في الفساد والضلال، أين الأستاذان كمتار بيس وحمه سور؟ رد حسن: انتظر لن يفلتا من قبضتنا! ثمة فتاة شهيدة لم تنجو سمعتها من لوثة كمتار بيس قالت: ستكون محاكمة فاشلة؛ لو أفلت منها كمتار بيس وصاحبه!

-         آخر قال فرحتنا في المحاكمة ستظل ناقصة ما لم نضع جميع المتهمين الكبار أمام العدالة!

-         آخر صاح غاضباً بوجه أنور: صيدكم أيها الرفاق هزيل، أفلت منه أخطر المتهمين!

-         ظل كثير من الشهداء يسألون عن حمة سور: وأحدهم يولول: ثلاثون سنة على رأس الحزب، يقوده من هزيمة إلى أخرى، ومن نكبة إلى أخرى، متستراً على كمتار بيس الذي حول الحزب إلى شركة لجمع ثروته، وممارسة فضائحه المدمرة، كيف يفلتا من حساب وعقاب؟ لم يحس يونس برغبة في الانتقام من كمتار وحمه سور، ليس له أي عداء شخصي معهما، لكنه كان مقتنعاً إن هذين الشخصين هما من يجب أن يمثلا أمام الشهداء للحساب، قبل غيرهما، ولكن هذا صعب جداً، فحمه سور يعيش أخريات أيامه في أربيل غير بعيد من كهف الشهداء، محاطاً بحماية سلطة الحكام القوميين الكرد، مكافأة له على وضع خدمات الحزب الطبقية والأممية في مصلحة مشروعهم القومي، رافلاً برعاية صحية ونفسية أجلت موته وأبعدته عن هكذا مزعجات، لذلك هو لم يأت لحضور افتتاح المقبرة متجاهلاً الدعوة التي وجهت له. وكمتار بيس منهمك الآن بإدارة تجارته واستثماراته الكبيرة وعقاراته، من أمواله المسروقة، الممتدة بين دمشق وبيروت ولندن، سيضحك كثيراً إذا سمع بما يجري هنا: أية محاكمة ؟ ومن هؤلاء المعتوهين الذين يرطنون بها؟

-         لكن أنور وعد الشهداء المتسائلين عنهما: سنبلغهما بموعد ومكان المحاكمة، وإذا رفضا الحضور سنحاكمهما غيابياً، وسنعمل بل طاقتنا على جعل محاكمتنا لهما عادلة وسليمة الإجراءات، ثقوا ان حكمنا عليهما؛ سيكون موضع ارتياح الناس وتضامنهم!

(24) على طريق الآلام، هل تظل الكلمات.. كلمات؟

ليس الناس فقط يسألونني، أنا أيضاً أسأل نفسي؛ ما الذي أتى بي إلى هذه القلعة؟ لماذا ارتضيت عزلتي واستسلمت للأحزان والصمت؟ سأتحدث فيها الآن وعلى مضض. أفلح سكرتير الحزب "حمه سور" وصاحبه "كمتار بيس" في السيطرة على قيادة الحزب، وقاما بإبعادي عن مكتبه السياسي، وفرضا عليّ طوقاً من العزلة والحصار. بحجة غريبة، أخرجوا لي أوراق قضية قديمة. ادعوا إنني حين اعتقلت قبل سبع سنوات، لم أجابه المحققين بصلابة، وإن موقفي أمامهم كان ضعيفاً منهاراً، وإنني فرطت بأسرار الحزب، ووشيت برفاقي وخنتهم. وهذا محض كذب وهراء، وظلم فادح لي سأتحدث عنه لاحقا! رغم أن تفصيلاته أليمة وقاسية! أسكنت قسراً في هذا المكان؛ فأنا لا زلت عضواً في الحزب، ويجب أن أخضع لقراراته مهما كانت جائرة. شيئاً فشيئاً ارتضيت وارتحت لعزلتي. ثم أين أولي وجهي؟ والمنطقة كلها مشتعلة صراعاتٍ وحروباً. لو عدت إلى بغداد لقتلت بقسوة أو مسخت. لا أريد أن ألجأ إلى بلد بعيد. لا أستطيع العيش في أي بلد في العالم، مهما كان جميلاً ومرفهاً؛ فأنا مغروس في العراق، ربما أنا مشطور من النخلة، التي هي شجرتي المفضلة منذ صغري. رحت أعذب نفسي أيضاً، تارة بالذكريات، وتارة بالأحلام. مرة بقذيفة من الماضي، ومرة بركلة من المستقبل. ولكي يكون الأمر واضحاً لا بد من حديث طويل يجرني إلى التاريخ، أحاول أن أجد فيه سر ما جرى. تاريخنا هو كعكتنا الكبيرة التي صنعناها جميعاً، ومهما رأينا عليها من عفن وتفسخ، يجب ان نتقدم لنأخذ قطعة منها؛ ولو على سبيل التذوق. سأضطر ان أتفحص العفن والجيف أيضاً. ما كنت أريد ان أتحدث عن تلك الواقعة المخزية، وما جرت خلفها من نكبات كما تجر العقرب خلفها حلقات من الهوام والثعابين! اعتقال مئات الرفاق وقتلهم، أو تشويه أرواحهم وعقولهم، وتدمير حياة عوائلهم، ثم اعتقالي؛ وما جر عليً من تداعيات حتى عزلتي الأخيرة في هذه القلعة. أقل ما توصف به تلك الواقعة أنها قذرة ووحشية وبشعة، ولكن لا بد من المرور عليها سريعاً، والتوقف عند خلفيتها السياسية قليلاً، فأنت لا تستطيع الحديث عن رحلة السمكة، ما لم تتحدث عن الموج والريح والبحر. لا بد من كلام تعيس في السياسة لمعرفة ما جرى في تلك الليلة المشؤومة، وكيف سارت الأمور، وآلت إلى نهاياتها المريعة! سأرويها باختصار فهي مقرفة تثير غثياني، وتجعل نبضات قلبي المنهك تتسارع مقاربة الموت!

بداية السبعينات، تصاعدت ملاحقات السلطة لرفاقنا: اعتقالهم وإخفاءهم، تعذيبهم وقتل الكثيرين منهم. سحق تنظيماتهم الشبابية والطلابية. كان تعامل قادة حزب البعث معنا في ذلك الزمن يسير في خطين متوازيين. الأول: يفاوضوننا فيه للتحالف معهم، مؤكدين أنهم لن يكرروا ما فعلوه بنا، وبغيرنا في الماضي، وأنهم الآن على استعداد؛ لنقد ماضيهم المثقل بالخطايا وتجاوزه! كنا نعرف أنهم يحتاجون التحالف معنا؛ ليس من أجل تحقيق الوحدة الوطنية، وإطلاق مسيرة تقدمية في البلاد كما يدعون، بل ليستعملوه ورقة تزكية لهم لدى الاتحاد السوفييتي، والدول الاشتراكية، والأوساط اليسارية في العالم، ولجعلنا عيون حراسة لهم في الداخل والخارج! والخط الثاني: كانوا يواصلون فيه حملة ملاحقات واغتيالات لرفاقنا بدءاً من أعضاء اللجنة المركزية، حتى أعضاء أو أصدقاء لنا في القاعدة. هم لا يريدون قتل الحزب ودفنه تماماً، لأنهم يحتاجونه. كانوا يريدون إيصاله إلى أضعف، وأتعس حال؛ ليوافق على شروطهم، ويتحالف معهم لا كند، بل كتابع ذليل، وجزء من ديكور ثوري مزيف، مستكين لقيادتهم الشمولية المطلقة لبلاد! هكذا كان الحوار معهم يجري: مرة بالجلسات الأنيقة المهذبة، يتبادل فيها قادة حزبنا معهم الابتسامات، والعناق وكؤوس الليمون والتفاح، وأحياناً جلسات ويسكي وكونياك، وسيجار كوبي للاسترخاء العميق في المساء، في قاعات القصر الجمهوري الفخمة. وبنفس الوقت وغير بعيد من تلك الجلسات الحضارية الودودة واللطيفة، ثمة حوارات كئيبة رهيبة تجري في السجون والمعتقلات بينهم وبين رفاقنا ورفيقاتنا، وهم بأجسادهم العارية الضعيفة، تتولاها مراوح سريعة تدور بهم لتوصلهم إلى نشوة الموت القصوى، سكاكين تقتلع أظافرهم، مثاقب تغوص في أكبادهم ورؤوسهم، فلقات وصعقات كهربائية! ومع ذلك قررنا المضي في لقاءات كؤوس التفاح والكونياك والحوارات العجيبة الطويلة المضنية والفارغة. كانت تنقطع لتعود، وقد قاربت الخمس سنوات دون جدوى. ونحن أيضاً كان لدينا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، اتجاهان. واحد يدعو لعدم التحالف معهم، امتثالاً لرأي غالبية أعضاء الحزب وأصدقائه والناس القائلين

 بضرورة عدم نسيان جرائمهم وشرورهم، ومذابحهم للشيوعيين وأصدقائهم، من مدنيين وعسكريين بانقلابهم الوحشي في 8 شباط عام 1963. والآخر يدعو لنسيان الماضي والسعي إلى الوحدة الوطنية، والعمل المشترك لبناء البلاد بروح الرفقة الثورية الواسعة والتسامح، ولم شمل كل التقدميين لمواجهة صعود القوى الدينية الطائفية الرجعية. كنا نحاول عبثاً أن نبصر البعثيين الذين رغم كل شيء عدنا نسميهم بالرفاق. أتعرفون أية هوة من الظلام والفساد والتخلف سيجر هؤلاء الرجعيون البلاد إليها لو انتصروا؟ ولكنهم يقابلوننا بضحكات السخرية، قائلين بصوت واحد كما النشيد: "أية يد تمتد إلى ثورتنا سنقطعها! جئنا لنبقى!" "وهل هناك من يستطيع أن يتقدم، لنعطيها له؟ كان الحزب أمام خيارين، إما التحالف معهم وبقاء الحزب على قيد الحياة لفترة قصيرة أخرى نتلمس فيها طريقنا أين نمضي، أو الاستمرار بالرفض فيقومون بسحقنا! وفي ظل التطورات والتقنيات الحديثة لا تجدي حكاية السراديب التي كان يلجأ لها رفاقنا القدماء المؤسسون. كما إن جبال الشمال صارت حكراً للمتعصبين من القوميين الكرد الذين لا يقلون كرهاً للشيوعيين عن البعثيين، وهم مستعدون لبيعنا للبعثيين أو لشاه إيران أو غيرهم في أية صفقة حتى لو كانت عابرة! كان السوفييت لا يتوقفون عن الضغط علينا للتحالف مع البعثيين؛ ليحصلوا على غطاء شرعي لتوثيق علاقاتهم معهم؛ فهم الآن يتربعون على قيادة دولة نفطية كبيرة.

(25)  ليلة مقمرة ملوثة كالوحش؛ غيرت مصيره، ومصائر كثيرين!

حدث ذلك أوائل حزيران عام 1973. في أصيل نهار حار لكنه رائق في بغداد، لا مؤشر فيه إنه مكفهر، عكر سياسياً. خرج شاب يدعى سنان من بيته الفقير في البياع جنوب بغداد في مهمة حزبية محفوفة بخطر الموت. كان عضواً نشطاً يفيض تفاؤلاً، جميلاً أبيض البشرة، بملامح أنثوية حزينة، عرف بحبه للحزب، بساطته وطيبته، وقدرته على إخفاء سيماء وجهه عن الآخرين في المواقف الحرجة. هذه مواصفات جيدة للمراسل الحزبي. فاختير لحمل بريد المكتب السياسي! ذلك المساء ذهب إلى مدينة الثورة في بغداد. يحمل بريداً هاماً لرجل كادر متقدم في الحزب، نائب ضابط متقاعد منذ فترة طويلة، يدعى " حميد"، بدين متوسط القامة داكن السمرة، ضيق العينين، غليظ الشفتين، قارب الخمسين. كان يقود تنظيماتنا في هذه المدينة الكبيرة، وأجزاء من شمال بغداد، الآخذة بالتآكل والتشتت. من سوء حظ سنان، وسوء حظ الحزب، ومئات الرفاق الأبرياء الذين دمروا نتيجة ما حدث، إنه قبل دعوة "حميد" لقضاء ليلته عنده، ولم يغادر البيت، كما تقتضي قواعد العمل، خاصة في هذه الأيام الملتهبة. كان حميد في تلك الليلة وحده في البيت. ذهبت زوجته وأطفاله، كما قال إلى أهلها. مد مائدة الشراب، ومضى يغدق على سنان بكؤوسه وسجائره وكلامه الناعم الذي عرف به. لا يعرف بالضبط تفاصيل ما فعله ليقتاد سنان إلى فراشه! وقد لا يكون التطرق لتلك التفاصيل ضروري الآن. صحا سنان صباحاً على سطح البيت الصغير، وتلمس روحه المنهكة من خلل الدوار، والصداع الشديد. وجد نفسه إنه قد اغتصب، ولوث كما لم يلوث كلب أجرب في هذه المدينة، كما راح يهمس لنفسه. كان حميد غير بعيد عنه يغط في نومه. شخيره يعلو على أصوات السيارات، والباعة القادمة من الشارع، وقطعة شمس طويلة مثل سيف نحاسي تقترب من فراشه! وقف يتأمله مهتاجاً غاضباً مدمراً، يجد صعوبة في السيطرة على جسده، وقد أخذته قشعريرة وارتجاف! قرر أن يقتله. سيقولون إنه قتل رفيقه، ليقولوا ما يشاءون، هم لا يعرفون ما فعل بي، هو الذي قتلني! جالت عيناه بين الأشياء المتناثرة حولهما. فهما، كما يتذكر، رغم إنه أفرط في الشراب؛ قد حملا أغراضاً مختلفة إلى سطح البيت، ليكملا شرابهما في هواء الليل الطلق، وإنه تحدث أن لديه مسدساً له لا يفارقه حتى في ساعة نومه. نظر حول فراشه المتسخ، لم يجده. أيكون قد وضعه تحت مخدته؟ لو مد يده هناك فسيوقظه، وينقلب كل شيء. فكر أن يأتي من المطبخ بسكين. يتذكر إنه حين أعد معه طعام العشاء، شاهد سكيناً كبيرة تكفي لذبح ثور. حميد أيضاً كان ليلة أمس ثوراً هائجاً. أيتخطى الخجل، والخوف، ويشكوه للحزب؟ لا يفيد! لا يفيد! راح يردد مختنقاً ببكائه. لا بد من قتله، لا بد من قتله! أيذبحه؟ أم يكتفي بغرس السكين في صدره؟ الصداع يفجر رأسه. لم يسبق له أن شرب بهذا القدر. كان هذا اللعين يزقه بالشراب ليصل إلى فعلته القذرة. نزل الدرج، وهو لا يزال يترنح. مال جانباً وكاد يسقط؛ فالدرج دون مسند. دخل المطبخ مسرعاً يبحث عن السكين. فجأة توقف. وقعت عيناه على كيس النايلون الأحمر الفارغ الذي أتى البارحة يحمل به الأوراق الحزبية تحت خضار وفاكهة، ملقى على الأرض. قرر أن يفعل ما هو أسوء من قتل حميد. أيكون الكيس التافه؛ هو الذي عطف اتجاهه لذلك العمل الفظيع الذي سيقتل به كثيرين، أبرياء لا علاقة لهم بما حدث؟ حمل الكيس واتجه إلى حجرة حميد، رآه أمس أين يضع الأوراق التي أتى بها، وهناك وضع في الكيس كل ما وقعت عليه يده من الأوراق الحزبية، قديمها وحديثها، أدار المفتاح الذي لا يزال في الباب، وخرج مسرعاً إلى دائرة أمن كبيرة يعرفها وسط بغداد. أعطاهم الأوراق وراح يحكي عن كل شيء! كان لا يزال ثملاً تفوح منه رائحة نتنة من الكحول والثوم، حتى أن ضابط الأمن دفعه من صدره؛ ليجلسه على كرسي بعيد عنه بعض الشيء. كان في الأوراق أسماء ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا جنوداً، وآخر عريفاً، ولم يعودوا عسكريين عندما انضموا للحزب، بين مئات من الأعضاء في تنظيم مدني يضم عمالاً وطلاباً وموظفين وفقراء معدمين. ادعى رجال الأمن إن الأوراق تتضمن أسماء تنظيم عسكري كبير يعد لمؤامرة شيوعية لقلب الحكم. هللوا لأنفسهم على هذا النصر، فهم قد حصلوا على هدية عظمية لقادتهم؛ يجب رفعها لهم فوراً! نسى الضابط رائحة العرق والثوم النتنة المنبعثة من الشاب. أجلسه بجانبه على الأريكة الجلدية السوداء، وراح يربت على كتفه ويوقف بكاءه " صار خير، صار خير، ولا يهمك، كل شيء يهون، أنت بطل". وجده كنزاً جاءهم يسعى على قدمين مرتجفتين في هذا الصباح الحار! هذا الشاب مهم، خطير جداً، زودهم بمفاتيح أوراق ومعلومات تكفي لتعرية هؤلاء الشيوعيين أدعياء النقاء، والصلابة الثورية. ويميل عليه ثانية: "شكرا لك يا بطل، حسناً فعلت؛ سنقتص لك من هذا المجرم القذر". خلال ساعات كانت القضية على مكتب صدام. ما أن تصفحها حتى أطلق ضحكة مجلجلة مهاتفاً مدير الأمن " عفية، هيج الشغل، عفية، عفية رجال، والله، رجال، أمرت الكم بإكرامية، تستاهلون"! كيف لا يستأهلون وقد تلقفوا هبة السماء هذه؟ فضيحة أخلاقية مخزية لهؤلاء المكابرين الذين يرفضون التحالف مع حزبنا متحدثين عن أمجادهم القديمة. أية أمجاد عند هؤلاء الشواذ؟ كان يقود بنفسه سير العلاقة مع الشيوعيين على الخطين: الدموي الطافح بصرخات الموت، والحضاري المترع بالكونياك والابتسامات والسيجار الكوبي ! وجد القضية من عيار ثقيل فعلاً، ملائمة لمزاجه وشهيته. بسرعة وعبر مكالمات مرحة وجولة طويلة في قصر النهاية. طغى ما هو مخز وسافل، هنا وهناك، على كل شيء! انتفخت فجأة إضبارة باسم " قضية رقم 1889 لسنة 73 " مؤامرة الشيوعيين الشاذين جنسياً". صدقوا هم وبقوة المؤامرة التي اختلقوها. شنوا حملة اعتقالات لكل من وجدوا اسمه في هذه الأوراق، أو لم يجدوه. مهما قيل فينا كقادة شيوعيين آنذاك، لا يمكن أن نكون بسذاجة التفكير بانقلاب في تلك الفترة. الحزب لم يغتنم فرصاً جدية للانقلاب في عهد قاسم؛ عندما كان لديه آلاف الضباط، والمراتب العسكرية في مواقع هامة، ومؤثرة في الجيش، وبعضهم مرافقون لقاسم. فكيف يقدم عليه الآن وهو لا يكاد يؤمن اجتماع لجنته المركزية أو مكتبه السياسي؟ صارت الآن جراحاته في يد عدوه. مئات الرفاق الأبرياء الآن هم في قبضة قيادة تضغط لتحويل ما هو مبتذل وقذر إلى مجد حزبي وطني. ومحققون مسعورون دون كفاءات يتقاضون رواتب عالية وامتيازات ومكافئات كثيرة، ويجب أن يتفننوا في التعذيب والسحق، ويحصلوا على المزيد!

مراوح سقفية متينة وفلقات كثيرة كأنها جزء من أدوات تلك الليلة الملوثة، ظلت تدور ليلاً ونهاراً تنتزع من تحت الأظافر ومن ثقوب الأكباد والصعقات الاعترافات الملفقة والانهيارات المريعة. مئات الأبرياء الآن يعاقبون ويوصمون بالشذوذ والاغتصاب، وهم لا يعلمون بما فعله حميد حتى بعد موتهم تحت التعذيب. وصل الأمر إليُ. فقد تحدث ضابط صغير متقاعد منذ فترة طويلة، كان سنوات الستينات في القوة الجوية، إنه كان على صلة حزبية معي لعامين. اعتقلت ثم بدأ التحقيق والتعذيب! كانوا يريدون مني أن أعترف على تنظيم عسكري لا وجود له، ومؤامرة لم تخطر يوماً على بالنا!

اعتقد "صدام" الذي لم يكن قد برز كثيراً بعد كرجل دولة، إنني مسؤول الخط العسكري؛ فقام بالتحقيق معي بنفسه، وأشرف على تعذيبي. بدأوا بقلع اثنين من أظافري، أي سحب الروح من كل خلية في الجسد، وضعوا رأسي بماسكة حديدية يستعملها الحدادون عادة في كبس المعادن. ثم توقفوا دون تحريكها؛ ربما خشوا أن تموت معي معلومات مهمة. كانوا عادة يحققون معي ومع غيري ونحن معصوبي الأعين، لكنهم هذه المرة تعمدوا رفع العصابة عن عيني، وجدت صدام أمامي، أعرفه جيداً، التقيته في حوارين من حوارات القصر الجمهوري ذات النكهة الثورية الرفاقية الممزوجة بدخان السيجار. يبدو هو تعمد هذا الحوار، جمع فيه بين عصير الفاكهة، وعصير الجراح. حاول في البداية استمالتي لأقوم بإقناع رفاقي في المكتب السياسي بالتحالف معهم. قلت له: أنا أسير عندكم؛ وتعهد الأسير لا يعتد به، لا من قبل قومه، ولا من قبل عدوه إذا كان نبيلاً! استثير، نهض، وراح يعربد. قال أنت لم تر منا شيئاً بعد؛ سيقوم رفاقنا هنا بأداء الواجب! وهو يتضاحك. حثهم على المزيد من جولات التعذيب معي، قررت أن استفزه احتقاراً له وطلباً للموت:

ـ تدعي أنك مناضل وسياسي، كيف تقوم بتعذيب السجناء؟ لم لا تترك المهمات القذرة للصغار؟

صرخ هائجاً، وضع يده على مسدسه المعلق بحزامه ثم سحبها فجأة قائلاً:

ـ لا، لا، لن أمنحك راحة الموت!

أتذكر يده حتى اليوم، كانت صفراء شاحبة بأصابع نحيفة وطويلة، وتحت أظافرها وسخ أسود، ربما من دماء ضحاياه. كانت وسامته، وموقعه المتقدم في الحزب والحكم، تجعلانه الأكثر بشاعة وقبحاً بين أصحابه المحتفين به بثياب مدنية أنيقة وسط أدوات التعذيب التي لا تقل أناقة وعجرفة عنهم! أومأ لهم بإشارة ليطيلوا تعذيبي محذراً: "لا تدعوه يموت!"

(26) عطش تحت التعذيب، وبرجينيف بنفسه يأتيه بطاسة ماء بارد!

في كل مرة كنت أقول: لا توجد لدينا مؤامرة إلا في أذهانكم! لكنهم كانوا مصرين على أننا تآمرنا عليهم؛ ليكون بيدهم المبرر لسحقنا، مع فتح باب لتحالف مذل معهم! قلت لهم حتى لو وجد عندنا عسكريون فهذا لا يعنى أننا نعد لانقلاب! كان لدينا آنذاك رفاق عسكريون مبعثرون متناثرون، كنا نحاذر أن لا يرتبطوا ببعضهم، لا بخلايا، ولا بصلات فردية؛ سوى معنا؛ لكي لا يحسبوا يوماً كتنظيم عسكري. قبل أشهر اغتالوا رفيقين في اللجنة المركزية؛ اعتقدوا أنهما يقودان تنظيماً عسكرياً لدينا. في الواقع تخلى الحزب عن تنظيمه العسكري؛ مذ تخلى عن طموحه في الثورة؛ وأدرك أن من المستحيل عليه الوصول إلى السلطة. كانت ثمة خيبة عميقة مضمرة وغامضة تعشش في أعماق الكثير من قادة الحزب من أشياء كثيرة، النظرية، والمسار، والمستقبل، والعلاقة مع السوفييت، لكنهم لا يجرأون على التصريح بها؛ وإلا سينفض عنهم أتباعهم ويسألونهم: إذاً ما هي دواعي وجود الحزب؟ وهذه الجعجعة حول الشيوعية؟ لم يتبق لدينا في خلايانا العادية سوى ضباط متقاعدين كهول ومسنين(بعضهم قضى سنوات طويلة في السجون) أمضوا شبابهم وكهولتهم شيوعيين ويريدون البقاء في الحزب، حتى الموت (على سبيل الذكرى، وتنسم عبق الماضي، كما قال لي أحدهم) فجعلنا صلتهم موزعة هنا وهناك بعلاقة فردية غير خلوية عرفت اصطلاحاً (بالخيطية)، مع أشخاص مدنيين. ربما نسبة للخيط الذي ينتظر سمكة بعيدة لاهية في الماء، أو بالطائرة الورقية المرتجفة في الريح، أو الخيط الذي يحاول شد عرى ثوب متهرئ. كان رجال الأمن في التحقيق فرحين منتشين بوصمة العار التي لحقت بالشيوعيين الذين طالما أشاد الناس بأخلاقهم ونقائهم. قال أحدهم متصنعاً الاشمئزاز: كنا نتصور الشيوعيين فقط يبيحون زواج الأخ من أخته وأمه! لم نكن نعرف أنهم يتزوجون من رفاقهم الشبان الحلوين أيضاً! أقول لهم: أنتم تتجاهلون آلاف المناضلين الشيوعيين، والشهداء الشرفاء، وتمسكون بقضية قذرة لاثنين أو حتى عشرة من المنحطين الذين لا يخلو منهم حزب أو تنظيم في العالم. يتضاحكون هازئين. أحدهم ينهال عليّ بالضرب قائلاً: أتقصد حزبنا بكلامك الدنيء؟ رأيت أهوالاً وآلاماً فظيعة في (قصر النهاية). كان قصر العائلة الملكية، لقيت فيه نهايتها برصاص ضباط الانقلاب. تحول في العهود الثورية إلى سجن لخصومهم السياسيين، من يدخله لا يخرجه منه؛ إلا ميتاً أو مثخناً بجراحات، وتشوهات نفسية تعجل بموته، أو يظل يعاني من آلامها طيلة حياته! سجن عميق يتوزع بين الظلمة المطبقة، والأنوار الساطعة الحادة! كان دائماً يغص بنزلائه من مختلف الأحزاب والجماعات. كانت جولاتهم تبدأ معي في آخر الليل حين يأتي الجلادون من البارات سكارى متعتعين. وما كانت تنتهي نوبة آلام حتى تبدأ أخرى. يعتصرون ما تبقى من جسدي محاولين انتزاع اعترافٍ، سٍر، اسمٍ، أو أية كلمة؛ ليبنوا عليها قضية مهلكة. كان نطقي باسم واحد ممن اعرفهم يعني إعدامه، وربما مع أفراد أسرته! يقولون: نحن نعرف كل أسرار حزبكم، لقد اخترقناكم، أنتم نائمون على آذانكم، لدينا ركائز حتى في لجنتكم المركزية، ومكتبكم السياسي! قلت مستجمعاً ألمي: أيكون " حميد" إذاً هو واحد منكم غرستموه في حزبنا؛ ليقوم بهذه المأثرة النضالية؟ صعقوا. صمتوا لحظات. ثم انهالوا علي بجولة تعذيب فظيعة! دخلت فيها غيبوبة طويلة، صحوت لأجد نفسي ملقى في زاوية من قاعة السجن القصر مهشماً. كنت أريد الموت، لكنني أعرف أن الجلادين لا يجودون بهذه المكرمة على ضيوفهم، هم يريدونهم يبقون متأرجحين لمزيد من العذاب. رحت استفزهم لينهوا حياتي. حين أعاد أحدهم قوله لا تتعب نفسك نحن في داخلكم، نعرف كل شيء، لم أقل لهم ما يقال عادة وفق هذا المنطق " ولماذا تريدون معلوماتي البسيطة مادمت تعرفون كل شيء؟ كنت فعلاً أريد الموت؛ لأرتاح من عذابي، ومن رحلتي الطويلة الخائبة كلها، قلت وأنفاسي تتقطع حنقاً وغضباً: "ليس أكثر من الركائز التي غرزتها المخابرات الأمريكية في حزبكم عندما أدخلتكم القصر الجمهوري كأنكم مدعوون لحفلة ساهرة، لا لثورة 17 تموز المجيدة!".

في تلك الليلة صبوا عليه كل ما في عروقهم من حقد. أغمي عليه، فتركوه، ظل يلهث، ويتشنج، اعتقدوا إنه يحتضر، لكنه انتقل من غيبوبته؛ لنومة طويلة عميقة. حلم إنه عطشان، كل خلية في جسده تطلب نهراً من الماء، كان يصيح ويتوسل ولا أحد يمد يده له بكأس ماء، وفجأة رأى بريجنيف. نعم الرفيق ليونيد بريجنيف قائد الحزب الشيوعي السوفييتي نفسه، يقبل عليه بطاسة فضية تطفح بالماء، لمح في مقدمتها شعار المطرقة والمنجل، ورغم إنه رأى قلبه يرتجف بينهما؛ لكنه فرح وهو يرى بريجنيف يتقدم إليه قائلاً:

ـ أشرب أيها الرفيق البطل، لقد رفعت رؤوسنا!

كاد الظمأ يلقيه على الطاسة فيسقطها من يد الرفيق الكبير؛ إلا إنه تريث ليقول له:

ـ أنت بنفسك أيها الرفيق العظيم تأتيني بالماء؟ هذا كثير! هذه مأثرة شيوعية عظمى، لماذا لم تدع وزير الخارجية الرفيق غروميكو يأتي بها، أو ترسلها مع السفير مثلاً؟

وقبل أن يسمع إجابته تناول الطاسة الكبيرة؛ وراح يعب ماءها الصافي البارد العذب. ما أن نزل ماء الرفيق بريجنيف في معدته؛ حتى أحس بوجع حاد في أحشائه، ظن إنه قدم له طاسة من الفودكا الحارقة وليس ماء نهر الفولكا البارد. فتح عينيه، ووجده أمامه! أراد أن يقول له: شكراً رفيق برجنيف، لكن الذي أمامه عاجله بصفعة قوية، هل من المعقول أن الرفيق بريجنيف يصفعه؟ حدق من خلل جفونه المتورمة؛ رأى الجلاد الذي يعذبه! كم يشبه برجنيف! لكنه ليس هو، لماذا طار الرفيق برجنيف؟ لماذا لم يبق في قصر النهاية؟ فهو كان قصراً ملكياً، يليق ببريجنيف أيضاً، فقط يشهد التعذيب على سبيل التضامن الأممي! كم مر عليه في إغفاءته أو غيبوبته؟ ترك السائل الغريب وجعاً كدراً في روحه ومعدته. كان الجلاد يكشر ضاحكاً، كانت تلك آخر صفعة، أطلق سعار المدفع، قبل أن يتوقف في هدنة:

ـ أهكذا؟ كلما اعتقلنا واحداً منكم تركضون باكين إلى أولياء أموركم، برجنيف، قردييف، حماريف، كلبييف، بزونيف، وبسطاليف؟

أخذ معذبه يضحك ويقهقه؛ مكشراً عن أسنان صفر منخورة. ألقى السوط من يده، قدم له كأساً من الماء. مفاجأة غريبة حقاً. ماذا يحدث؟ تركه دون تعذيب. جلبوا له قدح شاي أيضاً. جاءه طبيب فحصه وضمد جروحه وكدماته. أعطاه دواءً، ونقله من الأرض الباردة العارية إلى سرير حديدي عليه فراش في غرفة دافئة. ضمد رضوضاً في ساقه اليسرى، دلك ندباً على وجهه بماء دافئ. جلبوا له طعاماً وعصيراً. كان هذا غريباً، لكنه لم يجد صعوبة في تفسيره. كان يعرف أن رفاقه في الخارج سيقومون بحملة احتجاج، وسيطالبون السوفييت والدول الاشتراكية للضغط على السلطة، لإطلاق سراحه. كانت موسكو بحاجة لقناع تقدمي تصنعه بعلاقة تحالف بين الشيوعيين والبعثيين مهما كانت مختلة. لذا كان من غرائب المصادفات الكابوسية، أن يونس كان يحلم ببريجنيف يحمل له طاسة ماء، في نفس الوقت كان مكتب بريجنيف يبرق رسالة للقصر الجمهوري في بغداد يطلب فيها إطلاق سراحه "رفيقنا، وحليفكم الضروري". كان العراق في تلك الأيام بحاجة لصفقة سلاح مع السوفييت؛ صدر القرار بإطلاق سراحه. ابقوا على المعتقلين الشيوعيين البسطاء، زادوا عليهم مئات آخرين في مختلف المدن كتعويض عن "يونس". قال له ضابط بملابس مدنية في سجن قصر النهاية: " سنطلق سراحك. إكراماً لرفاقنا السوفييت. لا نريد أن نسمع منك كلاماً يسيء لنا ولتجربتنا". رغم إنه استفاد من علاقة السوفييت الطيبة مع البعثيين لكنه ظل ينتقدها، أنها قفزت كثيراً على التضامن الأممي. هل هم لا يعرفون أن صدام يلعب ويضحك عليهم؟ هو الحاكم الحقيقي وليس البكر الملقب بالأب القائد. يعتقل قيادياً وينتظر استرحاماً من السوفييت ليطلق سراحه، ويسجل عليهم نقاطاً موحياً أنه اعتقل من قبل البكر وجماعته. صار كثيرون، شيوعيون ويساريون، يتحدثون، "أنه يساري ماركسي، يريد أن يكون كاسترو العراق، لكنه محاط ومكبل ببعثيين رجعيين". السوفييت في السنوات الأخيرة تعبوا من مشروع الشيوعيين الذي لا تلوح في الأفق نهاية مثمرة له، فصاروا مستعدين للتضحية بهم عبر تحالف شكلي مع البعثيين، يجنون منها صفقات أسلحة وبضائع افتضحت رداءتها؛ يشترون بثمنها قمحاً من أمريكا!

(27) كان الدكتاتور البعثي؛ يريد ان يكون شيوعياً، أو دينياً، والعكس صحيح، واللعبة واحدة!

كان صدام الممسك بكل الأجهزة الأمنية لا يفوت يوماً إلا ويزور قصر النهاية. يجد فيه متعته ولذاته كلها. تلك نزهته المفضلة. كان في ليالي سوداء حالكة يقوم بتعذيب المعتقلين بنفسه، وفي أوقات أخرى (لا نعرف أهي ليل أم نهار، لا شيء سوى الظلام الدامس، أو النور الباهر الموجع للعيون، لا توجد إنارة عادية إلا في قاعات وحجرات "عمل" المحققين. نشاهده يتجول في ممرات وأقبية السجن متطلعاً إلى زنزانات المعذبين الذين انتزعت منهم اعترافات، أو ما زالوا يلتزمون الصمت. لا تطربه ولا تؤنسه سوى أناتهم وحشرجاتهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة! يبدو منتشياً مستمتعاً. لا يقترب منا (متظاهراً بترفعه عن المهام القذرة). لكنه يحقق مع معتقلين يراهم خطرين من جهات سياسية مختلفة، وعليهم قضايا ثقيلة! هو يتابع أبسط التفصيلات (في العمل) وهو صاحب القرار الذي يحيي ويميت! في الأيام الأخيرة قبل انتهاء جولات التعذيب الفظيعة. وضعوني في حجرة كان فيها موقوفون من انتماءات سياسية مختلفة إسلامية وقومية. كان بجانبي المحامي المعروف المسن " أمين طه". أعرفه من زمن بعيد، كان زميل مهنة، من بقايا الديمقراطيين المسحوقين، مثقف جيد، كان مهشماً يتحدث لاهثاً، كأنه يحتضر، همس لي: أتعرف إن "صدام" في شبابه وقبل انتمائه للبعثيين، كان في حزبكم الشيوعي؟ كنت أعرف ذلك، ولكنني تركته يتحدث، لينفس عن كربه وغضبه! واصل كلامه: أحد أقاربه في تكريت المدعو سعدون كان يشرح له مبادئ الشيوعية ويحدثه عن ستالين وأمجاده ومنجزاته. أفلح في إقناعه وضمه مرشحاً للحزب. كان فرحاً فخوراً به فهو يتفجر حيوية ونشاطاً. وهو فقير معدم، سيكون حتماً قائداً شيوعياً مخلصاً للفقراء والكادحين. لكن البعثيين استطاعوا بعد فترة قصيرة جره إليهم، أخذ يقول: " الشيوعيون لن يصلوا للحكم إلا بعد ألف سنة". تخلى عن حزبكم وراح يقارعه بشراسة. كانت أولى تمارينه على القتل مع قريبه سعدون. أرسله إلى القبر مع ماضيه الشيوعي برصاصة في عنقه. ثم تطور عمله، استخدمه البعثيون،في محاولة اغتيال قاسم. ربما ما كان ليترك حزبكم لو أنكم أفلحتم في الوصول إلى السلطة في وقت يناسبه! قلت ربما من حسن حظنا، ومن سوء حظ حزب البعث، إنه تركنا، والتحق به. هو سيدمره، بدلاً من بنائه كحزب علماني ثوري لديه شحنات تقدمية لا بأس بها في واقعنا المتخلف. قال الرجل وهو يتأوه من كسور في فقرات ظهره وكتفيه. سوف لا يدمر حزب البعث وحسب، سيدر العراق كله! اسألني عنه! فأنا أعرفه منذ أحيل للقضاء في مقتل سعدون. كنت محامي الحق الشخصي للضحية، وقد لعب خاله طلفاح، مزوداً بالمال من أشخاص مرتبطين بشركات النفط والسفارة الأمريكية، في تضليل القضاء وإطلاق سراحه! وأحد أسباب اعتقالي هو إنني أعرف الكثير عنه، ولا أظنه سيبقيني حياً! حاولت طمأنته، لكنه ابتسم بحزن، قال: لا يوجد ديمقراطيون سوفييت ليطالبوا بإطلاق سراحي! أضاف: الأفضل لي الموت قبل أن أرى ما سيحل في العراق على يديه! وفعلاً قضى تحت التعذيب بعد أيام قليلة. عزائي به إنه لم يرى خراب العراق على يديه! كنت ألاحظ أن البعثيين مولعين بكلمة (التجربة)،أسمعها كثيراً عند التحقيق والتعذيب. وفي لحظات الهدوء، يجرون نقاشات يفتعلونها لما يسمونه الإقناع السياسي، " أنتم الشيوعيون تريدون إفشال تجربتنا" إذا كنا هذه المرة قد جاملنا السوفييت وعفونا عنك، في المرة القادمة لن نفعل ذلك، ثورتنا وتجربتنا ومصالح أمتنا فوق كل شيء"

قلت لأحدهم: ما هي تجربتكم ؟ في غدركم بالعهود؟ إدخالكم رفاقنا في حزبكم بدق زجاجات الويسكي في أدبارهم؟ كانت لحظات إطلاق سراحي قد تحولت فجأة لديهم إلى حوار سياسي. لم يتوقف ضابط الأمن الكبير عن وخزي وهو يودعني(كما قال) عند باب الحجرة، قال متضاحكاً لكي يمرر إهانته لي:

ـ اعتنوا بالأخلاق الثورية للرفيق قبل ضمه لحزبكم، اعتبروا قضية "حميد" درساً مفيداً لكم، لا مجرد وصمة عار!

أحسست بدمي يصعد إلى رأسي، هذا السفاح الذي أدمى جسدي وروحي، والذي يوجه رجاله ليغتصبوا الشبان المستعصين عليهم، والنساء أمام أبنائهن وأشقائهن وأزواجهن كوسيلة مجربة ومضمونة لانتزاع الاعترافات والتخلي عن المبادئ، والذي دولته تقوم على الاغتصاب، يأتي ليعلمني الأخلاق الثورية! هو ينسى أن للشيوعيين آلاف من المناضلين والمناضلات قضوا أو سجنوا طويلاً، تحت التعذيب اليومي ولم يخونوا رفاقهم، وما يؤمنون به من أفكار، وكان الكثير منهم مثالاً في الأخلاق الحسنة. ويقف عند حالة قذرة. ورغم عدم تأكدي من حقيقة شخصية حميد، والدافع المجنون الذي جعله يغتصب رفيقه الصغير، داهمتني كلمة، وجدت أنني من أجل قولها؛ مستعد للعودة إلى السجن، وتلقي كل جولات التعذيب مرة أخرى:

ـ من الذي يغتصب النساء والرجال بالجملة، وتحت علم البلاد؟ دعني الآن أذهب في سبيلي، أنصحكم حين تدسون في صفوفنا مخربين وجواسيس أن لا يكونوا بلهاء مثل " حميد"!

جفل من كلماتي، وقد اربد وجهه، وزاد دمامة. بالتأكيد إنه ود لو يعود بي إلى آلات التعذيب والموت هذه المرة، لكنه صمت وتراجع دون أن يكمل توديعه لي كما قال، كان يعرف ان أمر إطلاق سراحي جزء من مصلحة "استراتيجية" للحزب. ضرورة يجيدون من اجلها ابتلاع كل شيء، وليس الإهانات فقط! رغم إن كل كلمة قلتها تلقيت عليها تعذيب ليلة أو ليالي طويلة، إلا إنني اليوم مرتاح إنني واجهتهم بحقيقتهم؛ وأنا ضعيف عار بين أيديهم! لست بطلاً، فأنا أيضاً لدي ضعفي وخوفي وارتجافي وتخبطي في أفكاري، ولكنني خضت معركتي وصراعي غير المتكافئ معهم بما أستطيع من الصدق والنزاهة. لا أشك أن الكثيرين من رفاقي في الخارج عملوا على إنقاذي من براثنهم، وسواء مساعيهم هي التي أنقذتني، أو ألاعيب ومصالح صدام مع قادة الدول الاشتراكية، فالمهم بالنسبة لي هو أن صمتي أنقذ رفاقي العسكريين المتقاعدين المتعلقين بذكريات ماض ثوري غابر صار ثمنه بالنسبة لهم الإعدام رمياً بالرصاص لو اكتشفوا، كم ثمن هذه الذكريات باهظاً حتى لتصير مضحكة فعلاً!

القاني رجال القصر من سيارتهم المارسيدس السوداء، في الشارع غير بعيد عن السجن. صرت كالغريق الذي أخرج في اللحظة الأخيرة، وألقي على الشاطئ، أتنفس ما تبقى من حرية في هواء بغداد، سائراً ببطء وصعوبة شديدة، متحاملاً على أوجاع جسدي المخلع العظام والمفاصل. ساعدني صاحب التكسي على صعود السيارة، لم يتفوه بشيء، وكأنه عرف ما حدث لي، أو إنه من زبانية القصر، يتوازعون الأدوار بينهم؟ لعنت روح الشك التي تلبستنا، فالتزمت الصمت، لكن الرجل الكهل المكلل بالشيب من رأسه، حتى وجهه المهمل الحلاقة، ظل صامتاً؛ فخمدت شكوكي به. تذكرت ما حدثني به الشهيد أمين طه، أكان يريد أن يقول لي أن الشيوعية وجدت هوى ومزاجاً لدى صدام، وإنها كان يمكن أن تستوعبه في كل أطواره حتى حين يصير دكتاتوراً، كما استوعبت ستالين من قبل؟ ولصار الشيوعيون كما البعثيين اليوم، يمجدونه، ويحاربون من يصفه بالدكتاتور، وإنه كان يمكن ان يصير إسلامياً متعصباً، دكتاتوراً بلحية وسبحة ومحابس ووصمة على الجبين وكل عدة الشغل الديني، المهم اية فكرة توصله إلى السلطة، حتى لو كانت فكرة العصافير أو المردة والشياطين، المهم الكرسي الكبير، من أجله تتفجر في النفس كل نزعات التسلط والقسوة والدجل! كم شخصاً داخل حزبنا لا يختلف عن صدام في شيء، أليس حميد الذي اغتصب رفيقه، وسبب له ولنا هذا العذاب والدمار، هو مشروع طاغية قذر؟ وإننا قد نفلح في إزاحة طاغية، ثم ننجب طاغية أتعس، ربما! رؤى لم أكن أراها آنذاك بهذا الوضوح، والآن فقط في الشيخوخة والعزلة، وما أسفرت وجوه رفاق لي في القيادة عن نزعات متوحشة، وميول جشع وتسلط، أخذت تعاودني في يقظتي ومنامي. تعذبني كثيراً كلما زادتني معرفة بهم! توقف السائق قرب بيتنا كما وصفته له، عندما أعطيته الأجرة، رفض أخذها، لكنني ألححت عليه فأخذها شاكراً، وهو يساعدني على النزول، ويقتادني حتى باب البيت.

لم أجد أحداً في البيت، خرج علي بعض الجيران، لم يفقدوا طيبتهم وشجاعتهم، حيوني بلطف، أعلمتني جارتنا أن أخي اصطحب عائلتي إلى بيته، خاف أن يعتقلوا زوجتي أو ابنتي وابني ليهددوني بهم! قالت الجارة أنها ستخابر زوجتي وتعلمها بقدومي، دعوني إلى بيتهم، لكنني اعتذرت وجلست على الدكة الكونكريتيه للحديقة. هذا البيت كم عذبت ساكنيه، زوجتي وأبنائي الصابرين على غيابي وإهمالي منغمساً بالعمل الحزبي الذي لا يتوقف ساعة واحدة. هل انخرطت في صف القساة والجلادين أيضاً؟ كان أحد أصدقاء طفولتي الذي لا ألتقيه إلا لماماً، مصادفة أو مناسبة اجتماعية ضرورية جداً يقول: متى ينتهي عمل الحزب؟ هل أنتم منشغلون تشقون بحراً، أم تبنون سماءً أخرى؟ ثم حين يودعني يقول: أتمنى أن لا أسمع بعد الآن جعجعة ثم لا أرى طحناً. ازداد حزني وشعرت بالدوار. رحت أشم رائحة شجيرات الورد والثيل والحشائش المهملة. جلب جارتنا لي شاياً وماءً وفطائرَ. عاد لي هدوئي، كأني أخلق من جديد، مع براءة ونظافة الدنيا.

(28) الاغتصاب مرة أخرى: أو الزهرة بين الريح والغصن!

التقيت برفاق من المكتب السياسي. سلمتهم تقريراً بوقائع اعتقالي، وتفاصيل ما حدث لي في السجن. وكما عرفت سابقاً وتوقعت أكدوا لي إن الحزب بحادثة الاغتصاب، وحملة الاعتقالات والملاحقات الواسعة هذه قد مني بأضرار ساحقة. فقد المئات من الرفاق، وعشرات التنظيمات والخلايا. قالوا لي إن قادة البعث قد تعالت لهجتهم وزادت شروطهم، هم الآن يبتزوننا، بل يغتصبوننا! والاغتصاب السياسي لا يقل بشاعة عن الاغتصاب الجنسي! هم مصرون ويهددون بأن نقبل التحالف معهم وفق شروطهم ومواصفاتهم! كلما التقيناهم يقولون: سنلتزم الصمت عما حدث، لن نعرض سمعتكم للتشويه. هم في الواقع يهددون بشكل مبطن، ثم قالوها صريحة في لقاء هم دعونا إليه: إذا لم تحددوا موقفكم الأخير من التحالف،سنعتبركم لا معارضين سياسيين، بل متآمرين تريدون إسقاطنا بالقوة المسلحة، لذا سنضطر لإنزال العقاب السياسي والجنائي بحق كل من شارك بمؤامرتكم مهما كان موقعه في حزبكم، سننشر تفاصيل الفضيحة في كل مكان! ومع ذلك ظلوا لا يقصدون قطع رأس الحزب وسحقه تماماً! يريدونه قناعاً لإحدى لعبهم الكثيرة، إطالة عذابه، قال لهم أحد رفاقنا وقد بلغ به الغضب منتهاه: أنتم لم تقصروا! ماذا أبقيتم من الحزب؟ أجهزوا على ما تبقى، لا يهم! نحن سننشر ما تعرض له رفاقنا ورفيقتنا من اغتصاب على أيديكم منذ انقلابكم الدموي عام 1963 وحتى الآن، لا تزايدوا علينا بالشرف! سابقاً كانوا يقرون بجرائمهم في ذلك الانقلاب الوحشي. الآن صاروا يرونه أبيض منزهاً. عادوا يسمونه عروس الثورات. لا يسعني ألا ان أتذكر ان العروس في بلادنا تغتصب ليلة عرسها أيضا، لكن هناك من تحدث ساخرا، بألم :عروس استقدموها من نساء حفلات شركات النفط والسفارة الأمريكية، ولم تكن عذراء نظيفة كما يدعون؟ دم العذرية الذي سفح؛ فجروه من دماء فتيات بريئات انتهكن في سجونهم. بعد فعلة "حميد" القذرة، وما جرت من مصائب؛ صرنا أكثر ضعفاً وارتباكاَ، واستعداداً للانحدار الحقيقي، أو الصعود الزائف، وكلا الأمرين مريع، ويحتاج لأشياء كثيرة!

بعد اجتماع طويل لنا في المكتب السياسي، توصلنا بالأكثرية إلى قناعة واقعية: أن حزبنا قد وصل إلى أدنى درجات الضعف والإنهاك والهوان، جراء ضربات متلاحقة تلقاها على مر العهود، والضربة الأخيرة كانت مدمرة إلى حد كبير جداً. بينما حزب البعث بعد استلامه السلطة، وتدفق أموال النفط إلى حساباته السرية والعلنية؛ لم تعد أبوابه تتسع لأفواج القادمين إلى صفوفه في الداخل والخارج. اتسع الاتجاه الثاني الداعي للتسامح أو التساهل والتحالف مع البعثيين رغم كل ما فعلوه بنا وبغيرنا، ورغم كل مكابراتهم وغرورهم وأنانيتهم! وإن طريق الصراع الدموي إذا لم نوقفه الآن فإنه سوف لن تكون له نهاية! وسيضع بلدنا على صخرة مذبحه! أنا بقيت مؤيداً للتحالف مع البعثيين. رغم ما أنزلوه في جسدي وروحي من جراحات؛ لم تطغ على قناعتي بضرورة وحدة التقدميين. وما رأيته من فظائع وأهوال السجون وأقبيته السحيقة المظلمة؛ زادني إصراراً على أن تكون صراعاتنا سلمية تحت الشمس، وودية قدر الإمكان!

في هذا الاجتماع تحدث السكرتير ورفاق في المكتب السياسي عن صمودي تحت التعذيب الشنيع، وأشادوا بما أسموه "شجاعتي وأمانتي". وهكذا وقعت قيادة الحزب في الذكرى الخامسة لثورة البعثيين، وفي القصر الجمهوري على ميثاق جبهة (سميت بالوطنية والتقدمية). كانت البنود أو الشروط تلزمنا بأقسى التنازلات والالتزامات حد التبعية، أو ما سمى دخول بيت الطاعة. لم يكن تحالفاً. كان وثيقة اغتصاب؛ لم يتبق لدينا شيء من الحزب، صرنا كذلك الفارس القديم الذي سلب من حصانه وسيفه، لم يتبق ما يذكره بحصانه سوى معلفه، وما يذكره بسيفه سوى جرابه! قلنا لو وقعنا تحالفنا قبل هذا؛ لحصلنا على وضع أفضل، ولكن حتى الأفضل هو الأسوأ في مسار الآمال الكبيرة المستحيلة، التي هي جوهر فكرة الحزب ! اليوم نحن معهم بوضع عذراء اغتصبت وتريد الستر من مغتصبها؛ بالزواج منه! وكما سكت البعثيون عن قضية الاغتصاب الجنسي، سكت الشيوعيون عن قضية الاغتصاب السياسي؛ فقاد شيئاً فشيئاً إلى اغتصاب الوطن وتحويله إلى ملكية مطلقة للحاكم وعائلته وأنصاره الذين اغتصبوا حزبهم نفسه، فسكت على جرائمهم وحروبهم، كنت أقول دائماً لأصدقاء مقربين من البعثيين : ومن يسع لإذلال حلفائه وشعبه، يضع أولى خطاه على طريق تدمير نفسه أيضاً! وكانوا يوافقونني صامتين حزانى. كنت أرى الوطن يرتجف، زهرة بين الريح والغصن، ولا يسعني سوى الصمت أيضاً، والسير مع التيار!

بر ضابط الأمن بوعوده لسنان، ضمه إلى جهاز الأمن، وأرسله في دورة للتدريب في ألمانيا الديمقراطية، فقد كانت بعثات دوائر الأمن والمخابرات تترى إلى موسكو وصوفيا وبرلين الشرقية وهافانا، مع لندن وباريس أيضاً، هناك يدرسون خبرة أجهزة أمن ومخابرات الأنظمة الشيوعية والرأسمالية في التعامل مع خصومهم. عاد سنان ضابط أمن برتبة ممتازة. صار شديد الحقد على الشيوعيين. كل همه تعذيب من يقع بيديه منهم مطلقاً عليهم الكلاب الجائعة المسعورة، والرجال المتخصصين بالاغتصاب. يجلس يعب الويسكي ودخان السيجار متلذذاً باستغاثاتهم ودموعهم! سجن حميد فترة قصيرة، خرج وهو يلهج بحسن رعاية وتعامل رجال الأمن معه. عينوه موظفاً في وزارة النقل، قتل بعد أشهر قليلة في حادث غامض؛ اصطدام سيارته بشاحنة على طريق الرطبة.

(29) في الليالي السود؛ يظهر الثعلب الأسود!

بغض النظر عما حدث بيننا وبين البعثيين لإقامة هذه الجبهة، أردناها ميداناً لعمل مشترك من مختلف قوى الشعب لبناء وطن، عانى كثيراً من النكبات والصراعات! لكن قادتهم أرادوها منذ البدء فخاً لاصطياد أكبر قدر من الشيوعيين وقتلهم جسدياً أو معنوياً! قادوها إلى نهايتها المحتومة، انهيارها الدموي. لا شيء لديهم إلا ويمتزج بالدم. بعضهم قال أن رسالتهم الخالدة مكتوبة بالدم، وستظل تنضج دماً حتى النصر. حققوا انتصاراً كبيراً، على من؟ على أبناء وطنهم؟ صارت لدي قناعة أن من يكثر انتصاراته على أبناء وطنه؛ تقل انتصاراته، بل وينهزم بسرعة، أمام الأعداء الخارجيين! في ما سمي بأيام الانفتاح الجبهوي؛ برز بيننا كثيرون، وتوارى كثيرون. بعضهم تواضع وعمل بصمت تماما مثل جذور الشجرة المثمرة، كما يقولون، وبعضهم طغى وجال وصال حد الاستهتار، وسعى ليكون نجماً مشهوراً في زمن لم يكن ينتج سوى الأفلام الرديئة. من هؤلاء كادر حزبي يدعى كمتار بيس! كان سلوكه مريباً، تسلل إلى الحزب كالثعبان، وصعد من شخص نكرة متهور لا يحمل مؤهلات دراسية أو أخلاقية إلى مواقع قيادي متقدم؛ أثار استغراب ودهشة الكثيرين، كان متوسط القامة، ممتلئاً، على شيء من الوسامة، وخفة الحركة، يتمتع بقدرة كبيرة على الادعاء بكل شيء: القوة، الثقافة، التاريخ النضالي، سلامة النية، يوحي لمن يلقاه إنه يحمل شهادة عالية، بينما هو طرد من المدرسة قبل ان يكمل الثانوية؛ ولأسباب غامضة. يقول إنه طرد لأسباب سياسية، البعض يقول إنه طرد لأسباب أخلاقية، ويسكتون عن التفاصيل! كان بارعاً في ابتزاز من حوله، يستلبهم رافعاً نبرة صوته الزاعقة، وحركة يده المهددة، بينما تربد بشرة وجهه الداكنة وتضيق عينان البنيتان! وكان يصل إلى مآربه الخاصة في أغلب الأحيان! لا يكترث لأي ضرر يلحقه بالحزب والناس، لا يعرف كيف اقترب من السكرتير حمه سور؛ فاتخذه له صديقاً ملازماً له، زادت الحميمية بينهما إنها يتحدثان لغة أخرى غير العربية، عرف نقاط ضعف حمه في تهالكه على النساء والخمور، فأخذ يوفرها له في شقة خاصة له!

كان كمتار كادراً حزبياً متوسطاً، لكن حمه سور؛ بإحدى طلعاته الفردية الكثيرة قدمه مرشحاً للجنة المركزية، واسند له موقع مدير تحرير جريدة الحزب المركزية، رغم ضحالة قدراته الصحفية، فهو عادة يكلف صحفيين محترفين ليكتبوا له مقالات يوقعها باسمه. يعود اسم كمتار الغريب إلى أن عائلته قدمت إلى العراق في الأربعينيات من إحدى قرى كشمير، ويقال إن كلمة كمتار تعني في لغة قومه الدارجة: "الثعلب الأسود".

في الأيام الأخيرة وبينما الجبهة تحتضر، وترتطم أصوات أناتها بجدران قصر النهاية، وآذان قادة البعث، أعتقل كمتار بيس، وليومين فقط، وأطلق سراحه. أثار ذلك استغرابنا في قيادة الحزب، فالرفاق المتمسكون بمواقفهم ومبادئهم، يعتقلون عادة لفترات طويلة؛ يجوعون، ويعذبون أو يقتلون؛ فكيف يطلق سراح كمتار وهو الذي يعرف الكثير من خلال عمله في الجريدة، وتنظيمات أخرى؟ هكذا أمر يثير شكوك حتى أصحاب القلوب المطمئنة. قمنا بالتحقيق معه، تبين لنا إنه كان متخاذلاً أمام رجال الأمن، أراد استرضاءهم بأي شكل، فوعدهم بان يسعى لدى قيادة الحزب للتفاوض مع قادتهم للقبول بشروط جديدة للتحالف أكثر إذلالاً، لتستمر هذه الجبهة التي صارت أكثر تعاسة من خيمة ممزقة ملطخة بالدماء! عرفنا أن رجال الأمن قد أولوه عناية خاصة. لم يعرضوه للتعذيب الذي ما كان يفلت منه أي شيوعي يقع في قبضتهم. أعطوه حجرة خاصة بفراش وثير، وطعاماً جيداً. ذلك يشير إلى كوامن كثيرة غامضة، كان من الصعب جعله يفصح عنها، لكن من المكن معرفة فحواها، والاستغناء عن تفاصيلها! أتفهم قدرات الإنسان، وحدود احتماله لنهش الوحوش، ولا أبالغ في الدعوة إلى الصمود الأسطوري، ولا أجد مثلبة في أن يفلت رفيق أو صديق من أنيابهم بمراوغة، وبأقل التنازلات غير الضارة بالآخرين الأبرياء. لكن بنفس الوقت من حقنا أن نفكر كيف يفلت قيادي في الحزب من مخالب أعدائه بسهولة ويسر، ثم يعطيهم وعوداً تزيد من حرج موقف الحزب! حاول كمتار إقناعنا بضرورة التنازل للبعثيين أكثر فأكثر فوق ما قدمنا من تنازلات كثيرة. طلبت طرد كمتار بيس من الحزب، ليس فقط لموقفه المريب عند اعتقاله؛ بل لصلاته السابقة بدوائر الأمن ولتراكم جناياته ومباذله! لكن حمه سور وآخرين وقفوا إلى جانبه! لم تمض سوى أيام، حتى سمعنا أن كمتار قد سافر إلى بيروت، بعضهم عد الأمر طبيعياً، من حقه أن يحمي نفسه كالآخرين، لكن قلبي لسعني. تبقت وراءه حكاية رويت لي، ولم استغربها: عندما سمع كمتار أن السلطة أعدمت صباح اليوم، ثمانية عشر رفيقاً في سجن أبي غريب بتهمة انتمائهم لتنظيم عسكري للحزب الشيوعي، كل ما فكر به هو كيف يخرج من العراق، فهو مهما مالأ قادة بعثيين أو عمل معهم وخدمهم؛ قد تأتي لحظة ينقلبون فيها عليه، كما انقضوا على الكثيرين من عملائهم، ومن قدموا لهم خدمات هامة ليدفنوا معهم أسرارهم! في اليوم التالي ذهب إلى مقر جريدة الثورة، جريدة البعثيين، قرر أن يودع رئيس تحريرها، فهو زميله في قيادة نقابة الصحفيين، بينما هو يريد أن يشعره إنه سيسافر بشكل عادي من المطار، بذلك يضمن خط رجعة له إذا ساءت الأمور مع الشيوعيين، واضطر لنفض يديه منهم تماماً. عند باب الجريدة صادفته سيارة على سطحها جنازة، توقفت؛ ونزلت منها امرأة ملفعة بالسواد، راحت تهتف غاضبة ملوحة باتجاه صور الرئيس ونائبه، والشعارات المعلقة عند واجهة البناية، مرة تصرخ ومرة تجهش بالبكاء؛ ومرة تلوح بيدها لاعنة متوعدة. ومرة تضحك بهستيريا، كانت أم أحد الشهداء الذين أعدموا أمس، جاءت بجنازة ابنها إلى جريدة الحزب صارخة متحدية! كانت السلطة قد سلمت جثث المعدومين لذويهم محذرة: "لا نريد أن نسمع منكم شيئاً، لا بكاء، لا صراخ، لا كلام، لا مجلس فاتحة، ادفنوهم بصمت، أي كلمة أو صوت نسمعه منكم، يجعلنا نرسلكم خلفهم؟" أحاط رجال الأمن بالمرأة، وسائق السيارة، جروهما، حملوهما بخفة، اختفيا بدهاليز الجريدة في لحظات. ظلت الجنازة فوق السيارة مركونة أمام الجريدة، سيتولى رجال الأمن دفنها، أو إلقاءها في النهر. وقف كمتار لحظة أمام المشهد كأي متفرج ممن صادف وجوده أو مروره. انفتح باب الجريدة، دخل مسرعاً، كأنه لم يسمع ولم ير شيئاً، لقد أخرته هذه المرأة المخبولة عن موعده مع رئيس تحرير الجريدة، يجب ان يطمئن على ذهابه، لكي لا يتصور إنه ذاهب إلى لبنان لأمر ما. بذلك يضمن إيابه أيضاً! بدأنا نسمع تصريحاته لصحف لبنانية وإذاعات مسموعة في بغداد. يبدو إنه وجد أن الأوضاع مواتية له للعمل مع الشيوعيين، ويستطيع ان يشق طريقه عبرهم إلى غاياته. قال إنه يقود الآن في بيروت جانباً علنياً من الحزب، مدعياً أن الحزب قد انتقل في الداخل للعمل السري بينما مقراتنا لا تزال نصف مفتوحة. وتحدث عن نشاطات له في بيروت باسم الحزب، وقيادته لبدء حملات سياسية غير مدروسة ولا محددة ضد السلطة موحياً أن الحزب سيرفع شعار إسقاط السلطة بينما كان لا يزال الكثير من رفاقنا مكشوفين. كان ذلك مثار دهشتنا في المكتب السياسي، سألت صاحبه حمه سور عن تصرفاته هذه، راح يتمتم ويتبلعم، أخيرا قال: وما الضير في ذلك؟ قلت لدي شكوك جدية كثيرة على مساره وعلاقته بدوائر الأمن، وموقفه المتخاذل الأخير عند اعتقاله، حلقة متوقعة منه، ومن التهور وعدم الشعور بالمسؤولية أن يكون تنظيم لنا بين يديه. وقف معي رفيق آخر. حمه راح يدافع عنه، وعن وتنظيمه الذي شكله في بيروت دون علمنا، منوهاً بقدرات كمتار على قيادته بين الصراعات الحادة هناك. مضيفاً " تشاورت مع رفاقنا السوفييت حول ذلك" . حمه سور إذا أراد أن يمرر قضية؛ يأتي بذكر السوفييت بشكل ما. ذكر اسم السوفييت أمام قيادي شيوعي عراقي يحدث حمرة على الخدود كتلك التي يفعلها ذكر اسم الحبيب على خدود مراهقة عاشقة! شعرنا أن ثمة حزباً جديداً يريد حمه وكمتار بيس تأسيسه في الخارج، لأمر غير بعيد عن أهوائهما ونزواتهما، وكما في كل مرة سكتت أكثرية المكتب السياسي عن هذا الخرق لحمه. لم تجد معارضتي ورفيق آخر معي. ماذا يفيد الكلام ونحن الآن في وضع قبيلة تحل خيامها في الصحراء للذهاب إلى الشتات، كل في سبيله؟ كنت مقتنعاً إنه سينقل فساده إلى ما سيبني من تنظيم هناك! صار له تنظيمه الخاص، لعبته المثيرة، حظي بدعم ومساعدة قادة في منظمة التحرير الفلسطينية؛ ما كانوا يعرفون حقيقته، ولا مجريات صراعاتنا الداخلية معه، وفي ما بيننا. كانت أغلب المنظمات على خلاف مع النظام في بغداد؛ وتريد دعم خصومه، كل لهدف خاص بها. كانت في كل أسبوع، وأحياناً كل يوم تلعلع الراديوات والجرائد: " رسالة مهمة من القادة السوفييت؛ إلى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات". استطاع كمتار بشكل ما، أن يجد حصة له في هذه الرسائل! جعل كمتار تنظيمه هو الحزب كله، وصار قائد الحزب الشيوعي كله من بيروت. راح يتغلغل في علاقات كثيرة ومتشابكة مع أحزاب ومنظمات لبنانية وعربية ودولية، ويؤسس لمصالحه الخاصة، وقد خدعوا به إلى حد بعيد، حتى أن احدى المنظمات الفلسطينية استخفت بمعلومات ووثيقة تثبت تورطه بعلاقة مع الموساد الإسرائيلي صنعها عبر شخصية كردية كانت ترافق مصطفى البارزاني في أحدى زيارته لإسرائيل في الستينات، ولم يبدأوا بالوقوف على حقيقته، إلا حين لم يعد ثمة جدوى!

(30) الخروج إلى المنفى، ليس دخولاً إلى الفردوس!

لم أدخل بتلك المماحكة التي كان بعضهم يتحدث فيها عمن "كان في بغداد أيام الوجاهة والشهرة والرقص والحفلات العامرة، وفر ساعة قلع الأظافر والتعليق بالمراوح وكي الأعضاء الحساسة، وضغط الرأس بالكماشات الحديدية" كانت هكذا مقارنات تؤلمني. فأيام التعذيب وفنونه المتطورة دائماً، لم تنقطع في العراق، خاصة بعد أن استولى البعثيون على السلطة. كنت أجد الأعذار لكل من فر بجلده إلى الخارج، فبعد أن غدر بنا قادة البعث، وحطموا تحالفنا الذي أردناه مفيداً للوطن، وشنوا علينا حملة ملاحقات واسعة.كنا في جحيم متصل وبشكل رسمي، بعد أن كنا نعيشه على وجبات، وبشكل غير معلن! صار التأخر عن الخروج ساعة واحدة، يعني ملاحقة واعتقال الشيوعي وتعريضه لأقسى صنوف التعذيب والموت، وربما حجز زوجته أو شقيقته أو أمه وأولاده وإخضاعهم للانتهاك، والاغتصاب، ومع ذلك كان على سكرتير الحزب ومجموعة من القياديين وأنا معهم أن نبقى في العراق؛ علنا نستطيع إنقاذ ما نستطيع. ِلا حصانة لنا مع حلفائنا الغادرين، والسوفييت والدول الاشتراكية قد تخلوا عنا، وصارت علاقاتهم مع رجال الحكم وثيقة وعميقة، ولم تتأثر بما جرى لنا قيد أنملة، حتى أخذنا نتساءل هل صار البعثيون سوفييت؟ أم صار السوفييت بعثيين؟ لكن بقاءنا كان ضروريا، فلا يجوز التخلي عن رفاقنا في القواعد ليقتلوا وينتهكوا، ونفر نحن! بالطبع لم نكن نستطيع ان نفعل لهم شيئاً، سوى إشعارهم أننا معهم، ولم نكن هنا فقط في أيام المباهج والاحتفالات، كما يقال! حمه سور اغتنم دعوة وصلته لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي اليوناني؛ فسافر إلى أثينا من مطار بغداد، وبقى في الخارج. وجدت أن في ذلك شيئاً مفيداً. فمن يدري ماذا سيكون موقفه لو أعتقل. فقد ينهار ويفرط بكل شيء لديه؛ فيؤذي الكثيرين! كما إن وجوده في الخارج سيسهل محاسبته وإخراجه من القيادة بصورة شرعية، وتطوير فكر وعمل الحزب! كان حمه سور في العهد الملكي، قد قضى في السجن عشر سنوات متصلة. وتلك صفحة مؤثرة تحسب له، ولكن حمه اتكأ على قضية سجنه الطويلة، وبدا كأنه يريد التعويض عن سنوات فقره وحرمانه الطويلة فمال إلى إشباع أحاسيسه، مهملاً عقله وفكره، وكلما تقدم به العمر، ازداد إقبالاً على الخمور والنساء، وعدم كتراثه للفكر أو الثقافة، حتى إنه لم يكن يقرأ جريدة حزبه! انشغل بالسفاسف، وتقريب الأشخاص الفاسدين منه، وفي مقدمتهم كمتار؛ ليحققوا له شهواته؛ ويتولوا عنه المهمات التي ترهقه. صرت اشك في استعداده وقدرته على تحمل التضحية الكبرى في سبيل قضية صعبة؛ خاصة وهو قطف الكثير من ثمارها الشهية مقدماً! كلما كان الموقع الذي سعى الشخص لأخذه كبيراً، سيما إذا صار قائداً، يقل تسامحنا معه في الامتثال لنزعات الضعف البشري، ولا نرضى له بغير التضحية القصوى في سبيل حماية من تعهد بقيادتهم، ومنحوه الثقة والإكبار! توجست خيفة، وتفاقمت شكوكي أن ما أسسه هو وكمتار في بيروت باسم الحزب؛ سيكون أشبه بشركة مساهمة لهما. سينسقان ويعملان للإجهاز على ما تبقى من الحزب بعد افتراس السلطة له. كما توقعت صار حمه سور على اتصال يومي مع كمتار، لا يكتفيان بالمكالمات التلفونية، يلتقيان في منتجعات اشتراكية على شواطئ فارنا البلغارية، وشواطئ البحر الأسود السوفييتية. وفنادق اللجان المركزية في العواصم الشيوعية؛ مستغرقين في احتساء آخر ما تبقى من كؤوس رفاهيتها الثورية، قائلين أنهما: "قادا الحزب في أحلك الظروف" أية قيادة؟ ليتهما يلهوان صامتين! كمتار لا ينفك يطلق تصريحاته الحماسية التي يبدأها عادة :"ليست لدينا أوهام" ثم تأتي طافحة بالأوهام والادعاءات والأكاذيب؛ وتجعل السلطة رفاقنا يدفعون ثمنها من أرواحهم ودمائهم! كالعادة وكما في كل الضربات الساحقة التي واجهها الحزب لم تكن لدينا في القيادة خطة تراجع منظمة. في الأقل لدرء المزيد من الخسائر واحتواء الضحايا ومداراتهم. تقهقر آلاف الشيوعيين مع عوائلهم وقد أضحوا فجأة غرباء في وطنهم، لا يحق لهم البقاء فيه؛ ما لم يوقعوا على ورقة يتعهدون فيها بالولاء كعبيد لقادة البعث إمعاناً في إذلالهم. كثيرون وقعوها كقدر لا مفر منهم. كثيرون رفضوا، وغامروا بالخروج إلى المنافي، وتشتتوا على غير هدى مع عوائلهم، أو تاركيهم وراءهم متخلين عن وظائفهم وأعمالهم وبيوتهم! الذين بقوا في الوطن، ظلوا يحاولون؛ بشتى الطرق، وعبثاً، مداراة جراحهم مستسلمين لمصير مجهول. أمسك كمتار بنشاطات الحزب في الخارج. سيطر على مراكز تجمعات رفاقنا وأصدقائنا الذين راحوا يتدفقون على دمشق وبيروت وبلغاريا واليمن الجنوبي وغيرها، بموجات كبيرة، هرباً من ملاحقة السلطة لهم! عاملهم باستعلاء وعنجهية مستغلاً آلامهم وتيههم! ازداد زخم تدفق رفاقنا وأصدقائنا على البلدان المجاورة والبعيدة؛ هائمين على وجوههم، بقايا جيش مهزوم! لا أنسى ما قاله لي أحدهم " لم نخرج إلا حين صار بقاؤنا في وطننا يعني الموت، وبأيدي أعداء لن يمنحوننا الموت الرحيم. الخروج إلى المنفى لم يكن دخولاً إلى الفردوس!

فجيعتنا كانت في إهمال قادتنا في الخارج لنا. كمتار قال لنا دون خجل: إذا كلكم خرجتم من سيبقى في الحزب، ويسير عمله في العراق؟ لم يسعني رغم حزني، سوى أن أطلق ضحكة مريرة، سألته: ولماذا لم تبق أنت؟ قال أنا شخصية معروفة. عدت للضحك المر، قلت: والسراديب القديمة، لمن بقيت؟ استثقل قادة الدول الاشتراكية وجود الشيوعيين المشردين في بلدانهم رغم أنهم ينفقون مما حملوا من نقود قليلة، ولم يكلفوهم شيئاً. سعوا بمختلف الأقنعة والأساليب؛ لإخراجهم. كانوا يخشون أن يفقدوا مصالحهم مع حكام العراق. لقد توسعت علاقاتهم الاقتصادية معهم بعد الطفرة النفطية الكبيرة. أخذ رفاقنا المشردون يتذكرون ساخرين من أنفسهم كيف أنهم طالما دافعوا عن الدول الاشتراكية، تحملوا الكثير من الأذى وهم يدعون لتحسين علاقات العراق معها، صاروا دعاة وشهود زور لمنتوجاتها السيئة، وبضائعها الرديئة. واليوم يقابلونهم بهذا الجحود. أين ما يسمونه التضامن الأممي؟ كان حمه سور وكمتار وأصحابهما يجدون دائماً المبرارات والأعذار لهم! ظلوا يرددون مصطلحات وشعارات تطبخ في ما يسمى معاهد دراسات ملحقة بدوائر عليا في موسكو، والدول الاشتراكية، وتفصل النظريات والمبادئ على قامات وكروش قادتهم. كانت بالطبع بعيدة عن هموم وآمال هؤلاء المشردين وتزيد الهوة بيننا وبينهم! بقيت في بغداد. ما أبقاني بالدرجة الأولى هو صدق ونبل الكثير من الرفاق الشبان الذين ظلوا مؤمنين بقضيتهم رغم فظاعة إرهاب السلطة وإحساسهم بأن ثمة خللاً في عمل قادة حزبهم. خدمتني ظروف خاصة للاختفاء والعمل؛ رغم كبر سني وتداعي صحتي.

استطعنا التواصل مع من تبقى من خلايا ورفاق مبعثرين هنا وهناك، اخطر ما واجهناه، هو الشك والخوف من اندساس عملاء السلطة بيننا. بعضهم من رفاقنا الذين انهاروا ولم يتحملوا العذاب والتهديد بهتك أعراضهم؛ فارتضوا العمل مع أجهزة الأمن. صرنا نشك ظلماً أو عدلاً برفاق كانوا رائعين وجيدين. كان من تبقى صامداً من رفاقنا يعرفونهم من مسحة الحزن والارتباك على وجوههم، أو من صفاقة واستهتار بعضهم ووقاحتهم. صرنا ما أن نبني تنظيماً صغيراً وبصلات فردية عادة حتى يتحطم أو يخترق، ويصير العمل معه صعباً أو مستحيلاً. كانت حملة شرسة مكثفة تلاحقنا أينما وجدنا. وصلت إلى قناعة؛ إذا قدر لقطعة ثلج أن تبقى في ماء ساخن؛ فإن تنظيمنا هنا سيبقى! عملوا الكثير لاعتقالي حتى وجدتني مضطراً للمغادرة. وصلت المنفى بعد حمه سور بما يزيد على الثمانية شهور. لا أعد ما فعلته في بغداد شجاعة أو مأثرة لي. فعلت ما اعتقدت إنه واجبي رغم ما كان يعتمل في ذهني من تهافت فكرتنا واستحالتها، كان أملي أن اصل مع التنظيم لفكرة صحيحة صائبة جديدة، ولكن تبين لي ان هذا مستحيل آخر، مع كمتار وحمه، ومن معهما!

(31) حمه سور يلقي بمهمة الإدلاء بإفادته على صحفي مسكين، والماعز السائب من بين الشهود!

على مدى ما يفوق السنتين، لم ينقطع تدفق الشيوعيين العراقيين لاجئين على البلدان المجاورة والبعيدة. تجمع كثيرون منهم في اليمن الجنوبية، احتضنهم اليمنيون الاشتراكيون بود وسخاء يفوق طاقتهم. زارهم حمه سور في عدن فقابلوه؛ يريدون منه رأياً أو إيضاحاً في ما حدث، أسبابه ونتائجه، وإلى أين سيكون مسارهم! كانوا يعتقدون أنه قائدهم ويعرف أكثر منهم سر هذه المأساة، ولديه تحليل عميق وشامل ومقنع، والأهم خطة عمل للخروج من هذه المحنة. استمع بضجر لأسئلتهم وتعليقاتهم، قال كلمة هنا، وجملة هناك، كانت يداه ترتجفان تطلبان الكحول، صار يختنق من رائحة تعرق ودموع هذا الجيش المندحر المشتت الذي لا يزال يريد ان يحارب، أو يفهم أسرار المعارك الاستراتيجية والقضايا التكتيكية التي فوق مداركه! أنهى الاجتماع على عجل متمنياً لهم طيب الإقامة، والعودة القريبة. أسرع إلى مطعم الفندق الجميل المطل على البحر، حيث في انتظاره رفاق ورفيقات من الشيوعيين العراقيين، والاشتراكيين اليمنيين، ومائدة طافحة بالفودكا والبيرة المثلجة، والأطعمة البحرية، وهناك من يحمل عود وطبلة وسيغني مرة أخرى للسلام وللشيوعية ومستقبلها الوضاء. بعد جرعات عميقة منعشة هدأت يداه، وامتثلت ساقاه لحركته وانطلق لسانه؛ فنهض يترنح قليلاً. انتحى على مائدة أخرى بصحفي شاب في الحزب. يدعى نائل مطشر، قال له:

ـ اخترتك لتكتب تقييم الحزب بكل ما حدث لنا مع البعثيين! قل كل ما يعن لك، وما يخطر على بالك. اذهب به إلى جريدة "الاشتراكي"،سأعلم الرفيق رئيس التحرير ليستلمه منك، وينشره على الفور حتى دون مراجعتي له، ثقتي بك كبيرة! المهم أن نسكت هؤلاء الثرثارين اللجوجين المطالبين بالتقييم! قال الصحفي المسكين: لو أعطيتني يا رفيقي الخطوط الرئيسية، والمحاور الأساسية. خطر له ان يقول: إفادتك في هذا الجناية المشتركة الكبيرة، لكنه قال " هذه قضية خطيرة كما تعلم!" أجابه حمه :لا وقت لدي، لا وقت لدي! وعاد إلى مائدة الشراب، وقد تألقت بالسامرين، والسامرات، انطلقت الأغاني "عمي يا بو جاكوج" "اليمشي بدربنا شيشوف" "مكبعة ورحت أمشي يمه" وتلتها الرقصات، وسمعت صيحة "الشيوعيون نصر دائم، لا خسائر، ولا هزائم!". وجد نائل، بأمر من حمه سور، إن عليه الحديث في قضايا ينبغي أن يتحدث بها أصحابها الحقيقيون، أو أن يجلس بعضهم معه؛ يشاركونه في صياغتها؛ فهي تتعلق بأرواح الناس ومصائرهم وآلامهم. مع ذلك ذهب مسرعاً إلى مقهى اعتاد أن يجلس فيها يكتب مقالاته للجريدة التي يعمل بها. استعان بقبضات قات تعلم مضغها من اليمنيين، ومضى متفكرا ماذا يكتب. ظل لساعات يمضغ ويدخن ويكتب. يمزق ويمضغ ويكتب. ثمة أشخاص يدخلون ويخرجون من المقهى يسلمون عليه أو يريدون الدردشة معه على عادة اليمنيين حين تحرك ألسنتهم لسعات القات فتحولها إلى ما يشبه مضارب الطبل. فيقطعون أفكاره! كانت أعداد من الماعز تسرح حوله. تبحث عن أي شيء تأكله. الأرض القاحلة هنا لا ينبت فيها عشب أو شوك! والهواء راكد ثقيل، تظل الماعز تدور تأكل الخرق وأوراق الجرائد، وكم ابتلعت من افتتاحيات وأخبار لم تقرأها سوى مجسات أمعاؤها! ثمة صحفيون يمنيون يتندرون؛ نحن نكتب للماعز، لأمعاء الماعز، لا أحد يقرأ جرائدنا المكررة الصور والمانيشات سوى الماعز، نحن نأكل مقالاتنا مع اللحم الرديء للماعز! قطعت مثانته المتضخمة أفكاره؛ فدخل المقهى ليتبول! عندما عاد وجد الماعز وقد تقاسمت أوراقه بعدالة تامة! في فم كل معزى ورقة من تقييمه الباكي الحزين من جهة، والمتفجر غضباً وثورة من جهة أخرى! راح يطاردها محاولاً استرداد ما أبدعت قريحته في هذه الأوراق التي لا يدري أي قدر أهوج وضعها في أفواه الماعز! استطاع أن ينتزع من الأسنان الدائرة كالآلات الحادة بعض أوراقه. كانت ممزقة ملطخة بلعاب حيوانات جائعة؛ لم تجد ما تأكله منذ أيام. ثمة ماعز برك بعيداً على الأرض، وأخذ يمضغ بهدوء. وجد نفسه يضحك؛ ويمضغ القات قبالتها، هل وجد الماعز في التقييم لذة أو طعماً شهياً؟ أحس بالفزع من نفسه ومن عالمه، ومع ذلك جلس مرة أخرى يكتب تقييمه، أو تقريره محاولاً بصعوبة استعادة ما تبقى من السطور الممزقة بأسنان ولعاب هذا الماعز اللعين. جاء التقييم اكثر سوءاً من ذي قبل. لا يعرف على من ألقى باللائمة؛ على البعثيين؟ على الحزب؟ على الظروف؟ على العرب؟ على الكرد؟ على أمريكا على السوفييت، على إسرائيل؟ على الله؟ على أم اللبن؟ ومع ذلك تنفس بعمق، عله قد تخلص من هذه الورطة. ركض به إلى جريدة الاشتراكي، لسان الحزب الاشتراكي اليمني. دفع رئيس التحرير بالتقييم إلى المطبعة على الفور. ظهر في اليوم التالي يحمل عنواناً طويلاً، كتب بحروف حمراء كبيرة: "الرفيق حمه سور سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشقيق: يقيم بكل هدوء وموضوعية، وبروح ثورية عالية، وبصراحته المعهودة، مجمل الأوضاع في العراق بعد انفراط الجبهة الوطنية!" وبجانبه صورة حمه سور وعلى وجهه إمارات إرهاق وتعب وخمول، أعطاها جو الجريدة والتقرير مسحة تعب ثوري مقدس! على الماعز الجائع أن يأكلها من جديد. عندما عرفنا ذلك في المكتب السياسي ردد أحد الأعضاء: عقل تهرأ بالكحول!!ماذا ترجون منه؟ قلت: أي ضمير هذا؟ أضاف آخر يدعى هوشيار: إنه ابن مدينتي، كل تحصيله الدراسي شهادة المدرسة الابتدائية، وكل خبراته العملية إنه عمل فراشاً في بلدية أربيل، قلت: ليته بقي فراشاً لأمتلك نبل الكادح وصدقه! ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه! كنت أعرف أن هذا العضو في المكتب السياسي يكره حمه سور، لا عن مبدأ أو قيم؛ بل لاعتقاده أنه الأجدر بموقعه وهو يسميه دائماً (العرقجي القحبجي)، وكلما ذكر اسمه قال أتعرفون لماذا سميناه حمه سور؟ لقد ظهر في إحدى قرى أربيل في الستينات، رجل اسمه حمه سور، وقد ادعى النبوة. غرر بكثير من النساء والرجال، تزوج من صبيات كثيرات، وجمع ثروة طائلة. حتى القي عليه القبض وأودع السجن، وهدمت صوامعه التي وجدت مليئة بالحريم منتظرات القداسة، ودنان اللوز والعسل والخمور. لم يجد كثيرون ما ينطبق على سكرتيرنا سوى اسم هذا النبي الدجال! رفيقه صديق صباه الذي يتحدث بذلك لا يختلف عنه كثيراً، لا في خلقه ولا في سلوكه! لكن الاسم الذي أطلقه عليه طمس اسمه الحقيقي.

صار اسم كمتار يتقدم على اسم حمه. كان حين يسير مع حمه، وثلة أصحابهما في شوارع بيروت يتبخترون في مشتهم منتشين متغطرسين، كأنهم هم الذين بنوها، وذادوا عنها! كانوا قد نسوا أولئك الرفاق الشبان الذين تأرجحوا على أعواد المشانق في سجن أبي غريب ببغداد. ونسوا آلاف البيوت التي أطفأ فيها النور، وخيمت عليها سحب الحزن والفقدان.

(32) دولاب هوى وهواء: إزاحة طاغية؛ بطاغية آخر!

الشيوعيون الذين جمعتني بهم سنوات العمل الطويلة، لازلت أسميهم رفاقي. كلمة رفيق بعيداً عن الاستعمال الحزبي؛ بريئة جميلة، لها نكهة الطريق، والسفر والمقهى والبحر. شوهتها أحزاب ثورية بصراعاتها السياسية والدموية، ومطامع قادتها بالسلطة والثروة. حتى الآن ورغم كل ما جرى أحب رفاقي القدامى، مبتعداً قدر الإمكان عن الهيكل الحزبي الذي جمعنا. الحزب كإطار، وهيكل معنوي أضحى شيئاً ميتاً يستدر الشفقة والرثاء، لكن الناس الذين كانوا فيه لا يزالون يثيرون شجني وعطفي ومودتي. إذا ما سميتهم رفاقي فهذا لا يعني وجود علاقة حزبية، أو حتى سياسية لي معهم. لم تعد تربطني بهم سوى علاقة إنسانية وروحية. بالطبع هذا لا يعني أنهم يبادلونني نفس الشعور، أو إنهم ملزمون بنفس المشاعر نحوي، فكل إنسان يمتح من البئر الذي لديه، لكنني وبعد هذه الفرقة والعزلة الطويلة؛ صرت أخشى من نفسي على رفاقي القدامى، مثلما أخشى من بعضهم على نفسي، فالشيوعي،: متعِب ومتعَب، صعب في التعامل، متوتر، متشنج من الداخل، يدعى الفرح والتفاؤل؛ بينما هو ينطوي على كآبة تعيسة، كثيراً ما يطفئها بالكحول والتدخين، وأحياناً الجنس، فهو يحس بشكل غامض، أن ما يناضل ويضحي من أجله، ويدفع الآخرين للمعاناة والموت من أجله؛ مستحيل تحققه، أو هو بعيد المنال تماما، باختصار شديد: الشيوعي عبثي في أعماقه وسعيه، بينما هو يعتقد، أنه ينشد أرقى نظام للبشرية جمعاء، ولكي لا نذهب بعيداً أقدم لك نفسي لا غير نموذجاً له، فقط أتمنى أن تمتلك الصبر والأناة الطويلة لمتابعتي في رحلتي الطويلة بين البيوت والقبور، ولا أريد منك أن تجد المبرر لأخطائي، ومصائبي، وحالتي كلها، فقط أرجو منك أن تفهمني!

في أول اجتماع للمكتب السياسي نعقده في الخارج بعد تلك الضربة الهائلة التي سحقت الحزب وهشمت أرواح الكثير من رفاقنا، وإن بقي بعضهم أحياءً يعانون، قلت: هذا أوان التحول، لتكن هذه المأساة هي كما يقال " رب ضارة نافعة" لم لا نعترف أمام أنفسنا، أن فكرتنا وحزبنا لم يعودا ملائمين لعصرنا ولقضيتنا، وينبغي أن نعد لفكر آخر، وتنظيم آخر! ران صمت ثقيل، كمتار صار بشكل تلقائي عضواً في المكتب السياسي، بل وأبرز أعضائه، ويجلس إلى يمين حمه، ونحن نجتمع في شقته الواسعة الفاخرة، في بيروت، وفي حماه وتحت رحمته. نظر هو وحمه إليَ بتحفز ووجوم، وجدا في ذلك دليلاً سيسوقونه ضدي على ما أسمياه ضعفي، وانهياري. قال حمه سور،بلهجة مفخمة متعالية:

ـ لو أحسنت النظر في الأفق؛ لوجدت، أننا منتصرون!

ـ عن أي أفق تتحدث يا رفيق؟ سور الصين، أم جدار الكرملين؟ دعنا ننطلق من أرض بلادنا! حدث لغط وضجيج وكانت الكلمة الفاصلة: نحن بأي حال؟ عدونا قوي وشرس، وصار يلاحقنا بمسدسات كاتمة الصوت إلى بيروت ودمشق، لا وقت للمماحكات الفكرية أو التنظيمية، دعونا نلم صفوفنا ونلعق الجراح! ... ودخلنا في دوامة تفاصيل العمل اليومي التي لا تفضي سوى إلى الركود والاستسلام للواقع، والصمت الطويل!

في بيروت حاول كمتار في البداية استمالتي، وكسب صداقتي، أو سكوتي على ممارساته. حين وجد مني انتقاداً، واعترضاً ثابتاً على معظم تصرفاته السيئة؛ أضمر شيئاً في نفسه؛ دون أن يخفي ابتسامته كلما لقيني، وتلك عادته قبل الوقيعة بخصمه. لم ألجأ إليه للحصول على سكن، سكنت وحدي شقة صغيرة في منطقة الكولا. ساعدني في الحصول عليها بإيجار معقول فنان سينمائي عراقي لجأ إلى بيروت وعمل مع منظمة مقاومة فلسطينية منذ أوائل السبعينات بعد ان اعتقل قبلي في قصر النهاية، كان يردد ضاحكاً:" نزفنا معاً فيه من جروحنا، تجمعني وإياك قرابة دموية". كان صديقي الفنان يسكن بناية تقابل معمل الكولا المغلق، فحصل لي على شقة إلى جواره في الطابق الخامس. كنت قد تركت عائلتي في بغداد، برعاية شقيقي الذي لم يكن قد انخرط في السياسة، وقد نجح في عمله التجاري، ورعى من خلاله الأسرة حتى أقاربه البعيدين. كان علي ان أواجه سلوك وممارسات كمتار. كما توقعت؛ كانت مشينة مقززة ويصعب السكوت عليها. وجدته أخطر من جلاد في السلطة؛ فهو يعمل داخل الحزب، وبصلاحيات واسعة. كان في أيامه الأولى في بيروت قد تحدث مع صديقنا الفنان قلقاً أن كل ما لديه من مال هو مبلغ، حصل عليه من بيع سيارته الروسية،(لادا)، وكان متذمراً لأنه باعها بثمن بخس "بعد هجوم السلطة علينا صار الناس يخافون شراء السيارات الروسية! هم يشترون السيارات الألمانية واليابانية!" اليوم وبعد اقل من عامين صار يتربع على ثروة، لا يعرف حجمها، لكن البعض يقدرها بملايين الدولارات!

كلما طلبت في المكتب السياسي الانتباه لحالته ووضع حد لتصرفاته الضارة بنشاط وسمعة الحزب؛ كان حمه سور يقف مدافعاً عنه ويطوي أية شكوى ضده، وقد ظل يتستر عليه ويحتضنه؛ مهما كانت جناياته كبيرة وخطيرة! قال رفيق لي في المكتب السياسي: لا تتعب نفسك إنه توأمه؛ فكثير من الصفات المشتركة بينهما، الأنانية والجهل والضحالة والتهالك على الجنس والملذات! ساهم كمتار مع حمه سور وبقوة في تبني الحزب للكفاح المسلح في جبال كردستان. ولم تجد معارضتي، وعضوين في المكتب السياسي، لهذا النهج في الصراع مع السلطة. قلنا: إذا كنتم تريدون الانتقام لرفاقنا الذين أعدموا وعذبوا وشردوا، وهم كثيرون، فالرصاص الذي سيطلق من الجبال لن يصيب القتلة والجناة الحقيقيين، سيصيب الجنود الفقراء القادمين للقتال تحت الأوامر العسكرية. والعراق صار الآن في حالة حرب دفاعية ضد إيران التي رفضت دعوته، ودول كثيرة في العالم لوقف الحرب، ولا ينبغي إضعاف الجيش فهو يدافع عن الوطن! وعلينا أن نفكر بالوطن لا بالحاكم! وإذا كنتم تعتقدون أنكم تستطيعون إسقاط النظام بالسلاح، متحالفين مع أحزاب قومية ودينية طائفية متحالفة من طرفها الآخر، رأسها أو دبرها، مع الإيرانيين؛ فكم سيكون تأثيركم في صياغة نظام حكم جديد بين هؤلاء الضواري التي ستدخل بغداد دخول المنتقمين والجائعين المزمنين على مائدة عامرة بالأطباق الشهية؟ على كل حال ستكون تضحيات الشيوعيين كالعادة من حصة الآخرين، أو مجرد هباء! لكن لكمتار وصاحبه حمه سور، حسابات مختلفة تماماً، ومرتبطة بترسبات ومصالح قومية وطائفية. كما إن كمتار حين يريد التخلص من رفيق أو رفيقة لغاية في نفسه، يدفعهما بطريقة ما إلى كردستان! استغل تشتت عوائل الشيوعيين وتمزقهم وما يعانونه من عذاب وحاجة وراح يجوس بينهم لإشباع شهواته متحرشاً بالفتيات الجميلات؛ ليوقعهن في حبائله. كاتب لبناني قال: ما يفوح من مكتب الحزب الشيوعي العراقي في بيروت ليس رائحة النضال، بل رائحة الجنس والمال! ما جعل سمعته بين اللبنانيين والفلسطينيين؛ تنحدر إلى درك مريع! سيطر كمتار كلياً على حمه سور. استقدم له عشيقته الحسناء عميلة المخابرات من بغداد المدعوة أم جنان، وهيأ لها بيتاً مرفهاً في دمشق. أخذ حمه سور يقضي لياليه عندها غارقاً في السكر والعربدة مفرطاً بأسرار الحزب ووثائقه، متسبباً في موت رفاقنا، وسحق ما يجهدون لبنائه من تنظيم سري! تذكرت ما كنت قد سمعته في بغداد من صديق مطلع موثوق، انهم حين أعلموا صدام أن حمه سور الذي كان يجلس قبالته في قيادة الجبهة قد غادر العراق، أطلق ضحكته ذات القهقهات المتسلسلة قائلاً:

ـ فليذهب هو وأصحابه أينما شاءوا، فهم أسرى عندي!

وكان يقصد الحبال السرية التي تشدهم إليه، أسرارهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم الغامضة، وها هي أم جنان تأتي من دائرة المخابرات في بغداد، وتلف حبائلها على عنق الحزب. أحكم كمتار قبضته على كل شيء: ماليته المتنامية من معونات دول اشتراكية، وعربية تساعد الحزب لا حباً به بل كرهاً بصدام. فصائل في المقاومة الفلسطينية متضامنة مع الشيوعيين العراقيين، لهذا السبب، أو ذاك. اشتراكات، وتبرعات أعضاء وأصدقاء الحزب العاملين في الجزائر واليمن الجنوبي وليبيا والبلدان الأخرى، وقد اشترطوا عليهم أن يدفعوا ما لا يقل عن ربع رواتبهم؛ فكانت تبلغ ملايين الدولارات، موارد مطبوعات ونشاطات مختلفة، تجارة جوازات السفر المزورة. كانت موارد كبيرة، وكلها تصب في حساباته الكثيرة في مختلف البنوك ويرفض الكشف عنها! كان أكبر قدر من الأموال يحصل عليه من استيلائه على نصف رواتب العراقيين العاملين في دوائر ومؤسسات المنظمات الفلسطينية. هذه المنظمات شغلت آلاف العراقيين في دوائرها المختلفة من معامل ومدارس ومراكز صحية وعسكرية وتجارية. لحاجتها لخبراتهم، ولمساعدتهم كمناضلين أيضاً مرتبطين بالحزب الشيوعي الذي كان ممثله لديهم كمتار بيس. فكان هو من يرشحهم، وهو من يستلم رواتبهم دفعة واحدة، حيث يقتطع نصفها، بحجة إنه سيرسلها لأنصار الحزب المقاتلين في كردستان. بينما هو يضعها في حسابه السري. صار يتحكم، وهو الذي لا يستطيع كتابة جملة واحدة صحيحة، بمكاتب النشر والإعلام، رابطة الكتاب والصحفيين الشيوعيين وأصدقائهم، وبالأسلحة ومواقع تدريب الأنصار. ولكن الأخطر من كل ذلك سيطرته على مركز الارتباط بتنظيمات الداخل حيث أخذت تتعرض لاختراقات وتهتكات غامضة، وضربات السلطة الرهيبة المحكمة، فقضي على الكثيرين من خيرة رفاقنا ورفيقتنا. لم تعد أفعاله في إطار الشك، صارت واضحة جلية، إنه كان قد وظف لدى سلطات كثيرة متعاقبة. وسكوت ما تبقى من قيادة الحزب عنه صار يثير استغراب الكثيرين وسخريتهم. وبينما كانت الحرب تحرق في لبنان كل ما هو جميل، والدماء تتدفق من منحدرات الجبال، ومنعطفات الشوارع، والغارات الإسرائيلية تقذف حممها فوق الناس وبيوتهم، كان كل هم كمتار بيس؛ هو كيف يحصل على عشيقة حسناء جديدة، وكيف يفتح حساباً مصرفياً إضافياً، وكانت شهواته وثرواته في تزايد. ما أشاعه كمتار من دنس في أوساطنا زاد قناعتي بأن فكرة عقيمة مستحيلة لا تستطيع أن تنتج سوى فاسدين مثل كمتار، ولا يستطيع المضي معها سوى المزيد من التدليس والفساد! حدث هذا في الدول الاشتراكية كثيراً، ولكمتار أصدقاء كثيرون هناك! كنت أتساءل مع نفسي كيف يمكن أن ننتصر بمثل هكذا شخص صار قائدنا بلعبة ساحر ماكر لا نعرفه؟ منذ فترة طويلة وأنا اسمع بعلاقاته المزدوجة مع الكي جي بي السوفييتية، والأمن العراقي، ومع أجهزة أمن البلدان التي يحل بها. وأخرى غامضة خطيرة. ما يقوم به ليس بمعزل عن ارتباطاته القديمة والحالية. الآن أدرك: لا تصلح مع الفاسدين سوى فكرة مستحيلة، حيث لا يوم محدد للتنفيذ يسألون عنه! أي وهم وخديعة نساهم كلنا في صنعهما للناس؟

سألني قيادي في الحزب الشيوعي اللبناني كيف تحلمون بالانتصار على صدام، ولا تستطيعون الانتصار على كمتار بيس، وقد اغتصب حزبكم ومرغ سمعته في الوحل؟ وثمة من يسمي مكتب حزبكم؛ (مكب) الحزب! حدثته بما لم يعد خافيا، من صراع حوله لدينا. رويت له كيف كان الرعيل الأول من الشيوعيين حريصين على طهارتهم ونقاءهم فيحرمون أنفسهم من كل شيء، حتى البريء والمشروع منه، لكنه يخالف تقاليد الناس. كان المحقق في دائرة الأمن في العهد الملكي يسأل الشيوعي: ـ تشرب خمر؟ فيجيب ـ لا ـ تروح للمنزول، تدور قحاب، تلعب قمار؟ فيجيب ـ لا، تقرا كتب؟ فيجيب ـ نعم!! فيهب المحقق من مكانه بهيئة المنتصر هاتفاً: خلص!! أنت شيوعي! إلى أي درك انحدرنا في عهد السكرتير حمه سور، وصاحبه كمتار بيس؟ ندت عن الرفيق اللبناني ضحكة حزينة، قال:

ـ رفيق، التلوث ليس في البيئة، التلوث في الإنسان!

نهض متعجلاً واجماً، فهؤلاء اللبنانيون، لديهم ما يكفيهم من الهموم والمصائب!

عشت في بيروت صراعاً مع نفسي أأبقى في الحزب وفي موقعي القيادي رغم اهتزاز الفكرة في ذهني، لكي أنازل كمتار وأصحابه، بقوة، ووجهاً لوجه، ربما سأفلح في إبعاد شرورهم عن الحزب والناس الأبرياء الغافلين قبل أن أغدو رماداً، رغم إنهم الأقوى. أم أتنحى مؤثراً الراحة، والهدوء خاصة وإنني تجاوزت السبعين، وأعاني من متاعب صحية؟ قد يبدو غريباً إنه رغم تهالكه على المتع لا يقرب الكحول، يقول انه حاول احتسائه فغرق في نصف قدح. لديه أن أعظم المتع في الدنيا تنحصر في ثلاثة أشياء فقط لا غير؛ المال والجنس والتسلط على الآخرين، كان أحيانا يجالس من يتحلقون حول مائدة شراب، يضحك من أولئك الذين تضج بهم آلامهم؛ فيبكون أو يعربدون، يتسلى بتوجيه نصائحه إليهم، ولومهم وتقريعم وأكل مزتهم. ثار يوماً شاب يعمل في المسرح بوجهه وصاح به: أتعرف لماذا أسكر؟ أنا أشرب زجاجة عرق كاملة لكي أنسى وجهك، وها أنت تلاحقني إلى مائدة الشراب، أين أول وجهي منك؟ مسكينة بيروت، أجمل مدن الدنيا، صارت اليوم حاوية لكل من أزاحته الأرض!

(33) ضربوا حوله طوق العزلة؛ بينما الروح تبعد في تجوالها!

في اجتماع للمكتب السياسي طلبت التحقيق في وضع كمتار، خاصة القضيتين الأساسيتين: سيطرته على مركز الارتباط في الداخل، لماذا كل من يذهب من رفاقنا إلى الداخل يعتقل عند الحدود، كأنهم كانوا ينتظرونه؟ ماذا تعمل أم جنان في دمشق؟ الثانية: بأي حق يستولي كمتار على نصف جهود ورواتب رفاقنا وأصدقائنا، والتي تبلغ في العام ملايين الدولارات. إضافة إلى الأموال الأخرى؟ بينما رفاقنا وأصدقاؤنا الآن يتضورون من العوز، حتى أن بعضهم وجد إنه لا يستطيع توفير الملابس في الشتاء أو الدواء لأطفاله. التزم حمه سور الصمت حول عشيقته، وأرغى كمتار وأزبد وتفوه بكلمات نابية، ثم فجأة سكت وراح يوزع الابتسامات، وهو كما أعرفه حين يصل إلى حالة الاسترخاء؛ يكون قد اضمر شيئاً فظيعاً في نفسه. حين وجدني لا زلت أصر على أن يرد على أسئلتي انسحب بهدوء. حتى إنني تصورته قد ذهب إلى الحمام، لكنه لم يعد للاجتماع. حمه سور قال وهو لا يزال يعاني من اثر سكره، والشبق الليلي: كمتار بيس مفخرة الحزب، والوحيد القادر على إثبات وجوده في السوق الثوري العربي الممتدة دكاكينه من بيروت إلى ودمشق! كان حمه سور وبعض أعضاء المكتب السياسي، ممن وجدوا مصالحهم أفضل من التمسك بمبادئ وقيم تجلب لهم المتاعب، هم الأقوى؛ فصاروا رصيده الشرعي وارتضوا لأنفسهم ان يكونوا ذيولاً وتوابع له. كان يقتفي خطى صدام وبشكل مضحك، صار يعرف نقاط ضعف اتباعه والمحيطين به، فهذا يرسل له ابنه أو ابنته للدراسة في دولة اشتراكية، وذاك يدبر له وظيفة شكلية براتب جيد في إحدى المنظمات الفلسطينية، أو في سفارة لليمن الجنوبية. وآخر يسلمه مفاتيح إحدى شقق لهوه الجميلة! فوقفوا إلى جانبه! بقيت أنا ومعي عضو أو عضوان من المكتب السياسي؛ نطالب بأن يكشف عن حساباته لنضعها تحت إشراف لجنة نزيهة منتخبة، ومضيت مطالباً بأن يحاسب على ما ألحقه بالحزب من أضرار ومصائب وإرجاعه إلى حقيقته: شخصاً سيئاً وضاراً؛ لا يصلح أن يكون بيننا! صار آخرون في القيادة معنا يطالبون على استحياء وخوف بالحد من مفاسده وطغيانه بنقله إلى مهمة أخرى في القيادة، حدث ذلك فقط حين صار يمس مصالحهم الخاصة! انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي إجراء؛ ينهي مصيبة الحزب بكمتار! وبالتأكيد ركض حمه سور إليه، وابلغه بما دار في الاجتماع.

وجدت إن من الصعب جداً إزاحة كمتار عن موقعه، وتغيير فكرة الحزب التي بدونها لا يعود هذا الحزب بل حزباً آخر. قررت التنحي! تقدمت بطلب تحريري؛ كي يعفونني من مهامي وموقعي الحزبي. فلم يرد حمه سور، وكتلته عليه. ظلوا يماطلون، لا يريدون قبول استقالتي، ما أثار شكوكي، أنهم يدبرون لي أمراً آخر، وصح توقعي، فجأة طرحوا قضية موقفي في المعتقل. رغم ان ذلك كان صدمة آلمتني كثيراً، لكنني لم استغربه، وجدته منطقياً تماماً في مسار صراعي مع كمتار وحمه سور!

كانت دعواهم علي؛ إن موقفي عند اعتقالي في قضية "حميد"؛ كان ضعيفاً، وسيئاً، وإنني كنت قد انهرت واستسلمت للمحققين في قصر النهاية، وفرطت بأسرار الحزب، وعرضت الكثيرين للاعتقال والموت. أدركت أنهم انتقلوا للهجوم عليّ في قضية خاسرة بدلاً من يدافعوا عن أنفسهم في مطالبتي بتطهير الحزب من مفاسدهم! ومع ذلك؛ سألتهم: إذا كانت لديكم هكذا تهمة خطيرة؛ ما الذي جعلكم لا تثيرونها سوى الآن؟ لماذا خبأتموها طيلة هذه السنوات التي استغرقت عمر الجبهة مع البعثيين الذي قارب الخمسة أعوام، ووقتاً آخر في المنفى؟

كانوا يتمتمون: سنتحدث في ذلك في اقرب اجتماع للمكتب السياسي، ثم يلتزمون الصمت! كنت حال خروجي من السجن قد كتبت لهم تقريراً طويلاً ومفصلاً بيدي المصابة المرتجفة آنذاك من التعذيب؛ وصفت لهم كل ما تذكرته، أو وجدته مهماً من الذي حدث لي في المعتقل، تحاشيت تفاصيل التعذيب والإذلال والرعب كي لا أزعجهم أو أخدش مشاعرهم. في اجتماع المكتب السياسي، سألت كيف تتنكرون لذلك؟ ألم يكن حمه سور وفي أكثر من اجتماع في المكتب السياسي يقول: نكبر صمود رفيقنا يونس ونحيي شجاعته؟ إذا صح إنني قد خنت الحزب، وزودت العدو بأسراره حتى بعد خروجي من المعتقل كما تقولون، فأنا استحق عقوبة الموت لا العزل فقط، اليوم تأتون لمحاسبتي! من يحاسب؟ من؟ أين هي المحكمة الحزبية الموضوعية العادلة؟. أخذوا ينهشون لحمي أمامي. اصدروا قرارهم بالأكثرية بإخراجي من قيادة الحزب، وتنزيل درجتي الحزبية إلى عضو عادي! صار واضحاً لي، أنهم لم يخرجوني بإرادتي من قيادة الحزب كما طلبت في رسالتي لهم، بل أخرجوني بإرادتهم لكي يلطخوني بعار الخيانة! بذلك يسكتون من يتحدث عن مباذلهم ويتصدى لتصرفاتهم! كان قرار المكتب السياسي قد أبقى على عضويتي في الحزب، لكن كمتار وأتباعه راحوا يروجون بين شخصيات وقياديين في أحزاب أخرى عربية في بيروت ودمشق وحيث ما أكون معروفاً، أنني خائن، وأنهم كانوا مخدوعين بي، لذا طردوني من الحزب، وهم يحذرونهم مني. ابلغني صديق من حزب تقدمي عربي في بيروت أنه قال لمن جاءه بذلك: لو كان الرفيق يونس قد سكت على ممارسات وسلوك كمتار؛ لبقيتم تقولون عنه كذي قبل؛ "الرفيق البطل الذي واجه الجلاوزة بشجاعة نادرة في قصر النهاية!"

ومضوا بحماس وحبور يشهرون ويطعنون بي في منظماتهم وتجمعاتهم! متفننين في حرق اسمي وسمعتي. كنت أشم رائحة شواء لحمي والتزم الصمت، لكنني ازددت عناداً. لم أغادر الحزب كما أرادوا. قررت أن أبقى في داخله حتى أثبت براءتي ونقائي، وأكشف للناس حقيقة هؤلاء. حميد اغتصب رفيقاً واحداً؛وكان بشعاً جداً، هؤلاء اغتصبوا الحزب كله، ولا تزال جنايتهم تؤذي الأبرياء، خاصة شهدائنا! كيف سأحقق ذلك؟ فأنا لا طاقة لي على العمل التنظيمي، أو السياسي بعد الآن، ليس فقط لأن صحتي أخذت تخذلني؛ بل لقناعتي بعدم جدواه مع هؤلاء المتمرسين بالمكر والزيف. خطر لي أن أكتب مذكراتي وأنا داخل الحزب لا خارجه. وأن أغوص في تفاصيل ما حدث لي معهم, عندما كنت في العراق، وفي أيام الهدوء النسبي، كنت أطلب التنحي عن موقعي القيادي لأبقى في الحزب عضواً عادياً بسيطاً، متمنياً ان يتنحى رفاقي المسنون عن العمل ليفسحوا المجال للشباب يأخذون مواقعهم في القيادة، ويغذون الحزب بطاقاتهم، وأفكارهم الجديدة، لعل ثمة انقلاباً في الفكرة يحدث على أيديهم، ولكن الرفاق المسنين كانوا يقولون" أنت يا رفيق تجمع بين حكمة الشيوخ، وحيوية الشباب، وهذا ما يحتاجه حزبنا، وهو يقطع خطواته الأخيرة نحو النصر" كانوا يقصدون أنفسهم اكثر مما يقصدونني؛ ليتمسكوا بمواقعهم القيادية، بما تتيح لهم من لذائذ ومتع، وأبهة فارغة، وسفرات لأماكن الاستراحة والترفيه في موسكو، وغيرها من عواصم الاشتراكية التي أنا أيضاً تمتعت فيها مرات كثيرة في السنين الخوالي مع قادة حزبيين من شتى أنحاء العالم، وأحس بالخجل والعار كلما تذكرتها! ما كنا نرى سوى جناتها وحورها وأنهار خمرها ولبنها، أما أسوار السجون الكبيرة المحيطة بالشعوب، وشظف عيشها وذلها؛ فهي في نظرنا من أكاذيب الرأسمالية المحتضرة! مهما كبرنا، كنا كالأطفال تغرينا وتسكتنا شوكلاتة الشيوعية! وأنا أيضاً لدي جنايتي، كم أنشد الموت والموتى!

لم يقتصر الأمر علي. قاموا بانقلاب سري أطاحوا فيه بنصف أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي, والكوادر والأعضاء المؤيدين لهم، وهؤلاء جميعا عرفوا بنزاهتهم وتفانيهم وماضيهم الناصع. وتطلعهم لتبني فكرة جديدة. جاءوا بأعضاء في القيادة مستعدين لمسايرة حمه، وكمتار بيس والسكوت على مباذلهما. بذلك ترسخ النهج المنحط للحزب تماماً، وسقطت الثمرة الفاسدة، في اليد الملوثة! صار كمتار السكرتير الفعلي للحزب، وحمه السكرتير الرسمي، يجري خلفه لاهثاً كي يزيد راتبه الحزبي لينفق بسخاء على بيته في دمشق، ومتطلبات عشيقته عميلة المخابرات وحفلاتها الليلية، والتي كانت تدخر راتبها المخابراتي وتجبر حمه على امتصاص أموال الحزب!

انتصروا علي! هكذا خيل لهم! ومضى كمتار بيس يتحرك بشكل محموم مستغلاً علاقاته مع المنظمات الفلسطينية المسيطرة، فأفلح في إبعادي عن بيروت. أقمت فترة قصيرة في دمشق، اقترح علي رفاقي الذين أخرجوا من الحزب أن أكون في مقدمتهم لإعادة بناء الحزب ونزع الشرعية عن تنظيم كمتار في بيروت. قلت لهم: تستطيعون أن تقوموا بذلك بدوني فأنا لم يعد لدي لا العمر ولا الطاقة ولا الأمل في ذلك. وما جدوى إعادة بناء حزب على نفس فكرته العقيمة المستحيلة؟ قررت ان أتمسك بوحدتي، أعود لذاتي؛ أراجعها وأستبطن مكنوناتها القديمة. لا حقني كمتار إلى هناك! كان قد أقام علاقات وثيقة مع أعلى المسؤولين في أجهزة الأمن والمخابرات في دمشق. كان يهمس لأصحابه: تستطيع أن تضع ضابط المخابرات هنا في جيبك بكمشة دولارات! فأغدق على ضباط كبار في المخابرات والأمن الكثير من الأموال والهدايا الثمينة ينتقيها بخبرة المتمرس لزوجاتهم وعشيقاتهم كلما سافر إلى باريس أو لندن! صار نفوذه لديهم حاسماً، وكلمته تقارب الأمر؛ حتى صار البعض يسميه (والي الشام)! لكي أبقى في دمشق يجب أن أحصل على تزكية من كمتار بيس، وهو يقول لهم " إنه عزل من موقعه القيادي لتعاونه مع السلطة في بغداد". جاءني ضابط منهم لينذرني: الأفضل لك أن تغادر دمشق، وإلا نضطر لاعتقالك؛ فلدينا معلومات عن علاقة لك مع أجهزة الحكم في بغداد! لم يكن ثمة مناص من صعودي قلعة أربيل، انصعت لقرار قيادة الحزب بإدخالي إلى كردستان، استمر الحزب يدفع تكاليف سكني وعيشي القليلة كذي قبل.

رغم أن الفكرة التي جئت من أجلها إلى الحزب قد تهشمت في أعماقي، وتكشفت عن هباء, ورأس الحزب اكتنفه عته وجنون، والحزب كله صار تحت سلطة كمتار، لكن ثمة أسباباً جعلتني لا أتسرع في الخروج منه، بعضها غامضة، كقولي لنفسي إنه خيط يربطني برفاقي الشهداء، فأنا أحد الذين دفعوهم للاستشهاد، فكيف أتخلى عن بيت دعوتهم إليه؟ وربما أرواحهم لا تزال تحوم حوله، وإن طول الإقامة في تنظيم مهما لقيت فيه ومنه، تجعل له جاذبية البيت القديم ورونقه، مهما كان رأينا فيه، ثم أخيراً إنني لا أريد أن اتركه لكمتار وعصبته، وأحيانا ما يشدنا بغموض لشيء يصير أقوى من الأشياء الواضحة التي تفصلنا عنه! على أي حال، بقي ضميري مشدوداً بتلك الخيوط الواهية أو المتينة للحزب، وظل الماضي يملأ أعماقي، ويتفجر في روحي، وعقلي كل يوم، بل كل لحظة!

حللت في أربيل، كنت أعرف بعض قادة الكرد، وقد كانت لي لقاءات وأحاديث معهم عندما كنت لا أزال عضوا في المكتب السياسي في بغداد وكردستان، وفي بيروت ودمشق، ولكنني الآن عضو عادي، لا أسعى لهم، ولا يسعون إليَّ.

لم يحزنني إنني ابتعدت عن قيادة حزب أنا آخر من تبقى من بناته الأوائل، فذلك طبيعي وضروري، ولم ترهبني محاولتهم ثلم سمعتي، فأنا واثق من متانتها، آلمني إنني أخيراً خسرت معركتي مع حمه سور وصاحبه كمتار، قبل أن أستطع أبعاد شرورهما عن الحزب والناس!

أكثر من ثلاثين سنة وحمه سور يتربع على قيادة الحزب ويحاول أن يقنع الناس أن حكام بغداد قد استأثروا بالسلطة لسنوات طويلة، ما كان يريد التخلي عن موقعه كقائد رغم أن الشيخوخة وكآبة الكحول والجنس أثقلت لسانه وجعلته يلثغ كمن يعاني من شلل دماغي.أخيراً تدخلت خصيتاه فجأة وحلت المشكلة. فقد دب بهما فجأة ورم سرطاني استدعى خضوعه لعلاج طويل، استوجب تنحيه عن كرسي السكرتير! لم يتقدم كمتار بيس ليحل محله، هو في محله أصلاً، لا يستطيع أن يكون السكرتير رسمياً، فضائحه وآثامه تسد عليه الطرق، ظل في مكانه، فقط غير القناع! جاء براضي سعيد، شخصية ضعيفة هزيلة ليكون السكرتير الرسمي، كثيرون قالوا إنه لم يعد بحاجة للحزب، سيستثمر الأموال الطائلة التي جناها من دماء الشهداء في الأعمال الخاصة، فقد صار مليونيراً! هل سمعتم أن راتب التفرغ الحزبي يمكن أن يكون ملايين الدولارات؟ لو يعلم الرأسماليون بذلك؛ لصاروا شيوعيين أولاً؛ ليصبحوا رأسماليين أكثر مالاً!

 لم استغرب مواقف رفاق جهدت في تكوينهم ورعايتهم، تواطئوا أو صمتوا حيال ما وقع لي، بعضهم قفز إلى مركب كمتار وصاحبه. رأيت في حياتي الطويلة الكثير من العقوق والغدر، لم أعد استغربه، حتى حين يأتي من رفاق كنت أتوسم فيهم الصدق والوفاء، لعنة السلطة لا تظهر رائحتها وسمومها على الكرسي فقط، إنما في الطريق إليه أيضا، حتى ولو كان سراباً! فرحت كثيراً برفاق شباب جاءوني إلي بيتي في القلعة لا معزين بل كمهنئين لخروجي من ثلة قادة متفسخين! وما زلت أرى فيهم حتى اليوم رغم تباعد زياراتهم نواة فكرة أخرى تواصل طريق الثورة والتغيير الذي لا يصح وجود إنساني بدونهما!

مضى على ما وقع لي في بيروت قرابة العشرين عاماً، وأنا الآن قاربت التسعين. حين يتقدم بنا العمر، نكتشف إننا وحدنا، وإن كل الجموع البشرية التي قدناها، أو قادتنا لم تعد بحاجة لنا، ونحن أيضاً لم نعد بحاجة لها. خطوة صغيرة تفصلني عن القبر، هي كل عالمي الآن، لا أريد ان أعبرها راكضاً، أريد أن أفهمها، أتعرف على خريطتها المعقدة. أرى في قراراتها الأسرار التي لم يتح لي أن فهمها، خطوة قصيرة هي كل ما تبقى، أريدها أن تكون لي وجدي. أليس هذا من حقي؟ في القلعة ارتحت لعزلتي، وجدت حقائق كثيرة اختفت عن ناظري؛ وأنا في حومة العمل والركض الحزبي، كنت ألهث فيه حتى لو كنت جالساً، ذقت طعم الصمت، كان منعشاً كحلم قديم يعود إلى القلب بعد سنوات طويلة! وجدت أن علي أن أنسى تفاهات كمتار بيس وحمه سور، وأتأمل نفسي، وأعماقي،جراحاتها، وبقايا آمالها. كم شغلنا هؤلاء المستغرقون بالدناءات والأشياء المبتذلة، كم في ماضينا وجذورنا من حقائق عظيمة هي ما ينبغي أن تأخذنا للتأمل والتفكر والحلم. أنا في الأيام أو الساعات الأخيرة من عمري، ولم أعد أكترث، بما يدفعونه إلى قمة الهضبة من عفن المستنقع!

لكنني لا أغلق بابي بوجه من يأتي إلي، حتى ولو يأتيني لائماً أو مقرعاً ومحاسباً، لا شيء لدي أخفيه أو أغالط في الحديث عنه، جاءني رفيق قديم صاعداً القلعة سائراً على قدميه، كان يلهث قال ضاحكاً: الأجر على قدر المشقة، صرت يا رفيقي مثل قديس المعبد، والوصول إليك حج مغرٍ، ولا أدري هل سيكافئني الله عليه بالجنة أم النار! تحدثنا طويلاً، قال أنت محظوظ إذ عزلت في أعلى الجبل، أنسيت المستنقع؟ ورحت في ذهول كدت أنساه فعلاً، كان ذك في سجن باب المعظم، سجن بغداد المركزي، أواخر الأربعينيات، عزل شيوعيون مجموعة من رفاقهم الشيوعيين في حجرة أسموها المستنقع، قاطعوهم لا يسمحون لأي منهم أن يكلمهم، أو يقترب منهم، أو يمد يد المساعدة لهم حتى إذا مرض أحدهم أو احتاج لشيء ضروري. فقط يسمعونهم أناشيدهم الثورية، ولعناتهم، ووصمهم بالخيانة والعار، اتهموهم انهم وشوا بمكان اختفاء فهد وشهدوا عليه، وكانوا السبب في إرساله إلى المشنقة. عندما يقال لهم: إقامتكم لرفاقكم سجن داخل السجن أمر فظيع،وقسوة شديدة، ولا تليق بالمناضلين! يقولون هذا قليل ليتنا نستطيع أكثر! صار العزل والنبذ تقليداً يمارسه الشيوعيون مع كل من يختلف معهم أو يتركهم! كانت إدارة السجن تشجعهم على ذلك، ويضحكون عليهم "الشيوعيون قبل ان يستلموا السلطة صارت لهم سجون ومعتقلات، ماذا يفعلون لو استلموا السلطة؟ كم سيفتحون من السجون وينصبون من المشانق للمختلفين معهم؟" وتتعالى قهقهات الشرطة! صارت لديهم خبرة عميقة في عزل رفاقهم ومحاصرتهم ولأتفه الأسباب! هم كالمتدينين المتعصبين يعتقدون أنهم أفضل البشر، عمالقة زمانهم، وإن فكرتهم مقدسة كلية القدرة، كل الحقيقة لديهم، ولا حقيقة في مكان آخر، هم كل العدل، ولا عدل في مكان آخر، وهذا الهوس هو أساس كل طغيان وكل دكتاتورية!

هذه حكاية عزلي ومحاصرتي ولو دخلت في التفاصيل لاحتجت لسنوات، والعمر قارب الانتهاء! بعض ما يسري عني إنني في قلعة موغلة في قدم، لم تعد تنتمي لأحد رغم كثرة الأيدي التي تحاول جذبها، كلما ضيقوا علي الحصار تبعد الروح في تجوالها ونزهتها في الأعماق. وفي القلعة تنسكب السماء كما النبيذ العقيقي في قدح من الكرستال، وطبعا تمس القلب نشوة من هذا السكر الكوني!

-         (34) لدينا شهداء بالجملة والمفرد، والأسعار تتناسب عكسياً مع أسعار النفط!

لاحظ يونس أن بعض الشهداء غضبوا حين عرفوا لماذا نهضوا من الموت، سمع أحدهم يقول "أما كفانا أننا متنا ونحن في ريعان شبابناً محترقين بالسياسة، لم نذق من الحياة طعم يوم واحد، لم نعاشر امرأة، لم نذق كأس خمر، لم نشاهد فيلماً سينمائياً ممتعاً، ثم تأتون لتوقظونا من نعاس الموت الجميل لنخوض معمعة، وجدل السياسة." آخرون لم يعترضوا على إيقاظهم قالوا " كنا نرى كوابيس حقاً " وحين نهضنا توقعنا أن نرى وجهاً حسناً! ولم نتوقع أن نرى كابوساً آخر : "السكرتير والبيرماني والآخرين ".

تقدم رجل من عالم الأحياء، لشهيد كان يقف غير بعيد عن القادة المعتقلين:

ـ لماذا ثرتم على قادتكم وسمتوهم هذا الذل والهوان؟

رد الشهيد بنبرة واضحة وقد اعترت هيكله العظمي رجفة غضب:

ـ هم الذين تحرشوا بنا! كنا نائمين في قبورنا بسلام، قتلونا دون جدوى، وسكتنا عنهم، لكنهم جاءوا اليوم لينقلوا قبورنا، ويستعملونا مرة أخرى من أجل مواقعهم وأمجادهم الفارغة، فكان لا بد ان ننهض لنصفعهم، ونقول كلمتنا بهم من أجل من لم يقتلوا بعد!

ـ ولكن سمعنا أنكم كنت تحضرون لثورتكم منذ زمن طويل.

ـ أجل، كان هناك كثيرون بيننا متألمين غاضبين لا يستطيعون الاستغراق في النوم الأبدي، لما جرى لهم، وللوطن، يتحينون الوقت المناسب لثورة يعلنون فيها الحقيقة، لكننا في معظمنا كنا قد متنا واسترحنا من أعدائنا وقادتنا معاً، واستسلمنا لصمت القبور!

هز الرجل رأسه متحيراً، مضى محني الظهر وكأن أثقالاً أخرى فوق موت أحبته قد حطمت كاهله!

كان كثير من الشهداء مذهولين لهذه اليقظة المفاجئة، عودة للحياة وإن كانت رغم ما يتسرب من شعاع الشمس ما تزال تحت سقف غامض، أهو سقف القبور الدارسة المنسية؟ أم سقف قاعة في حياة قصيرة كحيات أهل الدنيا المساكين للأحلام والوعود في انتظار عقيم؟ سجن أبدي غابر مهجور؟ درس طويل آخر بلا عبرة ولا معنى؟ بيت كبير للفرح والأعراس تحيطه حقول من الياسمين والقرنفل غير المرئية؟ معميات، ومجاهل ولكن لا باس من عيشها، وانتظر يا يونس! تأمل، وسترى!

تهللت وجوه الكثيرين وهم يرون أمهاتهم وآبائهم وأصدقائهم وأخواتهم وزوجاتهم، وتمنوا لو كان أبناؤهم وأطفالهم بينهم، لم يفهموا سبب عدم مجيئهم وهم لباب قلوبهم! قالوا لمن استشهدوا قبل فترة قصيرة،"لم نشأ أن نعرض الأطفال لحزن المقابر" رغم إنهم كبروا سنوات، وقالوا لمن استشهد قبل فترة طويلة وكبر أطفالهم وأخذتهم مصائر شتى، "أنهم مشغولون"، بينما معظمهم قتل في الحروب، أو غيب في السجون انتقاماً من آبائهم. المقطوعون من الشهداء ممن لم تحضر له أم أو أب أو أي من ذويه، لكونهم موتى، أو أنهم لم يعلموا بموت أبنائهم حتى الآن ويحسبونهم مع الغائبين والمغيبين والمنفيين في الخارج، كانت فرحتهم ناقصة وجلة، فيها خيبة أمل، وترقب غامض حزين، يغرفونه من سواقي فرح تدفقت بين أيدي شهداء رفاق لهم جاءهم أحبتهم.

نسى بعضهم أهله وأحبته المنقطع عنهم طويلاً، وراح يتساءل ما معنى هذه اليقظة الأقرب إلى حلم حزين قلق يزيده اضطراباً هذا الجدل غير المفهوم بين الشهداء وقيادة الحزب التي جاءتهم معتقلة! أحد الشهداء قال كلمة جعلت من سمعها يتفكر في هدف وجدوى هذه اللحظة التي تفجرت بين قبورهم، معلقة متأرجحة كنغم حائر بلا كلمات: " شيء رائع أنكم بغضبكم فتحتم القبور، ولكن لا تبددوا وقتكم الثمين، استمتعوا بلقاء الأهل والأحبة ورائحة الحياة الدنيا، لا تسمحوا للحزبين من المنتفضين، أو قيادة الحزب أن تجركم لمهاترات، وتفسد موتكم كما أفسدت حياتكم!

قال شهيد متحسراً:

ـ قدر علينا أن لا نتمتع برفقة أهلنا وأحبتنا لا في الحياة، ولا في الممات!

جاءه صوت من هيكل عظمي آخر وهو يقهقه:

-         ـ كتب علينا الانضباط الحزبي في الدنيا والآخرة!

مع كل الهول الذي صادفه يونس هذا اليوم، ظل يرى أنه يستطيع التعرف على الشهداء من هياكلهم العظمية، ذلك أمر أدهشه في نفسه. كان يعرف أن ذلك اختصاص مختبرات علمية، لا جامعي ذكريات، وفراشات محترقة في الشموس مثله، ما هذا؟ إنه لا يتعرف عليهم من أصواتهم، فأصواتهم هنا هي غير أصواتهم في الدنيا، إنها تتفجر من ذرات عظامهم، تصعد من نواة الأرض وزلازلها القديمة المفجرة للأنهار والحقول المزهرة. لا علاقة لذلك بطول الهيكل العظمي أو حجمه، فهياكلهم وقد دارت في تراب النسيان، صغرت أو كبرت بالتحات والتراكم كحصى أعماق البحار! ثمة إشارات وإمارات كثيرة تقدح كالشرر حول عظامهم تجعله يتعرف عليهم، مستعيداً تلك الكثافة الروحية الدافئة التي هي شلالات من الذكريات والأشجان والأنغام الخفية الحزينة تربطه بهم، فيعرفهم من نبض خفي لا يدرك كنهه ثم يروح يستعيد حكاياتهم وتواريخهم، مواقفهم ومواقعهم النضالية الفاصلة ولحظات استشهادهم المترعة بالصدق والبساطة أيضاً، أو بالغش والكذب وموت الصدفة! أو بالورطة والندم غير المجدي في آخر لحظة، يتذكر أن بعض الشهداء في حياتهم معه كانوا يعجبون ويشيدون بذاكرته القوية. كان حين يسرد لهم حادثة عن اجتماع حزبي قيادي هام حصل قبل أربعين عاماً في بغداد، يتذكر تاريخ ووقت الاجتماع، وحالة الطقس آنذاك، وأشكال وألوان ملابسهم، بل يتذكر رقم سيارة التاكسي الذي استقله رفيق قيادي له، وقد حفظه لأنه خشي أن يقع له حادث مدبر. ذلك في سياق كل التحولات الأليمة التي انتهت إلى ما نحن عليه اليوم. لكنه الآن لا يتذكرهم بحافظته الباهرة بل بتجلياتهم الإنسانية البعيدة عن التحزب، وكل زوايا الأفق الضيق الأخرى. لمح من بعيد وجه شهيد تذكر كيف كان هو بين مشيعيه إلى قرية في أعلى الجبل: أتذكر ذلك المساء المعتم كيف جلسنا عند القبر نتحدث كأنما لنؤنس رفيقنا الذي سنتركه وحيداً في أعلى الجبل، أو بالأحرى لنؤنس أنفسنا التي تزداد وحشة كلما ودعنا رفيقاً إلى قبره قال أحدنا:

ـ ألا ترون كيف يتساقط الشهداء في الحرب مع إيران، يقولون أن الجانبين يستهلكون جنوداً أكثر من الرصاص، وأرغفة الخبز!

قال آخر:

ـ الخميني برفضه إيقاف الحرب، وإطالتها كل هذه السنوات، جعل الكثير من العراقيين يتسابقون للاستشهاد!

قال آخر:

ـ صدام الذي لا يمتدح أحداً، يكيل المدائح للشهداء في هذه الأيام، فهم لم يعودوا يخيفونه أو يهددونه بشيء، فقد صمتوا إلى الأبد!

قال أحدهم بجرأة أذهلتني :

ـ هذا يحصل في حزبنا أيضاً!

ـ بل في كل مكان في الدنيا، ثمة من يحض على الموت؛ طالماً إن الميت ليس هو أو ابنه!

قال آخر بنبرة محتجة:

ـ لكن لا بد من استنهاض الهمم، أتريدون مديح التخاذل والجبن؟

ضحك الشاب، قال:

ـ بل أمدح الجبن، فأنا لم آكل قطعة جبن هنا منذ سنتين!

ـ أتسخر؟

ـ لا! هذا موت لا ضرورة له، لو امتلك صدام العقل ولم يقدم على الحروب، ولو امتلك الخميني القلب وأوقف أحقاده، ولو امتلكت المعارضة العقل والقلب، وتوقفت عن حرب العصابات غير المجدية مع الجيش؛ لما احتجنا لهذا العدد الهائل من الشهداء!

ـ ولكن شهداؤنا يموتون بإرادتهم، فلم هذا التشويش؟

ـ لابد من تسجيل اعتراضنا، حتى فئران المختبرات لم يعد مقبولاً أن تموت، صاروا في أوربا يخرجون من أجلها مظاهرات ومسيرات!

أخذنا صمت شائك، صرت أتأمل قطرات الندى تتساقط من الأشواك كالدموع، قال الشاب بصوت فيه رعشة جارحة:

ـ بعد أن نفارق هذا الجبل، من يأتي لزيارة قبر رفيقنا؟ حتى لو كانت أمه ما تزال على قيد الحياة، كيف تستطيع تسلق هذا الجبل لتلقي نظرة على القبر؟

قال آخر :

ـ ستزوره الطيور والنجوم، وعبير وردة وحيدة مثله على قمة الجبل!

وكنت أعرف أنه كلام شعر وعزاء وتسرية، ولتطمين نفس معذبة محاصرة! وتشعب بنا الحديث إلى معنى الشهادة، قال أحدهم:

ـ أنها عطاء بلا حدود!

قال آخر:

ـ أنها غباء بلا حدود!

قال آخر:

ـ بل هي مزيج من هذا وذاك، إرادة خاصة صادقة طيبة، وخضوع وخجل من الآخرين!

والتفت إلى يريد رأيي قلت:

ـ إنه اضطرار، أتمنى أن لا يصل الإنسان إليه بخفة وطيش، ولا يكون حالة دائمة في حياتنا!

وعجبت من نفسي، كيف قلت رأياً سريعاً، توليفة حزبية سياسية أيضاً، في شيء هو من أعقد وأمر الأشياء في الحياة!

أضاف قائلاً:

ـ انظروا رفيقنا الذي واريناه الثرى قبل قليل، أعرفه جيداً، ولد وعاش فقيراً، لم يكن يملك من أرض العراق متراً واحداً، أمه تسكن خربة بإيجار، ومع ذلك طردوها منها كما سمع في آخر أخبارها، ها هو يقدم للوطن حياته وشبابه، لم لا يكون النضال والعمل من أجل الوطن وفق عقد مكتوب عادل، يعطي بقدر ما يأخذ، لم هو صفقة خاسرة مجحفة للشهيد؟

بقينا صامتين، كان ما يقوله صحيحاً، بنفس الوقت للوطن وللناس الغائبين صوت يلهب الهمم ويستلب العقول. أخترق الصمت الحزين صوت طائر معروف محلق، نادراً ما يعلو فوق جبل. قال شاب كان صامتاً بيننا طيلة فترة التشييع والدفن السريعة:

ـ لم يكن الشهداء في حياتهم بلا نواقص وأخطاء ونقاط ضعف، إنهم بشر، والشهادة لا تتطلب الكمال لكنها قد تمنحه، وهذا محير!

أجابه القائل بغباء الاستشهاد:

ـ تمنحهم الكمال بعد الموت، وولو منحتهم إياه في الحياة لتريثوا؛ كي تثمر حياتهم أكثر!

أضاف رفيق كان صديقاً حميماً أيضاً للشهيد الذي دفناه قبل قليل :

ـ الشهادة هي التفجر الأخير لصدقهم، ذلك الصدق الذي هو حب هائل، لم يجد الفتاة المناسبة التي تقابله بمثله!

وفهمنا ما يقصد فقد كان الشهيد يغني دائماً حبه الخائب!

عاد الرفيق الذي بدأ الحديث ليقول :

ـ من الغريب أن أكثر الشهداء الواعين لشهادتهم ما كانوا يحتاجون للاستشهاد ليثبتوا صدقهم!

عقب المتحدث بجرأة عن الاستشهاد:

ـ بينما أكثر الذين ثمة شك يتعلق بأرواحهم وضمائرهم وأخلاقياتهم؛ هم أكثر الناس دعوة للاستشهاد، ثم يفلحون في التهرب منه، وما زالوا هاربين من وجه الشهادة!

قال آخر وهو يطلق زفرة مريرة فوق القبر:

ـ ويتربعون فوق رؤوسنا؛ يتحكمون بمصائرنا!

الشاب الذي قال أن الشهادة غباء بلا حدود، كان مناضلاً جيداً مثابراً مقداماً، ربما لذلك تحدث بثقة كبيرة، وكان جريئاً في انتقاد قيادة الحزب دون أن يتخلى عن الحزب، استشهد بعد جلستنا هذه بحوالي ثلاثة أشهر، أتذكر الآن جلستنا الأخرى حول قبره؛ وكيف جعلنا أحد الرفاق المعروفين بنكاتهم وتعليقاتهم المرحة نضحك بينما دموعنا تسيل:

ـ وأخيراً صرت شهيداً قديساً رغماً عنك!

ألمح الآن هيكلي هذين الشهيدين الرائعين يتوهجان في طرف القاعة، وقد نهضا معاً، ولا أدري هل لمحاني، وقد انشغلا مع الشهداء في يقظتهم.

ما هذا الهراء يا يونس؟ هل أنت موشك على الموت، وذاكرتك تتفجر بكل هذه الحمم البائسة؟ هل تريد أن تخفف تابوتك على من يحملونه غداً إلى القبر؟ فلا يلقونه على الأرض ويولون هاربين من أثقاله، ورصاص وعظام ذكرياته؟ أخلد للصمت وتأمل ما يحدث!

تقاطر الشهداء على الباحة الواسعة المعتمة قليلاً بثيابهم التي دفنوا بها، بعضها كانت لا تزال كالجديدة. بعضها بالية ممزقة مهلهلة معفرة؛ برزت منها هياكلهم العظمية، وجلودهم الجافة المشققة المتساقطة كأوراق شجر أصفر تطايره الريح، يمكن الاستدلال من بقايا ثيابهم على لحظاتهم الأخيرة في الحياة: بعضهم كان بثياب السجن الخشنة المتهرئة، أو بثياب النوم التي اقتيدوا بها من بيوتهم، ويوحي أنه مات تحت التعذيب، وبعضهم بثيابهم المدنية حيث خطفوا من الشوارع، أو دهسوا بالسيارات، آخرون كانوا بثياب مختلطة غريبة لكنها تحمل بقع من الوحل المتيبس والمتشابه؛ يدل أنهم دفنوا بقبور جماعية وهم أحياء، إذ الزرقة الموحدة على جلود وجوههم الغائبة تشي باختناقهم في وقت واحد، بعضهم كانت برقاب طويلة تطاول حزم عتمة مما يشير أنهم أعدموا شنقاً، آخرون كانت ثمة ثقوب في أبدانهم تبعث حفيفاً غامضاً تشير إلى أنهم أعدموا رمياً بالرصاص. آخرون كانوا بثيابهم القتالية التي دفنوا بها، شراويل كردية عادية ولفات على الرأس، ارتدوها لكي يظهروا على أنهم من أهل المنطقة؛ بينما هم في معظمهم عرب من مدن العراق المختلفة، جاءوا للقتال مع الكرد فقتلهم قادة أكراد في صراعاتهم القومية في ما بينهم. آخرون يخطرون بأكفان، تشير أن جثثهم سلمت إلى ذويهم فقاموا بإجراءات دفنهم، ثمة من بدوا عراة على أجسادهم أغصان خضر ومزهرة تكشف أنهم استشهدوا في أيام كانت فيها الجماهير تستطيع أن تغضب أو تتحدى، وتشيع شهداءها وتكللهم بأغصان زهر أو سدر. بعضهم ألقى عنه ثيابه القديمة وبقي بهيكله العظمي ليتخفف من آخر بقايا الدنيا، وبهذا العري الجريء الحزين توحدوا وتقاربوا أكثر، آخرون بثيابهم العادية ما يشير أنهم قتلوا وهم في مظاهرات احتجاجية سلمية، تأكد ليونس أن الشهداء تقاطروا من كل أنحاء البلاد، وليس من قبورهم المتناثرة في الجبال أو الوديان القريبة وحسب! ربما ثمة شهداء جاءوا من المنافي البعيدة الكثيرة، فكم سمع من منفيين قولة "صار لنا تحت كل نجمة قبر". فرح يونس أنه رآهم في غدوهم ورواحهم والابتسامات الواهنة مرتسمة على محيا جماجمهم كالأطفال في يوم العيد، من المؤكد إن هذا ليس مزاج الشهداء في قبورهم مهما تحدثوا عن تحليقهم في سماء الخلود، أنهم فرحون لأنهم عادوا إلى الدنيا، التقوا بأهلهم وأحبتهم واستعادوا لقاءاتهم معهم، بعضهم وجد فرحته في إلقاء القبض على بعض من قادة الحزب والتي لهم معها حساب أساسي وعسير، كما أعلنوا وأكدوا. راح ينظر إليهم ساهماً وهو يردد في نفسه " انظر إليهم إنهم يسيرون متواضعين خجلين مرتبكين، كأنهم هم الشهداء، كم كانت مشيتهم في الحياة متعالية متغطرسة. مر بجانبه هيكل عظمي عرفه على الفور إنه ذلك الشاعر الذي استشهد قبل أن يكتب قصيدته. كان لطيفاً طيباً،مات يافعا، قال من ألقى كلمة عند قبرة "لقد نضجت روحه قبل أن تنضج قصيدته اللعينة، لقد غادرنا قبل أن نستمتع بقصيدته التي أرادها بشروط صعبة " بدا ليونس ضجراً من الموت مثلما كان ضجراً من الحياة، ولا يعرف إن كان قد كتب قصيدته في قبره أم لا زال يقلب كلماتها وأنغامها. اقترب منه، حياه فرد بوجل وتردد كعادته، قال يونس محاولاً أن يعرف سر هذه البهجة الغامضة العابقة في الجو:

ـ إنه يوم الحساب المنتظر!

نظر إليه الشاعر الشاب بشك وقلق واضحين:

ـ لا يا رفيق أنا ما استيقظت لحساب أو عتاب، أو مسألة حزبية ضيقة تافهة مهما كبرت، إن تجمعنا المتفجر هذا هو ليس سوى سؤال واحد: ما معنى مسارنا كله؟ ما كنه خيبتنا الكبرى، وانهيار آمالنا كبشر، لا كشيوعيين أو حتى كعراقيين؟ مأزق الإنسان في ركونه أو نضاله، حتى لو انتصر، ما معنى هذا كله؟ هذا ما يشغلني!

نظر إليه يونس وجد كلامه جميلاً وحقيقياً، هو أيضاً لم يأت في غمرة ضغينة حزبية ضيقة، ولا متحاملاً على قيادة الحزب في غبائها، وتجاهلها لخيبة الإنسان في حياته وموته، واشغالها العقول والحواس بانتصارات، وأوهام وتفاهات. بعيداً عن مسار ناضج صحيح.

تنبه يونس لصوت أحد الشهداء محمولاً على أكتاف شهداء وقد تشابكت عظامه بعظامهم! بين سلاميات كفه ورقة يقرأها بصوت مسرحي! عرفه دون جهد، إنه ذلك الشهيد الذي كان يقوم بأدوار هزلية أو كوميدية في فترات الاستراحة مقلداً بها شخصيات قيادية ليروح عن رفاقه الأنصار، اليوم يقلد شخصية من يصعد فوق أكتاف الجماهير في المظاهرات؛ يستحث الناس على الاستشهاد، كأنه يقول لهم تفضلوا هذا هو البيدر، حصاد بذارنا المنخور كله، صوته رغم الموت ما يزال جهورياً صافياً:

ـ لدينا شهداء بالجملة والمفرد، لدينا شهداء عراة كالحقيقة، وكالماء وكالنسمات، لدينا شهداء مغلفون بالسيليفون والأشرطة الحمراء، شهداء ثرثارون كالشلالات، شهداء صامتون كالآبار العميقة، شهداء يبكون بدموع اليتامى حين ينامون جوعى، شهداء يبكون بندى الورود إذ يمر بها عشاق خائبون، ونساء يتلهفن لحب بعيد المنال! شهداء أحكموا أزرار أكفانهم ومعاطفهم وحملوا أغصان أرواحهم المزهرة وراحوا يركضون في الشوارع؛ يسابقون باصات آخر الليل، والتكسيات التي لا يستطيعون دفع أجورها، بينما تلاحقهم سيارات السلطة الفخمة لتغتالهم دهسا. لدينا شهداء يلازمون البارات طويلاً ينتظرون أن تنبثق قصائدهم من القناني الفارغة فلا يطل عليهم سوى النادل يريد محاسبتهم وهم مفلسون، أو مسئولوهم الحزبيون يقرعونهم على صعلكتهم وهم يتعتعون. لدينا شهداء بأسعار، وشهداء لم يضعوا تسعيرتهم بعد. لدينا شهداء بأسعار تتناسب عكسياً مع أسعار النفط، وطردياً مع أسعار القوادين واللصوص! لدينا شهداء ذابوا في النسيان كالسكر في أقداح الأعراس. وشهداء تسلطوا علينا كسيوف الفتوحات القديمة، لدينا شهداء حاسرو الرؤوس، وشهداء بعمائم وبسدارات وقبعات وكوفيات وبشعور مدهونة ومغبرة وبصلعات وبدايات قرع وجذام، لكن ريح العالم الآخر تمس رؤوسهم فتمنحها جميعاً تسريحة واحدة! لدينا شهداء كثر؛ هم أنتم وأنا، وكل المجانين الآخرين!

أدرك يونس أن من كتب هذه الكلمات للشهيد الكوميدي هو ذلك الشهيد الشاعر المأساوي الذي مر به قبل قليل!

-         (35) يستشهد بالتقسيط، وساقه الخشبية تطفو فوق مستنقع الدموع!

أقبل على يونس شهيد أعرج كان يعرفه أيام وجوده بين المسلحين في الجبال. إنه حسين ميسان. استغرب كيف عرفه بهذه السرعة. حياه على عجل كأنه قد افترق عنه قبل يوم، وليس قبل أعوام طويلة، سأله:

ـ هل رأيت ساقي الخشبية في مكان ما؟

كان هذا الشهيد قد هب مع الشهداء بساقه الخشبية التي دفن بها وفي حومة ما حدث في المقبرة سقطت منه دون أن يشعر بها، لكنه الآن وقد وجد نفسه مثل جذع شجرة محترقة مائلة في الريح أخذ يبحث عنها!

كان يونس يستلطفه ويضحك معه ورفاقه الأنصار حين يمازحونه، ويسمونه:شهيد بالتقسيط! كان قد فقد ثلاثة من أصابعه تحت التعذيب عندما اعتقل في عهد البعثيين في بغداد. ثم فقد يده اليمنى في انقلاب سيارة كان يستقلها ليوصل البريد الحزبي إلى مدينه الناصرية. وبما إنه يستعمل يده اليسرى في العمل والكتابة منذ طفولته فقد قال إنه يساري بالوراثة، وشيء حسن أنه تخلص من يده اليمينية! ثم في معركة للأنصار مع جنود السلطة مرقت رصاصة قرب رأسه، ولم تأخذ منه سوى أذنه اليمنى أيضاً. فرح لذلك وعزز طبيعته اليسارية! صار يضحك مع رفاقه حين يقولون له: أنت تستشهد بالتقسيط، قال:،كثيرون يستشهدون بالتقسيط،بعضهم لا يدفع القسط الأخير لوقت طويل، فيظل مع الأحياء يتحمل الغموض والشك وسوء الفهم! وفي معركة بين الحزب وفصائل كردية فقد ساقه اليمنى. قال لقد اقترب موعد دفع القسط الأخير، حلم أنه فقد رأسه ولم يمت، سألوه:

ـ تتكلم دون رأس! قال: كلام الشهداء من قلوبهم، وليس من أفواههم! أضاف: من يمت بالتقسيط يستريح، لكن من يحيا بالتقسيط يتعذب: ساعة نقاش حزبي فارغ، وعود حزبية كاذبة، أفكار تتكشف عن هراء!

بعد عام تقريباً قتل بمعركة مع الجيش، جاءت الرصاصة أيضاً في الجهة اليمنى من القلب! آخر قسط: القلب،أكد يساريته في استشهاده أيضاً. رغم إنه كان طريحاً جثة هامدة مدماة، ادعى أحدهم إنه سمعه يهمس: لكن الجهة اليسرى من القلب لا تستطيع أن تعمل دون الجهة اليمنى! لا يمكن لجهة من القلب أن تعمل دون الجهة الأخرى،برر لهم معارضته لقيادة الحزب وتبرمه السياسي بينما كان يصارع السلطة ببندقيته، لا بالكلمات! سموه فيما بعد الشهيد الذي يدفعه الرصاص إلى اليسار رغماً عنه!

حضر يونس لحظة دفنه، أنزلوا في الحفرة مع ساقه الخشبية، قال له يونس:

ـ إنس ساقك الخشبية، سيجدها شاب من أهل الدنيا فقد ساقه!

رد هو بطريقته الضاحكة:

ـ حقاً ماذا أفعل بها بين حوريات الجنة اللواتي يرتمين بالأحضان دون أن نركض خلفهن! راح يونس يسند هيكله العظمي ويسيران بتأنٍ!

خطر ليونس أن ساقه الخشبية، تطفو الآن على دموع كثيرة ترد أرض المقبرة من أماكن كثيرة!

لا حظ يونس أن الشهيد قائد الانتفاضة يقوم بمهمته وعلى محياه ملامح أسف وحزن، لا بد إنه قد استيقظ من رقدته الطويلة مضطراً، وفعلاً: كان يود لو لم يكن هناك ما يستدعي هذا الإجراء الكبير، والحساب والأليم! لو كان نضالهم واستشهادهم قد أعطى ثماره الطيبة، أو حتى لو كان قليل النجاح أو فاشل، وإنه كان كمشروع قابلاً للتحقق، وفي الاتجاه الصحيح! قال لي: لو كان قادة الحزب قد راجعوا فكرتهم وسياستهم، وصححوا وغيروا وعدلوا واعترفوا بالأخطاء والضلالات، لو راقبوا سلوكهم وترفعوا عن الرذائل والدنايا، وأدركوا أن الطموح السياسي، لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الوجود الإنساني وهمومه، أكان يستيقظ آلاف الشهداء من نومتهم العميقة ويقطعون دروب العالم الأسفل ويأتون إلى هنا لاعتقالهم وتعريضهم لكل هذا التوتر والشد والرعب؟ ويتعبوا معهم الأمهات والآباء والأخوات والزوجات والأصدقاء أيضاً؟ تقدم المسؤول من راضي سعيد والبيرماني ومن معهما، قال بهدوء:

ـ يمكنكم أن تستريحوا الآن، وتعتبروا أنفسكم ضيوفنا ريثما تبدأ المحاكمة، أعدكم أنها ستكون قائمة على المبادئ، بلا حقد أو نوايا مبيتة، ولن تتأثر بالعواطف!

تقدم أحد الشهداء منفعلاً وهيكله العظمي يهتز ويتساقط رماده، معترضاً:

-         ـ لم يعاملونا يوماً وفق المبادئ، إنما بعجرفة واستعلاء، كيف نعاملهم بلطف؟ رد المسؤول: نعاملهم بما يليق بنا، لا بهم! ثم التفت إلى يونس قائلاً بحزن:

-         ـ وهكذا ترى يا رفيق إن المحاكمة لن تكون سهلة؟

-         قال يونس مطمئناً:

-         ـ لي الثقة أنكم ستسيرون بها بعدالة وموضوعية!

-         ـ خلال موتنا كنا في محاكمة دائمة لأنفسنا وقياداتنا، طيلة هذا الغياب، وفي مجاهدة للنفس، ودود القبور، ناضلنا هنا أيضاً، وكان أصعب من نضال الحياة!

-         أحنى يونس رأسه احتراماً:

-         ـ لذلك هناك الآن على سطح الأرض من يصغي لصمتكم أكثر مما يصغي لخطب وصخب القادة والمنظرين!

-         عاد يونس يفكر: هل إن واجباً على هؤلاء المعذبين أن يناضلوا بعد موتهم بعد ما ناضلوا كثيراً في حياتهم التي لم يعيشوها مطلقاً، ولم يتذوقوها ولو رشفة واحدة على سبيل التجربة على الطريق؟

-         (36) يسألنيّ البطران: ليش حزبك أحمر؟

ارتفع صوت أحد الشهداء بأغنية عاطفية قديمة لناظم الغزالي، وقد حورها إلى أغنية خاصة له. الأغنية تقول" يسألنيّ البطران ليش، وجهك أصفر"، هو صار يغنيها: " يسألنيّ البطران، ليش حزبك أحمر" يبدو الأمر مضحكاً، لكن صوته الجميل الشجي ولوعته، يجعل من يسمعه يصغي له باهتمام متفكرًاً، أو مستمتعاً. كان يسرد فيها ببراعة وتركيز، وكلمات خاطفة، كضربات المطرقة المحكمة، مسار انجذابه للحزب، كيف يلومه رجل مستريح شبعان بطران، أنه انتمى لحزب احمر، وهو الذي قضى طفولته، وصباه، جائعا محروماً حتى من ثوب أو حذاء، كيف لا يغضب ويثور دمه ويجعله يبحث عما يشبهه؛ ليندمج به؛ فيتكون ذلك النهر الأحمر، ليجرف الطغاة والمستغلين والمتجبرين؟ في الحزب وفي قراءته وتأملاته يكتشف أن القضية ليست الثوب والحذاء، وإنما شيئاً آخر، لا يتجاهل الثوب والحذاء أيضاً، فيصف بكلمتين لحظة افتراقه عن الحزب روحياً وفكرياً، وقراره بالاستقالة منه، والعودة لدراسته الهندسة في لندن التي نالها بعصاميته ومثابرته، ولكن الرصاصة عاجلته من جندي على الجانب الآخر من الجبل. ربما كان الجندي أيضاً في طفولته وصباه محروماً من ثوب وحذاء. انتهى كل شيء! حكايته البسيطة الواضحة داخل أغنيته الحزينة أثارت في دمي حكايتي مع الحزب، فقط أن الرصاصة جاءتني على شكل قرار قيادة الحزب بوصمي بالخيانة، وحشري في عالم العزلة والنبذ! وأبقتني حياً؛ لأتعذب واقفاً في مكاني محاولاً إثبات براءتي!

لم أكن في طفولتي محروماً من ثوب وحذاء أو حتى لعبة. ولدت في بيت كبير بناه لنفسه أبي التاجر بالحبوب القادم من عانة، بحي قديم من الكرخ في بغداد. كان أبي سنياً، وأمي شيعية. لكنهما كما أتذكر عاشا سعيدين موحدين بأيمان وسكينة روحية مدهشة، جمعا طقوسهما الدينية في طقس واحد: الحب والاستقامة. كان لنا جيران وأصدقاء من اليهود والمسيحيين والمندائيين ولم يذكرانهم يوماً إلا كأقرباء. كان أبي يقول دائماً (كلنا عائلة الله) وربما ما كانا يتصوران يوماً، حتى في أشد هواجسهما غرابة أن يولد لهما ابن يكون شيوعياً، أو زنديقاً ملحداً؛ كما يراه كثير من معارفهما! مات أبي قبل انتمائي للشيوعيين، وحين عرفت أمي بانتمائي للشيوعيين عارضت وتذمرت، ثم سكتت. عرفت إنني مع عائلة الله، وهي تراني أجد وأسعى مع أصدقائي من الأديان والطوائف المختلفة. هدم رجال السلطة الجدد حينا القديم في بغداد، وأقاموا مكانه بعض قصور حكمهم، وكلما تذكرت ملاعب طفولتنا القديمة، ووطني كله رازحاً تحت ثقل أحذيتهم وسلطتهم؛ أحس بالاختناق، وبذاكرتي تتمزق مع ذاكرة تلك الأرض، وأعود أقول في نفسي إذا كان الدفق الأعمى لحجارة وإسمنت السلطة، قد دمر ملاعب طفولتي، وذكريات الناس فيها؛ فلا ينبغي أن أسمح لرياح العدم أن تدمر ذاكرتي، وتاريخي مع رفاقي وأصدقائي! سأظل أحمل في روحي وكلماتي، ظلال ذلك الحي، شذا شجره وبيوته وناسه، وأقاوم بها هذا الهجير المديد.

تقول أمي إنني ولدت في ظل نخلة، نصبوا لها خيمة تحتها وهي تلد؛ لتتنفس الهواء الطلق في صيف خانق، فصرت قرين النخلة. لم أبق ثابتاً مع النخلة. أبحرت مع كائنات غريبة في هذا العالم مع شجون غامضة لا تنتهي!

 عندما خرجت من ظلمة الرحم إلى نور الدنيا، كان ذلك مع شفق الغروب، هرعت أخوات أبي اللواتي حضرن ولادتي إلى أبي في حجرته يزّفن له الخبر السعيد. طلبن منه تسميتي، كان أبي كعادة كثير من المسلمين يستشير القرآن في تسمية أبنائه وبناته. وتتحدث والدتي عن ذلك ضاحكة، تقول: حين فتح المصحف طالعه اسم إبليس فاستعاذ بالله، وأعاد فتحه مكثراً من البسملة، فكان يطالعه اسم الشيطان في كل مرة، فأصيب بالفزع والغم، أن يكون أحد أبنائه من الشياطين. قرر أن يؤجل الأمر حتى اليوم التالي، بعد أدائه صلاة الفجر، صلى ثانية شاكراً لله على نعمه الكثيرة عليه من البنين، والمال والسمعة الطيبة، ثم فتح المصحف. طالعه اسم يونس، استبشر به وفرح، رغم ما يعرف عن محنة يونس وعذابه، منحني هذا الاسم، فهو على أي حال خير من الشيطان، آملاً ان لا ألقى ما لاقى هو من آلام!

الآن في شيخوختي، أسأل نفسي، ترى هل منحتني الصدفة أو القدر أو الله نفسه مأساة يونس ومصيره أيضاً وسلب مني استقرار النخلة؟ فيونس كما ورد في القرآن والكتب المقدسة، بعد أن ألقيت عليه مهمة إصلاح أهل نينوى،فنكص، وحدث له ما حدث، ابتلعه الحوت، ومكث في معدته أياما طويلة، ثم تقيأه عند شاطئ جزيرة في عرض البحر، يخيل إليً إنني لقيت نفس مصيره حين بلعني الحزب وأبقاني في معدته يهرسني، ويشبعني من مرارة أحشائه، حتى ألقى بي على سفح هذا الجبل! وجدتني أبحث عن القرآن لأول مرة في حياتي مذ انتهيت من دراسة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، وتدبيج مرافعاتي في المحاكم قديماً، مقتبساً منه، أو مستنداً على ما ورد فيه من أحكام، وأعدت قراءة سورة يونس(وإن يونس لمن المرسلين. إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين. فالتقمه الحوت وهو مليم. ولولا إنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. فنبذناه في العراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين). وأجدني اقتفي خطاه في رحلته الأليمة كلها! أنا لا أؤمن بالأقدار ولا بالأساطير ولكن تدهشني توافقات الأشياء، وأرى فيها عزاء وإجلاء لقدرة الإنسان على تحمل مصائب الدنيا التي هي لم تتغير منذ بدئها، وإن اختلفت أشكالها وصورها! ولكن ما حجم خسارتي إزاء خسارة الشهداء؟ عذبوا، اقتلعوا أظافرهم، عيونهم، ثقبوا أكبادهم، أداروا بهم المراوح؛ فقضوا وهم يحلمون بغد سعيد وعدناهم به! أحس أن رماد كل الشهداء يسكن قلبي، أحيانا يثور عاصفة سرية تريد أن تخنقني، تقتلعني وتدفعني بعيداً، لكنها فجأة تتوقف وتصير هبة حنان ورأفة. دموعي تنساب في داخلي إلى ذلك الرماد المنسي، فتنهض أمامي منه ورودُ وزنابق في الطرقات المهجورة، وممرات القلعة، وعلى الجدران القديمة الآيلة للسقوط!

وكيف أنسى تلك الليلة التي ودعنا فيها صديقنا جميل جرجيس في رحلته إلى أسبانيا لنصرة الشيوعيين هناك؟ في تلك الساعات الحزينة المتوترة أحسست إنني صرت شيوعياً في داخلي، قلبي وعقلي معهم، لكنني خارج جسدي لم اتجه خطوة واحدة نحوهم، في سهومي وتركيزي على دراستي للحقوق، كنت أبدو كأنني لا شأن لي بهم، ولا بالعالمين جميعاً.

بعد تخرجي، صرت التقي جلال العطار، لندخل في أحاديث ونقاشات طويلة. لمس هو انتمائي الداخلي لهم؛ فراح يسفه فكرتهم محاولاً إبعادي عنها، لكنه دفعني باتجاه العاصفة، بينما كان يريد إبقائي على الشاطئ؟

رغم انصرافنا لساعات لهو ومتعة لكن حياتنا كانت مترعة بهموم السياسة والثقافة.

كان العطار يعد نفسه صاحب رسالة ثقافية وإنسانية لم تتح له ظروف ووسائط إعلام ذلك العهد أن يعبر عنها أو يوصلها كما يطمح، أو كما ينبغي، لذلك هو متبرم قلق في شك بمن حوله. أطلق في رواية قصيرة بعنوان(الأرض عطشى، والسماء جافة!) نظرية خطيرة آنذاك، مفادها: لن تقوم حضارة في العراق ما لم يتخلص مما أسماه الخرافة المقدسة، ولا جدوى من طرد الإنجليز ما دام الناس رازحين تحت احتلال الخرافة المقدسة، ورجالها المعممين! أعرض كثيرون عن روايته، ووصلته تهديدات من رجال دين، ورجال في السلطة؛ أرادوا إظهار أنفسهم على أنهم يناصبون العداء رجلاً لا يعادي الإنجليز. تراجع قليلاً، وقد سألته في حينها أتعنى بالخرافة المقدسة الدين؟ قال: طالما إن الدين يتحدث عن علاقة طيبة تربط الناس بروح عظيمة عليا فأنا معه، أخالفه حين يصير خرافة، أي مجرد أقاويل تربط الناس بنفوس مريضة ممسوسة لرجال دين أو كهنة قدامى يدعون القداسة، ويطلقون الطقوس البشعة! كان يردد: لا خلاص إلا بالانفتاح على حضارة العالم، لكنه ظل في حيرة: من يساعد العراقيين للخلاص من الخرافة المقدسة؟ هل هم الإنجليز الذين يمتصون نخاع العراقيين وثرواتهم، ويمعنون في إذلالهم؟ أم السوفييت حملة لواء دكتاتورية البروليتاريا التي لا تقل تدميراً للجسد والعقل من أشباح الخرافة المقدسة؟ صديقنا الجهنمي كان مهووساً بنظريته (في الجنس الرجاء، والشفاء). كان يروج لنظرية العطار مؤكداً أن في الاستعمار الإنجليزي محرقة الخرافة المقدسة. كتب في صحيفة الحاصد "الخرافة المقدسة يصعب اقتلاعها، فهي غائرة في لحمنا، وليست لديها لنا سوى صوتها وسياطها! أما الإنجليز فهم يدبون أمامنا على الأرض! يحملون مع بنادقهم شيئاً ما لنا أو لأطفالنا: مصباحاً، بذرة، كتاباً، كسرة خبز، وبعد أن نعتصرهم مثلما يعتصروننا، نستطيع أن نلقيهم جانباً!"

كثيرون انبروا للعطار وللجهنمي، رغم عدم تطابقهما مسفهين، متوعدين: بينهم سامر عبد الحميد الذي كان يتلمس طريقه آنذاك موزعاً بين السياسة والأدب، رد عليهما: الإنجليز ليسوا مغفلين ليساعدونا في الخلاص من الخرافة المقدسة؛ فنكون أقوياء: هم سيتحالفون ضدنا مع رجال الخرافة المقدسة المعممين منهم وغير المعممين، لكي نبقى قوالب إسفنج تمتص ما يلقى عليها! وهم سيحاربوننا حتى لو لم نتحالف مع رجال الخرافة ضدهم! هم يريدوننا نغوص في أوحال الخرافة أكثر؛ فنبقى في ظلامنا وعمانا، ما يمكنهم من نهب نفطنا وثرواتنا، وتصريف بضاعتهم في أسواقنا!

المحتلون في كلا الحالين شر لا يقل فتكا عن الخرافة المقدسة، وقدرنا أن نحاربهما معاً!

سألت العطار في حينها: إذا كنا نرتضي أن يحل أجنبي بأرضنا نستعين بمصباحه على تبديد ظلام الخرافة المقدسة، لم لا نستعين بالسوفييت ونظرتهم العلمية واسعة تشمل العلاقات الإنسانية ويعدون بمساعدة الشعوب على نيل حريتها؟

ضحك قائلاً:

ـ للسوفيت خرافتهم المقدسة أيضاً: وعد بجنة في ظلال ديكتاتورية ومطرقة ستالين، مساطر الحزب والمخابرات،هم مستعمرون باسم الثورة العالمية!

ويضيف الجهنمي :

ـ لدى الإنجليز جنة أخرى، خرافة أخرى إذا شئت، صحيح هي مسعرة بالنقود، لكنها بلون وطعم ورائحة ومن أسواق متعددة: لندن باريس واشنطن ولك الخيار!

وبينما العطار يطمح لمشروع كبير ثوري يغير به البلاد؛ إلا إنه لا يملك مشروعاً صغيراً يغير به نفسه من إدمانه على الخمر، وتهالكه على المومسات حتى اللواتي عرف إنهن مريضات وأصبنه مرات بالزهري، نبهته أن هكذا مرض قد يودي إلى الجنون، قال وهو يضحك ويرفع كأسه كعادته:

ـ وهل تظنني أو تظن نفسك عاقلاً؟ ما يلبي طموحي كأديب التعرف على امرأة أو شخصية غريبة؛ أكتب عنها يوماً رواية كبيرة!

كانت رواياته قد بدأت تظهر وتجتذب إليه الأنظار، في بلد يتعرف على الرواية لأول مرة على يديه، وأيدي واحد أو أثنين من كتاب كانوا يخطون برواياتهم، مبهورين متعثرين خائفين!

كان متدفقاً في حديثه صخاباً، خاصة إذا تناول حديثا سياسياً، أو عرج به على ما يسميه تخريف وادعاءات فهد، سكرتير الحزب الشيوعي آنذاك!

كان يحثني على الشك دوما، لكنني، ولرغبة في تأجيل عذاب الذات إلى مرحلة الشيخوخة المعذبة أصلاً جنحت لليقين، كنت اصنع جنايتي بحق نفسي وبحق من حولي، كان يقول:

ـ الشيوعية يقين أهوج، حلم تجمد في جمجمة، ويرفض أن ينسكب في القلب! أصغ لهواجسك، ابحث عن فكرة تقبل التغيير والتعديل، الحزب قطار يعبأ الفكرة والناس في عربات يضعها على سكة حديدية ولا يحق لركابه النزول سوى في المحطة الأخيرة، من ينزل منه وهو سائر يهرسه بعجلاته قبل أن تلتهمه الذئاب في البراري!

كنت أصغي له ضاحكاً ولا آخذ بكلامه، خاصة وكان هو نفسه لم يلبث أن خرقه، فقد انتمى للحزب الشيوعي وصار من الملقنين لأفكاره وشعاراته، في قصصه ورواياته:

ـ لم أسع كي أكون قائداً شيوعياً، أو حتى عضواً في الحزب، فهد هو من أرسل في طلبي ودعاني؛ لأكون عضوا في اللجنة المركزية معه!

بالطبع كان هذا مبرراً سخيفاً لم يكن يليق بالعطار، لكن من غير المفيد إهمال تجليه الذهني. كان من عادة فهد اختيار أعضاء قيادته، من المقاهي، البيوت، النوادي، والمعامل الصغيرة الناشئة، يفاجئهم بفرصة الحظ العظيمة معه بسرعة وخفة وبساطة، ودون تدرج أو إعداد مسبق، يلعب لهم الروليت الروسي نيابة عنهم، يطلق الرصاص ويؤجل وصول الرصاصة إلى رؤوسهم حتى إشعار آخر، إنه يتسمع عن بعد ممن يعملون معه عن رجال يتعاطفون مع الشيوعية، أو حتى هم في حوار جدي معها؛ ويروح يسأل عنهم مقلباً أمرهم من جوانب كثيرة أهمها عنصر القناعة وطاعته شخصياً، وهو برؤيته لنفسه عظيماً ومحبوباً من الجميع؛ يتوقع موافقتهم ولهفتهم للقائه والعمل معه. كثيرون يوافقون على أن يكونوا قادة بإشارة إصبع ودون جهد أو تحسب، كان يختار طاقم قيادته عادة من غير الذين في الحزب، يعتبر ضمهم للقيادة فرصة لزيادة عدد أعضاء الحزب، وهؤلاء سيكونون كما يعتقد رهن إشارته، فهو الذي أتى بهم، وهو الذي صنعهم فكيف يتمردون عليه؟ ثمة مثقفون والعطار منهم كانوا ينتقدون فهد وحزبه وفكرته لكنهم كانوا يتحرقون شوقاً لدعوته لهم للانضمام للحزب شرط أن يكونوا بموقع قيادي أمامي جاهز، ويعدونه بمثابة اختيار ووحي سماوي يسيرون معه، ومع الحزب فترة قصيرة يشبعون فيها نرجسيتهم وغرورهم، ثم يتخلون عن الحزب وفكرته، ويعودون ليتحدثوا عن مغامرتهم الثورية الكبرى، وقدراتهم القيادية العظيمة. لم اكن أكترث لأحاديث العطار وعن قدراته التنظيمية والقيادية فأنا أراها ضعيفة ومضحكة، ولكن تستوقفني ومضاته الفكرية، وقد ظل كثير منها محفوراً في ذاكرتي كنقش إزميل نحات ماهر على الصخر!

عاد العطار يناصب فهد العداء، فيقول :

ـ أتعتقد أن فهد جلب فكرة مفيدة للعراق؟ لا يا صديقي هناك مفكرون رائعون أرادوا الإتيان بجوهر الفكرة مصهورة بروح هذه الأرض الملتهبة، لكنه خرب جهودهم وتسلمها جاهزة متحجرة من مبشر أجنبي، يدعى بطرس فاسيلي، وهذا غباء لا يليق بسياسي عادي؛ فكيف بثوري؟

يجذب نفساً من سيجارة فاخرة ينفث دخانهاً جانباً كعادته:

ـ لا تجذبك الشخصية أو الحزب ببريقهما، فتش عن الفكرة، ادرسها جيداً، قالت العرب قديما: الصديق قبل الطريق، وأنا أقول لك: الفكرة قبل السكرة!

أضاف الجهنمي: والفكرة قبل الثورة وقبل العبرة!

آنذاك كان يتحدث عن فهد بقسوة، واليوم وهو يغتسل بمياه الأبدية،ناهضاً من الموت، هل ما يزال على تحامله عليه ؟ قال لي آنذاك:

ـ يصعب أن نغفر له أنه جاء إلى العراق بالفكرة مستنسخة باهتة مشوهة، آخر نسخة بالكاربون، وسخر الناس لكتابتها وشماً، على جسد وطنهم، وبحراب ستالين!

وبينما آنذاك لم أقره على ما يقوله، صرت اليوم أناقشه مع نفسي متفهما حرقته وجهده، وإن لا أتفق معه بكل ما يقول. وتشغلني مسألة الفكرة آنذاك لكنني لا البث أن أنساها، يجتذبني تأثيرها وبريقها دون أن أواصل التمعن بصلبها ومحتواها، تجاهلت نصيحة جلال العطار بعدم النوم في أرجوحة الشيوعية، بهجير العراق، ورياح سوافيه. لكنني في تلك الحقبة الموارة بمختلف التيارات والاتجاهات وجدتها هي الأفضل! أعرف في نفسي خصلة خطرة: سرعة تصديق الحلم، كان ذلك في زمن الوهم العذب، والأنوار التي تشع من وراء الأفق ونظنها بشائر الثورة العالمية التي لابد أن يصل دفئها في يوم غير بعيد إلى حياتنا الباردة. اليوم وقد تكشفت تلك الشموس عن أقراص نحاس تلتهب بزيت الدماء، صرت أسأل العطار وهو في قبره، ماذا كنت ستقول وأنت ترانا نختنق بدخان ألعابنا النارية؟ ليس من طبعه التشفي، سيقول كلمات أسف ومواساة،على الأكثر!

(37)  منحني عضويتي في الحزب، وصعد المشنقة، هل ثمة شك؟

حتى جاء الحدث الكبير في حياتي! اعتقال فهد. انبرى عشرات المحامين للدفاع عنه. كنت أنا ومحمد البيرماني وعزيز شريف وسامر عبد الحميد في مقدمتهم. أول لقاء لي معه كان في سجنه. وجدته غير ما حدثني العطار عنه. لم يكن العطار يتجنى عليه، أو يشوه شخصيته، لكنه كان قد فهمه على طريقته المتعجلة التي لا تخلو من هوى، ومزاج وإن ظلت مرتكزة على نقاء سريرة، وحب للحقيقة! صرت أكثر الحديث مع فهد قدر ما يسمح به السجانون، كنت أحياناً أحاول معرفته عبر أحاديث المحققين معه، وإدارة السجن. منذ البدء كنت مقتنعا بعدالة قضيته، متضامنا معه، لكن أحاديثه الهادئة المركزة الواثقة، جعلتني أكثر فهما للفكرة. أحسستها حميمية حنونة تحمل من الأمل والفرح قدر ما تحمل من الحزن. بذلك اقتربت في ذهني لحظة اعتناقها رسمياً والعمل من أجلها، ولم اعد أجد من المناسب تأجيل ذلك. زاد استغراقي بالمحاكمات الأولى التي نجا بها من الإعدام، ثم المحاكمات الثانية التي صدر بها الحكم بإعدامه. كيف أنسى تلك اللحظة الرهيبة؟ كنت وإياه جالسين على مصطبة السجن قرب زنزانته، لقاء الوداع الأخير، قبل تنفيذ حكم الموت، اغتنمت تشاغل الحارس عنا قليلاً همست له " ثق أيها الرفيق، الكثيرون سيسيرون على طريقك، وأنا أحدهم، لقد حسمت أمري، أرجو أن تكون أنت من يقبل عضويتي في الحزب!" لا أدري كيف خطر لي ذلك الأمر, الذي قد يبدو مضحكاً، فهذا القائد مكلل بجلال تحديه للموت، مغمور برهبة الرحيل الأبدي، وأنا منشغل بقضية مهما كبرت تبقى صغيرة حيال محنته الأخيرة، ترى بأي سجل سيدون اسمي؟ وأين هو الآن من جيشه وتنظيمه، ليدرجني فيه؟ لكنني رأيته لا يحدق في هوة القبر السحيقة؛ بل يرنو إلى العلا، ثم هي لحظة تجل وجيشان! هو فهم الأمر أكثر مني، عرف إنني أريد مباركته لا غير، وإنني أشعره بأن قضيته متواصلة تشق طريقها قدماً! رأيته يحاول رفع يديه المكبلتين بالقيود والأثقال؛ ليضعهما مثل كاهن على رأسي، اقتربت منه فمس بهما كتفي، ولمعت في عينيه ومضة غريبة، خيل إلى أنها ندى دمع! هيهات، هذه أوهامي، فهذا الرجل لا يبكي ولا يبتسم، وهذا ما يحيرني فيه. شعرت إنه بحركته العاجزة مع قيوده وأصفاده أودعني جزءاً من روحه، بل دمه كله وقد انتزعه من المشنقة، وضخه في عروقي، أمانة ووديعة! هكذا رأيت وقدرت آنذاك، أقنعت نفسي أنني آخر شيوعي قبله فهد عضواً في الحزب، وأول شيوعي يدخل الحزب في ظلال المشنقة، ربما كان اختياراً شجاعاً، وربما متهوراً، أو مضحكاً للناظرين. لكن هذا ما وقع تماماً، وظل يشحن روحي بشجن وعزم لا نهاية لهما! ودعته بصمت وهو يصعد المشنقة. مضيت، لا أجر خطى محام فشل في رفع الموت عن موكله، بل خطى الشيوعي الواثق بالمستقبل، الجندي الواثق بالنصر أمام قائده الذي سيموت قبله وأمامه! علقوا جثته على الأعواد في ساحة بالكرخ، ورغم إنني حدقت بها طويلاً مع آلاف الناس الذين قدموا إليها بين مرحب وغاضب، لكن صورته الأخيرة وهو يباركني ظلت رائقة ساطعة في بركة روحي، ولسنوات طويلة. في أحلامي استحال ثوب الإعدام ذو اللون الرمادي الكابي إلى غصن زهر أبيض يتراءى في ماء غدير صاف يحفه زهر ربيع خصب عاطر، وسلاسله ودرق الحديد الكبيرة العالقة بجسده الهزيل، فاكهة عجيبة شهية تتدلى من شجرة باسقة مسحورة وتساقط ناضجة فواحة مسكرة على موائد فقراء امتد جوعهم قروناً طويلة! يا لقدرة أرواحنا على تغيير الأشياء، كيف تلاشت تلك الأحلام؟ وكيف صارت رماداً تذروه الرياح، وكيف انتهى الحزب إلى مقبرة للأحلام؟

كنت في شبابي محامياً ناجحاً، أعيش حياة مرفهة سعيدة، أعب مع العطار والجهنمي، وأصدقاء آخرين من متع ومباهج كثيرة، وكانت فرص جميلة رائقة ومغرية للثراء والشهرة تعرض لي هنا وهناك. ثمة نساء جميلات، ومن عوائل ثرية صادفتهن، وكان بإمكاني أن اقترن بإحداهن، وأتسلق سلم عائلتها الذهبي إلى المال والسلطة، كما فعل كثير من زملائي، لكنني في كل مرة أشيح عن كل شيء، وأمضي خلف الحلم الكبير! انضممت للحزب؛ فبدأ عملي يتراجع ومكتبي يفقد زبائنه. كثير من أصدقائي دهش، أو استنكر ما اتخذت من طريق جديد لحياتي. قال لي أحد هم: عهدي بك ذكياً يقظاً مثلما أنت وسيم جذاب، كيف وضعت نفسك في طريق الشيوعيين الذي لا يفضي سوى إلى الشقاء، كيف ستحتمل أعباء عثراتهم، ومغامراتهم الطائشة؟

كان مكتبي، جميلاً ومعروفاً في شقة حديثة في شارع البنوك ببغداد. بدأ الناس ينفضون عنه، سمعتي كشيوعي صارت تخيفهم، ثم لم يلبث أن صار لغيري، بعد أن هجرته وتناوشتني المعتقلات والسجون. تزوجت في سن متأخرة. أخذت أعرف صعوبة، وشظف العيش. ما كنت أتألم لنفسي، بل لأطفالي وزوجتي. كان من حقهم أن يعيشوا بشكل أفضل. زوجتي وكفاحها وصبرها عليّ، كان يمنحني قوة وسعادة.

جاءني أولئك الأصدقاء، طرحوا سؤالهم مرة أخرى. غروب الشمس وراء القلعة أشعرني بغروب حياتي، ودنو الموت؛ فرحت أحدثهم: في البداية، رغم قناعتي بالفكرة وانتمائي للحزب في لحظة عاطفية جارفة على يد الرجل الصاعد للمشنقة، كما يصعد الرجل العاشق إلى حجرة عشيقته في الطابق العلوي! كنت وما أزال مقتنعاً أن الحوار الطويل مع الفكرة، مفيد ومنتج ومحفز للعقل! وجدت الفكرة في شبابي طيبة جذابة، تستلب العقل حتى لتشله زمناً طويلاً عن التفكير، فهي غامضة، من عيار ثقيل أيضاً! قلت هذا هو الغموض الجميل الذي يخفي وراء ستائره تجليات عظيمة أخرى. لكن الغموض لم يلبث أن صار لسعة في القلب، صوت خفي جارح يقول: هناك خلل ما،خطأ، أمر لا يستقيم، احذر، توقف، تأمل! فكر! لكنني مضيت، قلت هذه غصة عقل، ضيق مدارك، الفكرة أعظم من قدراتي، وإنني لم أقرأها جيداً، لم أحط بها ولم أفهمها كما ينبغي. فأنا مثلاً لم اقرأ كتاب رأس المال لماركس، ورغم إنه لم يكن آنذاك مترجماً للعربية كاملاً لكنني أزمعت على قراءته قائلاً لنفسي؛ لو قرأت هذا الكتاب لفهمت الشيوعية؛ ولآمنت بها إيمان متعبد حفظ كتب دينه وسيرة نبيه، أما لو استطعت فهم المعادلات الرياضية المتعلقة بفائض القيمة؛ لكنت قد وصلت في الشيوعية درجة الإفتاء! ورحت أقرأ، وأستفهم، ولا أخجل من سؤال من أتوسم لديه إلماماً أفضل بالفكرة، فكنت كلما توغلت بها اكتشف المزيد من ثغراتها وتناقضاتها، واستغراقها في حلمها الهائل المستحيل المحلق بعيداً عن الواقع! حتى قلت لنفسي، ترى لو إنني فهمت كيفية احتساب فائض القيمة وعرفت كم يسرق الرأسماليون من عرق العمال وكرامتهم ونقودهم، ماذا سيتغير؟ هل ستصير الشيوعية ممكنة، صائبة، نافعة؟ ومع ذلك صممت على مواصلة القراءة والبحث والسؤال والتجربة، وعدم نفض يدي وعقلي منها وهي التي تمتلك هذه الغايات الإنسانية العظيمة! وأخذت تعصف بحياتي هجمات السلطة، فداهمتني لسنوات طويلة مطاردات وتشريد وفترات اختفاء واعتقال وسجن وتعذيب وقهر وجوع وعوز. ورغم أن سنوات السجن لم تكن تخلوا من فترات نلتقي فيها نحن السجناء مع بعضنا في باحات وقاعات السجون لنتحاور أو نتبادل الرأي والخبرات، أو إقامة صفوف حزبية سرية لدراسة مختلف فروع نظريتنا، وتكوين مكتبات صغيرة تضم الكثير من الكتب المهربة إلى السجن، نحفر لها تحت الأرض، حيث كانت نقاشاتنا تهدف طبعاً لتعميق الفكرة في أذهاننا وتحسينها وزيادة إيماننا بها، لكنني حين أخلو لنفسي أجد أن نقاشات بعض الرفاق وأسئلتهم تقدم إضاءات تكشف الكثير من هشاشة الفكرة وتهافتها، بل وسذاجتها أيضاً، وأسأل نفسي أليسوا هم مثلي يحسون بارتجاف وقلق الفكرة في أعماقهم أيضاً؟ ألا تنم عن حجم الشك الذي يساورهم بها، وبجدوى عذاباتهم من أجلها؟ إلا إنني في تلك الفترة لم أعمل على دحض الفكرة أو تفنيدها في عقلي، صرت أكثر رفقاً بها، أتأملها بهدوء وتروٍ. ثم كيف أنسى لمسة فهد لي في ظلال المشنقة؟ صرت في السجن أكثر تمسكاً بالحزب، وبالتالي أكثر تمسكاً بالفكرة فهي روحه وطريقه، ليس فقط لأن من العيب التخلي عن الحزب في الوقت العصيب؛ بل لأن الفكرة مهما تحمل من خطأ؛ تصير صحيحة أمام أعدائها الجهلة من سجانين وحاكمين، وما يتخبطون به من سخف وغباء وفساد!

منذ طفولتي لم انقطع عن المدرسة، ولم أتغيب يوماً عن درس، فقبل أن ينتهي رنين الجرس أكون على مقعدي في الصف منتظراً المدرس لأقف له بكل خشوع. في المحاماة لم أتخلف عن محكمة، أو دعوى أو داع أو مدع. وفي سنوات عملي في الحزب لم أتأخر عن اجتماع أو لقاء أو مظاهرة، أو أي عمل حزبي مهما كان خطيراً يعرضني للموت. لم أخلف موعداً مع رفيق أو صديق. منحت كل شيء بكل صدق وإخلاص، وتغاضيت عن جحود ونكران الناس، وكذبهم وقسوتهم سواء كانوا رفاقاً أو أصدقاء، لكنني لم أستطع أن أمضي مع الفكرة بعد أن وجدتها خاطئة مستحيلة قاسية! هل أنا نادم على انتمائي؟ ولا زلت أراه عاطفياً حاداً متسرعاً؟ ربما، لكنني أبداً لم أندم على عهدي للقائد الذي صعد المشنقة أمامي، حتى وفكرته تتكشف عن خللها، فجوهر العهد صحيح صادق وعظيم، ويجعل افتراقي عن الفكرة بنفس جلال وصدق اعتناقها. وهذا يتحقق بالإمساك بجوهرها: نبل الحياة وعظمتها، سعادة الناس، ودرء الشقاء والشر عنهم؛ خاصة في الذود عن الكادحين، كرامتهم وأحاسيسهم، لكن لا بد من المصارحة،مهما كانت قاسية أليمة!

(38) لم نفسر عالمنا، وحسب، غيرناه، ونحو الأسوأ طبعاً، علينا الآن ان نفسره!

قبل سنوات وصلتني تلك الرسالة، التي كانت مفاجئة، فاجعة. كأن النبأ الذي تحمله لم يكن حديث الناس في كل مكان في الدنيا! كان رفيقي سامر عبد الحميد من بين أعضاء اللجنة المركزية الذي أطاح بهم كمتار بيس، وحمه سور، وقد حوصر وعزل لسنوات في دمشق. استطاع أن يذهب بجرأة لاجئاً إلى لندن. وقد كتب لي يومها قائلاً: ثمة أشخاص مرتبطون بأولئك الذين أخرجونا من الحزب، يشتمون من يلجأ إلى إنجلترا وألمانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية، وغيرها، يتهمونهم بالخيانة والمروق والسقوط في مستنقع الإمبريالية. حين حللت في لندن، وجدت فيها زوجاتهم وأبناءهم لاجئين مرفهين، سبقوا الكثيرين بسنوات. يبدو أنهم أرسلوهم ليجسوا بهم نبض الإمبريالية، معتقدين إنها تقضي أوقاتها مهتمة مشغولة بهم، ثم حين حلوا بها قبلتهم كالآخرين ليعيشوا في رعايتها المادية غير مكترثة لهم؛ كما توقعت نرجسيتهم. رسالته الأخيرة هذا اليوم حول انهيار الاتحاد السوفييتي، والقضية التي بددنا أعمارنا من أجلها سدى، كانت جارحة للروح والعقل:

"وأخيرا سقطت الشيوعية حلمنا الجميل: وهل هناك أجمل من عالم بلا مظالم ولا حروب، زاخر بالخير والمساواة والجمال، تصير فيه الجيوش، والشرطة والدولة، مجرد ذكريات مضحكة؟ لكنه كان حلماً خلاباً كاذباً، سكرة بالكلمات المعتقة، شجرة هائلة مزروعة في برادة الحديد، تعجيز مطلق، حلم سعيد ضد طبيعة كل الأشياء. لا يتحقق منه سوى أهواله: استعباد وقمع ومحق لكرامة الإنسان! ما تحقق اليوم هو عقاب التاريخ الذي خالفه لينين بلجاجته، وهوسه الجنوني وهو يفجر ثورة البلاشفة، مخالفاً الاتجاه الحقيقي للتاريخ، والنبض الخفي الأصيل لفطرة القلب الإنساني. خالف من يدعي أنهما معلماه: ماركس، وبليخانوف! ما تكشف اليوم أثبت صحة مواقف وأفكار المناشفة،والاشتراكيين الديمقراطيين، المفعمين بالحكمة، قدر امتلائهم بالوطنية والثورية الواعية، وروح العدالة، منذ البدء حتى الانهيار كان كل شيء لدى الشيوعيين يسير معاكساً الحقيقة، واتجاه العقل! لا غرابة أن يخرج من القلاع الحصينة للاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية،بعد الانهيار؛ جيشان رهيبان: الأول جيش الفقراء والمعوزين والمعذبين من الطبقة العاملة، وقد خالطهم مدمنو المخدرات والمومسات، والمرضى بعقولهم وأرواحهم والذين كانوا في باكورتهم يمتازون بالجمال والذكاء،فسحقهم النظام المتحجر القاسي! والجيش الثاني: الأثرياء بشكل فاحش، رجال ونساء المافيات واللصوص والسماسرة وأصحاب شركات عابرة للقارات، وهم كانوا في قيادة الحزب وكوادر الدولة المتقدمة. أية كارثة صنعها لينين؟ الآن ينبعث ذلك الصوت الذي سمعته قبل سنوات طويلة ونسيته، صوت ذلك المغفل بادييف رئيس اتحاد الكتاب السوفييت الذي انتحر عام 1956 بعد ان اكتشف حجم الخديعة التي ولغ بها حين كان يرسل زملاءه الكتاب إلى معسكرات الأشغال الشاقة، ومصحات الأمراض العقلية،وجدران الرمي بالرصاص، لا لشيء؛ سوى إنهم رفعوا أصابعهم مؤشرين إلى الهاوية التي كان يسير إليها ركب الشيوعيين وخلفهم شعوب السوفييت، والشعوب الأخرى الرازحة تحت سلطة ستالين! لقد سحقه الندم وتبكيت الضمير؛ فأودع صرخته في رسالة وهو ينتحر: " كنت أظن إنني أحرس معبداً، واليوم اكتشف إنني كنت احرس مرحاضاً في ثكنة عسكرية" نعم يا صديقي يونس أنها خديعتنا جميعاً. ولكن مهلاً! لا يجدي الانتحار، الأجدى أن نطلق صرختنا بوجه أولئك الذين لا زالوا حراساً للسوفييت القدماء، يريدون مصادرة العقل والضمير والذاكرة" ونمضي لننسف مقدساتهم ومحرماتهم وأصنامهم كلها. لا سكوت، ولا هوادة بعد اليوم! يجب ان نفتح قبر الماضي كله، ونعرف من دم الضحية المتفسخ من هو القاتل.

حتى انتحارنا لا يكفر عن الخطيئة، ما بين 7 أكتوبر 1917 و25 ديسمبر1991،كم أزهقت من أرواح، وكم جرحت قلوب وكرامات لدى شعوب السوفييت؟ كم سفح الناس في العالم كله من عذاب ودماء ودموع وهم ينجذبون لهذا السراب العظيم؟ أية طيبة أو سذاجة كان عليها الشيوعيون البسطاء، وأية فظاظة وقسوة اقترفناهما نحن قادتهم؟ هل نحن براء مما جرى هناك بعيداً عنا؟ كيف كنا نجهل أو نتجاهل وحشية وبشاعة ستالين؟ صخب لينين وتسرعه وسطحيته والكثير من تفاهاته ومباذله؟ لينين قتل الكثير من البشر، والكثير من الحقائق، وستالين قتل الحقيقة كلها مع ملايين البشر، غيبهم في السجون وفي معسكرات الاعتقال والأعمال الشاقة على صقيع سيبريا. أمر شيوعيين أن يقتلوا بأيديهم رفاقهم وأصدقائهم.أوائل الثلاثينات، في جولة واحدة أعدم 52 عضوا من أعضاء الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب البالغ عددهم 72 عضواً، والتهمة جاهزة "التآمر مع أعداء الشعب"! عندما أعدم ستالين، بوخارين صديقه القديم والعضو البارز في القيادة، وضع ورقة قرار تنفيذ الحكم على رأسه، ووقعها وهو يضحك ليذله وزوجته التي كانت تشهد محنته. أرسل قاتلاً إلى المكسيك ليهشم ببلطة رأس تروتسكي، أحد أهم بناة دولته؛ رغم إنه أختار أبعد منفى! اقرأ ما كتبته الشاعرة آنا اخماتوفا في قصيدتها وهي تنتظر على أبواب السجن رؤية أحبتها، ولو للمرة الأخيرة، واحسب نبض قلبك ودموعك إن استطعت. لا بد أن نتحمل يا صديقي عار غفلتنا وجهلنا، صمتنا وتدليسنا، مؤلم ومعيب جداً أننا فقط الآن نقول ذلك،ولكن أن نقوله متأخرين خير من أن لا نقوله أبداً!

قضيت ساعات أقرأ رسالته، وأعيد قراءتها. في تلك الليلة بكيت كما لم أبك يوماً. حتى حين جاءني من بغداد خبر وفاة ولدي الوحيد، بعد أن سيق مجبراً إلى الحرب رغم كبر سنه، ومقتل ولديه الصبيين في ما بعد، لم أبك هكذا. في تلك الليلة فقط، بكيتهم مع بشرية معذبة ضاعت بعد أن اعتقدت أنها وضعت خطاها على طريق خلاصها،وسعادتها المطلقة! حلم عظيم صار تدريجياً كذبة كبرى، سراباً بسعة نصف العالم، نصف التاريخ، بينما هو كان وهماً وخرافة منذ البداية! ما حياتي الضائعة؛ إلا ذرة رمل في آلام وتضحيات هؤلاء البشر! طعنني عار تدليسنا الذي هربنا منه، ولا زال الكثيرون يهربون منه إلى المجد! وإلى الثروة! وفتات السلطة. ثمة هامش أسفل الرسالة؛ قال ماركس: إن مهمة الفلاسفة ليس وصف وتفسير العالم، إنما تغييره، والآن نحن تلامذة ماركس النجباء بعد أن غيرنا العالم، أعني العراق، نحو الأسوأ طبعاً، آن لنا أن نصف، ونفسر ما حدث! هل ثمة أمل؟ ما العمل؟ مرة أخرى!

كتبت لسامر: ومن غيرك أنت المثقف والمفكر المتمرس بالكتابة؛ يقوم بهذه المهمة؟ أتريد أن تلقيها على كاهلي أنا المرهق بأحاسيسي الأليمة، ولم يسبق لي الكتابة العلنية للناس؟ لم يعش سامر في لندن سوى فترة قصيرة، ألف فيها كتاباً عميقاً وجميلاً عن هذه الخيبة الكبرى، لكنه لم يفقد ثقته بالاشتراكية، مطلقاً ما يشبه الصرخة: لم تقتل الاشتراكية، سوى الشيوعية! لم يقتل ماركس سوى لينين!أضفت لها بقلمي المنفعل: لم يقتل الاشتراكية الصحيحة في العراق سوى فهد! مات سامر في شقته محترقاً في ظروف غامضة. دفن إلى جانب ماركس، معلمه القديم الذي صار يتجرأ على مناقشته!

صباح اليوم التالي لسهري مع الرسالة كتبت برقية: شكراً لك يا غورباجوف: لقد رفعت غطاء البالوعة، ورغم إن رائحة الجيف والقاذورات صارت تدوخ العالم، لكن زهور الربيع الإنساني ستنهض وتملأ الجو عطراً وأملاً" من يصدق أن شيخاً هرماً قارب التسعين قضى معظمها مناضلاً من أجل الشيوعية ينحدر من الجبل قاصداً دائرة البريد في أربيل ليرسل هكذا برقية؟ قال لي موظف البريد: ـ كاكا احنا برقياتنا ما توصل بغداد، شلون تريدها توصل موسكو؟

بقيت أتطلع إليه؟ هممت أن أقول له، ولكن برقياتكم صارت تصل إلى واشنطن! لكنني أحجمت، فهذا الموظف المسكين لا ذنب له، ينبغي أن أقول ذلك لمسعود البرزاني، ولكن كم من الأشياء يجب ان أقولها له ولغيره؟ زمن تتكشف فيه حقائق وتطمس أخرى، من سيربح؟ من سيخسر؟ الفقراء والمضحون المعزولون المحطمون، هم الخاسرون دوماً! في طريقي إلى بيتي في أعلى القلعة وجدتني أفكر بشيء آخر كأنما لأهرب من محنت الكبرى: كم من الزمان مضى على آخر لقاء لي مسعود؟ حسن إنه ساكت عن بقائي هنا، ربما نسيني، أو إنه يعيش بحبوحة مع بغداد فلم يجدني ورقة مفيدة له مع حكامها.

ويأتي أكثر من شخص ليقول لي أنت لم تتحدث عن خطأ الفكرة إلا بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي، ورفع غورباجوف الغطاء عن بالوعة الخفايا والخطايا. قلت أنا لست في مباراة لتسجيل براءة اختراع فكرة مخالفة، ولا أحلم بمنافسة غورباجوف على المجد والشهرة، لكن من حقي القول أنني كنت أفكر وأهجس بخطأ الفكرة واستحالة تحققها مثل كثيرين في العراق وسوريا ولبنان ومصر، وقبل ثورته بوقت طويل. كان فساد الفكرة وعقمها يقلقني أكثر من فساد الرجال والنساء من حولها، هؤلاء سيموتون أو يزاحون، ولكن الفكرة الخاطئة الفاسدة باقية تنجب طرقاً معوجة خاطئة، ورجالاً ونساء فاسدين؛ فهي النخاع إذا فسد، فسد معه الدم والجسد، ولا يجدي معالجة الطفح على الجلد! غورباجوف كان على قمة سلطة عالية عظمى فكان يرى الأرض الشاسعة التي حاولت عليها شعوب كثيرة بأمزجة وثقافات مختلفة أن تصل بالشيوعية إلى الغايات التي حدثهم لينين عنها بهوس، وهو يروج لبضاعته، ولكنهم لم يصلوا سوى إلى البؤس والمزيد من الفظاعة والبشاعة؛ فكان لابد له أن يقول كلمته، ويتخذ موقفه بضمير إنساني نقي. ترى لو كنا أقمنا نظاماً في بلادنا على أساسها وبان خرابه، هل كان قادتنا سيعترفون ويقرون مثله؟ أم ينتظرون أن تطيح الناس عروشهم بأنهار من الدماء؟ قبل عقود من السنين، كان معي في السجن رفيق ينتظر أن يفرج عنه بعد أن تنازل عن الفكرة ووقع براءة منها وتعهداُ أبدياً بان لا يعمل في السياسة. قال ووجهه مستبشر:

ـ أتدري إننا قد حققنا النصر المبين، دون أن ندري؟

قلت مستغرباً متطلعاً إليه:

ـ عن أي نصر تتحدث؟

كنت وبعض الرفاق نعامله برفق وتفهم، بينما نبذه رفاق آخرون، وعاملوه بفظاظة، قال:

ـ بما أننا لم نستلم السلطة، ولم ننفذ فكرتنا، ونصب ما فيها من عنف وأوهام على رؤوس الناس، فهذا وحده انتصار، قل لرفاقك أن يكتفوا بهذا النصر، ويعودوا إلى بيوتهم!

تركني وهو يقهقه، جاءني في اليوم التالي ليسألني:

ـ هل ستبقى في الحزب؛ أم هل ستتركه بناءً على نظريتي؟

ضحكت بمرارة، قلت :

ـ نظريتك لا تعمل داخل السجون، قد تعمل في الهواء الطلق، هي مسألة كرامة كما ترى! قال بومضة جنون:

ـ أيهما أهم؟ كرامة العقل، أم كرامة الجسد؟

ـ كرامة العقل طبعاً، لكن لا عقل بلا جسد!

كانت الفكرة في أعماقي قد تحللت وذابت ونقضت جدلياً، بقيت في الحزب لأنه خطأي وصوابي معاً، فهو الخطوة الأولى التي اتخذتها قريباً من المشنقة؛ معتقداً أنها من أجل وطني! لكن الخطوة الأولى تظل تجذب الخطوة الأخيرة، وتحدد مصيرها وقرارها. ما وقع يستحيل إنقاذه. فتلك القلوب الطيبة، والوجوه الجميلة، والأيام الحالكة صارت رماداً، ولم يعد ثمة أمل لاستعادة ذرة منها. هل ثمة أمل في إنقاذ المستقبل؟ المناضلون من جيلي أغلبهم رحلوا عن دنيانا، ومن تبقى في الحزب من الجيل التالي؛ أغلبهم مثل شرطة في حالة استعداد لقمع عقولهم ومن حولهم، اتخذوا من الحزبية حرفة ومهنة ناجحة تمنحهم العيش والهيبة؛ ولوا سرحوا لما وجد أفضلهم، صالحاً لأبسط مهنة، سمعت أحد رفاقي القدامى يقول: لنمنح الفكرة فرصة أخرى! قلت له: ولم لا تمنح التغيير فرصة أولى؟ ثمة رفاق حوله، كانوا يرمقونني بغضب وحقد، رأيت سجانين كثر، ولم يخطر ببالي أن يكون السجانون من رفاقي!

(39) يا حيرة الإنسان، إذ يؤمن، أو يلحد، أو يجحد!

بعد إطلاق سراحي من آخر سجن لي في العهد الملكي عشت متخفياً، متنكراً. في تلك الأيام التقيت بشخص كان هو آخر من أتوقعه يحدث انعطافاً في تفكيري، ويجمد خروجي من الحزب سنوات طويلة‍. كنت أسكن بيتاً صغيراً في منطقة بغداد الجديدة. كان جاراً لنا، ورغم إنه رجل دين، تفكيره يبدو لأول وهله مناقضاً لتفكيري؛ لكن تقارباً تدريجياً حصل بيننا، وصرنا صديقين حميمين. كان كثير القراءة والتأمل. أثار استغرابي إنه يبحث عن الكتب الحديثة، أكثر مما يبحث عن كتب الدين والفقه. توطدت بيننا ثقة راسخة؛ فتبادلنا مصارحة ومكاشفة عميقة! أعلمني إنه يشرب أحياناً كؤوساً من العرق سراً في بيته؛ فدعوته ليشرب معي سراً أيضاً؛ صرنا أنا وإياه نجلس حول كأس، أو كتاب شعر صوفي، وخضنا نقاشات وحوارات طويلة. اعترف لي إنه بعد أن درس كتب الدين والفقه، وقرأ الكثير من العلوم والفلسفات الحديثة وجد نفسه، يفقد الله فجأة "طار الله من يدي، طير جميل يفر من يد طفل، آخر خيط من النور يفر من عيني رجل؛ فيستيقظ على ظلام العمى. صرت ملحداً، لم أعد أؤمن بدين أو نبي أو قديس، بقيت مذعوراً شهوراً طويلة. صرت يتيماً فقيراً بلا معيل، زنديقاً بنظر الناس لو علموا ويستحق القتل. صرت بحياتين، علنية آمنة مريحة، وسرية قلقة مضطربة، لكنني مضيت سعيدا باكتشافاتي السرية! قال كلمة لا أنساها أبداً "لقد اكتشفت أن الإنسان هو الذي خلق الإله، وليس الإله هو الذي خلق الإنسان" وأضاف ضاحكاً، وهو يصب لنفسه كأساً: بل إن العراقيين هم الذين اخترعوا الإله، وإبراهيم الخليل، صاحب براءة الاختراع،لكن من صنعه على نطاق تجاري وحربي هم أبناء فلسطين القديمة، والجزيرة العربية " تأملته طويلاً مدهوشاً، سألته:

ـ إذا لماذا بقيت تضع العمامة على رأسك، وتتأمم في الناس؟

أطلق ضحكة قصيرة حزينة وقال:

ـ ستعتقد أنها من أجل العيش أو المال، لا أبداً، هي من أجل الناس، لو جاهرت بأفكاري أو حثثتهم على ترك الإيمان بالله فأني سأجعلهم جميعاً يتامى دون أب، أو ولي أمر يعتقدون أنه يحميهم. أنا وصلت للإلحاد سراً بينما جعلت لي أباً وولي أمر: ضميري وثقافتي، وأحيانا كأس عرق اشربه بعيداً عن الأنظار، موسيقى وأغنية اسمعها أو أدندن بها. من أين أجد لكل فرد في هذه الجمع ثقافة بعمق ثقافتك وثقافتي؟ أو كأس خمر يشربونه سراً أو علنا! أو أحثهم على سماع الموسيقى، وكيف اضمن نتائج يتمهم وسكرهم ونشوتهم مع الخمر والموسيقى والرقص؟ نعم لا تقتل إله الناس إذا لم تكن قد منحتهم إلهاً آخرَ افضل منه! ‍وما دمت لا أستطيع ذلك يجب علي أن أبقيهم على أيمانهم بإلههم. أترك الله في أحضانهم يعانقوه ما استطاعوا من قوة، بل أساعدهم على التمسك به، يساعدهم على تحمل موتهم، فتح نافذة يتلمسون منها ضوءً في دهليز الوجود؛ ليخرج منهم من يستطيع للهواء الطلق!

تفهمت هذا الرجل الغريب، ازددت احتراماً وحباً له، كنا نبقى في جدل عميق وحوار هادئ جريء صريح، ينتهي بقوله، وهو يهز رأسه كصبي حائر جاء لتوه من دفن والده:

ـ أتعتقد إنني فرح بموت الإله؟ كم أتمناه لو كان حياً يرزق، ويرزقنا‍ معه!

كنا نسهر الليل أحياناً مع كؤوس عرق، وأحياناً على أكواب الشاي، حتى يبزغ نور الفجر؛ فيفارقني؛ لأسمع صوته من المئذنة القريبة يصيح: الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح. كنت أتابعه أخشى أن يخطئ فيفصح عن مكنونه، فلا تعرف عاقبة ذلك! وقلت يومها، هو يبحث عن إله للناس في مساجدهم، وأنا أبحث عن إله للناس في سراديب الشيوعيين!‍

يومها وجدت إنني وهذا الرجل في نفس المركب المبحر وراء هدف غامض، وفي نفس البحر الهائج المترامي دون شاطئ، وقررت مثله الهروب إلى الأمام، وعدم تثبيط همم هؤلاء المناضلين من أجل الشيوعية؛ ما دامت كل الأفكار حولنا تتراوح بين القومية والدينية والرجعية والديمقراطية غير الناضجة، والانتهازية! قلت في نفسي وما الضير أن تكون الفكرة مستحيلة ما دامت لم يحن أوانها بعد؟ فكل نضالنا اليوم كحزب هي في قضايا وطنية عامة، وذات طابع مرحلي؛ لذا أسمانا الناس بالوطنيين، ونسوا ارتباطنا بالسوفييت، وفكرتنا المستحيلة! لكنني بعد أن بلغت من العمر عتياً؛ اكتشفت مرة أخرى؛ أن النضال من أجل القضايا العامة؛ لا يكون صحيحاً وصائباً، إذا كانت نواة الحزب فكرة مستحيلة، أو خاطئة، وتابعة لأجنبي، سواء كان من الشرق أو الغرب! كنت في البيت أخاطب فراشتي الغائبة داخل ضياء المرايا، مرآة هذا البيت الصغير، أو مرايا البيوت الكبيرة أو المقاهي أو الحلاقين الذين يتلمسون رؤوسنا بهدوء ولو عرفوا ما في داخلها لولوا الأدبار أو أغمي عليهم، نعم يا فراشتي ومع كل ما سردت، مما هو مقنع أو غير مقنع كيف أنكر أن الحزب كل حزب، أو تجمع بشري يعلم النفاق والمداهنة وقلب الحقائق والزيف. وفي حزبنا الشيوعي نتعلم النفاق الثوري، فنحن نعرف البشر الفاسدين، والفكرة الفاسدة، ونسكت عليهم، حالمين بثورة عظيمة تقلب كل شيء، وتعيد ولادة كل شيء متطابقاً مع النقاء الثوري، وهيهات هيهات! في خضم هذا الانتظار الطويل يصير الكذب الثوري كذباً أبيض مشروعاً ومستطرفاً وتقليداً تكتيكياً بارعاً! تمهداً لأكاذيبنا الكبيرة المقبلة. كنا نكذب حتى بأسمائنا المستعارة المغلفة بسلوفين سوفيتي، فيصير عبد الله: أبو فلاديمير أو أبا تانيا أو لينا!! وأبو سميرة، أبو ترشكوفا، وأم جميلة أم برافدا، كذب ناعم لذيذ، أحدهم سمى ابنته "لايكا"، دون أن يعرف من هي "لايكا"، فقط هو اسم قادم من السوفييت، وحين قالوا له أتعرف أن لايكا اسم الكلبة التي أرسلها السوفييت إلى الفضاء؟ ارتج عليه وسارع ليسميها "عمشة" ! كان كذباً بسيطاً لكنه يكفي لضلالة مؤلمة: فمسؤول تنظيم صغير لا يتعدى عشرة أشخاص في الحلة يسمونه مسؤول الحلة، وسكرتير الحزب في المجالس الشيوعية العالمية: مسؤول العراق، والفكرة التي هي محل جدل ورفض واستنكار الكثيرين هي فكرة العراقيين، نعم يا فراشتي كانت كذبة تجر كذبة، نملة تجر نملة، سرب من النمل نراه تحت عدساتنا الثورية المكبرة أسراباً من الخيول على ظهورها فرسان انطلقوا يفتحون العالم! كيف تريدينني في هذا الخضم الراكد الآسن أن أحاور نفسي وغيري بصراحة الريح مع أشجار الخريف؟

اليوم وقد حلت الشيخوخة حلول فجر بارد أخير، عدت للتفكير بها: وقلت لابد من إعلان قناعتي بخطئها وفسادها، لا بد من العمل على إلقائها بعيداً، لا بد من إيجاد فكرة جديدة صحيحة صائبة، إذا أردنا حقاً النضال من أجل بلادنا‍‍، وبدأت أنادي بضرورة التجديد، فحص الفكرة، ولم اقل على الفور إن الفكرة خاطئة، لكنني اصطدمت بحقيقة أن رجال القيادة لا يهمهم أن تكون الفكرة خاطئة، أو صحيحة؛ ما يهمهم أن يبقوا في مراكزهم، كان الجواب الأبدي حاضراً، يقوله كل متشبث بالسلطة على مر الدهور:

ـ نحن بأية حال؟ العدو يضرب أعناقنا، وتريدنا نفكر بالنظرية؟ ليس وقتها الآن!‍

وقال لي عضو مكتب سياسي من جماعة السكرتير:

ـ نظريتنا صحيحة، مجربة، كلية القدرة، كيف تتمتع بهذه السمعة العالمية الهائلة لو كان فيها خلل! ‍

قلت: كأنك تتحدث عن سيارة، أو حلوى بماركة مشهورة عالمياً!

رمقني بارتياب، وجدني ألح على مناقشة الأمر قال بنزق:

ـ ولماذا نتعب أنفسنا بالتجديد؟ الرفاق السوفييت يقومون الآن بإجراء دراسات وبحوث للتجديد، نحن سنقطف الزبدة معهم، من أين لنا باحثون ودارسون بمستوى ما عندهم؟

ـ كيف نقبل أن يفكر الآخرون نيابة عنا؟ هل هم يعرفون ظروفنا أفضل منا؟

ويأتي الجواب همهمات وغمغمات تشبه زمجرة النمور في الغابة!

أسطورتنا أننا جلسنا على جبل الفكرة، اعتقدنا أنه جبلنا نحن، بينما هو جبل في أوربا دفعناه بقوة الوهم إلى أرضنا؛ ليقف وسط الصحارى والسهوب، وتجرأنا وقلنا للناس: أصعدوه حتى القمة، وإذا حوصرتم القوا أنفسكم من قمته، تتلقفكم أغصان الغار حيث المجد والخلود! التراجع ممنوع؛ فهو الخيانة، صرنا موزعي فكر، لا نحن منتجيه حقاً، ولا مستهلكيه بتدبر وحرص، كيف ينزل القادة عن قمة الجبل، وهناك انتبذوا لأنفسهم المنتجعات الفخمة، حيث الحسناوات والخمور، وكل كتاب أو صحيفة ضيف ثقيل؟ أحس أن كثيراً من رفاقي في الصف المتقدم للحزب وصلوا مثلي إلى قناعة رجل الدين الذي تأكد له أن لا إله ولا جنة ولا نار، ولكن لا يسعه سوى أن يندفع مع التيار لا يلوي على شيء، كثير من رفاقي كما أعرفهم يأخذهم الخجل أو الخوف فلا يريدون الإقرار أن ما سفحوا من أجله العمر والروح يتكشف عن وهم وهراء وكذبة صارخة؟ عندما حسمت أمري وغيرت فكري؛ فاتحت رفيقا في المكتب السياسي وهو من قلة أثق بنزاهتهم، برغبتي في الاستقالة قال لي:

ـ لو استقلنا يا رفيق جميعا يجب أن تبقى، فأنت خميرة النقاء في الحزب ومقولة ضرورة تمازج حكمة الشيوخ، بحيوية الشباب، تنطبق عليك، وليس على أي واحد من هؤلاء المترهلين! باستقالتك أنت بهذا تمنح كمتار، وحمه سور هدية كبير، ابق شوكة في عيونهما، أنا أعرف أنت منذ فترة طويلة لم تعد تؤمن بالشيوعية، لكنك بقيت معنا ربما لأسباب أخلاقية، ابق معنا حنى نكمل بعضاً من المشوار علنا نستطيع تخليص الحزب من حمة سور، وكمتار بيس وحمأة الفساد التي جرا الحزب إليها. قلت له: أحس انهما يبيتان شيئاً لنا، قال: لن يستطيعا! لكنهما استطاعا! فقد أطاحا بهذا الرفيق أيضاً. بعد أن أنفق عمره في نضال طويل، وحياة شاقة مريرة.

لم أكن أحس بالملل والسأم من سؤال الكثيرين المشروع: لماذا لم تر خطأ الفكرة إلا بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر؟

كنت في غمرة ارتباكي أجيب في كل مرة بطريقة مختلفة لكن بنفس الفحوى:

ـ لا بد من الاعتراف بأنني بطيء التفكير، إذا كانت كل قوانين الديالكيتك خطأ، فإن القانون الذي يقول أن التغيرات الكمية تتحول إلى تغيرات نوعية يظل صحيحاً، نعم لقد تحول تفكيري وتطور ذرة ذرة، وهذا اقتضى وقتاً طويلاً!

وفي مرة أخرى أقول: حين تكون في مهمة نضالية كبيرة، فكأنك في طائرة محلقة في الأعالي، هل يستطيع لمن يختلف مع الطيار أن يفتح أبواب الطائرة ويخرج؟ لا بد من تحقيق هبوط هادئ آمن أولاً؛ ثم نتحدث عن تغيير الاتجاه، ورحلة جديدة! لابد أن بعضهم كان يضحك مني في سره، لكن أحدهم فجر ضحكته قائلاً:

ـ يبدو أن الشيوعيين يركبون الطائرات، ويتركون عقولهم تتبعهم على ظهور السلاحف!

آخر قال مواسياً:

ـ لكنك عانيت آلاماً كثيرة! كأنك حشرت قلبك بين المطرقة، والمنجل في شعاركم العتيد!

قلت" الألم الأكبر هو الخيبة بالفكرة!"

وأنا الذي أتحدث عن خطأ الفكرة، وأخطاءهم، وأخطاء غيرهم هل كنت بلا أخطاء أو ذنوب؟ كلا طبعاً، فذنوبي وخطاياي كثيرة،أنا بأعمالي أو سكوتي قد ولغت معهم بالخطيئة الكبيرة، وجئت لفكرة وطريق ليس لي، طريق المندفعين الهائجين بلا روية، بينما كان ينبغي أن يكون طريقي مع المتأملين المتبصرين حتى لو عبروا عنه بالكلمة الهادئة فقط، لقد زججت نفسي بين أناس يرون الثورة صخباً وضجيجاً وهدماً، دون قدرة على البناء، ومثلهم رددت شعارات وهتافات فارغة، ومارست كذباً ونفاقاً وجدلاً وترهات، ومعهم تمتعت بخيرات ومسرات سفرات طويلة وقصيرة إلى موسكو وبراغ وبودابست وصوفيا وحتى كوبا على حساب المعذبين، وشربت حتى الثمالة من كؤوس مباهج وملذات فنادق اللجان المركزية حيث تقدم أشهى المأكولات والخمور بينما الشعب حولها يتضور حرمانا من حقوق كثيرة. أشياء كثيرة ارتكبتها معهم، لا يغفرها لي حسن النية. أشعر بالخجل والندم والعذاب كلما تذكرتها، لا تبرر لي معاناتي الآن أي شيء، ربما الفرق بيني وبينهم الآن إنني أعترف وأقر بخطأي وجنايتي بينما هم سادرون في رضاهم عن أنفسهم، وأوهامهم حول أمجاد ومآثر!

خرجت من المكتب السياسي، فشعرت بسعادة لاستعادتي حريتي، ولكن هل انتهى الأمر؟ ما واجهته فيما بعد كان مفجعاً. ضربوا عليَ طوقاً محكماً من العزل والنبذ! ظل السكرتير يتهرب من لقائي كلما جئته إلى مقره الكبير في أربيل لأسأله عما يجري حولي، كان يتهرب، ولما التقيته لم ينطق بكلمة، ولم يقل أصحابه شيئاً. كانوا في تكتلهم حوله قد كونوا عصبة للقسوة والغرور الأجوف. اعتادوا الاجتماع مسبقاً واتخاذ قراراتهم، وما الاجتماع الرسمي الكامل أو الناقص عادة؛ إلا للتبليغ بقراراتهم!

ذهب حمه سور إلى بيت فخم أهداه له حكام أربيل. جاء راضي سعيد؛ فتواصل عزلي، وحصاري. صاروا يقولون إنني أشوش على فكر الحزب وسياسته، لم يقولوا إن الحصار كله بتحريض من كمتار بيس انتقاماً مني؛ لأنني افضحه وأشير إليه إلى أنه شخص لا يؤمن بأي شيء في الدنيا سوى استعمال الآخرين، والحزب من أجل غرائزه وشروره ومنافعه الشخصية، وإنه سبب في خراب، وعذاب الكثيرين. وحين يسأل البعض السكرتير الحالي؛ عما ألاقيه منهم يصر على الإنكار:

ـ نحن لم نفرض عليه العزلة، لم ندعو لمقاطعته، لكننا نطلب منه أن لا يتحدث بأفكار تخالف فكر وسياسة الحزب! والناس أحرار في علاقاتهم!

صرت عجوزاً اسري عن نفسي بآمال بدت مقنعة لي بعض الشيء. قلت سأبقى في صفوف الحزب، لي أمل أن يقوم الشباب والطيبون في قيادته بمراجعة أساسية؛ ويتحقق التغيير.

ويسألني بعض الشباب: أتنصحنا الآن بترك الفكرة كلها؟ وأجدني انتفض، لا! أبداً ! الشيوعية بذرة مناسبة للبحث عن العدالة الإنسانية، خذوا منها جوانبها المضيئة، العدالة، التضامن الإنساني، الانتقال لاشتراكية صحيحة ممكنة، للتمسك بالحرية، بالديمقراطية الحقة، حاذروا المستحيل والتعجيز، أدركوا قدرات الإنسان، ولا تحملوه فوق طاقته، لا تطلبوا من البذرة الطيبة ان تكون غابة للحديد والإسمنت، ولعروش الطغاة! لا تلعنوا البحر والرياح إذا كانت خرائطكم خاطئة مشوهة! وأفرح كثيراً حين تلتمع على وجوههم ومضة مشرقة، أحس بشبابي الضائع ينهض من بين الأنقاض، ومن رماد العمر، وتأخذني نشوة عارمة، وأجدني أبكي. ولكن تلاحق الأحداث الساحقة، وضغط القيادة المتحجرة جعل هؤلاء الشباب ينحسرون ليس عني فقط، بل عن أنفسهم وضمائرهم الغضة التي كانت في البدء متوهجة متعطشة للتطور. لا يمكن طبعاً زرع الأفكار والقناعات بنقل الدم! ليخوضوا هم شوط الألم الطويل من بدايته، ربما غداً يلومون أنفسهم؛ أنهم لم يقتنعوا بما كنت أقوله لهم، وتلك طبيعة البشر؛ فهم يفضلون تكرار الألم والعذاب، على أن يأخذوا العبرة من أفواه عقلاء، أو مجانين! صرت أقول لمن ظل يزورني أو لا يشيح عني يحين يلتقيني ويقبل علي مسلماً، ويتجرأ على الحديث معي: هذا هو البحر أمامكم، خوضوا غماره، صارعوا موجه وكواسجه، ارفعوا ما شئتم من أشرعة وقلوع، اقطعوا العاصفة، أو اركبوها، اصعدوا الجبل الشاهق، في النهاية، إذا لم تنعطفوا في اللحظة التي غفلت أنا عنها، وتتداركوا ما فاتني، فلن تصلوا إلا إلى الجزيرة النائية الجرداء التي وصلت إليها، ولن تجدوا سوى حفنة الرماد التي في يدي الآن!

لابد إن فهد، هنا مع الشهداء، لا أظنه يقبل بما يجري، كيف يحسب هو، وكمتار بيس، وحمة سور من نفس الحزب؟ ولا أظنه بقي على فكرته، فالموت أستاذ كبير يقنع تلامذته الموتى للنزول عن مغالاتهم ومبالغاتهم، فيصيرون أكثر تواضعاً أمام الحقائق، حتى ولو كانت صغيرة بحجم دود القبور. أنا نفسي أحس بالخجل أنني لا زلت حياً في زمن يموت فيه الأطفال والشباب، وأتفهم من يرى في ذلك تهمة، تدعوا للريب والشكوك في هذا الزمن، لذا لن أستغرب إذا سألني:

ـ لماذا تأخرت علينا؟

سأجيبه:

ـ لا أشعر بدنو أجلي، ينتهي عمر المرء حين ينتهي ضميره عن المساءلة، ومراجعة الذات، وما زال ضميري في محاكمة دائمة لي، ولمن حولي!

لا بد إنه سيتفهم ذلك، وسيتفهم كل ما يجري في هذا الكهف، ربما سيقف مع الشهداء الشباب ليحاكم طغمة الفاسدين، هكذا أتوقع، أو هكذا أتمنى! ولكن هل من المعقول إن فهد الذي أتى بالفكرة سيكون هو يحاكمها اليوم؟ لا أنا ما زلت سادراً مع الأوهام، يبدو أن الشهداء ومعظمهم من الشباب، هو من سيأخذ زمام الأمر مهما كان صعباً وقاسياً!

الآن عادت أغنية الشهيد كما غناها الغزالي بصوته الرخيم، ولكن بتغيير، لا يريده، ولا أريده أنا؛ فالزمن يفعل بالأغاني كما يفعل بوجوه الناس، يملأها بالتجاعيد، أو يمسح ملامحها فيعيدها عجيبة بحاجة إلى نار جديدة لتخبز:

يسألني البطران، ليش وجهك اصفر؟

كل مرض ما بي، بس حزبي احمر!

أيقصد أن الحزب لكي يبقى أحمر يمتص دم الناس، حتى يجعل وجوههم صفراء هزيلة؟ أم هو أحمر، لا لشيء، إلا لكي يستفز ثيران الدنيا لمناطحته، دون جدوى؟ حانت منه التفاتة، واجهته نظرات صديقه ورفيقه القديم كسيرة معذبة، زاد ألمه وحيرته، ماذا صرنا نرى ونسمع في هذا الكهف؟

(40) وجاءت عشتار تبحث عن تموز، وجمره بين رماد الشهداء!

وجد حسن طلقة أن سيره السريع يصيب هياكل عظمية حوله بالدوار؛ فراح يسير بهدوء كالمتسكع. لم يكد يسير خطوات قليلة متأنية حتى اجتذبت عينيه الغائبتين امرأة جميلة في حوالي الأربعين، بجسد ناضج ممتلئ، كانت طويلة رشيقة، ببشرة تجمع بين السمرة والتورد. كادت عيناه تعودان لمحجريهما من التراب الذي تفسخت وهو يحدق بها، وجه مشرق عذب الملامح بعينين عسليتين واسعتين،إحداهما تميل إلى الزرقة، شع منهما شبق أثار اشتهاءه حتى أحس أن كل غريزته تعود وتطلق نيرانها مترعة في تجاويف عظامه، ودمه كله يستأنف وجوده ودورته، وقلبه ينبض كما لم ينبض حين كان حياً. تلاحقت أنفاسه وهو ينظر إليها، لكنه وجد أنها بقدر ما تحمل من جمال تتمتع بمهابة خاصة تفرض على من يراها وجلاً وتهيباًً. لا يدري لماذا أدرك أنها لا يمكن أن تكون من ذوي أحد الشهداء، بل حتى لا يمكن أن تكون من أهل الدنيا، أما الجنة التي توحي بها فعلاً فهو ما يزال يعتقد أنها لم تفتح أبوابها بعد، أو هي غير موجودة أصلاً. ما جعله يعتقد أنها كائن غامض، خصلة من شعرها الناعم الطويل مسبلة بشكل مهمل كسر على كتفها العاري الملتمع، زبد بحر، وإضمامة ياسمين، ثمة خصلة أخرى اختبأت بين نهدين ممتلئين ناهضين، شفت عنه حلمتان نافرتان من وراء حرير أسود، فوق خصر أهيف لدن، وتموج فخذاها وردفاها بفتنة لذيذة! رآها تنظر إليه كأنها أحست بالحياة التي دبت بين عظامه! قال في نفسه هذه هي من بحثت عنها في حياتي، ولم أجدها سوى في مماتي، التقى الكثير من الفتيات في الميادين الرياضية خاصة خارج العراق، لكنه ما كان يحب أجساد الرياضيات. كان يقول أنها صلبة كالصخر، والعشق لا يسري ناعماً دافئاً إلا في الأجساد الكسولة الرقيقة اللينة المطواعة لزند الحبيب. اقترب منها وقد أزمع في نفسه أن يستعمل عبارات مهذبة تعلمها من سفراته الرياضية، قدم نفسه قائلاً:

ـ هل هناك من خدمة أستطيع تقديمها لسيدتي؟

قالت بصوت ذي جرس فيه بحة جنسية، لكنه رقيق أيضاً!

ـ أنا عشتار، وجئت أبحث عن زوجي!

اتقد خيال طلقة بفطنته السريعة، عرف أنها تبحث عن تموز وجمره بين رمادهم، لم يستغرق بالمشهد الأليم، طار مع اسمها إلى ذلك الزمن القديم، حين كان آلهة سومر وأكد، سادة الأعالي، وللسماء أرحام نساء طيبات تلد مع الآلهة آلهات لهن ضروع أبقار هائلة تدر لبناً وعسلاً وأمطاراً! وفي ذلك الزمان كانت الأرض بكراً كما السماء لم تدنسها حروب، ولا ساسة مجانين، أهي عشتار الإلهة أم هي امرأة عراقية بسيطة تحمل اسمها فقط؟ فكثير من العراقيين في الحقب الأخيرة صاروا يسمون أبناءهم: بأسماء معالم ورموز العراق القديم، يجدون فيها ملاذاً من الحاضر القاحل الكئيب. وجد أن هذه المرأة الحسناء الفاتنة مهما تكن، هي من سيحيل الموت في هذا المكان الموحش القاسي إلى حياة وحب وربيع، لكنه توجس؛ فهي ستبتليه اليوم بالعشق كما ابتلي في حياته الفانية بالسياسة. ولكن من دلها على هذا المكان؟ من قال لها أن زوجها أو شقيقها تموز يمكن أن يكون هنا؟سألها بقلب واجف تساقط فيه رماد ضلوعه:

ـ هل زوجك شهيد؟

قالت بصوت تفننت في تنغيمه:

ـ بشكل ما؛ تستطيع أن تقول كذلك!

فقد مرحه وجرأته فهو لن يسمح لقلبه أو صبواته أن تتطلع لزوجة شهيد رفيقه مهما كان جمالها باذخاً مثيراً؛ فالشهداء بينهم ميثاق أمانة ونزاهة:

ــ ما معنى بشكل ما؟

ـ هو ملهم شهداء، منذ آلاف السنين أبحث عنه؟

بكل هذا الجمال ومخبولة ؟ سألها :

ـ من هو ملهم الشهداء هذا الذي تبحثين عنه منذ آلاف السنين؟

قالها بجرأة من يتحدث مع مجنون. قالت:

ـ هو حبيبي وشقيقي وزوجي تموز!

لم يعد مندهشاً فكل شيء هنا ممكن،سأل بهدوء:

ـ تموز نفسه، إله الخصب والنماء، وملهم الضباط المجانين في بلادنا؟

ـ نعم!

قالتها ببساطة زوجة تبحث عن زوجها بين الأحياء لا بين الأموات! وفي شوارع بغداد لا في العالم السفلي!

ــ بكل سرور، سأرافقك للبحث عنه في مثوى الأموات هذا الذي يسميه اليونانيون حادس، وإلى أقصى السماء والأرض إذا اقتضى الأمر!

قرر أن يلازمها باحثاً معها عن زوجها الشهيد تموز، حتى لو كان جزاءه لقاء إحسانه أن يركله تموز، أو يقتله غيرة على زوجته الحسناء، فهو كما يعرف عنه شرس منفعل ساخن القلب والعقل حد الغليان! وهو المحتضن للكثير من ثورات العرب أو العالم! لكنه خشي أن يتخلى عن مهمته في هذه الانتفاضة، وهو ما نكص يوماً عن واجب نضالي؛ لذلك استدرك قائلاً:

ـ أولاً يا سيدتي دعيني أقول لك يشرفنا أن يكون تموز شهيداً بيننا، كما تشرفنا بنسبة الكثير من القديسين والأئمة وأولياء الله الصالحين ألينا أو نسبتنا إليهم، بالطبع هذا يعود لحسن ظن الناس بنا، ونتمنى أن نكون عند حسن ظنهم! ولكن هل أستطيع أن أعرف من دلك علينا؟

قالت بشفتين بلون الورد الجوري نافثة عطراً لا كلمات جافة:

ــ عرافة في السماء فرطت النجوم بين يديها على الرمل، وقالت اذهبي هناك؛ تجدين زوجك بين هؤلاء المجانين!

ندت عنه ضحكة قال :

ـ حقاً الجنون هو القاسم المشترك بين الآلهة والأنبياء والثوار!

قالت مندهشة لفراسته:

ـــ نعم هذا صحيح!وتستطيع أن تقول والشعراء أيضاً!

قال ممتلئاً ثقة باستجاباتها السريعة:

ـــ ما رأيك أن نقضي وقتاً هنا بين هؤلاء الشهداء المجانين نستمتع بحكاياتهم الشيقة حتى لو كانت حزينة، ثم قد يظهر تموز بينهم، أو قد نستدل على مكانه من حواراتهم الكثيرة المتشابكة!

قال ذلك، ومد لها ذراعه التي رغم أنها عظام وحسب، ولكنها كانت قادرة على أن تشف عما كانت عليه في حياتها الدنيوية من عضلات مفتولة وجمال وقوة عارمة. وضعت عشتار يدها البضة الحية على عظمة زنده وراحت تتبعه بينما حسن طلقة يفكر ضاحكا!: يا للنساء الجميلات، حتى لو كن آلهات، يمكن استدراجهن بكلمتين ناعمتين حالمتين!

(41) تعالوا نضحك على الشهداء!

سار حسن طلقة منتشياً تيٌاهاً على رفاقه الشهداء: أن أجمل امرأة في الكون تتأبط ذراعه رغم ما قيل عن سمعتها السيئة في إباحة فرجها لآلهة كثيرين بما فيهم والدها وأشقائها وحتى خدم آلهة وكهنة سوقيين كما قيل، أحس كأنه نسى كل هموم وأفكار هذه القيامة، وصار على وشك التفريط بواجبه النضالي، فالتفت إليها قائلاً:

ـ اعذريني إذا سهوت عنك فترة، حتى ننتهي من مهمتنا‍!

هزت رأسها الجميل بغموض. اعترض طريقه شهيد يسير بهيكله العظمي المتداعي رغم إنه استشهد شاباً، كان معروفاً بينهم بهوسه بالمسرح والسينما، ونال تعاطف الكثيرين من رافقه، فهو خريج أكاديمية الفنون، وله إنجازات مسرحية طيبة في بغداد قبل أن يضطر لتركها ومسرحه الأثير لديه هارباً إلى الخارج من ملاحقة السلطة، لم يستطع أن يحقق شيئاً في المسرح في أكثر من بلد أوربي حل فيه، كان يقول:المسرحي ليس كالكاتب أو الرسام لوازمه قليلة، هو يحتاج لخشبة كبيرة، وبناء كبير وزملاء كثيرين يشاركونه العمل وجمهور، المسرحي يموت في الخارج حتماً، وقبل أن أموت أريد أن أحمل بندقية أصوبها إلى صدور من حرموني المسرح. التحق بالأنصار، لكنه بالطبع وجد أنه لا يصوب بندقيته من الجبال إلى صدر رجال الحكومة؛ بل إلى صدور الجنود الفقراء، فألقى بندقيته، وأعد مسرحاً على بقعة صخرية مرتفعة قليلاً عن الأرض، ليمثل أمام رفاقه المقاتلين، مقدماً لهم مقاطع مسرحية من تأليفه، ورغم اعتداده بنفسه، وشعوره أنه ممثل ومخرج عظيم أضاعه العراق، إلا إن قدراته كانت متواضعة، لكنه كان محبوباً يلقى إعجاباً من رفاقه، ورغم بساطة أعماله وسذاجتها كان رفاقه يجدونها جميلة جذابة أو مسلية بين صمت الجبال وبغالها وأشباحها، وقادة حروبها، وجوعها وأخطارها! قال لحسن لطلقة كعادته معجباً بنفسه منبهراً بأي شيء يعن له رغم إنه صار يجد نقداً وتسفيها من جمهوره الصغير:

ـ لدي مسرحية رائعة عظيمة ستهز الجبال!

قال حسن طلقة مبتسماً مدارياً له كعادته:

ـ كنت تقدم مسرحياتك فوق الجبال، وكنت تهزها فعلاً، فكيف لو قدمتها من تحتها؟ ستنسفها بلا شك!

قال، متعالياً كعادته:

ـ لم تعد تهمني الجبال؛ تجاوزتها،أريد أن أهز شواهد القبور، جماجم القادة الفارغة، هذا يكفي!

قال حسن طلقة مسرعاً:

ـ حول ماذا تدور مسرحيتك العظيمة؟

قال، والدود يتساقط من عظامه:

ـ إنها بالطبع تعرض محنتنا، ومأساتنا كشهداء فاشلين فعلاً!

نظر إليه حسن طلقة مستنكراً غاضباً، لكن المسرحي راح يتعتع كما يتحدث حين يسكر في البارات آخر الليل، أو حين يحصل على زجاجة عرق مهربة من إيران أو تركيا إلى قرية جبلية قريبة من رابية مسلحة لمجموعته المقاتلة، رغم إنه كان يتذرع بتأملاته المسرحية ليتهرب من المهمات القتالية، التي قد تودي بجنود كان يصفهم: صبيان مغرر بهم، أو مجبرون!

قال حسن طلقة :

ـ هل لمسرحيتك جدوى، أنها ستأخذ من وقتنا القصير، ونحن نريد أجراء محاكمات كما تعرف؟

قال المسرحي :

ــ ومن يعلمكم كيف تجرون المحاكمات غير الفن. والمسرح بالذات؟ اسمع! هذه المسرحية استوحيتها من مشية السكرتير المتبخترة بين قبورنا وأسميتها (تعالوا نضحك على الشهداء)!

لم يستفز العنوان حسن طلقة، كم دارت في ذهنه مثل هذه الأفكار، الواقع اليوم ينضح بهذه الأفكار، لكنه شك أن يستطيع هذا الممثل البسيط والدعي: الضحك بشكل صحيح وجيد على الشهداء، وجد العنوان مؤثراً ومفيداً!

قال المسرحي:

ـ من تجربتي المسرحية في الحياة والممات وصلت لحقيقة واحدة أن مسارح العالم كلها تقوم على فكرة واحدة: هي ضحك الأقوياء على الضعفاء! وضحك الضعفاء على الأقوياء!

قال حسن طلقة:

ـ المسرح؟ هذه ذروة عظيمة، كيف نصعدها، ونحن في وهدة الموت؟

قال المسرحي مستجمعاً ثقته بنفسه، وغروره القديم الذي لم يأكله القبر:

ـ ليس هناك ما يعيد الحياة لرفاقي الموتى، سوى المسرح ومن سيقدمه بعظمته هنا غيري؟

كل القادة في التاريخ ضحكوا على الناس استدرجوهم إلى معاركهم وحروبهم وحولوهم إلى وقود لمجدهم،ثم ما أن يدفن الشهداء، حتى يغسلون أيديهم من ذكراهم، ويصعدون إلى عروشهم، وأسرة زوجاتهم وعشيقاتهم، يرتبون أرصدتهم في البنوك،يعتبرون أنفسهم متفضلين على الشهداء؛ قائلين: لبينا لهم تطلعاتهم في إثبات الذات وحب الظهور، قتلوا؟ ما ذنبنا؟ هذا اجتهادهم الخاص، لم يستطيعوا تفادي الرصاص، كثير منهم لم يتحل باليقظة الثورية،أو فن الحرب، لذلك سهل اصطياده من العدو! هم اختاروا ذلك، من جاء بهم؟ لنغدق عليهم كل الأوصاف الطيبة، نمنحهم الأوسمة، ماذا يكلفنا ذلك؟ هل هناك ضحك مرير أكثر من هذا؟

وجد حسن طلقة الفكرة مقنعة لكن كيف سينفذها هذا الممثل اللجوج؟ هو لا يتوقع شيئاً جيداً والوقت قصير، وعشتار معه، ولا يريد أن يرتبط بشيء آخر غيرها؛ قال:

ـ لنؤجل مسرحك حتى نرى إن كان سيتبقى لنا وقت في صحوتنا الدنيوية القصيرة؟

قال المسرحي بثقة أكبر :

ـ وكيف لا يتبقى لنا وقت؟ المسرح ينتزع من الموت وقته ومساحته!‍

مرة أخرى وجد كلماته مقنعة، يبدو إن هذا الممثل كان يتطور وهو في قبره، قال حسن طلقة

ـ هيئ مسرحيتك، وآمل أن أستطيع إقناع الرفاق لعرضها.

جذب عشتار ومضى بها، تنشق رائحة جسدها، شعر أن الحب الذي لم يجده في الحياة الدنيا قد جاءه الآن!

سار حسن طلقة مع عشتار لحظات بين الشهداء، وفجأة أحس بالسأم منها، كأنه عاشرها طويلاً قلبها على فراش اللذة، وشبع منها حد التخمة، رغم إنه لم يلثمها ولو بقبلة خاطفة، أدرك أن الخلل فيه، فهو ميت. لم لا يقر بالحقيقة، هو لم يستطع أن يحب امرأة حين كان حياً، كيف يستطيع الحب وهو ميت؟ لم المغالطة؟ قرر أن يتخلص منها لكنه، وجدها تمسك بعظمة ذراعه، ودبيب الحياة والشهوة أيضاً يسري منها إليه، كيف لا وهي الممشوقة الممتلئة برشاقة ودون بدانة ولا ترهل رغم العمر الطويل. نسى سأمه وعاد لاشتهائها، لكنه وجدها تعوقه عن مهمته الثورية الاستشهادية "ما هذا يا حسن، أنت في الحياة الدنيا لم تصدك امرأة في الدنيا عن مهماتك الحزبية والثورية، فكيف تجعل امرأة في الممات؛ مهما كانت عظيمة وشهية؛ تسلب روحك ومبادئك؟ التفت إليها، طلب منها أن تتجول على راحتها بين الشهداء، وتبحث عن تموز أو أن تجلس في زاوية وتنتظره؛ ريثما ينتهي من هذه المهمة التي هو فيها:

ـ مهمة طويلة ومضجرة بعض الشيء ولكنتها ستنتهي على أية حال، وأنت كما أعرف بعمر ابدي سرمدي!

قالت بهدوء:

ـ ومع ذلك الوقت عندي ثمين، أنا عشت أكثر من سبعة آلاف سنة، ومع ذلك لا أضيع لحظة عشق، أعجب لكم يا أحفادي أعماركم لا تتجاوز الستين أو السبعين عاماً، وتضيعون السنوات دون حب، ولا عشق ولا حتى مضاجعة عابرة، يا لكم من أحفاد سخفاء، ثقيلي الدم!

ـ ماذا نقول نحن الشهداء المساكين، وقد ضيعنا أعمارنا القصيرة بهموم حزبية فارغة، ولم نستمتع بلحظة عشق!

قالها بلهجة حادة غاضبة كأن هذه الجدة العراقية الكبيرة أصل المصائب كلها:

ـ أتعرفين يا سيدتي أن أكثر من نصف هؤلاء الشهداء ما توا عذارى لم يذوقوا جسد امرأة، أو حتى قبلة منها!

قالت مبتسمة باستعلاء:

ـ لا أدري كيف من لم يذق لحظة حب؛ كيف يحب البشر ويناضل من أجلهم، بالتأكيد ما أنه دعي كذاب، أو غبي جاهل،وفي ساعة ما، سينتهي إلى الكراهية!

قال حسن طلقة :

ـ على كل حال هذا ما حصل، ذلك نصيبنا!اعذريني سأذهب لعملي وسنلتقي هنا فنحن هنا صرنا كشهب محترقة تدور حول محور ما نعتقد إنه الحقيقة!

ـ الحقيقة غائبة منذ دهور! من قال هي معكم؟ من قال هي عند خصمكم؟ في كل حياتي السماوية والأرضية تعلمت أن لا حقيقة، إنما هناك بحث عن الحقيقة، فهي غائبة هاربة دائماً ومن يلقي القبض عليها يجب عليه أن يلقي القبض على روحه أولاً!

وجد أن الحديث معها سيطول وسيكون ممتعاً، تركها مضطراً:

ـ سأعمل على مهمتي، وألقاك بين ساعة وأخرى!

لم يكد حسن طلقة يرتد بصره عن عشتار مطمئناً عليها حتى قابله الشاب المسرحي، قال له كأنه ضبطه بالجرم المشهود:

ـ هذه عشتار صاحبة المثقفين المترفعين عن البسطاء، هذه كذبة المحلقين بعيداً عن طين الأرض، لا تدعها تلعب بعقلك، هي وزوجها تموز وضباط طائشون فاشلون وآلهة قدماء معتوهون، ضحكوا على الناس بوعود ثورات خائبة كثيرة، لا تدعها تلعب بعقلك!

تحاشى طلقة الحديث معه، قال له وهو لا يريد ان يغضبه:

ـ أنت محق، سنتحدث في ذلك فيما بعد، يا رفيقي!

(42) حين يكون البوسطجي وزيراً ... لا تنتظروا رسالة حب!

كان محمد البيرماني صديقي القديم. رفيقي في قيادة الحزب السابقة، وأحد وزيري الحزب في الحكومة عندما تحالف البعث الحاكم مع حزبنا في الجبهة. بعد انهيار كل شيء وخروجنا، ظل البيرماني مقيماً ببيته في بغداد؛ تحت رقابة رجال السلطةً، توقع كثيرون إنه سيدفع ثمن استقالته، لا أحد من العاملين مع صدام يتجرأ على الاستقالة، ذلك يعني الموت، صدام هو الذي يقيله، أو يقتله. لكنه غض الطرف عن استقالة البيرماني، ادخره لحاجات المستقبل. اخذ يكلفه بحمل رسائل أو دعوات إلى زعماء الكرد، وأحياناً إلى قادة الشيوعيين. كان يقول عنه إنه "معتدل وعقلاني" وهو كذلك فعلاً، لكن السبب ليس هذا، صدام يدرك إن البيرماني يتمتع بسمعة طيبة لدى الشعب الكردي، فأزمع أن يكسب وده عله يدفع به ليكون زعيما للأكراد بديلاً عن الزعماء الحاليين الذين لا يثق بهم مهما تقربوا منه. كثيرون يسمون البيرماني بالبوسطجي، آخرون يسمونه غراب البين، فهو في رأيهم لا يحمل لهم من بغداد غير أنباء الموت والخراب والخداع والحيل والإنذارات! ثمة من أسماه "الجحش المثقف أبو العوينات الذهبية"، حيث ينعت القوميون الكرد، المسلحين الكرد من قبل النظام بالجحوش! البيرماني صديق شبابي رغم إنني أكبره بثمان أو سبع سنين. تخرجت قبله من كلية الحقوق، ولكننا عملنا معاً في المحاماة. جمعتنا مواقف عصيبة قربتنا كثيراً من بعضنا. وكنا معاً في الفريق الذي تطوع للدفاع عن سكرتير الحزب فهد عام 1947 أمام المحكمة المشكلة بإشراف الإنجليز. وقد أفلحنا في تلك المحاكمة من إنقاذ رقبته من حبل المشنقة، وشعرنا بالنصر أننا استطعنا تحدي الحكومة وسفارة الإنجليز، لكنه أعدم بمحاكمة أخرى بدعوى أنه واصل عمله الحزبي من داخل السجن! كثيرون يصمون البيرماني بالخيانة لأنه قبل ان يكون وسيطاً بين صدام وخصومه. منتقدوه والمشككون به أسموه شيوعي الصالونات، اعتاد خمرة السلطة، ترفها ونعيمها وأبهتها! حين كان عضوا في قيادة حزب الكادحين هل رأيتموه يوماً يجلس مع عمال أو كادحين؟ هل رأيتموه يوماً في ثياب بسيطة متواضعة؟ دائماً ببذلة فاخرة متأنقاً متعالياً جافاً مكوياً أكثر من ملابسه؟ ماذا تنتظرون من رجل كهذا؟ هل يلحق حزبه شريداً معه في المنافي؟ هل يغوص تحت الأرض لينظم الخلايا السرية المناضلة ضد السلطة؟ ظل قريباً من صدام حتى صار أحد حاشيته، مسكتاً ضميره بأنه يقوم بوساطة من أجل الحزب ليجنبه كوارث السلطة! لكن في هذا تهويل وفق النبرة المعهودة، فهم يتناسون إنه قضى سنوات طويلة من عمره في سجون العهد الملكي والجمهوري، وتلقى صنوف التعذيب والاضطهاد! ويجهلون طبيعته التصالحية المسالمة القائمة على كره الأحقاد والتنافر، وإن سؤاله الأساسي كان دائما: لماذا يتناحر العراقيون ويتصارعون ويبددون أرواحهم ودماءهم وثرواتهم؟ لمصلحة من؟ كان يقول لي: النفط هبة عظيمة للعراقيين لكنهم لو وهبوا بدلاً منه محبة بعضهم لكانوا أغنى! قلت ولو اجتمع النفط والحب بالطبع سنكون في الفردوس، ولكن كيف يرضى أعداؤنا أن نكون في الفردوس؟ كنت أبرر وضعه أمام خصومه بأنه فعلاً يحمل رسائل وعروض صدام، بحسن نية، ليقي الناس نوبات جنونه الذي ينزل حمماً وغازات سامة على البشر العزل! بعض الناس يختارون الطريق الصعب المعقد للتعبير عن وطنيتهم. همهم بالدرجة الأولى وقاية شعبهم من المزايدات والكوارث والنكبات، حتى لو ضحوا بسمعتهم من أجل ذلك. البيرماني أحد هؤلاء، مقتنع بان لا ضير عند الحاجة من مقاربة العدو، دون الابتعاد عن الأهل! إطفاء بؤر الحقد والجنون في قلب قائد متجبر، أو محتل غازٍ، يقتضي ملاينته وترويضه كوحش. هم يرفضون ما أحدثهم به عنه، أتفهم رفضهم وأراه مع كلامي على نفس المسافة من الحقيقة.

أمس وقف البيرماني عند باب بيتي دون موعد معي أو حتى إعلامي بقدومه، لو إنه أرسل طالباً الزيارة لرفضتها، أو لطلبت تأجيلها؛ فأنا في وضع لا يسمح بتداخل معقد في حياتي هنا. جاء فجأة بموكب من سيارتين مع حراسته، مقدراً، وهذا صحيح، أنني لا يمكن أن أرفض دخوله بيتي، وهو رفيقي وصديقي القديم، ولنا ذكريات وأيام جميلة غابرة!

ثم هو ينقل من صدام رسائل إلى زعماء الكرد وإلى قيادة الحزب الشيوعي وليس لي، وهم يستقبلونه بالأحضان كما أعرف، رغم سخريتهم منه، وهم يعلمون طبيعة مهمته، ويتحدثون مرة عن حسناتها،ومرة عن وسيئاتها، ولا يجمعون بينها! لكنهم على تواصل دائم معه، بينما أنا لم أره منذ افتراقنا في بغداد سوى قبل سبع سنوات، وها هي المرة الثانية يزورني فيها على مدى عشرين عاماً تقريباً! تصرفات قادة الحزبين الكرديين الرئيسيين هنا غريبة ومحيرة، فهم يختلفون في ما بينهم، يتصارعون ويقتتلون على فلوس الكمارك والضرائب وريع الأرض، وعلى مناطق النفوذ والهيمنة، وحتى على التهريب والخمور والنساء أحياناً، ثم يتصالحون لفترات، يتبادلون الولائم الدسمة، ينحرون الخراف وعلي شيش، ويجرون والويسكي جداولاً، وينطلقون يرقصون، ويدقون الطبول والمزامير، يتوحدون ضد ما يسمونه: العدوين القوميين اللدودين: العرب والتركمان، دون أن يغفلوا عن مراقبة الآشوريين والمجموعات السكانية الصغيرة القومية والدينية الأخرى، ويتنافسون في تقربهم من السلطة، وبقدر ما يطرحون من مناقصات في شعاراتهم معها، يزايدون في شعاراتهم أمام الكرد! حين نشرت أمريكا مظلة حمايتها على مناطق حكمهما وعزلتها عن العراق بخطوط وهمية وحقيقية عادوا يتصارعون بحروب دموية طاحنة على ذات الأغراض: السلطة والأرض والمال، وبينما يستعين الطالباني بإيران، يستعين البرزاني بصدام! الحزب الشيوعي يعيش بينهما ضيفاً مقبولاً على مضض! هما يحتويانه في مناطقهما لأنه مروج نشيط ومقنع إلى حد ما لحق الكرد في تقرير المصير، وهما يعدان نفسيهما الزعيمين الشرعيين الوحيدين الذين سيتوليان ترتيب هذا المصير وجني ثماره، وهما باحتضانهما الشيوعيين ينالون رضى اليساريين والتقدميين في العالم، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره لم يعد هذا الاعتبار مهماً! جميعهم: القادة الكرد وقادة الحزب الشيوعي؛ لم يقطعوا خطوط اتصالهم بصدام، رغم العداء الظاهري، ولم يقطع هو خطوط اتصاله بهم، ليس فقط عبر البيرماني بل عبر وسطاء خارجيين وداخليين وضباط مخابرات وسفراء عراقيين ومبعوثين بعضهم صحفيين وكتاب، لكن القادة هنا من القوميين الكرد والشيوعيين إذا أرادوا أن يحرقوا خصومهم أو يتخلصوا من شخص ما اتهموه بعلاقة مختلقة مع السلطة ليرموه بالرصاص ويلقوا جثته للكلاب! شيء حسن من صديقي القديم أنه جاءني بسيارته وموكبه كاملاً، لكي لا يتهمني أحد بعلاقة سرية لي معه! وأنا وهو في عمر يحتم علينا أن نتقبل الأمور بهدوء، وأن نتأمل جراحاتنا لا أن نصنع جراحات أخرى!

نزل من سيارته، فتح يديه معانقاً رغم بروده وجموده المعروفين، عانقته شاعراً برعشة فرح في قلبي، ورأيت بريقاً غامضاً في عينيه!

ظل واقفاً عند باب البيت بقامته الطويلة النحيلة، بدلته الأنيقة،نظارته الطبية ذات الإطار الذهبي البراقة تخفي عينيه الصغيرتين، يحف به مرافقوه؛ ينتظر دعوته للدخول، بدا مرتبكاً كطفل ضبطه أخوه الكبير يسرق الحلوى من صندوق الأب! لكنه لم يستطع أن يطرح شيخوخته وراءه، كان قد هرم أكثر من ذي قبل، ما أثار شفقتي عليه، فاستقبلته باسماً، ومع ذلك قال بحزن:

ـ هل تستثقل زيارتي؟ هل تشعر بالحرج؟

ـ لا .. أنا مشتاق لك كصديق عزيز، لا كسياسي؛ فأنا كما تعرف لم أعد أصلح للسياسة!

قال: بل أنت روحها الحقيقي!

(43) قبل سنوات كان المكان والمزاج مختلفين!

في لقائنا قبل سبع سنوات تحدث مبرراً وضعه:

ـ ربما تعتقدون إنني خائن، لا! لقد اخترت لنفسي هذه المهمة الصعبة والمريرة وأنا أعرف أنها ستضعني في محنة قاسية معكم، ومع غيركم، شكوك ووصم بالخيانة كالعادة، لكن هدفي كان ببساطة محاولة إعادة الوحدة لشعب يتمزق دون طائل، ولقادة جميعهم لا يقدرون ثقل مسؤلياتهم التاريخية، ويغرقون بما هو عابر وزائل! وربما بمصالحهم الخاصة أيضاً! لم أكن أشك به أو بموقفه، كنت أعرف أحزانه القديمة أيام سجون نقرة السلمان وبعقوبة في العهد الملكي، ما كان يطيق فرقة وتقاتل العراقيين، كان يقول هم يبددون جهودهم ودماءهم هباء. بلدنا بحاجة لتآلفهم وانسجامهم، لكنني كنت أخشى عليه لاقترابه من صدام أكثر مما يجب، ليس فقط لأنه أعدم العشرات من رفاقه، وحطم حزبه، وله مع الشعب الكردي قضايا دموية كثيرة شائكة؛ لكنني أعرف أنه لا يستطيع أن ينتزع منه شيئاً جديداً، فقد خبرناه وعرفنا عقمه الروحي والأخلاقي، والبيرماني لا يمكن أن يصنعه من جديد! لكنني كنت أتفهم موقفه أو وضعه، فهو يريد أن ينقذ ما يمكن إنقاذه والتخفيف من عبئ الدم في ظل تعقد وتشابك الأوضاع كلها، لم أكن اشك بوطنيته، لكنني بقيت متحفظاً على طبيعة وعيه لها!

آنذاك، كنا جالسين في بيت فخم بأثاث فاخر لصديق مشترك لنا في السليمانية، أما اليوم فقد جلسنا هنا على كراسيين مخلعين في هذا البيت الصغير العتيق متقابلين يتطلع أحدنا بوجه الآخر كأنه يراه لأول مرة، وليس صديقين منذ ما يزيد على نصف قرن، قلت مبتسما، محاولاً تبديد توتره:

ـ معذرة مقعدك هنا لا يليق بوزير!

ـ تعرف أنا الآن لست وزيراً، ولا بوسطجي كما يقولون عني، ثم أنت تعرف، حتى عندما كنت وزيراً كان كرسيَ مخلعاً آيلاً للزوال السريع!

ـ لنقل مقعدك هنا مقعد فاعل خير!

ـ سمني ما شئت إلا وصمي بالخيانة والعمالة لأحد غير العراق!

حاولت قدر استطاعتي أن أبقى مبتسما له رغم شعوري بغصة غامضة، قلت:

ـ دعنا من المادية التاريخية، ولندخل بالمادية الطبيعية، كيف صحتك؟ هل ما زلت مواظباً على كأسك الوحيد من الويسكي كل مساء؟

جفل قليلاً، تذكرت أننا كنا نغمز بالويسكي عملاء الإمبريالية أو السلطة، وبالفودكا عملاء موسكو، وفي هذه اللحظة المختلطة قد يشعر أنه الآن أحد عملاء أصحاب الويسكي، فشعرت بالندم لقولي هذا، لكن ظل ابتسامة مرتجفة ارتسم على وجهه فجأة، قال :

ـ لا ! حتى هذه النعمة لم تعد الصحة تسمح بها، صار علي أن أتناول كل يوم كأساً من الأدوية المتنوعة‍.

مضى يتحدث عن الوضع العام في العراق والمنطقة، وكعادته استغرق بأدق التفاصيل، راح يستفسر عن رأيي بالوضع، وتوقعاتي للمستقبل، ولم يعرج ولو بشكل طفيف على علاقتي بالحزب وقيادته الحالية، لكنه قال :

ـ رفيق! كثيرون يعرفون وزنك السياسي، تاريخك وحكمتك!

بعد برهة صمت استعاد رصانته الشديدة الجافة التي لم أكن أحبها فيه حتى أيام رفقتنا النضالية الغابرة، قال :

ـ ماذا تريد أن تقول للسيد الرئيس؟

وحين وجدني صامتاً أنظر في وجهه الذي وجدته كوجهي تتداخل ملامحه وتمحي كقطعة من عجين، قلبته خميرة الزمن طويلاً، قال :

ـ اطمئن كلهم حملوني تحياتهم واقتراحاتهم، أو مطالبهم للسيد الرئيس!

ـ وما الجدوى من قول كلام سيهمله؟ أو حتى لن يسمعه؟ أتذكر أيام الحرب مع إيران حملتك مطالب أو توصيات كما طلبت، لا شك عندي أنك نقلتها له، ولا شك عندي أن العشرات، وربما المئات قالوها له بكلمات مختلفة، ولكنه ظل راكباً رأسه، حتى أفلح الخميني في إطالة الحرب ثماني سنوات، وهرس بشراً كثيرين من الطرفين، وقد تغير حكام كثيرون في العالم؛ بينما صدام لم يغير طريقته في الحكم!

نهضت لأعد الشاي، لكنه طلب مني الكف عن ذلك والعودة للجلوس معه!

ـ اعتذر وقتي قصير!

رحت أعد دورق الماء وأجلب بعض الكؤوس، تذكرت جيداً كيف تحدثنا آنذاك، قبل سبع سنوات، في زيارته الأولى لي، كان قد قال:

ـ هناك فرق كبير بين من تسبب في الحرب، ومن بدأها، نقول أن صداماً بدأ الحرب، ولكن علينا أن نبحث عمن تسبب بها، تجاوز على حدودنا، وقطع عنا الماء، وتدخل بشئوننا، واحتل الجزر العربية، وأيقظ الفتنة الطائفية، صدام أراد التصدي لذلك؛ فبدأ الحرب، ثم أراد إيقافها بعد أيام عندما شعر أنها ورطة كبيرة، ومتاهة أوحال، لكن الخميني، وقد استيقظت في أعماقه كل عقد وأحقاد التاريخ، رفض إيقافها متجاهلاً النداءات والقرارات الدولية، الحرب الآن هي حرب الخميني ضد العراق تحت شعار براق: الطريق إلى فلسطين يمر عبر كربلاء. لهذا فالرئيس الآن في حرب دفاعية وطنية، وتقتضي أن نقف معه لا أن نخذله،وخلافنا معه لا يعفينا من مسؤليتنا إزاء الوطن، مهما كرهنا الحاكم، يجب أن نبقى نحب الوطن!

كان هذا رأيي وقناعتي أيضاً، لذلك بادرت لموافقته على الفور، قلت:

ـ ولكن الواجب على صدام أن يبادر لتسهيل عودة مشرفة للمعارضة فهي قوى وطنية، ويقوم بما يمكن أن يجعلهم يثقون به، فهم لم يعرفوا منه سوى الغدر، ونكث العهود!

قال بلهجته الدبلوماسية:

ـ هذا يمكن أن يرتب بمباحثات سهلة!

عاد صمت متوجس بيننا،قطعه بصوته المتمهل الناعم:

ـ وأنت يا رفيق هذه حياة لا تليق بك، لدي رسالة من السيد الرئيس، هو يدعوك للعودة إلى بغداد، وسيعاد لك بيتك المصادر، وإذا شئت تستطيع أن تختار بيتاً آخر في القادسية، حي الوزراء، المطل على دجلة!

ندت عني ضحكة سريعة مقاطعاً قلت:

ـ المشكلة ليست معي، ولا مع بيت يطل على دجلة، صحيح إنني على خلاف مع قادة الحزب، ولكن ليس لائقاً، ولا مفيداً أن أعود أنا وحدي؛ بينما آلاف من رفاقنا غير مقتنعين بإمكانية العودة، والعمل مع صدام، لقد غدر بنا جميعاً، وبوحشية ويصعب أن نثق به ثانية!

خيم صمت ثقيل، خيل لي إنه أدرك بماذا أفكر، أهو استدراج؟ ألم يلبي دعوتهم عضو قيادي انشق عن الحزب مصدقاً وعودهم، وبعد ظهوره ببرنامج في تلفزيونهم؛ دخل إليه في بيته رجال من المخابرات، ربطوه إلى كرسي كان جالساً عليه ليكتب بنود تحالفات جديدة معهم،وانهالوا على رأسه ببلطة هشمته، وتركوا طبعة شفاه حمراء على كأس خمر بجانبه، ليوحوا أن من قتلته امرأة اقتادها إلى بيته وحاول اغتصابها. ثم دبروا لرفيق آخر عاد معه حادث اصطدام سيارته فخرج منها بفلتة مرعوباً مكسر الأطراف متورم الوجه، فساعده أقاربه على لملمة عظامه وإعادته إلى باريس؛ لتلقي العلاج والانكفاء، وقد سمى هو حلمه السياسي مع النظام في مقابلة لإحدى الصحف ب(الحمل الكاذب الذي يخامر امرأة عجوز في الثمانين!)

طرح محمد البيرماني سؤالاً ربما أراد منه أن أضغط باتجاه حل ما لقضية كان قد ناقشها مع قيادة الحزب:

ـ طرحت على قيادة الحزب ضرورة إيقاف قتالهم للجيش، قالوا إننا لم نصطف، ولا مرة واحدة مع الجيش الإيراني في حربه ضد الجيش العراقي، ولكن هذا تلاعب في الكلام، فهم يحاربون الجيش من مكان، والجيش الإيراني يحاربه من مكان آخر، والنتيجة واحدة: جميعهم بنادقهم مصوبة ضد الجنود العراقيين!

ـ محاربة الجيش الآن خطأ فادح، جريمة لا تغتفر،إلا إذا هو هاجمهم دون سبب معقول. وينبغي أن يكون الرد بحدود الدفاع عن النفس.

قال: بصوت هادئ مستريح:

ـ أشكرك كثيراً فنحن تقريباً لدينا آراء متطابقة أو متقاربة! ولا عجب فنحن كونا خبراتنا على طريق واحد طويل!

ـ تقارب أو تطابق الآراء لا يعني أننا في نوايا واحدة، أقصد آراء صدام وجماعته طبعاً!

كان كثير النظر إلى ساعته، عادة قديمة فيه، ليشعر نفسه أو الآخرين أن وقته ثمين جداً! في لقائنا ذاك، قبل سبع سنوات سألني:

ـ هل لديك ما تريد أن أنقله للسيد الرئيس!

لم تكن بيده أوراق، لكنني كما عهدته يتمتع بحافظة ذهن جيدة، لا بد أن مرافقيه يحملون معهم مسجلات وكاميرات سرية فهذه مهمتهم أصلاً، لذلك تعمدت أن أتحدث بصوت مرتفع وواضح:

ـ قل له أن يوقف الحرب، حتى لو استمر الخميني بها، بذلك سيحرجه ويضعه في زاوية ضيقة ستضطره لوقفها، أو يمنى بعزلة عالمية خانقة! يطلق سراح السياسيين المسجونين من كافة الأحزاب والجماعات، ويكشف عن مصير آلاف المغيبين، وإن يرد الاعتبار للذين أعدمهم ويعوض أسرهم، ويعتذر لهم وللمنفيين وللعراقيين جميعاً، ويهيئ كل السبل لعودة مشرفة للمعارضين، ويسمح لهم بإصدار صحفهم ومنشوراتهم، قل له إنه بصفته الطرف الأقوى عليه أن يكون شجاعاً حقاً ويعترف بأخطائه، وأن يكون موضع ثقة لا موضع شك، ولا يطالب الضحايا بمزيد من الآلام! وان يتعهد بتطبيق الديمقراطية حال إنهاء الحرب!

كان يهز رأسه كالضجر، أو من يعرف استحالة الاستجابة للرسالة، لكنه قال:

ـ أعدك أنني سأوصل كلماتك حرفياُ لسيادته!

كنت أعرف ومن خلال عملنا السابق في الجبهة، أن صداماً يقلب كل كلمة تقال من خصومه خاصة، حللها بطريقته طبعاً ثم في النهاية لا ينفذ إلا ما كان في رأسه، وإنه لا يتأثر ولا يتغير، وإنه يتلذذ بنداءات خصومه اليائسة، وهذا سر جمود الأوضاع وتدهورها تحت حكمه، وتحجر حزبه وتفسخه تحت قيادته. وما سيأتي من كوارث!

(44) صديق أم صياد نسور؟ لا يوجد بوسطجي جميل في زمن الكراهية!

اليوم وبعد سبع سنوات عجاف وجه البيرماني لي نفس السؤال:

ـ هل لديك ما تريد أن انقله للسيد الرئيس؟

أشحت عنه، حل صمت ثقيل بيننا، أحسست بتزايد سأمي منه، ومن هذا اللقاء الذي تمنيته أن يكون بشكل آخر، فيه استمتاع بذكرى أو حلم أخير، في هذه الدنيا التي لمسنا فناءها السريع، تنبهت عليه يستحثني أن أقول شيئاً:

ـ هل صار صدام بعد ما جرى في حرب الكويت؛ يطيق سماع كلام مر جداً؟

ـ الآن السيد الرئيس حريص على سماع النصيحة، وعليه الأخذ بها، مهما كانت مؤلمة!

ـ رغم هول ما جرى للعراق، لا أظن إنه قد تغير، أو سيتغير، ومع ذلك، سأقول كلمات قليلة لا من أجله طبعاً، بل من أجل وطننا! قل له أن يعي أن الوطن والناس في خطر رهيب هذه المرة، أمريكا تحتل اليوم العراق من الجو، وفرق التفتيش تحتل قصره وحجرة نومه، ومكتبه، وإذا كان قد تجاهل كل شيء؛ فلا يمكنه تجاهل الحقيقة الكبرى وهي: إن أمريكا تحتل العراق فعلاً، وصدام نفسه يحكم في ظل احتلال! وللخروج من المأزق عليه أن يشكل مجلس إنقاذ وطني يضم عقلاء وحكماء يتولون أمر البلاد، ويواجهون المخاطر الهائلة، ليكن هو على رأسهم، لا يهم، المهم أن يأخذ بنصيحتهم، قل له الوضع لا يحتمل كثيراً، لم يتبق سوى ان تدخل الدبابات الأمريكية بغداد وترفع العلم الأمريكي على القصر الجمهوري، وسيكون هو المسؤول الأول عن ذلك، وهذه أضحت مسألة شكلية، وتحصيل حاصل؛ وما سيأتي عهود ظلام وهلاك ودمار لم يشهدها العراق في كل تاريخه!

غمر وجه البيرماني تقطيب حاد مكفهر، لكنه ابتلع ريقه:

ـ سأنقل كلماتك كما هي؛ على مرارتها!

وعاد ينظر إلى ساعته، قال:

ـ اعذرني لدي مواعيد كثيرةً!

تذكرت أن عمل ساعي البريد كثير وشاق، فهو ينبغي أن يدور على المحلة كلها، لكن ساعي البريد العادي شخص محبوب، وعمله لطيف جداً، فهو يلتقي بوجوه أناس تنتظر رسائل من عشاق، وأحباب ومفارقين، بينما رسائل البيرماني ثقيلة الدم، عتاد يوزع على مقاتلين ينتظرون حروباً مجهولة غامضة. من خبرتي معه، ومع غيره اكتشفت أن معظم وزراء العهود الثورية في العراق، لا يصلحون حتى لمهمة بوسطجي، فهم لا يوصلون الرسائل لأصحابها، بل يمزقون أغلفتها، يطلعون على أسرارها الصغيرة، يخونون الأمانة ويستثقلون رسائل الحب، فهي ليست لهم طبعاً، يستدعون أصحابها، إلى مكاتبهم للتحقيق معهم، لا يوجد بوسطجي جميل في زمن الكراهية‍!

عاد الصمت يجثم علينا، كان فقط يرفع إصبعه لتثبيت نضارته الطبية على عينيه وتلك عادته حين يتحير أو يشغله أمر محرج. نهض، فنهضت معه. جذبني من كتفي إلى زاوية قريبة. أخرج من جيبه رزمة دولارات ومد يده بها يريد دسها في جيب بجامتي محاولاُ أن لا يجعل حراسه يروننا. أمسكت يده: وقد ندت عني صيحة غاضبة؛ فوجئت أنا بها أيضاً:

ـ ما هذا؟ أتريدون شرائي؟

ارتبك مرتجفاً، سحب يده بالنقود وهو يتمتم خجلاً :

ـ إنها مني، صدقني! إنها مني! ألسنا أصدقاء؟ لكنني بقيت مهتاجا، أحسست بصدري يعلو ويهبط، يكاد ينفجر، ولهاثي يعلو:

ـ لم تطعنني هكذا؟ ماذا دهاك؟ هل جننت؟

ظل يردد هامساً متحيراً، وقد اختنق صوته:

ـ لم أكن أقصد، هي مني، قدرت أن ظروفك صعبة!

ـ اطمئن أنا بخير!

أخذ يتمتم حزيناً، وتركته دون أن أخطو معه إلى باب البيت، قر في نفسي إنه قد شعر من كلماتي وإدارة ظهري له أنني قاطعته نهائياً! ولا أريد رؤية وجهه ثانية!

حين واربت الباب خلفه، أحسست بالشجن وندمت إنني قد ثرت بوجهه. شعرت إن الأمر بسيط، وما كان يستوجب ثورتي، كان ينبغي أن أرفض نقوده وأصرفه بهدوء وبساطة، فهو صديقي القديم، ويعرف خلقي وطويتي ولا يمكن أن يفكر بشرائي أو رشوتي على وطنيتي، وقد أراد أن يساعدني مادياً فقط لا غير! عزوت غضبتي؛ لعمق حساسيتنا! أم تراني مخطئ؟ وهو أيضا قد تهتكت ذاكرته وسريرته! كم خربتنا السياسة؟ نخرت أرواحنا، أتلفت ذكرياتنا وأيامنا القديمة الطيبة، أحسست بعد ذهابه بصمت حزين، اعتراني شجن. ارتديت ثيابي وخرجت على عجل. رأيت بعضاً من سكان المحلة ينظرون إليُ! من حقهم أن يتساءلوا: من هذا الذي يسكن البيت الصغير المجاور ويزوره أشخاص بموكب وفخفخة؟ رحت أتملى سماء القلعة، والفضاء العميق الأزرق. كم توالى على حكمها من جبابرة؟ كم مرت في دروبها سنابك خيل محاربين. عجلات ملوك وكهنة منتصرين ومهزومين؟ لماذا صرنا بهذا الحال؟ صديق لا يفهم صديقه. حاكم لا يفهم شعبه أو واجبه. شعب لا يفهم نفسه، ولا وطنه ولا حكامه!

توقفت برهة، حيال شمس تجر شعاعها الغارب من فوق القلعة، سألت نفسي: هل ما يزال محمد البيرماني طيبا، ولم تفسده السلطة بضغوطها، أو وعودها كما يحدثني قلبي الخدر بنسيم الماضي، وذكرياته العذبة الحزينة؟ أم تراه هو الآخر قد فسد وأضحى ما هو أسوء من بوسطجي لرسائل الشيطان؟ صياد نسور نادرة أصيلة، تحنط،تملأ بالقش، توضع في قاعات القصر الرئاسي!

(45)  شهرزاد تأتي من الموت حاملة ألف ليلة وليلة من المرح!

سمع طلقة صوتا رقيقاً مغناجاً يقول:

ـ حسن ..يا حسن.. يا حبيبي يا حسن!

صوت رقيق دافئ احتار، أين سمعه من قبل؟ في الواقع لم يسمعه في حياته من قبل، فحياته الرياضية أضحت قاحلة بسرعة مذ اعتنق الشيوعية، واعتقد أنها تقشف ونسك وطهارة. في الصوت الذي يسمعه لأول مرة رقة ممتزجة ببحة جنسية مغرية تجعل ما بين فخذيه من رماد يستحيل جمراً، تلفت إلى مصدره فجاءه ثانية:

ـ لا تراني أنا خلف غلالة رماد ولكن احزر من أنا ؟

ظل متحيرا، قالت:

ـ سأقرب لك الأمر، أنا من حملتها في حلك وترحالك بين الجبال والكهوف والربايا المسلحة في مجلدات أربعة، أنسيت كم سهرنا معاً أحدثك وتحدثني!

صاح بشهقة كادت توقف قلبه الخفي ثانية:

ـ شهرزاد شهرزاد يا حبيبتي يا شهرزاد!

نعم هي شهرزاد وقد انطوت كساحرة في صندوق ذهبي من أربعة أجزاء هي ألف ليلة وليلة (طبعة بولاق بعريها اللذيذ، وألفاظها الفاحشة الصادقة العذبة) كان بعض رفاقه يبدون استغرابهم كيف يحمل هذه الكتب الخليعة المائعة إلى جانب مذكرات جيفارا والجنرال جياب وهوشي منه وماوتسي تونك وميشيل دوبريه (إضافة لجريمته الفكرية السابقة في عدم حمله لكتب فقهاء السلفية الماركسية الأولى الذين كما يقول: شابت لحاهم الثورية في صورهم على الجدران السرية، وذاكرة الرفاق قبل أن تشيب على ذقونهم حقاً) ويستغرقون متحدثين كيف يمكن أن تستقيم كتب شرائع الثورات الجديدة وحروب الفقراء وعصاباتهم الباسلة مع حكايات عشق الجواري والغلمان ودسائس ذات الدواهي والقهرمانات الخبيثات ذوات الشهوات التي لا تنطفئ إلا على أسرة الأمراء، وفي خوابي خمرتهم المعتقة!

ـ كم محفل الشهداء سخي كريم، قبل قليل التقى فيه عشتار، والآن شهرزاد. هل جاءت لتسجل ما سيحدث، فعيناها الجميلتان هما أعظم من أية عدسة كاميرا فيديو أو سينما في هذا العالم ومن أجدر منها لتشهد عذاباتنا وحكاياتنا.عل يوماً يأتي فتصعد للعالم العلوي وترويها للعالم وللأجيال القادمة والمعذبة مقدما!

-         كيف انبثقت اليوم من بين ركام الكون المنتشر سديماً هائلاً غامضاً، كيف جاءت وهي عشيقة الملوك وضجيعتهم الشبقة وجليستهم اللبقة إلى هياكل الثوار البائسين؟ تقدم منها أزاح عنها غلالة الرماد المتموجة واجف القلب خشية أن يجدها هيكلاً عظميا.رآها،لا تزال بجسدها الحي وقد صار نحيفاً ممشوقا، غصن زهر ذابل قليلاً، يزال يحمل عطره ورونقه، والوجه جميل فاتن قادر كما كان على أن يثني ملك عن قتل امرأة أو رجل أو شعب بأكمله. تجرأ وانحنى على يدها، لثمها تاركاً عليها ما تبقى من تراب شفتيه مختنقاً بدموع خفية قال:

ـ آه كم أسعدتني حكاياتك في ليالي عمري الحزينة الجافة، بددت عني وعن رفاقي الكثير من وحشة الجبال ورائحة البارود،عوضتنا عن الورود والعشب المحترقين بنار الثورة والسلطة معاً!

قالت بصوت راقص كأنه يصدر عن مراهقة لا عن امرأة مسنة مجربة عاشت عهر وطهارة العصور كلها:

ـ واليوم جئتكم بألف ليلة وليلة من المرح!

قال بصوت حزين :

ـ وأين القلوب يا شهرزاد التي تعانق المرح؟ ها أنت تريننا هياكل عظمية تصفر بها ريح العالم السفلي!

ـ انا مستعدة أن أسهر ألف ليلة وليلة؛ مقابل ساعة من فرحكم!

ـ آه كم أنت كريمة، بينما رواة القصص في هذا الزمان أداروا ظهورهم لمآسينا، أخذتهم تلفزيونات تدفع أكداس دولارات مقابل تسالي وأكاذيب عاطفية وأوهام؟

قالت مستنكرة:

ـ لا يمكن لقصة حب أن تتحول إلى تسلية فهي ذوب قلب وحرقة روح، ومتى ما صارت تسلية كشفت نفسها: كذبة أخرى!

ـ تحملت عناءً كبيراً في مجيئك من بغداد قاطعة مئات السنين!

-         قالت متداركة :

-         ـ من بغداد؟ لقد هجرت بغداد، مذ غادرها سيد الطرب والترف والعشق هارون الرشيد!

-         تفكر لحظة حسن طلقة:

-         ـ ولكنك حسب علمي لم تعشي في عهده، بل جئت وصنعته ثانية،فأنت من انتزعه من العدم،فظل خالداً معك. كيف تقولين إنه هجر بغداد؟

ـ لا وجود لهارون الرشيد دون بغداد فعندما استعبدها كجارية أصحاب العمائم وداستها، سنابك المغول قبل قرون، تمزقت روحي معها ووجدتني أفر منها كطير يفر من شجرة تحترق!

-         ـ وأين ذهبت؟

-         ـ أبوح لك الآن بسري، تواريت منفية أجوب متخفية أرجاء الدنيا احمل قيثارتي وأغني على أبواب حانات العالم! وأحياناً أتسلل إلى رياض الأطفال في أنحاء الدنيا، أروي لهم كأية جدة عتيقة معتوهة حكايات عن الحب المفقود بين البشر!

-         لم يكن حسن طلقة مصدقاً ما يرى. أحس بهيكله العظمي وقد صار بجناحين، ولكن أين يطير؛ وهو محاط بجدران عالم ما تحت الأرض؟ قرر أن يستغل فترة عدم اكتمال الجمع، أو تشكل ما أزمع الشهداء عليه من محكمة، ويقضي معها وقتاً تتحدث له فيه عما رأت في رحاب الدنيا، وما تبقى في روحها من عطر بغداد وذكرياتها وندى لياليها وأصباحها، وهل ما تزال في روحها أصداء مما تردد في حجراتها، وعلى ضفافها المشرقة بالخضرة والطيور، وعيون الحسان السارحة بين جنات وبيوت الرصافة والكرخ! هي كما يعرف لم تكن عراقية، تفتحت زهرتها الغضة المكتنزة بالشهوات المؤجلة أو المتسامية بين زهور البهار، وسواقي الفلسفات السمحة والمتزمتة في الهند، وبعد أن حطت كحمامة على أغصان أشجار بلاد فارس، وتشبعت بشذى أشعارهم وأحلامهم وروحانياتهم؛ جاءت بغداد لا لتشهد ليالي هارون الرشيد الحالمة؛ بل لتستعيده وتخلقه من جديد،بعد ان توارى مع عهده السعيد. وهي لكثرة ما حلمت بها وتشبعت بأريجها وأنغامها صارت تعتقد أنها قد عاشتها في ظلال الرشيد، ربما هي جاءت بغداد لتلئم جراحها وتمنحها العزاء بعد فقدان حضارتها وألقها ومباهجها وعيشها الناعم الباذخ باحثة عن المزيد من الأحلام الضائعة: هي لم تعد هندية أو فارسية أو عربية، فهي تولد كل يوم: امرأة بغدادية جميلة ذكية مثقفة، مسجلة في القلوب مواطنة صالحة، عظيمة في دول العالم كله، تحمل هموم الناس على اختلاف أجناسهم،أحلامهم، اتزانهم، هوسهم، أين الملوك والأباطرة والجبابرة العتاة الذين دوخوا العالم أزماناً طويلة؟ أين خليلاتهم ومغنياتهم الأجمل والأهم منهم؟ أنهن هناك في كلماتها يأتوننا نسمات فجر، وورد ليال ناعمة؟صار يحدث نفسه: ما الذي يدعوك يا حسن طلقة لأن تثق بشهرزاد المولعة بحكايات الملوك والأمراء والقوادات والسحرة واللصوص؟ من غير المتوقع أن تتواضع شهرزاد وتصغي لحكايات الثوار؛ خاصة إذا كانوا خائبين مدحورين! فهي حتى إذا كانت قد تنازلت في زمن مضى وقاربت آلام العشاق المدنفين، وجارت صخب غرائزهم وصبواتهم، وخالطت المتهتكين والمتعطشين للحب في شذوذه وجنونه، والمتمردين على عسس الحكام، وأسواق التجار، وخالطت الراجمين بنار شهواتهم محاريب الأئمة والقديسين، والباكين على أبواب الأمل، والضاحكين على أبواب اليأس، والصافقين خلفهم أبواب الهجر، والمكر،وأبواب الغنى والفقر، والسلطة والعهر،نازلين سفن السندباد المصارعة أنواء النفس قبل أنواء البحر،فهي اليوم لن تجازف بما تبقى لها من روح لترافقك وأصحابك الثوار الخطرين الذين لا متعة ولا سلوى لهم غير الإدمان على دخان السياسة وكؤوسها المرة.صمت برهة ثم قال لنفسه: مع هذا يمكنك أن تصدقها ساعة وتقضي معها ما تجد من وقت. ربما عالم الموت قد قلبها من حب الأمراء والسلاطين إلى حب الثوار والمناضلين، فالموت هو المعلم والمربي الأعظم، ربما تحدثكم بما هو ممتع ومفيد وربما تستدعي لكم من القبر هارون الرشيد بجبروته وفساده وفجوره، وما تبعه من خلفاء مهملين فاسقين لتحاكموهم بدلاً من قيادة حزبكم، فمآسي اليوم ومصائبه وانحطاطه هو نتاج تلك العهود التي قضاها الحكام الكبار القدامي بالإهمال والتفريط والكسل والانحراف، دائرين بين المحاريب وكتبها المملوءة بالعناكب، والحانات وجواريها وغلمانها وخمورها الطافحة،فالهزيمة والمأساة بدأتا من هناك! ومع ذلك دعها تروي قصتكم على طريقتها حتى لو جاءت مخالفة لما يحكى اليوم من قصص وروايات، ولكن هل للحكايات منطق أو قانون؟ وأي إنسان غير الأبله الساذج يضع للحكايات والروايات والقصص وصفات طبية؟ وعلك تجد عندها إجابة لسؤالك الذي كتمته طويلاً: ما الذي أتى بي للسياسة والأحزاب وأنا الحالم الطائر بأجنحة الحكايات والقصائد والأغاني والراكض مسافات طويلة مجتازاً كل الموانع طبيعية أو اصطناعية،كنت أركض باحثاً عن تفوق، عن مدالية ذهبية، أو شهرة. حين صرت أركض بين الجبال حاملاً بريد الثوار، صرت أقول لنفسي ها أنا أركض باحثاً عن روحي؟ عن روح وطني؟ عن روح حياة ضائعة زائلة تسبقني مهما أسرعت في عدوي بين الجبال وحافاتها العالية السحيقة، عن وجوه أصدقاء وأحبة ضيعتهم في دروب الليالي؟ عبثاً، لم أجد سوى شمس غاربة، وظلال هاربة، حتى صرعتني رصاصة كانت تركض أسرع مني، هل يجدي أن أسأل شهرزاد أو عشتار عن جواب لسؤالي الذي أتعبني في حياتي وموتي؟ لماذا وصلنا لهذا الحال؟ أحس فجأة أن وهجاً أضاء المكان، والكهف الكبير يمور بالنور في داخله، ورغم أنه لا يؤمن إلا بالعلم، لكنه في هذه اللحظة سمح لقلبه الخفي أن يأخذه حلم عظيم سعيد، فعشتار هي إلهة الخصب والنماء، لم تأت إلى عالمهم هذا، عالم اللارجعة، عالم الفناء الأبدي، دون غاية لا بد أنها، وهي جدة العراقيين الرحيمة، قد جاءت لغاية طيبة، ربما لمسة منها تجعل الفرحة تسري في عظام هؤلاء الأموات الأحياء، أليست هي التي حيث ما مرت قدماها تفجرت الينابيع وجرت الجداول وبزغت الأقمار والكواكب، ونهض الأموات من رقدتهم! ستتولى شهرزاد سرد حكاياتها المسلية الملهمة، وتسجيل مأثرتهم الحالية، كم المرأة رائعة، طيبة حنونة! الرجال يخربون العالم، وتأتي النساء لإصلاحه، هذا ما يحدث اليوم، وكل يوم! هناك أمل كبير،عليك يا حسن ابن طلقة أن تمسك بعشتار وشهرزاد ولا تضيعهما حتى لو فشلت المحاكمة فذلك لن يعني نهاية كل شيء، الآن ردت الروح لعظام الموتى، كل الموتى، قال :

ـ سيدتي لا يوجد شعب في العالم منشغل في السياسة كالعراقيين، هم يجادلون ويتناقشون بها حتى وهم يأكلون ويشربون، أو يتضاجعون ويحلمون، أو يتغوطون، ويتقيأون، هم مبتلون بالسياسة ابتلاء الخيول بالقراد، والإنجليز بالضباب، ولكن لا يوجد شعب فاشل في السياسة، غبي، جاهل بها خائب فيها مثلهم! هم يفتخرون أنهم مفتحون باللبن وبالطين،وبالرصاص وكل أنواع المعادن والأخشاب ولكنهم في الحقيقة لا يستطيعون رؤية الطريق الصحيح حتى تحت شمسهم الساطعة! رجل دين جاهل أبله واحد، أو حزبي دعي، أو ضابط واحد نصاب، يأخذهم إلى النهر ويأتي بهم عطشى! هل رأيت في العالم، أو في قصصك مهزلة كهذه؟ بعد قليل سنشهد معاً ساعة حقيقة نادرة محاكمة رجال ضللونا طويلاً ولكن هذا ليس مهماً، حضوركما أنت وعشتار أمل لنا، أمل للعراق التائه الشريد!

ـ هذا مؤسف، عهدي بهم قديما، أذكياء ظرفاء أهل شعر وفكر وغناء وفكاهة ومرح، أشكرك على إطراءك، ولكن لا تعول عليّ كثيراً، أما عشتار هذه؛ فلم تدخل عقلي منذ سمعت بها، وجدتها متعجرفة، اختارت سكنى السماء، مترفعة علينا نحن سكنة الأرض، ومع ذلك أنا مستعدة لإيجاد طريقة للانسجام معها!

قال ضاحكا: أنت يا سيدتي روضت الرجال، فكيف بالنساء؟

قالت بلهجة الخبيرة:

ـ أسهل علي ترويض ألف رجل، من ترويض امرأة واحدة، خاصة إذا كانت مغرورة!التفتت إلى حشد الشهداء قالت، فقط لتغير مجرى حديث يتعبها:

ـ أراهم بسحنات مختلفة!

ــ فعلاً، معظمهم من عوائل فقيرة، كادحة ومعدمة، أو موسرة قليلاً، ولكن تجدين بينهم رفاق من أسر غنية، أو أنهم كانوا ناجحين في حياتهم العملية والاقتصادية، ولا يعانون من أي عوز مادي، وقد جاءوا فقط تلبية لنداء ضمائرهم في ضرورة أن تكون السعادة والرفاهية والعدالة للجميع، وهؤلاء كان يحظون باحترام خاص؛ ذلك من الواضح أنهم ما جاءوا من أجل مكسب خاص!

توقفا في سيرهما، كان المخرج المسرحي، لا يزال مصراً على تقديم مسرحيته " تعالوا نضحك على الشهداء" وقد أقنع بعض ممثلين قدامى تقاعدوا مع الموت على المشاركة معه في تمثيلها، وهم الآن يجرون بعض التدريبات عليها، راح مع شهرزاد يرقبانهم، كان صوت الممثل يرتفع مجلجلاً يهز صخور عالم الموت:

ـ لا يستشهد إلا المغفلون، لا يقبل الاستشهاد إلا السذج والجهلة والسطحيون، العاطفيون المرضى، الواهمون فقط؛ يسعون لموتهم وعذابهم تكفيراً عن ذنوب لم يرتكبوها،أو يموتون لطموحاتهم المجنونة،ويقولون أنهم يموتون من أجل الآخرين.

الممثل الثاني: لا أنت منفعل،متحامل هم يموتون من أجل غيرهم، ومن أجل القيم العليا، هم مخلصون للوطن، أوفياء للمبادئ؟

ممثل آخر يتحدث غاضباً:

ـ عن أي وطن تتحدثون؟ عن أي أرض وسماء وماء وهواء تتحدثون؟ هل يمكن أن يكون الغني عراقياً، والفقير عراقياً بنفس القدر؟ الوطن الحقيقي هو الطبقة وليس الأرض،يا سادة؛ المكان الذي لا أجد فيه لقمة خبز، أو مأوى ليس وطني، لذا الحقيقة القاهرة والتي لا مفر منها إنني بلا وطن. عن أية وطنية، وأي خراء تتحدثون؟

تقدم رجل،طويل نحيف بلحية بيضاء، وجهه وسيم رغم تقدمه في العمر، على وجهه سيماء بهاء، ربت على كتف أحد الممثلين كان أبنه، لم يوجه حديثه له وحده، جال بنظراته على الشهداء القريبين منه، قال:

ـ اسمعوا يا أولادي، أنا قضيت عمري صلاة وصوماً ونسكاً وحرماناً من متع الدنيا أملاً بجنة الله، سألني أحدهم ماذا سيكون موقفك لو بعد الموت اكتشفت أن لا جنة ولا نار؟

لم يفاجئني سؤاله، فأنا قد طرحته على نفسي مرات ومرات، فلا مؤمن حقيقي دون شك، أجبته:

ـ بكل بساطة أعانق موتي وأكتفي به، فهو الراحة الأبدية حقاً من خدعة الحياة والموت! أقول لكم يا أولادي، لا تتعبوا أنفسكم، بمحاسبة أنفسكم أو غيركم، الصدق والوفاء،الخداع والضلال أشياء تتبادل مواقعها كما الكثبان في الصحارى، أين تبدأون، وأين تنتهون؟ عودوا لنومتكم اللذيذة الهانئة، لا تقلقونا بشأنكم!

لكن الشهداء الممثلين واصلوا تمثيلهم:

ـ عن أي وطن تتحدث أيها المخبول؟ وطن لا أمتلك فيه شبراً واحداً، ليس وطني، أتريدني أن أستشهد في سبيله، من أجل أن يستمتع به الأنذال هم وأبناؤهم المترفون وعاهراتهم؟ أية مبادئ نخلص لها؟ لا بد إنك تعني الشعارات والأكاذيب والكلمات الطنانة الفارغة التي يصوغها جهلة يهرفون بما لا يعرفون، لا يدركون أن الكلمة مسؤولية، جبناء لو أتيت بهم أو بأبنائهم ليموتوا من أجل ما طرحوه من أفكار؛ لبالوا على أنفسهم، وولوا هاربين!

ـ لو امتلكت اقطاعيات وشركات في وطنك هل ستموت دفاعاً عنها؟

يضحك، وهل سمعت بإقطاعي أو صاحب شركة استشهد؟ لا طبعا، سأؤجر مساطيل يستشهدون نيابة عني!

ـ لو هدد أحد حياتك، مد يده إلى عنقك ليقطعه ألا تموت من أجل نفسك؟

ـ سأحاول دفعه عني بكل الكلمات الطيبة!

ـ وإذا أصر على قتلك؟

يتلجلج صوت الممثل؛ متصنعاً الارتباك:

ـ آنذاك لا مفر من القتال!

يأخذ الممثل بالتصفيق منتصراً:

ـ أنظر! أنت ستقاتل، ستستشهد من أجل نفسك، لا بأس إذاً لا مفر من الاستشهاد، طالما هناك أشرار، طماعون جشعون، هناك حروب وصراع وموت، وستسمع عن شهداء ومضحين!

يتصنع الممثل استعادته لرباطة جأشه:

ـ نعم أموت من أجل نفسي، من أجل حبيبتي، من أجل أطفالي، من أجل الحب. هذا ممكن ولكن ليس من أجل وطن ليس لي، أو من أجل ملك أو رئيس، أو حزب هو أول من ينتهك حرمة بيتي مع حبيبتي، ويقتل أطفالي.

يصفق الممثل الثاني بقوة قائلاً بلهجة المنتصر:

ـ أنت تقر بضرورة الموت، بالاضطرار إليه، والموت من أجل الوطن هو موت وقائي محتم لكي لا تصل السكين إلى عنقك وأطفالك.

ــ هذا مغالطة أنتم توسعون أسباب الموت وتتهاونون بالحياة التي أعلى قيمة في الوجود!

يقف وسط الباحة ويأخذ بالهتاف: أيها الشباب لا تدعوا الأحزاب والطامحون بالسلطة يضحكون عليكم! لا تموتوا من أجل وطن وهمي، أو شعار فارغ، أو ملك أو رئيس أو حزب، أو دين ومذهب، موتوا من أجل الحب، الحب فقط هو ما يستحق أن نموت من أجله؟

يأخذ الممثلون الشهداء بالتصفيق لأنفسهم، وينظرون لحسن طلقة متوسلين أن يسمح لهم بتقديم عرضهما. رغم أنه لم تعجبه أفكارهم كثيراً، ويجد بعضها فجة مرتبكة مشوشة، لكنه يقرر أن لا يخيب أملهم، ويردهم، خاصة هذا الممثل والمخرج، الذي لم يحظ عمل مسرحي له بالقبول من القادة الحزبيين بين الأنصار، فيقول:

ـ أعدكم بان أسعى لتقديمه، لكن المشكلة، إن الموت قد أمهلنا فترة قصيرة، قبل أن يعود لإرجاعنا إلى قبورنا، عسى أن تطول فسحتنا وتستغرق وقتاً طويلاً.

التفت حسن طلقة إلى شهرزاد:

ـ ما رأيك؟

هزت رأسها بأسى وجلال فائق:

ـ يتصور البعض أن قضاياكم جديدة لم نرها في زماننا، لا، المأساة واحدة، والمشاكل هي ذاتها، من قبل زماننا أيضاً، فقط أنتم لديكم اليوم تلفزيونات، بينما كانت لدينا بلورات سحرية في قلوبنا، تسكب الحقائق على ضمائرنا وأرواحنا مباشرة، لا سبيل لمواجهة الشر إلا بأكثر طرق الخير فاعلية وجدوى! لا تردوا على الشر بالشر! لا تردوا على الموت بالموت، استعجلوا الوقوف على الحقيقة، ولكن لا تستعجلوا انتصاركم بالمزيد من قلب الحقائق، تريثوا! لا تريقوا دماً قبل أن تتأكدوا أن لا طريق آخر دونه، كل مواقع وكراسي المجد لا تساوي قطرة دم أو آهة من إنسان،فكيف إذا قتل أو تعذب؟

نظر طلقة إلى وجهها الجميل، هذا الذي أوقف طاغية عن قتل النساء، هم أن يقول لها اسمحي لي أقبل ثغرك الجميل، لكن الحياء على ما يبدو لا يموت مع الموتى، انحنى على يدها وقبلها، اسمحي أن أواصل عملي سأعود إليك، سأعود حتماً!

(46)  بين ظلمة الرحم، وظلمة القبر، خفقة حلم أهوج؛ لا أكثر!

-         وقف شهيد رافعاً عقيرته: أنسيتم ما كنت أحدثكم به عن رحلة الشهيد إلى غايته، أتريدون أن أعيد لكم ما كنتم وافقتموني عليه، ولم نختلف! سمع تصفيق وضحكات وقد أحاطوا به،قال أحدهم: وكيف ننسى كلماتك التي اختصرتنا كما يختصر الإنبيق صهريج ورد بقارورة عطر؟ قال آخر : ما قلته هو الحقيقة، قال الشهيد سمحوا أن أعيدها لمن نساها والتزم الصمت في هذا اليوم:

-         ـ أطوار العذاب التي تمر بها روح الشهيد: نظرة شزر، كلمة نابية، بصقة (وإذا لم تختصر الرحلة برصاصة) تتواصل: صفعة، قيد، عصابة على العينين، حجز، استجواب،اعتقال، تحقيق وتعذيب، حكم،سجن، زنزانة،إعدام، يقطف الجلاد الرأس، ويقطف قادة الحزب الثمرة الشهية اليانعة، رقم جديد لقائمة الشهداء الطويلة، ثم لنرفع الأنخاب، بعيداً عن دموع الأمهات رجاء، كي لا يتلوث كأس الشمبانيا!!

-         صفق شهداء، والتزم آخرون الصمت!

استطاع يونس رحيم أن يعرف مما سمعه من أحاديث وهمسات بعضهم له أو لغيره من الأحياء، أن الانتفاضة لم تقم باتفاقهم جميعا. ثمة خلاف وانشقاق حدثا بينهم حولها، وبينما مضى المنتفضون في خطتهم، مغتنمين فرصة نقل رفات بعضهم، ومجيء بعض قادة الحزب لافتتاح المقبرة، أزمع آخرون أن لا يبقوا في قبورهم بل يلاحقون المنتفضين لا ليمنعوهم عن المحاكمة، بل ليواجهوهم ويردون على أقاويلهم وادعاءاتهم وتهمهم التي يرونها عاقة وباطلة وظالمة. قيل أن بعض الشهداء المتمسكين بالحزب وفكرته وسياسته غاضين النظر دوماً عمن يتبوأ قيادته، وعن سلوكهم وسياستهم،حاولوا الاتصال بقيادة الحزب وإعلامها بما يبيت لها الشهداء المنتفضون، لكن انقطاع الكثير من قادة الحزب عن كل تواصل روحي مع الشهداء مكتفين بترديد الألفاظ، وتسميتهم الحزب بحزب الشهداء،فوت الفرصة عليهم للعلم بالانتفاضة، وتحاشي وقوعهم بقبضة المنتفضين، ويقال أن ثمة معلومات عن هذه الانتفاضة أمكن إيصالها لقيادة الحزب لكنها تجاهلتها غير مصدقة أن شهداء طواهم الموت منذ زمن بعيد يمكن أن يثورا ويطيحوا بهم إلى العالم الأسفل، بعضهم قال "هل يعقل هذا ؟" بينما البعض الآخر،لم يشأ أن يصدق أن الشهداء الذين تراكم عليهم تراب الزمن الطويل، ما زالوا قادرين على التفكير وتأمل ما يجري على سطح الأرض!

ولكن لماذا ثار هؤلاء الشهداء على حزب وفكرة ضحوا من أجلهما بأرواحهم، وبحياة لم يروا منها سوى القليل؛ حيث معظمهم قتل وهو في ريعان الشباب؟

-         كان يونس طيلة سنوات نضاله التي هي سنوات عمره المديد، محذوفاً منها فترة الصبا ومطلع الشباب الناعمة المترفة القصيرة، يتأمل الذين يلتحقون بالحزب سريعاً أو بشيء من التأني والتردد، ويمكثون فيه طويلاً أو قليلاً، ثم يستشهدون أو ينصرفون بإرادتهم عن الحزب أو يطردون لما يحدث لهم في السجون وتحت التعذيب أو الاغراءات؛ محاولاً أن يعرف خصالهم وسر تصرفاتهم، يقترب من كنه نفوسهم المعذبة،أو الهانئة بطمأنينة اليقين ورضا الضمير، رغم قلق الشيوعي وخوفه في حياة محفوفة بالموت وبالعيون الراصدة وفوهات مسدسات السلطة، وبالتقارير التي تطاله حتى من بعض رفاقه المهووسين، فيروح يراقب نفسه حتى تنبت له فجأة عيون ومخالب جنب قلبه وجنب الرئة وجنب المعدة، تنغزه كلما تنفس أو أكل وشرب أو اشتهى أحب أو همس أو تكلم؛ فيكون عليه إما الاحتمال أو التخلي عن هذا العبء الرهيب. وجد يونس أن أولى خصالهم التي شدته إليهم هي طيبتهم، كانوا فقراء، ولم يبحثوا عن خلاصهم الذاتي. أو أغنياء لم يتمتعوا بثروتهم، وانخرطوا مع الفقراء بنضال شاق مرير،(لا ينكر: هناك أغنياء جاءوا للحزب بهدف مزاوجة الثروة بالسلطة، أو لنوع من الوجاهة) ولكن يونس صار يرى الآن أنها طيبة تحمل قدراً كبيراً من السذاجة،صار يقول في نفسه لكي تكون شيوعياً ينبغي أن تحمل قدراً من السذاجة، بعضهم يسميها النقاء أو البراءة. وحين يكون العقل بكراً غير ممتلئ بشيء، سذاجة مستنقع،آنذاك لا يجفف إلا بأحد شيئين، الاستشهاد حيث ينتهي كل شيء. أو الشجاعة الفائقة: مواجهة العقل وزرع أرضه الشاسعة الهائلة بكل أشجار المعرفة التي تحفل بها حدائق، وغابات الدنيا! واليوم هل كل الشهداء؛ تخلصوا من سذاجاتهم؟ وجد في الكهف كثيرين لا زالوا بعد كل هذا الموت الطويل يدافعون عن الفكرة القديمة، سكارى ونشوى بخمرة الخلود، ولكن هل كل من أتى الحزب؛ نقي طيب كريم؟هناك الأدعياء،والماكرون المخادعون، الجشعون، المتهالكون على المتع والسلطة، ورغبة التحكم برقاب الناس،هؤلاء كم وقع بينهم من شهداء الصدفة، وقد وجدهم نادمين يسفهون كل شيء،ليس من اجل قضية أفضل طبعاً، بل من أجل أن لا تكون للإنسان في الدنيا قضية غير قضيته الخاصة، وهؤلاء كان يونس يعرف بعضهم فراح يتحاشاهم في الكهف. أيام النضال القديم كان يقال دائما: المحن والأوقات العصيبة فوائد عظيمة فهي تفرغ الحزب من الكذابين والأدعياء والانتهازيين، وتجعلنا نرى كيف أن الذين كانوا يأكلون من نعم الحزب؛ صاروا يأكلون من لحمه، فهناك من يرى الشموع المطفأة في قلب الظلام، ويقودنا إليها لنوقدها. وهناك من يشم النسمة العذبة في وسط المستنقع، وفي قلب العاصفة الهوجاء فيجلبها لأرواحنا. لقد تعبت من التفكير، كم أتمنى لو توقف رأسي عن هذه التكتكة كساعة قديمة صدئة،تضجر بصوتها المعتل؛ دون أن تشير للزمن الصحيح! ‍

-         بينما كان يفكر بذلك التقى بذلك الشاب الشيوعي المقاتل، كان يسمى بصاحب المنظار، كان يدرس الشيوعية في موسكو، وقد جاء إلى كردستان ومعه منظار مقرب، كان معجباً به، استعمله في رصد ربايا الجنود، وحين مل من تأمل سحناتهم على الأرض الكالحة (فقراء مثلنا أغلبهم من الأرياف، والأحياء الشعبية في المدن) راح يستعمله متندراً "أريد رؤية الأفق البعيد، بداية المستقبل الشيوعي الوضاء" وقد أوصى أن يدفن معه إذا استشهد قائلاً ما دمت لم أر به حتى الآن أفق الشيوعية العظيم، علني أرى فيه حوريات الجنة، أتلصص به عليهن، فأنا كشيوعي سوف لن يسمح لي بدخول الجنة بتهمة الإلحاد، وسأكتفي بالنظر إلى الحوريات عاريات من بعيد، وربما استمني عليهن إذا سمح لي دود القبر! واليوم نهض والمنظار معلق برقبته مثل الجرس في رقبة الكبش؛ يحتف به رفاقه الشهداء يداعبونه: قل لنا هل رأيت حوريات الجنة؟ قال لم أجدهن، ولم أستنزف موتي في لاستمناء على أجسادهن الشهية. صرت استعمال منظاري في محاولة تقريب الحقيقة، ورؤيتها بوضوح ولكن هيهات، قال لي أحد جيراني الموتى: لا تتعب نفسك هذا المنظار سوفيتي الصنع ولن يقرب لك الحقيقة، بل سيبعدها، لم أكف عن المحاولة، واليوم جئت إلى هنا، علني أرى الحقيقة على أيديكم قريبة واضحة دون منظار! ضحكوا، قال حسن طلقة: لن تجدها لا على أيدينا ولا أرجلنا! سأل صاحب المنظار بقلق واضح: لماذا؟ قال طلقة: ببساطة لا وجود للحقيقة أبداً، كل شيء هو حقيقة، ولا حقيقة؛ بنفس الوقت؛ هذا أعظم درس كان عليك أن تتعلمه من الموت!

فرح يونس حين التقى برفيق قديم لم ينس اسمه: رمضان ما زلت أتذكر كلماته هو الآن بين الشهداء، ومن غيره يكون في طليعتهم،كنت قد لحقت به في سجن الكوت وهو في أيامه الأخيرة يعاني من سرطان ولا يجد علاجاً:

ـ ليس فساد الرجال هو مأساة الحزب، مأساته الكبرى هي فساد الفكرة، الفكرة الصائبة الخصبة تكشف الفاسدين والمتفسخين وتسقطهم، أما الفكرة العقيمة والمستحيلة فهي ليست فقط لا تستطيع إزاحة الرجال الفاسدين، بل تغدو كالنخاع المريض؛ لا ينتج سوى الكريات المنخورة والنفوس المريضة، ويصيب بالعقم أخصب الرجال والنساء، وهذا ما حدث معنا وأسفاه!

مضيفاً بلهجته البغدادية المحببة:

ـ صدك لو قالوا "علك المخبل ترس حلكه" يعني شنو هيه كان لازم نظرية بكد العالم كله حتى نطالب بفتح طريق بغداد -العمارة، وتوزيع خبز الإعاشة بالناصرية؟

قلت له: أنت تبالغ نحن الشيوعيين لدينا أكثر المطالب واقعية ووضوحاً،توفير العمل، تحسين ظروفه، الطبابة، التعليم، الخبز. تطوير الزراعة رد بهدوء:

ـ وهل هذه المطالب تحتاج الماركسية اللينينة، وكتاب رأس المال وفائض القيمة؟ مصيبة الحزب إنه يصير وطنياً حين ينسى نظريته الثقيلة، وارتباطه بالسوفييت، وما أن يتذكرها حتى يصير غريباً مع نفسه، ومع الآخرين!

وحتى هذه اللحظة كلما تذكرته كنت أقول يا لألم هذا الرفيق الذي خذله حزبه وفكرته وجسده دفعة واحدة،وظل وفياً للحقيقة حتى مات بعيداً عن أهله وأحبته، ولم يطلق الجلادون سراحه رغم احتضاره أمامهم!

شعرت بفرح غامر للقائه، سألني:

ـ ها رفيق شنو ها الغيبة الطويلة؟ انشالله فهمت الفكرة بعد تجربة سبعين عام سوفيتية هسه عرفت كلامي صح لو غلط؟

ماذا أقول له، كنت أحس أن محنتي أليمة أأقول له " أفنيت شبابي وعمري كله أناضل لأقنع الناس والعالم بصواب فكرتنا وجدواها وها عليً أن أقضي ما تبقى من حياتي المهدمة لأقنعهم بخطأ تلك الفكرة وعدم جدوها! مأساة مضحكة مبكية! قلت:

ـ لقد قلتها أنت، حقيقة بسيطة واضحة، قبل أكثر من خمسين سنة، وكل ما جاءت به المعاهد والبحوث كان تعباً زائداً! أنت صاحب نظرية العلك ملئ الحلق!

تأملني الرجل بمحجرين نفاذين رغم فراغهما:

ـ لو كان الأمر يتعلق بالدراسات والبحوث لهان الأمر، لكن أنسيت دماء وآلام الناس؟

ارتجت نفسي حقا،ً أنسيت ذلك؟، أم ظننت أنها بديهية دموية لا تحتاج لكلام؟

فجأة أخذ الشهيد يضحك، قال محدقاً بي كأنه يتعرف علي لأول مرة: محنتك تذكرني بتلك العجوز التي تحدث عنها العرب الأقدمون،قضت نصف عمرها تغزل صوف أغنامها ثم فجأة راحت تقضي ما تبقى من عمرها تحل غزلها، أية مأساة؟ تركني فاغر الغم ومضى!

(47) اطمئنوا! ما زال الجنون بخير!

فرح حسن طلقة إذ التقى صديقه القديم "أبو العصماء" جاء به إلى يونس يعرفه به، كان شاباً جميلاً طالباً في كلية الآداب، اعتقل وعذب، وأهمل في أحد السجون السرية لأكثر من خمس سنوات، بتهمة المس بالذات الرئاسية كما يقول،خرج يعاني من اختلال عقلي. كان أبوه قد مات وهو طفل، سكن مع أمه حجرة مستأجرة في الجعيفر وسط بغداد. كانت أمه تدبر لقمة عيشهما بالخدمة في البيوت، وببعض الأشغال اليدوية. بعد إطلاق سراحه، لم يجد والدته. كانت قد توفيت،عاش شريداً رث الثياب وسخاً يسير على غير هدى متأبطاً كتبه الماركسية. رغم هلوسته وكلامه غير المترابط، لكن كثيرين لا يعدونه مخبولاً،بل سراً خاصاً. كتلة ألم، ووعي إنساني حلت في جلد وثياب رثة. عده البعض صوفياً،وآخر تلاميذ الحلاج، ما كان يمكن إلا أن يظهر هكذا في عصر لا يقل عنه اختلالاً واضطراباً: يتحدث الماركسية مهلوساً. لكن المرتابين دائماً يقولون: إنه طعم من دائرة الأمن لاستدراج الشيوعيين، وللسخرية منهم. كان حسن طلقة حتى في أيام تألقه في بغداد كبطل رياضي يسير معه، يقتاده لحمام شعبي، يشتري له ثياباً جديدة، وكتباً وسجائر، ويعده رفيقه وصديقه. يرتاد معه مقاه ومطاعم،وعكس الكثير من متسكعي بغداد كان "أبو العصماء" لا يشرب الكحول، كان يقول: (آني بغير عرك الدنيا تدور بيه، بالعرك لازم آني أدور بيها، وهاي مهمة صعبة جداً) أخطر ما في حياته هي خطبته العصماء يوم الثلاثاء، والتي يصر على تسميتها بخطبة الجمعة! والتي بها نسى معارفه اسمه الحقيقي وسموه" أبو العصماء". كان يقف عند زاوية، قريباً من جامع مرجان في شارع الرشيد ويأخذ بإطلاق صوته عالياً، كثيرون يمرون به ضاحكين، أو غير مكترثين. لكن حسن طلقة كان يحضر خطبته خاشعاً. لم تطق سلطة البعث خطبته أو هذيانه وهلوسته. قتلوه دهساً بسيارة مسرعة في شارع الجمهورية، وغير بعيد عن مئذنة الجنيد الصوفي. اعترف به الشهداء الشيوعيون رفيقاً لهم، واستدعوه لليقظة معهم، واليوم يلتقيه حسن طلقة؛ فيتعانقان. كان هيكله نظيفاً دون الحاجة لحمام شعبي. كان أول سؤال وجهه لحسن طلقة: أصحيح أن حزبكم أدرج في كتاب غينيس "الحزب الذي قدم أكبر عدد من الشهداء"؟ قطب طلقة جبينه،سأله من أين سمعت بذلك؟ قال أبو العصماء ثمة قصيدة للشاعر فردل جورجيان وصلت إلى القبور،مكتوبة على الأكفان، يحتفي بذلك قائلاً:الفضل ما شهدت به الأعداء! هز طلقة رأسه نافياً علمه بذلك. قال أبو العصماء في صحوة واضحة: حزبكم والدكتاتور يلتقيان على نفس الشهوة والشبق الدموي: المزيد من الشهداء أيها الشعب. مزيداً من الدم أيها الرفاق! عزا طلقة كلامه إلى هلوسته التي لا تخلو من حقيقة،قال ضاحكاً، لا زلت تتابعنا بإخلاص يا أبا العصماء! والآن هل لك يا صاحبي بخطبة عصماء كخطبك التي أخذها الكثيرون في تلك الأيام على أنها هلوسة لا تقتضي التأمل والتفكير؟ بينما عدها آخرون آية في الحكمة والعقل! كان حسن طلقة يرى أن خطبه تتخللها لحظات صحو عقلي تجد فيها عبارته مترابطة مفهومة، بل هو يجد حتى هلوسته مشحونة بالمعاني، وكيف لا يلبي أبو العصماء طلب صديقه حسن طلقة؟ وقف على صخرة في زاوية من العالم السفلي وراح يهدر بصوت لم يثلم الموت نبرته الحزينة المؤثرة، بينما الشهداء ملتفون حوله في دوائر من هياكل عظمية متشابكة:

ـ أخذوكم إلى نضال لا ينتهي إلا عند خلفيات القردة الحمراء مثل رايات الأحزاب الواثقة من نفسها أكثر من اللازم، اجتماعات ولقاءات، مظاهرات واحتجاجات، عرائض ومضابط ومطالبات وجمع تبرعات وتواقيع ومسابقات شرطة وأرانب، شيوعيين وبعثيين، ثعابين وقوميين عرب واكراد وتركمان وعمائم سود وبيض، ومومسات سمر وشقراوات، ليخيروكم بكل نزاهة وموضوعية: بين كلاب السجون المسعورة، وبلاليع المنافي! ولأنكم أبطال فقد اخترتم الموت! والآن أيها الشهداء عودوا للحياة لتوزيع المناشير، وزيادة مالية الحزب وكسب الأعضاء والأصدقاء، ضعوهم في شاحنة على الطريق السريع إلى الجنة قريباً من بيت لنج وسوق دانيال وخان جغان! لا يشفى حزبكم من إدمانه على النضال، إلا حين يشفى ابن محلتنا جويسم العظيم من تطيير الحمام القلاب على سطوح البروليتاريا الرثة، أين ملالي الكرملين السائرين على طريق التطور اللارأسمالي باتجاه محلة الصابونجية، وملالي أضرحة الطاهرين وقبور المحزونين؟ عودوا إلى النضال في شوارع بغداد المفتوحة كأفخاذ العاهرات، وأفخاذ المعذبين بالفلقة، قال ماركس الدين أفيون الشعوب، وأنا المجنون بأمر الرئيس حفظه الله ورعاه: أقول أن الشيوعية أيضاً أفيون الشعوب، وإن البروليتاريا أفيون الشيوعيين، وإن الدين رأسمال أصحاب العمائم. يأتونكم على بغلة عرجاء حاملين كتاب رجوع الشيخ إلى صباه طبعة بولاق، ومفاخذة الرضيعة طبعة قم! اقتدوا بالغراب، اقضوا أعماركم تطبخون قدر الثورة العظيمة خالطين الطماطة الحمراء بلحم الإمبريالية،والشعارات الثورية بكبة السراي،بحضيري أبو عزيز، بالفس برسلي وام كلثوم، وحمام الكاظم، بدجاج التنور، المواكب الحسينية، بالألعاب الأولمبية، جامع أبو حنيفة بمقهي المعقدين وبالليل ضاوي، والعرك زحلاوي! ملهى ليالي الصفا، بشربت زبالة والصهيونية والوجودية بالكاولية والبنيوية بخبز باب الأغا وصديقة الملاية وعلك أبو السهم ولزكة جونسون ولحية لينين، بباص رقم أربعة، بقائم مقام طويريج،بخوش مركة وخوش ديج، وهيت بيت بيت، قطعة من السوفييت، وعانة غركت بمي الباجة، وجبهتنا هندسها ديمتروف، واليمشي بدربنة شيشوف؟ كوم كطوف! وتكريت تاكل ملفوف، ويسقط العم سام، اعدم،اعدم، لا تكول ما عندي وكت، أعدم! وماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة، سبع ملايين تصيح :عاش زعيمي عبد الكريمي حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي، اعدم،اعدم،اسحل اشنق عذب أذبح،احرق، ونفيق صباحاً لنجد الوحوش في حجرات نومنا، وعلى مهود أطفالنا، وتحت كحل عيون نسائنا، متسللين من أبواب ضمائرنا المخلعة، من ثقوب البدلة العسكرية للزعيم الأوحد الذي يتفاخر السذج والمساطيل أنه مات وليس في جيبه سوى دينار واحد فقط لا غير،متغابين أنه فتح خزائن العراق للانقلابيين والمصابين بسفلس السلطة وأفرغ جيوبنا وأرواحنا إلى الأبد! وجاءنا الرفاق من موسكو وبراغ، حاملين حقائبهم الحزبية مقرعين لائمين: لماذا تستفزون البرجوازيين الصغار؟ ألا تعرفون مزاجهم النزق؟ لماذا هذه العجالة الثورية؟ قلنا لكم أن فردوسنا الأعظم لا يمكن أن يتحقق بحرق كعب الصاروخ،انتظروا أن يصل الصاروخ طويل المدى إلى هدفه العظيم! ونصمت كلنا كمن ابتلع أحد أسنانه،إذاً لماذا يا رفاقي أصحاب اللحى الفلسفية الثورية أطلقتموها منذ البدء،كومونة باريس، كعكة ثورية شهية، ومكنسة كهربائية، مصيدة جرذان وبرجوازيه ودجاج واويه وأغاني أبوذية، لماذا ورطتمونا بفتح ملهى فوق جامع، ومكوى قمصان في دكان جزار، لماذا لم تقولوها منذ البدء: الشيوعية حبل بين قمتي جبلين بينهما البحر ولو سارت عليه نملة لسقطت ما لم ترتد قبعة حمراء، لماذا أيها الحزب الأطرش إلا حين تدق ساعة موسكو، أو يضرط ستالين ؟ والأعمى إلا حين تنطلق الألعاب النارية في الساحة الحمراء، ألم يكف أرضنا ما تفجر عليها من طوفانات وحروب ومجاعات وطواعين، لتفجر بها صراعاً أحمر أبدياً لا يستطيع الإنسان أن يرفع رأسه عنه في أي يوم من الأيام ويقول " لقد أنجزته،وآن لي أن أستريح " تركنا قادتنا في أقبية السجون،ننق كالضفادع في مستنقعات اللعنة الأبدية،ومضوا إلى منتجعاتهم الثورية يشربون الفودكا، ويضاجعون حسناوات موسكو، وإذا تذكرونا ليتندروا ويضحكوا علينا، ولهم الحق، فنحن أغبى أغبياء العالم، ولا شفاء لنا، إلا بمزيد من الجنون وأكل البامية والشيخ محشي، والإكثار من الطرشي، وشرب الشاي بالطبشي!

انهي خطبته فجأة، وطلب أن ينزلوه من الصخرة قائلاً:

ـ لا سلام عليكم، ولا رحمة الله، ولا بركاته!

سأله أحد الشهداء:

ـ ولماذا تبخل علينا بالسلام والرحمة؟

رد على الفور :

ـ لأنكم شبعتم في الدنيا من السلام العالمي!

ـ بينما أكل أعداؤنا حمامات السلام مشوية مع النبيذ الفرنسي!

قالها حسن طلقة وهو يتلقف هيكله العظمي عند نزوله وقد تساقطت قطع منه ممزوجة بعرق عظامه، كان مختنقاً بدموع ذكرياته، بينما انطلقت صيحة شهيد:

ـ يا للنعمة، يا للفرح، ما زال الجنون بخير!

ظل يونس يصغي وينظر بسرور، هذا يوم لم يكن يحلم أو يتوقع أن يشهده لا في كابوس خانق، ولا في حلم جميل، هذه لحظة يقول بها الشهداء ما اختزنوه في صدورهم سنوات طويلة في الهواء الطلق أو تحت التراب.إنه محظوظ إذ يسمعهم ويشهد ما ينوون عمله،وما يبيتون من مفاجآت أو أحداث وقد يشارك فيها إذا أتاحوا له ذلك!

(48) ماذا جرى بعد موتنا؟ أعيدوا لنا أفلام صالة سينما روكسي كلها!

شعر بالبهجة وهو يرنو إليهم وإلى أهليهم وأحبتهم الآتين من الدنيا، إلى هذه البقعة الغامضة المجهولة. وجد إنه حتى إذا لم يكن قريباً منهم، فإنه يستطيع أن يسمع كل كلمة يقولونها، وكل حركة أو موقف يأتونه مهما كان صغيراً، ويفهم ويصغي لنبض أرواحهم وعظامهم. يحتويهم الآن بقلبه، كأنهم أفكار وأحلام في رأسه، وليسوا هذا الواقع الواضح والمتفجر والأكيد الجاري أمامه. كان العراقيون القدامى، يعتبرون العالم الأسفل أقسى المنافي، والذي لا يجرؤ سوى الآلهة والشياطين والمردة على اقتحامه، أو الهبوط إليه. كانوا يقولون أن طعامهم سيكون هناك الطين والدود، وشرابهم الصديد والغسلين وما يرشح من أجساد الموتى. الشهداء اليوم لا يأكلون ولا يشربون، إنهم يحلقون كطيور غادرت أقفاصها لا تجذبهم حتى قبورهم، وهو لم يحس بالجوع ولا العطش. صار مثلهم كائناً أثيرياً، لكن عالمهم حزين أيضاً. فكر مرة أخرى بقدر العراقيين الذين صاروا بين منفي في العالم الأسفل، ومنفي في العالم العلوي دون أن تدري أيهما أكثر عذاباً وقهراً! كان رائعاً إنهم لم يحلقوا للأعالي؛ آنذاك سيشكك الناس بأحكامهم وآرائهم عن السماء، ويتهمونهم بالتجديف والكفر، إنهم أرضيون،يرون في الأرض أمهم الحقيقية، والوقوف عليها أثبت من التحليق في السماء، وأكثر استقراراً؛ مهما كانت مساربها مظلمة قاسية!

ما فتئ الشهداء يتقاطرون من زويا معتمة بعيدة على الباحة الكبيرة، كأنهم يسمعون صوت الصور الذي قيل أنه سيوقظ الموتى يوم الحشر، بدا ليونس أن ثمة روحاً عظيمة أنبأت الشهداء بنبضها السري بهذا اليوم وأعطتهم الميعاد، لكن البعض ما يزال مأخوذاً بهول المفاجأة؛ لا يعي ولا يفهم ما يجري!

ثمة رجل مسن بدا وكأنه قد مات في الثلاثين من عمره، ولكنه بلغ الثمانين في القبر، كان يحمل ثيابه الرثة إلى جانب هيكله العظمي ويسير بهشاشة كأنما على ساقين من دخان، اقترب من شخص نزل مع عوائل الشهداء، وقد لمحه من بعيد وأخذ يركز عليه بصره، وقد تذكر بوجهه شخصاً قديماً كان يعرفه. جلس بجانبه على صخرة ملساء. قال وهو يلهث:

ـ أأنت صديقي سليم الصفار؟ أنسيتني؟ كم كنا نجلس في مقهى الأعظمية، وكم تمشينا على شواطئ دجلة؟

تطلع الرجل الحي بوجهه مستغرباً، قال إنه ليس سليم الصفار! حين سمع يونس اسم الصفار تنبه وراح يصغي لهما وقد تذكر أن الصفار كان من مؤسسي حزب البعث في العراق. قال الشهيد وهو ما يزال في لهفة، وبصوت كان يخرج من هيكله العظمي، كما يخرج النغم الممزق من آلة موسيقية محطمة:

ـ كان يحدثني عن حزبهم الجديد، قال سيسمونه البعث لأنه سيقوم بإنهاض الأمة من رقدتها كما يبعث الأموات من القبور، وكنت أتابع خطوات تأسيس حزبهم، وقد أهدى حزبنا الشيوعي لهم مطبعة صغيرة، وقمت بتسليمها له مع كمية من الورق والحبر. كان يحدثني دوماً عن النشور، والبعث المنشود لأمتنا التي حكم الأعداء عليها بالنوم الأبدي، أو الموت! قتلت في إحدى المظاهرات ولا أدري ما حدث بعدي، وحين سمعت النفير والضجيج استيقظت فرحاً مستبشراً، قلت أنه البعث والنشور، وأيقنت أن حزبهم قد انتصر ووصل للسلطة، وها هو يبعثنا إلى الوجود، لنعمل معاً في جبهة واحدة شيوعيين وبعثيين وقوميين وديمقراطيين، ومستقلين وكل التقدميين لتحقيق السعادة لأمتنا العربية المجيدة، وإن صديقي الصفار جاء ليستقبلني عند باب القبر ليدخلني الجنة البعثية التي تحققت قبل جنتنا الشيوعية!

أدرك الرجل ماذا يقصد هذا الشهيد الذي شاخ في القبر، وجاء ليهذي ولم يسمع نداء الشهداء بوضوح، فقال بابتسامة حزينة:

ـ نعم يا صاحبي لقد انتصر هذا الحزب العتيد، واستلم الحكم في بغداد ودمشق، وهذه قيامته أيضاً، لكنه بدلاً من أن يبعث أبناء أمتنا المجيدة من القبور إلى الحياة، بعثهم من الحياة إلى القبور!

ظل الرجل يدير رأسه مندهشاً، وقال :

ـ لماذا؟ هل لم يستطع تحديد الاتجاهات؟

ندت عن الرجل زفرة سأم مغالباً حزنه، وكأنه استحال هو أيضاً هيكلاً عظمياً:

ـ كيف لم يعرف الاتجاهات، لقد جعل كل الناس عيوناً له، من العجائز إلى الأطفال، حتى الطيور ركبوا في ذيولها كاميرات ومقربات؛ لترى!

سأل الهيكل العظمي ببلاهة:

ـ إذاً ماذا حدث؟

ظل الرجل صامتا فجأة تنبه لشيء وجده طريفا يكسر جو الحزن قال:

ـ ما حدث مجرد خطأ مطبعي؛ يحدث عادة في أسماء الأحزاب والثورات وبياناتها الثورية الأولى أو الأخيرة! من المؤسف أن (البعث) صار على يد صدام، وبخطأ مطبعي فقط لا غير (العبث) هذا كل شيء!

ـ أهكذا إذن؟ كل ما أريده الآن هو أن أعود لرقدتي الهادئة في قبري!

نهض مستنداً على عظمة سقطت من شهيد، لكن العظمة تهشمت فسقط على وجهه وتهشمت أضلاع وفقرات في هيكله، أجلسه الرجل، عاد الشهيد يقول:

ـ لا أعتقد إنني أستطيع النوم، ما هذا الأزيز الآتي من الأعالي؟

قال الرجل :

ـ طائرات الأمريكان!

نهض ليهتف: تسقط الإمبريالية الأمريكية! عاشت الثورة البروليتارية الأممية. لكنه تهاوى وسقط ثانية وتهشمت أضلاعه الأخرى، أجلسه الرجل، فعاد يسأل وهو يلهث:

ـ ماذا تفعل في سمائنا طائرات الإمبرياليين أعداء الشعوب؟

ـ بعد أن أتى الأمريكان بالبعثيين مرتين إلى السلطة، الآن سئموا منهم ويريدون استبدالهم!

ـ لماذا؟،كيف؟ ماذا حدث؟

ـ هذا حديث طويل! أتريدني أن ألخص لك التاريخ كله بدقيقة واحدة؟ من قال لك أن تنام في سينما روكسي، ولا تشاهد الفلم حتى آخره؟

هز الشهيد رأسه بأسى:

ـ أتسمي رقدتي الاستشهادية الأبدية، نومة في السينما؟ ضحيت من أجلكم بحياتي، ولا تريد أن تضحي بدقائق من وقتك توضح لي فيها ما جرى بعد موتناَ؟

قال الرجل بصوت خالطه خجل وارتباك:

ـ لا وقت لدي الآن، لقد بحثت عن أبني الذي فقدته منذ زمن طويل، ولم أجده بين الشهداء هنا، أين يكون إذن؟ قال الشهيد كأنه يتحدث عن موقف باص:

ـ عليك أن تسير قليلاً إلى محطة الشهداء الثانية!

قال الشهيد المنهك ذلك دون روية أو أدراك لما يتحدث عنه أو بمعرفة بالمكان الذي هو فيه. الشهداء كانوا قد تجمعوا بكهف دائري واحد كبير هائل، كأن التحولات الجيولوجية الأزلية صنعته خصيصاً تحت الجبال لهذه اللحظة الإنسانية الأليمة. تحفه بوابات تطل على طرق طويلة متعرجة بدت في غموضها وضبابها الرطب المثقل بالعتمة والأحزان كأنها تفضي إلى ساحات الزمان أكثر من ساحات الأرض. لكنه في رهبته وغوصه في أعمق الأعماق يبدو كأنه المحطة الأولى والأخيرة في هذا الوجود. شكره الرجل وتركه مستعجلاً شاعراً إنه ضيع وقته معه، فهو رغم طيبته؛ ساذج أبله، ولو حقنه بكل دروس التاريخ لما أدرك ما حدث ولما توقف عن الهتاف. والحديث عن الإمبريالية والشيوعية. القطة والفأر وغيرها من الخزعبلات التي فقدت في حومتها أبني الوحيد. أية لعبة رهيبة مات فيها الكثيرون دون جدوى. لا أستطيع أن أجد ولو عظماً واحداً من جسد ابني، ذلك الشاب الجميل الذي قتلوه ولم يبلغ العشرين. راح الرجل يدور بين هياكل الشهداء المتحركة باحثاً عن هيكل ابنه أو بعض عظامه! متذكراً كيف مفرزة أمن انتزعته من فراشه فجراً، قالوا (نصف ساعة ويعود) وها قد مر ثلاثون عاماً، ولم يعد. صار عمره خمسين عاما؛ تحت التراب!

كان يونس رحيم يرقبهما، تذكر هذا الشهيد كثير الأسئلة. كان عاملاً في معمل سجائر، كان رفيقاً شجاعاً ومتفانياً، قال يونس " كم داخل الحزب، من أناس طيبين صادقين، غافلين عن براثن الخدعة. كل نبلهم وشجاعتهم لن تغير من حقيقته: عاصفة أوهام مدمرة، سهم سيرتد إلى صدر مطلقه " مضى إليه، قبل عظام جبهته، جلس بجانبه على أحجار ملساء ورح يذكره بعملهما الحزبي معاً لفترة قصيرة في منطقة الشاكرية في بغداد، قبل ما يزيد عن نصف قرن، حدثه بهدوء ورفق عما وقع من أحداث بعد موته: لا أريد لقلبك الذي استحال رماداً أن يعود لحماً ودماً ليتعذب. سكت الشهيد كأنه مات فعلا، الآن فقط مت أيها الطيب الغافل. تركه لصمته المطبق. تذكر كيف سلم السيد الجبوري المطبعة التي أهداها الحزب الشيوعي لحزب البعث:

ـ رغم معارضة بعض رفاقنا قائلين: انتظروا! ما أن يقووا حتى ينقضوا علينا. قلنا لهم إننا نهديها لهم انطلاقاً من نزعتنا في التعاون. كان الحزب السائر في وهمه الكبير يبتدع طرقاً لا تخلو من صدق إنساني لكنها في ضلاله الكبير تتحول إلى سم بطيء في أجساد أعضائه والسائرين في ركابه. فأطلق شعار "قووا تنظيم حزبكم قووا تنظيم الحركة الوطنية " عملنا به صادقين متحمسين بينما ضحك منه الآخرون المستفيدون من كرمنا، ونحن على الطوى. كنا سررنا بدعوات البعثيين وشعاراتهم الأولى في العمل المشترك، ولم نعرف تقلباتهم وانتهازيتهم إلا بعد حين. وحتى بعد أن أدركناها صرنا نقول " أنها البرجوازية الصغيرة،قلقة وانتهازية ونزقة وغادرة، وينبغي الصبر عليها لجرها إلى نضالنا ضد الرأسماليين والإقطاعيين" الوهم نشيط في تفريخ المزيد من الأوهام والتيه. كنا نعلم أنهم كانوا يرددون فيما بينهم (لنستغل عداء الشيوعيين الشديد للسلطة، فنهدم بهم ركائزها، حتى إذا تهاوت الشجرة تلقفناها وثمارها، وأطحنا بهم جانباً) لم نكن نتصور أن غدرهم سيكون بهذه الفظاعة! كانت قد جمعتني بالجبوري صداقة نضالية وشخصية طيبة. بعد ثورة تموز، عام،1958 وحين أظهر حزب البعث العداء لحزبنا؛ افترقنا، وبعد انقلابهم الدموي في 63 وجدت نفسي أمام هيئة تحقيقية يترأسها الجبوري. كان مسعوراً هائجاً لا يريد أن ينظر بوجهي. عاملني بقسوة أشد من المحققين الآخرين الذين لا أعرفهم. استغربت تنكره لصداقتنا وذكرياتنا النضالية القديمة، كنت ما أزال ساذجاً سياسياً قلت:

ـ عدونا واحد: الإمبريالية وشركات النفط لماذا لا نتحد ضدهم؛ بدلاً من تقاتلنا؟

ـ فات أوان الجدال السياسي معكم، تصديتم لثورتنا ويجب أن تنالوا جزاءكم، لا تحاول إقناعي أنك لست في قيادة الحزب، أنا أعرفك جيداً؟

جعل تضامنا مع حزبه، وصداقتنا الغابرة والثقة التي منحتها له مجرد معلومة حزبية لتصفية حسابات أغلب أرقامها ومعادلاتها مختلقة ومبيتة، كان من حسن حظي أنني اعتقلت في الأيام الأخيرة لحكمهم، إذ بعد أيام قليلة انقض عليهم حلفاؤهم القوميون، وثمة مجموعة منهم خانتهم وتخلت عنهم، بينهم البكر الذي عادوا به مرة أخرى رئيساً لهم، فارتخت قبضة الموت عن رقابنا!حاولت قدر استطاعتي أن أحدث الشهيد باختصار عما حدث قال:

ـ لا ينفع الشهداء سوى المختصرات، ليت من الممكن وضع التاريخ، الذكريات والأحلام في حقنة تزرق في قلب الشهيد، فهو لا وقت لديه لقراءة أكداس من الأوراق مبعثرة بين أقدام المستغرقين بالصخب!

أحد الشهداء كان في شغل عمن حوله، يسير متعثراُ بما يتساقط من عظام هيكله العظمي باحثاُ عن أمه، علها تكون مع القادمين من الحياة الدنيا، بحث طويلاً دون أن يجدها، كان يردد في نفسه وبصوت مسموع، وكأنه يغني:

ـ بين ظلمة الرحم، وظلمة القبر، خفقة حلم أهوج لا أكثر!

(49) لماذا ليلة الهدهد؟

سمع صوت أحد الشهداء يقول:

ـ رائع! تكللت عملية ليلة الهدهد بالنجاح، وقبضنا على قادة الحزب الضالين، وسننجح في محاكمتهم أيضاً!

اقترب رجل يبدو إنه من الأحياء الزوار من حسن طلقة، سأله بلهجة لا تخلو من مرح، أو هزء:

ـ لماذا أطلقتم على انتفاضتكم ليلة الهدهد، وأنتم الذين ارتبطتم بحمامة السلام، ويمامة الغرام، وعيش الشعوب في ود ووئام؟

نظر إليه طلقة بهدوء، سرح مع أفكاره، من أين يبدأ معه؟ وماذا يقول؟

منذ سنوات والشهداء يعدون لنشورهم الثوري، وانتفاضتهم، ليس من أجل محاسبة قادة الحزب وحسب، فذلك لم يعد ذا أهمية كبيرة، بل وغير مجدٍ الآن، بل لمعرفة لماذا جرى كل هذا الذي جرى؟ وأين هي الحقيقة؟ وما معنى هذه القضية السياسية الفجة داخل هذا الوجود الإنساني الهش؟ كانت أخبار الحزب والناس والأوضاع العامة تردهم باستمرار، مع قوافل الشهداء التي لم يتوقف تدفقها يوماً، وعبر دوي الأرض ونبض الشجر، والماء والريح الصاخبين فوق وتحت قبورهم. لم ينحصر همهم بحزبهم القديم وتواصل خسائره، وهزائمه التي يدفع ثمنها أعضاؤه وأصدقاؤه وأهلهم وذووهم من أرواحهم وكرامتهم، كل يوم. شملت همومهم الناس جميعاً لما يعانونه من آلام ومصائب، وقد أخذوا يعتقدون أنهم كانوا من بين المسببين لها، وليس فقط الإمبريالية والصهيونية والرجعية كما يصرخ قادة الحزب نهاراً وليلاً! في الثلاث سنوات الأخيرة أخذ الشهداء يعدون وبتكتم شديد خططاً محكمة لنهوضهم الثوري وبقوة عاصفة حاسمة. وجدوا أن ثمة حلفاً بين دود القبور وحشراتها وهوامها وبين رجال الدكتاتور فهم الذين يتعهدون غذاءهم وشرابهم بما يرسلون لهم من جثث كل ساعة. حين كان الجلادون يخبرون الدكتاتور بعدد من يقتلونهم من معارضيه كل يوم وكل دقيقة كان يهز رأسه قائلاً: الموت ليس كافياً! كان يريد عقاباً لا يبقي منهم شيئاً، قالوا له إن حشرات القبور تتولى ما تبقى من الأمر بكل جد وكفاءة. هز رأسه يريد المزيد.عندما صاروا يستعملون الحوامض والمذيبات الكيميائية لجثثهم. كشرت حشرات القبور لانقطاع طعامها.وابتسم الدكتاتور قائلاً إن الله معنا!من الجهة الأخرى كانت قيادة الحزب الشيوعي تريد المزيد من الشهداء, لا تزال تعتقد ان سبب عدم وصولها إلى السلطة هي أنها لم تقدم بعد العدد الكافي منهم لذلك. في هذا الجو المحتدم كانت قبور الشهداء في تزايد. وحيث إن الكثير من قبورهم الآن هي في أرض تحت سيطرة مسلحين أكراد يجولون فيها متوترين متأهبين للقتل، تحميهم ليل نهار طائرات الاستكشاف الأمريكية، بأجهزتها شديدة الاستشعار وقد تجد أن تململ الشيوعيين في قبورهم محاولة سوفيتية متأخرة لضربهم من تحت الأرض، فتقوم بقصفهم، لذلك كان على الشهداء أن يخفوا أخبار تحركهم تحت الأرض عن كثيرين؛ قبل أن يهبوا من نومتهم الأبدية. من أجل التمويه استنجدوا بالهدهد؛ فاسمه حزين وبعيد عن كل نزعة ثورية أو حربية، وهو الذي عرض صداقته عليهم وظل يزورهم كثيراً، ويسعى بين قبورهم البارزة والدارسة، مؤكداً ما يقال عنه أنه صديق الموتى ومبدد وحشتهم! وهو طائر يستحق الجمال الذي يحمله، ريشه المتموج بين الذهبي والعقيقي الأحمر، وعرفه الذي يحمله تاجاً على هامته الشامخة، متنقلاً بين البلدان دون اكتراث للحدود السياسية، ممثلاً للتشرد حيث هو بلا عش ويسعى بين القبور، مقتاداً معه الحرية التائهة هي أيضاً، لا تدري أين تحل! وقد عزز اختيارهم له ما تحدث به معهم رجل كان قد استشهد منذ وقت طويل وفي صباه كان مولعا بالهدهد، ويتقصى،تاريخه وطبيعته وأخباره. قال: الهدهد يرى الماء (وقيل أيضاً أرواح الموتى أيضاً) في باطن الأرض كما يرى الإنسان الماء الصافي في الزجاجة، لذلك قالت الأسطورة إنه كان دليل سليمان على الماء في حله وترحاله، افتقده لما نزل أرض اليمن ولم يجد الماء "ما لي لا أرى الهدهد؟ " والهدهد بار بأبوية مهما افترق في بقاع الأرض، يظل يزورهما ويهدل بحزن عند أجنحتهما الكسيرة، ويبكي بحرقة مسموعة عند موتهما، عكس كل الطيور الذين لا يتعرفون على آبائهم ما أن يغادروا أعشاشهم. إذا غابت أنثاه عنه، لا يأكل ولا يشرب ولا ينقطع عن النغيط حتى تعود. وإذا ماتت عاش أعزبَ، ويظل في صوم ونشيج حتى يموت. وقد حرم الأنبياء قتله، أو أكله وقالوا أن لحمه فيه دم الملائكة. وقال المتصوفة إنه يحمل شيئاً كثيراً من رائحة وألوان العرش الإلهي، لذلك كان قتله أحد أهم طقوس السحرة، واستعمال عظامه في سحرهم؛ يضمن نجاحه كما تضمن العيون الجميلة وصول سهم الحب، أو الحقد إلى القلب! وطائر بهذه الخصال؛ جدير بأن يكون رفيق الشهداء، ويربط اسمه بقضيتهم!

قال الرجل: ولكن الهدهد هو المخبر السري نفسه! ضحك الشهيد، كل الناس هم مخبرون سريون، علموا أم لم يعلموا، كم يتجسسون على بعضهم، كم يتلصصون ويرقبون، تلك سمة طبيعية في الإنسان والحيوان والطير، هي الحكاية القديمة نفسها، والخصومة نفسها بين الخير والشر، نحن الشهداء اليوم نريد أن نلعب دور المخبر السري بقوة، نريد أن نعلم الأحياء بالحقيقة، من خدعهم وخدعنا، وحول دمنا إلى نقود، وكراسي للسلطة، وأسرة للعاهرات!

كانت عملية النهوض هذا العصر صعبة شاقة، قام بها الشهداء بشجاعة وبراعة، فانبروا مبكرين منذ الفجر، يعدون لها عظامهم ورمادهم وأكفانهم وثيابهم؛ ليظهروا بها متحاشين كل ما يشير إلى أي انتماء ديني أو طائفي أو قومي، قال أحدهم ضاحكاً: يا للاستشهاد من مهنة شاقة! فرد عليه آخر غاضباً: بل قل يا للاستشهاد من مهنة لذيذة، فهي العرس والزفاف السماوي!

ظل السائل يتطلع إلى حسن طلقة المستغرق بذهوله يريد جواباً، فأفاق قائلاً:

ـ حمامة السلام كانت صديقتنا عندما كنا نملأ الساحات، واليوم صار الهدهد صديقنا بعد أن ملأنا المقابر، هذا كل شيء!

 
 باب الهجرات

 

تلقي الذكريات أجنحتها بعيداً.

لا تعود مع الطيور المهاجرة إلى بحيرات الدفء والأزهار العطرة!

لا ترخي قبضتها عن قلوبنا لنستريح.

بعد أن تراوغ كثيراً تعقد هدنة معنا؛

فلا تجرحنا بمخالبها،

لكنها ترتدي جلود الأسماك، وتشهر زعانفها الحادة!

وحين تكف عن إيقاظنا منتصف الليل، تكون قد غاصت إلى الأعماق، هناك تتكاثر، يأكل بعضها بعضاً، يتضخم منها الأكثر وحشية وضراوة!

يبقى ساكناً في الأعماق يتغذى على دم النسيان، وعلى طحالبه ومرجانه، يختزن في عظامه ضجيج البحر، وما يجري عليه من عواصف وأشرعة!

يتحين لحظة ضعفنا، أو غفوة قصيرة في حلم عابر لينقض علينا، فجأة يقطع أجنحته على حواف قلوبنا!

يفترسنا بأسنان كالمناشير!

قلت لي الذكريات طيبات كالنساء العاريات في أسرة الحب؟

كم خدعتني، ها هي ترتدي ثوب الموت نفسه، مخلفة وراءها الطيور والأسماك تلاعب غبار الزمن، بينما نحن غبار آخر!

الشاعر المجهول من أيس

 

(50) المنفى: بوابة الاحتضار الطويل!

كثير من الشيوعيين في المنافي، وصلهم نداء الشهداء كطائر خفي لم يروه بين حمام وغربان ونوارس المدن الأوربية، والنائية الأخرى، ولم يحسوا به إلا وقد انشب مخالبه الحادة في أحشائهم، وهم في الطرقات، ولجج البحر بين أيدي المهربين والمحتالين، أو على أبواب الدول، ودوائر اللجوء، في الحانات والمواخير باحثين عن كأس يتذوقون به أول قطرة حب، أو شفقة بعد طول ظمأ وكبت وجفاف،أو مع عوائلهم في شقق وبيوت مستقرة. أحسوا بشكل ما أنهم موتى أيضاً، عانوا أقسى أنواع الاستشهاد المنكر، أو غير المعترف به، وإنهم معنيون بهذا النداء ويجب أن يلبوه ويذهبوا لمقاضاة من ساهم مع الحكام الذين تناوبوا على بلادهم في إيصالهم لهذا المصير الأليم. لكنهم أحسوا أنهم متعبون، أنهكوا طويلاً وآن لهم أن يخلدوا للسكينة والهدوء. قسم منهم أهمله وانتزع جراحه من أعماقه، قائلاً: إنه حكاية أخرى مضللة بائسة! بعضهم شعر بالحنق على من أطلقه فهوا نكأ جراحهم التي لا علاج لها ولا شفاء. آخرون ممن استقروا مرتاحين منعمين في منافي شتى البلدان مذ وقت طويل غضبوا وسفهوه، فهم ما زالوا ملتفين حول قادة حزبهم يشكلون منظماتهم الصغيرة، ويتصارعون على قياداتها رغم أنه لا تعدو بضعة أفراد لا حول لهم ولا تأثير، تقتصر نشاطاتهم على اجتماعات كسولة مكررة، يستهلكون فيها السجائر والكلمات دون جدوى. ورغم انهم لا يشمون عادة سوى رائحة فساءهم، لكنهم يحسون بامتياز ما على الآخرين، وبنشوة سلطة وتفوق وهميين، يحتفلون كل عام بعيد تأسيس حزبهم،يتبارون بالأغاني والكؤوس الطافحة واطباق الأكلات الدسمة، متحدثين عن انتصارات عظيمة. وجدوا أن نداء الشهداء هو صوت المهزومين الجبناء الذي يجب أن يرجموا ويجللوا بالعار والنبذ، وفضح عمالتهم للإمبريالية، وعلى الفور! لكن آخرين وهم قلة حقاً، ألقوا ما في أيدهم غلى أو رخص، ومضوا يهتدون ببوصلة مخيلاتهم التي ما تزال حية نشيطة لم تترهل بلذائذ المنافي، يعبرون القارات والمحيطات، ليصلوا أسوار العالم السفلي. وجدوا الكثير من الشهداء عند بوابته الرئيسية، فمالوا عنه خشية ان يهشموا عظامهم بالتزاحم معهم. راحوا يدورون حول جدرانه البيضوية الملساء علهم يجدون منفذاً، وصل خبرهم إلى مجلس انتفاضة الشهداء؛ فراحوا يناقشون: هل يعد المنفيون شهداء؟ اعترض البعض على ذلك، ورفضوا انضمامهم،إليهم قال أحدهم:

ـ هؤلاء عاشوا مرفهين في أحضان دول العالم الغنية، يتنقلون بين أجمل المدن، يعاشرون الشقراوات والسمراوات، يتناولون أشهى الأطعمة، يحتسون الخمور، ويعبئون جيوبهم بالذهب، متى تذكرونا، الآن فقط في يوم الحساب يخشون أن ندينهم؟

قال قائد الانتفاضة:

ـ لم يبق يا رفيق سوى أن تقول مع حكام بغداد: أنهم يعيشون على فتات موائد الأجنبي، وتكون معه في التشفي منهم؛ بدلا من الاعتذار لهم!

نهضت مجموعة كبيرة من الشهداء يدافعون عن المنفيين، قال بعضهم:

ـ انهم لم يخرجوا في نزهة، أو سفرة سياحية، أرغموا على الرحيل، اقتلعوا جذور قلوبهم من الوطن؛ ليظلوا يحاولون، عبثاً غرسها في أمكنة أخرى، فضاعت حياتهم وضاع أبناؤهم منهم إلى الأبد؛ فلا البلدان التي يعيشون فيها تقبلهم، ولا وطنهم لو عادوا إليه سيعرفهم ويقبلهم. نهم معلقون في خيوط واهية وسط الهاوية، هم يموتون قطعة قطعة، ذرة ذرة، نحن اخترقنا الموت بلحظة، هم كل يوم يهاجمهم الموت، يدب تحت جلودهم ودموعهم وحتى ضحكاتهم. عم هم شهداء ويجب أن يسمح لهم بالمشاركة في الرأي ومعرفة ماذا جرى لنا، ولهم وللآخرين، اتخذ مجلس الانتفاضة قراره : (افتحوا بوابة سموها بوابة المنفى: الاحتضار الطويل)وبسرعة تدفقت أفواج من رجال ونساء، كان حسن طلقة وهو يقوم بجولته المعتادة بين رفاقه الشهداء، يؤدي تلك الأعمال والمهمات الصغيرة التي صادفته أو طلبت منه، يفكر بعشتار وشهرزاد، ل حقا هما الآن ضيفتان على الشهداء، أعلم رفاقه بوجودهما،ابتسم بعضهم ولم يكترث البعض الآخر،أحدهم قال:

ـ الآن جاءت عشتار؟ أين كانت أمنا العزيزة هذه ونحن نتعذب في سوح النضال والسجون؟

آخر قال:

ـ شهرزاد ؟ ستجد هنا قصصاً تفوق قصص لياليها الطويلة!

ثمة شهيد قال :

ــ قصصنا كئيبة بائسة، لو روتها لملك أو سلطان لقطع رأسها على الفور؟

ومع ذلك اتجه إلى شهرزاد يسألها:

ـ أتريدين حكايات عجيبة للسندباد، لقد واصل العراقيون رحلتك مع السندباد، وما زالوا راحلين لم يكملوها بعد، رحلة السندباد كانت ممتعة، ورحلتهم ليست كذلك دائماً، لكن ما لديهم من حكايات؛ يكفيك لليالي الدهر كلها!

هزت شهرزاد رأسها بهدوء قائلة:

ـ نعم هي كثيرة لكنها سمجة وثقيلة، هكذا سمعت وأسفاه !

حين رأته أصيب بخيبة أمل قالت تقنعه:

ـ نعم يا حسن قد تجد من يروي، ولكن يصعب ان تجد من يستمع!

ـ كم أنا حزين لهم لقد ضاعت حياتهم، هل ستضيع حكاياتهم أيضاً؟

(51) تطوع لحرب واحدة في أسبانيا، فتطوعت لحروب العراق الكثيرة!

كنت أتطلع للطريق الطويل الممتد في أعماق الأبدية مظللاً بأشجار يبست وتفحمت منذ عهود سحيقة. لامست قلبي بغتة رائحة نارنج، نفحة قديمة تأتيني دائماً ممزوجة بنكهة المطر المسائي، وكنت دائماً أحس بفجيعة المستحيل في أن أرى ذلك الشخص الوحيد الذي يثيرها في قلبي، وقد رحل عن بلادنا ودنيانا من زمن بعيد: صديقي القديم جميل روفائيل. هل هذا معقول؟ أيكون هنا؟ كيف جاء من أسبانيا الثلاثينيات إلى هنا شمال العراق، ونحن في أعتاب القرن الواحد والعشرين؟ رائحة النارنج القديمة ضاجة بالذكريات، مبللة بالدموع، ندى حب ضائع مفعم بشذى الجوري والرازقي! رائحة طيبة وعظيمة جعلتني أشعر أنني لست في العالم السفلي، والغابات المتحجرة، الناضحة بالبترول الكريه، بل في جنة شبابي وأيام أحلامي الأولى الجميلة الضائعة! جميل روفائيل، صديقي القديم هو الذي ألهمني الفكرة الجذابة بموقفه البطولي،وشجاعته. مثل لي آنذاك إنسانية الشيوعي، يضحي بحياته من أجل أناس بعيدين عنه، لا يعرفهم ولا يمتون له بصلة قربى أو مصلحة خاصة. كنا صديقين نلتقي في مقاه على شاطئ دجلة، جهة الكرخ. كان يدرس الاقتصاد في بوسطن، بولاية ماساشوستس في أمريكا، مال إلى الشيوعيين إبان موجة الانهيار الاقتصادي التي اكتسحت العالم ثلاثينيات القرن العشرين، وجعلت حتى الأشجار كما حدثنا تميل إلى اليسار، خاصة في حدائق الجامعات الأمريكية، ومنتديات المثقفين، والمسارح واستوديوهات هوليود، والتي هزت عصب الرأسمالية فواجهتها بالمكارثية القامعة. كان متفوقاً بدراسته وبمنحة مجزية من الحكومية العراقية، تصله أيضاً من عائلته الموسرة مساعدة مالية مفتوحة، فكان يعيش حياة رخية هانئة مترعة بالكتب والفتيات الجميلات وكؤوس الشمبانيا والأسرة الحريرية الدافئة، والرحلات الباذخة! ما الذي جعل الأفكار الثورية والشيوعية الجافة تغلي في أعماقه وتقتلعه كالعاصفة قبل أن ينهي دراسته لتعود به إلى بلده العراق ثائراًً،مستعجلاً النصر الشيوعي العظيم؟ جاء يناضل مع أبناء وطنه ويبني الشيوعية في العراق، كما قال بما حصل عليه من معلومات في الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي،غير ممهورة بشهادة! تلك أسرار في النفس لا تدرك بسهولة!كان ثمة انقلاب قد حدث في أسبانيا، في 17 تموز عام 1936 ضد الشرعية الجمهورية اليسارية الحاكمة، وقد اندفع الشيوعيون الأسبان مع اشتراكيين وفوضويين وممثلين لموظفي الدولة والطبقة العاملة وفقراء ومشردين ومسحوقين في حرب ضد قوات الانقلابيين القوميين بقيادة الجنرال فرانكو، ضمت رجال الدين المحافظين وملاك الأراضي وكبار التجار، ودعمت من ألمانيا النازية وإيطالية الفاشية بالدبابات والطائرات والأسلحة الفتاكة. فراح يتقاطر لنصرة القوات الجمهورية اليسارية شيوعيون وثوار حالمون بينهم كتاب وشعراء من مختلف أنحاء العالم. كانت تلك كما قيل في أماكن كثيرة من العالم مجرد تمرين أولي للثورة العالمية التي لم تقم، بل قامت بدلاً عنها الحرب العالمية الثانية! وقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي نداءه إلى أعضاءه يهيب بهم التطوع لنصرة رفاقهم الأسبان جرياً على الموجة الأممية التي قادها السوفييت.كلما التقيت جميل روفائيل أجده قلقاً لا يستقر على حال. كنت أشعر بنبض ثوريته في أصابعه وهو يصافحني، أو يجلس حيالي في المقهى. أرى صدره يعلو ويهبط كأن ثمة بركان فيه. كان يطفح نقاءً واستعدادا لنصرة وخدمة الإنسان أينما كان، لم يكن بعد عودته قد قضى في بغداد سوى بضعة أشهر، كل ما فعله فيها قراءة منشورات وتحليلات من الحزب الشيوعي،الذي كان ما يزال أقرب للجنين، لقضايا دولية محلية كان يراها ساذجة وبدائية ومتخلفة كما قال لي. كيف شق طريقه من بغداد إلى أسبانيا ووصل إلى رفاقه الأسبان؟ كانت تلك معجزته الخاصة. اليوم يفاجأني بمعجزة أخرى: قدومه من قبره الضائع هناك بين جبال أسبانيا إلى كهفنا المجهول تحت جبال شمال العراق! كيف سمع بانتفاضة الشهداء وهو تحت الثرى الأوربي البارد وشق طريقه الطويل إلينا؟ ماذا جاء يقول؟ رغم لهفتي الحارة له، لم أعانقه، خشيت على هيكله العظمي أن يتهشم، اقبل هو يعانقني غير مكترث أن أضلاعه أخذت تتساقط رماداً، فاحت من عظامه رائحة جلساتنا في مقهى البيروتي ومقهى العانيين المطلتين على دجلة، وشجن الأغاني البدوية نسمعها معاً بصوت وربابة عكار في زاوية من مقهى البيروتي الكبيرة ذات الشناشيل المقابلة للجامعة المستنصرية القديمة على الضفة الأخرى. أحسست أيام شبابي وحياتي الماضية كلها تنهال عبيراً حياً فاغماً مع ذرات هيكله المنخور، كان ما زال يلهث متعباً فالرحلة بلا شك طويلة شاقة! من فرانكو وحلم الشيوعيين بسوفييتات أسبانيا في الثلاثينيات من القرن العشرين، إلى حلم شيوعيين عراقيين بالمراجعة وتطهير الذات في أوائل الألفية الثالثة في هذا الكهف، قلت:

ـ يؤسفني يا صديقي الحبيب؛ أننا نلتقى اليوم على رماد أحلامنا الضائعة!

قال ضاحكاً كعادته:

ـ لا تحزن على حلم ضاع؛ بل على حلم لا تستطيع صنعه!

لا يزال متفائلاً متدفقاً بالأمل كينبوع جبلي:

ـ وهل ما يزال علينا صنع الأحلام؟

ـ نعم، الشيوخ مطالبون بالأحلام أكثر من الذكريات، فذكرياتهم حزينة،عادة وأحلامهم عذبة ناضجة ممكنة، إنهم خبازون ماهرون للأحلام، عكس ما يشاع حول عجزهم عن الأحلام والعشق!

مازلت أتذكر ساعة غروب حزينة على دجلة كنت أجلس في مقهى العانيين، المطلة على النهر، قرب المكان الذي كان شريعة للقفف التي تأتي بالبطيخ الأصفر من سامراء، وللبلام التي تعبُر الناس بفلس أو فلسين، وقد بنوا جسراً حديثاً جميلاً حمل اسماً ملكياً صار يعرف فيما بعد بجسر الشهداء، أقرأ في كتب ضخمة شروحات قانونية مطولة؛ أريد أن أنتهي مما علي أن أقرأه كل يوم منها لأنتقل إلى قراءة الروايات والأشعار العربية، والعالمية باللغة الإنجليزية التي صرت أدرب نفسي على القراءة بها، ارقب طيور السنونو بذيولها المفروقة كمقص أبدي لا تعرف ماذا يريد أن يقص، أو أسرح مع طيور الغاق البيض على الشاطئين وهي تنقض على الأسماك الصغيرة،يرهقني النظر إلى برج قلعة القشلة، بقايا الجيش التركي،في الضفة المقابلة، بداية شارع السراي، كنت اسأل نفسي أحقاً حكمنا العثمانيون أكثر من أربعمائة سنة؟ وشدوا العراق وأهله إلى إمبراطوريتهم بحبال خيلهم وبغالهم. حين حطم الإنجليز وحلفاؤهم إمبراطوريتهم المريضة منذ زمن بعيد كما قالوا وطردوهم من العراق، لم يجدوا على هذه الأرض سوى خرائب وبقايا مدن صغيرة حائلة الجدران، آيلة للسقوط، تحفها وتكتنفها مستنقعات وسواق آسنة، يدور بينها بشر هائمون دون هدى كأنهم يخرجون لتوهم من الكهوف، على وجوههم صفرة وشحوب أمراض مزمنة وجوع طويل، وجهل وحيرة وتوحش! الإنجليز أدركوا أن هؤلاء الفقراء هم أغنى شعوب الدنيا، فهم كجمالهم التي لا يزالون يستعملونها في تنقلهم بين قراهم وأطلالهم، ظمآنة وهي تحمل الماء على ظهورها، جائعة وهي تدوس على ثروة هائلة مطمورة: النفط !راحوا يعاملوننا كأثرياء مؤجلين، قاصرين ينتظرهم ميراث أمهم، الأرض، فقرروا بدهائهم أن يقتسموا معنا الميراث قبل أن نبلغ سن الرشد، فكبلونا باتفاقات جائرة، لكنهم حرصوا أن يروضوا الوحش، لكي لا ينقلب عليهم فجأة ويفترسهم، حرصوا أن يدخلونا معهم العالم المتمدن. كونوا لنا دولة ودستوراً. جلبوا لنا ملكاً من الحجاز، ومن سلالة نبينا. جلبوا لنا الكهرباء والماء النظيف والبريد وأيقظوا لنا تاريخاً كنا قد نسيناه غارقين بأوحال لقمة العيش! ومع أن الإنجليز هؤلاء الشركاء غرباء عنا حتى في سحناتهم الشقراء وعيونهم الخضر، ورطانتهم الباردة، لكنني رأيتهم يعقدون معنا صفقة مفيدة: يهبوننا حضارة جاهزة، فنستمتع بكسلنا وتديننا، مقابل أن نهبهم زيتاً لحضارة ما زالوا يعملون عليها باجتهادهم! لذلك لم انفر منهم، ولم أكرههم كما حاول المتدينون والقوميون تعليمنا وتعبأتنا. هذا هيئني لن أتقبل الغرباء الآخرين الذين حدثني عنهم كثيراً جميل روفائيل: السوفييت، فهؤلاء أيضاً قالوا انهم سيهبوننا حضارة أخرى ليس مقابل نفطنا، بل مقابل القليل من دمائنا، نهدرها في سوح نضال،لم يكن يخطر ببالي آنذاك أنها تفتح الطريق لهم أيضاً! ملت أخيراً للسوفييت وجدتهم " ولا أدري كيف" يشبهوننا في أشياء كثيرة، وسيكونون عادلين معنا، سيضمنون كرامتنا أكثر من الإنجليز المتعجرفين!

دخل المقهى أحد أصدقائنا بوجه عليه إمارات جد، كنت أعرف إنه دائماً يبالغ بها. جلس جنبي. مال علي قائلاً بصوت يقارب لهجته الحزبية السرية المتسترة المهولة للأشياء:

ـ ألا تريد أن نذهب لوداع صديقنا جميل روفائيل؟

ـ هل سيعود لأمريكا؟

قال بلهجة مستنكرة مؤنبة:

ـ أهكذا تفكر؟

سكت برهة وهذه طريقته في خلق اللهفة لكلامه قال:

ـ سيذهب متطوعاً في اللواء الأممي لمقاتلة جيش الخائن فرانكو!

لا أدري هل أنا لم افهم ما يقول، أو لم أصدق أن شيئاً كهذا يحدث في بغداد، رأى دهشتي، أضاف:

ـ ذهب رفاقنا لتلبية نداء حزبنا متطوعين لنصرة رفاقنا الشيوعيين الاسبان في حربهم ضد الفاشية!

باغتني كمن يحاصر طائراً لصيده وقد رآه ينهل الماء من إناء العائلة الفخاري على تيغة البيت في صباح صيفي:

ـ هل تتطوع؟

ندت عني ضحكة يائسة، كنت دائماً ارفض اقتراح الشيوعيين أن أنضم إليهم، لا لأني غير مقتنع بأفكارهم، بل لأني كنت قد وجدت أن مهمتي الآن أن أنهي سنتي الأخيرة في كلية الحقوق، وأن أقرأ الكثير عن الفكرة، وأعب من الروايات والأشعار الجميلة، ولا أغرق فكري بقضايا منشوراتهم الصاخبة التي كان هو يجلب لي بعضها، قلت:

ـ بالطبع أنا أتضامن مع الأسبان في كفاحهم ضد فرانكو حليف هتلر، ولكنني لا أستطيع الذهاب إلى أسبانيا للحرب!

وأحسست بالخجل، كيف إن جميل روفائيل يذهب ليقاتل من أجل الشيوعيين في أسبانيا، وأنا أتردد أو أمتنع عن النضال مع الشيوعيين في العراق؟ مع ذلك وجدت إن الوقت لم يحن لدي للانخراط في حزب الشيوعيين، خاصة وإنني بين فترة وأخرى أسمع عن انشقاقاتهم وصراعاتهم في حزبهم الصغير وتعرضهم لاختراقات من الشرطة، فتقتاد الكثير منهم إلى السجون أو الفصل من الدراسة أو الوظيفة، نهضت، قلت له:

ـ هيا نذهب نودعه!

وجدناه مستبشراً كأنه سيذهب في سفرة إلى جزيرة جميلة ساحرة مع حبيبته لقضاء شهر العسل، وليس إلى منطقة قتال مجهولة قد لا يعود منها أبداً! جلسنا معه قليلاً،كنت أفكر:هل قرر التخلص من ربقة حزب خيب أمله، ليلتحق بحزب أوربي قد يجدد أمله بالشيوعية؟ لا أدري! كأنه قرأ تساؤلاً على وجهي.همس لي: "قررت تلبية نداء حزبنا وتطوعت للقتال مع الشيوعيين الأسبان" كان يحزم حقيبة صغيرة، تحيطه عائلته بين باك، ومبتسم،وواجم، خرج معنا إلى باب البيت، كان الهواء بارداً، متضوعاً بأريج حديقة بيت كبير مكتظة بأشجار النارنج، وما زالت محملة بثمارها الصفراء المتوهجة مغمورة بضوء الشبايبيك. قطرات مطر أخذت تنزل علينا، تحمل أحلام وبرد شتاء عام 1937 عانقناه وقد اختلطت بدموعي ونبضي المتسارع!

وأنا أعود وحدي في وحشة الليل، صرت أتساءل، إذا كان صديقي قد ذهب ليحارب ومن أجل شعب آخر وقد يموت، كيف أظل متردداً في الانتماء للشيوعيين، والنضال من أجل العمال المساكين في العراق؟ خاصة وإنني بدأت أحب السوفيت وأفضلهم على الإنجليز الذين لم أكرههم أيضاً؟ يومها حسمت أمري، لا طريق لي غير طريق الشيوعيين، اعتبرت نفسي منذ هذه الليلة عضوا روحياً في الحزب الشيوعي، لكنني أزمعت أن لا انظم للحزب كتنظيم إلا بعد تخرجي والاستزادة من التعمق بالفكرة، والتمكن من جوانبها، والمهم أن روحي واتجاهي حسما مع الشيوعيين! بعدها بسنوات وعقود صرت أقول، جميل روفائيل ذهب لحرب واحدة في أسبانيا وكانت واضحة ومحددة، فاستشهد ومضى بهدوء، أما أنا فقد دخلت حروب العراق الغامضة المدلهمة المتشابكة، والتي لا تنتهي إلا لتبدأ! كم مر على ذلك المساء العابق بشذى الضوء والشجر، ورائحة المقاتلين من أجل القضايا الكبيرة؟ أكثر من ستين عاماً، وأكثر من زمن آخر لا أدري أين مر، ودنيا أخرى، وسماء أخرى، وها هو ذلك المساء العذب ينهض في قلبي، تحت مطر ودموع ورائحة موت وحب منتهك! هو الآن بجانبي وقد عاد إلى الحياة من قبره في أسبانيا، قلت له:

ـ حدثني عن رحلتك إلى الشيوعيين الأسبان، كيف كانت؟ هل كانت ناجحة؟

ـ ناجحة حيث يلبي الإنسان نداء واستغاثة الإنسان! أما عن التفاصيل فهي كأي حكاية ثورية أخرى مملة، وربما فاشلة بائسة على الأكثر! انتصار الشرير القوي على الخَيير الضعيف، هذا إذا سلمنا بأن القوي شرير حقاً، والضعيف خيير حقاً!

ـ لنقل أنها كانت حكاية معقدة أكثر مما هي مملة!

ـ لا يهم الوصف، لقد عشتها ولكي أستعيدها؛ أريد أن أتأكد هل أنا حي حقاً أم مجرد وهم من أوهامك؟

قلت ضاحكا:

ـ هذا، وذاك!

ـ إذاً لقد فشلت وانتصرت في أسبانيا بقدر ما قاربت الحقيقة مرة، وفارقتها مرة أخرى!

ـ هي إذن قصة الإنسان، قديمة بثوب جديد، وجديدة بثوب قديم!

قال بنبرة من سئم الحكاية ويريد مغادرتها:

ـ رائع أن نلتقي ولسنا دوماً بحاجة إلى الحقيقة فالوهم لذيذ، وليتنا نستطيع الذهاب الآن إلى حانة! مت في أسبانيا بمعركة مع مفرزة فرانكوية، فدفنوني حيث سقطت في حقل عنب، كانت إلى جانب قبري معصرة خمر، لو تدري! طيلة موتي أعب ما يتسرب إلي من ذوب الياقوت، كنت نشواناً طيلة موتي، صرت مقتنعاً أن لا شيء في العالم يصنع الشيوعية، والأحلام الجميلة، غير العنب، أو معصرة العنب! قلت:

ـ أنت طيب القلب فرق لك أعداؤك وحجارة قبرك!

أعاد سؤاله:

ـ أنستطيع الذهاب إلى حانة؟

قلت بحسرة حقيقية:

ـ هيهات لنا ذلك الآن، ومع ذلك لننتظر، فهذا ليس مستحيلاً على من استيقظ من الموت!

ترى ماذا سيقول لو عرف ما جرى للعراق بعد استشهاده في أسبانيا؟

يبدو إنه رأى هزة رأسي: وأدرك معناها قال: عرفت كل شيء، قطعت الطريق من أسبانيا إلى هنا مع رجل بهيكل ضخم يدعي إنه جلال العطار الكاتب المشهور! لا أدري ما صحة ذلك! عبرت معه الغابات والبحار، كان قادما من النمسا، وقد خفف عني وحشة الطريق بأحاديثه الشيقة الكثيرة، لكنه أثقل قلبي بما أعلمني به من أنباء العراق في الستين سنة ونيف الماضية!

دهشت فرحاً، أحقاً ما تقول؟ جلال العطار نفسه؟ ظل يتطلع في وجهي حائراً لكنني أدركت على الفور إنه فعلاً جلال العطار ولا أحد غيره، صديقي القديم الذي في قلبي، والمفكر الذي انقلب على الشيوعية، وراح يسفهها، ويعمل جاهداً على إسقاطها، والحط من شأنها في أعين الناس، فجعلني أكثر فهماً لها واقتراباً منها وشغفاً في خوض غمار معركتها المريرة. زادت دهشتي وسروري وأنا أسمع أنه حدثه عن تاريخ العراق، هذا يعني إنه لا يزال بمزاج طيب للحديث! أي مهرجان روحي أعيشه الآن، أية هبات يمنحني إياها العمر في خريفه وأفوله، بل أية مساعدة عظيمة لي في بحثي عن الحقيقة اليوم، فالعطار رغم كل شطحاته وتحامله لديه ضمير نقي، وفكر حر، وذاكرة عجيبة خاصة في تاريخ الشيوعيين وقادتهم وله وقفات ممتعة مفيدة في تاريخ بلادنا، تحشرج صوتي وأنا أسأله:

ـ ولماذا لم يصل معك إلى هنا؟

ـ لم يسمحوا له بالدخول، قالوا له أنك صاحب بار ومرقص في (فينا)، ولا علاقة لك بالشهداء والثوار!

دون وعي، مسكت جميل من يده فتساقط من هيكله العظمي عظام لم يكترث لها وهو يقول:

ـ إنه هناك،المسكين يحاول إقناعهم أن المنفى هو استشهاد،وحشرجة طويلة، ولكن عبثاً، فهم لا يقتنعون!

ـ على أية بوابة هو الآن، هيا دلني!

ـ أظنه على بوابة الموت الثالثة!

أشار متعجلاً للطريق الذي أتى منه، استمهلته أنني سأعود إليه، وأنا لا أدري في زحمة العالم السفلي هل سألتقي العطار أم لا، وقد أحسست أن أحد أسباب مجيئه هو لقائي، مدركاً إن هذه الانتفاضة ما هي إلا موعد عام للأحباب المتفرقين في أنحاء الدنيا للقاء، وإنه سيندهش أكثر حين يجده حقيقة لا خيالاً! اصطحبت في طريقي حسن طلقة، حدثته عن العطار، قال إنه سمع عنه وقرأ له، وإنه يعده شهيداً أيضاً:

ـ الشهيد ليس فقط من يموت برصاصة أو مشنقة، أو زجاجة ويسكي يدقها في دبره ضابط الأمن بعد أن ينتهي من شربها، قد يكون الشهيد مات على صدر عاهرة، ما الذي ألجأه لهذه الميتة الحزينة البائسة غير عذاب أكبر؟ ولا تنس! العاهرة شهيدة مجتمع مظلوم وظالم!

قطعت الطريق إلى بوابة الموت مصغياًً لحديث حسن طلقه وتنظيراته في الشهادة والشهداء، ومصائب العاهرات، تناهى إلي صوت جلال العطار الجهوري صارخاً:

ـ أنا شهيد، وأكثر منكم جميعاً جدارة بمجد الشهادة، فأنا جئت لموتي ومنفاي وعذابي بوعي، وركلت امتيازات عهود حكم كثيرة!

تنحى الشهداء الواقفون على البوابة التي تحمل لسبب لا أعرفه الرقم ثلاثة، أمام حسن طلقه وهو يمد يده مقتاداً جلال العطار مرحباً به:

ـ أهلاً بك أيها المحارب القديم، والمفكر الجليل، يشرفنا أن تكون بيننا شاهداً وحكماً،،معذرة، فللشباب أخطر مساوئه: الجهل بالكبار وتجاهلهم!

كان هو جلال العطار بهيكله العظمي الضخم وبتعرقة القديم إذ كانت عظامه تقطر ماءً. تقدمت منه معانقاً، قال وكأنه قد فارقني قبل ساعات بين مقهى البرازيلية ومقهى شريف وحداد في شارع الرشيد، وليس قبل عشرات السنين، وبيننا الموت:

ـ ما زلت حياً مثقلاً بملابس أهل الدنيا ولغتهم الثقيلة!

أضاف ضاحكاً:

ـ كيف احتملت الدنيا بعيداً عن بيت المسرات وكؤوسه المترعة!

كان يعرف بحس الموتى أنني أسكن قمة جبل في أربيل مع الفقراء المعدمين وطيور الليل الشاردة! قال حسن طلقة وهو يتركنا عند باحة المحكمة:

ـ معذرة فهناك عشتار وشهرزاد تنتظراني، وقد تأخرت عليهما!

أخلى جلال العطار يدي قائلاً لحسن طلقة:

ـ عشتار وشهرزاد هنا؛ وتريدني أبقى مع صديقي الشيوعي الكئيب ثقيل الدم يونس رحيم؟ أريد أن أذهب معكم فأنا منذ أيام شبابي أحلم أن أكتب عن عشتار وشهرزاد روايات ومسرحيات!

قلت معترضاً :

ـ وصديقك القديم اللدود فهد ألا تريد أن تلقاه؟

ـ هنا أيضاً فهد؟ أما كفاه أنه نغص حياتنا الفانية، فيأتي اليوم لينغص حياتنا الباقية؟ لا تجمعني برجل جعل الطريق إلى سعادة العراقيين الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا، بعد عودتي للحياة ثانية، لن ألتقي إلا بمن يبث الحب والفرح والوئام الاجتماعي!

هم بالمضي مع حسن طلقة لكن هذا أوقفه بحزمه ورفقه المعهودين:

ـ لنتريث، سنجتمع كلنا في ساعة مناسبة!

حضور جلال العطار أيقظ الذكريات كلها، الحزينة منها والمفرحة. وأعاد طيف فهد بكل قوة، سيكون فهد حاضراً هنا حتى لو لم يأت لمحفل رفاقه الشهداء، حتى لو ظل جلال العطار يصمه بالسوء ويرفضه! كنت في كل سنوات عملي الحزبي أو تيهي وعذابي،،أتذكر جلال العطار وأرى أنه هو من كان يضع في جيبه أو رأسه وضميره مفتاح حقيقة الحزب وكنه مساره ومصيره! اليوم هبط علي من سماء لم يؤمن بها يوماً، رغم كل ما وهبته من مطر ونجوم وأجساد نساء وكؤوس وأخيلة قصص ورواية! بغتة رأيت هيكله العظمي يكتسي عصباً ولحماً ورواءً ويعود،هو نفسه جلال العطار الذي طالما مشيت معه دروب اللذات مسرعي الخطى نقتفي أثر أبي نؤاس في هوسه بجنان وغيرها من الحبيبات، أو دروب الحكمة بطيئي الخطى مقتفين خطى الجاحظ وأبي حيان التوحيدي:

ـ آه، يحي العظام وهي رميم، لحظة يهبها الله حتى لمنكريه!

صوت سمعته، ربما صدر من جلال العطار أو من هيكل عظمي قريب يتحسر، أو من حي يطمئن نفسه لما بعد الموت، قلت :

ـ هيا يا جلال العطار نسير الطريق من أوله، نعود لشبابنا، لأيام النضال والأحلام والحروف الأولى تتراقص على الورق نحلاً على الزهر، وكؤوس خمر تنسكب على صدور الحسناوات عسلاً على زبد!

رد بعنجهيته المعهودة:

ـ لا شك لدي، ان الله الذي أنكرته، سيأخذني على قدر عقلي، فيسامحني، ويعيدني للشبابي وبيت المسرات!

جعلني أرى الشيخ كيف يصير حين يعود طفلاً، يغدو بجناحين من حلوى، وشفتين ثرثارتين من ألسنة البلابل، دون أن يفارقه حزن على جبهته، ومع عرقه تسيل حكمته وذكرياته وصبواته، قلت:

ـ هيا!

ـ لن أبرح هذا المكان ما لم تأخذني إلى عشتار وشهرزاد!

ـ أعدك أن أعود بك إليهما حالما ننتهي من رحلتنا لماضينا البعيد الجميل!

ونحن نسير رآني أتلفت:

ـ عم تبحث؟

ـ عن جميل روفائيل!

هز رأسه، قال بلهجته الساخرة:

ـ هذا مجنون مهووس بالروح الإصلاحية، هو يريد أن يدرس اقتصاديات الآخرة ويضع طريقة للاقتصاد في استعمال النور في القبور!

ـ لكنه يريد أن آخذه إلى حانة!

ـ لا بأس! رغم إنه أوجع رأسي طيلة الطريق بحديثه عن مصائبه مع فرانكو!

لم أجد جميل روفائيل حيث تركته، قال لي أحد الهياكل العظمية:

ـ ذهب لزيارة أقارب له في القوش!

رد العطار بلهجة المتابع لشئون الدنيا:

ـ لم يعد له أقارب هناك، كلهم ركبوا الثيران المجنحة، وطاروا إلى أمريكا وكندا!

رد هيكل عظمي آخر:

ـ ربما ذهب لتفقد بقاياهم، علهم تركوا له بعض أوراق الشيوعيين!

لكن جلال العطار انبرى للقول:

ـ إنه ذهب إلى هناك لشرب العرق الألقوشي البيتي الفاخر الذي يقطرونه من أعنابهم الوفيرة على لحم الدجاج والعصافير المخلوط بالزعتر البري، وقد يحظى بحسناء ترضى أن يغازلها وهو مجرد جندي مهزوم مثقل بكل طعنات عصابات فرانكو ورفاقه الشيوعيين القدامى، حدثني ونحن في طريقنا إلى هنا أنه أدمن الخمرة في قبره، الإدمان في القبور مأمون،لا يخشى المرء من تشمع الكبد أو العقل، ولا يزعج جيرانه الموتى بهذيانه وتعتعته وأخيلته فبينه وبينهم لحود من صخور وصمت ورياح، خاصة وهو كان يتلقى خمرته مجاناً متسربة في شقوق الأرض من معاصر الفلاحين الأسبان قرب المقبرة!

ربما أهم ذكرى عاد إليها العطار هي ذكرى حبيبته نورا، تلك التي أحبها، وبعد ما حدث له معها لم يحب امرأة أخرى، راح يغرق نفسه في الخمور، وأحضان النساء لينساها أو ليتذكرها، وهل تنسى نورا؟ أحبها بهوس رهيب. انتقل من البصرة إلى بغداد من أجلها،وحين فجع بها عاد إلى البصرة عله ينسى، فما نساها، نسى روحه، وعقله وإبداعه فترات طويلة،ولم ينسها! لا أدري هل سيأتي جميل روفائيل لحضور المحاكمة، أم ستثقله الخمرة، ورائحة الأنثى؛ فيظل حيث هو يستعيد ذكريات وأحلام زمان مضى على هواه وهوى ريح جبال هذه الأرض التي اصفرت عليها الكثير من الكروم والوجوه والعظام؟ سمع نداء رفاقه القدامى وهو في أسبانيا، ذهب إليها سكران بخمرة رهبان الشيوعية العالمية التي لا تقل ثقلاً ومكراً عن خمرة رهبان أديرة نينوى. ما يزال في قلبي أمل أن ألقاه ثانية، رائحة ذلك النارنج تنعش روحي، تبدد رائحة خمرة الموت السوداء التي أترعت بها كؤوس هؤلاء الشهداء المساكين، ولا بد لي أن أشربها اليوم معهم!

(52) لو كنت معنا في احتفالات المكسيك: سرب حسناوات يسبحن عاريات في غدير مع القمر والنجوم!

ملت على العطار :

ـ يا صديقي، ذاكرتنا نحن الأحياء ثقبتها أحداث هذا الزمان التعيس، ذاكرة الموتى لا تزال عامرة بالكثير، أريد أن أستعين بذاكرتك على تلمس طريقي الروحي، أنا الحي متعب، وأنت الميت تبدو نشيطاً وأكثر إقبالاً على الحياة، فهل تساعدني على ترقيع ذاكرتي؟

توقف العطار، نظر في وجهي كما كان يفعل ونحن نسير في دروب بغداد القديمة، قال:

ـ أرجو أن لا تعكر صفو أيامي الجديدة في الدنيا! ما عدت لهذه الدنيا؛ لأعيد معك مسارك الحزبي الخائب، أنا عدت لنسائي الحبيبات، ولخموري التي زادت تعتيقاً بعد ابتعادي عنها في رحلة الموت اللئيمة!

ـ ولكنك استيقظت على بوق الشهداء؟ وقلت على البوابة أنك شهيد عظيم!

توقف، نظر إليُ، كأنه يلومني أنني أفحمه وأحرجه، أشاح بجمجمته الكبيرة عني صامتاً متفكراً، عاجلته بسؤال:

ـ هل أعجبتك هذه الدعوة الكريمة من الشهداء، أتعتقد إنها مجدية؟

اقبل علي كعادته في الزعل والرضى كالطفل، وتلك عادته في حياته حتى بعد أن وخط الشيب رأسه:

ـ أنها هبة عظيمة من الشهداء لأنفسهم وللناس أيضاً، حضورهم إلى الدنيا، يعني عودة الأمل، سطوع الحقيقة، يومهم هذا ذكرني باحتفالات جميلة في المكسيك يدعونها: أعياد عودة الموتى، شهدتها في إحدى جولاتي حول العالم؛ عندما كنت غنياً أعيش مع عشيقتي في النمسا!

هناك ينطلق الناس بشجاعة وذكاء، يقلبون أحزانهم إلى أفراح، يملأون الشوارع والساحات في كرنفالات يرتدون فيها ثياباً تنكرية متنوعة مبهرجة، من حرير أو صوف، تمثل هياكل عظمية ويسيرون على أرجل خشبية طويلة، هياكلهم العظيمة ملونة براقة فرحة! اعترضتني فتاة مكسيكية شابة رائعة جريئة، بجسد شهي:

ـ الناس هنا لا يقهرون الموت، ذلك مستحيل، هم يقهرون الخوف منه، هذا ما يستطيعه الإنسان!

تأبطتها وسرت معها سكرانَ جذلاً بين رجال يعبون الخمرة، ويلتهمون سجق العجول المتبلة الشهية، يرقصون وهم هياكل عظمية، قالت فتاتي:

ـ الحياة الدنيا ليست سوى حلم، حين يموت الإنسان تبدأ حياته الحقيقية! هم لا يتحدثون عن جنة أو نار، هم يتحدثون عن حياة أخرى، حرة أبدية فقط!

ورغم إنني أعرفها خدعة نقولها نحن هنا في الشرق بكلمات أخرى، لكنني وافقتها وأنا أسكت فمها بقبلة شهوانية طويلة. قدتها إلى حجرتي في الفندق، في يوم عودة الموتى يصير الحب مباحاً حتى للعجائز، أنهكتني في مضاجعتها، قلت لها:

ـ أنت تصغرينني بأكثر من ثلاثين سنة، يصعب علي مجاراتك!

قالت وهي تضمني إليها اكثر:

ـ انس العمر، في يوم عودة الموتى، يعود الشباب، وتختفي الشيخوخة، ويعيش القلب الحب لأقصى حد!

ولما انتهينا، بقيت عارية بين يدي لا تريد أن ترتدي ثيابها، قالت كأنها تتحدث عن موعد حقيقي مع أحبة، بيننا ساعات حتى يحين موعد قدوم موتانا الأحياء، لنقضيه في الفراش، أخذت يدي وضعتها بين فخذيها قائلة: كن مكسيكياً وتجول بين أدغال غابتي، واقطف منها الذرة المشوية بحرارة الشمس! كانت تريد المزيد من المضاجعة، وأنا لا أستطيع. سألتها:

ـ والآن ماذا تقولين هل الحياة هي الحلم، أم الموت هو الحلم؟

ردت بإصرار:

ـ الحياة هي الحلم، والموت هو الحقيقية، بدليل أن كل هذه المتعة الهائلة انتهت كنسمة عابرة!

وستبقى ذكرى.والذكرى هي جدث تنبثق منه حياة جديدة. خرجنا إلى الشوارع، كان الناس لا يزالون يتجولون بثيابهم، هياكل الموتى! اقتادتني ألي بيت أبويها، استقبلنا أهلها كعروسين. لم يكترثوا لشيبي وشيخوختي. يبدو حقاً أن الشيخوخة تختفي في عيد عودة الموتى، كان البيت مزداناً بأكداس الورد، والشموع. استخرجوا صور أحبتهم الموتى. وضعوها فوق باقات الزهور والغصون المتراصة، وأحاطوها بالإيقونات والرموز المقدسة. صار أحبتهم هناك، يطلون بعيونهم الحقيقية لا من صورهم الفوتوغرافية عليهم، وهم منهمكون يطبخون لهم أشهى المأكولات المفضلة لديهم. يصفون على الموائد قناني الخمور، وينشرون غيوم البخور والعطور. بعد أن انتهوا من تحضير ما يليق بالموتى الأعزاء العائدين جلس أفراد العائلة الكبيرة في صمت. لحظات ويعود الموتى. هم لا يطرقون الأبواب. سيدخلون مع النسيم والضباب وعطر البخور والشموع وعبق الزهر. يأتون على دفعات، يسبقهم الأطفال وقد اكتسوا في الموت حلة الطيور. بينما تقرع الكنائس، وتهبهم الطبيعة رياحها ونسائمها المبشرة بقدومهم. قالت لي فتاتي:

ـ لابد أن لك أحبة، تريد لقاءهم. ما عليك سوى أن تضع صورهم على باقة ورد، سيأتون حتما!ً

ـ أحبتي بعيدون، قبورهم في العراق، وفي منافي عديدة، وراء البحار!

ندت عنها ضحكة إصرار:

ـ لا يهم! سيعودون، صدقني. هنا صارت بقعة جذب هائلة أقوى من كل ما في أرض الموت من جاذبية للموتى! قم! هيا! ضع صورهم هناك فوق الورود! وإذا لم تكن تحمل صورهم يكفي أن تكتب أسماءهم وتواريخ ميلادهم على أوراق صغيرة، وسيعودون، يجلسون معنا، سيتذوقون الطعام والشراب المكسيكيين لأول مرة.

كانت تتحدث بثقة وهدوء حتى لقد أقنعتني أن أحبتي نهضوا من قبورهم بانتظار إشارتي إلى الطريق. سيدخلون علينا ويجلسون على المائدة العامرة. سيشرب الخمرة حتى من كان لا يشربها، ويندم إنه قضى العمر يحرم نفسه من فردوسها! كانت جلستنا صافية نقية، كأننا متحلقون حول غدير صاف، وفتيات البيت الجميلات عاريات يراقصن القمر والنجوم ويغرقن في نفحات الحب.

نهضت كتبت أسماء أحبة لي، صمت وعاد صوته يتحشرج.

أدركت إنه تذكر نورا، لا حاجة لأن يضع أسمها أو صورتها بين صور المنتظرين من الأحباب! اسمها ووجهها محفوران في أعمق طبقات روحه! وطيفها يتبعه أنى ذهب، آخر الدنيا، وما بعدها أيضاً!

دائما كنت أتذكر ما كان يقول عن علاقته أو عذابه معها: (غيابها كان الصخرة التي وقعت على قلبي وسحقته، كل حياتي بعدها هي محاولة جمع حطامي متوسلاً بالنساء الأخريات وبالكتابة دون جدوى، ما دفعني لمحاولة الانتحار بالسياسة وثرثرتها الفارغة وبالخمر والمقامرة، فكانت محاولة فاشلة أيضاً، لقد مدت بعذابي دون أن تنهيه، لا حقيقة في حياتي سوى نورا، ولكن أين هي الآن؟) حقاً أين هي الآن، هل رآها في عالم الأموات؟ كم أتمنى أن استعيد قصة حبه معها، كانت قد ألهمتني في حينها الكثير من الأحلام والرؤى الجميلة، ربما سيحدثني بشيء عنها، فهو قد قال لي قبل قليل: بعد الموت وعيت نفسي جيدا. الإنسان لا يعي نفسه إلا بعد الموت، حين يكون كل شيء لا جدوى منه،أو فات أوانه!

عاد يقول: كنت والجهنمي بين من استدعيتهم! ظننتك ميتاً، بعد فراقنا الطويل بقيت أتذكرك، وأنت في خضم نضالك المرير، لا أستطيع تصورك إلا وقد وقعت في قبضة السلطة، ولن يتركوك تفلت من أيديهم حياً. انتظرتك وأحبتي الآخرين تعودون مع الموتى المكسيكيين، خيل إلى أنني شممت روائحكم في شذى الورد ممزوجا برائحة الشموع المحترقة، والجنس وهو يحرق الأجساد، قلت ذلك يكفي، قلت ربما أذابوك بالحوامض كما صرت أسمع عن طرائق تخلصهم من خصومهم السياسيين، مما جعلك لا تستطيع أن تلم جسدك وتأتيني إلى المكسيك، إلا رائحة زهرة محترقة! ومع ذلك عرفت الطريق إلى المكسيك كما كنت تعرفه إلى بيت المسرات، وحانات ومقاهي بغداد الغابرة! ذلك أكد لي صواب ما قالته لي تلك الفتاة المكسيكية التي أحببتها في يوم عودة الموتى. كم اشتاق لها الآن. لو أطلق سراحي إلى الحياة من هنا لما عشت إلا في تلك القرية المكسيكية، ومع هذه الفتاة الجميلة. جمالها يستحق أن أمنحه عمري، والأبدية كلها!

قلت ضاحكاً:

ـ ليتني حين طلبتني كنت ميتاً؛ كنت جئتك إلى المكسيك بكامل جسدي لا مجرد نكهة زهرة محترقة، كنت عرفتني على صديقة لفتاتك المكسيكية‍.

قال مبتسماً وجاداً: لم تفتنا حياة ما بعد الموت، وعل فتاتي في المكسيك تتذكرني وتستدعيني في يوم عودة الموتى. هيا حضر نفسك أدخل عالم الموت بسرعة لآخذك معي إلى المكسيك. أخشى أن يكون الحزب الأهبل قد جعلك تنسى كيف تضاجع الغانيات الجميلات! ما رواه لي أفرحني كثيراً، جعلني أتصور أن ما يجري هنا، هو نفسه الذي يجري في قرية مكسيكية، فقط هنا الحفل متقشف بلا أطعمة شهية، ولا خمور، أو زهور، لا رقص ولا غناء. والشهداء هنا لا يقيمون حفلة تنكرية، يرتدون بها ثياباً عليها رسومات هيكلة عظمية. إنهم يلبسون هياكلهم العظمية نفسها، وهم يدعون الأحياء لمحفلهم، ولا يكلفونهم عناء طبخ أو تهيئة شراب أو عطر أو حتى فرش للجلوس. حفلهم متقشف بجو عراقي حزين. أفرحني أيضاً أن جلال العطار تذكرني هناك، وهو ما يزال مخلصاً لأيامنا القديمة؛ رغم إنني خالفت نصيحته، واعتنقت الشيوعية، وانغمست في النضال والعمل الحزبي، ونسيته، بل صرت أمر بمقهى شريف وحداد ولا ادخل للجلوس معه، أو السلام عليه!

صرت الآن أكثر انشداداً له، واكثر قناعة أنه سيرافقني هنا في وجودي بين الشهداء، أو في رحلتي لتقصي مساري القديم؛ رجوعاً إلى بداياتي الأولى: ولا أدري هل هو سيلتحق بعالمي فنعود حيين ولو لفترة قصيرة، أو نعود معاً أنا وهو، إلى عالم الأموات، حتى تتكرم علينا فتاة مجهولة في قرية مكسيكية فتدعونا إلى مخدعها الدافئ المعطر ومائدتها الشهية في يوم عودة الموتى؟ قلت، مستغلاً تحسن مزاجه بعد أن استعاد ليلة الحب المكسيكية:

ـ هل تساعدني في إيضاح الأمور لي، فقد كثرت سحب الغموض في أعماقي؟

ـ وهل رجوتني يوما وخذلتك في شيء؟ رغم إن كل أشيائك حزبية ونضالية مقرفة!

سل ما تشاء، ورقع ما تشاء،سأجيبك وأرقع معك أسمالك! حتى إذا أردت أن ترقع بالذكريات حذائك أو لباسك الداخلي...لا يهم، سأساعدك على دق المسامير،والذكريات في قلبينا معاً!

ـ ساعدتني بشكل معكوس، بطريقة ما، على صعود جبل الفكرة من المنحدر إلى القمة، واليوم أريدك أن تعينني للنزول من قمة الجبل إلى المنحدر!

توقف لحظة يتأملني مدركاً ما أريد:
ـ أعرف أن ذلك يقتضي المرور بصاحبك فهد، ليكن، فالموت قد صالحنا بعض الشيء، وإن كنت أفضل أن نذهب لبيت المسرات، لا أن نقضي وقتنا الثمين القليل معه أو بذكراه.

قلت وهل نستطيع الوصول للمنحدر، حيث الطريق البسيط،دون المرور ببيوت المسرات، والأحزان كلها؟ سنلتقي بصديقنا الظريف الجهنمي أيضا، لم أدهش إنه تذكره عند الفتاة المكسيكية فهو متعلق به، وكأنه يعوض في نفسه شيئاً مجهولاً. سمعته مرة يقول عنه إنه جسر لا بد منه بين الحقيقة والوهم، بين العدل والظلم، بين الصدق والكذب، بين الجد والهزل! قال أن الجهنمي عاد بكامل جسده، وانهمك كعادته في مضاجعة نساء البيت المكسيكي حتى إنه لم يوفر أم صديقته!

(53)  بين مسقط الرأس، ومسقط الروح، حكاية؛ امنحني صبرك عليها!

قال العطار، وقد ألهبت خياله بيوت المسرات في بغداد: ـ هيا!

وأتجاهل هبة أشواقه إلى بغداد؛ فأسأله: أتريد أن نذهب إلى الموصل؟

ـ لا. الموصل مسقط رأسي، لكن بغداد مسقط روحي! في قبري كنت أترنم بأغاني ولهجة أهل الموصل، اكتشفت أن الإنسان حين يهبط قبره لا يتحدث إلا بلغة مسقط رأسه عند الولادة، فهذا كل ما تبقى لي بعد الموت من مدينتي القديمة!

كنت أول من ركب أول قطار سار بين بغداد والموصل. كان ذلك في صيف 1940،كان كثير من الموصليين لا يزالون حزانى على مليكهم غازي. وجدوا فيه الزعيم القومي الذي يحميهم من أطماع الأتراك، ومساعيهم التي لم تتوقف حتى الآن لاقتطاع مدينتهم من جسد وطنهم. وعصابات كرد لا تنفك تهاجمهم فتقتل وتنهب وتسلب. ومع ذلك خرجوا يلوحون ويغنون للقطار الذي يربطهم بعاصمتهم الكبرى، ومثوى غازي هناك! ولكنهم بعد فترة لعنوا القطار، فقد صار فجأة وحشاً كبيراً يبتلع أحبتهم ليغيبوا إلى الأبد. يسمعون أنهم هاجروا إلى أمريكا أو كندا، تصلهم منهم رسالة، أو حوالة صغيرة، ثم يعم الصمت والسكون،فراحوا يغنون (ألعن أبو للقطار لا بو حركاتو، أخذ حبيب القلب وخلاني بحسراتو!) أهل الموصل كما تعرف يلعبون على الراء فيلفظونه غيناً، ويشددون على القاف، فتزدحم على ألسنتهم كل أقمار وقطارات وقلاقل الدنيا! وكل ما يبدأ أو ينتهي بالقاف فيزقزق ويقوقئ، ندت عنه ضحكة قصيرة: كنت في قبري أغني أغاني الموصل. وكان بجانبي رجل ألماني: كان يقول أنت لا تتركني أنام، لقد فرحت بموتي لأنه خلصني من أغاني زوجتي التي تغني في الحمام وتمأمئ كالعنزة. ثم أتيت هنا لأسمع منك أغاني الدجاج؟ كان العطار سعيدا وهو يستعيد ذكريات القبور في هواء الدنيا بعد غيبة طويلة عنها، مسكين لقد تعذب كثيراً، كان في منفى داخل منفى، وفي موت داخل موت!

تفتحت فجأة شهية العطار للكلام والروي، تحدث بلهجة جادة كأنه ما يزال يمسك بالحياة، ولم يغب عنها لحظة واحدة، وسيكتب كل ما لم يستطع كتابته في حياته الأولى:

ـ طلبت مني ان نهبط معاً هذا الجبل متوغلين بين حطب حياتنا الماضية، نحكي عن كل ما جرى. هذا يقتضي وقتاً طويلاً. قبور الشهداء مفتوحة تنتظر ان تكون أنت ورفاقك هناك لتحسموا أمرهم؛ فيعودوا لراحتهم الأبدية. لماذا أيقظتموهم وفتحتم جراحاتهم بعد أن بلسمها الثرى؟ ولماذا أثرت موضوع خيباتنا وخسارتنا الهائلة؟ من أين نبدأ وكل حجر نمسكها على هذه الأرض تحمل أوجاع قلوبنا،أحلامنا المحطمة المتناثرة، ذلك البلور الذي رجه انفجار كبير، وأحاله شظايا سقطت في كل مكان. لا ندوس الآن إلا على بقايا قلوب وأرواح تكون هذه المتاهة الكبرى؟ يا صديقي الحديث يطول، ويطول دون نهاية أو نتيجة. وأقول له:

ـ لا يهم لندع قبور الشهداء مفتوحة تنتظرنا، لقد تعودوا على الانتظار والصمت والهواء المثقل بآهات البشر.ويجيبني العطار:

ـ لا يا صديقي أنا قادم من عالم القبور وأعرف مزاج الموتى. لقد تعبوا كثير من صمت السماء والأرض، وظلام الأعماق، والهواء المثقل بعطور زهور ونساء ورجال لا يحق لهم استنشاقها؛ فقد انتهت كل حقوقهم فوق الأرض! ومع ذلك هم الآن في لهفة لسماع حديث وأخبار الأحياء. أنت قادم من عالم الأرض المضاءة بشمس وقمر، تعرف مزاج الأحياء، ورغبة بعضهم في سماع أحاديث الموتى وأخبارهم، لا يهم سأجاريك، لتبق قبورهم مفتوحة، جروحاً أخرى في قلوبهم، شقوقاً أخرى في أيامهم الخاوية. الجهنمي يقول كل البيوت، وكل المقاهي والحانات تتحدث وتثرثر، بينما قبور أحبتها مفتوحة بعيداً عنهم تسمع وتلتزم الصمت، للجهنمي تجليات في السكر والصحو وفي الطهارة والدعارة! إذاً اصبر علي يا يونس كما صبرت وأنت في بطن الحوت، سأحدثك عن كل شيء قادنا إلى هذه المأساة، وإلى هذا الخراب الكبير! ولكن إذا أنت نسيت أن قبور الشهداء مفتوحة تنتظرنا فأنا لا أنسى، وسأقوم أنا الميت بهزك من كتفيك وأقول لك: هيا لنعد إلى قبور الشهداء! والآن يا صديقي سأحدثك عن أيامنا الأولى فما دمت تريد حكاية خيبة الناس، وخيبة بلادهم، سأحدثك عنهما تباعاً، لن أغفل أحدا. سأحدثك عن الشيوعيين والقوميين والبعثيين والديمقراطيين عن الدينين، واللادينين، عن العرب والكرد والتركمان والأقوام الأخرى،عن الحكام والمحكومين، هذه الحكاية التي تجر أخرى، فأية حكاية لا يمكن لك أن تفهمها على حقيقتها إلا مع ما سبقها من بدايات ومقدمات وأرحام. فإذا حدثتك عن الشيوعيين لابد من الوقوف عما سبقهم من أضواء وومضات وأنوار وتباشير، لو تحدثت عنهم،دون ذلك فكثير منهم سيسكتك على الفور قائلاً: لقد بدأ رفاقنا في أرض بكر جديدة خالية جرداء هم أول من حرثها، وهم أو من زرع فيها الزهور الحمراء أو الزرقاء! لا يا صديقي، لقد كانت الأرض قبلهم خصبة، وفي بقاع كثيرة خضراء يانعة زاهية بالأفكار والنظريات، وجاءوا هم كالعاصفة واكتسحوا كل شيء! والآن اسمعني!لا تسرع المشي! فأنت تدري أن سيقان الموتى مجرد حزم دخان ونار وريح!

ربما تعرف إنني من عائلة عطارين، والناس يسمون الموصل بأم الربيعين، هذان الربيعان اللذان يمران على الموصل كل عام، بعد أن يشبع الناس من عطرهما وأحلامهما ويشبعان من روائح الناس ونكهات أطعمتهم وحكاياتهم، لا يرحلان بعيدا. يحلان في بيتنا، ومعمل تقطير الزهور الملحق به. تعلمت من صغري، احتضان أرواح الزهور وهي تنبثق من أعماقها ممزوجة بالنار والبخار. علمتني الزهور كيف استخرج العطر من الكلمات أيضاً، صدقني الكلمات كالزهور لكل كلمة عطر يختلف عن الآخر! أتدري ماذا قالت لي شهرزاد في لقائي معها الذي شهدته أنت (جعلني أجفل فهو لم يلتق شهرزاد حتى الآن، وتلك طريقة العطار في التعويض عن الأشياء) قالت: قرأت قصصك. وجدتك مثلي تولد حكاية من حكاية، وكلمة من كلمة، ولكل حكاية لديك نكهة، وكل كلمة شذى ورائحة خاصة. قلت لها تلك شهادة عظيمة أعتز بها، وهي تساوي عندي كل ما كتبه النقاد عني، أو كل إهمال النقاد لي! أن يستيقظ روائي من الموت ويجد شهرزاد تمتدحه فكأنه قد عاد إلى الحياة مرة أخرى وإلى الأبد هذه المرة‍! ‍‍لذا أرجو أن لا تمل ولا تسأم إذا وجدت إنني مثل شهرزاد أولد حكاية من حكاية، وكلمة من كلمة وحلماً من حلم. هذا قدرنا، وهذه حكايتنا الطويلة كلها. فمآسي العراق ولدت الواحدة من بطن الأخرى. ستجد لساني يفلت مني لأقول كلاما لا ينسجم وأناقة كلام هذه الأيام. حين أردد لازمة شهرزاد(حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر؛ لكانت عبرة لمن اعتبر) كانت شهرزاد تريد ان تجعل من يستمع لها يرى بعينيه قبل أن يسمع بأذنيه، واليوم أريد أن ترى ما عشناه، وما لم نعشه رأي العين، وبما يتحقق منه البصر والبصيرة معاً، ولا تعجب إذا ما قلت ونحن نتذكر ساعات أفراحنا القديمة الهاربة (وما زالوا في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هازم اللذات، ومفرق الجماعات) فزماننا كزمانهم لا شغل له غير هذا، فهو لم يبدل مهنته، وحرفته السخيفة المملة هذه، يهزم اللذات ويفرق الجماعات، وستظل أحزاننا تتوالد هكذا؛ حتى نعرف الرحم الذي لا يلد سوى مآسينا، ونغلقه كما تغلق فوهة البئر السام!سأروي لك كل شيء. رغم إن كل شيء، قد لا يكون شيئاً على الإطلاق، لكن شيئاً صغيراً منسيا وحزيناً غائصاً في القلب قد يكون هو كل شيء. تمهل! اسمعني! فقط أرجو أن تعرف كثيراً من الأشخاص سيتحدثون بأصواتهم لا بصوتي، فأنا أحياناً لا أجد صوتي، أتذكر فجأة أن دود القبر قد أكله فيختفي على الفور، وحالماً أستعيده منهم، ومن تحت صخور اللحد سوف أحدثك به. لكن ذلك يؤلمني، فأنا أراك كيف تعاني حسرات ودموعاً لتستعيد أصوات وملامح أحبتك من مخالب الموت. لا أريد أن أحزنك بما يحمل لك صوتي من ذكريات زمان مضى بكل أفراحه وأحزانه. سيتحدث لك كثيرون بأصواتهم، فاستمع ولا تحزن، عهدي بك صبوراً، ومستمعاً جيداً. لا تقاطع محدثيك حتى لو جلبوا لك أسوء الأخبار، وأنزلوا على رأِسك كل شتائم، ولعنات العالم!

سكت برهة وعاد يقول: أعرف أن الشيوعيين كتبوا تاريخهم على القاعدة الجائرة "التاريخ يكتبه المنتصرون، فرغم أنهم منوا بهزائم شنيعة، لكنهم وجدوا الفرصة لينتصر بعضهم على بعض، ويشنوا غزوات وهمية على ظلالهم وأشباحهم! وعلى رفاقهم القدامى المساكين! وعلى نفس نهجهم في القسوة، شوهوا أسماء وسمعة خصومهم، ولطخوها بالأقذار، وفي أفضل الأحوال طمسوا، أو أعلوا شأن من وجدوا فيه صورتهم في الاستعلاء والاستغراق بأوهام المجد. وهكذا جعلوا فهد وحده خالق ومؤسس كل فكرة تقدمية في العراق، ومؤسس وباني فكرة الاشتراكية، بينما هو الذي سحقها مذ جعل أول خلية شيوعية في الناصرية أوائل الثلاثينات هي البديل للاشتراكية وأي مفهوم آخر للعدالة الاجتماعية! وهكذا مسحوا جهود كل من سبقه من مفكرين ومنظمين كانوا يريدون لفكرة أن تتميز بخاصتين أساسيتين أن تكون أصيلة وممكنة! ناضجة ومرتبطة بأرض العراق وأهله، قلت: نعم هذه إحدى الهموم التي أصابت الشهداء بالأرق في قبورهم؛ فنهضوا ليرووا تاريخهم من جديد!

(54) الجهنمي: إنجليزي بدم عراقي ساخن!

توقف العطار لحظة، سألني:

ـ هل سيأتي الجهنمي من قبره؟ كم أنا مشتاق إليه!

ـ يصعب أن يعده رفاقنا شهيداً، لكن ما الذي يمنعنا استدعاءه من تلك الأيام، وقد صار الزمان مفتوحاً أمامنا ذهاباً وإياباً،من بداية الوجود حتى نهايته.

وأزمعت في سري أن أعود لجلسات شرابنا ولهوننا ومجوننا‍. تلك هي التسلية الوحيدة للعجزة العميان من أمثالنا. هل قلت إنني مع العميان؟ هل يتفضل العميان على قبولي بينهم؟ أنا مثلهم لا أرى العالم إلا من داخلي.

كانت مقاهي شارع الرشيد القديمة تضم أفندية كهول ومسنين، ممن تسرحوا من دوائر العثمانيين بعد أن هشمت كراسيهم دبابات الإنجليز. وجبات كبيرة من المتعطلين،لا يزالون في حيرتهم أيظلون في بطالتهم، أم يلتحقوا بدوائر دولة بدأ الإنجليز بناءها على غرار مستعمرتهم الهندية، وبرواتب تصرف بالروبية. جيل من الشباب بدأ يتجرأ على العمل مع الإنجليز أو في دولتهم الناشئة في العراق. سمعنا أن ثمة نساء يرغبن لأول مرة للعمل موظفات في الدولة.(لا زلت أتذكر فرح واحتفاء الكثير من الناس بجلوس أول امرأة عراقية على كرسي الوظيفة في الدولة، كأن جلوسها ذاك عندهم جلوس الملك على العرش! بينما لقي تسفيها وعداءً من الرجعيين والمتدينين المتعصبين، وعدوه لعنة استعمارية، وواحدة من إمارات قيام الساعة!) فتحت في الجهة الشرقية من شارع الرشيد والباب الشرقي مقاه حديثة هي مطاعم ومشارب أيضاً، لتستوعب طبقة من المثقفين البغداديين الجدد وخاصة القادمين من الخارج، بعد إنهاء دراساتهم العليا، كانوا يشمئزون من المقاهي العتيقة، ويستنكفون أن يختلطوا بالأفندية المستغرقين بلعب الطاولي، يسمونهم أيتام الدولة العثمانية! فصارت في تلك الأيام كلمة (أفندي) شتيمة بعد أن كانت تقدمة تكريم واحترام. افتتحوا في شارع الرشيد مقهى جميلاً أسموه البرازيلية، وحضرنا حفل افتتاحها، شربنا أولى فناجين قهوتها المطيبة بنكهة برازيلية أدت في أعماقنا فعلاً رقصة السامبا كما قال صاحب المقهى، وهو يقدمها لنا في صينية مذهبة مجاناً للدعاية والإعلان!

اخترنا أنا والعطار مشرباً ومطعماً حديثاً يقع في نهاية شارع النهر ويطل على بداية جسر الملك غازي، كان يدعى مطعم شريف وحداد.

كان الجهنمي يجلس معنا في مقهى شريف وحداد،في شارع الرشيد.، اسم الجهنمي الحقيقي: عبد القادر شاكر. كان طويلاً، أشقر، رشيقاً دون أناقة،بعينين خضراوين، وشاربين ناعمين كستنائيين، كأنه إنجليزي، يمازحه العطار:

ـ لا بد أن أمك نامت مع إنجليزي حين احتلوا العراق، ثم ذهبت لتحج خمس مرات؛ عل الله يصخم وجهك بالسواد، ولتكفر عن ذنبها؛ خاصة إنها أنجبتك أنت، ولم تنجب ولداً آخر!

كان عبد القادر يضحك لكلماته، ويفخر أنه يجالس أستاذه، ويتحمل دعاباته ومزاحه الثقيل، ثم ترين عليه سحابة حزن فيقول:

ـ ربما صحيح إنني من نسل إنجليزي، فأنا أحس باغتراب دائم، ولا أستطيع أن أنتمي للناس هنا، أو أن الناس هنا لا يريدونني أن أنتمي إليهم!

ويعود العطار ملاطفاً:

ـ أنت إنجليزي بدم عراقي ساخن، أنت فلتة هذا الزمان،تجمع بين عبقرية الإنجليز وبرودهم، وجنون وغباء العراقيين وحرارتهم! كان على الإنجليز أن يضمنوا لك موقعاً لك في الدستور، كوريث شرعي لأمجاد الإمبراطورية البريطانية في العراق!

يصمت العطار،و تتعالى ضحكات عبد القادر، فيعود العطار:

ـ ومن يمنعك من تلقي أمجادهم؟ تستطيع أن تنصب نفسك إمبراطوراً على مقبرة الجنود البريطانيين في بغداد!

كان عبد القادر الجهنمي مدمناً على الكحول مفرطاً في التدخين والسهر، متهالكاً على المومسات حتى المبتذلات والمريضات منهن، قوياً نشيطاً بنفس الوقت، ما جعله موضع تندر وضحك بعضنا، وازدراء ونفور البعض الآخر، كان أغرب صحفي رأيته في حياتي! مصيبته هي رغم أنه كاتب بارع، ومترجم موثوق من الإنجليزية، ويكتب بتدفق ودقة، وقدرة على الإقناع، وصاحب موهبة مبدعة. لكنه،منشطر إلى شخصيتين واسمين، وقلمين متناقضين متصارعين مأجورين. فهو يكتب في صحيفة "العهد" جريدة نوري السعيد وأتباعه مقالاً ضد ياسين الهاشمي، وحزبه ثم يذهب إلى جريدة الإخاء الناطقة باسم الهاشمي وحزبه؛ ليرد على مقاله بنفس القوة، ونفس الحجج باسم آخر، أو باسم الصحيفة، ويستلم أجره! ويكتب مقالاً في جريدة الأهالي أو صوت الأهالي جريدة جماعة الأهالي المعارضة والجادرجي فيما بعد مقالاً قوياً مؤثراً ضد الحكومة، باسم مستعار طبعاً، أو غفلاً من التوقيع، ويتلقى أجره عليه، ثم يذهب إلى صحيفة (الدستور) القريبة من نوري السعيد والدولة فيكتب مقالاً يرد به على المقال الذي كتبه قبل ساعة، كان يحمل معه قائمة من الأسماء التي يتخفى خلفها: النسر، والعقاب، الحمامي، العصفوري. الذئبي الشقندحي،الشمري، العزاوي الجبوري الأسدي،العنزي، الضبعي وحتى الكلبي!

(أجرة مقاله من جريدة الحكومة أعلى عادة، لكن لمرة أو مرتين تلقى أجراً من جريدة المعارضة ضعف أجره من جريدة الحكومة، كما قال) يستلم أجوره من هنا وهناك، وينطلق إلى منزول القحاب أو إلى بيت سري (كم دلنا أنا والعطار على بيوت سرية متواضعة فقيرة للعاهرات الجميلات اللواتي يسميهن (بالمصونات المستقلات الناشئات)،فكان العطار يهتف:

ـ عاهرة مستقلة تعمل لحسابها؟ هذا مستحيل. إلا إذا استطاعت دولتنا أن تستقل وتعمل بحريتها وحسابها، عاهراتنا مثل دولنا العربية الناشئة لا بد من قوي، شقاوة، حام، يحرسها ويبتزها!

يصرف الجهنمي أجور مقالتيه المتناقضتين في ليلة مع عاهرة أو جلسة مع أصدقاء! فيعود إلى هوسه المتناقض ليحصل على المال، لكنني كنت أرى هناك دافعاً أقوى غامضاً في أعماقه يلجأه لهذا التفكك المرهق للعقل والبدن، فيضيع كل الشيء بالتفاهات، وبنمط من السفاهة والسخف والتلاعب بالحقائق، وقضايا الحياة الحساسة. ورغم سخرية العطار منه، لكنه كان ملازماً له، حتى إنه أراد أن يلقب نفسه بالزهار تقرباً وتشبهاً بالعطار! لكن لقب الجهنمي سقط عليه كاللون الصمغي. وذلك لطبيعته الغريبة المركبة المثيرة لقضايا خطرة ومؤذية يعدها البعض جهنمية. لا يكفي أن يسمى غريب الأطوار، يعتبره الكثيرون عدمياً انتهازياً أو عبثياً أو مستهتراً. أنا والعطار كنا نتقبله ونجالسه ونحبه ونفهمه على أنه أحد ظواهر زمن غريب لا عجب أن يطبع بغرابته جماعة من المثقفين في مجتمع ما يزال يتأرجح بين ماضيه العثماني القريب، وحاضره الخليط من الإنجليزي والبدوي العربي المهزوز، ومستقبله المجهول، قال مرة للعطار (أنشأت قلمي متغذياً من شهد قصصك ومقالاتك) فاستغرق العطار بالضحك وهو يقول:

ـ سأتبرأ من قلمي الذي انجب قلماً عاهراً!

كان الجهنمي يقول:

ـ أنا لا أومن بشيء لا في السياسة، ولا في الحياة، ولا في الوجود،أنا عبثي بتفوق وامتياز!

أنا أكتب مقالاً وأنا صاح. وأكتب مقالاً وأنا سكران. هذا كل ما أستطيعه وأستمتع به!

ويقصد أنه يكتب مقاله لصالح المعارضة، ضد الحكومة وهو صاح، إذ ينبغي أن يكون فيه حذراً يقظاً في اتهاماته وهجومه على الحكومة، أو بالأحرى يتهمها في المواضع التي يمكنه دحضها أو كشفها في مقالته اللاحقة على أنها محض هراء وكذب واختلاق. أما المقال الذي يكتبه وهو سكران فهو الذي يكتبه دفاعاً عن الحكومة، يقول:

ـ أكون قد خدرت ضميري قليلاً، ثم آخذ راحتي؛ فأقع بالمعارضة شتماً وتوبيخاً وتهديداً حيث لا خوف منها يقتضي الحذر. لكنني مع ذلك أحرص على أن أظهرها ضميراً ومحوراً للشعب موثوقاً أكثر من الحكومة المتجبرة!

وينطلق ضاحكاً:

ـ وهكذا أنا مناضل أيضاً بطريقة استثنائية؛ لا ترد في سجل المناضلين الأطهار!

ظل يواصل كتابته المزدوجة سنوات فأحياناً هو الذي يبدأ الهجوم على نوري السعيد وحكومته من صحافة الأهالي ثم اليساريين والشعبيين، ثم يذهب إلى صحافة نوري السعيد ليكتب مقالاً يرد على مقاله الذي كتبه في اليوم السابق في (الأهالي) ثم (صوت الأهالي)،حين يبلغ السيل أبواب الحكومة ويهدده بالخلع والانجراف، يرفضون مقاله قائلين:

ـ لا ذوله الشيوعيين ميفيد وياهم غير كفخات علراس،ودوس بالقنادر،شنوا مقالات وحجي جرايد؟ لازم نسحق راس فهد سكرتير الحزب،هو موغيره،اللي كتب هذا المقال!

فيعود الجهنمي خائفاً مرتجفاً لينزوي بأقرب ماي خانة ويأخذ يعب العرق ليهدئ نفسه.

أتذكر أنه كان حين يكتب مقالاً ضد الشيوعيين أو الأحرار، أو حزب الشعب الناشئ أو بقايا جماعة الأهالي يأتي إلينا ويأخذ بشتم نفسه، وعائلته التي لم تربيه على خلق أو ضمير، كما يقول وينخرط ببكاء وشهقات ثم يخلع حذاءه يتوسل بنا والجالسين معنا أن نضربه على رأسه به (أضربوني بأحذيتكم أيضاً، والعنوا والدي ووالد والدي) من منكم يكتب مقالاً يفضحني أو يلعنني به سأحمل المقال بنفسي إلى الجريدة لنشره! معلناً توبته عن مقالاته التي يصفها ب(كلام قوادين وقحاب ومناويك) لكنه في اليوم التالي يعود للعبته الكتابية وبهوس أشد!

كنت أرى أن ما يقوم به ليس لعبة أو هواية أو حتى لوثة ثقافية، إنه ضمير ممزق قلق صاخب في جدل مستعص عقيم. إنه أكثر من تفكير بصوت عال، وأقل من محاولة تحريك الناس للجدل عبر إرادة واعية جريئة رغم أن شخوصه الحكومة والمعارضة ومسرحه العراق، كنا نقول: إنه مرض الكثيرين الذي يخفونه وراء قناع من رصانة وطهارة وأبهة وابتسامات وأكاذيب أخرى مختلفة!

ـ بعد صولاتي وجولاتي مع القحاب السياسيين، عليً أن أمر على بيت القحاب الشريفات!

هكذا يسمي منطقة الميدان حيث حبيباته كثيرات:

ـ كل قحبة هي حبيبتي، وهي شريفة لأنها لا تعذبني، تمكنني من فرجها وقلبها ببضعة دراهم، أو بالأحرى بمقالة أو مقالتين سياسيتين، هذا هو الحب العظيم! ليس فيه غرام وهيام وسهر ووجع راس!

ويشير بيده من المائدة جهة منطقة الميدان الواقعة قبالة وزارة الدفاع قائلاً:

ـ وزارة الدفاع الحقيقية هي التي في الميدان في حجرات قحابنا الجميلات حفظهن الله، ومنحهن مزيداً من الصحة والجمال وطول العمر، وقصر اللسان، خط الدفاع الثاني والحقيقي عن العراق بأسره، الفتيات الطيبات المقهورات، هن من يمنحن رجالنا الشجاعة، والتوازن والقوة والثقة بالنفس، لا ضباط وعرفاء وزارة الدفاع الذين يدوسون على كرامة الجنود والناس ببساطيلهم. هل سمعت يوماً عن مؤامرة أو محاولة انقلاب تهدم استقرار البلد قام بها القحاب؟ كل الانقلابات والكوارث تأتي من الضباط، فما أن يجلس أحدهم في نادي الضباط، ويكرع زجاجة ويسكي حتى يرى نفسه قد صار طاووساً، وملك الملوك، فيركب دبابة ويقتحم الإذاعة يريد أن يذيع البيان الأول الطافح عادة بالأكاذيب والوعود المعسولة، وما أن يمسكوه ويسمحون له بالذهاب إلى المرحاض لينتهي من بيانه الأول، ويسكبون على رأسه سطل ماء بارد حتى يعود يغرد: مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح! نعم بيت القحاب هو بيت السلام، وبيت وزارة الدفاع هو بيت الحرب، لذلك قاما أحدهما قبالة الآخر، في باب المعظم! ورغم إنني أعرف ان النصر سيكون في النهاية لبيت الحرب، وهو الذي سيحكم العراق في النهاية تكراراً لبكر صدقي، صاحب أول انقلاب عسكري في بلاد العرب، لكنني سأظل نصيراً لبيت السلام. الجنس في العالم أساس حضارة، إلا عندنا فهو صار بالكبت والتجاهل أساس خراب، نعم أنا من أتباع فرويد، كثيرون هنا صاروا من أتباع ماركس، وصارت لحيته لحيتهم، ولحية أجدادهم أيضاً، وكثيرون اتبعوا داروين، وصاروا يؤمنون بأن أجدادهم كانوا قردة، بل كلاباً وأولاد كلب، ولكن قلة عندنا يؤمنون بفرويد أو حتى سمعوا به، رغم أن بعض أئمتهم شتموه على منابرهم، وهم لا يعرفون عنه شيئاً سوى أنه شخص أمراضهم وعقدهم!

(55) زمن صار فيه فرويد: فريد الأطرش!

لم يفطن الجهنمي إلى موت فرويد، إلا في ذكراه العاشرة وفي التحديد عام 1949، فشد ربطة عنق سوداء وأمر صويحباته القحبات برفع علم أسود كبير فوق حيهن في الميدان. صار يخفق عالياً بمواجهة العلم العراقي فوق ثكنة وزارة الدفاع، ثمة عريف من الوزارة دخل إليهن مستفسراً عن سر رفع علم الأحزان، وهذا الحداد المفاجئ في حي الهناء والسرور، فقالت له قحبة بصوت ممزق وقد جف ريقهاً:

ـ عيني احنا حزنانين على فريد الأطرش!

تحول فرويد على لسانها إلى فريد، وبالذات الأطرش، معبودها الذي يفجر دموعها، فتستحم بحزن صوته وتتطهر كل يوم، قال العريف وهو يقترب منها:

ـ خسارة،غنى في بساط الريح "على بغداد..على بغداد، بلاد خيرات بلاد أمجاد!"

لكن الفتاة ردت :

ـ لا عيني، لا خيرات ولا أمجاد، هي وينها؟ شوفة عينك اغتصبونا الأشراف وبهذلونا، أنا أحب أغنية: وحداني حعيش كده وحداني!

وجد العريف أن المصاب جلل في موت المأسوف على شبابه فريد الأطرش (ربما في تلك اللحظة كان فريد الأطرش يرقص في القاهرة مع سامية جمال) فلم يجد العريف غضاضة في الجلوس بين القحاب في مأتمهن على فريد الأطرش، خاصة وهو مسؤول عن رصد ومراقبة حيهن ما دام قبالة وزارة الدفاع، غير متدخل بالجوانب الجنسية أو الأمنية المتعلقة بجرائم القتل غسلاً للعار التي تقع كثيراً في بيوتهن الصغيرة، ولا الصحية المتعلقة بفحص فروجهن ووقايتها من السفلس في مستشفى المجيدية المجاور! وقد اشتط في مجاملته لهن، فقدم لهن التعازي باسم الوصي ووزير الدفاع والحكومة، وعندما اقترح عليهن أن يأتي بإمام الثكنة العسكري لقراءة القرآن وإقامة الفاتحة بشكل مضبوط،قالت القحبة المسؤولة عن النزل:

ـ أوي عيني لا تقبض قلوبنا، خليها هيجي فاتحة قحاب أحسن!

كان العطار يقول عن عبد القادر شاكر:

ـ إنه ظاهرة فكرية عظيمة فهو أول رجل ديالكتيكي، فكر وسياسة يستعمل الحكومة والمعارضة في سيرك واحد، وليس فهد الذي لا يعرف الجدل في حياته، لا يعرف سوى النظرية الجامدة، والأوامر القاسية القادمة من موسكو، المفجرة للضغائن! الجهنمي هو الديالكتيكي والأكروباتيكي الوحيد في العراق حتى يثبت هلال رمضان العكس!

حين كنت أسأل الجهنمي عن نهجه هذا، كان يرد في كل مرة بكلام مختلف، لكنه قال لي مرة:

ـ التاريخ العراقي يثرثر برأسي كل يوم فأسكته بعرق التمر، وعرق العاهرات الجميلات!

وتدخل العطار قائلاً بجد:

ـ فعلاً هو صوت التاريخ العراقي. لو تأملته جيداً لوجدته: ذكاء مفرط، وغباء مقرف، حكمة وسخف،جنة ونار، نظافة وقذارة، براءة وذنوب، حب عظيم وكراهية أعظم، سعادة وشقاء، كلها من عقل واحد، وروح واحدة لماذا نزدري الجهنمي وحده؟

في تلك اللحظة سمعت العطار يقول :

ـ هو ذاك.

قالها بنفس اللهجة التي قالها أرخميدس : وجدتها، وتلفت وإذا هو بالجهنمي يسير هيكلاً عظمياً يشف عن وجهه الوسيم وقامته الممشوقة الرشيقة، وجدتني أقول همساً:

ـ مرحباً بك بين الشهداء .

لكن الجهنمي مضى بنفس مشيته السريعة الثابتة عندما كان يتجه إلى حانة البلابل الخمسة قرب ساحة الخلاني، قائلاً بصوت مستنكر، وقد ذهلت كيف سمعني:

ـ شهداء؟ ما هذا الهراء؟ أتعتقد أن الموت قد أصابني بالجنون؟ لا شيء يستحق تركي راحتي الأبدية وعودتي لسخف الحياة، إلا أحضان نرجس وصويحباتي القحبات الرقيقات، سأترك الشهادة للأغبياء. وهرع مسرعاً متجاهلاً ندائي له: (ستضيع إن لم تسر معنا!) توقف فجأة، قبالتنا كأنه قد فارقنا أمس فقط، وليس قبل عشرات السنين حيث طواه موته الفاجع قال:

ـ ومن قال لكما أن الاستشهاد وقف على السياسيين رفاق العنف والكراهية، أنا لا أرى شهيداً حقيقياً إلا شهيد الحب، في العراق ملايين من شهداء الحروب والأحزاب والسلطة، ولكن لا يوجد إلا قلة من شهداء الحب، وأنا أولهم!

راح العطار يضحك قائلاً:

ـ ماذا فعل الموت بك؟ أكل ألطف خصلة فيك: تواضعك، تريث نحن لم ننكر أمجادك الغرامية، وقد ذكرناك وافتقدناك، تمهل،حتى الشهداء أنفسهم ركلوا الأمجاد السخيفة!

قلت: ـ هيا أيها الجهنمي معنا، جئنا نفتح أيامنا القديمات الجميلات. كما يفتح السكارى الظامئون زجاجات النبيذ المعتقة!

تهللت أساريره جلس معنا في الكهف يرتجف، طفل أضاع أبويه،والتقاهما بعد يأس ورعب.

عندما خرجنا سوية، قال بصوت خائب ضجر:

ـ حتى الآن لم أجد جنة ولا نار، وقد حيرني وأنا في قبري ذلك العداء المستحكم بين الشيوعيين ورجال الدين بينما هما أقرب الناس لبعضهما، فكلاهما يريد الجنة للبشر، وبالفكرة الوحيدة القامعة المقدسة، وبالحزب المقدس القامع الوحيد! الفرق بينهما أن المتدينين يريدون الجنة بعد الموت، بينما الشيوعيون يريدونها قبل الموت. كلاهما جنته غير مؤكدة. المؤكد لديهما الجحيم الذي يزجون الناس به طريقاً للنضال! أضاف:

ـ لو يسمحان لي لقمت وسيطا بينهما ليبنوا الجنتين معا، فالإنسان يحتاج لجنة قبل الموت وأخرى بعد الموت، وما المانع من قيامهما وأرض الله واسعة كما يقولون؟

قال العطار ضاحكا:

ــ ويجعلونك فيهما وزيرا للجنس والفحشاء والمنكر والبغي، فأنت أعظم قواد في الوجود!

قال الجهنمي ضاحكاً:

ـ أنا مستعد،صدقني، لن أترك رجلاً أو امرأة ينام إلا وشريكه في حضنه،وزق الخمر بجانبه!

بخطوة واحدة فوق الموت عدنا لأيام كنا نملؤها ضحكا وسفاهة، وحكمة أحياناً،وما زالت هي جنتي المفقودة التي أنام وأصحو عليها!

 

باب المحكمة

 

وسائلتي أين الطريق وسائل

وهل يسأل الصعلوك أين مذاهبه؟

شاعر قديم

لك أن تضعني تحت صخرة أو سيف!

وتسألني ما تشاء!

ما دامت لي غيمة

زهرة بيضاء على غدير!

طائر يعبر فوق بيتي، نغمة شاردة، ومضة نجمة ولدت لتوها،

قلب امرأة طيبة.. مم أخاف؟

الشاعر المجهول من أيس

 

(56)  استعداد القاضي أن يكون متهماً، معيار النزاهة!

بينما كان الشهداء منشغلين بين فرح وحزن بلقاء أهليهم وذويهم كان مجلس الانتفاضة يناقش أمرين مهمين. الأول :اختيار قائدٍ لانتفاضتهم. كانوا أنفسهم متعجبين كيف نجحت دون ان يكون لها قائدُ. الأمر الثاني هو تشكيل هيئة المحكمة التي ستتولى محاكمة قادتهم القدامى الذين جروهم إلى الموت، وساهموا في خراب البلاد! بعد مداولات مكثفة وسريعة. انتهوا إلى أن من الأفضل ان لا يكون لهم قائد. فقد ينتهي إلى دكتاتور. والسلطة تغري بالاستبداد حتى ولو في عالم الموت والفناء! والثاني الذي شددوا عليه جميعاً أنهم لا يريدونها محكمة حزبية. فهم لم يعودوا في الحياة، ولم يعودوا في الحزب! لقد قشرهم الموت، ولم يبق منهم سوى لبابهم! وما حدث أكبر من أن يعد قضية حزبية ضيقة سمجة، وقليلة الحياء والبهاء! إنه انتهاك حقائق كبرى وعذابات بشر! وهم يريدون من وراء محكمتهم أن يقتربوا من الإجابة على سؤال ظل يؤرقهم طيلة رقادهم في اللحود: لماذا حدث كل هذا الخراب، ومن وراء ذلك؟ لكنهم اتفقوا على أن يكون الشهيد أنور مجيد مجرد منسق عام لعملهم، لا صلاحية له في تحديد مسارهم بل في تنظيمه وحسب، وتظل قيادة الانتفاضة بأيديهم جميعاً. كان أنور الأكثر نشاطاُ بينهم رغم صمته. عندما استشهد في قصر النهاية؛ كان في حوالي الأربعين من عمره. حدث رفاقه عن موته: كان ذلك عام 1969 كنت مسؤولاً عن تنظيم مدني في الحزب، أعتقلت في القضية التي تسبب بها "حميد" . اعتقدوا إنني أحد أعضاء المكتب العسكري؛ فتولى ناظم كزار مدير الأمن العام التحقيق معي، وتفنن في تعذيبي. لم تكن لدي أية معلومات عن الخط العسكري، ولا أعرف حتى الآن إذا كان لدى الحزب تنظيم عسكري، كان كزار قبل كل جولة تعذيب يقول لهم أمامي زيادة في ترويعي: عذبوه بأقصى ما تستطيعون! ولكن احذروا ان تتركوه يموت، لا تجعلوه يأخذ أسماء رفاقه الشجعان معه إلى القبر! لكن الموت أرحم منهم، جاء سريعاً! عرفت وأنا في قبري أن ناظم كزار لحق بي إلى عالم الموت بعد أيام قليلة في مؤامرة قيل أن صدام استدرجه إليها ليتخلص منه، وتلك طبائع الذئاب المسعورة! قال أنور: واجهنا البعثيين في أوج طغيانهم وغرورهم، وضحى مئات من رفاقنا بأرواحهم وأزهى سنوات عمرهم، تحت التعذيب. واجهوهم بكل شجاعة؛ فكيف لا يواجهون اليوم قادتهم وفكرتهم! ظلم ذوي القربى أشد مضاضة وبشاعة! كان أنور بهيكل عظمي فارع كشجرة مرت عليها صاعقة، بوجه جميل، مرح، طيب وكريم، من أسرة فقيرة. اضطر للعمل في ورشة حدادة في شارع الشيخ عمر في بغداد. متوقد الذكاء، ثقف نفسه بدأب ذاتي وامتلك قدرة على الحديث والكتابة بطلاقة، لكنه كان يؤثر الصمت دائما، وكان يطمح أن يكون أديباً، كتب قصائد وقصصاً وأبقاها مطمورة يخشى نشرها. عمله اليومي لإعالة أخواته الثلاث وأمه ونشاطه الحزبي المتواصل حد من تفتح مواهبه الأدبية. أستشهد في ذروة شبابه. اعتذر عن قيادة الانتفاضة وأصر على أن تبقى جماعية ويكون ثمة وجه ناطق باسمها.اقترح أن يكون حسن طلقة. لم يجد رفاقه أمام إصراره من إعفائه من مهمة القيادة على أن يكون له دور متميز بينهم، عندما رأى يونس رحيم بينهم فرح كثيراً واقترحه ليكون رئيساً لمحكمتهم،فرغم أنه من الأحياء لكن الشهداء يعدونه أحدهم لتضحياته ولصدقه ونقائه، كما هو محام قديم، عرف بثقافته القانونية وخبراته القضائية الواسعة،سجله في المحاماة الحافل بالدفاع عن المناضلين دون خشية السلطة، وتبنيه قضايا الفقراء في المحاكم دون أجور، وقد دفع ثمن نقائه ونظافته، سنوات طويلة من السجن والاضطهاد،وشظف العيش، وعندما وجده أنور أمامه بين تجمع الشهداء عانقه مستبشر خيراً بنجاح انتفاضاتهم والآن يطرح عليه ترأس المحكمة! اعتذر يونس قائلاً:

ـ لا. هي ثورتكم وأنتم أعرف مني بالقضايا التي يجب محاكمتهم عليها. أنا أيضاً كما تعرفون لي مع السكرتير ومجموعته قضايا قديمة وجديدة، أخشى أن لا أكون موضوعياً كما يجب عند محاكمتهم أو إصدار الحكم عليهم!

تقاطر شهداء عليه يرجونه أن يقبل عضوية المحكمة، لكنه اعتذر، قائلاً :

ـ على العكس إنني أطلب أن أكون مع المتهمين لأحاكم، لا لأصدر حكماً!

قال له أنور:

ـ أنت دائماً يا رفيق تدهشنا بمواقفك، وتجعلنا نحبك أكثر!

اتجه أنور إلى الشهيد نافع بديوي مقترحاً عليه ترأس المحكمة. استشهد نافع في أوج ألقه النضالي. لم يكن قد درس القانون، لكن هذه المحكمة حسب رأي أنور لا تشترط أن يكون رئيسها حقوقياً أو مارس في حياته القضاء؛ وإن كانت تفضله كذلك إذا كان مثقفاً موضوعياً فمحكمتهم إنسانية عامة وحرة. ونافع قد لا يكون ملما بنظرية الحزب، لكنه،وهذا هو الأهم، كان قد اعتنقها معتقداً أنها مشروع للعدالة الإنسانية، ثم تكشفت له فكرة ضيقة مناقضة لروح الإنسان الذي لا ينبغي أن يكون متحجراً أو مغلقاً بل منفتحاً على الفكر الآخر، والحياة والناس. كما كان يتمتع برصانة عالية ومتانة خلقية ولم يكن حاقداً أو متحاملاً على أحد، ليس في صدره سوى تطلع للحق والعدالة،وأعتقد أن الحلم الشيوعي يحقق ذلك. جاء من بلدته الصغيرة أيس في أعالي الفرات إلى بغداد للدراسة. انخرط في النضال مع الشيوعيين، احتل بجدارة موقعاً قيادياً في تنظيمهم الطلابي. كان بإمكانه أن يعيش في بحبوحة، ويستمتع بحياة الشباب في بغداد.ويعب من مفاتنها ولذاتها مع القادمين ظامئين من الأرياف أو البلدات النائية، فهو من أسرة موسرة لديها أراضٍ زراعية وأعمال تجارية في بلدته "أيس" لكنه عاش في بغداد بشظف وتقشف في سكنه وطعامه مشاركاً الطلاب الفقراء كدحهم ومعاناتهم. كان عائداً ليلاً إلى حجرته في حي شعبي قريباً من علاوي الحلة. عندما تصدت له سيارة الاغتيالات الخاصة بالمخابرات، كانت تترصده وتلاحقه فباغتته مسرعة في الاتجاه المعاكس لتقذفه على الرصيف جسداً مهشماً وتلوذ بالفرار، كان أنور يقول لرفاقه:

ـ لي ثقة أن المحاكمة التي سيقودها نافع؛ ستكون عادلة وسليمة!

ظل يتطلع في الوجوه الخفية لرفاقه الشهداء. كانوا صامتين، وثمة رضا وهدوء على وجوههم. كان الشهيد نافع بينهم، بقامته المتوسطة منحنياً منهكاً، ما زال يعاني من كسور صدمة السيارة، يتحرك ببطء وهدوء، وظل ابتسامته الحزينة الواهنة يمتزج بخجله المعهود، على وجهه المدور العذب الملامح، كان في تواضعه يخشى الإقرار بأنه شهيد، هم أن يقول شيئاً لكن الشهيد أنور سارع للقول:

ـ كثيرون من قيادات للحزب سابقة ولاحقة ممن ستفضح المحاكمة جناياتهم، وتهز مواقعهم سيقولون أن هذه المحاكمة نزوة طائشة من شبان وهميين، متهورين، غير نزيهين وسيطلقون استغاثات بائسة، وحين يكون نافع رئيساً للمحكمة سيفحمون، ولا يجدون ما يلفقونه ضده فهو شهيد نقي، عاش واستشهد صفحة بيضاء!

كان الشهيد نافع يحس بتساقط شيء من رماد عظام وجهه، فيمرر يده عليه متذكراً عرقه أيام كان يعمل في الصيف مع عمال البناء،لا لعوز، فقط ليشارك العمال ضنك الكدح، ثم يمنح أجرته لمن يعرف أن لديه أطفالاً، والأكثر حاجة بينهم. هفا قلبه لتلك الأيام ولسخونتها اللاهبة، قائلاً لا نحس بلذة أيام الصيف في بغداد حتى نكون في برودة الموت "تنبه لنظرات رفاقه تريد جواباً؛ فطلب أن يعيد الرفيق كلامه، فأعاده مضيفاً ضاحكاً:

ـ أتمنى أن لا يأخذك الذهول على منصة المحكمة أيضاً!

قال الشهيد نافع:

ـ أعتز يا رفاقي بثقتكم، لكنني أعتقد أن هناك من هو أجدر مني لرئاسة المحكمة! ويكفيني سروراً إنني معكم في مجلس قيادة الانتفاضة!

قال أحد الشهداء بصوت حزين هدئ:

ـ لا نريد القول،ليس هناك من هو أجدر منك، ولكن يمكن القول ليس هناك فرصة أهم من هذه المحكمة يتجلى فيها نقاءك واعتراضاتك على المسيرة الخائبة كلها!

ـ ولكنني ما زلت مقتنعاً بعدم صلاحيتي لرئاستها؟

ـ لماذا؟

قالها أنور بحزن وعتب وكأنه أحس أنه خذل من الرفيق نافع الذي قال :

ـ ببساطة لأني لست حقوقياً أو ملماً بالقانون والقضاء!

قال أحد أعضاء المجلس:

ـ ولكنا نريدها محكمة ثورية!

قال الشهيد نافع بهدوء مؤكداً على الكلمات التي كانت تخرج من شفتيه الغائبتين مختلطة برماد الموت:

ـ رغم رفضنا للنظام البرجوازي لكن أرجو أن لا يقودنا هذا لرفض القانون، أو النظام كله. لذا أرجو أن يكون رئيس هيئة المحكمة مختصاً بالقانون بل وبالفلسفة أيضاً لكي يضبط الأصول القانونية للمرافعات، ويضمن روح العدالة! ولا تنسوا أن مصيبتنا نحن الشيوعيين أننا أردنا أن نهدم عالماً واضح المعالم والأسس، دون أن يكون لدينا تصور واضح لأسس وقوانين العالم البديل، لذلك اتهمنا بالفوضى دائما، وتورطنا بها فعلاً!

قال أنور:

ـ ومن تقترح لرئاستها؟

ـ أقترح أن يتولى رئاستها الشهيد مخلص حسين!

ظل الشهيد أنور صامتاً بينما قال شهيد آخر:

ـ الشهيد مخلص إنسان رائع ومثقف غير مؤدلج متطهر من التعاليم الحزبية، وهو مناسب لرئاستها!

هز الشهيد أنور جمجمته فتساقط بعض ما تبقى عالقاً بها من دود قائلاً:

ـ حقاً، وقد خطر ذهني كمنافس لك لكنني أردتك أنت لكونك من جيل الشباب، وأفضل من يخاطب أجيالنا القادمة، ولكنني أرجو أن تبقى عضوا فيها!

ـ موافق، وأعتقد أن هذا لا يخل بقانونية المحكمة!

قال أنور وهو يتنفس من كل قفصه الصدري المفتوح كشباك من قضبان صدئة متآكلة:

ـ والآن إذا وافق الرفيق مخلص نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في تشكيل المحكمة!

كان مخلص حسين حاصل على شهادة الليسانس من كلية الحقوق في بغداد في السبعينيات. لكنه آنذاك تجاوز الأربعين إذا قضى فترة سابقة معلماً في إحدى المدارس الابتدائية في تكريت حيث ولد وعاش مرحلة شبابه. التحق بدورة لتخريج القضاة وأكملها بتفوق وعين حاكماً في إحدى مدن محافظة الموصل وتدرج حتى أصبح رئيساً لمحكمة قضايا كبرى. كان عضواً في الحزب الشيوعي منذ شبابه. افترق عنه بعد دخوله بالجبهة مع البعث. كان يردد دائماً:

ـ هؤلاء القادة من البعثيين جبلوا على الخسة والغدر!

وكان يعرف البكر وعشيرته عن قرب ولديه الكثير من المعلومات عن صراعاتهم ودناءاتهم، كان يصف البكر: (جاهل أحمق حقود خال من أية موهبة سوى موهبة طبخ المؤامرات، للوصول إلى السلطة بأي ثمن حتى لو قتل الناس جميعاً)،وصدام (فرخه المسموم الشره للدم البشري، يسعى إلى فريسته ببطء الثعبان وإصراره،سيلتهمه يوماً، ثم يلتهم نفسه بادئاً من الذيل) وعندما بدأت السلطة حملة في الخفاء لتبعيث القضاء حاولوا ضمه إلى البعث. رفض بشدة. عرف بنزاهته وتمسكه بالقانون والإجراءات السليمة حد التصلب؛ فاصطدم سريعاً برجال المنظمة الحزبية البعثية والمتنفذين في السلطة الذين يريدون تجاوز القوانين لتحقيق أطماعهم في تملك بيوت ومزارع ومعامل حكومية بأسعار زهيدة معتمدين لذلك التهديد والاغتيال إذا اقتضى الأمر. حين أخذ يصر على المضي في التحقيقات الجنائية حتى نهايتها حتى لو اقتضت استدعاء أو توقيف متهمين هم بعثيون أو متنفذون عملوا للتخلص منه. اغتالوه بحادثة أرادوها أن تكون ذات طابع شخصي انتقامي حيث دبروا قتله بيد مجرم أطلقوا سراحه وأشاعوا أنه هرب من السجن وجاء ليقتل مخلص الذي كان قد حكم عليه بالمؤبد. لكن جريمتهم وتفاصيلها لم تخف على الناس الذين أحبوه ووجدوا فيه أملاً لهم في زمن صارت فيه رجال السلطة وحزبها هم الذين يرتكبون الجرائم. وليس للناس من ملاذ غير سماء صامتة فوقهم تمطرهم بالهجير، أو البرد أو بعواصف الغبار. ورغم تهديد رجال السلطة لعائلته بعدم إقامة مجلس عزاء له، أقام الناس مجلس عزاء له سراً وبكوه بصمت ورددوا في رثائه قصائدهم الشعبية الحزينة المتوارثة! وافق مخلص على تولي رئاسة المحكمة بعد تفكر سريع، قائلاً :

ـ أخشى أن لا أحقق تصوركم عني! وآمل النجاح في أن أبقى موضوعياً ومحايداً في محاكمة قيادة الحزب وكنت اختلفت معها كثيراً! مضيفاً:

ــ أرجو إن وجدتموني قد خرجت عن مسار الحقيقة، أن تقومون بمحاكمتي، فأنا معيار النزاهة لدي؛ هو استعداد القاضي أن يكون متهماً؛ فيتقبل المحاكمة، برحابة صدر!

(57) مقهى صغير بأسماء كثيرة، ولا اسم يصلح له، وأحد رواده هو المدعي العام المطلوب!

مضوا لاختيار المدعي العام، اقترح أحدهم شهيداً شاباً عرف بآرائه الحادة العنيفة بقيادة الحزب وسلوكها وسياستها، وحتى في قضايا الحياة والدنيا، قائلاً:

ـ ليعطي للمحكمة أقصى مدى في طرح المساءلة، دون أن تكون مجبرة بالوقوف عندها حيث مطالبات الادعاء العام ليست ملزمة لهيئة المحكمة!

آخر أقترح أن يكون المدعي العام ملماً بتاريخ الحزب، ونظريته والحلقات الأساسية في سياساته المختلفة، فسفه أيضا: هذه ليست محاكمة حزبية. نحن أمام قضية إنسانية، هي قضية الإنسان في سعيه ونضاله وخيبته، وخرابه أو انتصاره على نفسه، وأعدائه! استقر رأيهم على ضرورة أن يكون المدعي العام بنزعة إنسانية مستوعباً لروح بلاده، حتى وإن لم يكن غير ملم بتاريخها. مدركاً لقدرات الإنسان وطموحه وظروفه، فمحكمتهم بالدرجة الأولى معنية بالحقيقة والعدالة التي ما تزال منتهكة في هذه الأرض منذ آلاف السنين. وأن يكون موضوعياً هادئاً متزناً متحاشياً أي ظلم، أو خطأ قد يطال أحداً سواء في القيادة، أو في القاعدة أو أي مكان، وأن لا يثير مشاعر الشهداء ويهيئ أذهانهم لأحكام ثقيلة، ثم تأتي الأحكام معتدلة. اقترح أنور اسم الرفيق منهل نعمة؛ ليكون مدعياً عاماً لكن أحد الشهداء في مجلس قيادة الانتفاضة أعترض قائلاً:

ـ مع احترامي للرفيق منهل لكنني من خلال لقاءاتي به في عالم القبور؛ وجدته أضحى متأثراً كثيراً بأفكار، وشعارات مقهى المعقدين!

قال آخر: بل هو خريج مقهى المعقدين، أو مقهى الحشاشين!

أطلق الرفيق أنور ضحكة خفيفة قائلاً:

ـ هذا في صالحه؛ فهو أقرب للحداثة الثورية، ثم ماذا في مقهى المعقدين؟

كان منهل نعمة شاباً نحيفاً طويلاً، تلوح سمرته الجنوبية وابتسامته ورقته القديمة على هيكله العظمي المفكك تقريباً، متردداً في الظهور بين هياكل الشهداء في حشرهم الثوري، يريد أن يعود لصومعته الشعرية الحزينة المتأملة في العالم الآخر، بعد تشرده طويلاً في طرق المحاماة والحزب والحياة المشتتة بعيداً عنها. صار يحس إنه لا مكان له بين هؤلاء الشهداء الأشداء الكادحين الغاضبين اليوم بعد طول انقياد خاضع أو صبور. كان يكن لهم حباً كبيراً وتقديراً أنهم استشهدوا لقوة إيمانهم بقضيتهم كطبقة عاملة أو فقراء من أسر كادحة. غير ناسٍ إنه فقير وكادح مثلهم، وقد ناضل معهم أيضاً ومثلهم يتحمل كل الأخطاء والخطايا. لا يريد أن يسمع إطراء رفاقه الشهداء أنه كان مناضلا صلباً لقي عذاباً شديداً وميتة شجاعة في أقبية الأمن، اليوم يريد أن يلوذ بالصمت ويعتصم بحزنه العميق.

كان محامياً وشاعراً واعداً. مارس المحاماة فترة غير قصيرة. نشر قصائد قليلة حظيت بإعجاب واهتمام أصدقاء له كانوا شعراء ناضجين يكتبون القصيدة الحديثة منذ منتصف الستينات. استطاع بدأبه وثقافته القانونية والعامة وجده أن يكون لنفسه سمعة طيبة كمحام ذي تجربة ناجحة. افتتح مكتبه في شقة فخمة في الباب الشرقي قريباً مما يسمى بنصب الحرية. قبالة محل كيت كات ومقهى المعقدين، كان رغم رصانته السياسية أو الحزبية يطيب له أن ينصاع لخفقات قلبه الشعرية ويتواصل مع شطحات المثقفين، وتجلياتهم الفكرية والروحية القلقة والمتقلبة بسرعة الرياح، أو الجامدة كالصخر. فيرتاد مقهاهم الصغير المنزوي، مظهراً نفسه كأحد رواده المزمنين منذ العصر الحجري!

كان، كل مساء تقريباً، بعد انتهاء عمله اليومي الطويل المضني في المحاماة في جو قضائي راح الحزب الحاكم يفقده نزاهته القديمة، يجد ملاذه في أحد البارات. ولكن لابد قبل ذلك من المرور بالمقهى الصغير ليرافقه منه أصدقاء وسمار من المثقفين والشعراء أو المتشاعرين بصخب لا يطاله الشعراء الحقيقيون. ما كان الأمر يقتضي منه سوى عبور شارع السعدون ليدخل المقهى الصغير الكائن في الجانب الغربي من شارع صغير يربط شارع السعدون بشارع أبي نؤاس المحاذي لدجلة الجاري بصمت وقد أثقلت أمواجه الأضواء الكاشفة للقصر الجمهوري الذي هو مقر قيادة حزب البعث وسلطته الصاعدة! هناك يحتسي شايه المعطر المنعش، قبل جلسة العرق الليلي! يتذكره الآن بحنين يحيي العظام! لا تتجاوز مساحة المقهى أرضية حجرة في بيت متوسط الحال، يمتاز باستكان الشاي (المهيل) أو (المنعنع)،زهيد السعر يقدمه صاحبه إبراهيم الشاب الأسمر بابتسامة حزينة ولطف كأنه يستضيف الرواد في بيته! في الداخل تختان متقابلان، وفي الخارج تختان على جانبي الباب، يجلس عليهم شبان منهكون، مهووسون بالثقافة والسياسة! يتبادلون أفكارهم وآراءهم كما تتبادل الطيور الآبدة والمهاجرة شفرات رحلاتها. معظمهم معوزون من أحياء بغداد المعدمة، ربما لا يتناولون سوى وجبة طعام رديئة واحدة في اليوم، يسلمون أنفسهم لعاصفة الليل اليومية، يدخلونها كما يدخل الموسرون سياراتهم الفخمة، وبينما هؤلاء يترجلون في بارات الفنادق الفخمة ومن ثم في قصورهم، يترجل هؤلاء الشبان الشاحبون من العاصفة إلى البارات الحقيرة أو على الأرصفة. لكن لهذا المقهى سمعة كبيرة، أو كما قال أحد رواده الصعاليك: إنه عظيم بعظمتنا! رواده يعيدون كل يوم مناقشة ذات المواضيع والقضايا الفلسفية والشعرية الغامضة فيزيدونها غموضاً وتشابكاً! لم يثبت لهذا المقهى اسم رغم الأسماء الكثيرة التي أطلقها عليه الناس. ربما أدرك صاحبه إبراهيم أن مقهاه قميء هزيل لا يستحق اسماً، لكن الناس أسموه حسب وضعهم ومزاجهم. فالناس العاديون سموه مقهى إبراهيم،صاحب الخلطة السرية لشايه المتميز. الناس الذين يجدون رواده شعراء وقصاصين ناشئين أسموه "مقهى الأدباء الصاعدين ". من وجد رواده حالمين ساهمين محدقين في الجداران أو في فراغ الشارع فاغري الأفواه كالمسطولين، أسموه "مقهى الحشاشين". ومن وجد رواده لا يستقرون على جلسة كأن في مؤخراتهم دمامل أو متفجرات أو انتفاخ بغازات، ولا يركنون لحديث أو مجاملة ولا يردون تحية أسموه "مقهى المعقدين ". من وجدهم يتنقلون بين تخوتها القليلة يتفلسفون، يجادلون صاخبين هامسين بحثاً في نظريات ومبادئ وأفكار قادمة في كتب مترجمة من أوربا وأمريكا عبر بيروت والقاهرة . يرون أنفسهم متفوقين عليها قادرين على إغنائها أو تجاوزها أسموه "مقهى الفلاسفة ". من رآهم بشعورهم الطويلة، ووجوهم الكالحة، وأظافرهم الطويلة المتسخة وثيابهم القادمة من اللنكات أسموه "مقهى العصر الحجري"! لكن رجال السلطة الذين يرون جميع رواده تقريباً يكرهون الدولة، والحزب الحاكم، ويسعون إلى من يربطهم بتنظيم ثوري عراقي أو فلسطيني في بيروت أو عمان أو دمشق، ويكون أفضل كلما كان مكروهاً وملاحقاً من السلطة فيمنحهم المجد على غرار كاسترو أو الشهادة الرومانسية اليسارية العظيمة على غرار تروتسكي وجيفارا، ويحظى بإعجاب فتيات جميلات منتظرات! نعتوه "مقهى المتطرفين" و"الحاقدين" ومقهى "الجواسيس والعملاء" "مقهى الفاشلين" و"مقهى العاطلين" و"مقهى المراهقين المنحرفين "،وصفه أحدهم بحق "اصغر مقهى في بغداد، لكنه أكبر وأهم من أعظم مقهى فيها!" ومع تردد منهل إلى هذا المقهى؛ لكنه اختط لنفسه طريقاً مستقلاً، كعضو في الحزب الشيوعي، ولعمله كمحام صاعد،مرن التفكير. هو في الوقت الذي يتمنى انهيار الإمبريالية الأمريكية الآن وعلى الفور، لكنه لا يمانع من أن يتعامل مع الشركات الأجنبية الغربية ويأخذ عمولته منها بالدولار. وقد استطاع أن يحظى بحصة غير قليلة من توكيلات الشركات الأجنبية ذات المردود الهائل بالعملة الصعبة، فانهالت عليه الدنانير العراقية والدولارات الأمريكية تصبها في حسابه الشركات اليابانية والكورية والأمريكية التي انتدبته وكيلاً لأعمالها المتسعة في العراق، ضمن ما سمي آنذاك بخطة التنمية الانفجارية إضافة لدعواتها له في سفرات ترفيهية، كان نادراً ما يلبيها أو يستمتع بها، يهدي روزناماتهم الدعائية الأنيقة الملونة المزدانة بصور الفتيات العاريات لأصدقائه في مقهى المعقدين ليقضوا فيها حاجاتهم الشبقية الليلية بعد عودتهم محتقنين من البارات. كان منهل يأخذ معه بعض من رواد المقهى، أي منهم،فمعظمهم أصدقاؤه، يذهبون إلى أي بار أو ناد حيث تنطلق جلسة شراب ونقاش يبدأ بالأدب والشعر ثم ينزلق كمنحدر القبر إلى السياسة، ثم عادة إلى القيء والعراك بالأيدي! صار يدرك الآن إنه كان يعاني في الحياة الدنيا من شعور بذنب لم يقترفه أبداً، وقد حمل وزره وعذابه وعقابه دون أن يدري رغم كل ثقافته الواسعة.

والآن بدت له بعض زوايا الكهف كأنها مقهى المعقدين نفسه، أكان مقهى المعقدين نبؤة بكل ما غشي العراق من كوابيس وكهوف معتمة محتدمة بالنقاشات الغامضة؟ أخلص للحزب وأنكر نفسه ومجده الشخصي مشيحاً عن نصائح بعض أصدقائه المقربين وهم يطلبون منه التروي والحد من حماسته التي اعتبروها ساذجة وغير مقدرة للواقع السياسي الذي أطبقت عليه يد البعثيين بمخالب حادة مسمومة طالبين منه أن يحتسب ظروفه بذكاء وبعد نظر فيحرص على زوجته الشابة الطيبة وطفله الصغير. تجاهل نصائحهم، بل عدها دليلاً على ذاتيتهم وفرديتهم المفرطة، لكنه ظل على صلة حميمة بهم،فهم أصدقاؤه الظرفاء فلاسفة العصر الحجري الذين يقولون أنهم متورطون بالحضارة الحديثة رغم تمتعهم ببعض نعمها،وظل معظمها بعيدة عن منالهم‍. وظل يدعوهم إلى مجالسه في بعض البارات الراقية أو في حدائق اتحاد الأدباء إذا زارها كما كان ينفحهم بما يمكنهم دفع أيجار غرفهم في الحيدر خانة وتكاليف شرابهم وطعامهم في البارات لكن من تبقى من هؤلاء متسكعاً بين بارات شارع أبي نؤاس وحدائق اتحاد الأدباء ونادي العدلية راحوا يفلسفون حقيقة استشهاده ويطلقون تقييماتهم التي يعدونها وجودية، أو ثورية حمقاء، زاعمين خيانته للروح الفردية مع القطيع الثوري الشيوعي، وارتكابه ما يسمونه جنايته الروحية الخاصة وخيانته للشعر. معتبرين ما ترك من قصائد جميلة أثمن وأرقى من كل نضاله الحزبي ومن استشهاده. ربما كانوا مصيبين أو مخطئين لكنهم كانوا يحبونه بصدق وظلوا لسنين طويلة يبكونه مع كأس العرق الأول والأخير في جلساتهم. كان منهل قد استشهد في محاولته إعادة بناء الحزب الشيوعي. بعد سحق منظماته واستشهاد كثير من كوادره وهرب معظم قيادته والكثير من أعضائه وأصدقائه إلى الخارج. بعد أن بنى خليتين أو ثلاث بصلات خيطية متباعدة، انهارت فجأة، أعتقل وعذب بفظاعة وقتل خلال فترة قصيرة وذلك اثر الهدية المسمومة التي أرسلها كمتار بيس من بيروت: على شكل جوازات سفر وهويات خاصة، له ولأعضاء آخرين. دهشوا أنه أرسلها دون أن يطلبوها، وأن تكون بهذه الطريقة الغريبة الغامضة دون أن يعلموا طبعاً أن صوراً منها مع كل المعلومات الأخرى ذهبت إلى مخابرات السلطة عبر بريد أم جنان عشيقة السكرتير حمه سور. هذه القضية هي أحد أسباب نهوض منهل من قبره الذي لازمه الأرق فيه منذ لحظة نزوله فيه. فهو يريد أن يحقق بها مع قادة الانتفاضة ويكشف ما أحدثه كمتار من خراب في الحزب، وما ألحق بكثير من الرفاق والرفيقات من أذى وعذاب. كان منهل قد سمع من الشهداء الذين التقاهم في السنوات الماضية الكثير عن كمتار وشروره وسمعته السيئة في تنظيم بيروت، وحقيقة الشكوك المفزعة التي تلاحقه. بعد استشهاد منهل انتحرت زوجته وقيل أنها نحرت من قبل دائرة الأمن بينما بقي طفله وقد تركه وعمره سنة واحدة ضائعاً ممزقاً بين بيوت أقاربه! في الموت وجد للتراب العميق ذات النكهة المرة المسكرة للعرق الليلي، نهض بهيكله المتعب المكابر ووقف في طليعة المنتفضين، منشرحاً وقد حسم صراعه مع نفسه بالموافقة في أداء أي عمل يسنده إليه المنتفضون قال:

ـ اقبل المهمة، وأشكركم على هذه الثقة، أتمنى أن أنهض بها على أكمل وجه. أريد من المحكمة الموقرة أن تقدم لي ملفاً بقضية المتهمين، بالطبع لا أقصد الأوراق الكاملة المتعلقة بالتهم الموجهة إليهم،وحيثياتها وتفاصيلها والمواد أو الأسس المبدئية التي أحيلوا بموجبها لمجلس قضاء الشهداء، فهذه يصعب توفرها هنا وفي هذا الجو، لكنني سأبحث عن جوهر كل ذلك في إجراءات سهلة وميسرة هنا!

ومع ذلك دهش بعض الحاضرين من هذا البطر المكتبي الذي يتحدث به منهل وكأن هذه المحكمة منعقدة في مجمع المحاكم المدنية قريباً من قشلة بغداد، وما يحيطها من دوائر تحقيق وتحريات جنائية، وما يحاذيها من أكداس الكتب في شارعي المتنبي والسراي المجاورين لمبنى المحاكم! دهش هؤلاء أكثر حين سمعوا مخلص رئيس المحكمة يقول:

ـ نعم لدينا ملف متكامل بالقضايا، ونود أن يعرف الرفاق الشهداء الحاضرون هنا أننا حتى لو أحلنا إي متهم إلى المحكمة؛ فإن ملف قضيته سينظم بعناية وصواب حتى لو أعد بعجالة الوقت القصير المتلاشي!

رد منهل بابتسامته المثقلة بماض حزين يومض في حفنة تراب تحملها عظام جمجمة شبه المهشمة من تعذيب طويل بالآلة الحديدية الضاغطة:

ـ حقاً المهم هو دقة الاتهام ونزاهته وليس ديباجته، رغم أن الفكرة لا تنفصل عن التعبير!

تلفت للشهداء وكأنه يداعبهم:

ـ ثم أن ما يجري في المحاكم العادية فوق الأرض بكتابنا وكتابكم، ومجلدات من الأوراق التي يعشش بها العث والغش والتزوير في بنايات الحكومة؛ يتم بين الشهداء برقة الحلم وسرعته!

تدخل حسن طلقة قائلاً: يجب أن لا تعوزه فكاهة وخفة النائمين بعد سهر العشق الطويل!

قال نافع :

ـ اعتقد أن من الضروري أن تكون رفيقة بيننا عضوة في المحكمة، لا نريد أن نبقى استمراراً لمجتمعنا الذكوري الأبوي القامع!

ضحكوا. قال أحدهم بسرعة:

ـ هنا بيننا الرفيقة "لطيفة"!

أضاف آخر ضاحكاً:

ـ وهل يخفى القمر تحت الأرض أيضاً؟

وافق الجميع على "لطيفة"، أبدت هي موافقتها بابتسامتها العذبة الخفية التي لم تنل منها ليالي القبور!

ظلت "لطيفة" واضحة الملامح ممسكة بجمالها الأسمر الرقيق العذب مصارعة رياح وأنواء العالم السفلي. تلك الفاتنة النقية المدللة بجدارة حتى في أحضان الموت فهيكلها العظمي يبدو حاملاً لجمال غائب حاضر، كيف لا يدلل الموت سمراء حسناء ألقت نفسها في أحضانه وهي لما تزل شابة حزينة لم تلق سعادة ولا راحة ولا سكينة وظلت نقية الروح صافية كماء ساقية من ينبوع. هي الآن حية بعد موت طويل، تحمل حسنها الأنثوي مع رمادها الطبيعي. كانت مناضلة بقوة وبصدق منذ صباها، نشأت قي بيت حزبي حيث كان أبواها عضوين متفرغين للعمل الحزبي. ساعد مظهرهما الفلاحي المدقع، كقادمين من ريف العمارة هرباً من جور الإقطاعيين ولهجتهما العفوية وبيتهما الطيني البسيط في منطقة الشاكرية على إخفاء أهم أدوات الحزب: مطبعته السرية، وهي ماكنة بدائية صغيرة مشحرة بحبر اسود ثقيل لزج هو أقرب لزيت السيارات المستعمل، وحروف هي أشبه ببذور ومساحيق أعشاب غامضة متيبسة بلهب بغداد الحارق لكن بالتقائهما مع حروف وريقات سرية يكتبها قادة على عجل من أمرهم دوماً تخرج من الفم الحديدي للماكنة المخلعة أخطر الكلمات الثورية ملفوفة في الورق الأصفر الخشن لجريدة الحزب المركزية ومنشوراته المتلاحقة مهيجة العمال والعاطلين ومن معهم لينطلقوا في مظاهرات وإضرابات ونشاطات جماهيرية في بغداد ومدن العراق الأخرى. تزعج الحكومة وتقلق السفارة البريطانية التي تروح تطل عليها بخيلاء من شبابيك بنايتها في الصالحية! كان يستلب خيال لطيفة تحول الحبر الأسود إلى دم قانٍ يتفجر في الشوارع والساحات، وكان والدها الفلاح فخوراً أن يده التي كانت تجبل الطين والبذور فيتدفق الشلب والحنطة ولا يتلقى من الإقطاعي سوى الكلمات المهينة والجوع. صارت الآن تجبل الكلمات المهينة للإقطاعي وللسلطة التي تحميه. الأب الشيوعي سعيد، هذا كل شيء، ما عدا ذلك ليس مهمته، كما يقول (القيادة هي التي تعرف). كانت لطيفة في الثالثة عشرة حين داهم رجال الأمن بيتهم واعتقلوا والداها. أطلقوا سراحها مع والدتها بعد أشهر ولم يطلق سراح والدها إلا بعد سنوات. أخذت والدتها تكدح لتنشأتها وتربيتها. عملت بمختلف المهن واستقرت خبازة في بيت موسر على حافة حي الأعظمية. خرج والدها من سجنه الطويل، وانتعشت أحوالهما بعض الشيء. ذلك لم يدم سوى سنوات قليلة. قتل أبوها في انقلاب 63.مكنتها والدتها من مواصلة دراستها في كلية الحقوق. كان ذلك في الستينات.أحبت رفيقاً لها وتزوجته، صعد بسرعة في السلم الحزبي. صار عضواً في قيادة الحزب. ذهب في دراسة حزبية إلى بلغاريا. وهناك وجد فتاة رآها أجمل منها فتزوجها. عدت ما حصل خيانة شخصية ولا علاقة لها بالحزب. لم يؤثر على نضالها الذي تواصل وعاشته بتبتل ونسك ثوري. اضطرت بعد ملاحقات السلطة لها وموت والدتها أن تترك بغداد. أخذت تقول: (صارت بغداد موحشة مجدبة إلا من ذكريات أليمة قاسية) التحقت بالأنصار في الجبال. وفي معركة بين فصائل من الحزب وفصائل قومية كردية سقطت شهيدة، والآن فقط في محفل الاستشهاد كانت مع نفسها تفكر: الموتى لا يحملون في عروقهم دماً بل ذكريات وأحزاناً وغضبا. حين عرفت ان بين المعتقلين من القيادة عبود الكدري، الحبيب القديم الذي غدر بها وهجرها بعد أن وهبته زهوة عمرها. لم تتشفى. نظرت إليه كالآخرين، فارقها سهومها وحزنها فجأة قالت:

ـ حقاً أريد أن أعرف لماذا حدث الذي حدث ومن الذي أودى بنا وبشعبنا إلى هذا المصير؟ لكن من يعرفها لمس في صوتها رعشة مصابها الشخصي: خديعة وخيانة الرفيق أيضاً!

فاتحوا الرفيقة هدى لتكون عضوة معها، فوافقت دون عناء، كانت الرفيقة هدى، قد استشهدت وهي ما تزال طالبة في كلية الآداب ببغداد. في يوم نشرت فيه مجلة في بيروت أولى قصائدها. لم تطلع عليها، حصل رفاقها على المجلة فيما بعد. تلك الحسناء الرائعة التي طالماً أدارت بجمالها رؤوس رفاقها. كانت في الحياة بثياب محتشمة هي الآن تسير في المحفل الاستشهادي بهيكلها العظمي عارية. مع هيكل حبيبها الذي لم تتزوجه في الدنيا ولم يتزوج هو أيضاً رغم إنه عاش بعدها أحد عشر عاماً قبل أن يستشهد تحت التعذيب في قصر النهاية! الآن عاد له أيضا الكثير من قوته ونشاطه ودب فيه شيء من نشوة حبه القديم. كانت في الحياة الدنيا ذات خفر وحشمة. رغم إنها عاشت وناضلت بين رجال محرومين عطشى للحب والجنس والمتعة. وهي أيضاً كانت تتوق لحب لكنها كانت تحجم عنه حتى مع حبيبها. رغم إن فكرهما الثوري يحض على التآلف العاطفي والجسدي، كان فكرها مشغولاً بالنضال ومتطلباته الكثيرة والثقيلة. البعض تذكرها، كانت إذا ظهر جزء من جسدها سارعت لستره بدافع غريزي؛ ربما لكي لا تكون مصدر إثارة وتعذيب لرفاقها المناضلين. الآن هي في جلستها غير مكترثة لهيكلها العظمي يشف عن جمال جسدها وقوامها الفتان. ربما هي تحس الآن بالعودة إلى بدء الخليقة، إلى العهد الفردوسي الفطري والحقيقي بشكل ما، إلى المشاعية البدائية الذي يغدق على جسد الرجل والمرأة نفس القدر من النور والخفة والحرية والسعادة! فوجئت حين طلب منها الرفيق أنور أن تكون عضوة المحكمة، ردت "بكل سرور يا رفيق وآمل أن أكون منصفة وفاعلة!"

شعر أنور بخفة في هيكله، لقد انزاح العبء الثقيل، أكملوا تشكيل المحكمة، وقد جاءت مطابقة أو قريبة جداً لتصوره لها، وحلمه بها. شعر مرة أخرى أنه يتنفس بعمق وقوة وسلاسة، قال لرفاقه وهو ينهي الاجتماع، مبتسماً:

ـ الآن صارت محكمتنا متوازنة بعض الشيء؛ رجلان: الرئيس، وعضو آخر، امرأتان: عضوتان! ينبغي ان نعرف وندع الآخرين يعرفون أن محكمتنا ليست حزبية، ولا حتى وطنية وحسب، وإنما إنسانية، روحية، جزء من حلم عادل، الآن علينا أن نبدأ المحاكمات ونسابق الموت فقد يداهمنا في أية ساعة، وقبل أن نقول كلمتنا!

طلب الشهيد نافع التريث لتحديد التهم التي يريدون توجيهها لقادة الحزب الحالين أو القدامى والمؤسسين؛ ماذا ارتكبوا من خطايا، وماذا ارتكبنا نحن من خطايا وأخطاء؟ فنحن لسنا أبرياء. ومن المعيب ان نقول انهم غرروا بنا، واستدرجونا للانتماء للحزب، فنحن قد جئنا إليه بإرادتنا، ويفترض أننا كنا بكامل وعينا وإدراكنا للأمور، فنحن مثلاً كنا نعرف أن الحزب يؤمن بدكتاتورية البروليتاريا. والدكتاتورية تعني قمع واضطهاد الآخرين بالقوة والسلاح والتعذيب. وكنا موافقين على ذلك، وإن لم ننطق به! وسلطة الحزب تدعوا بمراقبة كل ما يناوئ قادتها وفكرتها، وتأمر بالتدخل بكل صغيرة في حياة الناس وتوجيهها في مجرى مسيرتها بجاسوسيتها وهيمنتها، وتشمل كل شيء من أسرة نوم الناس حتى أعشاش الطيور حتى بريق الكلمات خلف أغلفة الكتب. وكنا موافقين على ذلك مناضلين من اجله وإن كنا لم ننطق به. بينما كنا ننتقد الآخرين إذا قاموا بما كنا سنفعله نحن لو كنا مكانهم!

ضحكت هدى قالت:

ـ أخشى إننا سنحاكم أنفسنا؛ في الوقت الذي نهضنا من الموت لنحاكم قادة الحزب!

دهش بعضهم وراح يتساءل مع نفسه، ما الفرق بيننا وبين قادتنا؟ يبدو الفرق ضئيلاً جداً، هل الأمر يتعلق بحجم أفعالهم بوصفهم قادة؟ من حيث الجوهر القضية واحدة! وقف نافع قائلاً:

ـ الحزب يريد إلغاء كل ما هو خارج فكره وخارج تنظيمه، أي كل الآخرين، هو يتحالف معهم بالقدر الذي يخدم هدفه للوصول إلى السلطة، ليلغيهم تماماً حين ينتصر. المصيبة إننا كنا سنرتكب كل هذه الآثام والخطايا لنحقق سلطة لا تستطيع تحقيق فكرتها لأنها مستحيلة، أي إننا نكون قد ضحينا بكل شيء؛ من اجل لا شيء، وهذه كانت تتراءى لبعضنا، وتخفى على البعض الآخر بقوة الأمل وهالة النور التي توضع على هامة الحزب فتعشي الأبصار! ما الذي كنا لا نعرفه، ويعرفه فقط قادة الحزب؟ ويشكل جريمتهم التي يجب أن يحاكموا عليها؟

قال أحدهم: أعتقد ليس من المعيب القول إننا خدعنا واستدرجنا بمختلف ألاعيب الكذب والزيف والدعاية المضللة التي مارسا قادة الحزب، خاصة المؤسسيين الذين وقعوا تحت تأثير ستالين. هناك قوة هائلة من الابتزاز والخداع مارسها هؤلاء على عقولنا. واليوم ورثتهم في القيادة يقدسون هذه الأخطاء ولا يريدون مراجعتها لذلك فإن لائحة الاتهام يجب ان تركز على قضية خديعة النفس والآخرين بوعي وسبق إصرار، دون أن نبرئ أنفسنا، أو نعفي ضمائرنا من المسؤلية!

(58) دير بالك علجماهير!

بزغت من العتمة المقابلة مجموعة شهداء شبان انتهوا لتوهم من صنع قيثارة استعملوا في صنعها عظاماً تساقطت منهم، ومن شهداء آخرين، وتمكنوا من تعشيقها ببعضها. ركبوا عليها أوتاراً من شعر شهيدات عرفن بجدائلهن الطويل،ة وشعرهن الناعم القوي والذي يعقص أحياناً خلفهن كذيل المهرة الرشيقة. اليوم على هذا الشعر الذي كان يثير شهوات وأشواق الرجال وشجونهم دون جدوى، أن يبعث النغمات،ويغني! أهملوا الآلات الموسيقية التي كانت مع بعض الأحياء من العازفين القادمين من الحفل، وفضلوا عليها آلاتهم المصنوعة مما تبقى من أجسادهم. سمعت ألحان. وانبعثت موسيقى وأنغام ساحرة شجية: نادمة معتذرة، حانية متوثبة خافتة متموجة، تارة هادرة غاضبة متوعدة تارة أخرى؟ ألحان عصور هذه الأرض، أحزانها الكثيرة، وأفراحها القليلة،رغم خيراتها الكثيرة! تناوبت عليها أنامل خبيرة من أول قيثارة سومرية حتى آخر عود صمت في ليل الرعب والحروب. هبوا من قبورهم يستعيدونها أو يعيدون خلقها بعد تأمل طويل في الصمت الأبدي مختلطة بإيقاعات الأمطار الطويلة، هجير القيظ،أغاريد الطيور المؤنسة لهم في طيرانها فوق قبورهم يتقدمهم الهدهد تارة، والغراب والعصفور تارة أخرى، محتفين بهبتهم الواعية، مبددين وحشتهم التي قد لا تكون الأخيرة. رغم كل ما تجرعوا من موحشات وأحزان!

أحس كثير من الشهداء بحنين لأغان ٍ الدنيا الغاربة، ولأنغام أيام جميلة مضت واندثرت وأضحت تراباً. قيثارة العظام الآن تعيد بعض أصدائها فتسري في أرواحهم العائدة نشوة وتوقاً وفرحاً. تحلقوا حول الشهداء العازفين والمغنين، يستعيدون ويطلبون المزيد.

كان ينبعث بين آونة وأخرى صوت شجي بكلمات رهيفة ولحن حزين، كان الغناء سلوة هؤلاء الشهداء أيام حياتهم في سجونهم أو أيام اختفائهم عن أعين مطارديهم، أو في أيام حربهم بين الجبال. كان بينهم من عرف بصوته الجميل وأدائه الرائع، ويجيد العزف على العود أو الدنبك والطبلة والناي. تألم يونس إذ رأى بعضهم يصنع من عظامه ناياً، ومن قحوف جماجمهم وشعر رفيقاتهم الشهيدات أوتاراً؛ فيعزف عليها ألحاناً، ونغمات مؤثرة، راحت فتاة تغني:

مثل أم ولد غركان أبرى الشرايع

كلمن وليفه وياه وبس ولفي ضايع

من زاوية مقابلة أجابتها فتاة أخرى :

جنك سمار هواي خي التفت جاي

أتعرض اليمشون من نار الوياي

انتعش يونس أن الفتيات هن اللواتي بادرن للغناء. رحيل الموت عن قلوبهن حل إسارهن. راح الشهداء يسمعون الغناء بنشوة غامرة. بعضهم أطلق صوته الجميل. والبعض الآخر راح في شرود عميق!

ظل حسن طلقة في لهفة لبدء المحكمة عملها، أفرد مكانين مناسبين لعشتار وشهرزاد تشرفان منهما على مجرياتها. أقلقه أن الشهداء غير موحدين في موقفهم من هذه الانتفاضة، ود لو يفضفض عن نفسه. من لديه غير يونس رفيقه ومستودع أسراره بين الجبال وقف إلى جانبه؟ قال له:

ـ مؤسف، يا رفيق بعض الشهداء رفض انتفاضتنا، وهي مجرد اقتراح وفكرة في صمت القبور، واستيقظ ليتصدى لها!

قال يونس:

ـ لا تستغرب إنهم مثل كثير من الأحياء ما زالوا مقتنعين بفكرتهم الأولى كدين ومذهب، وبقيادة الحزب ككهنة ورجال دين، وبالمفكرين الأوائل لينين وستالين وماركس كأنبياء وأئمة معصومين يجلونهم ويقدسونهم ويذوبون في سطوتهم كالدخان في الريح، مهما تعاقبت أزمان، وتكشفت حقائق وأنوار!

ـ أخشى أن يحصل اشتباك بين المنتفضين والمعارضين عند بدء المحاكمة أو في إحدى جلساتها المحتدمة الحامية، لا يهم أن يدور جدل وسجال بالكلمات والأفكار، ذلك يعمق الروح والعقل كما تعمق الأمطار والسيول الوديان وتزيدها خصوبة، هذه قناعتي دائماً، ولكن ماذا إذا اشتبكت العظام بالعظام؟

قال يونس بصوت حزين خائف:

ـ هذا ما يحدث في حياتنا على الأرض، يختلط دائماً رماد الموت برماد الحياة، هل هناك منتصر؟

سأل طلقة: وهل يحس الأحياء فوق الأرض بما يجري هنا؟ هل يصدقون لو روي لهم؟

ضحك يونس: ـ للأحياء صراعاتهم التافهة، والتي هي أيضاً لا تعدو كونها صراع رماد حياة منقضية مستهلكة، مع رماد موت مؤجل! ولكم موتهم مؤجل؟ لسنوات؟ لعقود؟ لا أكثر! ما اتفه جدية الأحياء وتزمتهم، وعدم تسامحهم؟

ران صمت ثقيل،المخالفون المعارضون هم الآن صامتون ينزوون بهياكلهم العظمية يخافون أن يتساقط منها المزيد في هذه اليقظة المشاكسة اللعينة والأقرب للخيانة، حتى من وجد بعضاً من أهله أو أحبته أنتبذ بهم مكاناً بعيداً في زوايا والتواءات الكهف الكبير وراح يتهامس معهم. قال طلقة:

ـ هم كديدنهم،يعتبرون كل شيء؛ حتى نسمة الهواء سراً حزبياً، ما حدث لم يهز فكرتهم، الموت كله لا يكفي لهز نظرية مقدسة راكدة كمستنقع، طول الصمت لم يجعلهم يتأملون أو يتفكرون بشيء،الموت لا يكفي، حتى لو جاءوا بعد دهور إلى هذه الدنيا سيقولون أن فكرتهم صالحة لكل زمان ومكان، كالمتدينين المتعصبين تماماً!

ابتسم يونس قال: يا حسن، ابق كما أنت منتبهاً يقظاً مشيعاً للمزيد من المرح، وتبديد التوتر لكي لا يحصل احتكاك، ولا تصادم، اعتبر أن الجدل معهم سيعمق الجو الديمقراطي والمتفتح للمحكمة.

شعر طلقة بطمأنينة، أن للرفيق أنور نفس هذا الرأي، كان أحد الشهداء المعارضين يصرخ به:

ـ سنرد كيدكم إلى نحركم، تخونون رفاقكم حتى وأنتم في القبور! كم كنتم ستخونون الحزب والوطن لو كنتم في الحياة؟

هجم أحد الشهداء المنتفضين عليه، فاعترضه أنور قبل أن يحدث اشتباك بين هيكلين عظميين، قائلاً بابتسامة حزينة:

ـ علينا أن نحذر من أي غضب أو يصعد التوتر بيننا، دع الكل يعبر عن نفسه كما يريد، هذه اليقظة في حضن الموت هي أول وآخر اختلاجة للديمقراطية الموءودة بيننا نحن الشيوعيين بينما كنا ندعي أننا آباء الديمقراطية!

قال يونس: ـ هذا بشير خير! الجدل مع المختلفين معنا، يعمق فكرتنا عن قضيتنا، وعنهم وعن أنفسنا معاً!

أحس طلقة بثقل المسؤولية التي يلقيها عليه أنور ويونس، ولكن ثمة مفاجآت مثيرة سارة كثيرة صارت تأخذه، كنت أحلم بلقاء عشتار أو شهرزاد، فكيف بهما معاً؟ هما الآن قريبتان منه تحلان شعرهما وتجلسان بإهمال ولا مبالاة وقد ظهرت مفاتن جسديهما، كم يكون الموت سخيفاً متطفلاً أمام الجمال الإنساني؟ الطيبة تذكر بنقيضها: لؤم الموت!

سمع صياح وجدل الشهداء يتعالى، ما زالوا مختلفين، كاد الغم واليأس يعاوده، لكن ثمة رفيق شهيد أنقذه من عذابه النفسي، رفيق كان التقاه قبل أكثر من ثلاثين عاماً، " كلما تذكرته اضحك حتى وأنا في حضن الموت، كنا نسير بمحاذاة مظاهرة في بغداد أوائل السبعينات ربما واحدة من تلك المظاهرات التي لا ندري كم صار رقمها بين آلاف المظاهرات التي أخرجها الحزب منذ تأسيسه، كان ذلك الرفيق قد شد على زنده شريطاً احمر، راسما على وجهه ملامح من ينهض بعمل كبير، مظهراً أنه في مركز حزبي هام، بينما هو مجرد مرشح لعضوية الحزب، ما زلت أتذكر تفاصيل تلك اللحظة التي تقدم بها إليُ قائلاً :

ـ دير بالك علجماهير، راح أبول وأرجع!

وقبل أن أدرك ما قال واضحك كثيراً، كان قد اختفى!ثم احتفت المظاهرة نفسها بهجمة الشرطة تتقدمهم أصوات رصاصهم. أيكون رفيقنا قد تركني أدير بالي على الجماهير، طيلة هذه الزمن حتى استحالوا شهداء، هياكل عظمية! رماد تذروه الرياح؟ يالها من بولة طويلة؟ لا غرابة فالعراقيون بالوا دماً، بالوا نيابة عن البشرية جمعاء، كل الدم القديم، دماء من سار أمامهم، أو وراءهم من مذبح الحرية في ساحة التحرير، حتى مذبح المعبد السومري! دم التاريخ كله خرج من مثاناتهم وأحشائهم،ولا زالوا يبولون، ماذا يجدي المزيد؟

(59) أنا شهيد؛ إذاً أنا موجود!

كنا على سفح جبل يطل على ربية جنود، بطريقة ما عقدنا اتفاقية مع جنود هذه الربية أن لا قتال بيننا، رأيناهم جنوداً أغرار سذجاً كأنهم أطفال، وبنادقهم مجرد لعب بأيديهم، أشفقنا عليهم أكثر مما أشفقنا على أنفسنا! بعد أيام حوسبنا من قبل المسؤول السياسي أن مجموعتنا الأنصارية قليلة النشاط، ولم تدخل معركة لحد الآن.عدنا من اجتماع التقريع واللوم متعبين. كان طاهر يتكأ على الصخرة يستمتع بسيجارة لم يحصل عليها منذ أيام. اشترى من دكان في إحدى القرى بكل ما يملك من نقود علب سجائر. أعرف أنه سيحرقها كما يحرق أعصابه في استرجاع أفكار وذكريات لا جدوى منها. قال فجأة: " أنا شهيد إذا أنا موجود" وأعقب هذا هو الشعار الذي يعمل عليه مسؤولنا السياسي. هو يريدنا أن نستشهد فقط لنثبت وجودنا. أو وجوده أمام قيادة الحزب وقادة الكرد. قلت مؤيداً كلامه نعم صرنا نمارس الاستشهاد مهنة وهواية وعملية اثبات وجود. وجود عن طريق العدم. كيف يستقيم ذلك؟ فنحن استشهاديون كما غيرنا بناءون، نجارون مغنون رياضيون، لاعبو سيرك،ونحن مهنتنا الموت!

هذا ما كنت أفكر به بأسى لماذا صار عندنا الموت بسيطا إلى هذا الحد؟ لماذا لا نتركه فقط للضرورة القصوى!

لا نحن نثقف الناس بمقولة تنسب لماركس إن الإنسان أثمن رأس مال، أعلى قيمة في الوجود، بينما نمارسها في الواقع: الإنسان أبخس رأسمال، أرخص شيء،معدن خسيس،عملة رديئة، ملغية! أطلق ضحكة وهو يقول: أتعرف لقد اكتشفت أن الفلاحين هنا يهتمون ببغالهم أكثر مما يهتم الحزب برفاقه؟ قلت هذه ليست آخر المهازل، سترى مهازل أخرى إذا لم تسرع بتنفيذ أمر الحزب بالاستشهاد! لم أكمل كلماتي ولم يقل كلماته، جاءت الرصاصة خاطفة كأنها مصوبة خصيصاً له جاءتنا من الربية التي عقدنا معها اتفاقاً، تلفت فزعاً، في الحقيقة لم تكن هي التي بدأت فقد هوجمت من الخلف وصار جنودها يطلقون النار في كل الاتجاهات! اليوم نحن مجتمعون وراء الزمن العادي للناس، نستعيد مواقفنا وكلماتنا القديمة،عقول رفاقي متوقدة رغم برودة الموت. يتحاورون، يقلبون الرؤى والأحكام والأفكار كما يقلب صيدلي خبير أعشاباً وثماراً؛ ليستخرج منها دواءً أو مرهماً. قلت كم كانوا سيقدمون للدنيا، لو تركوا أحياء، لو كانوا قد عاشوا وعملوا ما يستطيعون، يبنون ويغيرون ويؤثرون؛ فالحياة ليست اقل صعوبة من الموت، لكن القادة لم يقتنعوا أنها هي الأجدى، موتهم جريمة كبرى ليست من قبل من قتلهم فقط فهؤلاء مجرد أدوات؛ إنما من قبل من استدرجهم بنعومة ورقة وجعلهم يهبون حياتهم ببساطة ولطف كما يهب الطفل لعبته التي بيده لمن يبتسم له ويداعبه!

تنبه لفرقة العازفين والمغنين قريباً منه، أحد الشهداء يقول له:

ـ يبدو إننا سنسمع هذا اليوم غناءً بعد صمت طويل ..طويل !

رد طلقة :

ـ نعم من يغني أخيراً، يغني طويلاً!

وجد أن مهمته تكاد تفلت منه فهو المسؤول عن تهيئة ساحة الشهداء وأجواء مناسبة للمحاكمة، قال بصوت حرص أن يكون بلهجة ثورية:

ـ لم نقم بثورة لنقدم البرنامج الإذاعي: طلبات المستمعين، هيا إلى المحاكمة! هيا لأداء الواجب!

في تلك اللحظة كانت هيئة المحكمة قد رتبت جلستها الصارمة، وأطلقت صيحة " محكمة " بذبذبة صوتية عالية جعلت الكثير من حشرات ودود القبور يجفل ويتساقط عن جدران الكهف الكبير وعن هياكل الشهداء والضجيج والصخب الدائر بين الهياكل العظمية للشهداء وأهليهم يخفت تدريجياً حتى انقطع واستحال لصمت وترقب، بينما امتقعت وجوه قيادة الحزب المختطفة وأخذت تصدر عنها همهمات مذعورة!

(60) محكمة بلا قفص اتهام، والأسئلة من رياح ولهب!

كان القضاة جالسين بهدوء في أماكنهم، ورغم إنهم هياكل عظمية منخورة أقرب للرماد لكنهم ظهروا بهيبة خاصة،حتى ليخيل لمن يراهم أنهم بعريهم وتجردهم من لحمهم ودمهم صاروا أكثر إقناعاً وتأثيراً مما لو كانوا مثل القضاة العاديين محشوين، بلحوم وشحوم، ومكسوين برداء القضاة الحريرية،الموشاة بالأشرطة الذهبية. أمامهم قفص حديدي أو خشبي ويقف خلفهم سيافون وعمائم وكتاب ومحاريب! القضاة هنا لا يمتلكون سوى عزلتهم، ووحشتهم وتفردهم وحزنهم وكلماتهم تصغي لها رياح بعيدة، مقاعدهم دكات متربة مساندها من شواهد أضرحة لشهداء وموتى مجهولين، ومن بقايا زلازل وبراكين قديمة، وما تراكم عليها من غبار، ومن أسى قديم جعل الضوء يجمد عليها مكوناً هالات هي أقرب لزجاج شفاف!

ثمة همس وولولة في الريح الخفية المصفرة بين عظامهم،ربما هي نداءات واستغاثات ودعاوى شهداء آخرين، شبوا وتألقوا على هذه الأرض في مدى عصور طويلة من هذا البلد القديم، يختلفون معهم أو يتفقون. ثمة من التهمته الحروب، أو سيوف الخلفاء والسلاطين والمالكين. بعضهم مات شهيداً وهو يحاول صد الغزوات والطوفانات والطواعين وجائحات الجفاف والقحط. بعضهم ذاد عن بيوت وأعراض وحدود وحجارة، آخر ذاد عن مبادئ وقيم وأفكار، عمل في هذه البلاد وأجهد نفسه حتى مات من أجل تماسك أرضها وروحها ولم يحظ بساعة فرح واحدة بين ربوعها الجميلة، وكالعادة على هذه الأرض تماحكوا وتصارعوا ورمى بعضهم بعضاً بالخيانة، الكفر، الضلال، فساد اليد والسريرة والسيرة ومضوا دون أن يعرف الواحد منهم حقيقة نفسه، أو حقيقة الآخر. اليوم يتبادلون الرسائل حاكموا؛ قادتكم أفكاركم، أنفسكم، كل شيء حولكم، حتى أحلامكم! اطمأن حسن طلقة أن هذه المحكمة بلا قفص اتهام، بلا قضبان، مكان بسيط مفتوح لريح التاريخ كله!

كان منادي المحكمة، يعمل في الحياة حاجباً لدى المحاكم المدنية في الرصافة، امتاز بصوته القوي الجازم القاطع، تشتت حوله الآراء، قال البعض إنه يحس بلذة وراحة كلما نادى على متهم، فهو عادل صارم، عدواني قاس بالفطرة، سادي أصيل يتمنى لو يضع الناس جميعاً في قفص الاتهام، كأنه يعتقد أن كل الناس متهمين يركضون هاربين من وجه العدالة. لا يخفي لذته وبهجته كلما نادى على متهم، لم يأت، أو اقتاده إلى قفص الاتهام، هو يقول أن الظالمين يزدادون في البلاد، ويظلون مطلقي السراح دون محاكمة، والمظلومون يتكاثرون ولا ينالون حقوقهم، وأحياناً يحاكمون ويعاقبون وهم أبرياء، وهو يعرفهم من أسمائهم أو عند النظر في قضاياهم ويحزن حين يناديهم، ولا يصير صوته عالياً فرحاً إلا حين ينادي على ظالم متجبر أو لص أو قاتل وكانت أمنيته أن ينادي يوماً على الوصي ونوري السعيد ويضعهما في قفص الاتهام، ولم يخطر بباله أنه سينادي يوماً على قادة حزبه ويشارك في محاكمتهم! اليوم وبعد هجعة الموت الطويلةً استيقظ ليجد حنجرته ما تزال تعمل وتستطيع أن تنادي على متهمين كثيرين في هذا العالم، آلمه أن الكثير من فقرات رقبته قد ابتلعها القبر ما خفض وتيرة صوته قليلاً!

(61) الشهداء يقفون دقيقة صمت؛ حداداً على أرواح الأحياء!

مالت هدى على رئيس المحكمة تذكره بقرار هيئتهم التشاوري، فغير من جلسته بتهيب واضح وقال:

ـ أقترح أن يقف الشهداء دقيقة صمت حداداً على أرواح الأحياء وما تسببنا لهم من آلام وعذابات كثيرة! وأعتبرها لحظة اعتذار لشعبنا وللناس جميعاً أيضاً!

نهض وقد تساقط فتات خشن من هيكله العظمي، تبعه أعضاء هيئة المحكمة، بينما أحنت عضوتا المحكمة رأسيهما تغالبان دموعهما، تريدان إخفاءها وهي تترقرق في المحاجر الفارغة! وقف جميع الشهداء بهبة واحدة، كان لحفيف هياكلهم العظمية؛ صوت نسمات عذبة تمر بين صخور، وأشواك جافة متداخلة. نهض كثير من الأحياء معهم. لزم أحياء حاضرون جلستهم مأخوذين غير فاهمين ما يجري، أو مندهشين غير مصدقين. رفع أحدهم صوته:

ـ آن لكم أن تستريحوا أيها الشهداء، نحن من يقف وينحني لكم!

حتى المعترضون من الأحياء على الانتفاضة؛ وجدوا ألسنتهم لا تطاوعهم في كلام، راحوا يرقبون صفوف الشهداء تقف حداداً من أجلهم، يحنون جماجمهم، فيسقط بعض عظامها، من أجل الأحياء الذين يدبون فوقهم على الأرض غافلين لاهين، أو مغيبين مذهولين، وهم الموتى الأحياء، أو الأحياء الموتى، لا فرق، أية حياة فوق هذه الأرض؟ عم صمت عميق،كان ثمة سكون وجلال لا يقطعهما سوى صوت تساقط أجزاء من عظام أجسادهم في وقفة أرادوها مهيبة مستقيمة أمام شعبهم وأمام تاريخهم! كان ثمة نشيج خفي يسمع بهدوء، ولكن من أين جاءت دموعهم؟ لاحظ الأحياء أن الشهداء يسفحون دموعهم من عظامهم، تخرج من أعماق خلايا هياكلهم وتسيل عليها ندى على الغصون، من أين يأتون بدموعهم؛ وهم هياكل جافة منخورة، مازال الدود عالقاً بها يمتص آخر ما فيها؟ كان الأحياء جالسين على الأرض بعضهم على عجيزته، وبعضهم القرفصاء، ومن لديه حيز مدد ساقيه، يلقون تعبهم وحزنهم على الأرض، تلاشى أنين الريح، وران صمت مهيب.

(62) استدعوه! لا تخيفكم هالته المقدسة!

انطلقت صيحة منادي المحكمة: المتهم راضي سعيد!

لا حظ كثيرون نبرة الأسى في صوته، حتى أن بعضهم سمعه كأنه يسبق اسمه بكلمة:"الرفيق" مدغمة بترخيم وعتب!

كانت هيئة المحكمة قد ناقشت هل ينادي المتهم باسمه المجرد، أم يسبق بكلمة "رفيق" المأخوذة أيضاً عن الحزب الشيوعي السوفييتي (تفاريش)، فقررت مناداته باسمه المجرد من أية صفة، ويسمح له بتحديد صفاته في المحكمة!

نودي على جميع قادة الحزب الموجودين، فتقاطروا بسرعة مستكينين مرتبكين، على وجههم شحوب وانخطاف. وقفوا في صفين أمام هيئة المحكمة، ضم البيرماني إليهم بعد أن أراد بعض أعضائها محاكمته لوحده في قضية خاصة. شمل المكان سكون؛ جعل المعترضين والقائمين على المحاكمة متوحدين لهنيهة، قطعه وقوف هيكل نحيف ذابل النظرات، عرفه كثيرون إنه الشهيد مضر، كان في حياته مولهاً بالشعر، يكتب قصائده تحت ضوء القمر مستغرقاً بالتحديق في السماء، وهو بملابس القتال في ليل الجبال. كان استشهاده غريباً إذ سقطت عليه قذيفة مشتعلة من الأعالي أحالت جسده رماداً على الفور. لم يكن في تلك الليلة قصف، ولا تبادل لإطلاق النيران في الجهات القريبة. لذلك قال بعضهم إنه نيزك سماوي جاءه مشتاقاً متلهفاً، وهو الذي أجتذبه بهوسه الشعري في مناجاة النجوم! بذلك حل سر القذيفة التي قتلته وأحرقت دفاتره الشعرية الجميلة ولم يبق غامضاً. دفنه رفاقه على عجل وهم يتأهبون لتبديل موقعهم في انتظام عسكري جديد. نهض اليوم من رماده الملتبس قائلاً:

ـ لدي نقطة نظاميه هامة، يا رفاقي أريد أن أعرف لماذا عقدتم هذه المحكمة في العالم السفلي ولم تعقدوها في الأعالي حيث السماء الرحيبة المضيئة التي طالما حلقنا فيها بأحلامنا الكبيرة، كأنكم تستكثرون علينا الفضاء العلوي، بينما الشهداء الدينيون يزفهم رجال الدين إلى جنان الخلد في السماء.

قال رئيس المحكمة بهدوء من يعرف عم يتحدث وقد قلب الأمر مع رفاقه طويلاً:

ـ انطلقنا من الأمكنة التي أودعنا فيها أهلنا أو رفاقنا وأحبتنا، الأرض التي أحببناها وسماها بعضهم أمنا، نحن لا ندعي سكننا في الجنة، أو في السماء، ولو كنا رفعنا إليها لهبطنا منها سريعاً إلى هذه الأرض وهذا التراب الذي انبثقنا منه، وتحولنا عليه زهوراً أو طيوراً أو رماداً. العراقيون مذ وجدوا كان العالم السفلي هو الرحم الكوني الذي يأوون إليه، بعد كل عناء أو نكبة أو خيبة!

أخذ رئيس المحكمة يستجوب المتهم الأول، بينما كاتب الضبط يدون، ما يسمعه:

-         ــ اسمك؟

ـ راضي سعيد.

ـ عمرك؟

ـ 64 سنة

ـ مهنتك؟

ـ سكرتير الحزب الشيوعي العراقي.

قالها ببساطة وعفوية وقد تعب من التفكير والتحفظ، يريد أن ينتهي من هذا الذي هو فيه بسرعة، ندت عن بعض الشهداء ضحكات، خفيفة وسمع أحدهم يقول:

ـ صارت القيادة مهنة، واحتراف!

جاء صوت شهيد معترض على المحاكمة :

ـ وماذا تريد من قائد الحزب؟ هو متفرغ للقيادة، مهنته أن يفكر ويتخذ قرارات ويتابع تنفيذها،أتريده أن يصطاد لك السمك، ويعمل مزة العرق ويرقص لك؟

طلب رئيس المحكمة من الجميع التزام الهدوء ومضى يوجه أسئلته:

ـ أين تسكن؟

راح المتهم يتلفت حوله فهو حقاً لا يدري أين يسكن الآن، أهو في عالم الحياة، أم عالم الموت؟ في الحياة تنقل بين بيوت كثيرة، وبين دول وبلدان كثيرة أيضاً، وفي الحقبة الأخيرة سكن بغداد،ثم هو الآن في أربيل، في بيت منحه له حكام أكراد، ماذا يقول؟ ارتج عليه الأمر، تلفت ناظراً بوجوه الشهداء، تكاد نبضات قلبه تسمع فتفضحه، ظل يتمتم بشفتين يابستين. سأل بخفوت:

ـ هل أستطيع أن أسأل أين نحن الآن؟ هل في عالم الأحياء أم عالم الأموات؟

قال رئيس المحكمة :

ـ الأمر واضح، نحن محسوبون على عالم الموت، وأنت وجماعتك محسوبون في عالم الأحياء!

تنهد السكرتير، أحس براحة إذاً هو لا يزال حياً، قائداً، وهؤلاء موتى، وما زالوا أعضاء في حزبه، جنوده أيضاً مهما تمردوا، ماذا يستطيع أن يفعل الموتى؟ أحس بشيء من القوة رغم أن العالم الذي حوله لا يزال موحشاً وكئيباً ومقلقاً، ويزعجه أنه الآن يغوص في أوحاله، ولا يعود لدنياه الجميلة بسرعة، قال :

ـ أستطيع القول الآن إنني أسكن في أربيل!

صاح أحد أنصار السكرتير من حشد الشهداء المنتفضين ملوحاً بقبضة يد تساقطت معظم سلامياتها:

ـ وما الداعي لهذه الأسئلة البوليسية؟

توقع رئيس المحكمة احتجاج المعارضين، أراد أن يكون حازماً معهم، لكن رأي هيئة المحكمة قرر أن يجيب على بعض أسئلتهم وتعليقاتهم، ويقف بجدية مع الاعتراضات الوجيهة التي تقدم بحسن نية منهم، أو من غيرهم، وأن لا يكون متقيداً بدقائق أصول المرافعات، ويكون مرناً مع يصدر من الحاضرين أحياءً أو شهداء؛ إذا لم تخل بسير المحاكمات، ويحرص على أن يقرن كل أجراء للمحكمة بالإيضاحات التي يراها ضرورية للجميع! كان حريصاً أن ينفذ قرار هيئة المحكمة: يرى في أصوات الشهداء المنتفضين وحتى المعارضين لهم، والقضاة أنغام الآلات الموسيقية الرئيسية وأن يلعب هو دور المايسترو، الباحث عن السمفونية الضائعة المنتظرة، ويستبشر خيراً بأية نغمة مبدعة من أي موسيقار دون أن يتنازل عن حقه في الحذف أو الإضافة، قال:

ـ لا نسمح بالإخلال في سير المحاكمة، ومع ذلك سأجيبك! من الضروري أن تعرف المحكمة مكان سكن المتهم، ليس من أجل تسليم الجثة، كما لدى نظام الحكم فوق الأرض بل من أجل إدامة المناقشة والحوار!

عاد الشهيد المعترض يسأل وبنبرة حادة ومنفعلة:

-         ـ وهل بريدكم يصل للعالم العلوي؟ رد رئيس المحكمة بهدوء محافظاً على رصانته القضائية:

-         ـ نعم بريدنا يصل إلى هناك، ويأتينا من هناك، وعبر أثير لا يمتلكه البريد الرسمي!

رد شهيد من المنتفضين من أجل محاكمة قيادة الحزب على الشهيد المعترض:

ـ من نصبك محامياً عن السكرتير؟ يبدو إنك من المقرين بعجزه وعدم كفاءته!

دق رئيس المحكمة بزنده المخلوع عن هيكله كالمطرقة على منضدة المحكمة، وكانت صخرة بركانية صلدة يخرج منها رنين نحاسي، وقال :

ـ أرجو التزام الهدوء من أجل محاكمة عادلة لا تستبق فيها الأحكام! ولا تضطروني لإخراج من يشوش على مجرى المحاكمة!

عاد رئيس المحكمة لاستجواب المتهم:

ـ هل لديك محام؟

رد المتهم بصوت خفيض:

ـ لا.

ـ أتريد أن نوكل لك محامياً؟

عاد السكرتير لتلعثمه وارتباكه، فهو لا يدري مرة أخرى هل يفيد محام مع هؤلاء وعالمهم الغريب الشبيه بيوم القيامة. أو فريق محامين، أو حتى مظاهرة احتجاج؟ أراد رئيس المحكمة أن ينهي حيرته التي ستأخذ من وقت المحكمة وقتا. فقال:

ـ سنوكل لك محامياً!

كان هناك كثير من المحامين من الشهداء قد سجلوا أسماءهم لدى هيئة المحكمة، وأبدوا استعدادهم للدفاع عن المتهمين؛ رغم أن بعضهم غير متعاطف معهم، لكنهم جميعاً أكدوا أنهم سيكونون أمناء لقسم شرف المهنة الذي رددوه في كلية الحقوق يوم تخرجهم! وأمناء لقسم النضال الثوري، وقد ردده بعضهم في أعماقه لحظة انخراطه في العمل الحزبي!

ساد السكون لحظة وقبل أن ينبري المعترضون لإحداث الضوضاء والتشويش على المحكمة،

سأل رئيس المحكمة المتهمين عن أسمائهم ومهنهم وعناوينهم، وإن كانوا قد وكلوا محامين أو يريدون أن توكل لهم المحكمة محامين، نظروا في وجوه بعضهم، بينما انطلقت من بين الشهداء صيحة أحدهم:

ـ عن أي محامين تتحدثون وأنتم قد حسمتم إدانتهم، وأصدرتم القرار؟

نهض شهيد شاب بهيكل عظمي جعله الموت يشيخ كثيراً، ولم يمنحه الراحة الأبدية الموعودة، قال بصوت تلميذ في قاعة درس:

ـ أرجو أن تتيحوا لي فرصة الدفاع عن هؤلاء المتهمين!

قال شهيد من مكان قريب من المحكمة،لا يعرف كيف سمعه بينما طبلة أذنه تراب قال:

ـ إنه لم يكمل دراسة القانون، لذا لا يحق له المرافعة!

قال الشهيد الذي ما يزال ضارعاً:

ـ لقد قتلني الحرس القومي وأنا في الصف الرابع، وقبل تخرجي في كلية الحقوق بأيام قليلة! كنت متفوقاً في دراستي!

رد رئيس المحكمة على الفور:

ـ أنا آسف لعدم إكمالك دراستك، كما أعرف لدينا هنا خريجون وممارسون، ونريد لمحاكمتنا أن تكون نظامية قدر الإمكان!

اقترب الشهيد من المحكمة بعصبية حتى كاد يلقي بهيكله العظمي ويحطمه على منصتها الصخرية، وكأن موجة البحر المتلاطمة ما تزال تصارع به أقدار الوجود، وقال بصوت متوسل متوعد :

ـ حتى أنتم تتجاهلون دراستي، وتحولون بيني وبين طموحي ان أكون محامياً.

ندت ابتسامة حزينة على وجه رئيس المحكمة:

ـ لا تأسف يا رفيقي على أنك لم تصر محامياً، فالمحاماة هم ووجع رأس، ونومة اللحود هي أشبه بقضية حقوقية لا تجد العدل، مؤجلة إلى الأبد!

وقف معترض على الانتفاضة ليغمز المحكمة:

ـ أطمئنك هذه المحكمة لا تريد شهادة حقوق بل شهادة مروق!

لم يكترث رئيس المحكمة له، وراح يحدق بالقاعة المعتمة المليئة بآلاف الهياكل العظمية لشهداء قدامى وجدد، وسأل المحامين:

ـ من يريد الدفاع عن المتهمين؟

نهض شهيد قصير الهيكل العظمي متين عظام الكتفين، قال:

ـ أريد أن اسأل هل ستحاكمون القادة وفق القانون البرجوازي الذي ثرنا من أجل نسفه وتغييره؛ أم وفق قانوننا الثوري؟

قال رئيس المحكمة بصوت جاء رخيما هادئاً حزيناً دون تصنع:

ـ أتعرفون لماذا صرنا عظاماً مفتتة بسرعة، وأنحدر مجتمعنا إلى ما هو أسوء من عالمنا السفلي؟ الجواب بسيط: كنا قد استهترنا بالقوانين والنظم، وكل القيم الطيبة التي جهد الناس في تكوينها على مر العصور؛ بحجة أنها برجوازية، غير شيوعية، وبذلك هيئنا الجو للسلطة الغاشمة لتعمل بقوانينها الدموية واللصوصية! لذا سنعتمد في أصول المحاكمات على كل قانون صحيح متين أرسته الإنسانية وجربته وارتضته، ولا يهمنا بعد ذلك إن كان قد كتب بيد الإقطاعية أو البرجوازية. قضايا كثيرة ثقيلة فوق الأرض تضغط على عظامنا، وأرواحنا نتمنى أن نقدم اليوم مثلاً في طريقة حلها! وكفاناً هدماً لأسس الأشياء الصحيحة، والخاطئة معاً باسم الثورية!

وقف هيكل عظمي مفكك ويبدو إنه لمحام قديم منهك ما يزال يسعل قائلاً:

ـ ما يطبق في بلادنا اليوم ليس قوانين البرجوازية التي وسمناها ظلماً بالتخلف، إنما هي غدد الدكتاتور وأورامه وعقده، فرضها على الناس قانوناً ونظاماً رهيباً. أنسيتم ما قاله صدام: "القانون هو كل ما كتبه ووقع عليه صدام حسين!"

(63) الحبيبة التي لم تخن قلبها، لا تخون ضميرها!

تقدم المتهم عبود الكدري، عضو المكتب السياسي،مسؤول العمل الأيدلوجي في الحزب، كان لجوجاً كعادته، لم يطلب موافقة رئيس المحكمة على الكلام؛ قال بصوت صاخب لا يتناسب وارتجافه، وصمته الطويل:

ـ نحن نرفض أن نحاكم وفق قوانينكم البرجوازية، بل نحن نرفض محكمتكم التحريفية البرجوازية!

نظرت "لطيفة" عضوة المحكمة إليه، أكان هذا المهووس بالتسلط؛ حبيبها القديم؟ كيف أحبته، لحق بالبلغارية لمجرد أنها شقراء وفي عجيزتها وصدرها بضعة كيلوات من اللحم لا تمتلكها هي. لم تكن تتوقع أن يقف أمامها متهماً لتحاكمه، ولو في هذا العالم السفلي الرمادي. لم تخن قلبها معه، تركت فلبها يبرأ من حبه بهدوء. واليوم إذا تطوف بها الذكرى لأيام شبابها الموءود تحس بالشجن فقط. كل ما قررته أن تكون موضوعية عادلة معه، وتطهر ضميرها تماما من أية نزعة انتقام. رد رئيس المحكمة بهدوء:

ـ من حقك أن ترفض، ومن حقنا نحن أن نمضي بالمحاكمة، فهي ليس عقداً توافقياً، بل هي إحدى متطلبات عدالة ضائعة!

هز المتهم رأسه، وقد حرن فكره كعادته، أضاف رئيس المحكمة:

ـ أرجو أن نتعاون معاً للوصول للحقيقة!

كان الكدري مسؤول العمل الأيدلوجي في الحزب، يقيس درجة تشبع الرفاق بالنظرية الماركسية اللينينية، كان معروفاً بجموده وتحجر عقله، حتى إن بعض الرفاق كانوا يسخرون منه قائلين "على صخرة مسؤول الأيدلوجيا تتحطم كافة أفكارنا الثورية!" كان أشقر ممتلئاً طويلاً، محني الجذع، لوقوعه من على ظهر بغل في أخدود، وصارت النكتة لدى الرفاق إن الصخرة الأيدلوجية قد قصمت ظهر البغل أيضاً فألقاه في الخندق، معظم الرفاق ينفرون منه، فهو متعجرف، فظ في كلامه وتصرفه، ضحل يدعي الإلمام الشيوعية، تمتع بدورات دراسية في بلغاريا وموسكو وبودابست، ورغم دلال الحزب له في منحه الوقت والظروف الناعمة الآمنة للقراءة والكتابة، لكنه لم يكتب ولم ينتج شيئاً، ظل دائم الحديث عن بحوث فكرية، واجتهادات نظرية ينوي نشرها في كتب ستحدث ضجة أممية كما يقول، الآن جاوز السبعين ولم يصدر له كراس واحد. تزوج من نساء كثيرات عراقيات ومن الدول الاشتراكية، لم ينجب.وقد حاول البعض بقسوة الربط بين عقمه الفكري والروحي وعقمه التناسلي، فصاروا يسمونه "ذو العقمتين"! لكن هذه التسمية لقيت استنكاراً من رفاق كثيرين لأنها تعرض به في عاهة طبيعية، رغم قناعتهم أن شخصيته السمجة المتعالية تستفز الكثيرين، قال أحد الرفاق:

ـ إن كون هذا الرجل عقيماً لا يستطيع الإنجاب فذلك أمر يستحق العطف، أو ربما يغبط عليه، ولكن أن لا يستطيع الإبداع أو التفكير، ويصر على الإمساك بالعمل الفكري داخل الحزب فهذا منتهى العقم، والتعقيم!

كثير من الرفاق يقولون أن السكرتير حمه سور وكمتار بيس ومتنفذين آخرين أوكلوا إليه قيادة العمل الفكري داخل الحزب لأنهم ليسوا أفضل منه، وهم لا يريدون وجود مفكر حقيقي إلى جانبهم، يؤرقهم أو يحاسبهم على فجاجتهم وضحالتهم، وهمودهم وتخبطهم، ولا يريدون لوعي أعضاء الحزب أن ينمو ويتطور فيكشف حقيقتهم أو حقيقة فكرتهم وتوجهاتهم السياسية المضطربة والمتناقضة! أو أن تحدث المعجزة؛ فيكتشف ذات يوم أن النظرية كلها محض صخرة صماء؛ من المستحيل ان تتحقق؛ وإن النضال على طريقها هباء ومضيعة للبشر والزمن! نهض شهيد كانت له مواجهات مريرة مع هذا المتهم، قال :

ـ نصف خراب الحزب في الحقبة الأخيرة سببه هذا الدعي؛ فهو الذي غيب كل النشاط الذهني للرفاق في القواعد وتجاهله باحتقار، وهو الذي دفع خدر الحزب بتطمينات فكرية ساذجة؛ حتى باغته البعثيون بغدرهم، فكانت هذه الهزيمة وهذا الانهيار؛ لذا أرجو أن يحاكم بمنتهى القسوة!

قال رئيس المحكمة :

ـ محكمتنا لا تأخذ بالقسوة، بل بالحزم والموضوعية!

نهض رفيق آخر كان متحاملاً على الرفيق الأيدلوجي، وراح يتحدث في قضايا فكرية كثيرة، وكلما أوقفه رئيس المحكمة انتقل لموضوع آخر، بل حاول أن يفتح جدلاً طويلاً مع المتهم لكن رئيس المحكمة أفلح في إيقافه بتهديده بإخراجه من ساحة المحكمة قائلاً:

ـ نحن العراقيين ابتلينا بمرض الجدل السياسي! أرجو الاختصار، لا وقت للموتى ليبذروه كما يبذر الأحياء أوقاتهم، نعم لا يغرنكم إننا نمتلك الأبدية، فحتى الأبدية هي وقت لا يكفي للوصول للحقيقة، لذلك نحن نسعى لأجزاء،أو كسر منها!

انتقل سريعاً للبحث عن محام للمتهمين، واجه صمتا وسكوناً. أحد الشهداء رشح الحقوقي عزيز مرشد، فتوجه رئيس المحكمة إليه يسأله:

ـ أتوافق؟

نهض عزيز بهيكله النحيف قال :

ـ يشرفني قبول تكليفكم لي، رغم خلافاتي مع الكثير من مواقف وسياسة قادة، الحزب لكنني أتمنى ان لا أكون متحاملاً عليهم، وأستطيع بالتعاون معكم أنصافهم، وعلني أفلح في إحقاق الحق معهم!

كان عزيز قد تخرج لتوه من كلية الحقوق حين حدث انقلاب 14 تموز 1958. لم يستطع أن يفتتح مكتباً للمحاماة فاتجه للوظيفة، اشتغل في إحدى المحاكم ببغداد، انخرط في النضال مع الشيوعيين، فكان من الناشطين، متصدري مظاهراتهم الكبرى حين كانت أمواجهم النضالية، أو مدهم الثوري يكاد يدفع بغداد على عجلات لتقترب من الساحة الحمراء في موسكو، فكانت تستفز حاقدين ومحبين، ضوار وحملان، دون جدوى! اعتقل في انقلاب 63. نجا من الموت مصادفة. أطلق سراحه بعد أن سجن لسنوات. خرج وهو لا ينفك ينتقد الحزب على ما يسميه اندفاعاتة الطائشة أزمان الرخاء، وتخاذله عند الضرورة، وفي المنعطفات الحاسمة! قائلاً: سياسة الحزب ساهمت بمجيء طغم العسكريين، والبعثيين إلى السلطة. أعيد للوظيفة، موظفاً في إحدى محاكم العمارة حيث الكثير من أفراد عائلة زوجته وأقاربه هناك، عمل مع زميل محام له في مكتبه لزيادة دخله، قتل مع اثنين من أطفاله. في هجوم على بيته من جماعة دينية مسلحة اتخذت من الأهوار منطلقاً لعملياتها مدعومة من الإيرانيين. صدر بيان من مقرهم في طهران يقول أنهم قضوا على أحد جلاوزة السلطة البعثيين العتاة المعروفين بحقدهم على الشيعة، وترويج الدعاوي الكيدية ضدهم. بينما كان الرجل شيعياً، متعاطفاً مع المتهمين من أعضاء الأحزاب الشيعية، لا لكونهم شيعة، بل لكونه كان يؤيد كل من يعمل ضد السلطة في بغداد. استيقظ اليوم مع الشهداء شهيداً شيوعياً،لا يزال حزيناً متأسياً لمقتل طفليه وإصابة زوجته بجروح أقعدتها غير مكترث لمغادرته الدنيا وهو دون الأربعين. عرف بهدوء استقى معظمه من كأس الموت، ومراجعته لمسيرة حياته الإنسانية والحزبية، كان في رأيه السلبي بقيادة الحزب وسلوكها وسياستها وإدانته لها حريصاً أن يحدد مسؤولياتها بدقة وبتعابير قانونية دقيقة!

حرص رئيس المحكمة، أن يكون صوته قوياً وهو يطلب من المدعي العام قراءة لائحة الاتهام.

فوقف بهيكل عظمي منحنٍ كأنه يحمل على ظهره كيساً فيه صخور وشواهد قبور ومصائب وليس مجرد تهم وكلمات، دونها في ورقة، لم يتوقع الحضور أن تكون بهذا الحجم الصغير، وراح يقرأ :

"لا أريد أن أطيل، فالتهم واضحة جلية. المتهمون الماثلون أمامكم لم يروا ولم يسمعوا حتى الآن بالزلازل والبراكين التي قلبت العالم رأسا على عقب وأطاحت بالنظم الشيوعية، فظهر ما كان تحت السطح الخلاب من واقع فاسد مرعب. لا يسعنا سوى الإقرار، أن فكرتنا قد استلمت من مبشر أرسله ستالين إلى بلادنا ضمن أطماع توسع قومي متخذاً صبغة إنسانية ثورية. ملقياً على أرضنا فكرة عقيمة مستحيلة، من المؤسف أنها انطلت على آلاف وآلاف المناضلين في بلادنا فأفنوا حياتهم من أجلها سدى. وها هي اليوم تتكشف على حقيقتها، مطلة بوجهها الكالح من أنقاض النظم التي أقامتها في روسيا وعشرات البلدان الأخرى، مرتجفة مدانة كخدعة كبرى، وهراء جامح أقرب للجنون! لقد اهتزت ضمائر وعقول الملايين من البشر، مشيحة عنها تبحث عن طريق آخر، ليس طريق الرأسمالية المشبع بالقسوة والوحشية والجنون أيضاً، بل طريق جديد جوهره التوازن بين الحاجة القصوى إلى الحرية، والحاجة القصوى إلى العدل! لكن المتهمين هؤلاء، لا زالوا يتغنون بما يسمونه فكرة كلية القدرة، شاملة النظرة، تمحق فيها الحرية باسم العدل، ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء إطلالة من النافذة ليروا ماذا تركت العاصفة وراءها! كل ما قالوه أن الخلل في التطبيق وليس في الفكرة نفسها، متجاهلين أن شعوباً عديدة من قوميات وأصول مختلفة وبتقاليد وأمزجة متعددة، وبتاريخ وجغرافيات مختلفة قامت بتطبيقها، ولم تحصد سوى الخراب والشقاء. هل كل هذه الشعوب عقيمة مجدبة؟ والفكرة وحدها صحيحة خصبة ممكنة؟ لا يا رفاقي الفكرة كانت فاسدة مجدبة مستحيلة، وقد التقت مع فساد الرجال والنساء في هذه الأحزاب الهوجاء فأنتجت كل هذه المآسي.كانت هذه الفكرة ستجرنا في بلادنا إلى الدكتاتورية، وقمع الناس واضطهادهم وتعذيبهم، وربما إبادتهم وإلغاء كل عقل؛ سوى عقولهم المختلة، ليمضوا متدخلين في شئون الناس الصغيرة والكبيرة وتنغيص حياتهم، وتشويه أرواحهم على وعد خلاب بتحقيق حياة أخرى لهم، ثم نكتشف ان هذا الأمل لا يمكن تحقيقه أبداً! وإذا تحقق فأنه سيحشر الناس في قيامة دائمة، تحت سلطة غاشمة هي في غيابها اشد سطوة من حضورها، ما يجعل حياة البشر جحيماً لا جنة كما يدعون! علينا نحن الإقرار أننا كنا سادرين معها في جهل وغفلة وتقصير يصل حد التدليس والمشاركة في جرائمها حتى تلك التي وقعت في بلاد بعيدة. هؤلاء المتهمون لا يريدون الإقرار بذلك، ما زالوا يجترون نفس الأفكار والأسماء والشعارات ويرتكبون ذات الأخطاء والخطايا. من يدفع ثمن ذلك؟ رفاقنا، وشعبنا طبعاً! إن ما ارتكبه حمه سور وصاحبه كمتار بيس وغيرهم من جنايات مخزية بحق الكثير من المناضلين والمناضلات، ما كان ليتحقق أو يمر لولا خواء فكرة الحزب وعقمها، وعدائها للديمقراطية. فهي الدم الفاسد الذي لا ينتج غير المرض في الجسد والجلد! لا أريد أن اثقل عليكم بتفاصيل لا وقت لدينا لها، وهي معروفة لكم أكثر مني، فالفسحة التي منحها لنا الموت متفضلاً، قصيرة جداً، وهو سيداهمنا في أية لحظة لذا أتمنى أن تقفوا عند ما هو أساسي، تزيحون الصخور الكبيرة عن طريق العدالة لتشخيص الجناة، فلا تتوقفوا عند هذه الحلقة من المتهمين، وحلقة كمتار وحمه سور، بل تمضون في التحقيق والكشف عن كل جنايات الحلقات السابقة من القيادات التي تعاقبت على رأس الحزب وجرت خلفها الكثير من أبناء شعبنا في طرق المتاهة، وصولاً إلى الجاني الأول: مؤسس الحزب المدعو فهد ومواجهته بالسؤال الأساسي: كيف ورطت الناس البسطاء الأبرياء بفكرة لم تتوثق من صحتها؟ وكيف تجرأت أن تكون رسولاً لستالين، لا مبدعاً لفكرة مستقلة ناضجة ملائمة لبلادك وشعبك؟ وفي الوقت الذي نحمل قيادات الحزب المتعاقبة جريرة فكرة خاطئة وسياسات بنيت عليها فرض معظمها عليهم من السوفييت. لا نبرئ أنفسنا نحن الشهداء من خطايا ارتكبناها نحن أو ارتكبت بأسمائنا وسكتنا عليها، بل روجنا لها وقمنا بتنفيذها ونحن نعي مخاطرها أو كنا قد غفلنا عنها. رفاقي الأعزاء: بعد ما حل بشعبنا ووطننا من خراب ومآسي، وما تفجر في العالم من آلام وحقائق وأسرار لا عصمة، ولا قدسية لفكرة أو شخص! فلا تخشوا ولا تترددوا من أن تستدعوا لمحكمتكم أي شخص أو فكرة أو حلم أو نبي أو قديس، حتى الله نفسه أعيدوا الشك فيه وحاكموه! فقد يكون موجوداً بعد ما أنكرناه طويلاً، وقد يكون فعلاً غير موجود، وعلينا أن نتحمل مسؤولية حياتنا لوحدنا كيتامى أبديين! بل ان علينا وفي المقدمة محاكمة أنفسنا وضمائرنا وعقولنا. ويجب أن لا يكون همنا العقاب أو الانتقام من أحد، فلا تشهير ولا طعنات خارج نطاق الحقيقة والموضوعية! لا شيء يستحق عناء النهوض من الموت ومواجهة صروف الحياة المتعبة سوى الحقيقة! شكراً لكم جميعاً!

شكره رئيس المحكمة قائلاً يداعبه:

ـ لم يفسد الشعر يا منهل لغتك القانونية!

(64) حزب يقاد بالتنويم المغناطيسي، والتوجيه عن بعد!

توجهت عضوة المحكمة "لطيفة "بسؤالها:

ـ قل أيها السكرتير أية جهة أصدرت لك إجازة سوق سيارتك؟

انطلقت قهقهات من الشهداء الغاضبين قال أحدهم:" يبدو أننا في محكمة مرور وليس في محكمة ثورية، كما يدعون " تجاهلت صيحاتهم وضحكهم، وأصرت على سؤالها، محدقةً بالسكرتير بمحجريها العميقين، قال السكرتير باستخفاف:

ـ كانت لدي سيارة وإجازة سوق مذ كنت طالباً في بلغاريا، وقد جددتها في بغداد، وفي شرطة مرور أربيل أيضاً!

ـ حسن، ها أنت ترى، لكي تقود سيارتك الصغيرة؛ كان لابد لك من الحصول على إجازة سوق، ترى من أين حصلت على إجازة سوق لقطار الحزب الذي يستقله معك الآلاف من الناس، بل أردت أن تقود العراق كله، وتنطلق به على سكة حديد طويلة ملتوية لا تعرف نهايتها، وأنت لا تحمل إجازة سوق!

بدا السكرتير مرتبكاً، هذا سؤال غريب لم يوجه له من قبل، ران صمت في القاعة، قطعه المعترضون قارعين بعظامهم على الأحجار، صائحين:

ـ لا محاكمة للفكر، لا محاكمة لحق الرأي والتنظيم،هذه خيانة للإنسان، وغمط لحقوقه!

قرع رئيس المحكمة بعظامه منصة المحكمة وهي صخرة ملساء بعض الشيء، وهدد مرة أخرى بإخراج المشوشين، جاء صوت سكرتير الحزب متشجعاً بأصوات أنصاره المعارضين للمحاكمة :

ـ هذا تشبيه متعسف، لست أنا من يقود الحزب، إنهم أعضاؤه ومؤيدوه، والشعب نفسه، وما أنا سوى منفذ لإرادتهم!

ندت ضحكات وقهقهات من الشهداء المنتفضين،قال شهيد بينهم:

ـ من يسمعك يعتقد أنك كنت تجري انتخابات ديمقراطية كل شهر، وتصوت على قرارات الحزب كل يوم!

قال شهيد آخر:

ـ إذا كانت الأحجار هي التي تقود الطريق، فإن أعضاء الحزب هم الذين يقودون قطار الحزب، والشعب سيقود نفسه في ظلهم!

-         تدخلت "هدى" قائلة: كان الحزب ولا يزال يقاد بالتنويم المغناطيسي، وبالتوجيه عن بعد، والرفاق آخر من يعلم، والشعب لا يعلم، ولا يريد أن يعلم!

نهض أحد المعترضين وكان هيكله العظمي لفرط نحافته، واسوداد عظامه يلوح كجذع نخلة محترقة وقال:

-         ـ قولوا هذا للحاكم الذي دخل القصر الجمهوري في بغداد محمولاً على دبابة ضباط خونة، وبإسناد أمريكي!

قال السكرتير بصوت خالطه انفعال وحنق:

-         ـ فعلاً أليس الأولى أن تحاكموا الطغمة الحاكمة التي أشعلت الحروب، وأشاعت الإرهاب، ودمرت البلاد، بدلاً من محاكمتنا نحن المناضلين ضدهم؟

انبرى أحد أعضاء قيادته ورفع رأسه المنكس، قال بصوت مرتجف:

-         ـ أفعالكم هذه، تفرح الإمبريالية والرجعية والصهيونية، وعملائهم في بغداد!

-         رد عليه شهيد من عمق الكهف:

-         ـ كل واحد فيكم هو جنين دكتاتور، هدرنا أعمارنا لنصنعه دون أن ندري!

-         رد رئيس المحكمةً:

-         ـ طغمة السلطة في بغداد حكم عليها الشعب منذ زمن بعيد بالعار قبل وبعد تحالفكم معهم، وهم طيلة السنين المنصرمة هاربون من وجه العدالة، وكلنا ننتظر إلقاء القبض عليهم، وليتنا نحن من يحاكمهم، وليس غيرنا فيحرف كل شيء لصالحه، معيداً حكاية الدكتاتورية!

أضاف نافع عضو المحكمة:

ـ هذه نفس الحجة التي تطرحها السلطة في بغداد،للهروب من المساءلة، ملقية كل شرور الوضع على الإمبريالية والصهيونية والرجعية، إنها لعبة تعيسة لا تنتهي!

أطلق المعترضون صفيراً حاداً، وراحوا يدقون على جدران الكهف الهائل المكتظ بالشهداء والأحياء، رفع المحامي عزيز، يده معترضاً فأعطاه رئيس المحكمة حق الكلام:

ـ كما ورد في مرافعة المدعي العام: أرى من الضروري تأجيل محاكمة المتهمين موكلي ريثما تنتهون من محاكمة القيادات السابقة! تعالت أصوات المعترضين:

ـ محكمة فاشلة، باطلة، متخبطة، نطالب بإلغائها، والاعتذار الفوري عن كل هذا الإيذاء والشد النفسي للشهداء، وللأحياء ولجيراننا من الأموات!

نهض أحد الشهداء ممن تحمس للمحاكمة مذ طرحت فكرة غامضة هائمة بين قبور الشهداء في بغداد ومدن البلاد وبين القبور المغتربة المتناثرة في بقاع شتى من الكرة الأرضية، وفي همس المنفيين وهم يدفنون أرواحهم وموتاهم في الأصقاع البعيدة الباردة، اعتدل بهيكله العظمي المليء بثقوب الرصاص، بدا إنه استشهد شاباً لا يتجاوز الخامسة والعشرين قال:

ـ رغم إن لدي تهماً كثيرة ضد السكرتير وجماعته المتهمين الماثلين أمام عدالتكم، لكنني أؤيد ما طرحه المحامي، كيف تبدأون محكمتكم من النهاية؟عليكم أن تبدأوا بالرجال المؤسسين الذين أتوا بالفكرة لأول مرة، وجمعوا حولها الأنصار والمريدين، وهي ما تزال غامضة، بل فجة ملتبسة لا تمتلك سوى قوة الجهل بها!

بدا رئيس وأعضاء المحكمة متفكرين وفي استنفار مفاجئ. كان قد خطر هذا على لدى بعضهم بشكل غامض، وتركوه لمجرى المحاكمة. لم يتوقعوا أن يتفجر الآن في بداية المحاكمة.إنه منطقي جداً بل هو إجراء قانوني حيث ينبغي إرجاع الفعل إلى أصوله. ذلك يعني بالدرجة الأولى استدعاء مؤسس الحزب فهد الذي يعده كثير من الشيوعيين قديساً لا يجوز المساس باسمه أو ذكراه.تعالت أصوات المنتفضين داخل القاعة قوية مترادفة. هذا ينهض بهيكلة المتداعي فتسقط منه عظمة ذراعه.ذاك يتهاوى في وقفته المنهكة على عظم واحد كسارية علم ممزق. ظلت أصواتهم تتقافز فوق هاماتهم. وقف هيكل متداع لشهيد مسن قضى كل حياته في النضال ودفن حياً مع مجموعة من الشيوعيين في منطقة الحصوة في أبي غريب قائلاً

ـ سمعت عن رجل قامر ببيته وسيارته وأخيراً بزوجته ثم انتحر، ولكن فهد قامر بالعراق كله على مائدة ستالين، لذا أطلب أن يجلب للمحاكمة وعلى الفور!

أعقبت كلماته هتافات شهداء مختلفي الأعمار والمعاناة في الموت والحياة:

ـ نطالب بمحاكمة الجميع!

ـ لا قداسة لأحد بعد اليوم!

ـ الكل سواسية أمام الحقيقة!

ـ لنقل كلمة الحق ولو على أعظم الشهداء!

ـ لتسقط كل الهالات والأوشحة!

ـ بطولة الاستشهاد لا تعني صواب الاتجاه!

ـ فتنة الشعارات والغايات أضلت الشهداء أيضاً!

ـ الشهادة وحدها لا تثبت حسن النية!

ـ هناك شهداء صدفة، وأحياء صدفة!

تعالت صيحات أخرى من زوايا القاعة:

ـ استدعوا فهد ليقف أمامنا ويرد على التهم الكبرى:

امتثاله لأمر ستالين، وتأسيسه مكتب دعائي له على شكل حزب يستهلك دماء وطنييُ العراق!

ـ كان سفيراً رثاً لستالين ولينين، عمل من أجل مصالح السوفييت بقناع وطني!

ـ كان سيصير فرعوناً ثلجياً كستالين؛ لولا أن الشمس هنا لاهبة!

ـ ادعى عقم هذه الأرض التي أنجبت الشعراء والمفكرين واستورد فكرة وخريطة ضلال، إنه عميل للسوفييت لا أكثر!

لكن أنصار قادة الحزب القدامي والحاليين لم يكونوا يقلون ضراوة وصلابة في الدفاع عن قناعاتهم، صار التراشق بالهتافات والعبارات الملتهبة كأنها لعبة تسلية موتى، والكلمات تطايرت من فوق رؤوسهم سهاماً نارية:

ـ فهد رائد حلم عظيم، وقدوة عليا في الشجاعة!

ـ هو من ألقى في العراق شرارة الثورة فأشعل هشيم اليأس، وحوله إلى عزيمة في عروق الرجال!

ـ إنه ربان الثورة الوطنية والاجتماعية!

ـ كانت الثورات قبله سلطان يطيح بسلطان، وهو من جعلها من أجل الفقراء والمسحوقين!

ـ الشيوعيون في العراق معلمون ورواد لا طالبي سلطة وفساد!

ـ قادة الشيوعية في العراق قادة فكر وثقافة وأخلاق!

ـ هم أول من أتى بمشاعل أنوار الحضارة، وهم من أطلق الثقافة الجديدة البناءة!

ـ دعوا لتحرير المرأة وحماية الطفولة والعجزة والمهمشين والمنبوذين!

ـ صعدوا المشانق بشجاعة بينما لثم اللصوص والقتلة والظالمون أحذية الإنجليز!

ـ الشيوعيون رجال المهمات الصعبة، وأعداؤهم رجال المهمات القذرة!

طفق رئيس المحكمة يدق برسغه على صخرة المحكمة، طالباً من الجميع الهدوء، وانتظار نتائج المحاكمة:

ـ ينبغي على الطرفين المختلفين أن لا يخشيا من المحاكمة؛ فهي أما أن تبرأ ساحة المتهمين، وربما تمجدهم، أو تدينهم، أو تعطيهم ما لهم، وتحتسب ما عليهم، فيقتسمون الحقيقة مناصفة، ويكونون مدانين، ومبرأين بنفس الوقت، لا تستعجلوا! لا ينبغي الخوف من الحق والحقيقة! والمهم أننا سنضمن محاكمة عادلة نزيهة شفافة! طلب "منهل" المدعي العام من رئيس المحكمة أن يسمح له بالكلام، سمح له بإشارة من جمجمته، فتحامل على عظامه المهشمة، واقفاً، قائلاً:

ـ يبدو إن على أن أقف ثانية عند نقطة رئيسية بما يكفي: لكي يستدعى فهد إلى المحكمة كمتهم يجب أن نحاكم الفكرة، ونتثبت من خطأها أولاً! لا أن نستند لحكمي أو لأحكام الآخرين حولها فقد يصح هذا فكريا، لكنه لا يصح مع القانون الذي يتطلب التوثق مباشرة! لذا على المحكمة أن تقلب الفكرة بنفسها، وتتوثق من عقمها أو خصوبتها، خطأها وصحتها، بغض النظر عما جاء بمطالعتي، فإذا وجدت أن الفكرة صحيحة ممكنة التحقق في العراق دون بلدان العالم كله فلا يحق لها إقلاق راحة الرفيق فهد وإيقاظه من قبره ليتحمل مشاق الطريق إلينا، فهو كان في سلوكه وشخصيته إنساناً طيباً ورائعاً، ويكفي إنه صعد المشنقة بشجاعة من أجل فكرته!

قال رئيس المحكمة هذا طلب وجيه، وسنبحث في الفكرة، رغم إن ما استقر في أذهاننا بعد كل الذي حدث أنها خيالية طوباوية، بقدر ما هي خصبة في أحلامها ووعودها! ولكن قبل ان نرفع الجلسة؛ اسمحوا لي أن أدعو الرفيق يونس ليقول ما لديه! العتمة جعلت يونس يبدو هيكلاً عظمياً بين هياكل الشهداء أيضاً، جاء صوته رغم وهنه واضحاً:

ـ محكمتكم جاءت بمستوى الآمال، فهي تقف عند مفاصل المأساة لا ذيولها وانفعالاتها الشخصية، زج الناس بفكرة مستحيلة يعني وضعهم بسفينة مثقوبة بلا بوصلة في محيط هائج حيث لا شاطئ ولا جزيرة ولا مرسى. لا شيء سوى الرياح والموج الصاخب والحيتان والكواسج المفترسة. كم أضعنا من الناس الطيبين في رحلة سيئة! لي الثقة أنكم ستحددون المسؤول عن هذه الورطة الكبرى!

ـ شكراً أيها الرفيق، لك الفضل في يقظتنا!

عاد يونس إلي صمته، تخيل إنه يحدث من يزوره من الشباب بما يشهد هنا، فيسرون مثله، الشهداء يحاكمون قادة لهم مؤسسين ولاحقين،وهم في عالم الموت يسلمون قيادهم لروح الحياة والحب. يصيرون بخفة الأثير والنسيم. تتجلى بساطتهم ورقتهم. يتخففون من أحشائهم وقلوبهم ويصيرون أعمدة نور ناطقة هائمة. قضايا ثقيلة هامة مؤرقة تجعلهم يختلفون، يتصادمون لكنهم يبقون روحاً واحدة هائمة باحثة عن الحقيقة.، كم تخلق الفكرة الفجة البليدة المتحجرة من مآسي أليمة، ومن آفاق غريبة! علي أن اعرف ذلك لكي اقترب من المحكمة بهدوء وسلاسة لا تقلقني الاختلافات!

أعلن رئيس المحكمة أن الجلسة سترفع لفترة قصيرة للتداول في مسألة الفكرة واستدعاء القيادات السابقة للمحاكمة .

اقترب حسن طلقة من عشتار وشهرزاد وهما في مقصورتهما وهي صخرة عالية اتسعت لهما،سألهما:

ـ كيف رأيتما المحاكمة؟

قالت عشتار :

ـ أنا فرحة برؤية أحفادي يكبرون وينضجون يكثرون ويختلفون، ولكنني حزينة أنهم لم يجدوا سعادة ولا هناء،وإنهم عقدوا حياتهم كثيراً!

رد طلقة:

ـ لقد رضعوا من ثدييك على أي حال!

قالت شهرزاد:

ـ حكاياتهم مملة وثقيلة وسمجة! لكنني أتفهم ظروفهم، لا تتكون حكاية طريفة جميلة إلا في حياة سعيدة!

قال حسن :

ـ لا يمكن مقارنة حكاياتنا بقصصك الجميلة المسلية والمثيرة، ولكن أرجو أن لا تنسي أن حكاياتهم حقيقية،ودفعوا ثمنها أرواحهم وحياتهم!

كانت عشتار مشغولة تبحث عن شقيقها وعشيقها تموز:

ـ هل عرفت شيئاً عن تموز؟ أعتقد إنه بقدر ما سبب لي من آلام ساهم في آلام هؤلاء الشهداء أيضاً! قال حسن ربما ولكن اطمئني،ستجدين تموز،أين يكون؟ لا بد أنه يتسكع بين الشهداء، وربما يريد منهم أن يصل إلى ضالته: أصدقائه الضباط، هو كما أعرف لا يميل سوى لهؤلاء الأجلاف! ضحكت عشتار: لا يهم! ما دام لا يقترب من الفتيات حتى لو كن شهيدات!

(65) حاجب المحكمة ينادي طالباً الفكرة للوقوف في قفص الاتهام!

لم تمض سوى ساعة حتى عادت المحكمة للانعقاد فواجهتا عاصفة من الهتاف:

ـ استدعوا الفكرة. حاكموها. كم ضللتنا وخدعتنا!

ـ حاكموا من جلب بذورها المسمومة إلى أرضنا لتنبت الشوك والحنظل!

وردود هياكل عظمية مجاورة، غاضبة حانقة:

ـ فكرتنا هي التربة والماء والنور، تفتحت فيها كل البذور الطيبة في أرضنا!

ـ لا تصير فكرتنا العظيمة مسمومة، إلا حين تدخل رؤوسكم المتعفنة!

ـ الفكرة أشعلت روح فكرنا الوطني، وآدابه وفنونه!

قال رئيس المحكمة:

ـ ربما تتسائلون وهذا من حقكم كيف استطاعت محكمتنا خلال ساعة الحكم على فكرة ولدت عبر قرون، سادت وربما تسود لعشرات السنين، ببساطة لقد ارتأت المحكمة أن تستمع لكل رأي حول الفكرة،قبل الحكم عليها بشكل قانوني!

وقف أحد الشهداء قائلاً بلهجة ساخرة: في العهد الملكي صدر قانون حرم الشيوعية، وحكم على من يروجها أو يعتنقها بالأشغال الشاقة لسبع سنوات، هل ستعيدون تشريع هذا القانون؟

رد رئيس المحكمة:

ـ نحن ضد أي قانون كهذا. لكننا بنفس الوقت ضد أي مفكر يستعمل حرية الفكرة لزج الناس بشكل عملي وطويل الأمد في فكرة غير متوثق من صحتها وجدواها، ثم يصر عليها حتى حين يتكشف خطأها! هذا كل شيء!

تدخلت هدى: لو إن فهد قد عرفنا بالماركسية لما اعترضنا، على العكس كنا رحبنا بذلك،وشكرناه، لو إنه عرفنا باللينينية أو حتى الستالينية لما اعترضنا، لكنه جاء بأفكاره هذه ضمن خطة عمل، مادية واسعة النطاق، وعمل لتحقيقها بآلة حادة قاطعة هي الحزب، ودكتاتوريته المنتظرة. هنا خرجت المسألة عن نطاق الفكر، وتحولت إلى اعتداء،أو نوايا اعتداء وإجرام، من حق الناس أن ترفضه،وتدافع عن نفسها، بقوة موازية!

انطلق صوت شهيد: ولكن كيف ستحاكمون الفكرة هل سنسمع منادي المحكمة ينادي على جماجم كارل ماركس وإنجلز ولينين وستالين، أم ستجادلون أنتم حولها وتأتونا بالنتيجة، ما هي مؤهلاتكم الفكرية والفلسفية وخبراتكم السياسية، ومن نصبكم مرجعية فكرية عليا؟ تعالى الجدل وعم صخب وضجيج! ظلت المحكمة هادئة ساكنة ترقب ما يجري حولها بصبر وحزن، انبعث صوت نافع بديوي منها هادئاً وقوراً، بدا شيخاً هرما كبر في أحضان الموت:

ـ لسنا منظرين، ولا نريد أن نكون كذلك، أتذكر في حياتنا القديمة كان هناك دائماً من يهول النظرية، ويصور قادة الحزب، بالعمالقة، بينما كثير منهم مجرد طبول جعجعة! ثمة طريقتان لفهم الفكرة: الفطرة الإنسانية، وهي سلسة وبسيطة وتهتم بالتجربة العميقة والطويلة، وقد تصيب وقد تخيب، ولكن بصدق وعفوية. والمعاهد النظرية، وهي قد تصدق وقد تخيب، ولكن عن قصد وتحت ضغوط من الأغراء أو الإكراه.

(66) وعدنا إلى بغداد، نمازج رمادنا برمادها لنصنع منهما كأس النسيان!

نظرت إلى العطار والجهنمي. كانا في زاوية من الكهف غير بعيدين عني. لاحظت على وجهيهما ضجر وسأم، ولكنها كانا ساكنين يتحملان كل ذلك، ربما مجاملة لي،أو لمتعتهما الخاصة. تذكرت إن المحاكمات ستطول، والجو هنا خانق مكفهر، ما ذنب صديقيَ أزجهما في أجوائها المقبضة التعيسة. اقتربت منهما مستطلعا. قال العطار: العمل الحزبي كالمخدرات، إدمان أيضاً. أضاف الجهنمي: ما نهضت من الموت لأقضي ساعاتي القليلة في حديث الشيوعية الأثقل من حكايات الجان والعفاريت! قلت لهما:أنتما على حق، ما رأيكما نقضي الوقت في بغداد؟ رحبا بلهفة، قلت: هيا إليها، فقط أستميحكم العذر إذا بقيت مشدود القلب والسمع لما يجري في هذا الكهف. قال العطار بكرم مفاجئ وقد جذبته جذوره النضالية القديمة: بل نعود إلى الكهف بين فترة وأخرى، فلا طعم للحياة دون ألوانها كلها!

وجدت الجهنمي قد رق مزاجه، وتراجع عن نفوره من هذا الحشد، رغم إنه سبب عودته لهذه الدنيا، قال: ما كنت لأكترث لما يدور في هذا الكهف لو كان يتعلق بالشيوعيين وحسب، لكنني وجدته حالة مؤثرة، تمثل خيبة الإنسان وفجيعته في آماله الكبيرة، ذلك أمر لا يخص الشيوعيين وحدهم إنه يخص الإنسان أينما كان!

قال العطار ضاحكاً:

ـ الشيوعيون كئيبون عادة، لكن في حياتهم الكثير من الأشياء الطريفة والمضحكة!

قال الجهنمي: الاستشهاد كذبة كبيرة لفقها الملوك والقادة ليبقوا نائمين في أحضان نسائهم، ويستحوذوا على المزيد من الأرض والثروة، لكن الشهداء صادقون،بالأحرى مغفلون!

قال الجهنمي :

ـ لم أكن أتصور أن لديكم كل هذا العدد الهائل من الشهداء؟ كيف استدرجتموهم إلى فخكم الثوري الأممي؟ كيف ورطتموهم بالموت ومعظمهم كما رأيت من ملامح هياكلهم كانوا شباباً وشابات، لم يتذوقوا شيئاً من متع الدنيا.

ـ لم نورطهم، هم جاءوا بإرادتهم، وبوحي من ضمائرهم!

ـ لا ‍. دعايتكم الشيوعية اللجوجة كانت ضرباً من التجنيد الإجباري. ‍

حين يجادلني أحد من خارج الحزب، أعجب حين أجد نفسي متلبساً بورطة الدفاع عن الحزب وسياساته المتضاربة، حتى تلك السياسة التي لم أكن مؤمنا أو مقتنعا بها، أضفت:

ـ لم نشن حربا على أحد. السلطة هي التي كانت تشن الحرب علينا.

أطلق الجهنمي زفرة عميقة مليئة بغبار القبور قال:

ـ نضال الشيوعيين في بلد متخلف مشبع بالتعصب الديني والقومي هو معركة خاسرة منذ البدء، من زجهم في هذه المعركة: ليس بريئاً عما حدث من مآس وعذاب غير مجدية.

ضحك العطار:

ـ وهل الذين يزجون الناس في صراعات شيوعية في بلدان متحضرة، سيكسبون معاركهم؟ لا يا صديقي من أين ما تبدأ تنتهي !

ونحن ننعطف في الطريق خلف الجبال، راحت تتناهى إلينا أصوات الشهداء، نبراتهم تغاريد طيور ظلت طريقها في ليل بهيم طويل، أصداء عالم مجهول غامض يغوص بطيئاً في الرمال. انبعث صوت الجهنمي فجأة: لم أكن أتصور أن شهداء الشيوعيين بهذا القدر الكبير، ذلك مؤلم حقاً ويسد شهيتنا للحياة من جديد، بقي العطار صامتاً، حين لا يجيب على الفور يكون لديه كلام كثير يفكر كيف يقوله، كانت قضية الشهداء تؤرقه وتشغل تفكيره، كتب عنهم كثيراً، آراؤه حولهم مبثوثة في صفحات رواياته، حتى حين كتب روايته الجميلة المجهولة والمنسية (المرأة حمامة كسيرة في قلب نبي) وربما كان يقصد بها حبيبته نورا، التي أتمنى أن يحدثنا عنها، تطرق للشهداء وبكاهم بدموع كانت تبلل أوراق الرواية حتى لو قرأت في هجير آب. لم تشغله مائدة الخمر، ولا مغامراته النسائية عنهم. يرى فيهم الأضاحي التي يأكل لحمها الزعماء مع خمرة المجد، بينما تشم أمهاتهم وآباؤهم عشب قبورهم ليموتوا بهدوء متسممين بذكرياتهم! كتب : افتدونا دون أن يحظوا بشيء، والأكثر إيلاما أن موتهم لم يكن مجدياً كثيراً لمن أحبوهم، بل لمن كرهوهم! صرخ في رواية أخرى: وأظنها رواية (دعوا الذئب يمر، دعوا السفينة ترسو) أوقفوا الاستشهاد! لا تدعوا أحداً يموت من أجل الآخر دون ميثاق، إما أن يعيش الجميع، أو يموت الجميع! مضيفاً " الاستشهاد كذبة كبيرة لفقها الملوك والقادة ليبقوا نائمين في أحضان نسائهم ويستحوذوا على المزيد من الأرض والثروة والنساء !! " كان يكتب عن الشهداء كلما كتب عن الحب، أو النساء ومغامرته الغريبة المضحكة معهن. جاء صوته حزيناً راعشاً: لا يكفي أن نلقي بالمسؤولية على العدو، تلك حكاية قديمة، الاستشهاد هو الوجه الآخر للخيانة، لا يوجد استشهاد إذا لم يوجد هناك من يخون إنسانيته! فيتجبر ويريد كل شيء، بينما لا يريد أن يكون للآخر أي شيء!

قلت: ولكن أعداءنا كانوا فظيعين في انتقامهم!

ـ أتعتقد أن الخيانة تأتي من العدو فقط؟ لا نحن أيضاً نخون رفاقنا، أو ندفعهم للخيانة حين نلقي على كواهلهم مهام وأهداف مستحيلة! هناك من سقطت صخرة الفكرة الصماء على رؤوسهم وأرواحهم وسحقتهم، فانهاروا وسموهم خونة، وأحاطوهم بالنبذ والعار!

تدخل الجهنمي: كثرة شهداؤكم يعود لصلابة الفكرة وقسوتها، فهي عقيمة في إنتاج الحياة التي تريدها مثالية. خصبة في إنتاج الشهداء والموتى!

قال الجهنمي :

ـ السلطة الغاشمة لا تطرح أمام السجين سوى خيارين إما الصمود والموت، أو الانهيار والحياة الذليلة، لا طريق آخر، ورفاقه لا يطرحون أمامه سوى خيارين أيضاً، إما الصمود والحياة في عالم الخلود، وإما الانهيار والموت بالمهانة، ولا طريق آخر!

ضحك الجهنمي : ساعة رعب، عقاربها تربط نذالة السجان، بقسوة الرفيق! أتدريان متى يضعف المناضل وينهار، ويحدث ذلك الشيء الرهيب الذي يسميه رفاقه الخيانة؟ عندما يتفجر في أعماقه دم اليأس الأصفر، يصطدم رأسه بصخرة الفكرة الصماء القاسية، فكرة غير قابلة للتحقق عليه ان يدافع عنها أمام جلاد غبي بليد ليس في رأسه سوى قوة دولته وفكرة حياة عادية، يعجب من هذا السجين الذي يتهرأ لحمه وهو يهتف بشعارات ضخمة غير مفهومة!

ـ نعم.

هتف العطار: الفكرة التي تنطوي على العنف، لا تجلب لمعتنقها سوى العنف حتى لو كان مسالماً بسيطاً لا يفقه من فكرته سوى جوانبها الطيبة. بالطبع كثير من المناضلين يظلون مؤمنين بفكرتهم؛ محتقرين فكرة الجلاد حتى وهم يحتضرون، ولكن هناك مناضلين ماتوا وقد كفروا بفكرتهم، وبفكرة الجلاد معاً!

أضاف الجهنمي بشهية واضحة، كأنه يبرر ابتعاده القديم عن النضال:

ـ آخرون اغتنموا لحظة تكشف فكرتهم عارية هزيلة عجفاء فيلقون أنفسهم في أحضان فكرة الجلاد! لكن العطار استدرك:

ـ هذا لا يبرر طبعاً تسليمهم رقاب رفاقهم لسكين الجلاد لكن رهبة لحظتهم هي غير اللحظة المنعشة التي نحن بها الآن، قدرة الإنسان على الاحتمال أو حتى التفكير بوضوح تحت التعذيب محدودة.

قلت ما صار قناعتي منذ أيام تعذيبي في قصر النهاية:

ـ الإنسان ليس إلهاً، بل ليس ثمة إله في حجرات التعذيب. كنت مقتنعاً، أن من ألقى على كاهل المناضل أهدافاً مستحيلة مغلقة ليس بريئاً.

عندما تكون الفكرة هائلة ثقيلة يكثر عدد الشهداء الذين ينوءون بحملها فيستشهدون، ويكثر أولئك الذين لا يستطيعون حملها؛ فينهارون، ويسمونهم خونة يرجمون ويكللون بالخزي والعار. اطرح الفكرة الصحيحة الممكنة. يقل عدد الشهداء ويقل عدد الخونة.

قال الجهنمي :

ـ أية فكرة ألقاها فهد على كاهله وكاهل رفاقه، كأنه بذلك يغترف من تراثه القديم، آلام المسيحيين الأوائل وتضحياتهم وهم يواجهون كهنة الوثنية، وجنود الرومان!

(67) سرنا من الكهف إلى مدينة؛ رحلت قبل أن نصلها!

يا للأيام كم هي قادرة على استخراج المعجزات من أشياء صغيرة: ريشة طير حبسناه في قفص فغنى لنا حتى الموت، لحاء شجرة حزها حبل بقرة تحيص لعجولها وهي تحلب، شعرة حبيب صارت جزءاً من تطريز مخدة وأحلامها، وكل شيء جميل حتى لو صار تراباً!

ونحن نغذ السير باتجاه بغداد، ساورني القلق من وقوع صاحبيُ بأيدي رجال السلطة، إذا لم يكن بسبب تهم ملفقة ضدهما لغرابتهما، فربما بسببي، قلت لهما، موحياً بذلك:

ـ هل سنستطيع السير في بغداد ككائنات غير مرئية؟ انبرى العطار قادحا خزينه الروائي المحتبس في صدره لسنوات طويلة تحت أرض غريبة:

ـ بغداد أخصب أرض لإنتاج الكائنات غير المرئية، دب في شوارعها وبيوتها وقصور حكامها الكثير من الأشباح والمردة والطناطل، ونحن كما أظن أرواح هائمة، أطياف طيبة مسالمة. لن نكون وحدنا من يسير فيها غير مرئيين، هناك الملايين ممن قتلوا في الحروب والسجون والمنافي تأتي أرواحهم لتطوف بين بيوتها وحدائقها وضفافها، ولا يرون، تقتلهم بغداد؛ ويحنون إليها. بعضهم قال لي بغداد بقلب صخري، بل هي بلا قلب؛ لكن تلقي في قلوب أبنائها لعنة حبها، استمراراً لقسوتها. التقيت بأحدهم في لندن قال إنه حين صعد الطائرة، كان يبكي وقد خامره هاجس إنه لن يرى بغداد بعد الآن وإلى الأبد، ثم حين حلقت به الطائرة فوقها ورأى ما خيل إليه إنه السجن الذي عذبوه فيه بصق عليها، وراح يلعنها. اليوم بعد خمس وثلاثين عاماً، وقد اقترب موعده مع قبر بارد في لندن، عاد يبكي عليها، أتعتقد أن روح هذا الرجل ما تزال في بدنه هناك؟ أم هي تسير معنا الآن؟ لا تخف يا صاحبي فالكائنات غير المرئية في بغداد أكثر من المرئية!

قال الجهنمي بخوفه وقلقه الدائميين: ولكن للسلطة كائنات غير مرئية؛ قد يمسكون بنا! زجره العطار: لا. الأشباح لا تمسك الأرواح النظيفة، هي تفر من أمامها!

ما أن صرنا على مشارف بغداد، حتى راحت الذكريات تهب في أعماقي هبوب ريح دجلة حين تدفع الأشرعة على صفحته لتتهادى صاعدة أو نازلة مفعمة بالشدو ورائحة الطين والسمك والنخيل. وجدتني أرى كل شيء كما كان في تلك الأزمنة الجميلة. ذلك جعلني أشعر ببعض الفرح أنني وحدي لم أعد أرى العطار أو الجهنمي هيكلين عظميين قادمين من قبريهما بل شخصين حيين بكامل عافيتهما وأناقتهما، وهما يطفحان فرحاً أيضاً، بثيابهما الأنيقة ورقة بشرة وجهيهما، وبالألوان الطبيعية، لكن مسحة الحزن التي تخيم على كل شيء مات، أو لم يمت بعد، ظلت ترين علينا، وعلى الأشياء كلها، ولم نستطع محوها! قلت لا يسعنا سوى احترام طريقة الوجود في التحقق من العدم! حين راحت تلفح وجوهنا حرارة الصيف مشبعة بروائح عطنة ثقيلة تبعث الدوار، أحسست بالخجل من رفيقي، كأني أنا الذي فعل كل ذلك بهذه المدينة العتيقة. حين ماتا تركاها متألقة، شجرة ريانة مثقلة بالورود والفاكهة والعطر، تطل بشموخ على نهر متدفق غافلاً عن نوايا الناس الجاثمين عند ينبوعه ومجراه أو مصبه. كيف اليوم أدخلهما إليها خرابة كالحة على مستنقع آسن؟

العطار بحسه المرهف، شعر بما انتابني من ارتباك، فراح على طول طريقنا المتلوي بين الأحياء يتحدث ليسلينا وتبديد وحشة الطريق:

ـ بغداد،قامت على قرية كانت تسمى (بغ) (دان) وتعني بالفارسية هدية الشيطان،

وبالآشورية هيكل الصقر. حكمها الساسانيون أكثر من ألف عام، جاءها العرب غزاة من الجزيرة. أسموها دار السلام؛ بينما هم جاءوها بسيوفهم. جعلوها تؤمن بمصحفهم قبل أن تقرأه. عندما أعادوا صنعها، رسموها ببذور القطن. أشعلوه ليلاً لمليكها جعفر المنصور؛ كي يراها من مرتفع بعيد. أعجبه وجه الجنين وهو يضحك في رحم النار. فأعطى إشارة خروجه إلى الحياة. وهكذا دخل في تكوين بغداد منذ البدء: الشيطان، والكلمات المقدسة، والنار، والزيت وإصبع الخليفة! كيف لا يكون هذا الخليط روحها السرية والمعلنة؟ تقاطر إليها العلماء والشعراء والحكماء، والمغنون فتألقت فيها فلسفات ودعوات وقصائد وألحان أكثر جرأة من نتاجات هذه الأيام الخجولة المرعوبة!

صارت بغداد سيدة المدن وعاصمة العالم. هي واشنطن ولندن وباريس العالم آنذاك، حيث لم يكن لهذه المدن وجود، كانت هي قلب الوجود كله! لكن الغرور بدأ يدب في عروقها فأخذت تعاني من ارتفاع ضغط دم، وسكر وسمنة وترهل. تفاخر خليفتها هارون الرشيد أنه أهدى ساعة صنعها مهندسوه لشارل مان حاكم أوربا المتخلفة آنذاك. ماذا يجدي بغداد أن تصنع الساعة وهي لا تعرف قيمة ساعتها ووقتها وزمانها؟ كان داؤها الوبيل قد استشرى في أعماقها، فابتعدت عن نفسها وضميرها وراحت تمتد وتذهب بعيداً لتستحوذ عما ليس لها في هذا العالم. فوقعت في هوس الغزوات وفتح البلدان وانتهاكها، وداخلها الظلم والفساد والارتداد إلى الجهل. تورمت وانتفخت وأتخمتها الثروات والشهوات، وكان لابد أن يأتيها الغزاة أيضاً. وطأها هولاكو فوجد خليفتها يحتفظ بأكثر من ثلاثة آلاف جارية لم يفتضهن بعد، وبمئات الصناديق من الذهب والمجوهرات، بينما جنوده يتسولون على أبواب المساجد. لعبت أقدام المغول والسلاجقة وشتى الأغراب بجمجمتها حتى جاء الأتراك ليحكموها. اعتصروها أربعمائة سنة، لم يبقوا فيها خلية بشرية أو زهرة إلا ومضغوها بأنيابهم، كانوا في الاستانة يبيعونها لولاتهم، ينالها من يدفع أكبر عدد من الليرات الذهبية للسلطان مقدماً، لينتزعها فيما بعد من جلود كادحيها وفقرائها. حكموها دون جهد بأربعة شعرات ادعوا أنها من رأس النبي، خدعوا أهلها بمكرهم، عندما وصلت الشعرات الأربع إلى بغداد خرج كل سكان بغداد لاستقبالها وهم يرفعون الأعلام ويدقون الدفوف. وضعوها في جامع الكيلاني. يخرجونها كل سنة في المولد النبوي ليقيموا الأذكار والصلوات،ويقدموا الولاء للسلطان العثماني. بذلك صنع الباب العالي مفتاحه الذهبي لأبوابها الأربعة! لم يبن العثمانيون مدرسة ولا مشفى ولا مشغلاً، ولا طريقاً معبدا! وعندما أجلاهم الإنجليز من العراق لم يجدوا وراءهم سوى قلاعاً للجندرمة وسياطاً للتعذيب وحبالاً يقاد بها الناس مع البهائم!

وعندما حكمها أهلها مضوا بعقوقهم، كأبناء يشكون في سيرة أمهم! صارت بغداد مقصداً للتجار والضباط وكبار الموظفين والمزارعين. تاه فقراؤها ومعدموها فيها! صارت إذا دخلها العرب الريفيون من أبوابها العامرة؛ صاروا تجارا وملاكين وموظفين رغم أميتهم وجهلهم، وإذا دخلوها من أبوابها المهدمة صاروا فقراء ومشردين ومتسولين وبائعين على الأرصفة. إذا دخلها الكرد والتركمان من أبوابها العامرة؛ صاروا ضباطاً وتجاراً وسياسيين. وإذا دخلوها من أبوابها المهدمة صاروا حمالين وماسحي أحذية وسوقيين. إذا دخلها الكلدانيون والاشوريون من أبواب العامرة، صاروا تجارا وأصحاب أملاك وصحفيين ومثقفين مرموقين. وإذا دخلوها من أبوابها المهدمة صاروا نازحي بالوعات ونادلي بارات وفنادق! بغداد لم تكن عادلة مع أبنائها أبداً. تسألني كم في خزائنها من الذهب والنقود؟ ستجد ما لا تستطيع السفن حمله دون أن تغرق، ولكن بيد من؟ كانت بيد أقليتها، العوز والحرمان والموت نصيب الأكثرية! جاءها أبناء الأرياف من الجنوب هرباً من ظلم الإقطاعيين وملوحة الأرض ولم يدخلوها لا من أبوابها العامرة، ولا المهدمة، ولم تضمهم لأحضانها، أبقتهم عند حدودها يعانون هجير الصيف، وزمهرير الشتاء في بيوت من الطين والتنك لكنهم في النهاية سيدخلونها كالفاتحين، هل سينسون لها أنها نبذتهم وقست عليهم؟ حين غادرتها كانت تتراءى لي مرة غانية لعوباً، ومرة أماً فاضلة تكتم أمراضها لتسير شئون العائلة، دجلة يتدفق بجنبها قادما من الجبال البعيدة حاملاً لها الري الوفير والفاكهة والقمر راقصاً في الليل على نغمات الموسيقيين والمغنين!

مازلنا نسمع على البعد صيحات تتردد واضحة من كهف الشهداء: حاكموا المثقفين! حاكموا الثقافة التي قادتنا إلى الموت، وإلى كل هذا الخراب!

(68) هذه هي المقبرة! أين هو الشاعر الذي دعاهم إلى الموت؟

سألني العطار: لماذا لم يحضر الجواهري حفل افتتاح المقبرة فبعضها من غرسه، كيف تفتتح مقبرة، مظاهرة، مأتم، مجلس مديح أو هجاء، دون الجواهري؟ قلت له أنا مثلك توقعت حضوره؟

قال الجهنمي بأي وجه يقابلهم، أما كفاه إنه غرر بهم أغدق عليهم وعوداً تكشفت عن هراء، دفعهم للموت ثم ولى هارباً. قلت له أنت ما زلت متحاملاً عليه، قلبك يحمل له الضغينة بينما أكل القبر جسديكما، مهلا، .. قاطعني:

ـ وأمهات الشهداء، هل كن متحاملات عليه؟ قبل موتي بأيام. سمعت أن ثلاث نساء ثكلن أبناءهن في مظاهرات للشيوعيين ذهبن إلى بيته في الأعظمية؛ غاضبات يردن محاسبته، والقصاص منه. سمعن إنه هو الذي حرض أبناءهن بأشعاره على التظاهر ومناوشة الشرطة. اندفعن نحو الباب الخشبي الكبير يطرقنه. سمع لغطهن فلبد في مكانه حيث يجلس عادة على السطح مستمتعا بمجرى دجلة وسيجارته وكأس العرق أمامه لا يفارقانه. رحن يطرقن ويصحن بقوة. أمر أن لا يخرج إليهن أحد من البيت. هممن بكسر الباب. ظل يسترق النظر إليهن من فجوات سياج السطح، خائفا مذعوراً. رحن يصرخن في وقت واحد: هات لنا أبناءنا، حرضتهم على الموت، وجلست سعيداً في بيتك. لماذا لم تنازل أنت الشرطة؟ لماذا لم ترسل أبناءك للموت معهم؟ سمعت أنهن أردن ان يقمن دعوى عليه في محكمة الجنايات بتهمة إصداره فتاوى بقصائد تحض أبنائهن على مواجهة السلطة والدخول معها في معارك ليست في طاقتهم. لكن من يسمونهم بفاعلي خير قاموا بإقناعهن بالخلود للسكينة. يا صديقي إنه أكبر محرض على الصراع الدموي مسترخصاً أرواح الناس،دون روية ولا تبصر. يبدو إنك الذي في الحياة نسيت، وأنا الذي كنت في الموت لم أنس. أذكرك: هو يقول للشاب المسكين: "تقحم لعنت أزيز الرصاص وجرب من الحظ ما يقسم" هو يدفع الشاب للموت ولا ينسى أن يلعنه مقدماً، بينما هو مسترخٍ في جلسته آمنًا مستمتعاً بكأسه في بار أو ملهى بجانب راقصة، أو بيت رجل موسر، بينما هو في قصيدة أخرى يخاطب نوري السعيد جلاد الشيوعيين:

فإن لم يرق بالتلطيف شعب فبالإرهاب فليكن الرقي!

تصور هو يدعو حاكم جبار للإرهاب! هو لم يخاطب حاكماً إلا وقال له:

اقدم فأنت على الإقدام منطبع، وابطش فأنت على التنكيل مقتدر

أين يقف هو مع الضحايا، أم مع جلاديهم؟ كم ساهم في تضليلهم؟ وكم أشاع في أفكارهم من قلق واضطراب وكم نشر في الحياة العامة من مزاج الدم والعنف والدمار. إنه شاعر الحقد والكراهية والانتقام. أنت رجل قانون، ألا يندرج التحريض ضمن سلم الجرائم؟ اسمع قوله: (وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم!) هل هذا شاعر أم جزار يريد ان يبني قصره من جماجم الناس؟ بعد كل هذا أليس من العدل أن يسأله الشهداء، فقط سؤالاً واحداً لا اكثر: "لماذا هذا الهوس في التحريض على الصراع والهدم، في بلد أحوج ما يكون للاستقرار والبناء؟" قفزت حشرة من هيكل الجهنمي ولسعت جسدي، قلت في نفسي، بدأت كلمات الموت وحشراته تتناوشني. أية ورطة. كنت أعرف أن الجهنمي يكره الجواهري مذ عمل معه في جريدة الفرات عام 1930. بعد مشاجرة معه. مدعياً إنه أكل عليه رواتبه. كما إن الجواهري ظل يكرهه، وإن تعامل معه أحيانا كلما اقتضت مصلحته في شيء. ظل الجهنمي مصراً يسألني بخبث، لماذا لم يستدع الشهداء الجواهري لمحاكمته؟

تطلعت في وجهه المطل من وراء سجف الموت حياً مشاغباً، متناقضاً كعادته، ذلك يجعلني دائماً أتردد في الرد على أسئلته، قبل أن أجيبه، قال:

ـ إنه الأولى لأن يوضع في قفص الاتهام!

بقيت أتطلع في وجهه. ما زال نداء الشهداء يهزني. حقاً لماذا لا يستدعى هو أو غيره؟ بعد كل هذه الأهوال والعذاب لا حصانة لأحد، ولا قدسية لفكرة. سمعت صوت الجهنمي: ربما ستقول إنه لم يكن قائدهم ولا مبتدع فكرتهم، هو شاعر سار فترة في ركبهم وحسب، ما ذنبه؟

تذكرت إن ما قاله الجهنمي كان يطوف في ذهني، فرغم إنني كنت لا أقف عند الكثير مما يقال عن انتهازية الجواهري وتقلبه وأهوائه العاصفة، لكنني كنت فعلاً أقف حائراً أمام تحريضه الناس وبلجاجة على التمرد والعصيان والصراع الحاد، بينما هو يتقلب على المجالس الوثيرة الباذخة، تتنافس عليه قصور الحاكمين وأصحاب السلطان، يبعده هذا، ويقربه ذاك، كل يعتصر قلمه السيال بقصيدة أو قصيدتين، ثم يتركه لحاله؛ يأكل قلبه الندم والخذلان! لا أدري بعد سنوات الرقاد تحت تراب القبر هل تغير شيء في رأيه به:

ظل الجهنمي يردد وهو يدعس عقب سيجارته: إنه قاتل خطير! قلت: لكنه كان يتصدر المظاهرات، رأيتهم بنفسي يحملونه على الأكتاف؛ ليلقي لهم قصيدة حماسية تلهب دماءهم. أطلق الجهنمي ضحكة مجلجلة: ها أنت قلتها بنفسك "يلهب حماسهم"، على أي طريق يلهب حماسهم؟ يأتون به ليحقن المتظاهرين بمادة الهيجان، ثم ينسحب ويؤمن له القائمون فيها حياته قبل غيره! كان للضحايا لعبتهم، مثلما كان للجلادين لعبتهم أيضاً، والذي أكلهما سماً زعافاً؛ الناس والوطن! كنت أعرف أن العطار صديق للجواهري منذ العشرينات اطلع على مسار حياته، وكان مستودع أسراره. وإنه يفهمه ويقدر وضعه وكان يدافع عنه في المجالس وأحياناً في الصحف. رغم إنه حين يلقاه ينتقده كثيراً أيضاً ويعترض على مواقف كثيرة في قصائده وسلوكه. قل العطار يهدأني:، الجواهري ليس شخصا عادياً، لا يجوز الخوض في سيرته، إنه شخصية عامة، بحجم مؤسسة كبيرة تسير على قدمين، أثر في مصائر آلاف البشر، لذا من حق الجهنمي وغيره أن يتناولوه بالنقد والتشريح! أمهات الشهداء اللواتي ذهبن إلى بيته، يردن محاسبته كن محقات، يعرفن أن التحريض؛ ضرب من القتل خاصة إذا كان المحرض يلوذ بمأمن، ومستعداً لأن يجلس مع قاتلهم!

عاد الجهنمي يقول: لم يجرؤ الجواهري على المجيء لمقبرة الشهداء فأرسل ظله! دهشت. أكان الجهنمي هناك في المقبرة ينتظر قدومنا، ويعرف ماذا سيحدث؟ يا للعبة الأشباح، الموتى المتمرسين في موتهم، كم هي ماكرة! قلت: كيف يرسل ظله، الذي ألقى القصيدة عند باب المقبرة شاعر يدعى هانيء، هو ابن الشاعر راشد الديواني. ضحك الجهنمي:

ـ لا، إنه ظل الجواهري، محشور في بدلة حديثة، ومن يستطيع هذه الألاعيب سواه؟

قال العطار واضعاً حداً لخلافنا، عرفت لعبة الشعر التي هي لعبة القدر نفسه. فعلاً كنت أحس ان في زماننا هناك شاعر آخر بجانب الجواهري؛ يدعى راشد الديواني. هو الجواهري تارة، وهو ليس الجواهري تارة أخرى. هو كل شاعر كرس شعره للمديح والهجاء والدم، وهو شاعر لوحده لا شبيه له! هانئ هذا ينطبق على أبيه الديواني؛ كانطباق الديواني على الجواهري!

تذكرت إنني في المقبرة خطر لي أن الجواهري والديواني متشابهان ويتقاطعان كحدي المقص، ولا غنى لأحدهما عن الآخر! واصل العطار كلامه: أحدهما ظل للآخر، ومجموع ظلال الشعراء المحرضين للشباب أن يلقوا أنفسهم على الموت طلباً للمجد، شرط أن لا يكونوا من أبنائهم!

سألت العطار هو صديقك كما أعرف، ألم تلقه في عالم الأموات؟ ندت عنه ضحكة مريرة:

ـ لقد عذبتني صداقته في حياتي، أتريد ان أتعذب بها في موتي أيضاً؟

ـ لقد عاش بعدك طويلاً، كنت تستطيع أن تعرف منه بقية أخبار الدنيا؟

ـ وهل سيجلب لي شيئاً غير أخبار مديحه وهجائه للملوك والسلاطين.

ـ صحيح هو شاعر قلق متمرد على الشيء ونقضه، لكن قصائده مرت على أحدث عصره، حتى ليبدو ديوانه كتاب تاريخ وجغرافية، أكثر من كتاب شعر!

قال الجهنمي: ولكن كيف مرت قصيدته على أحداث عصره؟ هذا هو السؤال، ركضت لاهثةً تريد اقتناص فريستها وغنيمتها. لم تغص إلى الأعماق بحثاً عن الحقيقة والجمال، تلك هي مأساته، ومأساتنا معه!

أيده العطار مضيفاً: كان بارعاً بحق، استطاع أن يعوض عن الأفكار والرؤى بالألفاظ والرنين الموسيقي! لا توجد قصيدة فارغة من الأفكار والمعنى، تبدو ممتلئة مهيبة مرعبة استناداً على الألفاظ والجعجعة؛ كما قصيدته! دار حوار بين العطار والجهنمي؛ فهمت منه إنهما يجدان في الديواني ظلاً للجواهري. الشبح القادر على الحلول في جسد كل شاعر لا يتورع عن استعمال الشعر في كل ما لم يخلق له، كما قال العطار، مضيفاً: شعر تصير فيه الكلمات عملة ونقوداً، ثم تعلو فوق الروح، كما تعلو شظية من بندقية صياد على جناح حمامة غافلة، أو وردة ندية في غصنها!

استوقفني ان الجهنمي يعترف بحزن وأسى قائلاً: تاريخ طويل من الإنكسارات والهزائم أنجبنا جميعاً. فجعلنا متناقضين مشوهين إلى هذا الحد! برز بيننا الجواهري والديواني، تؤمان من سلالة واحدة. نحن من أمة استعمل فيها السلطان الشاعر مرة لتعبئة كتيبة حربه، ومرة لتعبئة مجلس شرابه وفراش نومه مع جارية أو غلام! وعندما حاول الشاعر استبدال قصر السلطان بساحة الجماهير لم يقدم لهم الحقيقة، بل لعبة الدم مع الرصاصة! منتجاً هذه المقبرة التي نراها الآن!

كنت أنا أيضاً أشعر بشكل غامض ما صار واضحاً لي الآن من حديث العطار والجهنمي خاصة قول العطار: هذان الشاعران كثيراً ما خلطا بين صليل السيوف، بصرير أسرة اللذة، ورنين الكؤوس! فازدهت تجارتهما وصعد حظهما بينما أطيح بحظوظ الشعراء الذين أرادوا أن لا تصل بندقية الصياد لجناح الطير، أو للزهرة الغافلة في عمق الغابة! هما ينتميان لقصيدة مشوهة متورمة ابتلعت عقول الناس لقرون طويلة، ولا أظنها ستنتهي،ما دام خرابنا قائماً! قلت لا أدري إن كنت قد أعلمتكما أن الديواني خلف ولدين، كلاهما صار شاعراً، أحدهما يدعى منتصر يكتب الشعر الشعبي. والآخر يدعى هانئ ينظم القصيدة حرة وفق الموضة، وهو الذي ألقى قصيدة تقليدية عند باب المقبرة، وقد ألقى الشهداء عليه القبض ولا أدري ماذا سيكون مصيره بأيديهم. أما منتصر فلا يزال يتردد بين دمشق وعواصم أخرى مستمتعاً بالعطايا والهدايا من رؤساء يدعون الثورية، ويدعي لهم العبقرية. وله حكايات مع الشذوذ والزيف والبذاءة. لو أمهلتنا الحياة قليلاً سأحدثكما، عنهما، وما أحدثا من تدهور في ذائقة الناس وحياتهم!

خرجت من هواجسي، الآن صار واضحاً لي: الديواني ليس الجواهري ولكنه ظله: طيفه، شبحه وبديله، وريثه، خلاصته المستمرة في نخاع شعراء استعاضوا بأصواتهم العالية عن نبض قلوبهم. حين أتذكر الديواني أجدني اقطع متاهة العصور القديمة، فألتقي بأقرانه، الذين لا شفيع لهم في ضلالهم وتضليلهم سوى فقرهم وعوزهم. وربما أعرف الطيف ومنشأه. كثافته، خفته وهشاشته. طيف ينهض من جسد. جسد ينهض من طيف. ونحن لسنا أفضل منهم حالاً، لسنا غير ظلال من سبقنا، ظلال أحلامنا لا أجسادنا، ظلال أسمائنا, ظلال فقط، لا غير! ندت عن العطار ضحكة قصيرة هي لا شك صارت أفلاماً قديمة بالأسود والأبيض تغري بالمشاهدة، للضحك فقط:

ـ لا ادري ماذا أقول عن سيرتي وسيرة أصدقائي بعد موتنا. لقد أبعدني الموت عن تلك الأيام لذا أستطيع أن أراها بهدوء أو برود، لا يهم، ما تبقى في رماد الذاكرة يكفي لمعرفة شيئاً ولو بسيطاً من الحقيقة. اتخذنا الكثير من المواقف المؤذية لأنفسنا ولغيرنا ولم نكن بحاجة إليها، لا أريد ان أجد لأنفسنا عذراً أو تبريرا. كانت أخطاؤنا كبيرة وكثيرة وليس الجواهري وحده من أخطأ، فأنا كانت أخطائي ثقيلة ورهيبة، وسأحدثك عنها إذا أمهلني الموت، وما دمت تسألونني عن الجواهري صديقي القديم فسأحدثك عنه، كما سأحدثك عن غيره ممن كانوا مساهمين في إنتاج هذا الركام الذي نراه اليوم، وسأحاول ان أكون عادلاً منصفاً وأقول ما لهم وما عليهم، لا أستطيع أن أقلب الحقائق وأزور التاريخ؛ لا يسعني سوى قول الحقيقة؛ سواء عليَّ أو على أصدقائي. بعد كل هذا الخراب والموت الذي حل في كل شيء ببلادنا هل ثمة مبرر للمجاملة والمحاباة، ومدارة مشاعر هذا، أو ذاك من الناس أحياء أو أمواتاً؟ هذا الخراب يستطيع ان يفعل شيئاً واحدا صحيحاً وجيداً: هو أن يجعلنا نقول الحقيقة! مهما كان الثمن باهظاً! الشهداء يطالبون بمحاكمة الثقافة والمثقفين؛ هم محقون! لا أدري هل يستطيعون ذلك، أم سيتعذر الأمر عليهم، كما تعذرت أشياء أخرى، لكن لا بأس أن نمر بومضات سريعة ونترك لهم ولغيرهم ان يحكموا.

كان الجهنمي ذاهلاً. أفاق فجأة ليقول: أين هي بغداد ؟أخشى أن تكون قد رحلت، كيف تنتظرنا لننهض لها من الموت؟ قلت مطمئناً له: هي هناك! فقط عليك أن تكون هنا!

(69) بغداد، لا البكارة الأولى، ولا فتات الحضارة!

فجأة وجدتني أقول، دون أن أعي إنني خرجت من الكهف: ترى هل سيحضر فهد؟

توقف العطار عن الكلام. نظر في وجهي، لم يكن مستغرباً هذياني. قال: ربما يصعب على فهد مغادرة بغداد حتى لو ظل في قبره. له معها حكاية طويلة لا تخلو من تشويق، ويمكن أن تروق لشهرزاد نفسها، فيها ملاعب طفولته، لكنها ظلت في مخيلته قلعة مغلقة للطغاة، غادرها إلى البصرة، مزمعاً العودة إليها حاملاً مفتاحها الشيوعي الذهبي، لتقدم له جسدها وروحها، لكنها قدمت له مشنقة!كان فهد قد وضع الموت نصب عينيه منذ البدء، وتلك حقيقة تظهر ثقله كإنسان بقدر ما تظهر خفته كمفكر!(في ذلك الزمن وصم العطار فهد بالغباء، واليوم منحه ثقلاً إنسانياً طيباً، هذا تطور حصل لديه بعد الموت) توقف العطار لحظة، صار يلهث، رغم عودته لجسمه القديم لكن في داخله هيكله العظمي القادم من القبر، تلك حقيقة لا يمكن نسيانها، أحياناً تصير عيناي كأشعة إكس لا ترى منه والجهنمي سوى عظامهما، وهذا يؤلمني، لكنني أعود أراهما بجسميهما وثيابهما الأنيقة القديمة، هما الآن يعبان من هواء بغداد الساخن فيشحنان بحرارة الحياة المتأججة، أفرحني صوت العطار ينبعث هادئاً واضحاً:

ـ من المؤسف ان رفيقكم فهد لم يأت إلى بغداد مصلحاً، يشارك بناتها بهدوء وروية، وإنما انقلابياً متطرفاً، يريد ان ينقلها وهي المكبلة بأوامرها ونواهيها المصنوعة بالسيوف وسياط الخيل والقداسة، إلى الشيوعية دفعة واحدة!

عقب الجهنمي بحسه الحالم الذي لا يفارق المرأة:

ـ وما الضير في ذلك؟ ربما اعتقد في نفسه أنه دودة القز، التي ستأكل أوراق شجرة التوت كلها لتحيلها قريباً إلى فستان جميل على جسد امرأة فاتنة!

مضى العطار قائلاً:

ـ فهد ألقى زيته على نار الهوس والعصاب المستعرة في قلب بغداد، فاستيقظ جنونها القديم، وتناوشتها الانقلابات والقلاقل، بينما هي أحوج ما تكون لراحة؛ تستعيد فيها أنفاسها من رحلة تاريخ مترع بالدم، حتى استحالت كما نراها اليوم دار خراب وحرب، لا دار سلام وحب!

قلت مهلاً يا صديقي، لا تلقى على كاهل هذا الرجل المسكين أوزار عتاة كبار لعبوا ببغداد كما يلعب الأطفال بكرة!

ابتسم قائلاً: أبدا أنا أتحدث عن النار التي أشعلها هو دون أن أغفل الحرائق الأخرى، دعني أتحدث، ولك أن ترفض مالا تقتنع به!

دخلنا بغداد من ضاحيتها الشمالية الشرقية، مررنا بالأعظمية، والميدان، ثمة نخيل مقطوعة الرؤوس، أشجار يابسات مكسورات، قلت: سأقوم لكم بدور المترجم في مدينتكم القديمة. من هنا مرت الصواريخ التي أطلقها الإيرانيون على بغداد، والصواريخ التي أطلقها العراقيون على الإيرانيين. لهيبها كما قالوا: أحرق الأجنة في الأرحام، والبراعم في الغصون!

حيث ما تلفتنا نجد صور صدام، كبيرة ملونة ومؤطرة بألواح ذهبية، ببدلات مدنية أنيقة، بثياب عسكرية عليها أعلى الرتب، باليشماغ الأحمر، بقبعة الكاوبوي، بالعباءة البدوية، صور بأوضاع شتى، كأنه دخل في سباق مع فتيان وفتيات أغلفة مجلات الموضة، والخلاعة أيضاً، فقد ظهر في صور كثيرة عارياً في ثياب السباحة والرياضة والحمامات، بجانب لافتات: كلنا فداك أيها القائد، قلوبنا معك أيها الضرورة، نموت ويحيا القائد العظيم، نموت ويحيا الوطن، الشهداء أكرم منا جميعاً، الجود بالنفس أقصى غاية الجود " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً" "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون!" "كلنا مشاريع استشهاد" قال الجهنمي: هكذا يستدرجون الناس ليموتوا من أجلهم. هذا منتهى القسوة قلت: صدام بدأ الحرب بتهوره، والخميني أطالها بلؤمه! قال الجهنمي: أكره كل كلمة تقود الإنسان للموت حتى لو ادعوا أنها من الله. حيثما سرنا تطل علينا وجوه شهداء كثيرين من بقايا صورهم، وأسمائهم الملصقة على جدران بيوتهم وأعمدة الشوارع، والكهرباء، ومن لافتات سوداء مثقبة، راح العطار والجهنمي يديران نظراتهما بينهم. قال الجهنمي وماذا تحقق من التضحية بكل هؤلاء الشهداء والذين كما قالوا جاوزا المليون؟ رد العطار لا شيء سوى هذا الخراب، لم استطع مجاراتهما الحديث. شيء ما أمسك قلبي؛ فرحت أتطلع إلى الصور صامتاً: عبثاً أبحث بينها عن صورة أبني وحفيدي، أعرف أن بيتنا، الذي كانا يسكناه بعيد، تعمدت أن لا أمر به؛ لكي لا أنكأ جراحي، لكنني رحت أبحث عن صورة لهما رغم علمي انهم ضيقوا على ما تبقى من عائلتي فلا يرفعون صورة أو لافتة عزاء. رحت أتطلع في الصورة الباهتة أو الممحوة بفعل الزمن وأنواء الجو، في كل مرة يخيل لي أني رأيت ملامحهما في صورة تجتذبني أخرى، متاهة أليمة أبقيتها في نفسي، تركت الأمر، رحت أذرف دموعي في أعماقي متمتماً: هذا كله قبر مالك! كانت القباب والمآذن قد ازدادت، لكن لا توجد سكينة الإيمان والطمأنينة التي تبعثها دور العبادة عادة. صدام تنكر لأيدلوجية حزبه العلمانية، ولاذ بالدين يشد الدولة إليه، وأطلق ما أسماه بالحملة الإيمانية، لكن مظاهر إيمانه هذا تمثل في غلق النوادي والحانات، وفتح المزيد من السجون والمعتقلات وبيوت التعذيب المخفية عادة، إلى جانب بيوت الدعارة والخمور والقمار السرية. العطار والجهنمي لا تستكين روحاهما ولا يحلقان في الخيال والكلام الجميل دون كؤوس وأوتار ووجوه حسان. رحت ألوم نفسي لماذا تورطت في جلبهما إلى بغداد. ستزيد من عذابهما خرائبها وقاذوراتها، لو أبقيتهما في كهف المحاكمات، أو حتى في هجعة الموت؛ لكان ذلك أهون عليهما. عدت أقول، ما دام هناك قوة أيقظتهما من موتهما فلابد أن هناك من سيدبر شرابهما وأنسهما. لله لا يجد غضاضة في منح هذين الميتين المعذبين كؤوساً من الشراب، ونهلات من شفاه الحسان!

قال العطار كأنه يناكدني:

ـ سرنا من الكهف إلى بغداد، لا البكارة الأولى، ولا فتات الحضارة؟ نريد اليوم سكرة طويلة، سكرة حيث لا فكرة!

قلت مستعيدا مزاحي القديم معه: أنت لم تشرب الخمر إلا من أجل الفلسفة!

عاد يطمئنني:

ـ ربما تبقى في ذاكرتنا شيء عن الفكرة قد يساعد محكمتكم!

قلت على الفور:

ـ هذا رائع فكل محاكم العالم تستعين بخبراء عند النظر في قضية ذات طبيعة خاصة! قال ضاحكاً ولكنني قبل ستين عاماً قلت لك إن الشيوعية مشروع خيالي عقيم وسيضيع فيه بلدان وأشخاص كثيرون أعمارهم سدى. اسمح لي أن أقول لك اليوم: لقد كنت حماراً، ولم تسمع كلامي!

ـ ولكنك نقضت كلامك، وصرت فترة عضوا في اللجنة المركزية المؤسسة للحزب، كنت وإياك في سراب متناقضات! ضحك قائلاً:

ـ من الواضح أنك قبل أن تصير فيلسوفاً، عليك أن تصير حماراً أولاً!

سعيد أنا الآن معه، ومع سخريته وشتائمه المحببة، سأعيد تأمل ما نظرت إليه في ذلك الزمن البعيد بطيش وعجالة واعتنقته بقوة! كنت أحاول أن أستعيد أفكاري وتوازني المضطرب كله!

وجدت أنني كنت أفكر بما كان يشغلني من قبل وركنته جانباً بفعل آلام الشيخوخة: الفكرة التي استلبتني مع الكثيرين من جيلي والأجيال اللاحقة وأخذت الغض من أعمارنا، وتركت لنا حطب العمر وترابه، حقاً ما هي؟ما حقيقتها؟ من جلبها إلى العراق؟ هل كانوا قد أفادوه بها أم ضروه؟ العطار تدارك الأمر قائلاً:

ـ جريمة كبرى منع الأفكار من دخول رأس إنسان، أو بلد. من يستطيع منع فكرة من عبور نوافذ بلدان الدنيا؟ الفكرة كالأثير وكنسمات الهواء تدخل حتى من شقوق الصخر والحديد والتوابيت، وهيهات أن يقف بوجهها أحد، لكن من حقنا أن نقول رأينا بالأفكار، دون محاولة منعها أو محقها. من حقنا أن نقول مثلاً هذه فكرة مستحيلة تأتي من بعيد لسحق فكرة ممكنة تريد أن تنبع من أرض البلاد عبر تراكم طويل ضحى من أجله الناس كثيراً. من حقنا أن نقول هذه أفكار صارت شرطة ضد الأفكار الأخرى. مصل لقاح ضد أفكار أخرى!

أنحدر مع العطار من شيخوختي الموغلة في كآبة العالم الأسفل إلى أيام شبابي وجولاتي فوق الأرض، في شوارع بغداد وساحاتها ومحطاتها، جوامعها وكنائسها وتكايا متصوفتها وبقايا معابد وبيوت مسيحييها ويهودها ومندائييها، في أسواق الكتب القديمة والتحفيات والذهبيات والنحاسيات. نطوف على دكاكين باعة الأسطوانات وصانعي الأعواد والكمنجات والدنابك والدفوف، في البارات والمقاهي وشواطئ دجلة في الأربعينيات حيث رأيت مرة فتيات بغداديات يسبحن بالمايوه قريباً من جراديغ الكرادة! قالوا أنهن من بنات اليهود والمسيحيين، ولم لا يكون معهن بنات مسلمات أيضاً؟ لماذا اقترن الإسلام بالكآبة؟ ثمة فكرة تمنع ذلك، ثمة فكرة تسمح بذلك! لكن النساء يسبحن طليقات، خفيفات وقد فقدن من ثقل أجسادهن بقدر وزن السائل المزاح، ويضفن لجمال بغداد بقدر السائل الذي لم يزح من حوض النهر، اللعنة على الفكرة كم تمنح، وكم تحجب! اسمع صوت الحاجب من الكهف البعيد، يلح في طلب الفكرة للمحاكمة؟ قال العطار لا أخفي عليك، أنا غير مرتاح أن تحاكم الفكرة في محكمة، فتوضع في قفص أمام منصة رهيبة، لا يحاكم الفكرة إلا الفكر، وفي الهواء الطلق! قلت هم غادروا موتهم تواً، ولا حيلة لهم سوى الكهف وأرجو أن لا تنسى يا صديقي بينهم مفكرون وأصحاب تجربة، وإذا لم تتح لهم ظروفهم الحصول على درجات أكاديمية، فليس كل الأكاديميين مفكرين ثقاة! قال الجهنمي بضجر المشغول بهم آخر، نساءه طبعاً: حقاً، ما هي هذه الفكرة التي تنزوي في جوفها متحصنة ضد أي فكرة أخرى عنيدة إزاء الضوء والريح عناد الحلزون في صدفته؟ عاد العطار إلى نبرته الحالمة، وجوه الملهم كأنه يكتب رواية ما بعد الموت على الهواء:

ـ كيف لا تشغل الناس هذه الفكرة؟ استلبت قلوب وعقول حشود هائلة من البشر، ملأتها بفيض من الأحلام والآمال العظيمة فسارت وراءها مشدوهة مستلبة غائبة عن نفسها تطوي ساحات نضال وحروب، صحارى كوابيس، دروب شموس لاهبة، غيوم كالحة وظلال ثقيلة، فيافي مكتظة بسجون ومستنقعات ودروب وبيوت خائفة، لكنها ما كانت تحس بكل ذلك، ليس في أرواحها سوى حدائق عبقة بالنور والزهر ورفاق في كل العالم لهم لغة واحدة: بيارق حمر، مطارق ومناجل! كثير من جوانب الفكرة كان غائباً عنا، لا توجد لدينا مصادرها وكتبها. ما ترجم منها إلى لغتنا كان قليلاً، ووما يصلنا عن تطبيقها ومنجزها معظمه مزيف وكاذب ومبالغ فيه، وقدراتنا على التحليل والتمحيص ضعيفة، الفكرة راحت تشق طريقها منفوشة الريش، طاووس بكل الألوان يطير أخف من عصفور! دعاية مجانية منحتها القلوب الطيبة، أحداث دولية تسارعت فخدمتها بالمصادفات لا بالنوايا الحسنة!(تحالف ستالين مع هتلر سراً، ولما انقلب عليه وجد قادة الرأسمالية عقلاء أكثر منه فتحالفوا معه ولم يعاقبوه، نجت الشيوعية بجرعة رأسمالية، وكاد العالم كله يموت على يد هتلر بجرعة شيوعية) قالت الدعاية فيما بعد أن الشيوعية هي التي انتصرت وليس الشعب السوفييتي الذي ضحى بأكثر من عشرين مليون إنساناً. ما كانت الخسارة لتكون بهذا الهول لو لم يدلس ستالين على جرائم هتلر فقط لأنها كانت ضد العالم الرأسمالي، اللعنة؛ تخوض الفكرة في بحر من الدماء؛ فقط لكي تصل إلى كرسي قذر!! وتمضي الفكرة، مسقطة عيوبها على مطبقيها فقط لتستلب عقول الكثيرين، ها هم الصينيون يأتون جحافلهم تسد عين الشمس ويغترفون من الينبوع الشيوعي، والهنود على الطريق تسبقهم رائحة عطور جثث شهدائهم المحترقة، كيف لا تسلبني أنا الكاتب المغمور الحالم بغد أفضل، والجالس مهموماً في مقهى عارف أغا؟

قطعنا طرقاً طويلة في بغداد. مررنا بكل ما أثار حزننا وعذابنا، شوارع وأحياء مهدمة وسخة، وجوه هزيلة شاحبة خائفة، جيف وضجيج وأسواق خاوية، اهتدينا بصعوبة إلى شارع الرشيد، وجدنا في بدايته قريباً من جامع الحيدر خانة رجلاً يصيح "النكتة بصمونة!"اندس العطار والجهنمي، بين الناس المتحلقين حوله، خشيت عليهما رغم أنهما مجرد روحين لا يمكن رؤيتهما، اقتربت من الجمع، فأنا لا أسترعي انتباه أحد، تغير وجهي كثيراً بعد أن بلغت من الكبر عتياً، وملابسي رثة قديمة كملابس هؤلاء الذين أنهكهم الحصار الأمريكي الدولي الطويل، كان الرجل يعلق على الجدار الذي خلفه كارتون مكتوب عليها بخط رديء حكمة اليوم (إذا لم تجد معدتك خبزاً تهرسه، فدع عقلك يهرس معدتك) حرت بين الضحك والبكاء، كان الرجل يقدم نكاته مكتوبة على أوراق صغيرة، من يقرأ النكتة يضحك ويضحك وهو يقدم الصمونة للرجل. رأيت الدهشة على وجهي الجهنمي والعطار، سأل الجهنمي ماذا جرى؟ عهدي بالعراقيين أنهم جادون كثيراً وهم يصلحون لتشيع الجنازات أكثر من زف العرسان! قال العطار هذا ما حدث لقد تعبوا وسئموا من الجنازات؛ فانقلبوا يستبدلون خبزهم بالضحك، وهم جوعى؟ قال الرجل وهو يسلم النكتة لصاحب الصمونة: إنها أكثر سخونة من صمونتك الباردة: راح صاحب الصمونة يقرأ النكتة بصوت مسموع: كان هناك رجل يستمع للراديو، عند إذاعة البيان اليومي عن سير الحرب: يواصل جنودنا البواسل إنزال أقسى الضربات في جيش الفرس المجوس، خسائرهم لهذا اليوم: ثلاثة آلاف قتيل، تضحياتنا: شهيد واحد على كافة القواطع! فما كان من الرجل إلا أن هب من مكانه صائحاً: حيل.. حيل بربي مستاهلها، جا شمالك تفتر بالقواطع؟ أكعد بمكانك وانجب! راح مشتري النكتة يضحك ماسكاً بطنه، لكنه توقف عن الضحك فجأة وانخرط بالبكاء! سألته: ليش؟ خير انشا الله؟ قال هذي مو نكتة،هذي واقعة، شمدريني يمكن هذا الجندي الوحيد اللي استشهد أبني، الله يستر! مضينا في سيرنا. كثير من المجانين يمرون بنا خاملي الخطى أو مهرولين هائمين على وجوههم، نساء بثياب ممزقة تكاد تكشف عوراتهن، وجوه وسخة هزيلة كالحة، رجال بلحى طويلة وثياب قذرة ونظرات زائغة، كثيرون منهم لا يزالون شباباً، ثمة صبيان مجانين أيضاً، رغم إن البعض في القلعة، كان قد حدثني عن كثرة المجانين في شوارع مدن البلاد، لكنني لم أكن أتصورهم بهذا القدر، دهشت لكثرتهم، وأنا أراهم بنفسي. نظر إلي العطار كعادته متسائلاً متهماً لي، إنني وراء جنون بغداد قلت: بعضهم حدثني أن هؤلاء فقدوا أبناءهم، ذهبوا للحرب ولم يعودوا، ولما طال انتظارهم دون جدوى وجدوا الحل، جنوا فصاروا يرونهم داخل رؤوسهم، قال الجهنمي : حل سهل ومنطقي وعادل جداً، بعض الشباب جن لكي لا يذهب للحرب، ثم حين انتهت الحرب وجد الجنون لذيذاً، أو خشي الحساب، فظل على جنونه! دهش العطار لكثرة من يتكلمون اللهجة المصرية، عرفها الجهنمي بسرعة، الشباب العراقيون ذهبوا إلى الحرب؛ فجلب صدام ملايين المصرين ليحلوا محلهم. قال الجهنمي: نعم سيحلون محلهم في كل شيء، كثيرون تزوجوا زوجات شهداء. وغائبين. نظرت والعطار بوجهه مندهشين، وسرنا واجمين. واجهنا تمثال الرصافي يقف بشموخ بثياب برونزية أنيقة، وقف العطار تحته، كان صديقه، قال حين كان حياً في أخريات أيامه كانت ملابسه رثة حائلة تفوح منها رائحة العوز والمرض والكحول، عقب الجهنمي: جعلوا حتى التماثيل هنا، تكذب على الناس!

(70) أمسكنا بالوطنية، وفقدنا الوطن!

عندا وصلنا شارع المأمون الذي يربط الكرخ بالرصافة: قال العطار الخبير بمناطق وأزقة شارع الرشيد أتتذكران هذا الشارع كان يسمى جادة الدنكجية، وكان أكثر الجادات ازدحاماً! أشار إلى مكان قريب من ناصيته:

ـــ هناك دكان حسون أبو الجبن، لم يشتهر بجبنه الفاخر، وعسله الأصيل غير المغشوش، بل بقطعة الخام الملطخة ببقع من الدماء معلقة عند واجهة الدكان. هي كفنه الذي يرتديه كلما خاض غمار مظاهرات بغداد. صاحبه مكي الأشتري المزين (ارتقى رتبة في ظل الإنجليز، وصار يسمى "حلاق"، وربما في ظل احتلال آخر يرقى إلى رتبة "كوافير") دكانه غير بعيد عنه، قريبا من ساحة الميدان يعلق أيضاً كفنه. كانا يتحينان المظاهرات كما يتحين المغنون حفلات الأعراس، فيرتديان كفنيهما، يمران على الدكاكين والمقاهي متحرشين بالمارة يحرضانهم على الالتحاق بهما في المظاهرة، كل شيء عندهما يستدعي مظاهرة، مرور ضابط إنجليزي في ساحة عامة،كومة زبالة متراكمة على الرصيف. عطب مصباح عمومي، رش الحكومة للجراد الأصفر بالمبيدات،فالناس اعتادوا أكله مملحاً بعد سلقه وتجفيفه، مطلقين حكمة تقول :دع الجراد يأكل القمح، فسنأكله نحن في النهاية، كل هذا يستدعي لديهما مظاهرات وحشود بشرية غاضبة يطلقانها في بغداد! كانا يرددان دائما: "نريد الاستشهاد في سبيل الوطن" صاحب دكان لبيع القماش قال لهما بعد أن ألحا عليه كثيراً لغلق دكانه والمضي إلى المظاهرة للاستشهاد: تريدون تستشهدون، منو لازمكم؟ ذيج هي سيارة الإنجليزي، روحوا نطحوها بروسكم، وخلصونا! ولكنهما كانا يعودان من المظاهرة سالمين، بينما يسقط كثير من القتلى والجرحى، فيقومان بتلطيخ كفنيهما من دمائهم! فيعودان متباهين بكفنيهما اللذين يقطران دماً! في أيامهما سرت حمى المظاهرات في جسد بغداد، صارت المظاهرات مهنة من لا مهنة له، مظاهرات ضد ارتفاع أسعار التوابل وعطارة تقوية الباه في البصرة، وبلدان الخليج، مظاهرات ضد السفور، مظاهرات في بغداد ومدن الجنوب بسبب صراعات على كرسي الخلافة حدثت قبل 1400عام! مظاهرات من أجل الليبيين ضد من يسمونهم الطليان، مظاهرات لفلسطين، والاسكندرونة، مظاهرات احتجاجاً على قلة المعروض من اللفت والجزر والكسكسي في المغرب، مظاهرات دعماً لجهاد الإيرانيين في قضية التنباك، والمشروطية. كان أبو الجبن لديه حكمة تقول: أية مظاهرة بلا دماء، هي كالجبن بلا دسم، بينما يقول الأشتري الحلاق بحكمة أخرى: أية مظاهرة بلا دماء هي كرأس رجل مسن دون شيب! سأل الجهنمي: وهل استشهدا؟ أجاب العطار، ماتا على فرشيهما، وقد كفنا بقماش آخر، جديد معطر! لكن قل: كم شاب استشهد في ظلال كفنيهما الأحمرين؟

انعطف بنا العطار جهة النهر، لاح لنا برج القشلة، رفع العطار يده وقد ندت عنه شهقة: أين عش اللقلق؟ قلت لقد رحل، منذ سنوات طويلة! رد العطار حين غادرت بغداد كان موجوداً، وقد حرصت على توديعه! قال الجهنمي والساعة لم تكن متوقفة أيضاً. قلت: خلال الحرب، مرت فوقها صواريخ وقذائف كثيرة، كيف لا تعطل؟ قال العطار بغداد لم تعد بغداد، ابحثوا لها عن اسم آخر، وعدنا أدراجنا ليواجهنا، أبو الجبن،ومكي الاشتري، أمام دكانيهما، صارا شيخين هرمين، خرجا من القبر لتوهما، كانا دون كفنيهما الدمويين، بثوبين قشيبين من الجوخ: سألهما العطار:

ـ لم لا تعدان لمظاهرة جديدة تطالب بعودة اللقلق، وإصلاح الساعة؟

قال الأشتري:

ـ في تلك الأيام كنا نتظاهر، نقتل أو نجرح، وعوائلنا آمنة، في هذه الأيام من يتظاهر، يقتل، مع عائلته!

سأله الجهنمي بمكره المعهود:

ـ وكيف تريان لعبة الاستشهاد، بعد نومة القبر الهانئة؟

رد أحدهما وأظنه الأشتري:

ـ لعبة. لعبة. لا أدري كيف سيحاسبنا الله عليها فالقيامة لم تقم بعد!

التفت العطار إلينا قائلاً:

ـ كلهم كانوا يصرخون، رحل اللقلق، وتوقفت الساعة،تلفتنا، وجدنا في أيدينا، الوطنية، وفقدنا الوطن، هل سيعود مع اللقلق أم إنه خرب مع الساعة؟ والساعة إذا خربت عليك أن تلقيها جانبا، ولا تتعب نفسك في إصلاحها؟

قال الجهنمي مناكداً: أنت يا العطار متشائم، ما كان ينبغي لك أن تسمح للقبر ان يصيبك بالكآبة!

انعطفنا إلى خرابة عتيقة خمنا أنها مشربنا القديم شريف وحداد، لذنا به، وماذا يريد الشبح غير بقايا أطلال ودمن؟ قلنا لنستقر هنا، وما دام هناك من عاد من قبره، وصار بفعل الذكريات حياً معافى، لا يد أن يكون هناك مكان أو ربوع ستعود لسابق عهدها! جلسنا لاهثين، أخذ العطار يشعل سجارته بإصبعين مخضبين بدخان التبغ، ما جعلني أفكر، هل كان يدخن في قبره أيضا؟ من أين يحصل على السجائر؟ قال العطار:

كان هذا المشرب قد قام على أنقاض سينما سنترال التي أقيمت فيها حفلة المصارعة الشهيرة بين المصارع الألماني الهر كريمر والمصارع العراقي أحمد الديك، وكان المحكم أكرم فهمي، وكان طبعا يجب أن يفوز أحمد الديك، فحقق العراق نصرا مهماً على ألمانيا، لا تستغربوا أن ينهض من تحت المشرب الهر كريمر، ليسترد شرفه الرياضي، لينتقم بالضربة القاضية! ممازحاً الجهنمي: وأظنه سيوجه لكماته الأولى إلى عضلات الجهنمي فهي كأنها لم تخرج من القبر، بل من فندق سبعة نجوم!

قال الجهنمي وقد داخله خوف حقيقي، أمتأكد إنك جئت بنا إلى بغداد؟ أخشى أن تكون قد ذهبت بنا إلى حي من أحياء الجحيم، ونحن ما نزال في العالم السفلي؟ قلت: متأكد، هي بغداد لا غيرها! محاولاً تلطيف كلماتي ببسمة مرتجفة، قال بغداد التي أعرفها في الأربعينيات كانت مكتظة بالحدائق والبساتين، ضفاف النهر، ممرعة بحقول الخضرة، وضفاف السماء كالمرآة تضاعف حقول النخيل فتربطها باللانهاية! شوارعها الطويلة الحديثة مظللة من الهجير بأشجار اليوكالبتوس الشاهقة الضخمة، ساحاتها المدورة الواسعة تغسل كل يوم، ينهض الكناسون مع الفجر، يجلونها كعروس تعد للزفاف، يأخذون بسكب الماء الوفير على أرصفتها واسفلتها ليكتمل حماماها اليومي مع الشمس فتصبغها بحناء وعطر وزقزقات طيور وأطفال! كل يوم تقدم بغداد لأهلها هبة جديدة عليهم زيادة جمالها وحمايتها من كل أذى! قلت نعم أعرف، ألم نكن معاً على أرضها؟

لكنه مضى يسرد ذكرياته كأنه يريد أن يستمتع بها بعيداً عما يراه: كانت السيارات الحديثة الجميلة، تتهادى بها لا تبعث ضجيجا أو صخباً، ليس لقلتها فقط، بل لأن الناس كانوا أميل للهدوء والسكينة. العربات التي تجرها الخيول الزاهية النشيطة، كانت تتشبه في رونقها وترفها بالعربة الملكية، وإذا ما أسقط الحصان روثه، يسارع الكناس على الفور لإزالته وتنظيف الأرض!عندما ذهبت الملكة عالية إلى لندن للعلاج، ورأت حدائق لندن نست مرضها العضال، وموتها الوشيك، وطلبت من مرافقيها أن يشتروا لها بذور هذه الزهور؛ لتزرعها في شوارع بغداد. كانت بغداد ترتكز على أرض صلبة من الداخل؛ خصبة من الخارج! انبرى العطار:

ـ هذا صحيح؛ فكل ما مر عليها من سيارات عسكرية ودبابات ومصفحات آنذاك لم تشققها أو تحدث فيها صدوعاً، ما كان يتهددها هي معاول كانت تحفر تحتها، تريد أن تقلب عاليها سافلها، فمهما نسى الناس وساروا غافلين فيها أو ركنوا في بيوتهم ومطابخهم الدسمة، وأسرتهم الوثيرة الطافحة بالشهوات، كان البعض يسمع ثمة أصواتاً كصدى معاول تضرب تحت أسرتهم وكنا نكتب ونتحدث في ذلك لكنهم لا يصدقون! وثمة جدل وخصومات بمصطلحات تثير رعباً لم نره إلا حين دخلنا قبورنا، وداهمتنا الحشرات والهوام تنهش أجسادنا! بقينا صامتين، وجدتني أقول تسألانني كيف حدث هذا سأختصر لكما الأمر! أتتذكران بارك السعدون الذي كنا نعرج عليه أحياناً بعد تجوالنا في الجهة الشرقية من دجلة مخترقين الباب الشرقي؟ كانت مصطباته خلوات للعشاق، تحت أشجاره الوارفة، يتبادلون الهمسات، يختلسون قبلاً عجلى، في ممراته يلتقي الأصدقاء يتجولون مستنشقين عبير الورد، يستغرقون في أحاديثهم وحواراتهم، ما جعلك يا جلال تقول أنها رواقات الفلاسفة! ووصفتنا بالفلاسفة الرواقيين، أتذكر هذه الحديقة الجميلة الرائعة؟ لقد ردمها الحكام الجدد وبنوا عليها دائرة الأمن العامة، شيدوا مكان مصاطب العشاق والأحبة أقبية للتعذيب، ومكان أرصفة الورد مسارب للدم، وتحليل الجثث بالحوامض! وحديقة غازي أتذكرها؟ حيث سينما الرصافي، بمداخلها الرائعة ذات المرايا، والفسيفساء، والتي شاهدنا فيها أحدث وأجمل الأفلام، أزالوها وبنوا مكانها نصباُ ثقيلاً أسموه نصب الحرية؟ أية حرية صنعها هذا العسكري الذي حطم باب السجن في لوحته البرونزية؛ ليبني مكانه مئات السجون على الأرض، رأيت هذا العسكري بنفس ملامحه في اللوحة، بعد ثورته يعذبني في سجن خلف السدة، ويقوم بإطلاق الرصاص على مساجين آخرين ثم يلقونهم في شاحنة ليدفنوهم نصف أحياء في تل قريب! لا تسأل عن بغداد، لا تهيج جراحاتك، وجراحاتي!

جلس الجهنمي وقد خفض رأسه، قال ما توقعته منه:

ـ سمعت وأنا في قبري إن فتياتنا الطيبات، أجلوهن من بيوتهم بحجة مكافحة العهر!

قلت: ـ انتشرت العاهرات بين بيوت الناس، صرن يتناسلن كالأرانب، ورجال السلطة يفقسون فوقهن كالنسور! صار العهر مدرسة رسمية ودخل في كل شيء، الحكومة، المؤسسات، المدارس، المستشفيات،الصحافة الغناء، الموسيقى، السينما، حتى أرواح الناس ونسغ الأشجار!

ظل جلال العطار صامتاً حزيناً، راحا يجيلان بصريهما في ما حولهما من وراء غيب سميك ثقيل بعيد، جدران مشروخة أثر قصف قديم، أزبال وأوساخ متنثرة على الأرصفة، وجوه الناس كالحة جائعة مهمومة، قال العطار:

ـ أعتقد أن الأسوأ لم يأت بعد!

قال الجهنمي:

ـ وهل هناك ما هو أشد هولاً وفظاعة!

رد العطار: وصل الخراب إلى الأرواح ونسغ الأشجار؛ لاشك حتى العسل هنا مر!

ندت عن الجهنمي ضحكة مخبولة، قائلاً: حسب علمي كان الناس مندفعين هاتفين، إلى الأمام، إلى الأمام، ثم نأتي ونجد أنهم كانوا يسيرون إلى الخلف!

وظل يردد: لماذا؟ من فعل كل هذا؟ راح يجيب نفسه: كل حزب وكل جماعة لا يزال يقول إنه هذا حصل لأن الناس لم تسمعهم ولم تسر وراءهم. لا أحد منهم يقول من كان هو يتبع ووراء من يسير! انتفض العطار : هذا تحليل سطحي سريع، معضلة البلاد أكبر من هذا، لا يستطيع أن يراها، إلا من عاش مثلنا تحت تراب قبره لنصف قرن! وصفق طالباً نادل البار ليبلغه بطلباتنا من الشراب، كأنه يريد أن يحتسي الكأس الأخير قبل العودة للقبر، مضى يقول:

ـ فقط العرق هنا لا بد أن يكون مراً لنفهمه ويفهمنا، الموت أعظم أستاذ في الكون، وهو من حكى لي لماذا وكيف وصلنا إلى هذا الخراب، من يمنعني من قول الحقيقة؟ أنا والجهنمي ميتان وأنت يا يونس منفي محاصر من رفاقك فوق جبل، ممن نخاف؟ لا مهمة لنا بعد الآن سوى قول الحقيقة نقذفها بوجه كل من يريد إبقاء الدجل والزيف قانونا لهذه الحياة،تراب الموت نفسه لم يغلق فمي، مم أخاف؟

وعاد العطار يقول: كثيرون صنعوا هذه المأساة حزبكم كان بينهم!

قلت: لا أنكر ذلك ولكن من يحكم العراق اليوم حزب ذبح حزبنا!

ندت عن العطار ضحكة مريرة قصيرة: هذه هي مهازل أحزابنا، يذبحون البلد، ثم يتذابحون متصارعين على الغنائم والأمجاد الكاذبة! حزبكم وضع كثيراً من البيض في جحر الثعابين! قلت وراء خراب العراق صف طويل من الأشباح!

قال العطار :

ـ نعم سنتحدث عنهم واحداً واحداً، لن نجعل أي شبح يفر من عدالة ضمير تعذب طويلاً!

قلت: الشهداء هناك معنا يتحملون عبأ البحث عن الحقيقة أيضاً، هز رأسه، لا أدري موافقاً أم شاكاً، شعرت بشجن وقلق، ذاكرة الموتى أكثر امتلاءً ومرحاً من ذاكرة الأحياء الخائفين!

تذكرت إنني خلال عملي في المعارضة علمانية ودينية، موزعة بين دمشق وبيروت وطهران وكردستان، وتأملي لها عن قرب وعن بعد، عرفت بينهم من هم لا يقلون بشاعة عن صدام ورجاله، وربما يتفوقون عليهم في دناءتهم وفسادهم ووحشيتهم، وقد لا يمر زمن طويل حتى يطلون بوجوههم الكالحة البشعة على الناس، وويل لهم منهم! أردت أن أحدث العطار والجهنمي عنهم، قلت في نفسي لأدعهما في راحة الدنيا قليلاً، أما كفاهما أشباح القبور، لأحدثهم عن أشباح القصور؟

(71) دعه سيعود إلينا؛ بعد ان يسبح بماء السراب!

كان نادل المشرب بثياب ما قبل ستين عاما، نظيفة قشيبة، ابتسامته حلوة عذبة، ترحيبه صادقاً ومن القلب، يضع على المائدة قناني شراب ما قبل ستين عاماً كأنه ازداد تعتيقا ونكهة من أجلنا، هذه لحظة ما بعد الموت الجميلة المترفة. جاء إلينا متهللاً: وصلتنا اسطوانات حديثة طباعة ألمانيا: محمد الكبنجي، حسن خيوكه،داخل حسن، صالح الكويتي أم كلثوم وعبد الوهاب، ماذا تريدون أولاً؟ قبل ان يسمع الجواب مال على العطار وهمس: فتيات جميلات يرقصن هذه الليلة في ملهى ليالي الصفا، هل أحجز لكم مائدة؟ أطلق الجهنمي ضحكة حبيسة في صدره طيلة فترة الموت صائحاً: أحجز احجز وما قبله، ليت كل السنوات سنة 1944 يبدو إننا هناك! لكن العطار استدرك قائلاً: انتظر فنحن في قبضة الموت، ولا نعرف جدول مواعيدنا! ربما ذكر الملهى أثار ذكرى بعيدة: ثمة رفيق لي في السجن،لا أتذكر اسمه رغم تذكري لملامحه السمراء الحزينة، صرت أخلط بين أسماء رفاقي القدامى والجدد كما أخلط بين أحلامي وذكرياتي، جروحي وأمراضي، قال " اصطدم رأسي مرات عديدة بجدران الزنازين، وبأدوات التعذيب، فلم أحس بالخوف والرعب قدر اصطدم رأسي بالحقيقة المرة: أن فكرتنا عقيمة، متحجرة، وخاطئة" لا زال صوت هذا الرفيق يتردد في سمعي: ضميري لا يسمح لي أن أترككم وأنتم في السجن، سأبقى حتى تخرجون أحراراً، وأول يوم أخرج فيه سأتخلى عن هذه الفكرة الهوجاء ولن أعمل سوى موسيقي في ملهى! أريد أن اقدم للناس الانسجام، لا التنافر! كيف أدرك منذ ذلك الوقت المبكر حقيقة فكرتنا، ما هو السر؟ سرعة الفهم؟ نفحة إلهام؟ صدق في البحث والرؤية؟ بينما أنا وأمثالي ابتلينا ببطء الفهم. وتبرير ذلك بالصبر والتأني في الدرس والتأمل، والحياة لا تريد سوى قدحة عقل في صخورها لتشرق بالحقيقة! هذا الرفيق الذي لم يكن خريج كلية مثلي، هاوي عود، وكتب لا غير، قال:

ـ كم أضحك على نفسي حين أتذكر إنني شيوعي. فالشيوعي في فكرته الثقيلة الوزن هو رجل يستعمل مدفعاً لقتل البعوض في حجرة نومه! رائع أن نتصدى للظلم والباطل وبكل إصرار، ولكن من يخرج لقتل الذباب والبعوض حاملاً مدفعاً أو بندقية فأنه لا يريد قتل الذباب والبعوض، إنه في اللاشعور يريد إكثاره، حيث أن سقوط الناس والحيوانات صرعى قذائفه المضحكة يعني تقديم وجبات شهية من الجثث للذباب والبعوض فيتكاثر داخل بيوتنا وشوارعنا! هكذا حزبنا، يتصدى لأهداف معقولة بفكرة غير معقولة. لا يريد أن يقر أن فكرة ولافتة الشيوعية فائضة عن الحاجةً! وقد ظل هذا الرفيق يعرف حزبنا الشيوعي (مدفع عملاق لقصف البعوض في حجرات النوم)، لم يمهله العمر ليعمل موسيقياً، وجدناه بعد أيام فوق بطانية السجن المتهرئة ميتاً إثر نوبة قلبية! وقف الجهنمي، وتنحى عن مائدتنا فجأة وكأنه لسع بعقرب جاءت معه من القبر إلى هذا البار الجميل. ثمة ذكرى ثقيلة طافت كسحابة سوداء على وجهه، سألني: أين الطريق إلى الميدان؟ ضحكت، هل أنساك الموت طريقك إلى صويحباتك؟ قال: ما زلت أشك أنها هي بغداد، وسأسير فيها على أنها بغداد، وعلى مسؤوليتك! قال العطار أذهب باتجاه القشلة ستجد بعون الله كاهناتك الرائعات، نجمات بغداد الآفلات؟ أشرت له إلى الطريق، هرول مسرعا، باحثاً عن عاهراته، عذراواته الأبديات كما يسميهن، في تلك الأيام البعيدة، كان يتعارك مع من يدعوهن بالساقطات، كان يسميهن الصاعدات نحو مستقبل السلام والطمأنينة، كلما سألته: لماذا تدافع عن العاهرات بهذا القدر؟ يجيب: المرأة مسكينة، إذا صارت عاهرة تسحق، أما الرجل إذا صار عاهراً، أعنى أن يصير بالدجل والظلم والكذب: حاكماً، وزيراً، نائباً، سياسياً، شاعراً، كاتباً، قائد حزب متعفن، فإنه يحظى بالاحترام والمال الحلال والمجد أيضاً! قال سأجوب الشوارع والأحياء، سأجدهن، بعضهن أو واحدة منهن، حتى لو صارت عجوزاً ستتذكرني، وسنستعيد أفراح قلبينا من التراب، قلت ها هو يتولى أصعب مهمة، يخرج من حطام بغداد نفحة حب، حاولت أن أستبقيه معنا: أهكذا أيها الجنمي تتركنا من أجل قحبة لا بد أنها نستك،بع أن شبعت من الموت؟ قال العطار: دعه سيعود إلينا ظامئاً بعد أن يسبح في السراب! استمعنا إلى اسطوانات كثيرة، شربنا الكثير من العرق، عجبت إنني عدت إلى طاقتي في ذلك الزمان، أصوات المغنين وموسيقاهم أهاجت العطار فرأيته يبكي، أتراه تذكر نورا؟ لم أشاً أن أمس هذا الجرح في قلبه، فالعشق الأول كما يقولون، حتى الموت لا يطفئه، يظل مشتعلاً في القلب يضيء جنبات القبر. مسح العطار دموعه وران علينا صمت شفيف، ما أحلى أن نتخفف من السياسة وهمومها، ونستسلم للحب حتى لو كان دموعاً وأشجاناً؟ لا أدري كم مر من الوقت، بتوقيت الموتى العائدين إلى الحياة، أو الأحياء الذاهبين إلى زمن الموتى، عندما عاد الجهنمي ليقول: بحثت عن بيوت الحبيبات، كانت مهدمة : قالوا إنهم ينوون بناء ثكنة عسكرية مكانها، وقفت قليلاً فشعرت بهمهمة أشباح شرسة ورائحة دم، فجئت مسرعاً. جلس وهو يسأل :

ـ لماذا يا جلال العطار عدنا إلى بغداد؟ رد العطار بهدوء وهو يملأ كأسه:

ـ لنمازج رمادنا برمادها ونصنع منه كأس ديك الجن! أتذكره؟ ذلك الشاعر الذي قتل حبيبته،ثم ندم وبكي، وصنع من رمادها كأساً يشرب فيه خمرة النسيان!

قال الجهنمي،كالملسوع: أنا لم أحرق بغداد، هي التي أحرقتني، وليتها صنعت برمادي كأس خمر، صنعت به كأس رعب وفساد!

أصغيت مشدوهاً، أهما الميتان أم أنا؟

(72) لا تعرف الفكرة إلا من نقيضها، ولا الرجال إلا من خصومهم!

كان يوماً بارداً ممطراً من شتاء 1935 على ما أتذكر، وقد التجأت إلى مقهى حسن عجمي لأنعم ببعض الدفء، واحتسي شاياً ساخناً معطراً من يد عاملها الشهير أبي دلف. وجدت العطار وبجانبه صديقه الجهنمي، فعرفني عليه، وجلست معهما. كنت قد سمعت عن الجهنمي نتفاً من كلام هنا، أو هناك، كثير منه؛ كان موضع استغرابي ونفوري. لذلك بقيت لأكثر من عام في علاقتنا لا أستسيغه! كان عمري 25 عاماً. كان الجهنمي يكبرني بحوالي عشرة أعوام، وقد ظل موضع تساؤلي وشكوكي، يصعب علي تقبله، اضطررت لمجاراة العطار في صحبته وملازمته لمجلسنا هنا أو هناك، وبعد أن اكتشفت سر العلاقة بينه وبين العطار، أو خيل إلي ذلك، تقبلته على مضض، ثم شيئاً فشيئاً، صرت لا أجد ضيراً في رفقته، بل صرت لدهشتي، استمتع بصحبته وأجد في شخصيته الغريبة وأحاديثه المتطرفة جداً، والمتنافرة والمتناقضة، نكهة مختلفة لا أجدها عند غيره، صدمت في البداية حين قال:

ـ أنا أعد 11 آذار 1917 يوم دخول الإنجليز بغداد بقيادة مود، هو تاريخ ميلادي، وتاريخ ميلاد بغداد الحقيقي، قبلهم كنت وحدي لا رفيق لي، ولا قريب، فصار فجأة صار جيش من الإنجليز والهنود أصدقائي وأقربائي، وبغداد قبلهم لم تكن سوى عجوز شمطاء تلاقفها الغزاة فهرأوا رحمها اغتصاباً وانتهاكاً، فأنجبت سفاحاً: أفاعي ولصوصاً وسفاحين، وعلى يدي مود ردت فتاة بكر جميلة فاتنة!

عقب العطار ضاحكاً:

ـ ركب لها الجنرال مود غشاء بكارة إنجليزي!

رد الجهنمي بلهجته الواثقة:

ـ اغتصب بغداد غزاة كثيرون، فرتقت غشاء بكارتها مرات، ومرات، وتصابت وزنت، وتطهرت وتبتلت، وذهبت إلى بيت الله الحرام، وعادت حاجة تقية بثياب سوداء وسبحة بمائة حبة، وحبة، ولكن دون جدوى. على يدي مود وحده تعلمت أن غشاء البكارة هذا أتفه من الشرف الذي يراق على جوانبه الدم، لذلك كانت هي المدينة الوحيدة في العالم الني تقيم تمثالاً لفاتحها!

وتروح عيناه تجولان في جو البار، بدا إنه يصنع من دخان البار وروائحه الثقيلة ما كان يتحدث به دائماً: الجيش الإنجليزي وهو ينزل في شبه جزيرة الفاو مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914. ويمضي إلى البصرة، والعمارة والناصرية، ويزحف ببطء وتهيب، شمالاً حتى يقترب من بغداد، فتواجهه على مسافة 25 ميلاً جنوبها وبالتحديد عند سلمان باك الحاميات التركية؛ ترافقها القبائل العربية المقاتلة معه تحت راية الإسلام، ولكن بقيادة الجنرال الألماني كولتز هذه المرة، الذي يقولون إنه اسلم على يد واعظ الباب العالي، وحج بيت الله وصار مدفعه مباركاً! تدور معركة لخمسة أيام تكون مملة وكئيبة. فينسحبان منها لموعد آخر، يتراجع الجيش الإنجليزي ويتحصن في الكوت. يلاحقه الجيش العثماني والمسلحون العرب والحاج الجنرال الألماني، كانت القوات البريطانية منهكة ومنهارة تقريباً ومع ذلك تشتبك مع المهاجمين في معارك ضارية متفرقة، ويشدد الحصار عليها، وتستدرج لمعارك استنزافية وتفقد ما يقرب الخمسة آلاف من جنودها، وتنفد مؤنها وعتادها، فيكون أمامها إما المجاعة أو الاستسلام، تضطر لرفع الراية البيضاء ويستسلم ما يزيد على 13 ألفاً من جنودها، فيتحدثون عن الجنرال الذي حج بيت الله ومعجزاته. لكن الجيش الإنجليزي يعيد تنظيم صفوفه، وتأتيه الإمدادات الكبيرة ويتولى الجنرال ستانسلي مود تدريبه وقيادته، ويتجه نحو بغداد بعزيمة غاضبة فيخوض معركته الحاسمة مع العثمانيين وجنرالهم الألماني الذي أدرك الإسلام متأخراً، فيهزمهم ويدخل بغداد متبختراً بخطى الفاتحين! فجر الأتراك خلفهم كل شيء يعتقدون إنه يفيد أعداءهم، حتى باب الطلسم الأثري، أحالوه كومة حجارة. وكما يحدث عند غياب كل سلطة انفلت غوغاء وسجناء كسروا الأبواب ليستغرقوا في السلب والنهب والاغتصاب. ويخطب مود في جمع من أهلها خرجوا محيين أو متفرجين: (جئنا محررين لا فاتحين) ويتولى ضباط إنجليز وهنود شئون العراقيين، وحين يموت مود فجأة بكأس حليب ملوث، يعيدون بعثه على هيئة تمثال أنيق فخم في قلب بغداد!

كان الجهنمي يعشق تمثال مود الذي يقف شامخاً على فرسه الجامحة قبالة السفارة البريطانية في الصالحية على الضفة الغربية من دجلة، يهيم به، يتمشى حوله كلما مر من هناك كالمتعبد، وتصير عادة لديه ضرب مواعيده مع صويحباته قريباً منه، فيطوف بعشيقته حوله (لأجعل شرارة الحضارة تمس عقلها)، ويسير مسافة قصيرة نحو تمثال فيصل الأول الرابض كأسد صحراوي على حصانه، قريباً من ضفة دجلة، ليشكره كما يقول: على كرم ضيافته للإنجليز، وتصرفه بعقل وحكمة معهم، فلم يمتثل لأية نزعة بدوية أو بدائية ويناصبهم العداء؛ بل وضع يده بيدهم لبناء عراق جديد، كان يقول:

ـ غزا العثمانيون المسلمون العراق فوضعوه في حظيرة خيولهم وزبالتهم لأربعمائة سنة يتلذذون بأنينه،امتصوه حتى النخاع! وتنطلق ضحكة العطار:

ـ ولا تنس إن الإنجليز بنوا الكلجية والبرلمان في يوم واحد!

ويتلقف الجهنمي كلام العطار فيقول بلهجة جادة:

ـ إذا كان المسلمون هنا قد سجنوا المرأة وراء قلاع وسيوف، واعتبروا وجهها عورة ويجب حجبه، من أين يأتي الحب والحنان بين الناس؟ لذلك اضطر الإنجليز ليجمعوا لهم العاهرات السائبات. ولم تكن قبائل العرب القديمة تخلوا مضاربها من خيام للعاهرات عليها أعلام، أسموها ذوات الصواري! وكم من زعيم شريف،قائد عسكري بطل، أو رجل دين مبجل،أمس واليوم كانت جدته من ذوات الصواري! دار البغاء، هي بمثابة مرحاض، هل يقوم بيت دون مرحاض؟ ثم لا تنسوا! فرضت حكومة بغداد على هؤلاء المسكينات ضرائب لتدفع منها رواتب للوزراء وللصحف وخطباء الجوامع! تاريخ العهر عندنا مختلط بتاريخ الطهر والمجد، فلا تتعبوا أنفسكم!

.ويروح يتغزل بالكلجية قائلاً:

ـ الكلجية كلمة مغولية تعني معسكراً، كان يحتشد فيه جنودهم جاثمين على قلب بغداد. وكان ينزل الخوف في قلوب العراقيين، وصار اليوم بفضل الإنجليز مجمعاً للقحبات الجميلات يمنح الحب والفرح والنشوة لأهل بغداد عل قلوبهم لا تظل صخراً جلمدا!

ويغرق العطار في الضحك قائلاً: قبحك الله، تكاد تجعلني أحب الإنجليز!

كان الجهنمي يحتفل بيوم دخول الإنجليز بغداد ويعده العيد الوطني الحقيقي للعراقيين، ويوم دحر الظلام العثماني؛ بأنوار الحضارة! كان يقيم احتفالاته السرية والعلنية في الكلجية طبعاً، يأتي بشموع وحلوى وطعام وويسكي ويجمع صويحباته والقوادين وبعض الزبائن، ويجلس أمامهم يثقفهم بمآثر الإنجليز وأفضالهم على العراق؛ وسط هلاهل وزغاريد العاهرات؛ يعقبه رقص وغناء، واهتزاز أسرة حتى الصباح! سألته:

ـ أحقاً تحتفل بيوم دخول الإنجليز إلى العراق؟

حدجني بنظرة طويلة، كان يعرف آنذاك بتعاطفي مع الشيوعيين فسألني:

ـ ألا يحتفل الشيوعيون العراقيون هنا في بغداد بما يسمونه أعياد ثورة أكتوبر؟

قلت شبه منكرٍ:

ـ لا أدري!

لكن العطار انبرى للقول:

ـ نعم يحتفلون! بل يعدون ذكرى أكتوبر، أهم من أعيادنا الدينية والوطنية كلها، هذه الأعياد برجوازية ورجعية بنظرهم!

تلقفها الجهنمي ليقول:

ـ وكيف سيحتفلون لو دخل السوفييت العراق؟ أليس بالرقص والغناء والهلاهل والخمور وهز الأسرة حتى الصباح؟ قل لي ماذا بنى السوفييت في العراق؟ هل بنوا لنا جسراً، أو مصنعا أو حتى روضة أطفال؟ على العكس جلبوا لنا فكرة للفتنة، والهدم فقط! بينما الإنجليز أخذوا يبنون العراق. ويروح يترنم بحروف إنجليزية ينطقها مموسقة.. (Iraqe made in England)

قلت مجارياً مخيلته:

ـ ليتهم اعتنوا بصنعه كما اعتنوا بصناعة أقمشتهم التي صار الوزراء يتباهون ببدلاتهم منها، نسيج العراق الذي صنعوه بدا يتهرأ منذ الآن، طوائف وقوميات شتى!

ـ هذا قطن العراقيين، وصوفهم، وشعر ماعزهم وإبلهم. من أين يأتي لهم الإنجليز بخيوط الحرير المتينة؟ لا حل للعراقيين إلا بان يتسلقوا شجر التوت، ليأكلهم دود القز، ثم يعيدهم إلى الوجود؛ خيوطاً من الحرير ليتولى الإنجليز نسجهم أروع ما يكون، فيصيرون ربطات عنق جميلة على صدور الأرستقراطيين في العالم!

يصعب الإمساك بالجهنمي، كان يروغ من هنا، وهناك؛ ليمرر عبادته للإنجليز!

فلا يسعني إلا ان أتركه يتحدث، فكل له قضية، والجهنمي قضيته حبه للإنجليز في العراق، يقول:

ـ معظم العراقيين مصابون بعمى الألوان، فهم يرون النور في العهد العثماني لأنه إسلامي، ويرون الظلام في عهد الإنجليز لأنهم مسيحيون، بينما الحقيقة هي العكس، إنهم بحاجة لمعالجة عيونهم من هذا الرمد المزمن!

ويسكت برهة وأتركه يدخن، ويسرح مع سحابات دخانه، ثم يعلو صوته فجأة:

ــ ولكن من حسن الحظ أن بعض المثقفين صاروا يدركون ذلك، ويتصرفون بواقعية مع الإنجليز وينظرون لهم كمنقذين!

بقيت صامتا، كنت فعلاً أفكر في كلامه مع إني أسفهه عادة، لكنه قال كلمة لسعت قلبي فعلاً كنبوءة، وجعلني أرمقه طويلاً بأسى لا أدري إن كان قد لحظه على وجهي:

ـ العراقيون يكرهون الإنجليز، كعادتهم في كره ما ينفعهم وحب ما يضرهم، وربما يأتي يوم يحطمون به تمثال مود، ولكن مهلاً، لا بد لهم من غزاة، هذا نظام تاريخهم كله، وهذه المرة سيأتيهم ياجوج وماجوج! سيحتفون حولهم كالنسور حول الذبيحة، فلا يبقون منهم سوى كومة عظام تصفر بها الرياح!

كان في هوسه بالإنجليز يحدثنا أحياناً أنه من أب إنجليزي وأم عراقية حسناء فتن بها هذا الوافد الحالم بنساء الشرق، وأنوثتهم الساخنة الطاغية، سأله مرة العطار عن سر بشرته السمراء وعيونه الخضر:

ـ فراح يختلق لنفسه تاريخاً غريباً، روى لنا، أن والده مزيج من الدم الإنجليزي والهندي وقد قدم من الهند ليعمل ملاحاً بين البصرة ونهري دجلة والفرات في شركة لينج، وهي شركة إنجليزية للملاحة تأسست في العراق أواخر القرن الثامن عشر على وحي شركة الهند الشرقية، قال بصوت جعله متهدجاً:

ـ لكنه مات فجأة وأنا صغير، نعم مات بالكوليرا مثل الجنرال مود!

عقب العطار:

ـ كانت الكوليرا تمارس الوطنية والمقاومة نيابة عن العراقيين أحياناً فهي تتولى دائماً التهام الغزاة،افترست الإسكندر المقدوني، والجنرال مود، والمسز بل، والجنرال الألماني كولتز حليف الأتراك، لكنها أخطأت بالتهامها والد الجهنمي فكان ينبغي أن تبقيه حياً لينجب لنا المزيد من الأفذاذ!

ضحك الجهنمي معنا، قائلاً:

ـ أخشى أن يأتي يوم على العراق تأتي فيه الوطنية بالموت نائبة عن الكوليرا والطاعون! كان أفضل ما فيه إنه لا يغضب مهما انتقدناه أو سفهناه أو حتى عرضنا بحياته وشخصيته. صرت بعد أن تصدمني أحاديثه أعود لأضحك منها واستحثه ليمتعني بها فقد صرت أراها لونا جديداً من التفكير البشري، وإذا كان فاسدا منحلاً، فليس هو الوحيد في ذلك! والفضل للعطار في جعلي على استعداد لتقبل هذا النمط من التفكير المعاكس والمستفز. كان يقول: لا تستطيع معرفة الفكرة إلا من نقيضها، ولا الرجال إلا من خصومهم، لا تعرف حقيقة ما يسمون بوجهاء بغداد وأشرافها ورجال الوطنية؛ إلا من الجهنمي، هو يعرف أسرارهم وخفاياهم وما يعتمل في جيوبهم وتحت ثيابهم، وأسرة نومهم! بدونه لا أستطيع كتابة رواية صادقة تستوعب معاناة الناس وآلامهم مع حكامهم وظالميهم في هذا الوجود القاسي الغريب!

وأقول للعطار، أنت محق، لذلك جئت بصفحات لا تنسى في ذاكرة العراقيين، ويصحح لي: قل الأوفياء منهم وهم قلة!
(73) الساعة المنبهة مرة بحجم دبابة إنجليزية، ومرة بحجم قلم!

قال الجهنمي كان العراقيون جميعاً يغطون في نومة اللحود، تحرس قبورهم الجندرمة العثمانية. أيقظتهم أصوات دبابات الإنجليز. كانوا مستغرقين في أحلامهم مع منكر ونكير، وشجاع الأقرع يطوف عليهم في قبورهم، أو بيوتهم لا فرق. لذلك كانوا بحاجة لساعة تنبيه بحجم دبابة إنجليزية ليستيقظوا، وينهضوا محاولين الالتحاق بركب العصر. قال العطار: فعلاً لقد أيقظتنا دبابات الإنجليز, ولكنهم أرادوا لنا أن نبقى نستيقظ، وننام على ساعتهم المنبهة الرهيبة. من أيقظ العراقيين لصحوة الشمس، شروقها وغيابها؛ هي أقلام رصاص بسيطة زحفت على الورق؛ فأحدثت أصواتاً ووميضاً أعلى من زئير دبابات الإنجليز، وقوة نيرانهم: أقلام الرصافي، الزهاوي، محمد رضا الشبيبي، إبراهيم حلمي العمر، روفائيل بطي، انستاس الكرملي، فهمي المدرس، حسين الرحال، محمود السيد، عبد الفتاح إبراهيم، حسين جميل، عبد القادر البستاني، وإبراهيم صالح شكر، سعد صالح، كامل الجادرجي، وغيرهم كثيرون.

توقف لحظة، سألني كم شخصاً تسمح لي بأن أدعو معي إلى الحياة الدنيا؟ قالها بلهجة من يسأل صاحب حفل: كم يحق لي أدعو معي إلى حفلكم الكريم؟ قلت بلهجة من لا حفل لديه:

ـ أنت حر يا صديقي! ليتك أيقظت كل موتانا المساكين؛ ليعودوا إلى الحياة؛ رغم إنها وأسفاه لم تعد أفضل من الموت!

ـ على كل حال، الحياة هي الحياة. سوف لا أكون طامعا بأكثر من أصدقاء، لا يتعدون عدد أصابع يدي! ضحك الجهنمي:

ـ في هذه الحال لا تستطيع أن تدعو أحداً، هل أبقى لك دود القبور أصابع؟

استدرك العطار ليقول: أتذكر كانت لي عشرة أصابع أليس كذلك؟ لن أدعو سوى أقل من هذا العددّ. قلت مطمئنا: ها هي أصابعك وحتى رموش عينيك عادت إليك، كأنك لم تمت. أنت فعلاً لم تمت، ولا زلت خالداً في قلوبنا!

ـ من أدعوه سوف لن يكون بجسمه بل بوجهه وطلته الجميلة: هذا لن يكلفك طعاماً، ولا شراباً!

ومضى يتحدث كأنه يهمس لروحه وهو في قبره البعيد: يا لتلك الأيام المضيئة الرائقة. كنا نجلس في حديقة بيت أحدنا، صومعة انستاس الكرملي، بيت محمود صبحي الدفتري. الأرض مفتوحة إلى الأفق، والنسمات عبقة بعبير الورد ولطف النفوس. مائدة الشراب مبسوطة مفتوحة كقلب امرأة فاتنة حنونة كريمة. وجوه طيبة رائعة: إبراهيم حلمي العمر، روفائيل بطي، كامل الجادرجي، عبد الفتاح إبراهيم،احمد الصافي النجفي، عبد المسيح وزير، طه الراوي اكرم احمد نوري ثابت،منير القاضي عبد الله الشواف، حافظ جميل، قاسم العلوي، عبد الغفار البدري، عبد الله اثنيان، الجواهري والجهنمي (الغريب انهما يجلسان متجاورين، رغم إن أحدهما لا يطيق الآخر) وأحياناً يطل علينا معروف الرصافي، محمد رضا الشبيبي، فهمي المدرس. الرصافي يبقى معنا، بالأحرى نستبقيه مستعينين عليه بالكأس مترعة، وبعزف عود يترنم بأبيات له؛ فيظل حتى نهاية السهرة، يحتسي الكأس تلو الكأس ويلعن الإنجليز والبلاط وجميل صدقي الزهاوي، وكلبه المدعو "ولك"، مستعيداً قصيدته "الانتداب". حتى يتعتع فيوصله أحدنا على عربة يجرها حصان إلى بيته. الشبيبي والمدرس لا يبقيان سوى قليلاً، يأتيان مسرعين، كأنما ليطمئنا علينا أو لنطمئن عليهما! بذلنا جهداً حتى عقدنا جلسة صلح بين الزهاوي والرصافي. لم تكن مجدية، رغم أنها كلفت عائلة الدفتري خروفين، وعشرين دجاجات وستة مناسف تمن عنبر،والكثير من الجوز واللوز، وأطباق كبيرة من الحلوى والفواكه، ودلال كبيرة من القهوة وصواني سجائر. فخلافاتهما ظلت شديدة، بعضهم يقول هي بسبب نزاعهما على زعامة الشعر والشعراء في العراق، معقباً إنه هوس العراقيين على الزعامة، فحتى مطيرجية المحلة يتعاركون كل يوم على من يتزعم أسراب الحمام في الفضاء. ظاهر نزاع الرصافي مع الزهاوي أنه يعود إلى اختلاف ذهنية الرجلين. فالزهاوي يرى بضرورة التحالف مع الإنجليز ويراهم رسل حضارة، والرصافي يراهم رسل شر وانقسام وإفقار. ويدعوا للتحالف مع البلاشفة متجاهلاً أنهم أجانب أيضاً! لكن لباب الخلاف الحقيقي هو أن الرصافي فقد في العهد الجديد منصبه وامتيازات كبيرة كانت له في الإستانة مع العثمانيين. بينما الزهاوي عرف كيف ينقلب على العثمانين، ويحافظ على مصالحه في العهد الجديد. ومع ذلك ظل الزهاوي والرصافي والشبيبي والمدرس نجوماً ساطعة في مجالسنا وحياتنا الفكرية والسياسية! وثمة في كلماتهم ومض برق ومطر وربيع قادم، إشراقة جيل كبير، لا تدري هل أتى في زمن ضاق بهم فآذاهم، أم أنهم أتوه ليشعلوا فيه أنواراً، ويفتحوا آفاقاً إلى الحضارة! كان يشاركنا مجلسنا سياسيون: ياسين الهاشمي، طه الهاشمي، الجادرجي، حكمت سليمان، جميل المدفعي، جعفر ابو التمن، يونس السبعاوي. إلا نوري السعيد، ما رأيته يوما معنا، ربما لعجرفة فيه، أو لانشغاله الدائم، أو لافتقاده البلاغة الكلامية، رغم نباهته وقدراته العملية المشهودة. كان يأتينا أدباء وكتاب من بلاد العرب: على الجارم، زكي مبارك عبد الرزاق السنهوري من مصر. أمين الريحاني، رياض الصلح، من لبنان وغيرهم من تركيا أو الهند. كان المدرس بدأ يقترب من شيخوخته، حزيناً رصينا كثير الصمت. بينما الشبيبي ما يزال يحمل في أعطافه حرارة ثورة العشرين، كأنه رغم مضي السنين على انطفائها لا يزال يقوم بمهمته التي أسندت له أيام تفجرها سفيراً متجولاً لها! رغم إنه في النهاية هادن الزمان، واتبع مع الإنجليز سياسية واقعية يكتنفها صراع هادئ صبور. ظل يفتخر بأن عمامته صامدة كالقلعة الشامخة على رأسه، بينما لم يأت شاعر معمم من النجف إلى بغداد إلا وأطاح بها في الحانة أول كأس! كان الجهنمي يقول الرصاصة لا تطيح بالعمامة، الكأس وحده يطيح بها. الشبيبي ظل يتبختر بها فوق عباءته السوداء الناعمة الخفيفة تشف عن ثيابه البيض على قامته المديدة. كان الجهنمي يستفزه، يريد أن يدفع به باتجاه الكأس، فلا يكف عن القول: كل من يقول لك إنه شاعر ولا يشرب الخمر عليك أن تشك في شاعريته! كان الشبيبي يضحك حتى يهتز جسمه، ويقول للجهنمي: قبحك الله، ها أنت قد شربت قرابة خمر. قل لنا بيتاً واحداً! لم تكن بيننا امرأة، كنا بالطبع نتوق إليها، ونتمنى أن تكون معنا رفيقة وصديقة وحبيبة وزميلة مبدعة، ولكن هيهات، ما كان المجتمع يسمح لها أن تغادر البيت إلى المدرسة فكيف إلى مجلس للرجال، أو الكتابة. حين سمعنا بأن صبية تدعى صبيحة الشيخ داود ألقت كلمة في محفل عكاظ في الصالحية؛ فرحنا واستبشرنا خيراً. تمنى كثيرون منا لمس ورقة الخطاب البسيط الذي ألقته هذه الصبية في محفل رجال بدفع من والدها المتنور؛ فأحدث ضجة تعادل خمس قصائد ينظمها رجال! كان مجلسنا يتحسس ما حوله برهافة أصواتنا وضحكاتنا تتعالى شعراً ونثراً وأدباً وسياسة، هذا بثيابه الإفرنجية وذاك بثيابه الشعبية: دشداشة وسبحة باليد، وذاك بعمامة وجبة أو عباءة، فلا تعرف بيننا من هو السني، ومن هو الشيعي،أواليهودي، المسيحي أو المندائي، العربي أو الكردي أو التركماني. نتكلم لغة واحدة، ولكن لكل منا في داخله لغته أو لهجته أو دينه أو طائفته والتي لا يحتاجها إلا لماماً! أنفاس صادقة كانت تريد أن تبني روح العراق الواحد، لكنني وأنا بينهم كان بالي يسرح خائفاً: أقول لنفسي ثمة من يجلسون في أماكن أخرى؛ يتحدثون بلغة الطائفة، ولغة القومية؛ ويعملون من بعيد على قلب مائدتنا فوق رؤوسنا، ونثر سمهم في هذه الأرض الطيبة، حتى يصير شجرها حطباً، وماؤها علقماً، ونصير كل تحت كوكب تائه خارج عن مداره، فيداهمني الحزن والخوف، وأعب من الشراب لأسكت عواءهم في رأسي!

كنا نعرف الدنيا على الجهة الأخرى كئيبة معتمة، قحط، جوع قسوة فراغ وعطل متواصل، قتول وسلب ونهب. ظلام شاسع أكبر من صحارينا، أطفال يموتون في مهودهم بينما أمهاتهم تغنين لهم ليناموا، لكنهم يموتون على وقع أغاني الأمهات! هل كانت أغاني الأمهات حزينة إلى هذا الحد؟ هذه الوجوه، هي الآن أرواح هائمة في سماء أخرى، ذكريات، ظلال، ربما البعض يقول إنها ثقيلة الدم، أو خفيفة الدم. لا يهم! لا نريد اليوم ان نعتصر تلك الظلال لنرى إن كانت تنضح دماً أم خمراً أم عطراً؟ هي ظلال، لكنها لم تتلاش برحيل أصحابها، ما زلنا نركن لأعطافها الجميلة. ثمة رياح تريد ان تبددها، وجوه جميلة تحاول اليوم الخروج كالبراعم من تحت صمت الأبدية! كلما تشتت صحبتنا الجميل تعود لتلتئم: والآن كعادته إبراهيم حلمي العمر يأتي قبل غيره؟ ها هو يطل علينا. اعترت الجهنمي رعشة. فهو بقدر ما يحبه، ويقول إنه أستاذه وقدوته الصحفية: يخشاه أيضاً. ترتجف أعماقه رهبة منه، كنت في ذلك الزمن البعيد أتأمل سر العلاقة بين الجهنمي والعمر من خلال ما يحدثني به العطار عنهما. كان الجهنمي يقول إنه خليفة إبراهيم حلمي العمر، لكن العطار يعترض: لا، إبراهيم كان رائداً مقداماً! لا يوجد صحفي تحمل الأذى والعذاب من أجل مقالته الصحفية كما إبراهيم حلمي العمر. هو مجد المقال وعليائه، أول من تجرأ على القول إن المقال أهم من القصيدة، مؤكداً: نحن أمة تعاني تخمة من الشعر. الشعر عندنا أكثر من الشعير! لا يوجد لدينا مقال جيد يصل كالسهم إلى قلب المأساة. لكن العطار الآن صار يقر ان الجهنمي هو ظل لإبراهيم حلمي، طيفه أو شبحه!

(74) الجسر يفر بإبراهيم العمر من قلب بغداد، ويصير النهر فجأة محبرة كبيرة؛ لكلمات لا تنتهي!

حدث ذلك منتصف نيسان 1902. يوم مشمس في بغداد لكنه سريع الريح. دفء وعبق قداح يهب على الضفة محاذياً رائحة السمك، لا يخالطها ولا تخالطه. قلب الفتى إبراهيم اليافع، الذي لم يبلغ السابعة عشرة، يتفتح للحب ويطير عالياً. كان على الجسر الخشبي متجهاً إلى الرصافة، حيث بيت خالته في السنك. ليرى ابنتها الجميلة الفاتنة نزهت، فهو قد فارقها منذ وقت طويل، منذ يومين، هما دهران في ليل العاشقين! لم يكن قد تريق. شرب استكان شاي فقط. كان مؤمناً بأغنية انتشرت في بغداد هذه الأيام "خدك الككيمر، وأنا اتريك منه". يحلم أن ينهل من خدي نزهت القيمر والعسل وعطر الورد مع رغيف خبز ساخن من تنور خالته "حليمة" أم نزهت، ثم يغرق بابتسامة حبيبته، وشفتيها المشعتين بدسم خفيف. ساحرة ضحكتها القصيرة أوسع من قمر مكتمل، يحتضنه وجهها الأبيض، وعيناها الواسعتان والشعر الفاحم. وعند الباب في غفلة من الخالة الفرحة بهذا الحب، والمتصنعة الممانعة والدلال، يحتوي نزهت بقامته الممشوقة، وكتفيه القويين، ويقبلها بحرارة التنور الذي ما يزال مشتعلاً، يطلع أرغفة الخبز بسخاء، فرغم الفقر كان القلب والتنور يهب الكثير! مم يخاف؟ ثم هو سيتزوجها لو وقفت الدنيا كلها في وجهه! فجأة يرتجف الجسر تحته كأنه يؤخذ برجفة حب، وعناق مضطرب مع جسد النهر الصاخب. لكن قلب إبراهيم لا يهتز ولا يرتجف إلا لنزهت. سمع صوت تهتك أسلاك، وتقطع حبال، واصطدام أخشاب بأخشاب، وأخشاب بماء، وماء بماء، وفجأة يفر الجسر القائم على صف من السفن بعيداً بما يحمله من بشر ودواب وأشياء. أختلط صياح البشر بنهيق الحمير وحمحمة الخيول. الحيوانات اندمجت مع أصحابها الهلعين المذعورين، أبناء المدينة من بدو وريفيين لم يقبلوا دخول الجسر، إلا بعد إلحاح وكلام كثير من أصحابهم. كانوا يستكثرون الأتاوة التي عليهم دفعها للرجل التركي اللجوج الثرثار الجالس عند مدخله. وها هي مخاوفهم تظهر في مكانها تماما. كل أشياء الترك وأهل المدينة المتعاونين معهم؛ غدر وخيانة. وهذه المرة تأتي فوق لجة النهر وهو في قمة فيضانه. الموت في الصحراء أرحم من موت في نهر جارف. تعالى الصياح والبكاء وإبراهيم حلمي العمر لا يغوص في لجة النهر بل في لجة أفكاره! اعتراه صمت غريب وتفكير عميق! خطر له أن الجسر لا يفر بهم جنوباً وإلى البحر، بل إلى عالم آخر . ثمة ومضة هائلة أشعلت شيئاً في عقله: أن هذا الجسر يفر من مستنقع على الضفتين يزخر بتفسخ وعفونة نتنة لم تعد تطاق، وإن ثمة في خشب الجسر، لهب كامن يستعر، ولكن هل خلا قلب بغداد من لهب يستعر أيضاً؟ هو الآن قلب صامت بلا نبض، والجسر قرر أن يجري مع النهر، ثمة حلم كبير يستيقظ داخل مائه الهائج. استسلم إبراهيم لطريق هذا الحلم المائي الملتوي المتعرج الهادر. راح الجسر الهارب ينحدر مع الحلم المعربد فجأة. أخذ يتأمله بهدوء لا خائفاً ولا قلقاً، يحس أن الجسر قد مل وتعب من مكوثه في قلب بغداد المتحجر، وإنه ثار الآن وتمرد باحثاً عن عالم آخر، وإذا كان الناس التي تدب على ظهره مع دوابها وكلابها وهمومها لا تريد أن ترحل، لماذا لا يرحل الجسر المربوط على سفنه الأسيرة وهي التي خلقت للإبحار؟ سيرحل إبراهيم مع الجسر أنى رحل، ويحط أين يحط، سيقول لأهل بغداد: لا ترحلوا عن بغداد بأجسادكم فهي جميلة طيبة على كل حال ولا تتركوها للأتراك أو غيرهم من الغزاة! ارحلوا كما هذا الجسر بعقولكم وأرواحكم! إلى عالم آخر، حيث الحياة والنور. ثوروا ! تمردوا! لقد ثار هذا الجسر الخشبي على ضفتيه الوسختين الآسنتين. لماذا لا تثورون مثله، وتركلون حياتكم الآسنة؟ لماذا لا تحسون مثله؟ هل خشب الجسر أكثر إحساسا من لحوم أجسادكم البدينة؟ انشغل إبراهيم بأفكاره التي صارت أكثر جريانا من ماء الفيضان. وراح النهر المتفجر معه يكتب مقالته. كثير من اللذين على ظهر الجسر المفكك سفنا متعددة، انشغلوا بدوابهم وجمالهم وخرافهم وقد اعترتها هستيريا، فراحت تلقي نفسها في أمواج النهر العكرة الفائرة. حتى أقفاص الدجاج والخضيري والبط زحفت مثل كائنات جديدة وقد فز بها حلم الماء. بغموض فكر إبراهيم إنه مهما ابتعد عن حبيبته مع حلم النهر فإنه سيقترب منها! وكلما ابتعد به الجسر الشارد من قلب بغداد المشتعل بآلامه فإنه سيقترب من بغداد وحبيبته! كيف؟ لا يريد أن يعرف كيف. يكفيه هذا السلام والأمل العظيم والدفء الذي غمر قلبه، سيكون بالتحامه بحلم الجسر المتمرد أكثر قرباً منها، سيلقاها حتما. ولكن ليس في بيتهم الصغير بالجعيفر، ثمة مكان آخر واسع مضيء، يفيض بالحياة مهما اكتنفتها من صراعات وهموم ومشاكل عويصة!

عندما سمع الوالي العثماني بتمرد الجسر على سلطته وهروبه، خرج من القشلة غاضباً يضرب بسوطه ذي المقبض الفضي من يصادفه من الجندرمة والموظفين، والناس في طريقه! استطاع الجندرمة مع شبان مفتولي العضلات إلقاء القبض على الجسر المتمرد في إحدى التواءات النهر، وجلبه مخفوراً مقيدا بسلاسل من الحبال وتوقيفه في مكانه! أمر الوالي وهو يفتل شاربيه بجلد الجسر ألف جلدة ودق خوازيق متينة طويلة في دبره، وبنفس الحدة والقسوة التي يستعملونها في دق الخوازيق بأجساد المتمردين عليهم من أهل البلاد! كيف يتجرأ ويتمرد على سلطان الباب العالي، وحكم آل عثمان؟! قبل أن يبدأوا بالجلد ودق الخوازيق، أتوا بشيخ ضرير قرأ آيات من القرآن،أعاد أكثر من مرة الآية "يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم!" ثم توقف فجأة، ورتل كلمات مقتطعة من حديث ينسب إلى الرسول: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" مجودة حتى ظنها البعض آية قرآنية " فصاح بعضهم مع الجندرمة "صدق الله العظيم". بدأ الجندرمة بضرب الجسر بسياطهم الجلدية الطويلة! استغرقوا بالضرب وقتاً مديداً حتى حلول الظلام. استراحوا قليلاً ثم عاودوا الجلد. كانواً يخطأون في حساب الجلدات فيعيدون الجلد. طلع عليهم نهار اليوم التالي وهم يجلدون الجسر ملقين نظراتهم إلى الناس يحذرونهم من عواقب أي تمرد وعصيان! لكن أهالي بغداد الذين خرجوا جميعهم وقد هزهم هذا الحدث الجلل، راحوا ينحرون الخراف، والعجول والدجاج كل حسب حاله وقدرته. فقد عاد قلب بغداد يلتئم ولا يبقى مشطوراً إلى نصفين! جاء الوالي وقد لعبت في رأسه فكرة كما تلعب الفأرة في كرة الخيوط فتخلق من شربكتها شيئا ما، أحيانا واضحاً وعجيباً. فقد تذكر أن هذا النهر الذي يسمونه دجلة، كما النهر الآخر المدعو الفرات هما ينبعان من تركيا. فهما تركيان بالولادة والسجل الرسمي، وهما ملك الأتراك. أي أن الأتراك هم من يسقون العراقيين الماء. أوعز لفريق المنادين التابعين لبلدية بغداد ومعظمهم من العميان، بالدوران في شوارع وأزقة بغداد ليصيحوا بصوت واحد وهم يدقون الطبول: دجلة والفرات نهران تركيان وهما يتكلمان بالتركية ومع الوالي فقط، وقد أعلم الوالي النهر إنه إذا كان قد تسامح مع الجسر السيئ الأخلاق ولم يحرقه، فإنه سوف لن يتسامح معه في المرة القادمة، لذا عليكم يا أهل بغداد أن تقفوا على الجسر، وتحذروه أن لا يهرب مرة أخرى، وإلا سيكون مصيره مصير كل مجرم تسول له نفسه التمرد على مولانا الوالي! هرع الناس من الأزقة والطرقات البعيدة صوب الجسر الخشبي الذي بدا وفي وقفته كمتهم حكم لتوه محنى الرأس وخانعاً وقد أخذ حصة سخية من العقاب! بذلك حقق الوالي أكثر من هدف: أعلمهم أن الماء الذي يشربونه تركي عثماني، وإن عصب حيلتهم كلها بيد الإستانة، والأتراك يمكن أن يقطعوا عنهم الماء فيتحولوا في ليلة أو ليلتين إلى حطب في أرض قاحلة. وإنه أنذرهم بقطع رقابهم إذا تمردوا! كما حقق زيادة القطع النقدية التي سيضعها الناس في كيس جندرمة الجسر حين يقفون على الجسر ويصرخون في وجهه كالمجانين: لا تعص أمر والينا العظيم!

ليست هذه هي المرة الأولى التي يهرب فيها الجسر من ضفتيه وتتفكك سفنه وتتفرق، تحت أقدام المارة وما يجرونه وراءهم من أمتعة وبضائع ودواب وأغنام وخيول وجمال. صارت عادة سيئة لهذا الجسر اللعوب المكون من ألواح عريضة مشققة منضدة فوق زوارق مربوطة بحبال وزرد صدئة، ويقف على مضض تحت أقدام أناس معظمهم حفاة، يرتدون أسمالاً مهلهلة،في لحظة تتمرد عليهم أشياؤهم وحيواناتهم، وتفر مسلمة نفسها لماء النهر العالي العكر يسوقها أين يريد. كانت تترتب على ذلك أشياء محزنة كثيرة ليس فقط غرق أطفال وعجائز ورجال ونساء في هلعهم، وخيول وجمال تلقي نفسها في الماء كانتحار حيواني لا يصغي لدموع أصحابه المستعدين أن يضحوا بأبنائهم من أجل حيواناتهم، فكثيرون هنا كانوا يؤمنون بمقولة: "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"!. كانت تحدث تداعيات أخرى. فكم عروس كان يزفها أهلها إلى بيت عريسها على الضفة الأخرى هرب بها الجسر وتخلى فيها عن واجبه في هذه اللحظة السعيدة وقلبها نكداً وشقاءً في الماء. فيرى أهل العريس أن هذا نذير شؤم وإشارة واضحة من الله لفسخ هذه الزواج المشئوم، فيفترق العريسان كل إلى نصيبه. فتحرم كائنات جديدة من الوجود. أو يصير لها وجود آخر! وكم من مريض خرج به أهله للبحث عن طبيب أو معالج هو عادة حلاق أو ملا يستعمل القرآن والأعشاب في الطب، فيجدون في هرب الجسر إشارة من الله أن يعودوا به إلى بيته ليسلم الروح على فراشه الرث بسلام. لكن بعض التداعيات طيبة: فقد يزمع رجل يحمل سلاحه تحت ثوبه أن يقتل أو يسرق؛ فيرى أن هرب الجسر به اختياراً من الله لرده إلى الصواب فيعمل مع النوتين على إنقاذ الجسر، وينقذ معه نفسه مما حاق بها من شر، ثم يجد عملاً نوتياً على سفينة عابرة أو في صيد السمك أو الزراعة على الشاطئ. ثمة رجال ونساء بيوتهم على الضفتين حولوا الجسر، إلى خرزة استخارة فيقدمون أو يحجمون عما أزمعوا عليه تبعاً لتفسيرهم معنى هروب جسر من قلب مدينتهم، ليتركها ولو لأيام أو ساعات لا يلتقي أهل الرصافة بأهل الكرخ!

وقفت الأم والخالة والحبيبة كل على ضفة ينتظرن إبراهيم! لم يظهر لا من الجسر العائد إلى بيت الطاعة، ولا من أي مكان ما على اليابسة. انتظرن طويلاً، ولم يظهر له أثر. توقعن إنه غرق مع الحمير والجمال، فتعالى بكائهن وعويلهن. يصعب عليهن أن يتوقعن ما حدث له. كان قد ترك رأسه يمتلأ ويتفجر مع النهر المعربد الصاخب بالكلمات المبهمة! انتهى من كتابة المقالة في رأسه. قرر أن يذهب حال رسو الجسر إلى جريدة "الرياض". كان قد رأى اسمها ومكانها في دورانه مذ كان في الابتدائية حول المكتبات ومقرات المطابع، وبعض الصحف بحثاً عن كتاب أو جريدة أو في تغذية أحلامه بنشر ما يرى قلمه يجود به عليه من تجليات إنشائية عكس حاله في الدروس الأخرى! ولم التردد؟ ألست أنا كما يقول مدرس العربية؛ أفضل طالب يكتب الإنشاء في المدرسة؟ بل في بغداد والعراق كله، كما قال المدير؟ ظل يعيد ويوسع مقالته، يكتبها بماء النهر، وقد صار حوضه محبرة هائلة. وجد إن عليه نهل حبره منها العمر كله للكتابة حتى يستنفذها ثم يموت بهدوء وراحة تامة. تلك هي رسالته في هذه الدنيا التي أعلمه بها الجسر الثائر! وسيهجر حبيبته من أجلها! سيدون كلماته الآن على إيقاع الموج الهادر والجسر المتمرد النافر. عليه أن لا ينسى هذا الإيقاع في كل ما سيكتب في قابل الأيام. سوف لن يكتب رسائل الحب لنزهت بعد الآن، بل مقالات في السياسة تعلمها من الجسر الذي صار صديقه ومعلمه. همس لنفسه: مقالات قد تبدو في السياسة لكنها في الحقيقية هي رسائل حب لبغداد والعراق كله، وبالطبع سيكون لنزهت فيها نصيب. أو هي في الحقيقة كلها رسالة حب إلى نزهت عبر أهل بغداد، كل يأخذ نصيبه في هذه الدنيا ويمضي! دون أن يلقاها بعد الآن، لوثة جنون لكنه أقنع نفسه أن فراقها سيهب أعماقه للكتابة! غلبت الجسر هجمة النوتين وشدة الريح وانحراف الأرض فرسى جهة الكرخ . ما أن وطأت قدما إبراهيم يابسة بغداد حتى ركب مع صياد زورقاً صغيراً وعبر إلى الرصافة. نزل تحت أطلال الجامعة المستنصرية. زادت أحجارها وأروقتها المهجورة من حدة المقالة في رأسه. لوى قدميه وقد سارت باتجاه بيت حبيبته، واتجه بخطى سريعة ثابتة إلى منطقة جديد حسن باشا حيث مكتب جريدة "الرياض". التقى هناك بصاحبها سليمان الدخيل. قال له إنه يحمل للجريدة مقالاً هاماً. مد الرجل يده يريد المقال معتقداً أن هذا الصبي مجرد رسول من أحد الكتاب. أشار إبراهيم إلى رأسه قائلاً " إنه ما يزال هناك". قال "هناك" لأنه يشعر إن رأسه ليس فوق كتفيه، بل ما يزال هناك بعيداً يصطخب فوق الجسر الغضب الهائج! والمقال يفور في مخه مع دوامات وتيارات ماء نيسان في حوض النهر. دهش الرجل وراح يتطلع إليه مستغرباً. رآه شاباً وسيماً وديعاً بملامح حزينة بادية النباهة والتوثب، فاطمئن له وغدا صبوراً معه. ومع ذلك ظنه قارئاً جاء ليقدم شكوى. أشار له إلى منضدة قريبة. قدم له أوراقاً وقلماً. جلس إبراهيم على الكرسي المكسور الذراعين وراح يكتب! كان ما يزال يصغي للجسر أكثر مما يصغي لصاحب الجريدة. سمع الجسر يهمس له: أنا لا أكره بغداد، بل أكره ما يفد إليُ من روائح الضفتين، وما يتفوه به الناس عندي من كلام ومجادلات تختلط بخوار أبقارهم وحمحمة خيولهم، وصليل سيوفهم وسكاكينهم! راح يكتب مبتدئاً بسؤال: لماذا تفر الجسور من قلب بغداد؟ الآن قلبها هوة سحيقة لا قرار لها؟ أم لأن الضفتين مجرد مستنقعين من الأوحال والأوساخ والأزبال؟ من يستطيع أن يبني جسراً ثابتا يربط شطري القلب كما في كثير من مدن الدنيا؟ كانت مقالته بوحاً حالماً: نذرت نفسي داعية لجسور كثيرة ثابتة متينة قوية تربط شطري قلب بغداد، ومن أجل ضفتين نظيفتين جميلتين لا تجعل حتى الخشب يضجر ويفر منها! وسيكون همي ورسالتي في الدنيا صناعة الجسور. ليس من الحديد والحجارة بل من الكلمات، ستكون أقوى من الصخر والفولاذ إذا وضعت في مكانها الصحيح! لا بأس أن أنسف أو أدمر جسراً هنا أو هناك، إذا كنت أنوي بناء جسر أفضل منه. سيكون النهر بحومته الفائرة المشتعلة دواته الهائلة الطافحة بالحبر لا بعطر النساء الجميلات؟ إنه حبر غريب الرائحة، يقتل من يدخل لجته، حتى الحيتان تموت فيه مسممة ضالة مشردة! لكنه سيخوض غمار المعركة. لن يبقي قلب بغداد هوة سحيقة لا يغامر بطل في محاولة أعادته إلى نبضه السليم المعافى! صارت الأوراق تتموج مع الفيضان بين يديه، أودعها كل شجونه، غير مكترث لما يسمى وحدة الموضوع ومركزه. طالعها الرجل ثم راح يبحلق به ويسأله عن عمره، مقال بهذه الروعة من هذا الصبي؟ أهذا معقول؟ تلفت الرجل حوله. هل ثمة شياطين وأشباح دخلت الحجرة ولم يرها كتبت هذه الصفحات؟ ربما لفرط نشوته وقع على نشره دون التفكير بالعواقب! وكانت الصحيفة ستصدر في اليوم التالي. مقال سيدخل تاريخ الصحافة مثل نسمة ربيع. ما أن دخلت الصحيفة القشلة حتى أثارت زوبعة خريفية مرعبة! راح الوالي يرغي ويزبد. أرسل الجندرمة لتلقي القبض على الكاتب، ومن نشر وطبع له! كان الوالي يتصور إنه سيرى كاتب المقال رجلاً كبيراً بلحية مشذبة وثياب أنيقة وربما بعمامة ووقار متدينين متنورين صاروا يتململون يريدون ان يخرجوا عن سلطة العثمانيين، بعد ما أجرى السلطان مما سميي بإصلاحات وتغييرات. لكنه رأى أن من يقف أمامه الآن تلميذ مبهدل الملابس، أقرب لصعلوك متشرد. هذا الصبي يريد أن ينتزع العراق من قبضة العثمانيين ملوك المشرق والمغرب، ويربطه بجسور مع العالم الآخر؟ من أنت أيها الصغير الأرعن؟ صرخ بوجهه، وقبل أن يجيب الصبي الكاتب العبقري، صفعه الوالي بقوة. وحين ترنح وكاد يسقط انهال عليه يركله ويضربه بهراوته الغليظة، صائحاً بلغته المكسرة: "يشتمني ميخالف، بس يشتم باب عالي يكسر راسك!" تعب من ضربه، وراح يلهث. وضعوا إبراهيم في سجن القشلة. أعلموه بأنه سيشنق في الصباح الباكر. ظل الليل كله يسترجع ما جرى. كيف قلب الجسر المشاكس موعده الجميل مع نزهت الفاتنة الطيبة، إلى موعد مع المشنقة. أهكذا تتطور الأمور في بغداد؟ ذلك زاده غضباً وعناداً وتشبثاً، بمواعيده الجديدة مع الجسور. راح والده يستنفر رجال محلة سوق الجديد حيث يسكنون، فوصلوا إلى وجهاء في بغداد. ذهبوا بوفد إلى الوالي يرجونه إطلاق سراح هذا الصبي الغر. قال أحدهم وهو رجل دين : إنه يا مولانا الوالي لا يزال بأسنانه اللبنية، وسينحني لكم بعد أن نبت له في السجن حتما سن العقل! قال آخر " ولد أثول مسكين لعبت أمواج النهر برأسه" أطلق الوالي سراحه مهدداً: "كلمة وحدة مرة ثاني راح يكسر راسه"! ولكن إبراهيم لم يتب. عاد يكتب وبلهجة أشد حدة. كانت الدولة العثمانية قد أخذت تضعف وأوربا كلها تسميها الرجل المريض، لكنه مريض يحمل هرواته. ومهما ضعفت الدولة تظل أقوى من الفرد، بل ربما كلما ازدادت ضعفاً زادت قسوة على الفرد. ما أنقذه هو أمر همايوني بنقل الوالي. لم يتخل عنه سليمان الدخيل صار صديقه وحاميه، رغم فارق العمر الكبير بينهما، أخذ يناديه ولدي وصديقي إبراهيم! أهداه عدة حلاقة ليسارع بإظهار شاربه! كان شاباً بسيطا نحيلاً خجولاً، لكنه يتميز بإمارات الرجولة والقوة! قال له ليتك أهديتني جلد ثور لأتقي به هراوة الولاة العثمانيين! لكن المصيبة إنه لم يكن يعرف أو لا يريد ان يعرف أن نزهت أخذت تذوى وتنهار ويبدو عليها شحوب الموت، لكنها صارت أكثر جمالاً!

(75) جسور تهرب من بغداد في مجرى الماء، وجسور تهرب بمجرى الأيدلوجيات!

انهمك العمر ببناء أو نسف الجسور الكبيرة، ونسى جسره الصغير إلى قلب نزهت، ومع ذلك ظلت تنتظره، رفضت كثيرا من الذين تقدموا لخطبتها، فجمالها وعفافها حديث الناس في المحلة. الجهنمي الذي يدعي إنه "ظله" يقول إن إبراهيم لم ينس حبيبته، ولم ينته كل شيء بينهما. في بغداد لا تنتهي حكاية أبداً، خاصة حكاية الحب! في كل مدن الدنيا يمكن أن تنتهي الحكايات إلا في بغداد تظل الحكاية متواصلة مقتفية خطى ألف ليلة وليلة بأحزانها، وأفراحا ونبضاتها الكثيرة، تظل تتراكم حتى لو رماداً فوق رماد، وعشاق بغداد يبكون حتى في قبورهم! صار إبراهيم أعجوبة الصحافة الناشئة لتوها. طالب لم يتجاوز السابعة عشر بعد؛ يكتب بهذه البلاغة والقوة والوضوح. قال أحدهم: إننا أمام عبقرية كبرى. قديما كانت العبقرية العراقية تتجلى في الشعر. واليوم تتجلى في الصحافة، وهي فن المستقبل! عقب المؤتمر العربي في باريس وصيحته القوية مطالبا بحقوق العرب. أصدر السياسي القومي مزاحم الباججي جريدته "النهضة" عام 1913, اختار قلم إبراهيم العمر ليكون الرفش الذي يعبد به طريق فكرته الجديدة عن الأمة. صار رئيساً للتحرير. وهو دون العشرين، أشعلت مقالاته النارية غضب الوالي العثماني الجديد، فأصدر أمرا باعتقاله مع الباججي، لكنهما استطاعا الهرب إلى البصرة، ولجئا عند طالب النقيب! إذا كان الأمر قد انتهى بالنسبة للباججي؛ لكونه شخصية كبيرة غنية ومتنفذة. لكنه لم ينته بالنسبة لإبراهيم الفقير المعدم الذي كان أبوه قد مات لكثرة ما أنهك من التوسل بهذا أو ذاك في محاولات إنقاذه كلما زل به القلم، وكاد يكسر رقبته. الوالي لا علم له بقرار الوالي السابق بإعدام إبراهيم فيما لو كتب كلمة أخرى ضد العثمانيين، فاكتفى بنفيه إلى تبليسي عاصمة جورجيا. نقلوه فجأة إلى دمشق، فاصدر جمال السفاح حكما بإعدامه. اقترب من حبل المشنقة، مع تلك الكوكبة من شهداء الشام الذين أعدمهم السفاح في دمشق. لولا أن تدخل صديق له من بغداد كانت تربطه بجمال السفاح صداقة قديمة! وبعد أن دخل الجيش العربي دمشق أصدر إبراهيم جريدته لسان العرب، أٌعجب الشوام بأسلوبه وجرأته وحماسه فالتف حوله كثير من الكتاب والمثقفين. عاد إلى العراق مع عودة فيصل الأول وقيام المملكة العراقية؛ فاصدر جريدته لسان العرب، ثم استبدلها بالمفيد، كتب في افتتاحية جريدته مقالته الشهيرة "سوق النخاسة ممتدة من جنيف إلى بغداد: صفوف طويلة من عواهر ولصوص السياسة!" فثار الفاسدون عليه، وصفق له من كان يريد بناء دولة نظيفة.

ظل النهر الذي صار دواة حبر يسيل من قلم إبراهيم العمر، متفجراً جارفاً. فجأة طرأ عليه أمر غريب رغم إنه مبهر، صار يكتب مقالتين أو ثلاث مقالات في يوم واحد، وفي ثلاث صحف مختلفة متناقضة متعادية، كل مقالة تنقض الأخرى، أو هي مضادة لها! ما معنى أن يصدر صحيفتين أو ثلاث مختلفتين متنافرات في مصالح متناقضة في آن واحد؟ قالوا أنها طاقة عارمة، سيل جارف يصادفه سد؛ فيتفرق إلى جداول، لكن آخرين قالوا إنها انتهازية، عبث مدمر، ارتزاق وابتذال للكلمة. قال البعض أنها لوثة تستدعي علاجاً طبياً، اسماه آخرون تفجر العبقرية ضد نفسها، دبيب تأنيب الضمير حد انحلاله، عوز يبحث عن رفاهية، تشخيصات شتى! اصدر المندوب السامي البريطاني قراراً بتعطيل جريدة لسان العرب، والقبض على صاحبها، اختفى إبراهيم عن الأنظار. هرب إلى الخارج متنقلاً بين بلدان مجاورة، عاد بعد سنوات. اصدر جريدة المفيد ثانية. صب في كلماته كل آلامه وغضبه أيام تشرده في المنافي! عمل الجهنمي يومها معه في المفيد صحفياً ناشئاً، تلقى منه درسه الأول في الكتابة المزدوجة أو المثلثة. تستهوي العطار هكذا شخصيات، كان يدافع عن العمر، ويرى أنه مفكر مهم. لا يرى الحقيقة عند طرف دون آخر، وإنه يقول للعراقيين: إذا لم تعجبكم بضاعتي في هذه الجريدة؛ فهاكم بضاعة أخرى في جريدة أخرى، بل لدي جريدة ثالثة فيها بضاعة أخرى، وأين ما تذهبون متقلبين في مشاربكم وأذواقكم أنا متقلب معكم! أحيانا يصفه بالجدلي الحيوي الذي قدم الفكرة في أعلى زخم من السخرية. كان الجهنمي يقول أن العطار هو أستاذه، لكنني كنت أرى إنه في أعماقه يعد إبراهيم أستاذه، بينما هو ليس سوى طيفه الذي لا يخلو من خفة دم، ترى في الرصانة والجدية سماجة وزيفاً! قلت له مرة أنت تحاول أن تكون "العمر" فلا تستطيع. قل لي أين أنت منه؟ لم يلق صحفي عراقي من النفي والسجن والتشريد والعوز والعذاب من أجل كلمته الصحفية كما لقي إبراهيم، ماذا قدمت أنت يا جهنمي؟ فيرد بصوت متهدج: تريد أن تقول إن إبراهيم فيلسوفُ جدليُ، وأنا مجرد مرتزق متهتك مبتذل؟ لا يا صديقي أنت تظلمني. كلانا يحركه الجدل، وشعوره أن الحقيقة مقسومة نصفين أو ثلاث أو حتى أجزاء متناثرة. أما إنني اصرف مالي على الخمر، والقحاب فتلك قضية أخرى!

توقف العطار عن الحديث تلفت حوله. ويرين الصمت علينا، كان الجهنمي قد تركنا إلى الحمام، سيجارته لا زالت على طرف المنفضة يتصاعد منها حبل رقيق من الدخان مثل أفعى رشيقة. قال العطار: العمر كان يجمع ظلال الجادين والهازلين في ثقافتنا. بل هو جدهم وهزلهم، حزنهم وفرحهم، صوفيتهم وحسيتهم. روح هائمة مجرحة معذبة بنفس الوقت لديه القدرة على أن يكون هو وحده ولا أحد غيره، يداوي جراحاتهم بقدر ما يطعنهم ليستفيقوا، يقولون إنني صنعت الجهنمي من أوهامي ورغباتي. ربما، الجهنمي ليس تلميذاً لإبراهيم حلمي بقدر ما هو صنوه المصنوع من طينة هذه الأرض المليئة بالطهر والعهر! وأصمت لا أدري ماذا أقول وقد اختنقت بحزني متذكراً إنني في يوم بعيد قسوت على الجهنمي حين حاولت سلخه من لحم إبراهيم العمر، فكثير من الأشخاص تكمن عظمتهم في أنهم يرتضون بأن يكونوا ظلالاً لأساتذتهم، أو لغيرهم دون أن يدعوا أنهم أساتذة لآخرين، أو يورطوا الناس خلفهم في مسارات أليمة قاسية. سألته لماذا لم تكتب رواية عن العمر من خلال الجهنمي؟ قال لقد كتبت، وكلما توغلت في الكتابة أشعر إنني لم أعرف الجهنمي رغم عشرتي الطويلة له، ولا العمر رغم إن شخصيته وحياته العاصفة استلبت عقلي وقلبي. ومع ذلك مضيت في الكتابة؛ ركزت على رؤى تتعلق بعذاب الكاتب حين يحمل على كاهله مهمة بناء الجسور فوق الماء أو الهواء والدخان. يمدها بعيداً أو ينسفها إذا اقتضى الأمر، أو إذا وجد نفسه أمام واجب قطع قطبين للشر عن التواصل. استغرقت في كتابتها شهوراً وسهرت معها ليال أرق طويلة. أسميتها "الجسور المهاجرة" اتفقت مع ناشر لطبعها لأقدمها هدية مفاجأة لهما معاً. ذلت صباح نيساني تهب نسماته باردة بعض الشيء، وضعت مخطوطة الرواية في كيس ورقي، وخرجت متجهاً إلى شارع الرشيد. حيث مكتب الناشر. وأنا في الطريق أخذت الدنيا تمطر. لذت بمقهى صغيراً منتظراً توقف المطر الذي كان ينسكب بمزن ثقيلة طويلة. توقف المطر. خرجت من المقهى. كانت الشوارع قد تحولت جداول متدفقة بمائها العكر الوسخ. تلك ساعة عمل الحمالين، يقومون بحمل الأشخاص "الأفندية عادة" على ظهورهم لقاء فلسات قليلة. ألقيت نفسي على ظهر حمال تقدم مني بنظرات متوسلة. كان متعجلاً، أسرع بي ليعود إلى زبون آخر. انزلقت قدمه فسقط بي، على تيار جارف. تحول الكيس الورقي الذي يضم الرواية إلى كتلة من الوحل. وكلمات الرواية قد ذابت مع الماء الجاري. نسيت إن بذلتي الجديدة الأنيقة نقعت بالماء الطيني، فلذت في مقهى محاولاً أن أجد بين الأوراق كلمة لم تمح، عبثاً! حاولت إعادة كتابتها. ولكن هيهات. وهج الإبداع لا يشرق في الروح سوى مرة واحدة! قلت في نفس قدر حلمي العمر مع الماء دائماً، ظلت بقايا روايته والجهنمي بين أشيائي كتلة يابسة من الوحل، والحبر الباهت، حتى غادرت بغداد؛ فرميتها مع النفايات. ورغم علاقتي الطويلة الطيبة مع إبراهيم، لم أحدثه عن الرواية كنت اعرف إنه سيقول: "يجب ان تكتب عني ثلاث روايات مختلفات متناقضات لتقترب من حقيقيتي"! سمعت منادي محكمة الشهداء ما يزال ينادي: المتهم يوسف سلمان الملقب بفهد، أحست بالصمت بيننا يهبط عميقاً.

عاد الجهنمي إلى المائدة، لا بد إنه سمع نداء المحكمة. أشعل سيجارة جديدة، احتسى كأساً طافحة بالعرق. مسح شفتيه بمنديل قماش . قال: أتذكر إنني عام 1934 أخبرت إبراهيم حلمي العمر، أن جماعة من العراقيين أسسوا حزبا شيوعياً. قلت له:

ـ هذه أمنيتك قد تحققت، هم سيبنون جسراً إلى العالم.

ظل صامتا. ربما تذكر وقفته على الجسر الهارب التي ما كان قد نسيها يوما، قال بهدوء لا يخلو من غضب:

ـ لا، هم سيبنونه إلى موسكو فقط! والأفظع إنهم سيهدمون كل جسر بني، أو سيبنى إلى العالم!

ـ هم يقولون انهم سيبنون جسوراً بين الناس، كانت قد هدمتها الأديان والطوائف والأعراق!

ـ لا تصدق، هم فقط سيهدمون الجسور بين الطبقات، وكل جسر،دون أن يبنوا شيئاً!

ـ ليس ذنبهم، الحكام لن يسمحوا لهم بذلك!

ـ لا ينبغي لأحد ان يهدم شيئاً، إذا لم يكن واثقاً أنه سيبني أفضل منه!

ـ المهم إنهم بنوا جسراً بين الإنسان ونفسه، جعلوه يعي وجوده، ووضعه!

أطلق ضحكة غريبة قال:

ـ بل قل إنهم يهدمون الجسر الذي يربط الإنسان بروحه وعقله، ويبنون له جسراً وحيداً مع عقل آخر يفكر نيابة عنه!

ـ ألا تعتقد إنك تهول الأمر؟

رد بغضب:

ـ وهل هناك هول أشد قسوة من زج الناس في طريق المحال؟ حيث يكدح الناس ويكافحون ويجهدون، ثم في النهاية لا شيء؟ هذه المرة لن تهدم الجسور، لن تفر من قلب بغداد، بل ستبنى جسور فوق انهار من الدماء!

قال العطار: هذا شأن الأيدلوجيات المتحجرة كلها هدم الجسور، مدعية أنها تبنيها بين قمم الجبال!

(76) اسألوا جذور الأشجار عن ثمارها الفاسدة!

تعالت في الباحة صيحة الحاجب " محكمة "، مستفزة عظام الشهداء، أقبلت هيئة المحكمة تسير بمهابة رغم أنها محض هياكل عظمية شبه مفككة مقاربة لرماد لو كان فوق الأرض لذرته الرياح، مع رماد شهداء كثيرين من قبل. كان يونس يفكر بذلك، ويفكر أن ذلك الرماد الذي يعلو هياكلهم العظمية المتداعية أكثر هيبة من تلك الجبب القضائية القشيبة والموشحة بأشرطة ذهبية أو خضراء والتي يتبختر بها القضاة عادة في محاكم أهل الأرض. كان من الواضح على وجوه هيئتها التي تخلصت من الجلود واللحم والشحم أنهم يعودون لعقد محكمتهم بعد أن استقروا إلى قرار قاطع مفيد. شخصت إليهم كمحكمة أبصار الجميع متلهفين لجلستها أو معترضين. اعتدل رئيس المحكمة في جلسته مسنداً فقرات عموده الفقري لظهر مقعده الصخري مما أوحى أن المداولات قد انتهت لصالح رأيه وطروحاته المصرة على المضي بالمحاكمة، لتصل إلى جذور الأشياء وبدايات هذه القضية الكبرى كلها!

قال بصوت حاول تحاشي النبرة الرسمية المتصنعة المخيفة في المحاكم الأرضية:

ـ باسم شهدائنا نفتتح الجلسة!

نهض أحدهم، وكان من المناصرين للمحكمة، بهيكله المبري الأهيف كقصبة جافة متسائلاً

ـ لم لا تقول باسم الشعب؟

رد رئيس المحكمة بهدوء :

ـ لأننا لا نمثل الشعب، كما يقول قادة الحزب، نحن فئة صغيرة منه، وقد أدخل هؤلاء القادة في روعنا أننا كل الشعب، بل نحن لا نمثل كل شهداء الحزب، وإذا صادفت دعوتنا قناعة أكثرية شهداء الحزب فذلك شيء حسن!

صمت المعترض وراح يفرك وجهه العظمي براحتيه العظميتين وكأنه يرد عن نفسه صدمة شعوره القديم بتحطم أكذوبة أن الحزب يمثل الحياة كلها، والكون كله، أضافت عضوة المحكمة "هدى" :

ـ من يريد من الشهداء الحاضرين؛ رفض تمثيلنا له يستطيع الاعتراض!

دق عشرات من الشهداء بعظام أيديهم على ما بجنبهم من حجارة، لوح آخرون معترضين وكان من الواضح أنهم أقلية بين الحشد الهائل الذي كان مؤيداً للمحكمة، متطلعاً إليها بأمل وترقب.

أخذ رئيس المحكمة يقرأ القرار:

بعد جلسات عديدة للمحكمة، استمعت فيها لشهادات وآراء كثير من شهدائنا بينهم باحثون وكتاب ومفكرون لم تتح لهم الشهرة لانغمارهم في نضال طويل. تأكد لنا ما كنا قد توصلنا إليه سابقاً: الشيوعية فكرة خيالية طوباوية مستحيلة تريد أن تحشو لحم البشر بجلود الملائكة، وإن زج العراقيين في نضال طويل مرهق من أجلها كان تضليلاً ومغامرة طائشة ومدمرة! لذا اقتضى محاسبة من قام بارتكاب ذلك عن قصد وسبق إصرار. من المراجعة التاريخية يبرز يوسف سلمان يوسف الملقب بفهد متهماً أول فيها. وما كنا لنحاسب فهد لو إنه اقتصر على الدعوة الحرة لفكرته،معرفاً بها في كتب أو خطب ودراسات، لكنه بنى لها تنظيماً حديدياً لهدم الدولة الناشئة، وفرضهاعلى الناس بالقوة، وبما يسميه دكتاتورية البروليتاريا! وقد أخضع الحزب للسوفييت مكرساً الكثير من أنشطته لما يخدم صراع الاتحاد السوفييتي مع الغرب. لذا قررت المحكمة استدعائه للمثول أمامها والرد على التهم المنسوبة إليه دون أن يكون هدفها العقاب أو التشهير، وإنما الوصول والاقتراب من الإجابة على سؤلنا الرئيسي: من هم المسؤولون عما حل بشعبنا ووطننا من خراب؟

وقف شهيد من أنصار قيادة الحزب سائلاً بغضب:

ـ بماذا تختلف محكمتكم عن تلك التي تشكلت بإشراف الإنجليز ونوري السعيد وأرسلت فهد ورفيقيه ظلماً إلى المقصلة؟

رد رئيس المحكمة:

ـ الفرق واضح: نحن لا نرسل فهد إلى الموت، بل نسترده من الموت. ليبقى حياً بما يستحق، لا بما يمنحه إياه المنحازون له. أولئك الذين أرسلوه إلى المقصلة، لم يكونوا يطيقون حواره من أجل الحقيقة. نحن نحاوره من أجل الحقيقة، لا من أجل العقاب، وعله يفحمنا بحقيقته الدامغة لنقتنع، ونفض محكمتنا، ونعود إلى قبورنا مطمئنين هانئين.

تدخل نافع قائلاً:

ـ سنرى أن كان فهد غير متأكد من سلامة الفكرة فزج بها الناس على سبيل التجربة، ولهذا حساب طبعاً. أو إنه لم يكن يعرف بعقمها واستحالتها، وكان هو أيضاً مخدوعا ولهذا، حساب آخر! في الحالتين سنحصل على إضاءة ضرورية، دون أن يكون هدفنا الانتقام أو التشهير، بل العدالة!

راح يونس والعطار أحدهما ينظر في وجه الآخر، كأن كل منهما يقرأ في وجه الآخر طالعه ومصيره، قال العطار:

ـ كثيرون قالوا له أنها مستحيلة، وإذا تحققت لن تفضي سوى إلى عبودية أخرى. وأنا أحدهم، لكنه ركب رأسه، وركب سيف ستالين فزج آلاف العراقيين في طريقها إلى الموت!

قلت:

ـ لندع الشهداء يتوصلون إلى ما حدث بأنفسهم!

قال الجهنمي:

ـ ما داموا أدانوا الفكرة سيستدعون فهد للمحاكمة هذا اليوم.

قالها بقلق وكأنه شعر أن حياته ووجوده الجديد في الحياة مع العطار ومعي مرتبط بما يجري في هذا الكهف، ولو انتهت المحاكمة فسيعود كل إلى مكانه وقبره!

سادت فترة صمت. عاد رئيس المحكمة :

ـ يستتبع هذا أن علينا محاكمة المؤسسين لهذه الفكرة الخاطئة: وقد وجدنا أن الكثير من التهم التي جرى تداولها وإثباتها؛ ولو بالمستوى الظني غير المحسوم تشمل قيادات سابقة للحزب لا نستطيع استدعاءها جميعاً، لذا سنقف عند القيادات الرئيسية منها أي تلك التي مكثت فترات طويلة وحدثت في عهدها أحداث حاسمة. بعضهم استشهد بعد أن أعطى مآثره وأخطائه وسنوجه لهم بلاغات بضرورة الحضور للإجابة على أسئلتنا، والترافع أمام محكمتنا القائمة الآن. إذا كنا لم نرهم لحد الآن فإننا نتوقع أنهم سيكونون في طليعة من يحضر. لقد فسرنا صمتهم وغيابهم الطويل على أنه تأمل وتمهل ومراجعة لمسارهم وتاريخهم وأعمالهم وماضيهم كله. لقد وجدنا أن من التعسف والإجحاف إسناد كل التهم والجرائم للقيادة الحالية التي ورثت الحزب كما يرث البعض شركة بكل ديونها ومستحقاتها وآلاتها وبضاعتها وسمعتها، حسنة أو سيئة، فإذا ربحت فالفضل لها ولمن سبقها، وإذا خسرت فالجريرة عليها، وعلى من سبقها. لذا قررنا أن نستدعي من القيادات السابقة كل من نرى أن ثمة تهماً جديه تلاحقه، أو تثبت عليه. لا نعتقد أن أحداً منهم سيتهيب المثول أمام محكمتنا وهم الذين قادوا الحزب في فترات عصيبة وخاضوا أخطر المواقف وواجهوا الموت والسلطات الغاشمة واكثر المحاكمات تعسفاً وظلماً وستبقى محكمتنا مفتوحة لقبول إفادتهم وشهادتهم وتقييمها، آملين أن ينالوا البراءة لا الإدانة ونأمل أن يكون حكمنا عادلاً ليس من أجلهم وأجلنا وحسب، بل من أجل الحقيقة والأجيال القادمة، وصواب مسار الإنسان وضميره، في بلادنا وفي كل مكان!

بدا أنه يبتلع ريقه بينما كان هيكله العظمي أكثر جفافاً من عيدان حطب تحت شمس محرقة:

ـ نتوخى المزيد من الوضوح في أسس التقاضي، والتأكيد مرة أخرى وأخرى، أن غاية المحكمة: الحقيقة، والعدالة وليس الانتقام أو التشهير والتجريح، أو الإساءة لأي كان، لكن هذا لا يمنع من ذكر الحقائق والحيثيات كما هي، حتى وإن بدا للبعض أنها جارحة، أو مشينة. بالطبع الأمر ليس ذنبنا إنما هو ذنب من ارتكب الجرم والإثم معتقداً أن ستائر الحزب السميكة، أو غفلة الحياة والناس ستبقى كما هي فتظل أفعاله الشائنة بعيدة عن الأنظار، ولا تطالها العدالة! كان العطار يصغي باهتمام بينما الجهنمي كعادته يبدو متشاغلاً لكن مشاعره وكما أعرف عنه لا تغفل ما يراه خطيراً. قبل ستين عاماً أتذكر إني سألته لم لا تنضم للشيوعيين وأغلب أصدقائك منهم قال: لم أحجم عن الانضمام إليهم لأنهم أصحاب قضية خاسرة منذ البدء، على العكس أنا يستثير شجوني واهتمامي أصحاب القضايا الخاسرة، وأرى من النبل الوقوف معهم، لكن آفة الشيوعيين أنهم لا يقرون أنهم أصحاب قضية خاسرة، إنهم مكابرون أدعياء، وأنا لا أستطيع ان أعمل مع من يكابر ويخدع نفسه ويريد ان يخدع الآخرين أيضاً! هذا المساء ذكرته بكلامه وسألته ماذا تغير في الشيوعيين بعد ستين عاما؟ قال: لا شيء ما زالوا يكابرون ويدعون، لكن من الواضح أن المأساة أثقلت كواهلهم وأصابت وجوههم بالتجاعيد، وأنا أتعاطف معهم لعمق أحزانهم! قال العطار بهدوء: إنهم لا يقرون بمآلهم ولا يحزنون! وجدتني أسأل العطار: من المسؤول عما تحدثه الفكرة من خراب وعذاب؟ هل الذي أطلقها دون تروٍ، أم الذي اعتنقها دون تروٍ؟ رد العطار على الفور، كلاهما طبعاً، سأله الجهنمي لماذا إذاً يريدون محاكمة فهد؟ أجاب العطار: هم وكما لمست من متابعتي لهم في الكهف يحاكمون أنفسهم أيضاً! عدت أسأل العطار: وإذا أصابت الفكرة وأثمرت؟ قال بهدوء: ننحنى احتراماً لمطلقها الحكيم المتروي، ونضع تاج المجد على رأسه أو صلعته أو قبره إذا كان قد مل الانتظار، وقرر الذهاب للنوم الأبدي!

جاءنا صوت رئيس المحكمة: ستكون الجلسة القادمة محاكمة مؤسس الحزب، وقائده لفترة غير قصيرة، يوسف سلمان يوسف، الملقب بفهد، فهو المتهم الأول!

(77) كم هو طويل دخان رسالة حب!

في زاوية من الكهف، انزوت أم عجوز،قائلة لابنها الشهيد:

ـ أنا زعلانة على قادة الحزب، لو كانوا قد أعلمونا بعودتكم للحياة، كنا أتيناكم بكثير من الكبة والدولمة، وكيبايات الباجة، فهي لا حياة لعراقي بدونها!

ضحك ابنها الشهيد:

ـ هذه أيضاً ستلقى على كاهل قيادة الحزب المسكينة!

كان الشهيد نزيل السجون والمعتقلات في مختلف العهود، وكثيراً ما كانت تحمل له ولرفاقه الدولمة والكبة وكثير من المأكولات التي كانت تتفنن في طبخها. كان عزاءها وفرحتها التي تخفف عنها آلامها حيال سجن ابنها ما تسمعه من رفاقه أيام المقابلة: طبخك لذيذ، نفسك زكي، يدك كريمة. كانت تحس بشيء من فرح خفي حين يعتقل أبنها وتبدأ بتحويل مطبخها إلى ملحق للمعتقل أو السجن وتحمل القدور والسفرطاسات عبر طرق المدن البعيدة، في القيظ والزمهرير. كانت في الواقع تطعم الشرطة ومدير السجن والجلادين الذين يعذبون ابنها،حيث هم الذين يأكلونه أو معظمه عادة،ولا يصل لابنها ورفاقه إلا القليل! كان ذلك في العهود التي سبقت مجيء البعثيين، فعندما اعتقل في عهدهم ما كانت تعرف أين أخذوه، ولا يجرؤ أحد أن يسأل عنه. لم تره منذ اعتقاله. واليوم تلقاه هنا، لم تكن تتوقع ذلك، فهي قد جاءت على أمل واه، مجرد مشاركة في مناسبة تتعلق بالشهداء!

ثمة شهيد طلب من أمه سجائر. راحت تبحث في الجيب الجانبي لثوبها الأسود الطويل فأخرجت علبة. أشعلت له سيجارة وأخرى لها، وراحت تجذب أنفاساً عميقة تنفثها مع تنهدات حرى. ضحك ابنها الشهيد، ما كانت الأم تدخن وكانت تنصحه دوماً بالكف عن التدخين. قالت وكيف لا أدخن بعد فقدك! كان وحيدها، سجن وحكم عليه بالإعدام. زارته في سجن أبي غريب مرات قليلة تلك التي سمحوا بها. اعدموه. جاءوها بجثته طالبين مبلغاً، قالوا أنه ثمن الرصاص الذي أعدم به. دفنته بمقبرة قديمة في هيت. كيف شق طريقه من هناك إلى هنا؟ هذا مدهش،ومفرح حتى أنها توقفت عن البكاء. ولماذا تبكي ما دام ولدها الآن حي أمامها وقريباً سيخرج مع رفاقه إلى الحياة. ولم لا تصدق وهو الآن أمامها يدخن سيجارة أشعلتها له بيدها، لم يبق سوى أن تكسى العظام لحما، ويخرج مع رفاقه إلى الحياة الدنيا. نفث دخاناً من بين أضلاعه قائلاً:

ـ لو تعلمين يا أماه كم تصير السيجارة خطيرة ومهمة جداً في الزنزانة، تصوري مرة أمسكت بريشة طائر لا أدري من أين هبطت، ليس من كوة السجن المغلقة، ربما علقت بثوب حارس مدجج، خيل لي إني أشعلتها بآهاتي. رحت أضعها بين شفتي وأتنسم أريجها كسيجارة فاخرة. آه كم كانت لذيذة! كأنني أنا الطير الذي تحمله ريشة واحدة!

في أيام المعتقل دخنا كل شيء. خيوط سترات الإعدام. بقايا الأطعمة الجافة مع الدود والحشرات. أسماء الشهداء المتساقطة من الجدران. الرسائل الحزبية السرية. أطول سيجارة دخنتها يا أمي كانت رسالة حب! تخيلت دخانها أطول غيمة في سماء العالم. تسير مع الريح لا تمطر ولا تنقشع. كأني لا زلت أدخنها حتى اليوم،أتذكرين؟ تلك التي حملتها منها؟ طويتها وأشعلتها ودخنتها سيجارة من ماركة غريبة، صار الحب دخاناً مقرفاً، هذا أقصى ما يستطيعه معي. فأنا المعضلة وليس هو، سرني إنه صار في بيتها فرحاً وعطراً منعشاً لها ولزوجها، وجدتها محقة، سامحتها وتمنيت لها السعادة! هزت الأم رأسها بأسى وصمت. نظر أليها بحنان وأسف وندم. تركها شابة جميلة متوردة الخدين. واليوم هي عجوز مهدمة وجهها أشبه بورقة تين صفراء. جرى لها ما جرى، والفتاة التي قطعت حبه، وتزوجت ضابطاً أضحت أيضاً أرملة بسرعة رصاصة في الحرب. هل الأمر يستحق كل هذا العذاب؟

(78) فواتير كهرباء وماء وتلفونات، يجب أن يدفعها الشهداء!

لا يعرف من أوحى أو همس في آذان بعض ذوي وأهالي الشهداء، أن الشهداء يجلسون الآن على خزائن الأرض، وكنوزها الدفينة، وإنهم قادرون الآن على منح الأموال الطائلة لمن يشاءون. ليس هذا مستغرباً، أليس الخزائن والكنوز تكون في باطن الأرض عادة؟ يخفيها أصحابها هناك عن الآخرين في الدنيا حتى يموتوا فتموت، وتنسى بعدهم! وكم اكتنز الأغنياء في العراق على مر العصور من أموال خبأوها بخلاً أو خوفاً، بينما الناس من حولهم يموتون جوعاً؟ الشهداء بما لديهم من حظوة لدى الله، أقل ما يمنحهم بعضاً من مفاتيح خزائن هؤلاء، والتي هي أصلاً خزائنه منحها لهم امتحاناً أو خطأً أو سهواً!

ثمة للشهداء أخوة وأخوات وزوجات وأقارب وأصدقاء وأمهات عرفن بحنانهن وطيبتهن، ولكنهن الآن معوزات. راح معظمهم يلمحون طالبين المال. حين وجدوا أن الشهداء لا تنصرف أذهانهم النقية المقاصد لما يرمون إليه. أخذوا يطلبون صراحة أموالاً: الحصار شديد علينا. صدام وأمريكا امتصا دماءنا. بعضهم طلب مالاً لاستثماره. بعضهم طلب مالاً ليسافر به ويخرج من جحيم العراق. أحدهم طلب وظيفة في الجهاز المشرف على ثروات وخزائن الأرض السفلى! ثمة أشخاص أخرجوا فواتير ماء وكهرباء وتلفون صادف وجودها في جيوبهم طالباً من الشهداء منحهم المال لدفعها، وقد اغتنم أحد الشهداء مرور حسن طلقة بجانبه فأعلمه بما يحصل قائلاً:

ـ تصور إن أخي جلب لي فواتير تلفوناته التي أعرف أن أغلبها مغازلات خائبة، قوائم أقساط المصرف العقاري، وإنذارات بإخراجه من البيت، يريدني دفعها، أيعقل هذا؟

رد حسن طلقة كعادته:

ـ ولماذا لا يعقل ذلك؟ ألسنا شيوعيين كرماء تعهدنا بدفع فواتير التاريخ جميعها منذ فجره على أرضنا؟ والوجود كله منذ بدء الخليقة يا صاحبي؟ (هيه ظلت على فواتير الماء والكهرباء والمكالمات الغرامية؟ ادفعها واخلص!)

تعالت دقات على الباب الخلفي للكهف، حادة متعجلة، توحي أن الطارق ليس من الأموات، الذين دقاتهم واهية بطيئة مترددة، كان حسن طلقة من يفتح الباب، سلم الرجل فبادره طلقة:

ـ من أنت يا أخ الشهداء؟

ـ أنا ممثل الشهداء الأحياء، نحن الذين نجونا من الموت، رغم ما سلط علينا من تعذيب وما خضناه من معارك، لكننا لا زلنا نحمل في قلوبنا وعقولنا جراحات وتشوهات كثيرة، نمشي على الأرض داخل قبور لا يراها الآخرون، ألا تعدوننا شهداء؟ ومن حقنا مثلكم محاكمة أولئك الذي أوصلونا لهذا الجحيم، دون جدوى، اجتمع الكثيرون منهم واختاروني للنطق باسمهم!

تهلل وجه طلقة:

ـ مرحباً بك، أنتم الشهداء الحقيقيون، نحن منحنا الموت راحة عظيمة، أما أنتم فبقيتم تصارعون جراحاتكم، وألسنة الناس الجارحة، خذ مكانك بيننا، ولكن ألا عرفتني باسمك الكريم؟

ـ رشيد البغدادي!

تفضل معي، اقتاده طلقة، إلى مكان قريب من الباحة التي ستجري بها المحاكمة:

حين سار الرجل بين ضجيج وصخب الشهداء التفت إلى حسن طلقة قائلاً

ـ أنا سألتزم الصمت حتى يدخل المتهمون قفص الاتهام، لا أريد إضاعة وقتكم فهو ثمين جداً، فقد منحكم الموت فسحة قصيرة!

ـ شكراً يا رفيقي، لك ما تريد!

تركه مسرعاً فقد سمع أصوات قرع أبواب قريبة. جاءوا يدقون الأبواب الصخرية للباحة الكبيرة حيث تجمع الشهداء. كيف سمع حسن طلقة أصوات ضربات عظام أكفهم وهي تتهشم على الصخر. خرج عليهم مسرعاً رأى على هياكلهم العظمية وعثاء سفر طويل. تقدم بعضهم يحملون قناني كحول فارغة. قال أحدهم:

ـ نحن الذين استهلكنا أعصابنا وأعمارنا القصيرة بالإدمان على الكحول الحزبي. أنسيت يا حسن طلقة كيف كنا بعد ان ننتهي من اجتماعاتنا؛ نتجه للعرق نبترد به من حرائق أعماقنا التي تشعلها المناقشات والمماحكات الحزبية العقيمة. لم نفق على أنفسنا إلا ونحن مدمنين على الكحول، وعلى الثرثرة والنضال الخائب. والحزب كل ما حصل عليه هو إنه لا زال على قيد الحياة، لا تعرف ماذا يريد. نصحنا البعض بالكف عن شرب العرق المغشوش، قلنا لا يهم، ومن أين لنا النقود لنشتري العرق غير المغشوش؟ يكفي أننا نعتنق فكرة صافية نقية كمطر البراري، ولكنا صحونا ذات يوم لنجد أن فكرة الحزب نفسها مغشوشة، فكر مغشوش وعرق مغشوش،وحزب مغشوش ووطن مغشوش، وعالم مغشوش، هاي شيخلصها؟ كانت صدمة أصابت أكبادنا بالمزيد من التشمع ومرض الموت، كنا مشردين فمتنا على الأرصفة، دفنتنا البلديات، وعمال النظافة. أفقنا اليوم على ثورتكم. جئنا لنسألكم: ألا تعدوننا من الشهداء مثلكم؟

وقبل أن ينسحب هذا تقدم آخر من مجموعة على عظامها ندف كبيرة من الثلج والجليد:

ـ ونحن الذين خرجنا إلى المنافي الباردة مؤمنين بالحزب، ثم اكتشفنا هناك أكذوبته فمتنا من إحباط وبرد وظلام وغربة طويلة موحشة امتدت سنيناً. ألا نعد من الشهداء؟

هز حسن طلقة رأسه موافقا متعاطفاً. تقدم آخر. كان يسعل دماً من هيكله الدخاني قال انظر:

ـ لقد تناوشنا الهم والغم ونحن نعيش نكسات الحزب وهزائمه وأوهامه، ولا نستطيع أن نفعل شيئاً سوى الإفراط في التدخين فمتنا بأمراضه العضالية،ألا نعد من شهداء الحزب؟

قال حسن طلقة :

ـ أنتم على الأكثر شهداء شركات التبغ!

وجمت هياكلهم العظمية! لكنه كان يمزح كعادته. أضاف :

ـ من لم يمت برصاصة مات بكحول وسجائر وبرد، للأسف ليس لدينا عرق ولا سجائر لضيافتكم،ولكن بنفس الوقت ليست لدينا فكرة مغشوشة!

مضى يفسح لهم الطريق ليجلسهم غير بعيد عن منصة المحكمة! مردداً كأنه يهزج:

ـ العراق العظيم ..خير وفير ومواسم استشهاد دائمة!

(79) عظيمة آلام الشيوعيين حقاً!

قال العطار بلهجة اعتذار:

ـ حين أحدثك عن أخطاء الشيوعيين، أرجو ان تعرف إنني لا استخف بآلامهم فهي عظيمة حقاً، ولا أستهين بنواياهم، فهي طيبة حقاً!

ـ أنا أعرفك يا جلال، فأنت كاتب مرهف عادل!

رأيت عينيه تغيمان فجأة، غشيتهما أحلام وذكريات كثيرة تفجرت دموعاً، صمت فجأة، راح يبحث عن سجائره كانت العلبة فارغة، لم ينتظر قدوم النادل، انطلق نحو منصة المشرب ليأتي بسجائر. أحسست فجأة بوحشة وحزن، العطار يبكي الشيوعيين مهما ينتقدهم، يحبهم مهما يثور عليهم، يحترم آلامهم مثلما يضحك من شعاراتهم الضخمة، وطرق نضالهم الطويلة المضجرة، الخائبة دائماً! أحسست إن كلمات العطار تفجر في قلبي أشجاناً عميقة كانت قد هجعت ولو لفترة قصيرة، وكيف يمكن أن تهدأ أحزان نضال طويل زاد الفشل والإحباط في جراحاته ومواجعه؟ كان ركاماً هائلاً، لا أدري لماذا أطل منها هذه اللحظة جرح طالما حاولت نسيانه، لأنه يجعل بدني يقشعر من الألم. عاد العطار هيكلاً عظمياً يسير مدخناً سيجارته، الكرفن حتماً، فرحت له أن الموت خلصه من كرشه الثقيل، للموت حسنات كثيرة، سأدركها قريباً حين انضم إلى قافلته الطويلة. جلس العطار ساهماً حزيناً وجدتني أحدثه بما تذكرته للتو. كنا في سجن نقرة السلمان، وهو سجن عجيب، يعرفه هو جيداً وقد كتب عنه قصة قصيرة ساذجة بعض الشيء بعنوان(زهور حمراء يانعة، في قلب الصحراء) كان يضم ما يعتبره حكام العهد الملكي أخطر السجناء السياسيين، ومن هم غير الشيوعيين؟ كانت بنايته الشبيهة بالقلاع ثكنة عسكرية للجيش الإنجليزي، وبعد تقلص القوات البريطانية في العراق حولوه إلى سجن. لم يكن بحاجة لحراس كثيرين، بادية السماوة بأفاعيها السامة وذئابها تقوم نيابة عن الحكومة والإنجليز بإحكام القبضة على الشيوعيين. من يجرأ على الهرب سيموت حتماً. إذا لم تتول الذئاب أمره فستنبري له صلال الرمال، العطش، التيه الصحراوي المدمر حيث تضيع الاتجاهات وتدور الذاكرة مثل سكين قاطع الطريق. صباحاً استيقظنا على صراخ فظيع ينطلق لجوجاً من رفيقنا عبد السلام الناصري. كان يتلوى من ألم شديد في بطنه،معنا في السجن طبيبان شيوعيان سجينان، شخصا حالته على الفور، التهاب الزائدة الدودية، ولا علاج لها سوى استئصالها على الفور. لم يكن في السجن غير عيادة تضميد صغيرة فقيرة، وإدارة السجن ترفض نقل المصابين إلى مستشفى المدينة بحجة أنهم قد يهربون. اتخذ الطبيبان قرارهما على الفور، شدا عبد السلام إلى الجدار، ولم تكن لديهما من الآلات الجارحة سوى شفرات حلاقة قليلة ومستعملة. قاما بتعقيمها على نار أشعلاها على عجل، ولم يكن لديهما مخدر طبعاً، سوى كلمات براقة عن شجاعة الشيوعي، ووجوب احتماله الألم مهما كان فظيعاً، مخدر ممتاز. فتحا بطن رفيقنا، وراحا يغوصان في أحشائه، ظل يطلق صراخاً رهيبا ثم صمت فجأة، ظنناه قد مات. عرفنا إنه راح في غيبوبة،هبط عليه مخدر آخر مجهول ربما من السماء، وربما من الإلهام الثوري. بدا في منظره وهو منشور اليدين على وتدين في الجدار، المسيح نفسه على صليبه وفي عذابه وآلامه الكبرى. كان رفاقنا حوله لا يطيقون النظر إليه، يبكونه أم يبكون مصيرهم؟ خاطا جراحه بخيوط استلت من الثياب، كلنا توقعنا أن جراحه ستلتهب وسيموت. لكنه شفي. منذ تلك الواقعة وأنا أحتسب الألم وجدواه،أقول ينبغي أن لا نحمل الناس آلاماً، إذا لم يكن الهدف صحيحاً وممكنا. لكنا واصلنا سفح آلامنا،دون التفكير هل الطريق صحيح؟ قال العطار:

ـ قلت ذلك في كل رواياتي وما كنتم تسمعون، كان دم البشر لدى قيادة حزبكم حساب مفتوح رصيده متوفر دائماً، التبذير بأرواح الناس وآلامهم وراءه شحة في العقل والحكمة، والقدرة على الإقناع بغير الدم!

ـ قلت كم فقدنا من الرفاق الرائعين، وجدت بعضهم في محفلهم الثوري الأخير ولا أدري هل سألتقي الآخرين!

خرج الجهنمي عن صمته بعد فجيعته بمنازل الحبيبات ليقول:

ـ كم هي قاسية تلك اللحظة التي يغادرنا فيها عزيز علينا، ونحن نعرف،وهو يعرف أنه ذاهب إلى الموت وسوف لا نلتقي ثانية، وإلى الأبد، ولكن لا أحد منا يقول ذلك، يلتزم الصمت أو يترك الدموع تنهمر!

ـ كم وقع مثل هذا لأناس فقدوا أبنائهم وبناتهم وأزواجهم وأحبتهم في نضال طويل مجهول العواقب، ثم صار الصمت في قلوبهم هشيم زجاج سيظل يجرح قلوبهم من الداخل حتى موتهم!

ليس غريباً أن الجهنمي المتقلب الأطوار وليس غيره قال: بعد كل هذا من يلوم الشهداء، حين ينتفضون اليوم من أجل كل هذه الآلام التي ذهبت سدى!

(79) من جبل الأجوبة، إلى جبل الأسئلة‍! ‍

في بداية حياتي مع الحزب، ومن ثم في داخله، كنت أشعر بثقة وطمأنينة فكرية هائلة، فقد كنت مقتنعاً بما يقوله رفاقي أن في نظريتنا جواباً على كل سؤال أو استفسار أو بحث، أو أي شيء يعن على البال. أعلنا بكل ثقة أن نظريتنا كلية القدرة، صورنا الشيوعي: طبيباً عظيماً مطلق القدرة يحمل في حقيبته أدوية سحرية لكل مرض؛ حتى أنه سيأتي يوم يحيي فيه الميت ويجعل الإنسان لا يموت أبداً. وبذلك ستنتفي الحاجة للأديان القائمة على وعد بالحياة الأخرى، كنت متكئاً على جبل عظيم أسميته في سري بجبل الأجوبة العظيم، المواجه بثبات لكل العواصف. منا أخذ حلفاؤنا البعثيون فيما بعد هذه الموهبة الثورية العظيمة فراحوا يعقدون ندوات في الساحات العامة تحت شعار (أنت تسأل والحزب يجيب) وراحوا يجيبون على كل سؤال يخطر على بال المواطن، بدئاً من عدد التقارير التي يجب أن يكتبها على جيرانه وأصدقائه وأفراد عائلته؛ ليصير مواطناً صالحاً، ويحق له أن يبقى حياً، ويعيش في وطنه، إلى عدد البيض الذي ينبغي أن تضعه الدجاجة قبل أن تدخل سن اليأس وترسل إلى الذبح، إلى المسافات بين كواكب الكون، وبين الشوارع الممنوعة، والشوارع التي يمكن السير بها، إلى عدد نبضات قلب الفتاة الجميلة حين تستدعى لدائرة الأمن، شعبة الحزب، والقصر الجمهوري! كل شيء يعرفه الحزب، ولا يليق بحزبي أن يقول: لا أعرف، مثلما لا يليق بأي مواطن أن يرد على أسئلة البعثيين أو الشرطة: لا أعرف، الكل يعرف. كلهم يعرفون، والمعرفة في البلد مبذولة حتى لتفيض، وتلقى على المزابل! في بلادنا فقط قضي على الجهل‍! صارت أبسط دروس تعليم الأميين القراءة والكتابة هي جعلهم يحفظون عن ظهر قلب خطب الرئيس، ونظريات الفلاسفة، ويساهمون في إعادة كتابة التاريخ بما يؤكد أن أمتهم ألقيت عليها رسالة خالدة في إدخال العالم عهد الحضارة والتمدن. نجاحات عظيمة بلا شك حققها الحزب الحاكم بسرعة هائلة، فكيف بنا نحن الشيوعيين أساتذة الجميع؟ بعد الهزة الفكرية التي حدثت لي، وقلبت مخي داخل رأسي كما تقلب شريحة اللحم في المقلاة، وجدت جبل الأجوبة يرتجف، يتزلزل وينفجر، فيقذفني على جبل آخر كل شيء عليه يقتضي سؤالاً وبحثاً واستفساراً فسميته جبل الأسئلة. اليوم التقي العطار فأدرك غفلتي وسذاجتي. قلت في نفسي لقد حاول الرجل آنذاك أن يصعد بي جبل الأسئلة بهدوء وتأن وتدرج وبساطة، ودون تهشم عظام وأرواح فرفضت؛ حتى قذف بي جبل الأجوبة الذي تفجرت تحته الغام التاريخ كلها‍‍! ونحن في الحانة وأمامنا مائدة الخمر طافحة بخيرات الأربعينيات من القرن المنصرم أفضيت للعطار بما عن لي من أفكار قال:

ـ لا تأس على ما فات. الموت علمني درساً أساسياً: إذا القتنا قوة عاتية على جبل، فالأفضل أن نتسلقه إلى قمته، ولا نفكر بالنزول منه، ونترك رحلة النزول عنه إلى ساعة الموت الأخيرة‍. لا تفكر بالانتصار على جبل أو حيوان أو إنسان، فكر بالانتصار على ضعفك، لا تتردد في طرح سؤال، لم أنزل من جبل الأسئلة حتى حين أنزلوني القبر.

قلت ملتاعاً، صعدت جبل الأسئلة في آخر العمر،ها أنا الهث وما زلت عند السفح، ‍

قال: لا تظلم نفسك‍ أتذكر إنك في شبابك كنت دائم الأسئلة، أنت لم تعتنق الشيوعية إلا بعد تمحيص، لكنها كما قلت لك سابقاً امرأة حسناء وذكية جداً،ولعوب قادرة على إخفاء عيوبها وخطاياها خاصة، والكثير من النساء حولها عاهرات يدعين القداسة‍!

ـ أنا ألوم نفسي التي قصرت في البحث منذ البدء.

ـ لا، أنت واهم، كنت حذرا يقظاً ولكن اللوم والندم خصلة راسخة في الإنسان!

فهو حين يمنى بالخيبة يكون أول من ينسى فضائل نفسه، وينضم للآخرين في معاقبة نفسه.حين وجدني صامتا وقد عدت إلى همومي قال:

ـ لا تيأس! تسلق ما تبقى من الجبل حتى قمته!

ـ هل تساعدني بخبرتك على تسلق الجبل؟

أطلق ضحكة قصيرة حزينة:

ـ كيف لا وأنا مثلك الآن في شك من كل شيء؟ مثلما أنت تأملت فكرتك في الحياة، وتراجعت أنا أيضاً تأملت فكرتي في الممات وتقدمت، كلانا اليوم عند السفح، وينبغي أن يسند أحدنا الآخر، ونصعد الجبل من جديد.‍

قلت متشبثاً به:

ـ أريدك أيها الروائي الكبير أن تكون دليلي في هذه المتاهة، قائداً لخطاي الخاطئة في هذا المسار الوعر الطويل.

هز رأسه متفكراً وكأنه يقول، يا لمحنة الإنسان حي يتشبث بميت لينقذه. أعمى يقود مبصراً، سمعنا ثم رأينا‍!

العطار لا يزال فرحاً، طفلاً حصل على لعبته، وما تزال اللعبة جديدة براقة! سنذهب معاً إلى ساحة الألعاب الإنسانية الكبرى، الموتى يصيرون أطفالاً حين يعودون إلى الحياة، والألعاب تصير جديدة حين يعود الموتى إليها، حتى صدور النساء لا يرونها سوى حلمات للرضاعة، والعجائز حين يرين الرجال الموتى تعود أثداؤهن بضة ممتلئة طافحة بالحليب، وأغاني المهد! أما الفتيات اليانعات وخاصة المراهقات منهن فتحمر خدودهن، وهذا ليس بالقليل. كان يتبدل بسرعة كغدير مياه معنية تتبدل ألوانه مع دوران أشعة الشمس، بدا الآن حزيناً مرتجفاً لا من موته الطويل، بل من عودته لحياة مخربة ما كان يتصور يوما أنها ستكون مصير بلده، وماذا أقول وأنا صرت مقتنعاً بما يقول. كلنا ساهمنا في خراب وطننا، إذا كان العطار الميت، وأنا الحي شبه الميت بشيخوختي، والحصار المفروض علي من رفاقي؛ لا أستطيع أن أفعل شيئاً في إصلاح ما حدث، فمن الممكن أن نعرف لماذا حدث كل هذا الدمار، والهلاك ؟ قلت:

ـ يبدو إنك جئت من الموت؛ لتعلمني عدم الخوف شكراً لك، دائما تغمرني بلطفك!

ـ نعم لنشر بإصبع لا ترتجف إلى كل الجناة:الناس، السلطة، الأحزاب،رجال الدين، ضمائرنا،إلى الله، قل ولا تخف رغم إني أدعو للاقتصاد في الاستشهاد لكن قول الحقيقة؛ شيء يستحق أن يموت الإنسان من أجله!

أضاف وقد هدأ قليلاً:

ـ سأكون رهن إشارتك تحدث بما تشاء، وسأحدثك أيضا بما أشاء،احتملني.

صمت قليلاً،قال:

ـ نحن الآن في بحر العدم، والظلمات، لنغص عميقاً، لنعد إلى أيامنا الماضيات في الثلاثينيات وما بعدها، نتوقف إذا اقتربنا من ذلك العهد المشؤوم الذي حدث فيه الانقلاب وملأته جزمات العسكر، وبنادقهم بالدم والضجيج والصراخ. لا أريد أن أعود من الموت إلى الموت، ساعدني لعودة إلى حياتنا ومقاهينا وحواراتنا وكتبنا وموسيقانا وزهورنا، وتلك النساء الطيبات؛ أمهات وأخوات صديقات، وحبيبات وعشيقات، حتى لو كن شريكات جلسة أو فراش لساعة واحدة. كم أتمنى لو ألتقيهن وأنحني لهن بعد موتي، واقبل أيديهن وأقدامهن. كم منحننا من السعادة، بحنانهن فقط واجهت قسوة السلطات في الدنيا، ودود القبور في الموت.

ـ من يعد من الموت إلى الحياة لا يعصى عليه أن يجبر هذا الرماد على الاعتراف إنه كان يوماً : مقهى، مكتبة،مدرسة، حديقة، باراً، فراش عشق، وأن يعيده لنا، فنحن أصحابه، رائع ما تقول وسنجد ما نريد، وهل يريد الموتى وهم يستيقظون من قبورهم شيئاً غير الحانة، وسرير الحبيبة؟

كنا نسير في بغداد،مرت عليها بعد رحيله كثير من الحروب، وجولات القمع والاضطهاد والظلم، كل شيء خراب،أطلال وأنقاض، عبثاً نتلمس طريقنا لماضي كان جميلاً أو هكذا رأيناه آنذاك. قال لو تحدثت معك لائماً أو مؤنباً، فليس لأنني متحامل كما تقول، أو أضمر كرهاً للحزب الشيوعي ومؤسسه فهد، ما يضطرني لذلك هو هذا الدمار والانحطاط والشقاء الإنساني المريع،لماذا حدث كل هذا؟ من فعله ومن كان السبب؟

قلت بلهجتي الحزبية القديمة:

ـ طغاة تجبروا تجاهلوا إرادة الشعب. ثم جاء الأعداء ليجهزوا على ما تبقى!

توقف العطار،مسكني من يدي، كانت أكثر قوة من يدي وهي تحاول التوازن مع يده، كيف يكون هذا الميت منذ سنوات طويلة، أقوى مني أنا الحي قال:

ـ أتريدون أيها الشيوعيون أن تتملصوا من المسؤولية، وتصورون أنفسكم ضحايا فقط؟

كنت أدرك أن ما يقوله ينطبق عليّ وعلى كثير من الشيوعيين، معظم قادة الحزب السابقين والحالين، أنا أعرف أن مسؤوليتنا ثقيلة، مهما كابرنا أو جادلنا قلت:

ـ ثمة شيوعيون بدأوا يعون مسئوليتهم عما جرى، ويتحملون بشجاعة وزرها.

وكنت،بعد رحلتي مع العذاب الفكري، استعيد في حياتي كلماته وأقواله ومواقفه، حتى صرت أتوقع ما سيقوله في موقف يحدث بعد رحيله بسنين كثيرة. جاءني صوته مختنقاً متلجلجاً وهكذا كان في الحياة الدنيا حين تزدحم الكلمات في رأسه وحلقه، كانت نبرته حادة أيضا،لم يخش أن يسمعه أحد من رجال السلطة ونحن في بغداد، ولا ندري إن كنا مرئيين أو غير مرأيين:

ـ حزبكم يبدو عليه لأول وهلة أنه وديع مسكين، يطلق حمامات السلام، يغني كل صباح لغد الكادحين الجميل، في احتفالاته الكثيرة يلبس الفتيات الصغيرات أجنحة الطيور وأوراق الزهور البيض، بينما هو يضمر في أعماقه منتهى العنف: دكتاتورية البروليتاريا، أتعرف ماذا تعني الدكتاتورية؟ باختصار شديد: سكب الدم على زهوره البيض، إبر الشوك في رغيف الخبز الذي وعد به الناس، نزع بيوت الناس الآمنة من أصحابها وتسليمها لقادته الكبار، سحق القلب البشري الأعزل الحزين بأحذية الجموع الهائجة! اختصار كل قصائد وروايات وفنون البلد بشعار، وحشوها بالغدد الهائجة، كل هذا وتريد من الحكومات أن تؤدي له التحية، وتقول له، تفضل خذ دفة الدولة، قدها كما تهوى، ونحن سنكون ماشية تسعى وراءك أيها الراعي العظيم؟ أتعرف ماذا فعل حزب البعث في العراق لكي يصل بالبلاد إلى هذا الخراب؟ سار على هذا النهج، طبق نصف أو ربع مبادئ الشيوعيين في العنف الثوري، ونصف أو ربع تعاليم فرض الأديان بالقوة على البشر، مضافاً له نذالة بعض قادته طبعا، فوصلنا إلى هذا الحال، ماذا لو طبقها بحذافيرها؟ وجدتنا أنا والعطار بعد لحظات جالسين في بار سولاف في نهاية شارع الرشيد، انسل الجهنمي عنا لا أدري أين ذهب، يبحث طبعاً عن حبيباته في منطقة الصابونيجة. أمامنا مائدة عامرة بعرق مسيح ومزات الأربعينات والعطار يحدثني بمزاج رائق ناس الموت وترابه. لا شيء سوى عبير الحياة الجديدة يدخل روحينا، هدأت نفسي قليلاً، ران علينا صمت رقيق وجدتني أتذكر حادثة طريفة وقعت لي في موسكو في الستينات مع شيوعي هندي؛ قال فيها كلام العطار بلغة أخرى! كان هذا الرفيق يعد حقائبه للعودة إلى بلاده بعد أن أنهى درسته الحزبية للشيوعية، وكنا قد أعددنا له حفلة وداع صغيرة حافلة بالشراب والأطعمة الشهية، وكل صديقته بجانبه، وقف بعض الحاضرين، وقالوا كلمات تمنوا فيها النجاح للرفيق بنضاله في بلده وانتصار الشيوعية في الهند، بعد أن شرب الرفيق الهندي كثيراً وبكى في حجر حبيبته، استل ورقة من جيب بنطلونه، ووقف مترنحاً يلقيها، يبدو إن الورقة بعضاً مما كان يدونه من انطباعات خاصة أو سرية عن تجربته في موسكو، وقد استلها خطأ في غمرة سكره، وراح يقرأ بالإنجليزية متعتعاً:

"جئت من الهند؛ بلد الهدوء والتسامح والتأمل، ماذا تعلمت هنا؟ كيفية سحق العقل الرائي المتوحد بثقل العقل الجماعي الهلامي، نزع الملكيات بالقوة وسفك الدماء، تسخين الصراع بين الطبقات ليكون بالنار والسكاكين، وليس بالكلام والفكر والتطور الهادئ، إطلاق ما يسمونه بحرق المراحل، وإزهاق أرواح الناس للوصول إلى أرقام الإنتاج المزيفة التي يريدها أعضاء المكتب السياسي للحزب، لا ...لا ليس سوى العودة سريعا إلى يارامانا!"

عندما تنبه لنفسه وقد سمع قهقهات البعض، ولمح وجوم البعض الآخر، جلس محبطاً:موجهاً كلامه إلى حبيبته، وهي كغيرها من البنات الروسيات مع عشاقهن الحزبيين الوافدين، تفقد عادة أي اتصال لها بحبيبها المناضل الأجنبي حال عودته إلى بلده قال لها: يبدو إنني لم أفهم الشيوعية جيداً يا حبيبتي، سأعود لدراستها، انتظريني يا حبيبتي، أنت والشيوعية أملي في هذه الدنيا، سأعود قريباً.‍

ضحك العطار لذلك وقال : الشيوعية كانت سراب العالم كله. لم يكن على الأرض، كان يحلق في سماء رحيبة واطئة، بدت عناقيده ناضجة دانية، دورة نضال، وجولات حرب، وراح السراب ينز دما ودموعاً، وما تعلمته البشرية من هذه الخدعة الكونية، لا يساوي عشر معشار ثمنه الباهظ! قلت أتعتقد ان فهد كان يعرف ان ما يعبئ به رحاله مجرد سراب؟

ـ كان فهد ساذجاً، وصاحب وهم كبير، عاشرته وعرفت طريقة تفكيره، هو لم يعرف من النظرية إلا عموميات سطحية حين آمن بها. ذهب إلى موسكو لدراستها بعد ان اقتنع بها، ومن يدرس وهو مقتنع، غير الذي يقتنع بعد أن يدرس. وقد ظل متسرعاً حتى وهو يبني تنظيمه ويجمع رجاله، فكثيراً ما ضحك عليه رجال توسم فيهم الثورية، وموهبة قيادة الجماهير والتضحية من أجلهم، وتخلوا عنه وعن الجماهير في أول لحظة ضيق،أو حرج أو ضغط!

ـ لقد كنت أحدهم، كنت غير مقتنع تماماً بالشيوعية، وتتحدث ضدها ثم حين دعاك ذهبت وصرت في هيئته المؤسسة، وانقلبت عليه أتذكر يا أستاذي العزيز؟

ـ هذا صحيح في حياتي الفانية يبدو إنني كنت أخلط بين الحياة والتجربة الأدبية وهذا داء وبيل يقع به عادة الحالمون من الأدباء والشعراء، لا أعتقد إنني تخلصت منه حتى بعد الموت‍

ـ هل تبقى لديك ما تؤمن به من الشيوعية‍؟

ـ بالتأكيد، هي تقول أنها جاءت من أجل الفقراء والكادحين والمضطهدين. التخلي عن الشيوعية لا يعني التخلي عن هؤلاء، العكس تماماً. لم أتخل عنهم بل ازددت شعوراً بالمسؤلية نحوهم، بعد أن عرفت أن الشيوعية هنا لن تنفعهم بل ستضرهم. فكل ما لديها هنا هو مكتب تبشيري لستالين ودولته. هذا وعيته تدريجياً فيما بعد‍،واليوم أجد أن ما تنادي به من أهداف لن تستطيع تحقيقه أبداً، وما تستطيع تحقيقه هي بثمن باهظ يمكن أن تحققه فكرة أخرى بشكل أسرع وأفضل وأقل خطورة، يجب الحذر من الأفكار الضخمة الهائلة التي تنوء بحملها الجبال قبل الرجال!‍

ـ ما زلت حتى اليوم أعجب كيف صرت شيوعياً بهذه السرعة!

ـ لست أنا وحدي، جميع من آمن بالشيوعية في العراق هم كذلك، بعضهم آمن بالشيوعية على الرائحة، وعلى السماع فقط!

ـولكنك كاتب ومفكر وكان ينبغي أن تتأنى!

ـ كوني كاتباً أو مبدعاً تعجلت التجربة، وهذه إحدى عيوبنا نحن المثقفين.

ـ وهذا سر تخليك عنها بسهولة، زواج سريع، طلاق سريع!

ـ ربما رغم أن البعض آمن بها بسرعة ودون أن يقرأ عنها شيئاً، ومع ذلك تعصب لها وصار يطرح نظريات حولها وكأنه ابتلع كل مجلداتها السميكة!

سكت لحظة قال وقد طافت على وجهه ابتسامة مشرقة: أجمل ذكرياتي هي مع جماعة الأهالي وليس مع الشيوعيين. ويعود للصمت وأتطلع إليه، أنا أيضاً أعرف ذلك. فهو في أيامه مع الأهالي عاش حبه لنورا، تمازجت لحظات سعادته معها، بسعادته وآماله الكبيرة بجماعة الأهالي. لكنني كنت دائما أجد ان هذا حديث شائك قد يجرح قلبه الناهض من الموت لتوه. قلت لأترك ذلك له، لا بد أن يحدثني به. أعرف إنه لا يجد فرحة وسروراً في الدنيا ما لم يستدعي له ذكرياته مع نورا!قال كم أتمنى لو يمهلنا الموت، ولا يأتي نادماً ليأخذنا إلى أحضانه من جديد؛ كنت سأحدثك عن صديقي معروف الرصافي،وهو يتوحد مع مأساته، نفس هائمة تتطلع للأعالي، لكن الحيوان يربض داخلنا أيضاً، حاول أن يصرف محنته الروحية بقفزات سياسية فوق طاقته، وبمناطحة صخرة الدين الجاثمة على الصدور. ثم انساق مع الغريزة، وبمماحكات وألاعيب مرحة مع الزهاوي، ولكن هيهات! أتمنى لو أستطيع أن أذهب معك إليه في الفلوجة لأرى هل أنجز كتابه "الشخصية المحمدية" الذي حدثني عنه، وما وعد أن يدونه في كراسه الرسالة العراقية، يخيل إلى أنه كان قد تنبأ بما يحدث الآن، لا بد من لقائه ولكن لا مزاج لدي الآن، لا أريد أن انقل له شيئاً من إحباطي وخيبتي، لديه ما يكفيه من الإحباط والخيبات ولا أريد ان أتعبه في النهوض من قبره وقد كان في أخريات أيامه يعاني من التهاب المفاصل. وأحمد الأنصاري، كم حدثتك عنه، أتتذكره؟ وأظن إني عرفتك عليه. هذا الرجل حارب الطائفية في طائفته قبل أي مكان آخر. تمهل لا تستعجلني، فإذا أردت أن تعرف حقيقة ما حدث؛ فلا بد لك أن تعرف شيئاً عن ذلك العالم الذي جمعنا يوماً، وخلا منا الآن كأنه لم يكن، وكأننا لم نكن فيه! قلت كل ما كنت تحدثني فيه صار خزين عقلي ووجداني وقد عشت عليه، وأنا بعزلتي في القلعة. ولأول مرة أسمع رأيه واضحاً في محنتي، وقد أدهشني إنه يعرف تفاصيلها فأنا لم أحدثه عنها، قال محنتك آلمتني وأنا في قبري! أية لعبة رهيبة قاربتها يا يونس، حزب ساهمت في بنائه وإنقاذه من الانهيارات مرات عديدة يغدو فجأة سجناً لك. فيه سجان، وقاتل يترصدك، لا تدري هل سيطلق عليك رصاصة الرحمة، أم سيواصل تعذيبك متلذذاً بأنينك. قلت هذه لعبة الأحزاب في بلادنا، فكم من الرجال قتلهم الحزب الحاكم، وكانوا هم الذين بنوه وأوصلوه إلى السلطة! هز العطار رأسه، يخيل إلي إنني لا أجد مثل هذه المآسي حتى في أساطير الإغريق! قلت لا أخفي عليك قلقك القديم وما قلته في الفكرة ونقيضها والنضال من أجله، ومآخذك عليه أفادني في حياتي المتأخرة كثيراً، بل صرت أجد فيه السلوى وراحة البال، استعاد صوته كمدرس:

ـ المتحضرون في العالم لا يؤمنون بالأفكار بسهولة،إنهم يمحصونها، يقلبونها كثيراً ويجادلون كثيراً حولها قبل اعتناقها أو تطبيقها، نحن الشرقيين، عكسهم نتسرع في تبني الأفكار والتعصب لها! ونتسرع بالكفر بها أيضاً.

مضى يقول ضاحكاً:

ـ نقضي وقتاً طويلاً نساوم فيه على شراء ثوب أو حذاء لكننا، نهب أعمارنا وأرواحنا وأسماءنا بسرعة خاطفة لأي حامل شعار، أو علم، أو لافتة، تلقيه المصادفات في طريقنا‍!

عرفنا من الشيوعية عمومياتها فقط، اعتقدنا أنها سبيل الفقراء لأخذ حقوقهم من الأغنياء،بل واعتقدنا أن كل الأغنياء ظالمون مجرمون ولم لا؟ ألم يقل ماركس أن الملكية هي السرقة؟

ـ واليوم بعد موتك الطويل، كيف تنظر إلى فهد؟

ويعب جرعة كبيرة من كأسه، تتيه نظراته في الأفق:

ـ لم أعد اكرهه طبعا، كنت وما أزال احترمه واختلف معه، وكلما قلبت أمره وحاولت أن أجد لمشروعه جدوى أجد أن الأمر لا يخرج عن كونه جزءاً من صراع عام كبير: الشيوعية مع الرأسمالية، السوفييت مع الغرب، متخذين من العراق ساحة لهم،لا بطولة في الأمر، هو مضح وضحية بنفس الوقت، قاتل وقتيل، جلاد ومعذب، ومثله كثيرون التقيتهم في عالم الموت، بعضهم كان يبكي ندماً، وبعضهم كان يكابر فيتوارى، ومنهم فهد؛ فأنا لم ألتقه في عالم الأموات أبداً، لا أدري أين لبد، ربما ما يزال يخشى لقائي. أو أنا أخشى لقاءه!

ـ ليس فهد وحده ارتبط مشروعه بالأجنبي.

ـ أنا مقتنع أن العراق لن يبنى ولن يلتحق بركب العالم المتحضر ما لم يتعاون بل ويتحالف مع الدول الأجنبية المتقدمة الفاعلة، ولا اعتراض لدي على تحالف فهد مع السوفييت وفق علاقة متوازنة، وأن يكون ما يحصل عليه حضارة منجزة لا طبخة حضارة فجة ثمنها الخضوع المطلق لهم باسم الأممية! لذا صرت اليوم أكثر تعاطفاً مع نوري السعيد لأنه كان رجلاً واقعياً تحالف علنا وجهاراً مع الغرب الذي لديه حضارة ناضجة متألقة، ولم لا تكون للغرب أمميته أيضا؟ ويحمل العطار منديله ليمرره على عرقه الناضح، الذي افلت لتوه من غبار القبور:

ـ طبعاً أنت تعرف أنني كنت أقول هذا الكلام آنذاك أيضاً، واكتب عكسه في الجريدة، صار هجومي على نوري السعيد طقساً مقدساً لدي، ولغيري أيضاً،حتى أخذت أسأل نفسي هل هو حسد عيشة؟

ويبترد بكأسه المترعة، مستحماً من الداخل، متطهراً. ويملأ كأسينا قائلاً هيا تمتع بكأسك، قبل ان يأتينا هازم اللذات ومفرق الجماعات. يتوقف هنيهة وينادي نادل المشرب، يسأله هل جاء هنا جميل روفائيل؟ كنت أكتم تذكري له، تأخذني مختلف الظنون، قال النادل: كان هنا يوم أمس. ضحك العطار، قال: تصور سبقنا. ربما استطاع اختطاف قطار،فهو مهندس قطارات! قال النادل: إنه كان صامتاً متحفظاً على غير عادته عندما كان يأتينا سابقاً. قال العطار: جميل روفائيل لا يستطيع العيش دون عمل حزبي أو ثوري، هذه مصيبته إثبات الذات بأخطر الأعمال. الآن هو مختف في أحد سراديب الشيوعيين القديمة لإعادة بناء الحزب،لا ليمنح الناس العبرة بل السكرة ثانية، يبني خلايا شيوعية في بغداد في وقت صفت الشيوعية سوقها في موسكو! قلت: ربما هو يبحث عن قبر أمه وأبيه أو حبيبة له. قال العطار: ما سر اختفائه؟ فجأة هبط علينا الجهنمي. لم نسأله أين كان، ولم يتحدث هو بشيء، لكنه حين عرف إننا نسأل عن جميل روفائيل قال: هذا مجنون، يحلم بثورة شيوعية تطلق من السراديب بينما العالم يرقص في ناطحات السحاب، ماذا جرى لعقله كأنه لم يمت ويهجع تحت الأرض سبعين عاماً، ألم ير إن الشيوعية أصبحت خارج الاستعمال، فكرة إكس باير! ألم يتب؟ ألم يشف من حماقاته؟ لكن العطار أوقفه: ما هذه الخطبة الجهنمية؟ قل لنا ماذا تريد أن تشرب؟ مضى يتحدث: بحثت كثيراً عنهن ولم أجدهن. قال العطار: لدي خبر سار لك، لن نتركك وحدك تبحث عن صويحباتك، سننطلق معك للبحث عنهن. لم تفاجأني قرارات العطار بصدد العشيقات؛ فالكثير من محطات حياته بعد فراقه عن نورا كانت تتم في بيوتهن، راح يتحدث: أنا أعرف أن العاهرات والغواني صديقات الضباط والموظفين الكبار والتجار وأصحاب الثروات. في بيوتهن تعقد جلسات القمار الكبيرة التي تخرب فيها البيوت والذمم.تتم صفقات السياسة والتجارة والكثير من مؤامرات ودسائس الحكم.في بيوتهن اتخذت قرارات تنصيب أو عزل حكومات وشن حروب، وإنهاء حروب! ولكن بنفس الوقت كم وجد ضائعون ومعذبون ومشردون أمثالنا الآن في أحضانهن من مأوى ورحمة وعطف. لذا علينا اليوم أن نبحث عنهن!‍ فنحن اليوم مشردون ضائعون في وطننا بعد ألفة واستقرار في قبورنا.وثمة أخطار تهددنا. سنجد في أحضان عاهراتنا القديمات الحنان والأمن والجمال. نجلس معهن ونستعيد ذكرياتنا الحزينة، وأيامنا اليانعة التي خاست تحت الأنقاض. لقد فشل الجهنمي في العثور على حبيباته؛ لأنهن كن في بيوت صغيرة فقيرة وقد هجم عليهن العسكر هجومهم على جند الأعداء. أما صاحباتنا كما تذكر يا يونس فقد كن في بيوت تشبه القصور المنيفة. عهدي بك أنت صاحب ذاكرة قوية وما زلت تعرف دروب الحياة الدنيا وتستطيع الوصول إليهن! قال العطار لو أمهلنا الموت ربما نعرج على منتدى أدبي، أو مقر صحيفة، أو مدرسة لنا فيها ذكريات حيث تخرج على يدي طلاب نابهون صاروا فيما بعد وزراء وقادة ومفكرين،وشعراء، ربما أذهب لزيارة روفائل بطي، في جريدة البلاد، فهو له علي فضل كبير. نشر الكثير من قصصي وأشاد بها كثيراً. ربما استعيد طيفي الجواهري وأحمد الصافي النجفي. أذهب بزيارة خاطفة إلى صديقي الحميم معروف الرصافي في الفلوجة. لكنني أخاف أن أقارب بيوتهم أو مقراتهم،أو مقاهيهم، فهي قد أضحت خرائب وأطلالاً، ستنكأ جراحي وتعذبني. أيده الجهنمي،ووافقته.لدى العاهرات أو الغانيات كما يسميهن، سيجد سلواه وسيبكي أحلام عمره الذي مني بالخيبات قبل الموت وبعده. قلت هو محق في ذلك، طاوعته راضياً بل راغباً في المضي للبحث عن عاهرات الأربعينيات، ساكنات البيوت الفخمة،علهن يتكرمن وينهضن من قبورهن لملاقاتنا. كنت أعرف أن مهمتي صعبة ومخجلة لي بعد هذا العمر، والرحلة السياسية، لكنني كنت أقول في نفسي:انهما ضيفاي، وعلي أن ألبي طلباتهما، ثم أنا أيضاً كانت لي ذكريات فسق وفجور معهما في شبابي!

(80) أعظم الرحلات: البحث عن حبيبات الصبا والشباب!

شربنا كثيراً مرة أخرى. يبدو إن من يشرب كؤوسه المترعة بعد الموت لا يسكر كثيراً، فقد ترنحت أنا الحي، ولم يترنح العطار ولا الجهنمي. أخير خرجنا من البار منتعشين،وفي ثملٍ لذيذ. عدت وإياهما إلى منتصف الأربعينيات، بغداد تزهو وهي تجدد شبابها. كل يوم جديد يبدو لها عيداً. الدولة حديثة،مثل بيت حديث عامر. طبقة من البشر تصعد مفعمة بالآمال يفوح من ثيابها رائحة الجوخ الإنجليزي، وطبقة أخرى تهبط مختنقة بخيبة الآمال يفوح منها عطن الإسطبلات العثمانية. كان ما يدور في كهف الشهداء مسموعاً لي وربما لهما؛ فقد وجدتهما يصيخان السمع مثلي؛ فأرى ملامحهما تنبسط وتتقلص بمثل ما يحس به قلبي من مجريات الكهف البعيد وراء الجبال، قلت: ليت هذا حدث منذ عهد بعيد. ورأيت العطار يهز رأسه موافقاً! تذكرت، إنني كنت والعطار أوائل الأربعينات، واقفين قريباً من منطقة علاوي الحلة، كما هو الآن، ننتظر سيارة أجرة تنقلنا إلى حي حديث صار فيما بعد يدعى المنصور. ابتنت به إحدى الغانيات بيتا جميلاً مرفها وراحت تستقبل زبائنها من ممن يستطيعون أن يدفعوا كثيراً. كانت تقدم فيه الشراب الفاخر والفتيات الجميلات. رجعت كما كنت أصغر العطار بسنوات،ومع ذلك جمعتنا صداقة وإلفة خاصة. كنت أطاوعه في نزواته. فأنا لدي نزواتي طبعاً، ولكن كانت تشدني أكثر جلساته التي تظل جادة رغم ما يكتنفها من مجون ومرح. أحاديثه مترعة بالفكر والمعلومات والخبرات مع تحامله الكثير على فهد، وحزبه الشيوعي، وصرت أعرفها وأضحك لها. ألقت سيارة خشبية مخلعة قريباً منا عائلة بوجوه شاحبة مصفرة، عليهم أسمال ممزقة تظهر منها أجزاء من أجساد الصبيان والبنات. كانوا يرتجفون من البرد والجوع، رأيت رجل العائلة يسأل أحد المارة عن منطقة الشاكرية. من الواضح أن هذه العائلة في طريقها إلى الانضمام لمجتمع العائلات الفقيرة المهاجرة من الجنوب هرباً من ظلم الإقطاعيين وتصحر الأرض، ووقوعهم تحت الحلم الماكر بالخلاص من الفاقة والبؤس في حياة المدينة. أحسست بخجل وحزن، فأنا والعطار ذاهبان لمكان سنصرف فيه مبلغاً لو أعطي لهذه العائلة لاشترت به الكساء والطعام والدواء الذي تحتاجه. أخرجت حافظة نقودي، كنت قد تلقيت ذلك اليوم أجري في قضية محاماة ناجحة من زبون ممتلئ،سللت عدة أوراق، لا أدري كم، لكنها لم تخفف سمك الرزمة التي لدي، واتجهت إلى الرجل محاولاً أن أضعها في يده،أدهشني أنه رفضها بإباء، صرت أتوسل به أن يقبلها كهدية ملابس لبناته وأولاده، ألححت عليه حتى قبلها،حين عدت، قال العطار:

ـ أنا لا أومن بالعلاج الفردي لمشكلة الفقراء. لا أؤيد هجرة الناس من الريف إلى المدن. هؤلاء يجب أن يجدوا حلولاً لمشاكلهم في أماكنهم. انتظر، بعد ثلاثين عاماً كيف سيبتلع الريفيون بغداد ويحيلونها إلى كائن مشوه متوحش، ثم سيظلون يعانون فيها الاغتراب والجوع ويحقدون عليها، فلن تجد بغداد المدينة بعد ذلك، ستختفي وتصير شيئاً آخر لا هي مدينة ولا هي قرية كبيرة! بقيت أرقب العائلة، سرعان ما توارت سائرة على الأقدام توقعت أن العطار سيجدها فرصة لينقض على فهد،وفعلاً قال:

ـ ذلك أحد أسباب التحاقي بالحزب الشيوعي، ولكن خاب أملي فيه،فكرة، وقائداً! أتعرف أن فهد هو الذي حطم حلم العراقيين باشتراكية معقولة وبالضمان الاجتماعي؟

آنذاك في لقائنا القديم أتذكر إني سألته:

ـ كيف لمن يناضل من أجل الشيوعية، أن يحطم في طريقه الاشتراكية؟

قال بلهجة غاضبة:

ـ إنه بإصراره على قاعدة كل شيء، أو لا شيء، وبكرهه لمن ينافسه، حارب الاشتراكية والاشتراكيين؛ بدعوى أنها تحريف، وزيف برجوازي؛ ومن جهة أخرى جعل الحكومة،والأحزاب السياسية تتحسس من كلمة الاشتراكية لاقترانها بالشيوعية! بقيت تشغلني صورة العائلة المحطمة، تجرجر أبناءها وبناتها شبه عراة. جاءني صوت العطار من الزمن البعيد:

ـ اسمع! كانت الفكرة الاشتراكية في العراق تنتعش وتكاد تسري في البلاد كالماء في أرض عطشى! لكن فهد ...

اليوم بدا لي رأيه معقولاً،تلفت إليه.أريد أن أذكره بما طاف في ذهني من ذكرى، كان منغمساً مع الجهنمي في حديث كأنه يقنعه بشيء. فهو قد جاء معنا غير مرتاح تماماً، رغم توقه بل عبادته للعاهرات، لكنه لا يسجد إلا لساكنات المنزول،عاهرات البيوت الفقيرة. صمتا؛ فذكرته بهذه العائلة التي رأيناها في هذا المكان قبل ستين عاماً، أين ذهب أبناؤها ماذا صاروا؟ وماذا حل بهم.صعدت بهم الدنيا أم نزلت؟ قدرت مجازفاً أن لا أحد يسمعنا ونحن في الأرض الخلاء ولا توجد لاقطة معلقة في جناح ذبابة تسجل كلامنا، فرحت أقول له: يا العطار عدت اليوم من قبرك بعد اكثر من نصف قرن، أتتذكر لقاءنا هذا؟ جاءت الثورة ونقلت سكان الشاكرية الفقراء إلى بيوت صغيرة حديثة، ولكنها لم تحل مشكلتهم، ولا مشكلة المدينة الكبيرة، أتعرف من يحكم العراق اليوم؟ رجال متوحشون قدموا من ريف تكريت، شوهوا كل شيء وساهموا كثيراً في صنع هذا الدمار، تصور صدام الذي قدم إلى بغداد في صباه حافياً صار يعير العراقيين إنهم كانوا قبله حفاة وهو الذي علمهم لبس الأحذية! كنت يا جلال خائفاً على بغداد من الريفيين، وخائفاً على الريفيين من بغداد، أكنت تتوقع أن نبوءتك ستقوم بهذا القدر من البشاعة؟ راح يهمس لي: لذلك كتبت في قصتي القصيرة "قمر تجرحه أشواك الأرض" لا تمنح الثقة المطلقة حتى للفقراء، مثلما تضع شروطاً وتحذر الأغنياء ضع شروطاً واحذر الفقراء! تذكر إن ستالين وهتلر والحجاج وصدام ومئات الطغاة كلهم من الفقراء، أتذكر كم شتموني وطعنوا بي على هذا الكلام، خاصة رفاقك القدامي متملقين الفقراء، ناسين إن الفقر المادي يعني على الأغلب الفقر الفكري والثقافي وحتى الروحي أحياناً، وإنني بكلامي أردت إنقاذ الفقراء من مأزقهم الكبير. كنت قد تركت حزبهم قبل أشهر فانتقلوا من تسميتي بالشيوعي المثقف المناضل صديق الكادحين؛ إلى المثقف البرجوازي المتفسخ عدو الفقراء! قلت وأنا أحدهم، قلت لك في حينها إن المئات من الطغاة جاءوا من الأسر الغنية فاحشة الثراء، واتفقنا أن الإنسان هو احتمال كبير، خَير أو شرير، وإن علينا أن لا تفقد ثقتنا بالإنسان؟ قل لي بعد رحلة الموت الطويلة هل فقدت ثقتك بالإنسان؟ قال: فقدت ثقتي بجسد الإنسان، هذا الضخم القوي الرشيق تأكله دودة صغيرة في القبر! قطع حديثه قائلاً سأحدثك هناك، ويقصد بيت المتعة والأنس، فقد وصلتنا السيارة، جلسنا بها صامتين! في تلك الأزمان كنا نقصد هذه البيوت الفخمة، تبنى حديثاً وتبتعد عن قلب بغداد ذي المعمار المثقل بذكريات وعتمة الماضي، للحصول على عزلة آمنة للحديث في محظورات فكرية وقضايا تخشاها الحكومة، فباتت تبث عيونها وآذانها هنا أو هناك، كنا نغتنم أجواءها الهادئة المعزولة، لا يضايقنا فضولي، أو واش أو ثقيل ظل. لنجد المتعة والأنس، وآنذاك كنت أعرف ما سيقول العطار في تحامله على الحزب، وفكرته فيزيدني انجذابا لهما، واليوم أجد أن الكثير مما قاله قد تحقق. رغم ميل العطار للمجون، لكنه يظل جاداً، صاحب هم كبير، يضع جو المتعة واللهو خلفية لأحاديثه التي لا تخلو من تناقض رغم ومضاتها المدهشة لي في الأقل! كان البيت فخماً تتقدمه حديقة غناء، تقف أمامه سيارة شوفرليت موديل 1940 تحيطه أرض واسعة غير مشيدة لكن ثمة أكوام سمنت ورمل وطابوق حولها، كانت تفوح عند الباب الخارجي والممر رائحة الآس المقصوص، أغصانه الطرية تغطي الأرض، قال العطار رائحة الآس المقصوص تجعلني عصياً على الموت، قال الجهنمي ضاحكاً: أيعني هذا أن الموت لو جاء يسترد وديعته ستصرعه رائحة الآس، ولا يستطيع الوصول إلينا، رد العطار بثقة: بالتأكيد! استقبلتنا سيدة البيت مبتسمة متهللة ومرحبة برصانة، جعلتنا نقف مبهورين، هي ليلى الرائعة صاحبتنا قبل ستين عاما ما تزال في ريعان شبابها، بثوب جميل هفهاف يكشف عن كتفيها وصدرها الناهض، وفخذيها الخمريين الممتلئين اللذين يقطران شهوة وجاذبية، في الثلاثين تقريبا، جميلة فارعة، بوجه متورد، في صوتها بحة جنسية واضحة، لم تضع عليه مساحيق، كانت آنذاك عشيقة العطار، لذلك عانقها ما أن صرنا في الصالون قائلاً:

ـ تصوري أفلت من الموت من أجلك! نظر الجهنمي إليَ َضاحكاً،كأنه يقول: بدأت أكاذيب العطار التي لا غنى لنا عنها! ما أن جلسنا حتى تدفقت علينا كؤوس العصائر والتمر هندي المثلج، ثم جاءت كؤوس ثقيلة أخرى، وتفتحت الجلسة على ثياب قصيرة وأفخاذ وصدور عارية ورقصات وجلوس في الأحضان وقبلات سريعة وطويلة. أحسسنا بانتعاش، نسينا الموت ومواعيده كلها. اقترح العطار أن ننتقل إلى حجرة أخرى في البيت الكبير مفروشة بسجاد وثير ومدفأة بوجاغ نار لا يزال الجمر الكبير يتوهج فيه تحت قمع مدخنته الرخامي، انقلاب مناخي هيج كوامني ورغباتي، جو الشتاء آنذاك وجو الصيف هذه الأيام يختلط علي الحالين فاشعر بمتعة أعمق، وكلما جاءت سيدة البيت أو إحدى فتياتها طالبة العودة للشراب المسكر أو الصعود لحجرة الخلوات، كان العطار يصدهن بإشارة من يده، انسل الجهنمي عنا مع فتاة وجد فيها ملامح المنزول وعطره الرخيص. كانت فتيات البيت يعرفن العطار ويحببنه، فيرجعن ضاحكات مستمتعات بأنهن سيتلقين أجورهن كالعادة منا دون عناء، غامضة موحية تلك الأيام، عاد إليها العطار من عزلة القبر، وأنا من عزلة الجبل! في الحجرة الخالية إلا منا. بدأ حديثه:

ـ فهد أصر على أن يأخذ الفكرة من مبشر أجنبي، رافضاً تناولها من مفكرين عراقيين صاغوها بشكل ناضج وملائم للبلد وأهله!

ـ لماذا تلومه؟ لو لم يأت بالفكرة لأتى بها غيره، هناك الفكرة، وهنا الحاجة، وكان لا بد من التقائهما!

حدجني بتلك النظرة التي كما كان يحدث في هذا العهد البعيد، يتوقف بعدها عن الكلام حتى يصعب أعادته لجو منسجم. أنقذت الموقف فتاة قدمت تحمل طبقاً من الفستق، كانت بثوب أحمر خفيف يشف عن سرتها الشهية، وعن فخذين سمراوين مكتنزين برشاقة، ابتسامتها كانت كافية لتطفئ الحريق الذي كاد يشب على مائدتنا، جذبها بقوة ومضى بها إلى الحجرة المجاورة، ورحت أنا أبحث عن رفيقة لي وقد أزمعت أن أتوقف عن هذا الحديث الذي يكاد يحرمنا هذه المتع والمباهج النادرة. حين عدنا إلى جلستنا، قال بصوت مسترخ رغم شخرته:

ـ ربما لا يمكن معرفة أية رياح أو مياه حملت إلى أرضنا النخيل، لكنا نعرف أن أرضنا قبلتها واحتضنتها فصار لدينا الكثير من النخيل وأنواع التمر. كما لا نستطيع أن نجزم أية ريح حملت الفكرة الشيوعية إلى أرضنا لكن من الواضح أن أرضنا لم تقبلها ولم تحتضنها، هي فقط احتضنت الدماء والدموع التي تفجرت بسببها، ألا يدعو هذا للسؤال، لماذا؟

آنذاك في الزمن الجميل كنت أبقى صامتاً أرقبه يصب الويسكي بقدح الكرستال المشع، لا أناوشه بكلماتي عله يتعب ويصمت، وننصرف لساعات في هذا البيت الجميل، ننسى فيها همومنا. لكنني اليوم استحثه على الكلام أريد أن أقف على تجربته وقد عذبته كثيراً. وأرى من خلالها تجربتي وحطامها، كان في البيت بضعة فتيات حسناوات مختارات، ولم يأت سوى بضعة زبائن، توزعوا على الحجرات بصمت وتكتم وهدوء، لكنهم اليوم بعد رحلة الموت، والوجود المفاجئ، يبدون أكثر، صخباً وأقل رصانة وتهذيباً، قال :

ـ ثمة رجال أتوا بفصيلة من بذرة الشيوعية، قبل فهد أرادوا تكييفها وتحسينها لتنبت على أرضنا، لكن فهد سفه عملهم وأصر على زرع الصنوبر الجليدي في أرضنا الساخنة،هل نستطيع زرع نخيلنا في جليد السوفييت؟

عجبت أن الجهنمي انبرى له مصححاً:

ـ ليس هنا المشكلة، قد ينبت النخيل في الجليد، وقد ينبت شجر الجليد في الهجير، لكن الفكرة المستحيلة لا تثمر لا في جليد، ولا في هجير! لم يكترث العطار له، تلك عادته حين يستعيد صوته كمدرس يصعب إيقاف تدفقه: بقيت صامتاً، أوزع اهتمامي بين الإصغاء له، وتسمعي لأصوات كهف الشهداء البعيد:

ـ وصلت الفكرة إلى أرضنا أوائل القرن العشرين، بشكل غامض. من الصعب الجزم إن كانت قد حلت أولاً في البصرة، أم في بغداد لكن ثمة دلائل تقول أنها حلت في المدينتين وربما مدن أخرى في أوقات متقاربة،كان الفقر متفشياً والأرواح تتعذب، طيور في هجير وجفاف،فلا شجر ولا بذار. ما يبعث على اليأس، يبعث على الأمل أحياناً! ثمة أنباء وأفكار تحملها مجلات وصحف ورحالة تصل إلى مدن في العراق تتحدث عن تحولات وانقلابات وتغييرات، وأعاصير أفكار تطال العالم، الأغنياء المستغلون يترنحون، تتطاير قبعاتهم وألقابهم ودولهم وبنوكهم كالقش في الرياح. والفقراء والكادحون ينهضون، والظلم لم يعد قدراً محكماً وأبدياً، في بلد الشقاء يفرح الناس بزوال المستبدين ومظالمهم في أي مكان مهما كان بعيداً؛ فهذا يعني أنهم على الدور ولهم الحق في أن يكونوا هم أيضاً أحراراً وسعداء! رغبة التغيير أخذت تتفجر في قلوب قلة من الشباب وهم في تيههم بين زحام الناس الغارقين بجهلهم وغفلتهم وبؤسهم! في بلد الشقاء يكون الحلم عادة بحجم الشقاء، ويظل هائماً في الهواء لا يحط على الأرض، هو يزدري ثقل الأرض، والأرض تزدري خفته، فيروح يرتوي من السراب، ومما تزقه به الطيور المهاجرة. ويظل لهفة حرى مشروعة وضرورية، لكنها محرمة وممنوعة، فهي تمس مقدسات ومحرمات الأسلاف!

لم يكن معتنقو هذه الفكرة قد عرفوا الشيء الكثير عنها، ربما فتات منها، عينة، رائحة، طيف كلمات قليلة تؤشر إلى طريق وراء ضباب وعتمة. ومع ذلك امتلئوا بها فهي قد حلت بأجسادهم، وصارت قوتهم الخاصة، زيت معصور من ثمرة محرمة، أخذ يغذي أرواحهم التي يمتلكونها حلالاً وحقاً، صاروا فخورين بها، تياهين بها على الآخرين، بعضهم بدأ يحس بالخوف وبالخجل من تلميحاتها المنذرة لأعمدة البيت والعائلة، وهياكل المعبد! أطلق أعداؤها تحريضهم، احذروا أنها ستقلب كل شيء، المآذن والقباب، الكتب القديمة، العائلة والقبيلة، وأسرة النوم، والأملاك والشرطة وحتى قنان الدجاج، والمغازل التي بأيدي العجائز وهن يتجاذبن الحديث مع جاراتهن على الأبواب. وتساءل أناس مذعورون، غاضبين مستنكرين، من جاء بهذه الفكرة؟ من جاء بهذا الوباء، سماها بعضهم :طاعون المثقفين! قيل أن الفكرة وصلت إلى العراق مع بعض الجنود والضباط الإنجليز في الحرب العالمية الأولى. كان العثمانيون قد تركوا العراق وأهله وراءهم وفروا كأنهم تقيأوه، أو أخرجوه من أدبارهم، بعد أن قطعوه بأنيابهم وهرسوه بكروشهم الكبيرة. لم يتجاوز عدد العراقيين كما تعرف المليون والنصف مليون نسمة، لكن هذا لا يعني أنهم لا يحتاجون لخبز كثير، أو أن مشاكلهم قليلة أيضاً، قال الإنجليز إنهم جاءوا محررين لا فاتحين! لكنهم تصرفوا منذ اليوم الأول لدخولهم العراق أسياداً يتجولون في إقطاعياتهم الكبيرة، فراحوا يأمرون وينهون، ينصبون ويعزلون، يمحون ويرسمون خرائط البلاد، يجمعون الناس في مكان، ويفرقونهم في مكان آخر، لكنهم على أي حال بدأوا يبنون مع العراقيين دولة لديها كهرباء وماء وقطارات ومستشفيات ومدارس،وكل ما تحتاجه حضارة ناشئة، والأهم رسموا لها طريقها بدستور، ولكن ما ظل يجري في عروق الدولة سائل سري لا يرى بالعين المجردة، لكنك تشم رائحته إذا صارت لك حاجة معها، عصارة القرون الطويلة من المظالم المبرقعة بالدين. ظلام وفساد وقسوة غيبيات وخرافات وأكاذيب، كلما حاول البعض أن يميل بالدولة جهة الشمس مالت جهة الظلام، أتعس معضلات الدولة أن 99% من العراقيين أميون، ومن يعرفون القراءة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية قليلون جداً، حتى ليعرفون بالأسماء! ومع ذلك راحت الدولة تميل أكثر جهة الشمس فلم تعد الكتب المتداولة والمسموح بقراءتها محصورة بالقرآن وكتب الفقه، ظهرت فجأة كتب أخرى! وسرت مقولة أن الإنجليز لا يريدون مسك البلاد بالبندقية، بل بالأوراق وقوة الاعتياد عليهم التي ستجعل أهل البلاد مشدودين لهم كأولياء أمور جادين رغم عيونهم الخضر، وأسنانهم الأمامية المفروقة، التي توحي بالغدر حسب معتقدات العراقيين!

توقف العطار لحظة، جاءت الفتاة التي كانت معه في حجرة النوم، بيدها منديل معطر، أخذت تمسح به جبهته ورقبته المتعرقة في دفء الحجرة، ثمة ريح باردة تضرب النافذة،طلب منها أن تفتحها، ففتحتها قليلاً، تلك عادته دائماً والتي على ما أتذكر كانت تزعجني فيه، فكم أصبت بالبرد بسببها، كان ينضح عرقاً في عز الشتاء، خاصة إذا استغرق في الشرب، داعب فتاته، أجلسها في حضنه كطفلة، وراح يقلب جدائلها بأصابعه ويمررها على شفتيها، ويشم عطرها منتشيا. أخذت أتأمله، هذا الرجل العائد من الموت، من يلومه إذا تهالك على شهوة الحياة،وعلى نهم الفكر؟ كم يجمع من رغبات الجسد والعقل؟ من الجدية والهزل، من التوتر والخدر؟ وكم يمكن أن يمنح الثقافة المعوزة لو انصرف لها ولم يبدد لياليه في معاقرة الخمرة والتدخين والثرثرة والتقلب في مخادع النساء؟ انقلب مع الفتاة على الأرض.واعتلاها، ذهلت أحقا هذا رجل عاد من الموت لتوه،والفتاة أليس هي أيضا بعثت من الموت لأجله ولأجلنا، وهذه أليم كلها حومة أحلام مسكرة!

خرجت إلى الصالون كانت سيدة البيت تدير اسطوانة لقارئ مقام شاب يدعى حسن خيوكة، كان يسحرني بالحزن العميق المترسب في صوته كترسب الزيت الثمين في قارورة عطر قديمة، كنت سارحا مع كلام البستة الشجي: "بعد الخمر والكيف.... مالح يشربون! ودمعي روى البستان بطل يا دالي!" رأيت الجهنمي يبكي، وحين أحس بنظراتي: سألني أين نحن الآن؟ وماذا نشرب؟ قلت: نحن الآن في بيت امرأة حسناء في بغداد، لا في هذا الزمان الأسود بل في الأربعينيات نشرب ما كنا نشربه في حانات وبارات بغداد في الأربعينيات! قال بصوت غاضب: بل نحن في بيت الموت نشرب ماءه المالح، لماذا تخدعنا؟ تجرجرنا وراءك في شوارع هذه المدينة المهجورة، ماذا فعلت بنا؟ تنفست الصعداء حين قطعت حديثنا فتاة جاءت من الحجرة قالت :

ـ العطار يسأل عنك!

فعدت إليه، موقناً أن الجهنمي سيبكي كثيراً، ثم يصعد مع الفتاة ويمارس الجنس كثيراً، ويعود إلينا ناسياً الموت شأنه شأن ملايين البشر الأحياء في هذه اللحظة، قال العطار ضاحكاً:

ـ قطعت حواء حديثنا الخطير، دائما هي تخرجنا من الجنة إلى نارها التي أطيب من الجنة التي تكبدت عناء الموت والسفر من أجلها ولم أجدها سوى في أحضانها! ‍

أترع كأسينا، احتسى جرعة خفيفة، قال:

ـ ما أحدثك به هو ليس تاريخ هذه الفكرة فذلك أتركه لمؤرخين يابسين يكتبونه وهم ليسوا في بيت المتعة والأنس مع كؤوس الويسكي، أنا فقط أريد أن أثبت لك أن هذه الفكرة قد جاءت العراق بشكل عادي وطبيعي مع الهواء والبذور الأخرى وكان يمكن أن تتطور وتتفاعل وتتلاقح وتنتج عنها فكرة مناسبة للناس عندنا، ولكن فهد أصر على قطع كل ذلك وأتى بها ضمن أوامر ستالين، ومشاريعه في الهيمنة الروسية على المنطقة، مجلوبة جاهزة معلبة بقوالب ثلجية تارة، ونارية تارة أخرى، علب كافيار عليها ماركة السوفييت، ودمغة طابو باسمه، فرمان وتفويض الاستعمال له وحده، بذلك قطع تفكير المثقفين الوطنيين بها،ألم اقل لك إنه ببغاء ستالين، وبوقه للنفير في بغداد، وتلك جنايته الأولى!

ضحكت قلت في نفسي، رغم إنه أفرغ الكثير من شحناته مع الفتاة الصغيرة الجميلة لكنه ما يزال متوتراً متحاملاً على فهد، وربما على أي إنسان آخر يختلف معه، مناقضاً بذلك نظرية الجهنمي، قلت:

ـ ولكن تاريخك الشخصي صار جزءاً من تاريخ الفكرة، لقد تفتحت قريحتك الروائية الملتزمة لهموم الناس في لهب هذه الفكرة!

أحنى رأسه، أعجبه الإطراء، أو مس أشجانا في روحه، ظل صامتاً برهة، ثم انتفض فجأة شاعراً إنه إطراء ناقص، بل ينتقص منه وهو ما لم أكن أقصده:

ـ لا ! أنت تظلمني أنا كنت كاتباً ملتزماً معروفاً قبل أن ألتحق بالحزب، وأتبنى الفكرة على علاتها، على العكس، أنا منحت الحزب من شهرتي، وحاولت منح الفكرة من نضجي وحكمتي!

أستطيع أن أقول لك أن تجربتي مع الحزب استنزفتني خربت موهبتي وذائقتي زمنا طويلاً لم أستعده إلا داخل قبري، ولات ساعة مندم!

دخل الجهنمي الحجرة فجأة سمع بعضاً من حديثنا قال:

ـ رأيت كثيراً من المبدعين في الأربعينيات والخمسينيات، كنت أتوسم فيهم مواهب كبيرة، بعد أن انخرطوا بالحزب تحطموا، ليس فقط جسدياً بالسجون والتشريد، بل خربت عقولهم ونفوسهم من الداخل بالتحزب الأعمى، والوصفة الشيوعية للإبداع الشبيهة بوصفة طبيب دجال. كذبة كبرى يروجها الشيوعيون أنهم صنعوا مبدعين،هم في الحقيقة حطموا مبدعين كثيرين! استهلكوهم بالعمل الحزبي، وتبعاته من سجن وتشريد، أو تضليلهم، وحبسهم في قفص الإيدلوجيا. قضينا تلك الليلة نخوض في جراحات كانت نائمة فاستيقظت كأشداق الوحوش، لم يجد معها لا الخمر ولا الجنس ولا الموت!

(81) ما هي هذه الفكرة حقاً؟

عاد العطار يتساءل هامساً متعلماً خفوت الصوت من ليالي الموت الطويلة: حقاً ما هي هذه الفكرة التي استلبت عقولنا وجرجرتنا خلفها، وشردتنا حتى الموت؟ أهي براءة العقل المطل على الدنيا قمراً، ونجماً هادياً؟ أهي اشتعال مفاجئ لما تراكم على مر العصور من زيت المعابد القديمة وقناديل الكهنة؟ أهي قدحة نور وهمي من أيدي السحرة والمشعوذين؟ أم هي مشعل أدلاء حزانى في متاهات الصحارى، والبلاد المسورة بالصحارى والأديان؟ ومضة قلب مترع بحنان الدنيا كلها؟ نبتة دم وحشي طافح بالشهوات والمكنونات الثقيلة، والرغبات الدفينة القاتلة؟ لماذا لها نعومة ورق الورد، ورسائل المحبين، وخشونة حبل المشنقة؟ لماذا لها رحيق الغيمة وجسد المرأة، وعطن الخرائب والأشباح؟ لماذا هي عسل وسم، عطش وماء، يقظة وحلم؟ لماذا هي تخدر الذهن وتؤجج الألسن والأقدام؟ أهي حكاية آلهة أم شياطين؟ خلود أبدي أم فناء بطيء؟ حيض الأرض بمكنونها من خصب ونماء وربيع أبدي، أم صديد القبور وعصارة العالم السفلي؟ الجسر أم الهاوية؟ الكهف المظلم أم الصخرة المضيئة المطلة على البحر؟ تدفق النبع وجفاف ثديي المرأة المرضعة المقهورة؟ البيت المهجور، أم بيت الحب والخمر؟ همس العاشقة وزمجرة العاصفة المدمرة؟ أم هي كل ذلك دفعة واحدة وأرادونا أن نحفظ نصفه الجميل عن ظهر قلب ونضغطه بشعار حزبي، وحبة دواء، ونظرية، كتاب، خطبة زعيم، ونسير خلفه بالتنويم المغناطيسي الثوري؟ ونلقي نصفه الآخر على الأعداء كوصمة عار أبدي؟

لكي افهمها علي أن أسير عكس الزمن،أستحث العطار للسير معي في دروب الدنيا، ربما آلاف السنين، علني أرى بذرتها الأولى،فهي لم تتكون مصادفة، أو كنزوة أو رغبة قائد، بل كضرورة عبر اللوعة الجارحة والتطلع اليومي الحزين المستكين إلى السماء! عله يبدل دنيا الموت والعوز بدنيا حياة وغنى وهناء. واصل العطار كلامه:

ـ في البداية كانت شيوعية الماء والهواء والطير والحيوان والفاكهة والجنس والدفء والمأوى، يهبها الغيم والتراب والريح بالتساوي وبالعدل، دون جهد ولا نضال ولا منة، ثم تراكمت همسات وصخب ورعود،وهالات ضوء وظلام، فراحت تصنع كل عام قبائل من الآلهة،راح البشر يستجلبونها ويحولونها كلاب حراسة ليخربوا بها بساتين الخير والعدل!

وفي صيف العراق تفجر شبق عشتار،ولهب جسد تموز! ثم كان طغيان النهرين وفيضاناتها وأهوارها الوحشية الغامضة، ووهم سفينة نوح المنقذة بإجحاف وانتقاء، زوال الخير الوفير وأحلامه اللذيذة، هجوم الأقوياء على الخيرات والثروات يكنزونها بينما توارى الضعفاء داخل جروحهم، كل شيء صار ذكرى، جنة توهم الإنسان أن أمه وأباه طردا منها بسبب تفاحة، تفاحة واحدة فقط، هكذا يقول الكهنة،أكانت حمراء أم خضراء؟ كل البشر صاروا منفيين،وكل العالم صار منفى،والوجود الجميل المعطر بالزهر والطير والسمك صار سياسة ونضالاً وصراعاً، والوطن الحقيقي والشرعي هو الجنة،التي يجب أن نعود إليها بأمر الكهنة حتى لو لم نردها. انتشرت الأنباء الكاذبة في أنحاء العالم، انقسم الناس إلى فريقين:الأول يريد العودة لجنة الحلم مقسماً أن لا يخضع لإغواء الشيطان ويأكل التفاحة مرة أخرى، والثاني كذب الحكاية وقال يجب أن نصنع جنتنا بأنفسنا،وهذه المرة لن يطرد منها أحد لأنه أكل التفاحة، بل لأنه لم يأكل التفاحة، ويسقي شجرتها! بالطبع كلهم يدورون حول التفاحة، والأرض والشمس تدوران حولهم:

ـ المصيبة أكبر من تفاحة،إنها في الحقيقة كنوز الأقوياء والمتجبرين وسيوفهم، ومن هنا بدأ الجحيم!

كدح أصحاب جنة الأرض فاستولى الأقوياء على ثمارهم ومنحوهم الجحيم الأرضي، ورأى إبراهيم الخليل مظالم ملوك العراق المتعددين شبه الآلهة، فاستدعي عليهم إلهاً عظيماً واحداً صنعه بنفسه، فألقي في النار واخترقها بمصادفة أو ذكاء إلى بلاد كنعان، ومن نسله جاء موسى فحلم اليهود على يديه: بسعادة المن والسلوى لقاء التزمت والصرامة والحرب، ومن نسله جاء نبي شواطئ البحر المتوسط عيسى فحول الحلم إلى نبيذ وشعر وزواج أبدي، لقاء تسامح وتساهل، وترك الشجرة للله يسقيها ويرعاها،والتفاحة للقيصر وأصحابه! ومن إبراهيم جاء نبي المسلمين محمد فارد أن يلغي كآبة الصحراء بجنات تجري زلالاً وعسلاً وخمراً، والأرض بحوريات وغلمان،لقاء صلوات وأحزان بعدد حبات رمالها. كانوا جميعاً يبحثون عن جنات مطهرة مقدسة، يشاع فيها كل شيء، وكلهم لديهم أسم مختلف لها، لكن لم يلبث أن غلب عليهم القتال لا الوصال! والمحال لا الكمال، وظلت أفكار الجميع بذوراً تنقلها الرياح والمياه من أرض إلى أخرى، فسمقت أشجاراً مزهرة تفئ ظلالها بشر، ووقع بفؤوسهم عليها حطابون أو ناقمون أو متاجرون، حتى وصلت بذرتها أصابع ماركس الماهرة فوضعها في تراب أوربي بارد وراح يسقيها حبراً، وجبراً ورياضيات، ويسمدها برماد مداخن المعامل المشبع بدماء عمالها المرهقين المتزاحمين، وآهاتهم تحت سياط مستغليهم. لكنه وهو يصنع خصالها الجديدة لم يستطع أن يتخلص من صفاتها الوراثية! رغم كل ما سكبه عليها من خلاصات كتبه الكثيرة جداً، وتأملاته ودخان غليونه، وما يتساقط من شعر لحيته التي أضحت بيضاء بسرعة تصاعد آلامه وهمومه العظيمة.

تجرع العطار كأسه كله ومسح شفتيه،ومضى يتحدث، وكلنا نصغي له، حتى الفتاة السمراء الجميلة التي ضاجعها قبل قليل جلست أمامه تلميذة خاشعة شبه عارية:

ـ بقدر شموخ عقل ماركس وسعته كان مكبلاً بترسبات كثيرة! في أعماقه أنه من عائلة يهودية اعتنقت المسيحية، وقد أجهد نفسه، لا ليجافي يهوديته القديمة وحسب، إكمالاً لشرطه الإنساني كما قال، بل الفكر الديني والغيبي كله! فالدين كما رآه هو الفلسفة البدائية المبتذلة،أفيون الشعوب المأخوذة بذوره من أشجار السحر والشعوذة، لتزرع في حدائق المعابد ومن ثم حدائق رجال الدين والمصارف، بينما طموحه هو الفلسفة الراقية والتفوق على كل أساتذته الأوائل! لكنه ظل في أعماقه ودون وعي مخلصاً للكثير مما في اليهودية الغائرة في نخاعه: لمطر المن والسلوى،(طعام الشيوعيين الجاهز فيما بعد). للسبت الذي لا تشعل فيه نار، ولا يفتح فيه باب(المحظورات الشيوعية الكثيرة فيما بعد). للظلمة والحزن في البيوت الخائفة من القادمين والمستعدة للهجرة أو الغزو، للخروف الذي يذبح ببطء لينزف آخر قطرة من دمه وليتعذب كثيراً مادام المؤمن سيأكل لحماً زكياً مطهراً (رمز الأضحية الشيوعية ناكرة الذات النازفة حتى آخر رمق، والمكتب السياسي للحزب المستمتع بلحم الأضاحي). الانضباط في صلوات وصوم (المواعيد والسنن الحزبية). لتقشف وجفاف الأيام الحاضرة من أجل ثراء وبذخ الأيام المقبلة التي لا تأتي لأن موعدها لاحق وفي جنة السماء (النقاء الثوري الشيوعي)، لشعب الله المختار الذي صار (البروليتاريا المختارة). للتردد والحسابات الدقيقة والنقود الأهم التي تترجم جهد الإنسان (المادة قبل الروح). للكتب التي لا يمكن أن تتخلى عن فكرة لأخرى، إلا على شقوق النمل الأبيض والعناكب.((الجمود العقائدي فيما بعد) للشمعدان السباعي، وللمثلثين المشتبكين في نجمة والذي صار فيما بعد (المنجل والمطرقة). كلها صارت طبائع للشيوعية ومقدساتها المهابة، من يزوغ عنها يوصم بالخيانة ويلقي في جحيم ثلوج سيبريا،آلام بشر عليهم أن يظلوا نسوراً تحمل لأنحاء الأرض السراب الأحمر، الحلم الأعظم بعدالة بشرية حين طبقوها في دولة كبرى داعبت الغرائز ومحقت الروح، قدست العبودية، وانتهكت الحرية!

اغلق ماركس عقله عن كل دعوة لمنح فكرته طراوة الحياة (رددوا كالنشيد الحياة خضراء والنظرية رمادية) كما أغلقهما عن نداءات زوجته لمنحهم حياة رغيدة من جهده وكده، أو من حقه كوريث لأب ثري موسر،آ ثر الانكباب على دراساته المعمقة في مكتبة المتحف البريطاني معتاشاً على دراهم قليلة تأتيه من صحيفة فقيرة، ومن إنجلز صديقه الغني، ورفيق فكره وقضيته، راكلاً ثروة أبيه، بحجة أنها من عرق الآخرين. حرم زوجته وبناته من عيش رغيد مشروع، فظل متمسكاً بحياة قاسية في بيت صغير بارد رطب في لندن، ماتت فيه بناته الصغيرات الواحدة تلو الأخرى بالتدرن الرئوي من الرطوبة وسوء التغذية،وعندما توفيت البنت الصغيرة الجميلة، وكانت تنام على فراش يمد على الأرض الرطبة المثلجة وتبرع لها أحد أصدقائه بتابوت خشبي، قال وهم يسجونها فيه (الآن ذاق ظهرها طعم الخشب) لم يمتثل لحزن العائلة، خرقه بمجون مفاجئ،ضاجع هيلين خادمة البيت، فحملت وأنجبت طفلاً رفض الاعتراف به وعامل الخادمة بما لا يعاملها به رأسمالي جشع دنئ، تدخل إنجلس وطيب خاطر الخادمة، وأنقذ ماركس من عار كبير، وتبنى الطفل. وطيلة كتابته لرأس المال كرسالة في الاغتراب، ودعوة حنان وحب للبشرية، كما قال مريدوه، لم يتذكر الطفل الذي أنجبه. ذات يوم والابن في العشرين تلاقيا على سلم عمارة بالمصادفة. الشاب يعرف أن ماركس أبوه،وماركس لا يعرف أن الشاب الجميل ابنه، حياه برقة فرد ماركس التحية:

ـ أهلا بك! يبدو عليك أنك بروليتاري، لم لا تنظم إلى حركتنا الشيوعية؟

أجابه الشاب بهدوء وترفع:

ـ لا حاجة لدعوتك الكريمة! لقد انضممت لحركتكم مذ كنت نطفة في ظهر رجل يدعى كارل ماركس!

اهتز جسد كارل ماركس وكاد يسقط من الدرج، لكنه تمالك نفسه بصعوبة،يقال إنه إثر هذه الصدمة دخل المرض الذي أفضى به إلى الموت دون الشيخوخة المتقدمة، إذ 65 عاماً حتى في القرن التسع عشر ليس بالعمر المديد!

يقال أن ماركس كان قد خاض مآسي حياته كلها بدعوى التسامي بينما هو في الحقيقة مارس إيذاء الذات وتدميرها، من يدمر نفسه وعائلته في طريق فكرته الجامحة كيف نضمن إنه لا يدمر بها العالم؟ استغرق في تحليل أرقام الأيدي العاملة والآلات والمال والأغنياء وشركاتهم وبنوكهم، متجاهلاً أعماق النفس البشرية بما فيها دهاليز نفسه؟ مغامرة عقل جريء، أو متسرع ساوى فيها بين فائض القيمة وفائض الحياة، والموت وفائض الروح والحلم! لم يكن دجالاً ولا دعياً ولكن أعظم المحن والمزالق الفكرية جاءت من مفكرين وقديسين وأنبياء لعبوا مع الأفاعي السامة، كما يلعبون مع الحمام في الحدائق العامة، أو البراري، لم يدع ماركس يوماً أن موزع البريد جاءه برسالة من السماء،كان يقول أن الرسائل التي تصله كلها من الأرض، لكنه كان لا يقر أن رسائل الأرض تأتي عادة مختلطة برسائل السماء ومنذ أزمان طويلة! في النهاية: أعطى رسالته ثقل الدين نفسه، تزمته وصرامته، جحيمه جنته، وقد اكتوى به كثيرون ليس في ثلوج سيبريا وحسب بل في رمال السماوة في العراق، وفي صحراء سيناء في مصر،وفي مياه الكاريبي في كوبا!

ليس كل ما قاله هذا الرجل سيئاً أو فائضاً عن الحاجة،وليس كل ما قاله جيداً وفي صلب الحاجة، ولكن الآن كم يحتاج المتعبون على أرضنا من هذا الحلم أو الكابوس؟ نصفه؟ ربعه؟ عشره؟ بالتأكيد ليس كله،كم كنا نحتاج منه؟ حتى سم الأفعى فيه فائدة، لكن الكارثة أن كثيرين ومنهم فهد أرادوا أن يبتلعوا الأفعى كلها!

نهض العطار مد يده بالزجاجة وملأ كؤوسنا، رغم أن الفتاة وضعت يدها على فوهة الكأس لا تريد المزيد من الشراب لكن العطار كعادته يجبر جليسه على مجاراته الشراب، ملأ كأسه احتسى نصفه دفعة واحدة، مضى يتحدث:

ـ لا أريد أن أخوض تعرجات هذا الحلم ومنحنياته التي صارت من الصخر رغم إن البعض يمضغها كحلوى، لا أريد ذلك. فهذا ينكأ جرحاً في قلبي، ولكن ما حيلتي والأشياء تتداعي في روحي، حجر يستجلب حجراً، وغبار يستجلب غباراً، روح تشطب روحاً، وعندما تتقوض الأسس،من السخف أن نسأل عن مصير السقوف! والآن أتسمعون معي حديث هذين الرجلين، راحوا يصغون معه، فعلاً كانت ثمة رجلان يتحدثان، ويأتي صوتاهما مموهين لا يدري السامع هل هما من بعيد أم من داخل الحجرة. كان من الواضح ليونس أنهما ليسا من كهف الشهداء.هما يتحدثان الآن حول البيان الشيوعي، استطاع يونس ان يتبين الصوتين. إنهما لماركس وإنجلس كأنه عاشرهما لإلف عام، صوتان لا يخطئهما ونبرتان لا يخطئهما حتى لو تحدثا بكل لغات العالم. ماركس يقول كتبناه بعجالة فجاء سطحيا وساذجاً! بسطنا فيه آلام البشر الكثيرة الطويلة المعقدة المتشعبة واختصرناها بالصراع الطبقي، كأن لا توجد في الدنيا سوى الرأسمالية والبروليتاريا، لا كائنات أخرى على الأرض، نسينا الحمر الوحشية في غابات أفريقيا، جيوش الفقمة الزاحفة على جليد القطب! إنجلس أكد كلامه: نعم ما نفيستو الشيوعيين ضحل التفكير والصياغة،كتبناه بعد ليلة كرعنا فيها الكثير من البيرة الرديئة، كنا نئن من الصداع ونحن نكتب. سمعت عن مجموعات من العمال سطروه كصفحات من الإنجيل. لا ينبغي أن تداخل تفكيرنا كلمات مقدسة، القيناه في خضم التيارات المحتدمة في شتى بقاع الدنيا ولا نعرف كيف سيتصرف الناس به. ضحك ماركس قال له اليوم وصلتني رسائل كثيرة من بعض المعجبين بالبيان يريدون مني أن أصوغ الشيوعية في قانون. أرسلت لهم أحذرهم أن لا يحولوا الشيوعية إلى قانون أو دين آخر، يكفي البشرية ما فيها من أديان حفرت لهم القبور قبل البيوت. أكثر ما أخشاه يا صديقي أن يظهر ماركسيون اكثر من ماركس، يلقون بأفكاري على عاتق الناس كديون باهظة عليهم الإيفاء بها بينما هم لم يتلقوا من فوائدها شيئاً. فيدفع هؤلاء الطيبون تكاليفها من كدهم وأرواح أبنائهم. قال إنجلس كيف نستطيع تدارك ذلك؟ نحن لا نستطيع أن نرقع البيان الشيوعي فنضعف جوهره: الإطاحة بالاستغلال واغتراب الإنسان عن إنتاجه.قال ماركس: يجب ان ندعو لمزيد من الدراسة والتفكير بالشيوعية قبل طرحها للتطبيق، وصيتي لك يا إنجلس أن تتصدى للماركسيين أكثر من ماركس قبل ان تتصدى لأعداء ماركس! توقف الصوتان. صمت العطار مثل ساحر فرغ من طقسه الغريب. تنبه يونس لماركس وإنجلس يطيران من النافذة ويلتحمان بغيوم تعبر السماء المضاءة بقمر اكبر من المعتاد. وأصوات الشهداء المنتفضين لا تزال تصله واضحة تغمر قلبه بالسكينة!

سكت العطار.بدا متعبا جداً. بقي يونس صامتاً متفكراً: ما قاله العطار اليوم كان قد قاله في الأربعينيات. هذا أكد لي إننا بعثنا من الموت ووصلنا إلى الأربعينيات فعلاً، كلامه أنعش عقلي وروحي، صار صدر العطار يختلج إنه مرهق ومع ذلك قال له الجهنمي كأنه يستفزه بخبثه المعهود:

ـ الشيوعية حلم ذلك، ذلك شيء رائع، وما الضير أن يناضل الإنسان من أجل حلم أو رؤيا أو أمل كبير! في رواياتك مجدت الحلم كثيرا!

رد العطار بهدوء: الحلم شيء عظيم، لا حياة ولا سعادة دون حلم، ولكن الأحلام الكبيرة يصنعها ويروضها المبدعون والشعراء، وهي مشاريع ثقافية، لا سياسية وأي حزب سياسي يقوم على حلم، مجرد حلم مهما كان كبيراً، هو مغامرة تدميرية.تهلك الناس والحياة! السياسة الصحيحة يا صديقي علم وواقع وخطط مدروسة!

بقينا في جدل طويل ولا أدري متى أخلدنا للنوم، كنت فقط خائفاً أن العطار والجهنمي قد لا يستطيعان العودة للحياة مرة أخرى إذا ناما، فالنوم كما يقولون هو الموت الصغير!

(60) بين كهف الشهداء ومدينة الأحياء خيط رقيق تبتلع طعمه سمكة كبيرة!

ظل يونس ورفيقاه يترددون إلى الكهف الكبير، يرون ويسمعون الكثير من قصص وحكايات الشهداء وأمهاتهم وأحبتهم، جانب كبير منها يبدو غريباً ومثيراً حتى للعطار والجهنمي القادمين من عالم الأموات، ومع ذلك سماه الجهنمي ب(كهف الأحزان، وفلتة الزمان)،وربما كان في التسمية موفقاً بعض الشيء، فالكهف كان لحظة انتزعت من بلادة وغباء أزمنة طويلة! حين يملون الانتظار الطويل لانعقاد المحكمة، ولا يحضر المتهم المطلوب وترفع الجلسة، يعودون القهقرى إلى بغداد، وجدوا إنهم لا يستغرقون وقتاً طويلاً في ذهابهم وإيابهم بين الكهف العميق البعيد ورحاب بغداد! خطر لهم إن سبب ذلك هو أنهم يسلكون طرقاً أثيريه، جسوراً داخل الروح، ممرات سرية بين العرفان والبرهان، كما قال العطار، محتسبين أن قياس الزمن مختلف عند أهل الدنيا، وأهل العالم الآخر، لكنهم اكتشفوا أن الأمر أعمق من ذلك، وجدوا إن بغداد نفسها صارت ضمن طرقات وتجاويف العالم السفلي، فهي أيضا عتمة وأشباح وصمت مرعب وأشجار ووجوه ذابلات،وهي لا تصير ضمن العالم العلوي إلا حين تضاء بأقمار وشموس ماضيهم الجميل، وحين تهب عليهم نسمات عطرة ندية من دجلة أيام كان يفيض على الضفتين خصباً وسمكاَ وزهوراً، وليس كما هو الآن مستنقع واسع تتفسخ فيه جثث البشر والطيور والكلاب!

من أي شارع أو زقاق في بغداد صاروا ينزلقون بسهولة إلى العالم السفلي، لا يستغرق ذلك سوى ومضة، لا يكاد أحدهم يشعر بهذه النقلة، علق الجهنمي على ذلك: لا يحس من مات إنه مات حتى تستفزه صبوات أهل الدنيا! الطرقات هنا وهناك في بغداد حول الكهف ورغم الحرارة الشديدة لهذا الصيف باردة كئيبة موحشة، تكتنفها عتمة وغبار خفيف يجعل الصدر ينقبض، لكن دائماً هنا وهناك، أنوار تومض من بعيد تجتذب الساري كأنها إشراقة الحقيقة، باب النجاة، النبضة الأولى للعودة إلى الحياة؛ فتشجعهم على المضي ساهمين بين الحجارة والغبار، كان العطار يقول "هذا هو قدر الباحث عن الحقيقة، لهاث في الحياة وفي الممات" راحوا يرتادون مقاهي وحانات الزمن الذي مضى وقيل لن يعود، وها هو يعود لهؤلاء الثلاثة المعذبين، ويعودون إليه،فيروح الجهنمي يبحث عن حبيباته القديمات فلا يجدهن. كان يسأل يونس بادي اللوعة، بين فينة وأخرى :أين يمكن أن أجدهن؟ فالجهنمي يعتقد أن يونس لابد يعرفهن ويعرف عناوينهن، أماكن قبورهن طبعاً، لأنه من أهل الدنيا، ويسأله يونس:

ـ وأنت، ألم تلقهن في عالم الموت؟

ـ لم أبحث عنهن، أخشى أن أراهن هياكل عظمية بعد ما أشعلت قلبي مفاتن أجسادهن.

ـ لو بقيت معنا هنا فإن وجودك القوي سينهضهن من الموت، ولكن أما زلت تعتقد أن في الجنس يكمن حل مشكلاتنا؟

رفع جمجمته:

ـ علمني الموت شيئاً مهماً: إنه الوجه الآخر للجنس، لولا الجنس هل يوجد موت؟ هذا يعني إنه الوجه الآخر لحياة، هل توجد حياة لولا الجنس؟ كيف لا يكمن فيه حل لكثير من المشكلات؟ لكنه متعب كثير التفاصيل، بينما وجهه الآخر، الموت اختصر كل مهماته بحفنة تراب في أفواهنا،وضعها كما وضعت الأم حلمة ثديها لأول مرة في أفواهنا! ظل الغافلون في الدنيا منهمكين في البحث كل عن شأنه: سرير، بنك، سلاح،مكتبة، طبق طعام، كأس شراب،مرة يقتربون من الموت، ومرة من الجنس وفي كلا الحالتين هم يسيرون اللحظة التي يلتقي فيها الموت والجنس في شهقة أخيرة!

ـ عودتك إلى حبيباتك بعد الموت، هل سيقلب هذه اللعبة؟

ـ لا، طبعا.هي فقط محاولة،حلم جميل،عبثاً نخرج من لعبة الجنس والموت، فقط أريد أن أتأكد هل أنا عدت إلى هذه الدنيا حقاً!

ـ قبل قليل قلت إنك معنا استعدت ذكريات عذبة من أمسيات بغدادية صافية، لم تر مثلها حتى في حلمك بجنة العالم الآخر!

ـ نعم،هذا صحيح، لكن لا يخفق قلبي وأحس بوجوده إلا حين تأخذني امرأة بين ذراعيها وفخذيها عارية ساخنة معطرة، وتدخلني في أعماقها!

ـ هل أستطيع أن أقول إنك وجدت أن ما يتبقى من الجسد في القبر هو الغدد الجنسية، وليس القلب؟

رد بخفوت :

ـ حين تضع في حضن الموت: الشهوات والحرمان الحب والدموع البكاء والضحك يصير مثل خلاطة الفواكه: تضع فيها التفاح والبرتقال والموز وربما الكحول أيضا، فتخرج فاكهة أخرى لا تعرف أسمها أبدا! أنا لا أدري أية عصائر الآن في قلبي: تسكرني تارة: وتوقظني لفكرة كئيبة تارة أخرى!

تذكرت ما قاله لي العطار عندما سألته على انطباعاته عن عشتار وشهرزاد، بعد هذه المشاهدات المتقلبة قال :

ـ عشتار كائن سماوي صار بعد الموت أرضياً شهوانياً، وشهرزاد كائن أرضي صار بعد الموت كائناً سماوياً، هذا إذا هو حالنا جميعاً، آلهة وبشر، ومن أين جاء الآلهة وأديانهم ومذاهبهم أليس من أرحام البشر؟ أليس من الخوف مما بعد الموت؟ وماذا وجدت بعد الموت؟

ـ حتى الآن ..لا شيء ولا أدري ماذا سيحدث لنا في القبر بعد عام، قرن، آلاف القرون، فهم يقولون إن موعد الحساب لم يحن بعد! نحن لم نحاسب الله على الدنيا التعيسة، لا أدري كيف سيحاسبنا الله على الآخرة!

(82) وصفة الجوال في شفاء الحال!

بدأنا سهرة الليل، جميلة متألقة كالمعتاد، صاح العطار يطلب سجائر، كان مدخناً مفرطاً، يدخن في اليوم أكثر من علبتي سجائر أجنبيتين يفضلها بعلبها المعدنية. جلبت فتاته علبة كرفن كبيرة معدنية حمراء الوجه مذهبة، ولعت له سيجارة، وطلب منها أن تذهب، قائلاً وهو يضحك:

ـ الآن وقت الفكرة، لا وقت المهرة.

ومضى في حديثه مستعيداً لهجة شهرزاد:

ـ بلغني يا رعاك الله، أن ثمة مثقفين انبروا لالتقاط الذبذبات الحادة والقصيرة، الآتية من وراء الأفق لفكرة الشيوعية من كراريس وكلمات قليلة استطاعوا ترجمتها من الإنجليزية. ولكن الدفق الأقوى للفكرة جاء من أمين الجوال، كان هذا الرجل الأسمر الممتلئ الطويل ذو العينين الواسعتين جوالاً في فكره اليقظ، وجوالاً بجسده المفعم بالأحلام والرغبات. تعرفت عليه في بغداد عندما كنت في دراستي بدار المعلمين العالية، وكان في أوج شبابه. انضممت إلى حلقة مريديه وكان يحدثنا عن حياته، مقدراً وهو محق أن فيها الكثير من دروس البحث عن المعرفة، وكيف تكون مهمة شاقة حين ترتبط بحياة الناس ومصائرهم! تعرف الجوال على الفكرة في برلين. عندما وصلها على أول قطار ذاهب من اسطنبول إلى ألمانيا عام 1916. كان عمره دون الخامسة عشرة، ولم يكمل الثانوية، كان والده ضابطاً عربياً في الجيش العثماني، وقد عين ملحقاً عسكرياً في ألمانيا، وأمه تركمانية من أسرة النفطجي، التي كانت من أوائل من تعرف على ينابع النفط في العراق، بأيديهم وجيوبهم لا بالمجسات العلمية. فراحت تستثمر بطريقة بدائية حقول النفط في بابا كركر، كانوا سادة كركوك المتنفذين، وأعيانها منذ عهود طويلة مستظلين بالرعاية العثمانية! أكمل الجوال الثانوية، ودخل معهداً للهندسة، وأبدى تفوقاً، لكن فكرة الاشتراكية أطلت عليه من كل جهات برلين واعدة بجنة على الأرض فاستهوته كما استهوته المراهقات الألمانيات؛ فراح يستطلع عنها، فاعتقد أنها كما الفتاة الألمانية أيضاً جميلة شهية وواضحة وفي متناول اليد والقلب والسرير. لكنه لم يلبث أن عرف أنها فكرة لعوب عصية كما الغانيات المتمرسات بالهوى، وقلوب الرجال! كانت الثورة العمالية قد اندلعت بعد ثلاث سنوات من وصوله، وقد صار يتقن الألمانية، ويفهم بماذا يهتف العمال ويرفعون من شعارات، كان السبارتاكيون وراء ثورتهم وقد أخذوا يطرحون نظريتهم الجذرية كالقنابل في الشوارع؛ فتهز العقول والأجساد دون دخان أو دماء، خاصة في البداية. صار يذهب مع أصدقائه إلى أماكن تجمع العمال الثوار ويسمع هناك خطب أثنين من قادة الثورة: روزا لوكسمبرغ وليبكنخت ويشاهد الجنود وهم ينتزعون شاراتهم العسكرية من خوذهم ويضعون مكانها شارات الثورة والزهور الحمراء، وكان العمال يبعدون الطلبة عن ميادين الثورة خوفاً عليهم، ويزودونهم بمنشورات تحمل اسم (حكومة المجالس، السوفييت الألماني) مطبوعة في بلغاريا وقد شهدت قيام سلطة عمالية؛ فراح الجوال يتعرف على الفكرة أكثر من هذه النشرات، ومن كتب ومصادر أخرى وفرها أصدقاؤه له، وجدوه متحمساً لقيام ثورة مماثلة في العراق! لا يمكن القول أن الجوال قد ألم بالفكرة أو أخذ صورة عميقة عنها؛ لكن ما عرفه عنها كان كافياً على ما يبدو لتكوين حلمه الخاص عن جنتها الموعودة من قبل بناة حقيقيين، وإنها ليست كجنة رجال الدين الذين يغدقون الوعود حولها دون علم، وكان يكن لهم كرهاً فطرياً غريباً! قطعت دراسته ولم ينل شهادة الهندسة بعد أن انهارت الدولة العثمانية؛ أثر خسارتها الحرب العالمية الأولى. عاد إلى العراق عام 1920 وهو يشعر أن هذه الفكرة أخذت تملأ جوانحه، (كتب لصديقة ألمانية له يقول :إنها أثمن هدية آتي بها لشعبي المعذب المعزول عن العالم منذ دهور سحيقة، أنها أرقى من شهادة الهندسة الجامعية، فهي تعكف على هندسة الروح والمادة، كم أتمنى لو أستطيع أن أهندس بها حياة العراق كله!) لكنه وجد عائلته قد خسرت ثروتها أيضاً، غرقت السفن الشراعية التي تمتلكها وتسير في رحلات تجارية بين موانئ الهند والبصرة وبغداد أثر تعرضها لعواصف بحر مفاجئة، قيل أنها انتحرت بشكل جماعي تحت ضغوط ومنافسة السفن البخارية البريطانية الجديدة، وإن شركتهم كانت بصدد تصفية أعمالها؛ لذلك جلبت زبدة ثروتها في الهند على هيئة كنز كبير من الجواهر، غرق داخل إحدى هذه السفن غير بعيد عن ساحل إحدى الجزر. وجدت العائلة نفسها فجأة في صف الفقراء والمعوزين المثقلين بالديون، المعرضين للجوع والضياع، وأدت إلى تشتت أفرادها وتناحرهم! زاده ذلك قناعة بعدالة قضيته التي تحمل الحل الجذري لمسألة الثروة وتوزيعها، والجوع في بلد ثري، لكنه غرق لأشهر في حيرة لا يدري ماذا يحل! مشكلة العائلة؟ أم مشكلة الوطن؟ وجد أنه لو حصل على كنز العائلة القادم من الهند أو جزء منه؛ فسيغذي به كنز الفكرة ويساعد في نشرها ونهوضها جنة للعراقيين. حسم أمره وسافر في رحلة طويلة إلى الهند، في حلم مسحور أن يجد الكنز الذي قيل أن فيه جواهر كانت مجلوبة من خزائن تاج محل، كان أمله معقوداً على نوتيه وغطاسين وأدلاء هنود فقراء يسيرون وفق خرائط الأقدار المدونة في معابدهم، والمخالفة لكل قواعد الأنواء البحرية والبرية! بقي في الهند حوالي سنة متنقلاً بين معابد ومواخير وفنادق قذرة ومكتبات؛ لا يستنشق غير رائحة الأبقار المقدسة، والأفاعي الراقصة في الشوارع على أيدي فقراء مرحين، وأحياناً الساري الهندي العابق بالزعفران والقرنفل حين تنزعه له فتيات هنديات فاتنات في مزيج لذيذ من العبادة والجنس لقاء وجبة طعام أو قطعة نقدية صغيرة! عاد واجماً وليس في حقيبته سوى ملابسه القديمة ورزمة أوراق وقلادة من عاج الفيل لفتاة كان يحبها وهجرها في قلقه الذي لا يهدأ، قال لها مستغفراً متوسلاً:

ـ رحلت باحثاً عن الكنز في بلاد السند والهند، غافلاً أن لدي في العراق كنزين: أنت، والفكرة العظيمة التي جلبتها من ألمانيا!

ورغم إن الفكرة التي يقول أنها كنزه الثاني صارت باهتة في رأسه أو لم تكن عميقة وشاملة إلا إنه عكف على كتابة مقالات قليلة عنها مردداً بعض أقوال وأفكار ماركس ولينين حولها على أوراق تفوح منها رائحة بهار وصندل هندي، جمعها في كراس كانت أهميته كلها تنحصر في أنه عرف الناس باسم الفكرة، لا الفكرة نفسها، مبرزاً جوانبها المغرية والجذابة! قام أحد أصدقائنا باستنساخه بخط يده الجميل واضعاً له عنواناً:(وصفة الجوال في شفاء الحال) وزع على الأصدقاء المقربين ممن توسم بهم قبول الفكرة، أو لهفتهم لها، وقد بدت لبعضهم وصفة سحرية عجيبة لشفاء العراق الخارج من دبر العثمانيين بعد أربعمائة سنة من الهضم، وعسر الهضم، ملطخاً بدماء بواسيرهم وقرحات أمعائهم، بل عدها بعضهم كلمة السر(أفتح يا سمسم) القائمة على العلم والفلسفة لا السحر والوهم، وبها سيفتح فعلاً أبواب كهوف علي بابا وكل كنوز السعادة المطمورة والمنسية في أرض العراق وقد طال البحث عنها في صحاريه ومستنقعاته وأضرحة أأمته، ودراويشه! صار يتداول الكراس مثقفون وهواة فكر وسياسة وقد انبرى بعضهم يحاول تشكيل تنظيم ثوري على أساس ما جاء فيه من أفكار وأهداف وشعارات رغم بساطتها وسذاجتها. تعرفت عليه بعد أن قرأت كراسه،وساهمت بتوزيعه. اقتادني إليه تلميذه وقريبه محسن الشيخ الذي كان مثلي مهتماً بالقصة والرواية. كنت في تلك الأيام مهموما بقضية مدينتي الموصل التي وصل النزاع عليها بين العراق وتركيا إلى المحكمة الدولية. كنت أصاب بالحمى، بين فترة وأخرى، وأعاني الأرق الطويل، وأعاف الطعام، وتكسو شفتي دمامل وبثور. كنت قلقاً أخشى أن يتواطأ الإنجليز مع الأتراك فيهبونهم الموصل، خاصة وإن رجال دين سنة يعتقدون عن أيمان عميق أن من الواجب أن تبقى الموصل والعراق كله في أحضان العثمانيين المسلمين. ورجال دين شيعة كبار، وبدفع من الإيرانيين، صاروا يطالبون الحكومة بأهداف تعجيزية بغية إسقاطها، وإضعاف موقفها، وكانوا لأهداف خطيرة، ومعقدة بعضها واضح وبعضها غامض ومحير يطالبون الحكومة بإبطال أي معاهدة أو تحالف مع الإنجليز. صار الإنجليز يلوحون باحتمال أن يلقوا بالموصل كلها في سلة الأتراك. كنت طالباً في الكلية ببغداد، ولتردي وضعي النفسي كدت أقطع دراستي الجامعية، وأعود إلى الموصل، وكأنني أريد الإمساك بها لكي لا ينتزعها أحد من أهلي ووطني، هل ذقت يا يونس مشاعر من تسحب الأرض من تحت قدميه لتطوى كسجادة يحملها اللص ويهرب بها؟ أضحت دروس الرياضيات تضجرني رغم قدرتي على استيعابها بسرعة، فكنت أسري عن نفسي بقراءات أدبية وفكرية، وفي لقاءات مع مثقفين وكتاب يترددون على مقاهي وبيوتات البغداديين المهتمين بالفكر والشعر بفتح دواوين ومجالس ترحب بمرتاديها ضيوفاً مكرمين. أحببت الجوال من لقائي الأول به، شعرت أنه أيضاً ارتاح لي، إذ ضمني إلى حلقته الأساسية التي لم أكن أعرف مقرها، وكانت مفاجأة لي ان يعلمني صديقي محسن الشيخ أنها تعقد ليلاً وسراً في جامع الحيدر خانة. كانت للجوال حلقات أخرى عامة أو عفوية تضم أشخاصاً يعرفهم أو لا يعرفهم، يتحدث لهم بأفكاره التي صارت تتراكم يوماً بعد يوم دون أن تكتمل، تعقد في صالونات البيوت البغدادية التي أخذت تكثر وتزدان بأثاث فاخر، بعضه مستورد من أوربا، بعد أن بدأت الحياة الاقتصادية تنتعش في العهد الجديد، وفي المقاهي التي صارت تنبذ شيئاً فشيئاً من يسمونهم (الشقاوات والبلطجية والسرسرية والكلاوجية والأدب سزية والبلشتيه وغيرهم من التسميات التركية التي تطلق على المتورطين بقضايا الاغتيالات والسطو، والسرقات، والشذوذ الجنسي، وقتل الفتيات بدعوى غسل العار! صارت المقاهي شيئاً فشيئاً تحتضن المتحدثين بجد وبلاغة عفوية أو مصطنعة عن السياسة وهموم الخلاص من الإنجليز ومن أسموهم عملائهم الآخذين بالانتشار والهيمنة على مفاصل السلطة في البلاد! كنت أرى الجوال يفرح ويستبشر كثيراً حين يجد كثيرين يقبلون عليه مقدرين هديته الثمينة: التي أتى بها لهم من عالم لا يمكن لهم أن يصلوا إليه، هدية عظيمة ليس كتلك السبح والقلائد ووريقات الأدعية التي يأتي بها لهم الحجاج من بلاد الحجاز أو إيران ولا تهبهم سوى المزيد من الكسل والذهول والشرود في البيوت والطرقات. كان الجوال قد أدرك سطحية وضحالة ما جاء به عن الفكرة؛ فاخذ يتردد على مكتبة مكنزي التجارية الإنجليزية في شارع الرشيد، والتي يمتلكها إنجليزي اشتراكي من حزب العمال البريطاني، ويحصل على بعض الكتيبات الصغيرة التي تتطرق للاشتراكية، وجدها لا تلبي طموحه؛ فراح يستحث صديقه محمود حلمي صاحب المكتبة العصرية ليجلب له كتباً ماركسية. استطاع أن يحصل له على منشورات شيوعية واشتراكية من دور نشر بريطانية وفرنسية، وعلى كتابين للينين وستالين وأعداداً من جريدة اللومنتيه،جريدة الشيوعيين الفرنسيين (طاف لأيام في مقاهي بغداد بحثاً عمن يعرف الفرنسية، ليترجم له شيئاً من الجريدة فلم يجد أحداً) تمكن بطريقته البارعة أن يحصل من ضباط إنجليز على بعض منشورات الحزب الشيوعي البريطاني، وحزب العمال، وبعض كتب برنارد شو في الفابية! تكاثر عدد المثقفين أو المتعلمين الذين اعتبروا هدية الجوال آلة مسحورة ستصنع السعادة لهم، ولأجيالهم القادمة إلى الأبد! لكن آخرين نفروا منها، عدوها سماً، ومرضاً مستورداً؛ من يصاب به لا علاج له ولا دواء، سمعت بعضهم يقول (إذا لم يعجبه العيش بيننا على أرض الآباء والأجداد؛ فليذهب إلى بلاد الكفار الملحدين الحاقدين) هؤلاء استغربوا حين رأوه أخذ فجأة يتردد على جامع الحيدر خانة في شارع الرشيد. بعضهم استبشر حين رأى هذا العائد من بلاد الكفار والزنادقة قد شفى من لوثته العقلية، ووجد طريقه إلى الإيمان وإلى جنة الله التي قال لهم مرة إنها ليست موجودة سوى في ألمانيا! وإنه هناك فعلاً سبح وعام طويلاً بأنهار من خمر وعسل، وتنقل بين أحضان حوريات شقراوات، وإنه لو أراد غلماناً لوجدهم أيضاً، لكنه لا يمكن أن يكون شاذاً حتى ولو في الجنة! بيد إنهم مهما امتلكوا من شكوك، وخيال ما كانوا ليعرفوا أنه بعد أن كسب محسن الشيخ، ابن إمام مسجد الحيدر خانة لفكرته، وجماعته، أقنعه أن نأتي لنجتمع ليلاً في حجرة داخلية في المسجد، نتداول كشياطين الأماكن المقدسة المهذبة في الماركسية، وفي طرائق نشرها كدواء جديد فعال ضد العلل لثلاثة المزمنة التي تفتك بالعراقيين بشراسة: الفقر والجهل والمرض! وكانت حجته في إقناع محسن: أن الفكرة إذا كانت صحيحة، وهي صحيحة دون شك، فإن الله ورسوله لن يغضبا من شيء فيه خير المسلمين، وإذا كانت خطأ وهي ليست كذلك حتماً، فإن الله غفور رحيم! في هذا المسجد وقبل سنوات تقريباً كان قد اجتمع أأمة الشيعة والسنة وأطلقوا نداءهم المؤيد لثورة العشرين، تحفه دعوات خطباء مدنيون وقصائد نارية تؤجج الحماسة النارية في الصدور، كان يلقيها شاعر شهير أعمى لقب بالبصير. وكنا نجد على جدرانه بقايا بياناتهم وقصائدهم ملصقة على الجدران. وجدت ان انتسابي لحلقة الجوال قد منحني سعادة غامرة، وعزز من ثقتي وأملي ان تركيا لن تستطيع انتزاع الموصل من جسد العراق، كما انتزعت الإسكندرونة من جسد الشام. فالأمور هنا،إذا انتصرت فكرة الجوال؛ ستصير بيد الفقراء والكادحين، وليس بأيدي الحكام الخانعين للأجانب! هكذا تقول الفكرة الجديدة كما يشرحها الجوال! في حجرة من هذا المسجد كان الجوال يجتمع بنا موضحاً الأمر أننا الخلية الاشتراكية الأولى في العراق، وقد حظيت ببركة غريبة طريفة فقد ولدت في مسجد! سأل أحدنا حين ننتصر ونستلم السلطة هل سنهدم المسجد؟ ران الوجوم علينا؛ حتى الجوال أخذ يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم قال أخيراً: هذه أمور حساسة ليس أوانها الآن، دعوها إلى وقت مناسب! كان محسن يقدم لنا ما يتبقى من أطعمة يجلبها الناس لإمام الجامع، وهي عادة من الفقراء، لا الأغنياء، أيفاءً بنذور أو لشفاعات،أو إرساليات للموتى، عبر بريد الجامع: أرغفة خبز مدهونة بالزبدة والسكر، معجنات محشوة بالتمر، والكزبرة، شوربة عدس وماش، قال أحدنا:

ـ كلوا. اليوم نأكل من أيدي الفقراء، وغداً نحن نوكلهم!

عقب آخر، وقد نسى ما قاله الجوال قبل قليل:

ـ وسنوكل رجال الدين زقنبوت!

نسى ان محسن بجانبهم، الذي وجم، وحين خلا لنفسه راح يبحث في معنى كلمة زقنبوت هل هي من "الزقوم" طعام أهل الجحيم؟ رغم إنه كان يعرف أنهم لا يقصدون والده وحتى إذا كانوا يقصدونه؛ فهو قد صارت بينه وبين أبيه مسافة، منذ صار يخونه بمنح محرابه لهؤلاء الملحدين، لكنه مع ذلك لسع في قلبه، أن في السياسة قدر كبير من الغدر والقسوة، أحس برعشة، قرر أن يلتصق بالأدب ويبتعد عن السياسة في اقرب فرصة. هكذا حدثني فيما بعد. مضى معهم فهم أصدقاؤه وقد منحهم وعداً باحتضانهم ويجب أن يفي بوعده. بادر الجوال لإصدار جريدة صغيرة أسماها (الصحيفة)، صارت جماعتنا تغطي تكاليفها من جمع مصروفها اليومي، وأخذنا نحررها في الجامع سراً. كانت نصف شهرية وب16 صفحة،تولينا نحن الأعضاء كتابة مقالاتها، وبمواضيع عامة، ولمقالات مبسطة عن الاشتراكية، كان الجوال يقول لنا:

ـ سيقولون الآن أو غداً إنني أتيتكم بالماركسية، ولكي أكون صادقاً معكم، فأنا لم آتيكم بها، بل بما عرفته أو فهمته من مبادئها الأولية، الناس هنا لم يعتادوا على الأسماء الأجنبية، ويعدونها لكفار وأناس نجسين، وبعضهم إذا نطق بها يركض إلى الماء ليتمضمض، أو يتوضأ، لذا أرجوكم أن تتحدثوا عن الماركسية، دون ماركس، ولا تذكروا لينين أو ستالين، فهذان الاسمان ما زالا غامضين، أجنبيين، منفرين، لا يمكن أن يكونا وطنيين في إي وطن غير وطنهم. جوهر الفكرة يصير أكثر وضوحاً بدون الأسماء. ما كنا نتطرق للقضايا السياسية اليومية، ولا لأي شيء، يخص الدولة، لذلك فإن الحكومة لم تكترث لنا! كان أغلب مسؤولي الحكومة والشرطة يجهلون الشيوعية، خاصة إذا عبر عنها بكلمات أخرى، ودون أسماء قادتها المعروفين في العالم. لذلك كانت لدينا في تحرير الجريدة مساحة كبيرة لتقديم أفكارنا. ورغم قلة وبساطة وابتسار ما نعرفه عنها آنذاك؛ لكن ما قدمناه كان كثيراً ومؤثراً آنذاك! أخذنا نؤكد على فكرة التطور، كل شيء يتطور، الناس وأجسامهم، النبات والحيوان، الأخلاق والأفكار، العادات، والأديان، الأرض والسماء في تطور، يأتي يوم وتنطفئ الشمس، ولا ندري أتولد أكوان أخرى، كما كانت أكوان أخرى قبلنا! ثم نسأل ولماذا تبقى رؤوسنا مثل فاكهة مهملة تجف على أغصان شجرة الحياة؟ لم نكتف نحن محرري الجريدة بما نشرناه من مقالات تنويرية؛ رحنا نتطلع لمعارك أخرى أعمق،،فكان الجوال يقول لنا:
ـ أرجوكم أن تظلوا عقلانيين، غير متهورين أو عاطفيين في ما تطرحون على الناس، أريد لفكرتنا أن تولد في يوم واحد مع توأمها: العقلانية! بدون العقلانية سيضيع كل شيء، وسيأتي البحر كالأسد الهائج إلى بغداد، ويبلعنا!

لكنه مع تحذيراته لنا، لم يستطع أن يقي نفسه ولا جريدتنا الصغيرة من الشطط والتطرف. أخذ الأمر يفلت من أيدينا دون إدراك؛ فخضنا معركة غير متكافئة مع الدين، ورجال الدين! فطفقنا نكتب بما عد من قبل المتدينين تجديفاً وكفراً صارخين، ومقالات وشعارات استفزازية ضدهم: أخذنا نشرح وبتفصيل مثير معنى مقولة ماركس، الدين أفيون الشعوب قائلين: الدين خدعة ووهم يسعى إليه الإنسان العاجز أمام الموت والمرض والفقر. نشرنا مقالاً عنيفاً يقول فيه كاتبه: في البدء كان الناس يصنعون الأصنام من الحجر أو التمر، أو شمع العسل، فإذا جاعوا أكلوا آلهتهم، وإذا غضبوا حطموها وبنوا بحجارتها أثافي طبخهم أو تغوطهم، لكنهم ابتكروا فيما بعد صنماً كبيراً صنعوه من ذرات نور وهواء، رفعوه إلى السماء لكي لا تطاله يد ولا فأس ولا بلاء، نصبوه محصناً في الأعالي وقالوا إنه يرى ولا يرى. مع ذلك، حطمه الناس في أوربا بعد أن انتشوا بثورتهم الصناعية والرأسمالية، أكلوا لحمه الإلهي مع النبيذ وأفخاذ الشقراوات والغلمان أيضاً، وآن له أن يتحطم في الشرق أيضاً؛ لينطلق الناس أحراراً في رحاب أرضهم وسمائهم يبنون صناعتهم وزراعتهم، ويقيمون جنتهم الحقيقية! مؤكدين أن الطريق لتحطيم الصنم السماوي يبدأ بفضح رجال الدين، وتعريتهم وكشف حقيقتهم كدجالين هم أنفسهم لا يؤمنون بالله،ولا برموز الطوائف، لكنهم يعتاشون على الإيهام بوجودهم وسطوتهم. كان أكثر هجاء لهم إثارة ما ورد في العدد العاشر من الجريدة وصفهم لرجال الدين وقادة الطوائف: (القراد الذي يمتص دم البشر) وتشبيه لحاهم الطويلة (مزارع القمل المتنقلة!)، وعندما أستعيد ما قمنا به،آنذاك أعجب كم كانت دماؤنا ملتهبة فوارة، حيث تجرأنا على الله، ونحن في بيته، وكنت أسال نفي وأنا أتقلب في قبري، هل كان غضبنا على السماء لما كان يحمل عليها من أقوال وادعاءات، أم لما تحمل الأرض فعلاً من عوز ومظالم وقسوة صبت على الناس باسم الدين؟ كنا نوزع جريدتنا بأنفسنا على مراكز بيتية لأصدقاء لنا فيوزعونها بدورهم لآخرين، ثم نخرج إلى الهواء الطلق لنرى تأثير كلماتنا على وجوه الناس متخيلين أن كل الناس يقرأونها وقد صاروا مفكرين وفلاسفة مثلنا! كان من بين أصدقائي حسين جميل الذي على عزيز شريف طالب الحقوق القادم من عانة. كان حسين جميل أقل حماسة لأفكار الجوال، بينما وجدت عزيز شريف متقبلاً لها ومتلهفاً لمعرفة المزيد عنها.كانت هناك مجلة أخرى بنفس الاسم (الصحيفة) نصف أسبوعية،مقرها حجرة مقابل السينما الوطني في شارع الرشيد يحررها رجال ناضجون بينهم المحامي والأديب والمعلم، كنا نعد رصانتها وهدوءها جبناً وثقل دم، صحيفتنا السرية التي تصدر سراً ن المسجد هي حلمها الحقيقي وطيفها المحلق في آفاق الفكر والحقيقة والثورة، هكذا كنا نعتقد أو نوهم أنفسنا ونحن نلوذ في مقهى "النقيب" في محلة قنبر علي، لنتحدث في موضوعاتها كأننا مجرد قراء عاديين، ونقارنها بموضوعات الصحيفة الأخرى، وننتصر لصحيفتنا طبعا، قائلين هي التي سترسم طريق العراق!

تنبه رجال الدين لجريدتنا المتطرفة، طويلة اللسان، فشنوا عليها هجومهم الوقائي والتدميري، كانت بنادقهم ومدافعهم فعالة رغم قدمها: الفتاوى، تحريض المنابر، التهديد المقدس، إثارة حمية مصلين تغص بهم الجوامع أيام الجمع وهم في حرمانهم وكبتهم ينتظرون إشارة من أئمتهم ليتفجروا، يقتلون ويقطعون الأوصال؛ دون وازع أو رأفة! هدر رجال الدين دمنا المجهول لديهم. أباحوا تقطيع أجسادنا أوصالاً. لقيت دعوتهم ترحيباً حتى من الفقراء الذين كنا نتحمل الأذى من أجلهم، وابدوا استعداداً لتنفيذها بكل قوة وبسالة! ومع الوعيد بقتلنا وتربص رجالهم بحثاً عنا، راحوا ينظمون العرائض والمضابط مطالبين الحكومة بغلق هذه الجريدة، وحين عرفوا أنها سرية؛ طالبوا بالبحث عنا، وكشف أسمائنا الوهمية واعتقالنا! وهم لا يعرفون أن جريدتنا تحرر تحت عمائمهم، ومن مسجدهم! ما كانوا يعرفون أن هؤلاء الصحفيين شبان يافعون يحتلون الجامع في الليل، ثم يتركونه قبل أن يدخل مؤذن المسجد الأعمى؛ لرفع أذان الفجر، فنزوغ عنه بسهولة! ثم حين أدركنا إنه صار يحس بوجودنا، قال له محسن الشيخ إننا طلاب فقه نسهر الليل في تعلم الشريعة وأصولها، ثم صار بعضنا يساعده في صعود المئذنة والنزول منها، وآخر يشركه بطبق القيمر الذي يأكله مع قدح من شربت الزبيب من دكان زبالة الذي افتتح حديثاً غير بعيد عن جامع الحيدر خانة! أبدت الحكومة استعدادها لاعتقال هؤلاء الملحدين المارقين، لكنها قالت أنها لا تعرف من هم، ولا تدري من أين يصدرون جريدتهم التي وصفتها (بالسفيهة الوقحة والمتمرغة بأوحال الكفر والرذيلة) وإن (أصحابها يتقافزون كالأشباح التي تطاردها لعنة الله). صارت الجريدة متداولة على نطاق واسع، رغم قلة نسخها، فكانت تسلم من يدٍ إلى أخرى، وصف انتشارها أحد المخبرين (أكثر من الأراكيل في المقاهي، ومواعين الباقلاء صباحاً، وحلوى التمر ليلاً) لكن تحريات الحكومة مستعينة بجواسيسها المتزايدين أفلحت في الوصول إلينا في المسجد! لم يكن الجوال معنا في تلك الليلة. حين سمعنا جلبة الشرطة عند باب المسجد وقفنا متظاهرين بالصلاة، لكن لعبتا المفضوحة أضحكت رجال الشرطة؛ فاقتادونا دون فظاظة إلى أحد مراكز الشرطة في شارع الرشيد. كانت دهشة رجال السلطة كبيرة، رافقتها قهقهات ضحك وتنكيت. كيف يجدف هؤلاء من أحد بيوت الله؟ كيف لم تسقط على رؤوسهم حجارة من المئذنة؟ إنكارنا وعدم عثورهم على أية مستمسكات لدينا وتدخل المستشار الإنجليزي مؤكداً اتباع الترافع القضائي الأصولي بحقنا؛ أدى بهم إلى إطلاق سراحنا بكفالات؛ وتهديدنا بالعقاب الصارم إذا عاودنا إصدار هذه الجريدة، وتجرأنا على الذات الإلهية. ثم جعلت بضعة رجال يقفون على أبواب الجامع لحراسته، وأخضعوا مساجد أخرى للمراقبة.

وحين عرف أحد رجال الدين بأن دعوة الشيوعية كانت قد انطلقت من الجامع، تجرأ قائلاً:

ـ إنها مشيئة الله أيضاً، لا تنسوا أن في الإسلام اشتراكية خاصة، فهو يرى ان الثروات هي ملك الله قبل البشر، والفقراء هم أبناء الله، لذلك ألزم الأغنياء بمنحهم من ماله ما يستحقون، فهو أباهم الذي أنجبهم، ويجب أن يعيلهم! ربما هذه الواقعة تذكير من الله لكي نتقيه ونطبق شريعته وننصف الفقراء!

ضحك أمين الجوال حين نقلت إليه هذه النظرية الإسلامية قائلاً :

ـ كل متسولي بغداد يصيحون في الشوارع (المال مال الله، والسخي حبيب الله) ولا أحد يسمعهم، وإذا سمعوهم يعطونهم فضلات أطعمتهم المتعفنة، نحن لا نناضل من أجل الصدقات والهبات المذلة، نريد نظاماً ثورياً : يأخذ الثروة من الأغنياء طوعاً أو كرهاً؛ ويوزعها على الفقراء!

قرر الجوال في نوبة عناد أخيرة أن يتجاوز نكسة نضالنا من محراب جامع "مفعم بكآبة الليل وخفافيشه، ووشاته " كما قال، إلى ناد أراده أن يكون طافحاً بالمرح والسرور الحضاري،أطلق عليه أسم (نادي التضامن) كنداء للآخرين السلبيين ليقفوا معه ضد من أسماهم (حراس العدم) و(سياج الحياة الميتة)، مهيباً بهم أن يتنبهوا لطاقاتهم ومواهبهم ويعيشوا حياتهم الخاصة بكل عنفوانها، ويضموها لتياره الآخذ بالاتساع. حاثاً المرأة للخروج من البيت والمشاركة في معركة الحداثة، مطلقاً صرخته (ما لم تتحرر المرأة، وتنطلق نداً للرجل في كل شيء؛ لن يكون هناك وطن سعيداً) وتدليلاً على صدق نواياه جلب شقيقته "رقيه" معه إلى النادي. فكانت أول امرأة عراقية تطرح الحجاب بوعي، فتصير وجه النادي الجميل، والمستقبلة الحنونة المبتسمة لرواده. انتقلنا إلى نادينا مفعمين بتفاؤل يشق الصخر.كان بيتا رحيباً ببناء جميل كبير من الطابوق الأصفر الذهبي، في حي الوزيرية، وهو حي قديم حديث نظيف مشجر فاتن كان يحتضن بيوت الوزراء وعلية القوم. تحول النادي بسرعة؛ إلى بؤرة إشعاع للنور والحيوية الاجتماعية والعاطفية العذبة في بغداد الظامئة لكل جديد ومثير. كان الجوال يردد دائماً:

ـ لا تيأسوا من بغداد، فهي قد نهضت من قبور كثيرة، دفنها، بها طغاة وغزاة، وفي كل مرة تعود أقوى وأجمل!

كان يسبقنا لأي نشاط مهما كان بسيطاً. أتذكر إنني وصفته في صحيفة النادي التي صارت عاقلة هادئة مهذبة بأنه يحثنا على العمل "بحماسة ألمانية صارمة باردة، مطعمة برقة شرقية ساخنة" فتزايد أعضاؤه ورواده!

التفت العطار إلى الجهنمي وقال ضاحكاً: لقد كانت لك مساهمات طيبة فيه، صارت بعض من أمجادك الكثيرة! راح الجهنمي يضحك سعيداً، فهو كان يتركنا في صالة البيت نشرب وندخن ونأكل بتلذذ من أطباق المزة التي تجيد ربة البيت إعدادها من خيرات ذلك الزمان، ويغيب عنا ساعات يطوف على حجرات الفتيات. يبدو إنهن أغدقن عليه الكثير من أجسادهن وقلوبهن، وقناني خمورهن. كن ناهضات مثلنا من الموت، كن هن هن، كما غادرناهن قبل ستين عاماً. وربما بينهن فتيات من هذا الزمان، فقد تشابه الحال تماماً، بين جسد حي عائد من الموت، وجسد حي ذاهب إليه. التحق الجهنمي بنا مصغياً للعطار، وكم يجيد هيئة التلميذ أمام العطار. لم أكن في تلك السنوات أعرف أنه كان قد اقترب من الجوال، راح الجهنمي يروي لعبته الغريبة في النادي فأصغيت له بانتباه ومتعة: انبعث صوته فتياً رائقاً: دعانا النادي لحضور جلسة تداولية للخروج بمظاهرة كبيرة في بغداد. كان النادي إذا أراد مظاهرة يرسل أحد العاملين فيه إلى دكان حسون أبو الجبن الذي بدوره يعلم مكي الأشتري ليرتديا كفنيهما الملطخين بالدم وتصدر المظاهرة فهي هوايتهما المفضلة، والطموح العظيم الذي يسعيان إليه: الاستشهاد من أجل الوطن! كان الاجتماع، في ناد التضامن في الوزيرية، ذهبت إلى النادي ثملاً ومعي زجاجة عرق وفتاة حسناء كانت قد دخلت المنزول لتوها متدربة على يد القوادة القديرة المبجلة حسنة ملص رحمها الله بالبعث للوجود مرة أخرى. كانت رفيقتي فاتنة جداً حتى إن أحداً لم يجرؤ على طردها. راحوا يبحلقون بها مشدوهين، لم يكن الاجتماع سرياً ولا خطيراً، وكانوا يحتاجون قلمي، كما يحتاج الممسوسون عصا الساحر. جلسنا حول مائدة عليها أوراق ومنشورات كثيرة، تجادلوا كثيرا ثم سطروا بيانا لا أتذكر مضمونه ولا غرضه الأساس، لكنه كما أتذكر كان في أعلى نبرات الثورية وكان محشوا بعبارات " نقاتل حتى آخر قطرة دم" و"حتى الرمق الأخير" و"حتى آخر جندي"و "سنسحق أعداءنا كالحشرات"،"وسنرميهم بالبحر" "ومن هم هؤلاء الأوغاد؟ سنطلع عليهم شاهرين سيوفنا حتى يولوا الأدبار!" وجدتني أقول:

ـ لماذا هذا الصراخ الكثير؟ الأمر لا يحتاج سوى كلمة واحدة: نعم أو لا!

اقترحت عليهم أن تقدم صاحبتي لهم عرضاً مسلياً، فهم قد تعبوا ويجب أن يكافئهم على ثوريتهم وإخلاصهم للوطن والأمة العربية المجيدة! كان الجوال قد تركنا، وخرج من النادي لأمر عاجل، أوقفت فتاتي الحسناء على منضدة الاجتماع الثوري، وطلبت منها أن تقدم لهم وصلة خلاعية، ستربتيز، ولأول مرة يسمع العراقيون بهذه اللفظة.احتج البعض وخرجوا يتهمونني بالعمالة للسفارة البريطانية، وإنني أنفذ مؤامرة أعدها الاستعمار لإفساد أخلاق الوطنيين بالتنسيق مع نقيبة القحاب في الميدان السيدة حسنة ملص. لكن ثمة طلاب عددهم حوالي العشرين أو أقل بقوا ينظرون مبحلقين مبهورين، أخذت الفتاة تنزع ثيابها قطعة قطعة كاشفة عن جسد أسمر رشيق مبروم شهي، تنط من الصدر حمامتان بمنقارين متأهبين لالتهام كل شيء حتى لو كان جمراً حارقاً. وبطن تميل على ضفافه شعرات العانة رطبة مشعة في شمس النافذة كخيوط الذهب. انخرطت بخفة ورشاقة بعروضها المثيرة الشيقة. لم تبخل عليهم باستدارة؛أرتهم فيها فردتي عجيزتها الممتلئة المقسومة إلى شلالين، وبلحظة قطعت حركتها بإشارة من يدي. راحت تلبس ثيابها ببطء وإثارة مقصودة رتبتها معها قبل دخولنا، وقفت إلى جانبها قائلاً:

ـ أرجو أن تجيبوني بصراحة، لو راجعتم قراراتكم الآن،هل ستبقونها على نفس الحدة والعنف؟

هز البعض رؤوسهم،آخرون أطلقوا قهقهات:

ـ أرأيتم لو كنتم ترون كل يوم هكذا عروض بريئة مسلية، كنتم خفضتم ثوريتكم بمقدار النصف، أما لو ضاجع كل منكم فتاة بهذا الجمال لخفض ثوريته إلى الحد الذي يكفي لاعتلائها فقط والسير في الطريق الصحيح إلى العمل أو المدرسة والمكتبة أو لزراعة شيء في حديقة أو العمل السياسي العقلاني.نعم. الثورات الدموية العنيفة انفجرت في مجتمعات الكبت الجنسي، مغلفة بشعارات وطنية ودينية وأخلاقية،والآن انسوا للحظات قادتكم الحزبيين واهتفوا بحياة راقصتنا الجميلة العظيمة: نرجس!

عاد الذين خرجوا من القاعة وكانوا يختلسون النظرات إلى جسد نرجس العاري من وراء الشبابيك وفتحة قفل الباب ثائرين هائجين يريدون قتلي وافتراس الفتاة، لكنني أفلحت في إخراجها من ممر خلفي. كنت أسمعهم ينهالون علي باللعنات والأحذية طائرة وزاحفة وصرير أسنان وهتافات بحياة العفة والشرف العظيمين الخاصين بالأمتين العربية والإسلامية، ولكن كان هناك كما عرفت فيما بعد جمهور كبير وقف يتفرج عليهم ضاحكاً، وكان مرتاحاً للعرض الإباحي قائلاً ليته يحدث كل يوم، بل ثمة من قال إن أمين الجوال عاد مسرعاً وحين وجد العرض المثير في قلب ناديه وقف ينظر إليه مستمتعاً ضاحكاً معتقداً إن نفحة سماوية نقلته إلى برلين. وحين أدرك أن ما يحدث في بغداد ابتهج أكثر مستبشراً بهذه الصدمة الجميلة التي ستهز عقول رواده ولا شك. أفلحت بالهرب متناولاً عربة حوذي كنت اتفقت معه على انتظاري؛ فتقلني إلى فندق زيا، دخلنا صالة الشراب رافعي الرأس فقد جعلت الجسد الإنساني لأول مرة في بغداد يقوم لوحده بأكبر مظاهرة هزت العقل الراكد، وما زالت حديث من يحنون إلى بغداد في عصرها الذهبي! لم أستطع الذهاب إلى نادي التضامن ثانية، فحتى الجوال الذي تأكد لي إنه كان مسروراً بما قدمت تراجع وشجب فعلتي، قائلاً إن هكذا عروض ستؤلب علينا المحافظين والرجعيين، ونحن بدون ذلك مكروهين، وقد يفهم البعض أن ثورتنا الاشتراكية هي رقص عاهرات عاريات على موائد المناضلين. حين تحدثت مع بعض الإنجليز بما فعلت رفضوا تصرفي أيضاً، وقال لي أحدهم أنت تسيء للعهد الجديد الذي نعمل على بنائه، ولكن هذا الملعون همس في أذني: تستطيع أن تجلب فتاتك الجميلة لترقص في نادينا عند افتتاحه في العلوية. وبالطبع لم أفعلها؛ فأنا لم أقدم عرض التعري لهؤلاء العراقيين إلا لكي أجعلهم يدركون جمال الجسد الإنساني حين يسبح في هواء الحرية، بينما لو شاهد هذا الإنجليزي العرض لما أحس بذلك، وعلى الأكثر سيصير أكثر شهوانية وطمعاً ببلادنا! قرع العطار كأسه ضاحكاً: كل هذه الوطنية لديك؛ ويتهمونك بالعمالة للإنجليز؟

(83) فجأة انطفأ قنديل الجوال،لا ندري بأية ريح، من القلب؟ أم من صحراء المدينة!

وعاد العطار يتحدث بنبرة حزينة:

ـ لأكثر من سنة كان الجوال وناديه وأنشطته هي محور عقول المثقفين الناشئين الشباب

في بغداد. ثم فجأة فتر حماس الجوال وانطفأ فجأة كقنديل زيت صفعته ريح ممطرة، ذات ليلة كئيبة باردة. حتى الآن لا أدري هل هذه الريح جاءت من القلب. أم من صحراء المدينة وقد أحس حيالها بالعجز فجأة. أبلغنا إنه قرر ترك النادي الذي بنيت حياته الصاخبة على يديه، وهجر العمل الفكري والاجتماعي! كان ذلك أواخر،1928 ولم يكن قد أكمل الخامسة والعشرين من عمره. حينها قال لصحفي أجرى معه حواراً طويلاً لمجلة ضيقة الانتشار توقفت بعد عددين من صدورها تدعى (المزود):

ـ أشعر إنني قد أكملت رسالتي الفكرية وربما السياسية أيضاً، والآن علي أن أواصل رسالتي الأدبية!

الكلمة الأخيرة من ذلك اللقاء الطويل كانت بمثابة الحد الفاصل بين ما وضع من بذور في الأرض، وبين ما راح يتكاثر في الحقل من شجر غريب عن الاشتراكية، سأله ذلك الصحفي:

هل ما نسمعه اليوم عن محاولات تأسيس حزب شيوعي على غرار ما لدى السوفييت هو من نتاج أفكارك؟ يقول الصحفي إنه انتفض قائلاً : تحتاج أفكارنا لمسار طويل لتصير مشروعاً نظرياً وسياسياً وطنياً للإصلاح والبناء الاشتراكي في بلادنا، وأخشى من أية رسالة خارجية جاهزة فهي ستكون مسمومة مصممة لمصلحة من أرسلها، لا لمصلحة العراقيين الفقراء!

لا يعرف إن كان الجوال قد اعتقل أو هدد كما قيل، لكنه كان قال لبعض مقربيه:

ـ عشت على الأرض رحلات ومحطات وقضايا كثيرة،آن لي أن أعيشها ثانية على الورق!

لكنه لم يؤثر على شقيقته رقية ليجعلها تنسحب من حياة سياسية واجتماعية هي أصعب عليها منه بكثير،على العكس شجعها على المضي في نشاطها في تجميع النساء المترددات والخائفات من الخروج إلى أنوار كانت تعشي أبصارهن لكثرة ما اعتدن ظلمات البيوت المحصنة.

أراد بعض من اعتنق الشيوعية وجمد عليها كأنها قدره الأخير، أن يلقي ظلالاً على شجاعته ووطنيته وتلويث سمعته،مسفهاً تراجعه وعدم ركوبه سفينة الشيوعيين، (والتي ستصير عادة الشيوعيين حتى شيخوختهم وأيام انحدارهم اللاحقة: تشويه وتدمير حياة من يتجرأ على تركهم أو انتقادهم أو عدم الالتحاق بركبهم) فيقول أنه تساوم مع الإنجليز ليتخلى عن الشيوعية والترويج للسوفيت، مقابل جواز سفر ومساعدة من البحرية البريطانية والجيش الهندي للبحث عن كنز عائلته الضائع تحت مياه البحر. لكن من يعرفه عن كثب يضحك من هذه الدعاوى، ويقول:

ـ هذا هراء، وتلفيق، إنه لم يتخل عن أية فكرة إنسانية قطفها من حدائق العقل الإنساني أو توصل إليها بنفسه، فقط أراد أن يعبر عنها لا بالسياسة بل عبر القصة والرواية كما قال.صحيح إنه لم ينتج الكثير، ولكنه أبداً، ما خان فكرته، ولا خان رفاقه!

لم يكتب الجوال سوى قصة أو قصتين، وبنضج يتناسب وقدرات القصاصين العراقيين في ذلك العهد. وإنه لم يعش حياته مرة أخرى على الورق،ولم يكتبها أو يجلو جوانبها المثيرة والشيقة.بل واصل صخبها وحرارتها على الأرض. من حاول القيام بكتابتها هو صديقه محسن الشيخ ابن إمام المسجد. ورغم أنه لم يكتبها بطريقة فنية راقية أو ناضجة، إلا أنها جاءت بمثابة تحية وداع لرفيقه الجوال الرائد، وشعلة حنين وشرح حال لأيام حاول بها هؤلاء الفتية تلقف فكرة متألقة والاستنارة بها في طريق طويل ظل يكتنفه الظلام رغم ان الشمس فوقه كانت ملتهبة على الدوام. ثمة كلمة للجوال لم تفارق رأسي رغم إن دود القبور لعب به كثير قال (من الغريب ان هؤلاء الذين يقولون إن شمسنا أشرقت على الغرب وأنارت سبيله،يمنعون شمسنا من ان تشرق علينا وتنير سبيلنا!) كانت أهمية الجوال بصدد الفكرة هو أنه أتى بها بوحي من ضميره وحلمه الخاص ولم يأت بها مبعوثاً من أحد. كان حراً في حملها لوطنه كاقتراح هادئ،وليس كحملة تبشيرية مدججة. لذلك كان حراً في التخلي عنها أو بالأصح في التخلي عن جوانبها المظلمة، إذ لم يصدر عنه فيما بعد أي نكوص عن جوهرها، العدالة،وحق البشر جميعاً بالسعادة، ولم يلتحق بأية دعوة لفكرة رجعية، تتملق العالم القديم!

وقد اتفق كثير ممن عرفوه جيداً أن السبب الحقيقي لتخليه عن النضال العام من أجل الفكرة هو أنه أدرك عقمها وعدم صلاحيتها، كما هي، وكم تورط هو وجماعته في طرحها، لتغيير العراق، وربما أي مكان آخر في العالم! بعد أن اعتقد أنها ستكون اللمسة السحرية التي ستقلب البلاد من أرض شقاء إلى أرض هناء وجنة للحالمين وقد أدرك استحالة تطبيقها، وبالتالي عدم جدوى الرحلة الطويلة المتعبة معها مادام الأمر كله قوارب مثقوبة، وأشرعة ممزقة، وبوصلة مختلة، وبحر مضطرب لا نهائي! وقد سمعه أحدهم يقول في لحظة سكر:

ـ لشدة حبي للفكرة وإجلالي لها دفنتها مع كنز العائلة تحت بحر الهند!

وربما بسبب هذا الشعور بعبثية وعقم كل مساعيه، وربما بمساعي الإنسان عموماً مع الأفكار الخلابة غير الممكنة، وقع في هوس جنسي وعاطفي وتدله بحب نساء كثيرات اكتوى وابترد بدلالهن ولعبهن وحرائقهن، مع كؤوس الخمرة، فانغمس في غراميات سرية ساخنة تارة، وعلنية مختنقة محاصرة تارة أخرى. تناقل البعض أن إحدى عشيقاته المفضلات المدللات أقنعته بإلقاء محاضرة في تجمع نسائي صغير لقاء وصالها له. فنزل عند رغبتها وخرق قراره بعدم الظهور العلني وقدم محاضرته، لم يكن المجتمع آنذاك منقسماً على السطح إلى مسلمين ومسيحيين ويهود ومندائيين ويزيديين، ولا إلي سنة وشيعة، ولا إلى عرب وكرد وتركمان،أو إلى يساريين ويمينيين بل إلى: "سفوريين" و"حجابيين" وقد قال فيها:

ـ إنها لمفارقة مضحكة الدولة ألقت شعاراتها الدينية والمحافظة، وملابسها كلها،ونزلت أحواض السباحة عارية وارتمت في أحضان الإنجليز الباردة! لكن ما يزال أكثر النساء لم يلقين الحجاب ويخشين الاختلاط بالرجال رغم توقهن للرجال، ما زلن يرزحن تحت تعاليم الدين المتحجرة! تناقض رهيب سيدفع الجميع ثمنه في يوم ما، وسيكون رهيباً وربما دموياً حاولت إحدى النساء إحراجه أو حثه للصمود في الميدان فسألته:

ـ هنا يسمونك قاسم أمين العراق، ولكن هذا الرجل ظل يقاتل من أجل قضية المرأة المصرية حتى النفس الأخير!

رد بثقة، ولكن بنبرة حزينة:

ـ أنا أفخر بذلك، ولا أنكر إنني متأثر بأفكاره وبانتصارات الحركة النسوية في مصر، وما حدث لي هنا يتعلق بالفرق بين المجتمعين، المصريون عرفوا صدمة الحضارة قادمة على أسطول نابليون بونابرت قبل مائة عام ونيف من تلقي العراق لها على يد جيش الاحتلال البريطاني. وبين شخصية قاسم المحترف للثورة الاجتماعية والنسائية، وشخصيتي كهاوٍ للثورة حالم بها غير قادر على تحمل أعبائها الثقيلة!

ـ ولكن البعض يقول أن الزهاوي قد سبقك في طرح قضية المرأة؟

ـ نعم الزهاوي طرح الفكرة قبلنا، لكنه طرحها كقصائد مائعة تكاد تكون دعابات أو مزح لم تؤخذ على محمل الجد، نحن طرحناها في حملة منظمة واعية لها شبكة دعاة ومنفذون هزت المجتمع فأطلق حماماته الجميلات، وأنتن بعضهن، والزهاوي لم يدفع أي امرأة من عائلته لتسفر، على العكس هو حصن بيته بأسوار، وحتى حماره لفعه ببرذعة ثقيلة كأنها أريكة سلطان تركي، بينما نحن دفعنا نساء نعرفهن للسفور، والبارحة ولدت لصديقي جميل حافظ طفلة فأسماها سافرة!

وراح يروي لهم قصة ربما هي من نسج خياله القصصي الارتجالي:

ـ رأيت جميل صدقي الزهاوي، بجسمه الطويل الأعجف النحيل، ووجهه المطرز بالحفر والأخاديد والأشواك مثل دمنة مهجورة من العصر الجاهلي، ينزل من حماره الذي يحمله من بيته في الأعظمية إلى مقهاه في شارع الرشيد، ربطه في رمانة التخت وهو يتغني (اسفري فالحجاب يا ابنة فهر هو داء في الاجتماع وخيم، كل شيء إلى التغيير ماض،فلماذا يقر هذا القديم) فأرتطم رأسه بظل الرصافي الثقيل واقفاً، منتصب القامة الممتلئة،يعلوها الرأس الكبير المكلل بكوفية وعقال، والوجه السمين الطافح بلغدين كبيرين، وقد جاء ينشده قصيدته: للإنجليز مطامع ببلادكم ...لا تنتهي إلا بأن تتبلشفوا

قال له :

ـ صه يارصافي! بل قل: إلا بأن تتسافروا، فحتى الرجال هنا بحاجة إلى السفور، أنت مذ وضعت العقال على رأسك، لم أقرأ لك شعراً أفضل من الشعير الذي تأكله حمارتي الذكية هذه!

رد الرصافي ضاحكاً :

ـ وأنت مذ وضعت السدارة الفيصلية على رأسك لم أقرأ لك شعراً أفضل من نهيق حمارتك هذا!

فندت عن حمارة الزهاوي همهمة نهيق. كان الزهاوي في معركته الحامية المضنية مع الرصافي، أراد جر حمارته لتدخل معه المعركة، وتصارع الرصافي بكل ما أوتيت من قوة، فكان يدربها كل يوم على أن تنشد: (دجاجة البيت طيري... شعر الرصافي شعيري) فراح يلكزها لتنشد الشعر، لكنها أدارت رأسها عنهما، وقد غمرتها مسحة حياء من الشاعرين الكبيرين المتصارعين!

ضجت الصالة الأنيقة بضحكات النساء المموسقة الشهية مثل كؤوس رقيقة فرغت من النبيذ، وراحت تقرع بعضها متراقصة؛ تطلب المزيد، وجدها أجمل من كل هتافات المثقفين والمتعلمين الرجال الثقلاء لفكرته الثورية التي صارت قديمة!

اعتكف الجوال في بيته منصرفاً لحياته الخاصة. أكدوا أن هذه المرأة الحسناء المثقفة التي جعلت مهرها محاضرة عامة له، وفاخرت به بين النساء، استلبت عقله وروحه وطوته بين يديها وجعلته كتابها وثوب نومها الشفاف الدافيء، مسقطة عنه كل كآبة الماركسية! لكن من يعرفه عن قرب يقول إنه عصي على التدجين أو القناعة بامرأة واحدة، وإنه شوهد كطيف شهواني يقطر مسك الحوت الجاذب للأنثى، ويتنقل بين بيوت غانيات، مخترقاً معهن صرامة التقاليد ورقابة الناس! وإنه حاول استبدال بيته القديم وسط بغداد قريباً من الحضرة الكيلانية، والسكنى في ضاحية بعيدة من ضواحي بغداد التي صارت تتسع مثل صينية عرس لها محبون كثيرون، لكنه لم يستطع ذلك لشحة موارده التي لم يسعفها الكنز العائلي الذي ظل قابعاً تحت بحر الهند. صار لا يطيق رؤية رفاقه القدامى.تهرب منهم،يقول الجهنمي صرت لفترة أنا أقرب أصدقائه إلى قلبه، فقد التقي معي بأن في الجنس حل للكثير من نصائبنا، لكنه ابتعد عني فجأة انكفأ بعيدا عن جميع معارفه وأصدقائه! آخر مرة شوهد فيها في مظاهرة يهتف فيها بخفوت ضد الإنجليز ووعد بلفور، بعضهم قال:

ـ كان صوته رخياً كأنه في مجاملة لرفاقه، أو أنه يؤدي واجباً ثقيلاً، أو وداعياً! ويعقب آخرون مؤيدون:

ـ هو المولع بالمرأة وقد انتصر لها أخيراً، ووجدها البديل المقنع للماركسية، وأعلاها فوق كل فكرة، لا يمكن له أن ينسى فضل الإنجليز بدعوتهم لسفورها، وتحررها وانطلاقها بل وحتى تشجيعها على السباحة بالمايوه في شواطئ دجلة!

قال تلامذة ممن وجدوه قد احتضن المرأة ويتمهم مع فكرته:

ـ لماذا نتعب أنفسنا في ملاحقته؟ ربما امرأته أجمل من الماركسية الآن، لكنها لن تظل كذلك، ستغدو عجوزاً، بينما الماركسية تظل شابة، وستصير أجمل وأجمل، الآن وفي كل زمان ومكان، وستنجب الكثير من النساء الجميلات، وسيندم الجوال! إذا كان هو جبانا، فالفكرة شجاعة وفية، وسترون كيف ستبني الفردوس الأرضي، الزاخر بما عجزت عنه الكتب الدينية! تخلى عنا الجوال أو تخلينا عنه، فلن تتخلى الفكرة عنا ولن نتخلى عنها!

واصلت شقيقته رقية طريق نضالها من أجل المرأة فصارت إحدى رائدات الحركة النسائية، ومن أجل الفكرة، فصارت عضوة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عندما أسس بعد سنوات، قالت عن شقيقها مؤكدة أنها (خير من يعرفه):

ـ ترك الفكرة لا لخطلها أو عقمها كما نقل عنه، بل لقصر نفسه، ونزقه،وعدم قدرته على استيعابها بعمق وافتقاده الجلد الحقيقي لدراستها جيداً، باختصار إنه، أناني، ذاتي، فردي، كسول،بينما الفكرة تقتضي نكران ذات وشجاعة نشيطة،وروحاً جماعية!

وتضيف بحماسة وحرقة شيوعية ونسائية، جعلت الكثيرين يستغربون كيف تناقضت مع شقيقها إلى هذا الحد وهو الذي جذب خطاها إلى أنوار الحياة العامة:

ـ من حسن حظ الفكرة أنه تخلى عنها، ولم يشوهها بتحريفاته ويميعها بعاطفيته المفرطة، ومن سوء حظ المرأة أنه تمسك بها وراح يعذبها بتقلباته ونزواته وأحاسيسه المرضية المتفاقمة!

لكن الجوال التزم الصمت، لم يرد بكلمة أو صوت مهما قرع الماركسيون على بابه. ومهما قرعت الشرطة على رؤوس الماركسيين وأبوابهم مستفزة أنصارهم للظهور. ولسنوات ظل من يعرفه يعجب كيف صنع كل هذا الصخب والضجيج حوله في النوادي والمحافل والشوارع، والصحف، ثم بانحناءة من رأسه الدقيق المتناسق كث الشعر، يهدأ كل شيء حوله ويؤول إلى صمت حزين، ونسيان مجحف، وتقولات ظالمة!

صارت ترد عنه أقوال ربما مختلقة كقوله:

ـ من أنجبتهم يصرخون منادين بالحرية الحمراء، تاركين نساءهم محرومات محجبات وراء الأبواب!

نساه رفاقه القدامى، انصرفوا كل لطريقته في السعي لامتلاك الطريق المضمون لتنفيذ الفكرة، وقد ركبهم هوس أنها كواجب مدرسي على العراق، التلميذ في ابتدائية الوجود أن يحفظه ويؤديه عن ظهر قلب، بينما انبرى أناس ضدهم يحاربونهم بضراوة، قائلين: واجب على العراق تطهير نفسه من هذه الفكرة ومن هؤلاء المعلمين الأدعياء، بينما انبرى آخرون مستفيدين من صراعات أصحاب الفكرة وأعداءها في مساومات، وتحالفات فأمنوا مصالحهم وفرطوا بمصالح البلاد!

احتسى العطار جرعه من شرابه وجذب نفساً عميقاً من سيجارته وهو يقول بصوت متعب:

ـ وفي النهاية خسر الجميع وخسر العراق! نعم إن المهمة كلها تتلخص اليوم: في العودة إلى بكارة الأشياء وترك النوافذ مشرعة، والحذر،الحذر، من أن يحتكر أحد كل النوافذ! وهذا ما فعله رفيقك فهد، أراد ان تكون كل الأبواب والنوافذ لفكرته فقط لا غير!

جاءت سيدة البيت الجميلة، قالت،بلهجة احترام:

ـ لقد تأخرتم عن العشاء!

نظرت إلى ساعتي، كانت تجاوزت منتصف الليل، وجو البيت صار ساكناً، يبدو أن الفتيات المرحات قد تعبن من مرحهن وصمتهن، وخلدن للنوم. قال العطار لها:

ـ لحظات ونأتي.

كان من عادته أن يقرر لوحده شأننا معاً، وكنت أضحك في سري قائلاً، يتهم فهد بالدكتاتورية بينما هو يمارسها مع أصدقائه وفي كل شئونه الصغيرة تقريباً التي اشهدها معه، قال وهو يقهقه:

ـ لا تضعي مدفأة في حجرتك، فهذه الليلة أنا من يدفئ فراشك!

ندت عنها ضحكة غنج مثيرة! وندت في أعماقي ضحكة أخرى. كيف لمن يعود من برد القبور يدفئ فراش امرأة. تذكرت ان هذه المرأة لا يبدو عليها أنها قدمت من عالم الموت بل ضلت حية في شبابها وفتنتها تتحدى العدم الكبير الذي ابتلع كل شيء إلا جمال النساء!

لم يكترث أنها ما تزال واقفة بجانبنا، تنظر إلينا مستغربة، ما هاذين الزبونين السخيين يتركان فتياتي الجميلات أكثر الوقت وينهمكان في حديث غير مفهوم؟ عاد لحكايته الطويلة:

ـ رغم اختفاء الجوال، ازداد مريدوه وتكاثر السائرون نياماً وراء فكرته!

سرحت عنه قليلاً، أحسست أن خدر الويسكي أخذ يذبل شفتي وأجفاني،لكنه ظل يتحدث:

ـ أنت تعتقد إنني متحامل على الفكرة،أنت مخطئ، أنا فقط أدركت حقيقتها بينما أنت لا تريد أن تمعن النظر بها، على العكس أنا أشعر أنك تسير خلفها نائماً كما تنهض خدراً منتشياً بشرابك الليلي!

لم أشا الدخول معه في نقاش، وسهرتنا قد طالت وساكنات البيت قد يصبن بالأرق من صوتينا في سكون ليل الدار الكبيرة، قلت محاولاً التبسم رغم النعاس:

ـ حديثك يحرك عقلي، أرجوك دعني أنضج فكري على نار هادئة!

قال ضاحكاً :

ـ بل أنت اعتنقت الفكرة على عجالة وانتهى الأمر،أنت عاشق من النظرة الأولى!

ـ أجمل أنواع العشق!

ـ وأكثره تباريحاً وأذى!

ولكن هذا حدث قبل ستين عاما، اليوم أنا أوافقك أيها العطار الجميل، ضحك كطفل ينتصر في لعبة:

ـ ولآن لنتعش!

كانت الرابعة صباحاً، سيدة البيت قد نامت، شعرت بها ساهرة تنتظرنا حتى ساعة متأخرة علنا ننتهي من ثرثرتنا لتضع لنا العشاء ساخناً، وحين وجدت سهرتنا قد طالت نامت على وقع صوت العطار المتعرج كوتر كمان ثقلت شعيراته من دمع موسيقار خائب حزين. كانت تداري شهوات العطار، وتعرف إنه موصلي فطبخت له محاشي وكيبايات وبرغل مشبع بماء الدجاج. واليوم بعد نهوضه من الموت أقبل عليها برصانة عاشق حزين واثق من حب عشيقته، وعطاء جسدها له بكل سخاء الأنثى إذا منحت أو أخذت. استثقل كبة الموصل قبل النوم، واكتفى بقطع جبن صغيرة قال أنها تحمل رائحة النمسا!

كان عشاء دسماً ثقيلاً جعلني طيلة الليلة أتقلب تتناوشني الكوابيس والأحلام السطحية والثقيلة ولا أدري إن كان هو قد نام في أحضان غانيته، أما فتاتي فقد كانت نائمة ولم أشأ إيقاظها، فبقيت أنتظر صباح الشتاء عله يأتي مثل كأس الويسكي طافحاً بشمس ذهبية دافئة.

يالتلك الأيام؟ كم كانت مترعة بالأحلام؟ وكم هي وفية، فها هي تعود لتشرق على أرواحنا المتعبة. أنا العائد من منفاي داخل وطني، والعطار والجهنمي عائدان من الموت، من قال إن ما مضى لا يعود؟ إنه يعود فقط علينا أن نعرف كيف نستدعيه ناهضين له من أعماقنا بكل حب وإجلال! غانيات وعاهرات ذلك الزمان صرن في أعماقنا قديسات، وهن يستحققن ذلك، فهن لسن شريرات متطوعات مع السلطات على تعقبنا وقتلنا، حقاً لا شيء يقهر الموت سوى الحب!لكن الجهنمي قال :

ـ لا يقهر الحب سوى الموت!

(84) ضوء الغصون من ظلمة الجذور!

دهشت إننا استيقظنا في اليوم التالي، ونحن ما زلنا أحياء! نهضنا منتعشين كأننا لم نسهر ولم نتحدث بكل هذه القضايا ولم نفرط في شراب أو عناق. رحت أطل بكل وضوح على كهف الشهداء، ولم يكن العطار والجهنمي غافلين عما أرى وأسمع أيضاً. ظل المنتفضون ينظرون حيث توارت المحكمة خلف ستارة خيطت من بقايا أكفان ورايات وأعلام ولافتات مختلفة الألوان دفنت معهم. ثمة حولهم صخور جرانيت كأنها قذفت للتو من بركان في العالم الأسفل. التصقت بها أضلاع هائلة وريشات كبيرة كأنها لديناصورات، ونسور وعنقاوات أسطورية ضلت طريقها في شعاب الدنيا السفلى. تضج برأسي أفكار؛ فأمضي معها في رحلتها الشائكة القاسية، أوقفها لحظة لتنهال علي دفعة واحدة. لا يسعني سوى المضي معها: كم تعاقبت على هذا الوجود من أسئلة وقضايا ظلت دون حل، وأحلام لم تتحقق. الشهداء هنا صعاليك كما كانوا في الدنيا، يستيقظون فلا يبحثون عما وضع الأحياء جانبهم من طيبات الطعام والشراب، وما دفنوا معهم من زوجات وجوار وخدم وخرائط نصر وأمجاد، بل ليروا فقط إذا كان الطريق الذي ماتوا عليه كان صحيحاً أو خاطئاً،أو هل يمكن تصحيحه؟ لا يريدون التورط كما تورط غيرهم ليشيروا بإصبع متغطرسة إلى الطريق الذي يريدون. سيتركون الناس لبحثهم وخيارهم مادامت لعبة الوجود أكبر من الموجودين، والوجود نفسه! كنا نتناول فطورنا ورائحة الشاي بالهيل تملأ الصالة. كنت مسروراً أن المحكمة نطقت بحكم مكتوب على الفكرة، وحسمت أمرها باستدعاء القادة القدامى متجاوزة قداستهم المتراكمة.مضى زمن طويل على أفعالهم وإطلاقهم لأفكارهم.هل سيحتج البعض بأنها سقطت بالتقادم،الذي مدته أقصر في قانون الموتى؟ اعتقد البعض أن ثمة فخاً نصبه المحامي ليحرج به المحكمة، بوضعه محاكمة الفكرة والمؤسسين للحزب قبل اللاحقين، فصاروا مثل حصن للتالين. فأخذ القلق يداخل المنتفضين من كثرة انعقاد جلسات المحكمة دون أن يمثل المتهم الأول فهد أمامها، وصبرها عليه، كأنها لا تزال واقعة تحت تأثير هالته القديمة، المقاربة لأيقونة الكنيسة مما يضيع الفرصة عليهم للوقوف على الحقيقة كاملة تلك التي أرقتهم في قبورهم وحرمتهم الاستمتاع بالنوم الأبدي العميق، زاد من مخاوفهم أن أنصار القيادة والحزب الحالي تجمهروا وأحاطوا بمكان اجتماع المحكمة وراحوا يهتفون:

ـ الشيوعية قمة الفكر البشري!

ـ أنبل طريقة لتجسيد العدالة وجوهر الإنسان!

ـ فهد رمز الشجاعة والفكر العظيم الشجاع!

ـ التشكيك خيانة لنضالنا وللشهداء جميعا!

ـ كفر بأمجاد الماضي!

ـ تشويه لمآثر الرواد الأفذاذ!

ـ عودة لمحاكم التفتيش إلى عالمنا النقي النظيف!

ـ انحراف بالذوق والأخلاق والقيم!

ـ قادتنا الأبرار فوق الشبهات والريب!

تعالت هتافات بعضهم:

ـ لا بد من يوم نلقي فيه المتسللين إلى صفوف الشهداء، بعيداً وعلى أقرب مزبلة!

طالت مداولات المحكمة ودب اليأس في نفوس الشهداء المنتفضين حتى إن أحدهم قال: أعدنا للقوانين الغيبية؟ لم لا نقتحم اجتماعهم، ونجبرهم على استدعاء كل من ساهم في ما وصلنا إليه،حتى لو كان من نسل الآلهة! قطع أحاديث الشهداء المختلفين وران بينهم صمت يقرب من الخشوع دخول جوقة من المغنين كان الواضح من كلماتهم أنهم من المنتفضين المطالبين بمحاكمة القادة القدامى والجدد بصرامة وقوة وحسم. كانوا ينشدون على قيثاراتهم التي صنعوها:

ـ الشعور بالضيق؛ بداية نهاية الطريق!

ـ عبثاً تبحث عن الجنة، إذا كانت أعماقك هي الجحيم!

ـ ضوء الغصون من ظلمة الجذور!

ـ البوصلة قبل السفينة!

راح المنشدون يجوبون الباحة الكبيرة المسورة بجدران ضخمة صلدة رغم إنها تتفتح أحياناً عن كوى وثغرات يتسلل منها ضوء فضي ماسي غامض،جدران خشنة متعالية لكنها تبدو للحظات رقيقة ناعمة كأن ألسنة أهل الآخرة لحستها بحثاً عن مخرج للدنيا دون جدوى، بقيت جدراناً قاسية للعدم بينما يسميها آخرون بجدران الأبدية الآيلة للسقوط،لماذا؟ ثمة من يقول محاولاً خداع الشهداء "لا توجد جدران للأبدية، بل جدران للخلود!"

وقف أحد الشهداء وراح يقول كأنه يحدث نفسه:

إضرابات، مظاهرات،لافتات،هتافات شعارات ولعنات وشتائم على الجدران، صراخ، قصائد على المنابر، قصائد على صفحات الجرائد، هوسات وردات في المواكب الحسينية للتنديد بالحكومة والترويج للشعارات الشيوعية، صخب وضجيج وسكر في المقاهي والبارات، جدل ونقاشات وعركات، قيء وبكاء وعويل واعتذارات وقبلات كاذبة وتقارير ووشايات وخراب وجوع وإفلاس وذل وادعاءات وموت ونسيان وماذا كسب شعبنا من كل ذلك وماذا كسبنا غير العذاب الطويل وصداع ما يزال يلازمنا ونحن في قبورنا؟

كان البعض قلقاً فعلاً لعدم ظهور هيئة المحكمة، وقد مر قرابة الساعة والنصف بينما كان رئيس المحكمة قد وعد أن المحكمة ستعود للانعقاد بعد قليل. لا بد أن ثمة خلافاً قد دب بين أعضائها أو أنها انهارت وتخاذلت أو استجابت لاعتراضات الذين شجبوا قيامها ومحاكمتها الحزب وقادته وفكرته. تطايرت أسئلة،وتصادمت، كم أن هذه المحكمة متجاوزة ولا شرعية وخطيرة ومرعبة وقد تجلب الويل والثبور على من اقترحها وبذل كل هذا العناء في العالم الأسفل لإنجازها؟ كيف سيستقبل الناس في الدنيا خبر هذه المحاكمة الغريبة؟ هل سيمتعضون أم سيقولون: قادة فاسدون، يجب مواجهتهم بخطاياهم وما جروه على الناس والوطن من كوارث،والأهم العدالة التي طال بحثنا عنها نجد أن شهداءنا لا يزالون يبحثون عنها!أم سيقولون حتى الشهداء أنفسهم عجزوا عن محاكمتهم؟ من قال أن الشهداء يستطيعون كل شيء؟

(85) نجمة وحيدة في السماء، لا تزال تلوح لهم!

مال إليً الجهنمي يسألني انتم الذين قضيتم أعماركم تدعون للثورة هل صرتم الآن فجأة ضد الثورة، والثوار؟ لا. قلتها على الفور:

ـ أنا ما زلت أدعو للثورة والتغيير. لا تتجدد الحياة دون هزات عميقة كبرى. لكنني لست مع ثورة يفجرها مغامرون حالمون بالزعامة دون فكرة صائبة وخرائط صحيحة تؤدي إلى أوضاع صحيحة عادلة،أنا أرفض دعوة الناس للاستشهاد بخفة وعجالة.

قال العطار :

ـ أنا أتفهم لوعتك، فهد حملكم الكثير، دون جدوى!

تدخل الجهنمي قائلاً:

ـ لو إنه أتى بفكرته وتركها تتلاقح وتتفاعل مع الأفكار والمفاهيم الأخرى في المجتمع لكانت حافز تغيير وتحول، ومصدر غنى وعافية لعقول الناس، وحتى لو احتواها بتنظيم ديمقراطي لما اعترضنا ولا تأسينا، لكنه أتى بها مرتبطة بتنظيم حزبي ستاليني سري غارق في عتمة السراديب فجعلها تتحول من فكرة إلى مقصلة. مديرة ظهرها لساحات رحيبة مضاءة بالشمس والرياح، غير محاذرة أن تتحول إلى بالوعة كبرى تريد التهام كل فكرة أخرى قبلها أو بعدها، لا لهضمها وتمثلها والاغتناء بها، بل لتسفيهها ولتدميرها وطرحها كنفاية!

صمت العطار برهة، قال فجأة:

ـ لذا أنت لا تستطيع أن تدرك حقيقة تأثير الشيوعيين في عقول العراقيين، ما لم تعرف غير الشيوعيين.أنت تعرف "جماعة الأهالي"،هل تأملت تجربتهم بما تستحق؟ هذه الكوكبة المنيرة التي تألقت بفكرة العدالة الإنسانية في سمائنا، ثم أفلت فجأة، وتفرق أعضاؤها، ونسيهم الناس ولم يعودوا يذكرونهم إلا لماماً. ثمة نجمة في السماء كنت أراها من قبري تومض وتلوح لقبورهم وما تبقى من ملامح وجوههم وكلماتهم! صمت العطار برهة، أشعل سيجارة وحمل كوب القهوة بين يديه ومضى يحتسي برشفات صغيرة ويتحدث:

ـ في تلك الأيام كنت طالباً في دار المعلمين العالية في بغداد، بعد ان نفضنا أيدينا من حركة الجوال في حقبتيها، الماركسية في المسجد، ونادي التضامن الذي لم تدم فرحته. التفت إلى جماعة الأهالي! فكانت لي معهم قصص متشعبة لا تخلو من جمال ومتعة وتشويق. ولكن هل سيمهلني الموت لأروي لك كل شيء؟ نشأت الحركة أمامي، بل كنت في لجتها، ولم أكن بحاجة لمن يدلني عليها. فروادها البستاني وعزيز شريف وحسين جميل كانوا أصدقائي، لكنني لم أكن معهم في نشاطهم أو مشروعهم، ربما لتجربتي الخائبة مع جماعة الجوال. كان عزيز شريف بالفطرة مندمجاً مع فكر الأهالي. حدثني أن والده رجل الدين المعروف في عانة كان متفتحاً على العلم وعلى السياسة الوطنية، رغم إنه نشأ في جو ديني وفي ظل سلطة عثمانية. كان يروي لي ضاحكاً كيف إن والده المعمم انتشل من النهر مسننات سفينة إنجليزية غارقة في الفرات، وحولها إلى مضخة لرفع الماء تديرها الدواب. قائلاً: يلتقي في ساقيتنا العالم والحمار، ولا نهوض للعراق دون العلماء والحمير معاً! كان عزيز يحلم ان يذهب في بعثة إلى إنجلترا أو أمريكا لدراسة الفيزياء أو الكيمياء، وقد واتته الفرصة فعلاً حين نجح في دراسته محرزاً المرتبة الأولى على أقرانه في المعهد. رشح للبعثة، ولكن الحكومة كانت قد تلقت انتقادات كثيرة لكونها تغفل أبناء الشيعة من البعثات العلمية إلى الخارج، ثم تدعي عدم وجود كفاءات بينهم ليتبوءوا المناصب. فقررت في اللحظة الأخيرة أن تلغي ترشيحه وترسل بدلاً منه طالباً شيعياً لموازنة البعثة متجاهلة كونه يأتي بعده في مرتبة التخرج. ذلك جعل عزيز يحس بالغبن، وأنه راح ضحية الصراع الطائفي، فعاد منكفئاً إلى مدينته ليعمل فيها معلماً. طموحه لم يلبث أن عاد متقداً فجاء إلى بغداد يدرس الحقوق، مزمعاً أن يقتر على نفسه ليدخر مبلغاً يمكنه من الذهاب إلى الخارج لمواصلة دراسته. صرنا نحترم تقشفه وبساطة عيشه، وعدم مجاراته لنا في لهونا البسيط أو حتى في جلوسنا في المقاهي أو ترددنا على المطاعم، لكي يوفر قطعة نقدية صغيرة لرحلته، آملين أن يستطيع تحقيق حلمه الدراسي! شدني إلى البستاني اهتمامنا في كتابة القصة والرواية، التقينا على منضدة في مقهى البلدية نتبادل الرأي في قصة قرأها لي في جريدة البلاد. كان البستاني يريد أن يصير أديباً قاصاً وروائياً,لم يخطر بباله آنذاك أن يصير حزبياً أو سياسياً. لم يكن آنذاك قد حسم أمره باعتناق الماركسية، كنت أنا نتيجة رحلتي العاصفة مع الجوال من المسجد إلى النادي أقرب من البستاني للماركسية، فكان يسألني حولها كثيراً، حتى قلت له مرة: أتريد أن تقتفي خطى ماركس ام تشارلس ديكنز؟ فقال كلاهما! ضحكت قلت له ديكنز ذهب إلى بيوت العمال الضيقة الرطبة الباردة واقترب من أرواحهم الحزينة. ماركس لازم مكتبة المتحف البريطاني وغرق بالأرقام غائصاً من خلالها بدماء العمال مشعلاً بها الحرائق، أي الطريقين ستسلك؟ ظل يقول: كلاهما! لكنه في النهاية اتبع خطى ماركس!

أواخر 1926 فاجأنا أستاذ التاريخ أنيس زكريا النصولي، بتأليف كتابه(الدولة الأموية في الشام). كان النصولي لبنانياً، وأحد أربعة أساتذة سوريين وفلسطينيين من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت استقدمتهم وزارة المعارف للتدريس في المدارس الثانوية ودار المعلمين في بغداد. كان محور كتابه حديثاً عن علي ومعاوية، وطرائقهما في الحكم. مفصلاً ما لحق بالعرب من تغيرات وضعف وفوات فرص إثر زوال الدولة الأموية. متحدثاً عن صراع الحسين مع يزيد منوهاً أن محوره كرسي الحكم. وإن الحسين نفسه كان قد أبدى استعداده لمبايعة يزيد بالخلافة. لكن ظروفاً طرأت لم تكن بمعزل عن أعداء العرب والمسلمين غيرت اتجاه الأحداث! قائلاً أن وقائع كثيرة في التاريخ يطمسها أتباع هذا الطرف أو ذاك.

كانت العلاقة بين الشيعة والسنة في تلك الحقبة مشحونة بالريب والتوتر. ورغم إن الكتاب لم يتضمن سوى إهداء لأتباع الأمويين، وعبارات قليلة تتحدث بوقائع حدثت في الماضي مختلف عليها. لكنه اعتبر مستفزاً وفجر المزيد من الضغائن والهواجس بينهما. وجد المتعصبون من الشيعة، وأتباعهم في الكتاب طعناً بمعتقداتهم. وأعلنوا استياءهم وغضبهم من مؤلفه! كتب أحد أنصار المؤلف في الجريدة: لماذا تعدون التعرض لرموز معينة طعناً بمشاعركم، ولا تعدون التعرض لرموز أخرى طعناً بمشاعر السنة؟ لماذا تريدون مراعاة مشاعركم وأحاسيسكم، ولا تريدون مراعاة مشاعر وأحاسيس الآخرين؟ لماذا تفترضون أن روايتكم للتاريخ البعيد هي الصحيحة، وغيرها خاطئة؟ ولكن معلقين شيعة: وجهوا نفس الأسئلة أيضاً. قال بعض العقلاء قد يكون المؤلف على صواب في ما قال، ولكن لا حق له أن يطرح ذلك في كتاب على تلاميذه. يمكنه أن يطرحه في المكتبات! لكن الهياج كان قد بلغ أقصاه ولم يكن أحد من هذا الطرف أو ذاك يريد ان يسمع أو يرى. لم يكتفوا بسحب الكتاب من أيدي التلاميذ، ومن المكتبات، بل قام وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي،وهو شيعي، بفصل النصولي من سلك التعليم. وسعى لدى الملك فيصل لطرده من العراق. وقد وافق الملك على ذلك متجاهلاً معارضة ساطع الحٍصّري مدير المعارف ومستشاره في شئون التعليم. وجه الملك رئيس الوزراء فبعث كتاباً سرياً إلى وزرائه، دعاهم فيه إلى إزالة روح التفرقة، والعناية بأبناء الشيعة، وإزالة ما تركه الكتاب من أصداء قد تكون مست مشاعرهم! لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد. أثار قرار فصل النصولي زملاءه وطلابه. كان نادي التضامن لا يزال ناشطاً، وإن بفتور، بعد تخلي أمين الجوال عنه. لكنه هب مع قضية النصولي وراح ينسق مع الطلاب، فرفعوا احتجاجاً إلى وزير المعارف دافعوا فيه عن حرية الفكر. مؤكدين إنهم ليسوا مع ما جاء في الكتاب من أفكار، لكنهم لا يقرون تكميم أفواه الكتاب والمفكرين حتى لو كانت آراءهم مخالفة لمعتقدات المجتمع أو الحكومة! ثم لماذا فصلتم المدرسين العرب الآخرين معه؟ لم يجدوا استجابة. أخذ النادي يحرض الطلاب للتظاهر. راح الجوال وجماعته يكونون مركزاً لانطلاقهم وتوجيههم!

تنادينا نحن طلاب دار المعلمين العالية وثانوية بغداد المركزية للاجتماع في الصالحية من الكرخ للتداول. قر رأينا على التوجه في اليوم التالي بمظاهرة وعريضة احتجاج مماثلة. مر حشدنا على المدارس الثانوية والابتدائية في الكرخ والرصافة، فانضم الكثير من الطلبة كباراً وصغاراً إلينا وسرنا في مظاهرة كبيرة. كان الطلاب الصغار يهتفون معنا دون أن يعوا شيئاً بسقوط الوزير والوزارة والمستشار الإنجليزي. عبرنا إلى مقر وزارة المعارف في القشلة. رفض الوزير استلام عريضتنا، ولم يكلف نفسه عناء مقابلة ممثلين لنا. قامت وزارته وبالتنسيق مع المستشار البريطاني بدور مخفر متقدم؛ فاستدعوا المزيد من الشرطة لمواجهتنا. هجم علينا الإنجليزي المستر فيشر مدير الإطفاء بسيارات الإطفاء، وجه علينا خراطيم المياه؛ فأوقع بعضنا أرضاً وأصيبوا برضوض، وطار طلبة صغار فوق نوافير الماء كالفراشات. كنا لا ندري أنضحك أم نغضب لوضعنا. القي القبض على كثيرين منا. عاقبوا زميلنا حسين جميل الذي تصدر المظاهرة بالطرد المؤبد. وعبد القادر البستاني الذي كان يقف بجانبه في الصف الأمامي بالفصل لمدة شهر. أفلت أنا بمراوغة موفقة! أفلت عزيز شريف ولجأ إلى تكريت حيث وجد حماية من رئيس بلديتها الذي ابطل مذكرة توقيفه في مركز الشرطة! مضى الطلاب في تضامنهم مع النصولي ومع زملائهم المفصولين أو المطاردين. تدخل الملك فيصل الأول بعد أشهر؛ فأمر بإعادتهم إلى مدارسهم، معتبراً أن ما نالهم جزاءً كافياً ينبغي أن يردعهم عن التدخل في ما لا يعنيهم، كما قال، أو أعلن مستشاروه! استقال الوزير عبد المهدي المنتفكي محتجاً. نظم عبد القادر رشيد الناصري الملقب بشاعر المهمشين والمحزونين قصيدة اشتهرت فيما بعد (سقط الوزير فمرحباً بسقوطه) لكن الأمر لم ينته. اشتغل الإنجليز على الخط بقوة. ألفوا في وزارة المعارف لجنة برئاسة مستشارها الإنجليزي سمرفيل للتحقيق. كان سمرفيل كالعادة بوجهين. هو يقول لمن يلتقيهم من المتفهمين لانتفاضة الطلاب على أنها دفاع عن حرية الفكر: النصولي مثقف تنويري، ويريد بإخلاص نشر الثقافة الحديثة، ولكن العصبية شديدة في العراق. وهذا سيجعل مهمتنا صعبة في تطوير بلدكم. ويقول لمن يلقاهم من المعارضين لهم وللنصولي: أنتم محقون تدافعون عن معتقداتكم وأصولكم المذهبية، والنصولي مدرس طائش. جد المستشار ومن معه على تعميق الظلال الطائفية في القضية. رد الطلبة كان ثابتاً: نحن نحتج على انتهاك حرية الفكر، ولسنا مع النصولي في آرائه، أو مع طائفة ضد أخرى، ودليلنا واضح: هو أن مدرسين وطلبة من أبناء الشيعة معنا في ذلك مشيرين إلى زميلهم محمد سلمان حسن الذي برز فيما بعد عالماً في الاقتصاد ثم وزيراً. قالوا: نحن نرى أن الرد على النصولي، يجب أن يكون بكتاب يفند آرائه، وينشط الحوار الفكري في بلادنا! وليس بإجراءات بوليسية وإدارية قاسية تقمع حرية الفكر! ثم لماذا طرد الوزير زملاء النصولي من المدرسين اللبنانيين والسوريين، وهم لا علاقة لهم بكتاب النصولي، ونحن بأمس الحاجة لهم؟ من الذي يؤجج الطائفية؟ طالب أحد أنصار الوزير المستقيل بمقالة له، بوضع مسطرة عليها أرقام حمراء وخضراء تحدد طول الألسن المسموح بها في المدارس ومقامات الدولة! طبعاً لم يعرف لا الوزير المستقيل، ولا المستشار الإنجليزي ولا النصولي بأنهم في صنعهم لهذه القضية إنما مهدوا لتكوين شيئين مهمين في تاريخ العراق: الأول هو بدعة المظاهرات الطلابية: فقد اكتشف الطلاب شيئاً خاصاً بهم وليس تلك المظاهرات العامة المختلطة التي يتصدرها عادة أبو الجبن والأشتري. وجدوها نزهة جميلة، فيها تقوم دائرة الإطفاء بمنحهم حماماً شمسياً جميلاً، وملاطفة الصغار بتحويلهم إلى فراشات أو اسماك ملونة لمدة دقائق يضحكون فيها ويستمتعون ويرضعون لبان السياسة. وهي بدعة فعالة على نحو مؤثر جداً، قادرة على تحريك الأرض، وهز كراسي الحكام لكي لا تتحول إلى أسرة نوم أو متحجرات أبدية. صارت المظاهرات الطلابية ضرورة وطنية لكل قضية أو مطالب مشروعة أو غير مشروعة، ممكنة أو غير ممكنة. المنجز الثاني هو تكون نواة حركة فكرية وسياسية ستلعب دوراً مهماً وملهماً في الفكر والسياسة لبلادنا، وهي حركة الأهالي! كما إن القضية بالنسبة لي لم تنته عند هذا الحد. تعززت صداقتي بحسين جميل وعبد القادر البستاني وعزيز شريف،وصاروا أصدقاء حميمين لي! كان حسين بوجه أسمر، ملامحه عادية، فيه نمش يوحي انه اجتاز مع أم طيبة حنونة معركة قاسية مع الجدري. بشوش مبتسم، فجأة يغدو أقرب للوجوم والحزن. ولد في قمبر علي،لأسرة قادمة من عانة. كان أبوه وعمه قاضيين، فوجد نفسه يسير على طريق الحقوق والقضاء. أخوه وأولاد عمه كانوا يجلبون الكتب الأدبية والسياسية إلى البيت فاجتذبته ليغرق في كلماتها الهائجة المتناقضة. عرف من صغره بميله للكتابة والتفكير. عندما انتقلت عائلته مع أبيه ليكون قاضياً في العمارة، حول وهو لا يزال في الابتدائية مواضيع الكتب المدرسية إلى قضايا سياسية، وأخذ ينشرها في الصحيفة الجدارية للمدرسة. وضع لها عناوين أكبر من حجمه والمدرسة نفسها: متى نتحرر من ربقة المستعمر؟ متى نلحق بركب الحضارة؟ متى تتوحد الأمة. متى نتخلص من الطائفية؟ كان ذلك حوالي عام 1923، وعمره آنذاك لا يتجاوز الخامسة عشرة‍! وكلما تقدم بالعمر ازداد ولعه بالكتابة في مواضيع فكرية وسياسية تجعل من يقرأها يظنه رجلاً كبيراً ضخماً، وحين يلقاه يفاجأ بنحوله وضآلته!

كان عزيز شريف بسمرة باهتة، نحيلاً، متوسط القامة، أقرب للقصر، بعينين واسعتين ما زالتا تحملان وهن جدري أصيب به في صباه، وكاد يغلقهما على الظلام إلى الأبد، سريع الخطى، بطيء الكلام؛ يمط حروفه على طريقة أهل عانه حتى لتخاله لا يستعمل شفتيه للنطق، بل ليكتب بهما ببطء على الهواء! وكان عبد القادر يصغرني بعامين. جاء جده المدعو مستان من الهند، ومنه أخذ لقبه، بعد أن تحور إلى البستاني، يسكن قريباً من فضوة عرب، وهي منطقة يؤمها البدو والقرويون؛ لمقايضة منتجاتهم بالعدد والأدوات المستعملة للجمال والبغال،والزراعة البسيطة. يسكنها نساجون وبناءون ومزارعون في البساتين الصغيرة. قال لي إنه كره الإنجليز حين رأى جندياً إنجليزياً ينهال مع أصحابه على قروي فقير بالضرب؛ لأنه لم يقف لهم عند مرور دوريتهم في شارع المحلة. رغم إنه وأصحابه الصبيان حاولوا الرد على الجنود الإنجليز ومضايقاتهم، لكن أساليبهم البدائية لم تكن تشفي غليله، فصمم على محاربتهم. "حين وعيت لم أجد من وسيلة سوى العمل السياسي. حتى هذا السبيل الذي يقال إنه مشروع ومقبول، صار يقابل بالسجن والاضطهاد. كان طويلاً عريض الكتفين، بوجه ضخم، وقسمات سمراء غامقة، وبعينين واسعتين سوداوين، يوحي وجهه بالجد والصرامة، لكنه في حقيقته بسيط ولطيف وحنون حد السذاجة. كان عبد القادر يحدثني دائماً أن له أبن خال يدرس التاريخ والاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت، يدعى عبد الفتاح إبراهيم، يقاربنا بالعمر، وهو أبن رجل دين من عانة أيضاً يسكن باب الشيخ ويعيش من عمله مدرساً في الجوامع. وهما يتراسلان ويتبادلان أخبار العراق ولبنان وأحياناً يبعث له من بيروت بعض المجلات والكتب التي تصدر في القاهرة وبيروت، وإنه شاب متفتح ويتوقع أن يكون له مستقبل كبير في مجال الفكر. كنت أعرف أيضاً إن زميلي في ثانوية الموصل محمد حديد، وعلي حيدر سليمان يدرسان معه هناك. كان محمد من عائلة تأخذ بطريقة دينية صوفية قرنت بالحديد لقدرة شيوخها كما قيل على قطع الحديد بأكفهم ومضغه وهضمه والتغذي عليه حتى تصير أجسادهم صلبة لا تقطعها السيوف، ولا يخترقها الرصاص. لكن محمد كان يبدو لترافته ناعماً هشاً فهو من أسرة غنية، فهم شيوخ الطريقة الحديدية. وأبوه التاجر الكبير رئيساً لبلدية المدينة. كان طالباً بارزاً بيننا عرف بنباهته وتفوقه. وعلي حيدر كردي الأصل، يتكلم العربية بطلاقة، لا يباريه بها مثقفون عرب، حاد الذكاء عصاميا تولى تربية أخويه الصغيرين بمساعدة جدته الجريئة التي اقتحمت مضطرة مهنة ليست للنساء فصارت تاجرة ناجحة، بعد أن أوقف والده الذي كان من أمراء سوران ومتنفذاً في راوندوز! كانوا جميعاً ينشطون في نفس الجامعة في بيروت، وفي نادي وجمعية شبه سرية تعمل على بلورة نهج فكري يستطيع إحداث تغيير جذري في واقع العراق. كانوا يقولون: بلدنا لا ينتقل إلى حضارة حقيقية بفكر قديم رث يحمله ضباط تربوا في الجيش العثماني الذي كان همه الأكبر حماية المستبدين الطغاة! تواصلت لقاءاتنا، أنا وحسين وعبد القادر، وعزيز اللذين أصبحا طالبين في كلية الحقوق. طلبا مني مشاركتهما في نادي التضامن في الإعداد لمظاهرة احتجاج ضد زيارة الزعيم الصهيوني الفريد موند لبغداد، فأبديت استعدادي لذلك. تدخل والدي بطريقة غريبة ومنعني من المشاركة في المظاهرة. وردتني برقية عاجلة من الأهل في الموصل يعلمونني بوفاته، ويدعونني للقدوم على الفور! شاركا هما وأصدقاؤنا الآخرون في المظاهرة في جو مكفهر. كانت قد صدرت مراسيم تسمح لوزير المعارف بجلد الطلبة، ولوزير الداخلية بحق وضعهم تحت المراقبة، القي القبض على حسين وعبد القادر مع آخرين. هذه المرة طردا بشكل نهائي من الكلية. سافر حسين إلى دمشق ملتحقاً بكلية الحقوق. هناك، احتضن من قبل عميد الكلية والأساتذة، وكثير من الطلبة والشخصيات الدمشقية. كان الشعور القومي هناك مشتعلاً ومتصاعداً. بعد عام من طرده ومراقبته عن كثب، أعيد البستاني للدراسة في الصف الأول من كلية الحقوق!

كنت أكملت دراستي الجامعية، وعدت إلى الموصل،مرتمياً في أحضان عائلتي كأنني كنت أشعر إنني سأفارقها ذات يوم لزمن طويل.عينت في الموصل مدرساً ومكثت فيها فترة منشغلاً بعملي وعلاقاتي العائلية؛ دون أن أغفل عن متابعة أخبار البستاني، وحسين جميل وأقرأ ما ينشرانه في صحف بغداد ودمشق. كتب لي حسين في آخر رسالة "أنا الآن أرضع حليب القومية العربية حتى من حجارة جبل قاسيون! وحين نقلت العبارة إلى البستاني ضحك، قال: ولماذا لا يرضعها من عناقيد كروم الشام؟ أو صدر شامية حسناء؟ ألم أقل لك إنه سيكون قاضياً جافاً كئيباً، بعيدا عن خيال الشعراء؟ بقيت أتردد على بغداد رغم العناء الذي ألاقيه في سفري لعدم توفر وسائط النقل المريحة والكافية،والطرق المعبدة الميسرة آنذاك، فالتقي البستاني وغيره من أصدقائي ومعارفي.

(86) السعدون: قتل نفسه، وظلوا يلاحقونه إلى القبر يريدون قتله ثانية!

في الأسبوع الثاني من تشرين عام 1929 كنت قد جئت إلى بغداد متحملاً مشاق طريق الموصل الطويل. مؤملاً نفسي بأيام جميلة أقضيها مع البستاني والأصدقاء الآخرين في حوارات فكرية وأدبية أثيرة، مرتادين حيث ما استطعنا بعض أماكن الشراب واللهو، ثم أعرج كعادتي على سوق السراي، ومكتبة حلمي لأملأ حقيبتي بما وصل بغداد من جديد مطابع بيروت والقاهرة ودمشق. بينما كنت أسير في شارع الرشيد؛ قاصداً فندق الأعيان حيث أنزل عادة. سمعت صبيا يصيح بأعلى صوته كأنه يبكي:اقرأ الخبر، انتحار عبد المحسن السعدون! أحسست بقشعريرة، وضعت حقيبتي من يدي. تزاحمت مع حلقة الناس المشترين، وحصلت على جريدتين، وقرأت المانشيت العريض الأسود: الأمة تفقد زعيما كبيراً: السعدون يفتدي أمته بروحه احتجاجاً على تعنت الإنجليز. السعدون ينتحر في لحظة غضب وطني.

وبخط عريض: الشهيد يقول: (الأمة تطلب الخدمة، والإنجليز لا يوافقون)

رحت أسرع الخطى أريد أن ألقي نفسي على مقعد في أقرب مقهى، وجدتني فجأة منفعلاً لاهثا. كنا كلنا نشتم هؤلاء الحكام، نجدهم رجالاً عملاء منتفعين جاءوا مع الإنجليز من أجل مناصبهم ومواقعهم. لكن أن ينتحر أحدهم وهو في موقع كبير جداً لابد أن نفكر به بشكل مختلف. هو ربما غير ما كنا نظن، وقد شتمناه ظلماً! تداركت مقعداً، كانت المقهى قد عطلت الكرامافون، والجالسون في صمت ووجوم، سمعت بعضهم ينتحب، بينما نادل المقهى يوزع القهوة، والناس يخرجون ويدخلون قلقين مضطربين. صاحب المقهى يرفض تقاضي النقود، أخذ بعضهم يدور على الجالسين يوزع السجائر، تحول المقهى فجأة إلى مجلس عزاء.

عثروا على وصية السعدون فوق أوراق مكتبه. نشرتها الجريدة التي أتصفحها(العالم العربي) مصورة بالزونكغراف، بعد أن وقع عليها معظم الوزراء شهوداً على صحتها. كانوا يتوقعون شكوك العراقيين لكثرة ما واجهوا من دسائس في الفترة الأخيرة.، كان قد كتبها بالتركية التي يجيدها أكثر من العربية.ارتجفت يداي بالجريدة، وأنا اقرأ كلماتها المؤطرة بزهور سود: يا عيني الاثنتين، يا سندي، يا ولدي علي: اعف عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت الحياة التي لم أجد فيها لذة وذوقا مشرفاً، الأمة تنتظر الخدمة، والإنجليز لا يوافقون. ليس لي ظهير، العراقيون طلاب استقلال، ضعفاء عاجزون وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس من أمثالي .. يظنون إنني خائن للوطن، وعبداً للإنجليز، ما أعظم هذه المصيبة، أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني قد كابدت كل أنواع الاحتقارات وتحملت المذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي مرفهين.

ولدي نصيحتي الأخيرة هي:

1ـ أن ترحم إخوانك الصغار الذين سيبقون يتامى، وتحترم والدتك وتخلص لوطنك.

2ـ أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصا مطلقاً. اعف عني يا ولدي علي.

التوقيع عبد المحسن السعدون

أحسست بحاجة للقاء أصدقائي:البستاني،عزيز شريف، خليل كنه. أما حسين جميل ذو اللسان الذي لا يتوقف عن الكلام في السياسة، والذي يمكن أن يفلسف هذه اللحظة جيداً، فهو لا يزال في دمشق. ذهب حسين إلى هناك؛ وهو يشتم حكام بغداد. ماذا يقول عن السعدون في مأساته هذه؟ هل سيعده شهيداً من اجل استقلال وحرية العراق؟ أم عميلاً قتل نفسه؛ لأنه ضلع مع محتلين ولم يحقق للعراق شيئاً؟ ولكن هل لو رفض المشاركة في الحكم سيجعل الإنجليز يخرجون من العراق، أم يزدادون تفرداً واستهتاراً؟ ذهبت إلى الفندق. وضعت حقيبتي في الحجرة.ارتحت قليلاً.لم أجد شهية للغداء. اتجهت إلى مقهى عارف أغا حيث اعتدت أن التقي البستاني، وأصدقاءنا الآخرين. ظلت قضية السعدون تملأ رأسي. ما أعرفه عن عبد المحسن إنه كان قد أمضى شبابه في اسطنبول في وظيفة شرفية تدعى (المابين). تعني الياوران أو التشريفات. يمنحها السلطان لأبناء الرؤساء والأمراء في الإمبراطورية العثمانية. هي في حقيقتها أخذ الأبناء رهائن كي لا يثور آباؤهم وذووهم على السلطان! أسلاف عبد المحسن،عرب أصائل، شيوخ المنتفك (الناصرية)، كانوا دوماً ثائرين على العثمانيين. وقد أعدم وسجن كثير منهم. كان عبد المحسن ضعيف البنية، عصبي المزاج، درس في اسطنبول، وتزوج فتاة تركية. اعتاد لغتها في البيت والدواوين. حين قدم إلى العراق؛ اعتمده الملك فيصل لمهمات كبيرة، لما عرف عنه من خلق وتهذيب ونزاهة. لكن هذه الخصال جعلته مكروها من كثيرين تسلقوا سلالم السلطة من أجل منافعهم ومصالحهم الخاصة والإثراء غير المشروع. كان يقف بوجوههم بقوة فيمضون يختلقون كل ما من شأنه إزعاجه وإيذائه عله يتخلى عن رئاسة الحكومة، والعمل السياسي،ويخلي لهم الطريق إلى مفاسدهم! في العام الماضي عندما شكل الوزارة قال إنه سيجعل هم وزارته الأول تعديل البنود الخاصة بالشئون المالية والعسكرية من المعاهدة العراقية البريطانية المعقودة عام 1927. اصطدم بتعنت الإنجليز، وتزايد أطماعهم، ولا مبالاتهم وبرودهم الذي وصفه "بصخرة من جليد!". اضطر لتقديم استقالة وزارته، فقبلها الملك. سافر إلى لبنان ليس للتمتع بالشمس الناعمة، والشواطئ الخلابة كما قال، إنما للابتعاد أبعد مسافة ممكنة عمن اسماهم زرافات من الرجال الدبقين الفارغين من أي فكر أو خلق، فاسدين متهالكين على المال والجاه والشهوات،يأخذون من البلاد كل ما يستطيعون دون أن يقدموا لها شيئاً، وقد صارت مقدرات العراق فجأة بأيديهم، وحين يصدهم يذهبون ليشهروا به ضاربين على الوتر الأكثر حساسية في قلبه: نصاعة صفحته الوطنية! التقيت بالبستاني وخليل كنه. غمرنا الصمت فجأة. في ذلك اليوم البارد اجتاحتنا فجأة عاطفة وطنية حارة، بكينا بصمت. مضت اكثر من ساعة حتى بدا أننا نفيق لنتحدث بما جرى. كان وقع الخبر على الناس ثقيلاً، فلم يسبق ان انتحر رئيس وزراء أو وزير أو حتى موظف كبير بسبب واجباته في الشرق كله، على العكس كانوا يستمتعون بمباهج كراسيهم حتى ليعتصروا خشبها علهم يحتسون منه شيئاً يزيد من سكرتهم بالسلطة،وتمتعهم بالثروة. حضرنا التشييع الكبير المهيب الذي جرى له حيث دفن في جامع الكيلاني .قال البستاني،انهم منذ أيام لم يلتقوا بعزيز شريف، سافر إلى عانة فهو لا يطيق الابتعاد عنها. بقيت في بغداد أياماً.عاد عزيز فجعل كعادته جلساتنا أكثر حيوية رغم أنه يكثر من تصليح لغتنا العربية في النحو، وحتى في الكلام يحاسبنا على الإملاء. فهو يسأل أحدنا فجأة (وهاي شلون تكتبها؟) عاد جالباً لنا من عانة سلة تمر مكتومي لذيذ،مع كيس من أقراص اللبن المجفف،اشتراه من البدو الذين يحطون في هيت في طريق عبورهم إلى الجزيرة. كنا ننقعه بالماء حتى يغدوا هشاً فنجهز عليه مع التمر. ما أن ننتهي حتى يقول البستاني: " لقد أكلنا جسد التمر، وآن لنا أن نعانق روحه" . يقصد الذهاب إلى حانة لشرب العرق المصنوع من التمر، فيقطب عزيز شريف، ويمسك بشكل لاشعوري بالمقعد الذي يجلس عليه خشية أن نحمله على أكتافنا إلى الحانة. هو لا يشرب الخمرة. يقول: لو سمع والدي إني شربت الخمرة لما ذهب إلى المسجد إلا للدعاء عل الله يقصف عمري. كلما هربنا في حديثنا عن انتحار السعدون،نعود إليه. راحت تتوالى تفاصيل ما حدث له في تلك الليلة المشؤومة: كان الملك قد ألح عليه للعودة من لبنان وتشكيل الوزارة مرة أخرى لما عرف عنه من دماثة خلق وتحمل الكثير. ثمة رجل حاول قتله بسكين وجرحه في رقبته،فعفا عنه. قائل:اً هو مسكين، ليس سوى أداة بيد رجال أقوياء فاسدين. كانت أعصابه تفلت منه أحيانا، لكنه صار يعود نفسه على مواجهة ما يتعرض له من إساءة وأذى بالصمت. قال له صديقه عبد العزيز القصاب (تحدث! لا تكبت ما في قلبك، صبرك وصمتك، قد يجعلان قلبك ينفجر يوماً). أمام إلحاح الملك، رجع إلى بغداد، وشكل الوزارة. عاد إلى قضيته الأساسية مع الإنجليز: عقد اتفاقية جديدة تتيح للعراق حقوقه الأساسية المرتهنة. وعاد الإنجليز معه إلى مماطلتهم وتسويفهم وخداعهم! وراحوا يضعون العراقيل أمام وزارته، وينهالون عليها بمطالب ثقيلة متلاحقة بدءاً من قضايا تتعلق بمصالحهم التجارية والعسكرية، إلى مطالبتهم أن تكون مشتريات الدولة بواسطة وكلائهم، وتعيين موظفين إنجليز؛ لا يحملون شهادات، حتى انهم عينوا إنجليزيا مستشاراً لوزارة الري، بينما هو قدم معهم كمأمور طابعة! كان السعدون يجد كل ذلك إمعانا في استهتارهم واستخفافهم بالعراق وأهله، فكان يتألم ويكظم غيظه، وأحيانا يشكو للملك فيجده هو أيضاً متألما عاجزاً أيضاً، ويتذكر كلمة قال له مثقف لبناني في بيروت: "لا أريد أن أقول إننا أمة مهزومة، علينا أن تقبل حيف المنتصرين وشروطهم المجحفة، ولكن ما أنا متأكد منه، إن ما ورثناه عن أسلافنا هو الكثير من الهزائم والتفريط والضعف؛ وعلينا أن نصبر كثيراً؛ لنحقق بعضاً من هذا الذي يسمونه قوتنا الغابرة، وأمجادنا التليدة!" ظل يقابل مكائد الإنجليز وأصحابهم السريين والعلنيين بحكمة وصبر. حاول أن يجمع بين المرونة والتصلب. لكن الإنجليز ما كان يريدون منه سوى الإذعان والخنوع،وظل يصارعهم قدر استطاعته، والملك بينهما في جذب متواصل، والشعب يطالب بشتى السبل بمزيد من الاستقلال، ويعزوا كل تأخير إلى فتور في همة السعدون، ويتهمه بالانحناء والعمالة لهم. والنواب الذين كان يقف بوجه مطامعهم الشخصية ومفاسدهم، راحوا يسمعونه في البرلمان كلاما جارحاً قائلين: إنه لخنوع سافر تشكيلك وزارة في ظل احتلال! وحين يسألهم: وأنتم ماذا تسمون مجيئكم نواباً للبرلمان في ظل احتلال؟ فيكتفون بتلمس كروشهم، أو عقلهم، ويشامغهم الحمر والسود، ويتضاحكون!

أمس، ليلة 12 تشرين ثاني، دعا الملك لوليمة على شرف مستشار الداخلية "كنهان كورفاليس" بمناسبة ختام إجازته وعودته من لندن. كانت اللغة الأكثر تردداً في حفلات الحكومة هي التركية، تليها العربية، حيث معظم الحاكمين، وعلية القوم كانوا مقيمين في تركيا، أو أصحاب مناصب وعلاقات معها في العراق، وبلدان أخرى. إذا اقترب مستشار إنجليزي من جماعة في الحفلة يقطعون حديثهم بلغتهم ويتحدثون بالإنجليزية. كان السعدون يستهجن ذلك، ولا يعده تهذيباً بل استخذاءً ومحاولة لإثبات براءة وشفافية أمام السادة الإنجليز الذين لا يقدرونها، ويسدرون في عتمتهم وتحجرهم. فكان يخرق هذه القاعدة ويظل مسترسلاً في حديثه بالعربية أو التركية، إلا إذا كان الحديث يخص فعلاً المستشار الإنجليزي. كان ذلك يزيد حقد الإنجليز عليه. تقدم منه في الحفل المستشار المحتفى به، وانتحى به في ركن من الصالون، تحدث معه بلهجة قاسية قائلاً:

ـ لقد لمست تبدلاً في طريقة تعامل الحكومة معنا‍‍.

فرد عليه السعدون بهدوء:

ـ لقد سئم العراقيون وعودكم، تأكد لهم إنكم تسعون لتحقيق مصالحكم فقط، دون اكتراث بمصالح العراقيين!

طال الجدل بينهما فقال الإنجليزي:

ـ لا تنتظر منا أي تبدل في سياستنا، وإذا لم يعجبك الحال تستطيع أن تنصرف!

ألقى عليه السعدون نظرة طويلة كلها احتقار، لكنه مرة أخرى التجأ إلى صبر البدوي الذي يزعم إنه يستعير من البعير رقبته الطويلة؛ لكي تبطئ الكلمة في الوصول إلى فمه،خاصة وإنه في معركة غير متكافئة. ظل على صمته؛ بينما شب حريق في داخله. هم بالخروج على الفور، لكن كان يجب أن يمر على الملك ليستـأذنه بالانصراف. أفضى له ببعض ما دار بينه وبين المستشار الوقح، قائلاً:

ـ كما قلت سابقاً يا صاحب الجلالة، إنهم يكذبون، يخدعوننا، لا أمل بتحقيق أي وعد منهم. علت وجه الملك سحابة حزن ولزم الصمت، وظل واجماً. خرج السعدون من الحفل مهيضاً مكتئباً. مر على بيت صديقه عبد العزيز القصاب رئيس مجلس النواب،الذي كان مزكوماً في تلك الليلة فلم يحضر الحفل. حدثه بما جرى له مع المستشار الإنجليزي، حاول أن يهدئه ويطيب خاطرة، لكنه لم يمكث عنده سوى دقائق حتى إنه لم ينتظر قدوم الخادم بالقهوة. خرج باكياً وودعه رافعا كلتا يديه فوق رأسه! قصد نادي التقدم والذي يرتاده كثير من رجال الحكومة والنواب، مع كثير من صائدي الوظائف والمنافع الشخصية، والزيجات المثقلة بالثراء والوجاهة لأبنائهم وبناتهم! كان أحيانا يحاول نسيان همومه بلعب الورق، وبينما كان يلعب مر على مائدته النائب معروف جياووك الذي تطاول عليه صباح اليوم في المجلس وكان يشهر به سراً على إنه عميل للإنجليز، بينما كثيرون يعرفون إن جياووك عميل حقاً للإنجليز ويتقاضى راتباً إضافيا منهم، وكانت مهمته تشويه سمعة السعدون؛ لإضعافه وجعله لا يقوى على مجابهة الإنجليز. قيل إنه كان ثملاً، أعاد عليه كلماته الجارحة، فاكتفى السعدون بالقول: أنا لا أتحدث مع جاسوس! ثم لزم الصمت برهة، لكنه لم يلبث أن نهض متجهاً إلى بيته الكائن جهة الباب الشرقي في شارع أبي نؤاس. مر على مكتبه، كتب وصيته، وصعد إلى حجرته في الطابق الثاني وأطلق رصاصة على صدره، كان آخر تصويب له محكماً؛ فقد أفلحت الرصاصة الوحيدة في تمزيق القلب،وتبديد همومه كلها وإلى الأبد!

وبدلاً من ان يبدل الإنجليز سياستهم مع العراقيين وحكامهم، أو حتى يفكروا بمراجعتها اعترضوا على نشر وصية السعدون متهمين من نشرها؛ بأنه أراد أن يحرض الشعب عليهم!

وبينما ظل كثيرون في حزن على السعدون، وتصاعد غضبهم وكرههم للإنجليز، ظهر كالعادة رجال يقولون (إن السعدون لم ينتحر بدافع وطني، بل تخلصاً من حياته العائلية التعيسة لما يلاقيه من زوجته التركية، واصفين إياها بالمتسلطة المتعجرفة، مدعين أنها كانت تحتقره وتسومه سوء العذاب). وعندما انتحر ابنه الوحيد "علي" بعد فترة قالوا: (ألم نقل لكم أن العائلة تعاني من كآبة متوارثة؟) وعندما صدمت دراجة نارية ابنته وقتلتها، قالوا: (إنها عائلة منكودة، تتداول الموت بعيداً عن الوطنية؟ لماذا صنعتم له تمثالاً ولماذا أطلقتم اسمه على شارع كبير في الباب الشرقي؟) توقف جلال العطار ليقول بنبرته الحزينة الغاضبة: قتل السعدون نفسه، ثم ظلوا يلاحقونه إلى القبر يريدون قتله ثانية! أية قسوة لدى العراقيين؟ من يضمن أنهم لا يستعملون هذه القسوة ضد أنفسهم أيضاً؟ لا أدري، أحس أن مستقبلهم سيؤول إلى شقاء وضيم وعذاب لا مثيل له. انتحار السعدون أعطى للكثيرين دروساً كبيرة‍‍! قال المقربون من نوري السعيد أنه قابل انتحاره بصمت وربما بشيء من الاستبشار، كأنه عرف إنه سيكون من بعده رجل فيصل الأول. قرر أن يكون دائماً الرجل القوي الذي سيجعل أعداءه من المعارضة، وحتى الإنجليز هم الذين ينتحرون وليس هو، وكلما تناوشته سهام خصومه تتهمه بالعمالة، كان يقول ماذا تريدون؟ ها هو عبد المحسن قد انتحر أمامكم، وهو يصارع الإنجليز ولم يقنعكم بوطنيته، وما زلتم تعدونه عميلاً، أتريدونني انتحر حتى أثبت لكم إنني وطني؟ لا ! رأيكم ووطنيتكم لا تساوي عندي عقب سيجارة! لم نكف، أنا والبستاني وشريف وكنه وآخرون، عن مناقشة ما حدث، كنا ننظر للرعيل الحاكم في ظل الإنجليز على أنهم رجال متخمون مرتاحو الضمير في عمالتهم. صرنا أقل غلواء في لومهم واتهامهم ووسمهم بالخيانة، وإن لم نكف عن مطالبتهم بالاقتراب من الشعب، ومصارحته بمعاناتهم، وجعله ظهيراً لهم لا خصماً، كما صرت أنا وكنه نطالب الناس بتفهم ظروف هؤلاء الرجال وتقدير صعوبة عملهم. خليل كنه كان يقول (السعدون أعطاناً درسا عظيما في الوطنية،فقد صارع المحتلين بالكلمة لا بالبندقية بل وجه البندقية إلى قلبه، تلك لطمة كبرى ليس للضمير الإنجليزي بل لضمير العراقيين. قد لا يعونها الآن، لكنها ستصفعهم في زمن قادم). كان عزيز يقول: الاقتراب من المحتلين أمر لابد منه،وإلا هل يترك كل شيء لهم؟ لكن الخشية من التهالك على ذلك والارتماء في أحضانهم. وتنفيذ مصالحهم، لا مصالح الوطن. كان كلامهما صحيحاً. كنت أدرك أن كثيرين من كانوا يسفهون السعدون، ويزايدون عليه في الوطنية كانوا في قرارة نفوسهم يتمنون لو يكونوا مكانه‍‍ في منصبه لا في مصيره المأساوي طبعاً. كان الدرس الذي تلقاه الجهنمي من انتحار السعدون غريباً، قال: حسمت أمري. صرت ميالاً إلى الجنس في كل شيء، صحيح أنا لم أقتنع بكلام البعض من أنه انتحر احتجاجا على مناكدة وتعذيب زوجته له، وجدت أن المرأة والسلطة والكرامة عملوا في حزمة واحدة على سحقه، وبما إنني لا اطمح بسلطة، وأرى الكرامة والشرف نسبيان، فما يعني هنا شرفاً،هو في بريطانيا مجرد قشرة بصل. أدركت أن الجنس قضية تستحق النضال من أجلها، وكلما حققت فيها انتصاراً، ضمنت سعادتي،‍ واطمأنت نفسي أنني لن أموت قاتلاً لها في لحظة ضعف. جرى حفل تأبيني كبير في أربعينية السعدون ألقى فيه شعراء كثار قصائدهم،كانت قصيدة الرصافي (هب الأسى في قلوب الشعب مستعرا) وقصيدة: الأثري (يد تحيي ويد في الحسام، ويد ظاهرها لنا الرحمة، والويل في باطنها والزؤام)

بينما، حاول الزهاوي أن يجعلها فلسفية مطعمة ببعض معارفه في الفلك وعلم الأبراج والنجوم (ليل وزوبعة وبحر هائج أنا لا أرى أن السفينة تسلم). لكن المناكفة بالمقالب بين الرصافي والزهاوي لاحقتهما حتى باب مجلس العزاء المهيب، وكان الرصافي كما في كل مرة هو من بدأ الهجوم. جاء إلى الحفل كعادته منتشياً بكؤوس العرق، فأوعز لأحدهم إن يدس الخمرة في سقاء حمارة الزهاوي المطهمة التي جاء بها إلى سرادق العزاء في جامع الكيلاني. ما أن خرج الزهاوى حزيناً من التأبين، وهم بالسير بها حتى عنفصت وتشقلبت بمرح وغنج وطرحته أرضاً، ومرغت سدارته السوداء، وقصيدته الفلسفية الفلكية الحزينة بأوحال المطر والسواقي الآسنة.‍ كان الرصافي وجماعته يرقبونه غارقين بالضحك، قال الرصافي الفرق بين الشاعر وغير الشاعر، هو أن غير الشاعر يخرج من المجلس صاحياً فيجد حمارته سكرانة؛ فلا يفقه من أمرها شيئاً، حتى تطرحه مع قصيدته أرضاً. والشاعر يخرج من المجلس سكران فيجد قصيدته على أفواه الناس لا في الأوحال. كان ذلك بعضاً مما دونته في كتابي (لهو الشعراء في بلاد الفقراء) الذي طبعه بعد وفاتي ابن أخي وتزوج بريع‍ه، وهكذا كما ترى مصائب قوم عند قوم فوائد‍.‍

(87) رسول من مرجعية شيعية إلى زعيم كردي، والصفقة غامضة مقلقة!

جلب لنا عزيز شريف من عانة مع التمر واللبن حكاية وجدها البعض منا غامضة مرة مقلقة.

رغم أنه حدثنا بها أكثر من مرة إلا إنه يخالف تفسير أو تأويل الناس لها. كان محمود الحفيد قد أعلن نفسه ملكاً على السليمانية، عندما أعلن فيصل ملكاً على العراق! وقاد ثورة ضد الحكم الجديد، سحقت من قبل الإنجليز، وجيء به إلى عانة منفياً. سكن بيتا فقيراً مجاوراً لبيت عائلة عزيز. وظل يلقب بملك الكرد. كان يقضي ليالي الشتاء الطويلة في أحاديث متشعبة مع والد عزيز وشخصيات من وجهاء المدينة. يقول عزيز إنه بدأ يهتم بقضية الكرد منذ صباه، لما سمعه من أحاديث الحفيد، ومن معه، أو من يجالسه، في بيتهم القائم على ضفة الفرات في الحي القديم، المطل على النهر. ذات صباح حل في عانة رجل بملابس دين سوداء وبسحنة غريبة. سأل شاباً التقاه مصادفة عن بيت الحفيد؛ فدله عليه. قال إن الرجل كان يتحدث بلكنة إيرانية وإنه كان في عجلة من أمره، وكأنه خائف. عرف فيما بعد إنه قادم من النجف. لم يمكث الرجل في بيت الحفيد سوى ساعات. تناول الغذاء معه، وخرج مسرعاً. رغم ارتباكه وحركاته التي تنم عن خوف وقلق بدا متهلل الأسارير. مستعجلاً، كأنه حصل على بشرى يزفها لمن أرسله. دارت تكهنات كثيرة حول مهمة الرجل وما جاء من أجله، شرق الناس وغربوا في توقعاتهم، بعضهم ادعى أنه كان وراء الشباك يتسمع حديثهما. ما رشح أو ما تداوله كثيرون هو أن الرجل يحمل إلى الحفيد رسالة من المرجعية الشيعية. تتضمن مشروع تحالف لهم مع الكرد. ادعوا إنهم سمعوا الرجل يقول للحفيد: نحن وإياكم في المظلومية سواء. فرضوا علينا حكماً لا نؤمن به، فهو باطل لأنه يقوم بغيبة المهدي المنتظر. ويقوده أحفاد يزيد. عملاء الإنجليز الكفرة. وبالنسبة لكم أقاموا دولة استحوذت على أرضكم وغمطت حقكم في إقامة دولتكم الخاصة بكم. نحن وإياكم لنا هدف واحد، هدم هذه الدولة الغاشمة. لنضع أيدينا معاً ونعمل على إسقاطها، لنؤسس ومنذ الآن حلفنا التاريخي. وافقه الحفيد على كلامه. وتحدث بما يثقل ذهنه، مضيفاً: نحن لا نستطيع هدم هذه الدولة الآن، أنت ترى إنني مبعد عن شعبي. عملنا سيستغرق وقتاً طويلاً. لكن من الضروري إقامة حلفنا، وسنسلمه للأجيال القادمة تحققه وتقطف ثماره العظيمة! تناقل كثيرون الحكاية، تارة يضيفون لها من مخيلتهم وتارة يحذفون منها، لكنها لم تخرج عن كونها حلفاً إيرانياً كردياً ضدهم، فظلت هاجساً مقلقاً لهم.في المجلس الذي يعقد كل ليلة في بيت أحد وجهاء عانه ويلقى الحفيد فيه حفاوة خاصة، بدا الحفيد واجماً، كأنه بدأ يحس بالذنب إنه يتآمر على هؤلاء الناس الذين يلقى لديهم تكريماً بل ودعماً لقضيته، فهم كانوا دائماً يرددون على مسامعه: " كما لا إكراه في الدين، لا إكراه في الحكم" ومن حق الكرد أن يحكموا أنفسهم" لكنهم وهم المتدينون يضيفون: كلنا مسلمون ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأن يحكم هنا أو هناك كردي أو عربي لا فرق إذا احتكم للقرآن وسنة نبيه. سأله أحدهم على عادة سكان المنطقة في السؤال عن الضيف والغريب وحاجته: من هذا الرجل ذو العمامة السوداء الذين زارك اليوم؟ وجد الحفيد نفسه محرجاً. لم يقل لهم سوى نصف الحقيقة، قالها مفاخراً إنه يرد متآمراً: جاءني يريدني أن أحقق تحالف الكرد مع شيعة إيران لمقارعة الحكم، وهدم الدولة. سمع كلمات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم تتردد من أركان المجلس. كان الرجال جالسين على بسط ملونة ويتكأون على جدران الحجرة متوسطة الحجم، تتوسطهم منقلة جمر كبيرة فيها دلال القهوة. كان البرد يجلو عن عظامهم تاركاً في عروقهم خدره الدافئ ورائحة القهوة: لزم الصمت فجأة. بدت شفتاه تحت شاربيه الكثين المعقوفين ترتجفان، حدقوا في وجهه ينتظرون المزيد قال له أحدهم: وبماذا أجبته؟ رد بارتباك: رفضت طبعاً! قال مداريا كلامه الذي أحس انه لم يلق قناعة من الحاضرين، هذا الرجل إيراني، ذلك واضح من لهجته. كيف نحارب أبناء وطننا لمصلحة الإيرانيين؟ قال رجل يجلس قبالته وهو يضغط عمامته على رأسه، حذار! لن تجدوا حليفاً صادقاً سوى من العرب العراقيين. الإيرانيون لا يمكن ان يعطوكم شيئاً.لا لكم، ولا لغيركم. اسألني عنهم! رأيت حجاجاً منهم في بيت الله، تكاد صدورهم تنفجر من قيح يخزنونه ضد قادة المسلمين الذين فتحوا بلادهم للإسلام. سألت أحدهم إذاً لماذا تأت للحج؟ سكت ولم يجب. صاحبه ضحك وقال: يحتاج للقب حاج في البازار، الحج من عدة التجارة! التزم الحفيد الصمت. أحس كثيرون إن صمته مريب وينطق بأشياء كثيرة. كان هو نفسه يستعيد في ذهنه العبارة التي قالها للرجل القادم من النجف: نعم أنتم ترونها دولة السنة، ونحن نراها دولة العرب، ورغم إننا سنة لكن ما يهمنا القومية، وليس الدين. نعم لنعمل معاً لهدم هذه الدولة بأي شكل. كان الحفيد يلوك عبارته بين أسنانه يخشى أن تفلت منه وتفضح أمره. لكن من حوله تأكدوا مما قيل عن هذا اللقاء لا حاجة لكلام آخر. مع ذلك ظلوا يحسنون ضيافته يرعونه ويكرمونه. مؤكدين له: الكرد أخوتنا. من يؤذيهم؛ يؤذينا في ديننا وضميرناً!

لم يكترث عزيز لتحالف قادة الكرد وشيعة إيران، ولم ير إنه يستهدف السنة، قرر ان ينذر جهوده وشطراً من عمره لقضية الكرد. صار يحلم أن يعيش معهم ثورتهم في الجبال ويعاني معهم هموم ومشاق حروبهم مع الجيش والحكومة. كان يقول "ما لم تلب مطالب الكرد، وينالون حقهم في إقامة دولتهم الخاصة المستقلة فإن العراق سيبقى في حال اضطراب وتمزق وحروب طاحنة!" ويتذكر إنه سمع الحفيد يقول بلهجة لا تخلو من تهديد: "لن تكون هناك دولة للعرب في العراق، ما لم تكن منه دولة للأكراد!" قال عزيز:

ـ لذلك فأنا أزمع أن أكرس الكثير من جهدي لهذه القضية لا من أجل الكرد وحسب، بل من أجل العراق أيضاً لأبعد عنه هذا اللغم المتفجر!

قلت :" حسب ما أسمع، لا الأتراك ولا الإيرانيون ولا آخرون يسمحون للأكراد بإقامة دولة لهم!" قال بحماسة تجعله لا يمط الكلمات كعادته:

ـ يجب أن نبدي للأكراد موقفاً واضحا: نحن نقر بحقهم بدولتهم، وعدم قيامها هو ليس ذنبنا!

صارت هذه القضية تشغلني وتقلقني أيضاً.

(88) عمي يبياع الورد، عمي يبياع النفط!

وقعت معاهدة 1930. لم تعد بريطانيا تدير العراق بشكل مباشر بواسطة مستشاريها وضباطها. صارت تديره بشكل غير مباشر، عبر رجال من أهله مرتبطين بها! كان حسين جميل قد عاد من دمشق طافح الرأس والقلم بالأفكار والمشاعر القومية. لا يزال البستاني لم ينه دراسته للحقوق بعد. أخذ يميل أكثر للأفكار الاجتماعية، ويرى الجيشان الوطني عاصفة عابرة إذا لم يتأصل في تحولات مادية تغري الناس خاصة الكادحين والفقراء للانخراط به على أمل تحسين حياتهم، لكنه لم يستطع ان يحسم خياره في فكرة قادرة على تحقيق هذه المعجزة! كان يقول: أحيانا يخيل لي أن الشيوعية هي الحسناء التي سأقع في حبها! رد حسين:

ـ حين كنت في دمشق أراد فؤاد الشمالي ترشيحي لأذهب إلى موسكو لأدرس الشيوعية وأعود لتأسيس الحزب الشيوعي في العراق، لكنني رفضت. فأنا لا أستطيع ان أصير أممياً بينما أمتي مستلبة ممزقة جائعة مهانة من قادة الغرب! وفي دمشق تعرض قلبي للكثير من الشحن القومي ولكنني لم أصر قومياً. خرجت من كل ذلك بفكرة متوازنة تجمع بين قومية، لا تعادي الإنسانية، واشتراكية لا تعادي القومية. لقد تأكد لي يا صديقي أن الشيوعية كالدين تماماً تراب طوبائي كلاهما أرض خصبة لزراعة الخشخاش!

لكن حسين ظل على عادته القديمة في التحرش في السلطة جاذباً عبد القادر وكثير من الطلبة معه لنغزها من خاصرتها بأقلامهم أو هتافاتهم. دعا هذه المرة الشعب لإضراب عام " ندعو الشعب يوم الاثنين المقبل إلى تعطيل الأشغال ووسائل النقل وإقفال الدكاكين، والمحلات والمقاهي ودور الأعمال وان يتظاهروا سلمياً" لماذا ؟؟ سأله البستاني، راح حسين جميل يحك رأسه الذي بدأ الصلع يدب فيه محاولاً أن يتذكر. حقاً لماذا؟ ..ها تذكرت.. لطرد الإنجليز، ومن أجل قضية فلسطين طبعاً، رفضت الحكومة طلبهم بالسماح لهم بالتجمع، وألقت القبض على من اتهمتهم بطبع بيان الإضراب وتوزيعه. قال من يعرفهم هؤلاء الشبان صاروا هواة إضرابات ومظاهرات، يقومون بها كما يقوم غيرهم بصيد السمك للتسلية، أو لعب النرد في المقهى. راح يونس وصديقاه يرقبان من مجلسهم المريح في بيت الأنس رجلاً اقترب من حسن طلقة عند عتبة كهف الشهداء. كان مذهولاً حائراً زائغ النظرات. جرف مع الركب الهابط للعالم الأسفل دون أن يفقه ماذا جرى. الآن أدرك أنه في عالم الأموات وتحت الثرى. غمه ما يرى من الهياكل العظمية، وأصابه الهلع من النهاية التي الآن أقر إنها هي مآل كل كائن حي. أخذ يتمالك نفسه بعض الشيء. ود لو يعرف أيهما الأفضل أن يستوطن هنا وهي الدار الباقية أم يعود لتلك الدنيا وهي الزائلة. أحس إنه بحاجة لما يطمئنه، قاده حظه إلى حسن طلقة. كان دائماً متلهفاً لأحد من الأحياء المختلطين بالهياكل العظمية يدير عليه شريطه الذي يسميه (بالقايش الأخوي) استوقفه الرجل ملهوفاً نطق حرفاً ثم توقف متلجلجاً كأنه توجس من نظرات طلقة الغائمة وراء محجريه الخاويين.بادره طلقة مشجعاً:

-         ـ قل ما بدا لك يا أخا العرب والكرد والتركمان وليس ثمة سؤال لديك لا أستطيع الإجابة عليه فأنا متسلح بنظرية كلية القدرة!

-         وجد الرجل إنه وقع على ضالته:

-         ـ قل لي أيها الشهيد رحمك الله ما لفرق بين الدنيا التي في الأعلى، والدنيا التي في الأسفل؟

نظر طلقة إليه كصيد ثمين. تلمظ ملتذاً بشفتيه اللتين أكلهما الدود منذ سنوات قال:

ـ ماكو فرق مولانا، بس هنا ما زلنا نغني (عمي يبياع الورد كلي الورد بيش) وهناك في العالم الأعلى صاروا يغنون (عمي يبياع النفط كلي النفط بيش!)

-         تلفضها حسن طلقة منغمة مغناة بحنجرته الهالكة، ظل الرجل مبهوتاً لحظة، قال:

-         ـ بس؟

-         ـ بس!،يعني شنو تريدها حرب البسوس؟ حرب الخليج؟ قضية فلسطين؟

-         قال الرجل وكأنه تنفس الصعداء:

-         ـ هاي بسيطة،يبين هنا أحسن!

-         ـ بالتأكيد هنا أحسن،ابق هنا شكو طالع فوق؟ شلك بوجع الراس؟

تركه وراح يرقب صحفياً مبتدئاً وجد نفسه فجأة في هذا الحشد إذ جاء في مهمة دنيوية لصحيفته في المقبرة فوجد نفسه فجأة في العالم السفلي. اغتنمها فرصة لتحقيق سبق صحفي فيه، والتدرب بين هذه الهياكل العظمية. راح يطوف عليهم يسألهم، كانت اسئلته لا تخلو من سخف وفجاجة: "هل أنت نادم على استشهادك" إذا قدر لك أن تولد في الحياة من جديد هل ستسلك نفس الطريق؟ فكان جواب الشهداء يتراوح بين قول كثيرين بإصرار وثبات ومكابرة:

ـ بالطبع سنسير على ذات الطريق،سنستشهد مرة أخرى من اجل هذه الفكرة العظيمة!

ـ وما هو الإنسان؟ إنه فكرة وموقف! وبدونهما يتساوى مع الحيوان والنبات!

ولكن كثيرين أيضاً أجابوا:

ـ بالطبع لا، ماذا حقق موتنا للوطن وللشعب؟ وماذا جلبنا لوطننا غير الخراب والضياع!

ـ استشهد مرة أخرى؟ هل أنا مجنون؟

آخر:

ـ كنت غبياً قبل موتي،لا يعقل أن أبقى غبياً بعد موتي!

رجل مسن هرم، كبر وشاخ في قبره بعد أن استشهد وهو شاب، ردد قول أبي نؤاس:

لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره!

ثمة فتاة قالت :

ـ كان حلمي ان يكون لي أطفال أربيهم ليخدموا وطنهم. كان يجب أن لا أتخلى عن هذا الحلم الصغير من أجل حلم كبير لا جذور له. تعلمت ولكن بعد فوات الأوان، أن الأحلام الكبيرة، لا تبنى إلا من الأحلام الصغيرة!

شهيد كهل كان يصغي إليها،عقب على كلامها:

ـ بل قولي لا يجيد الأحلام الكبيرة؛ من لم يجد الأحلام الصغيرة. نعم كنت سأستشهد ولكن ليس من أجل هذه الفكرة الخاطئة! عزائي أنها لم تطبق فتخرب أكثر!

لم يكمل الصحفي دورته حتى وجد نفسه قبالة حسن طلقة الذي بادره بالقول: قبل أن تسألني أريد أن أقول لك إنني لست نادماً إنني استشهدت حتى ولو من أجل الشيوعية أو الرياضة، أو مرافقة أبي العصماء. أنا نادم إنني وافقت على الخروج من رحم أمي!

بدا العطار،سئماً ضجراً من بيت المتعة ومن كهف الشهداء، قال : لا يبدد ضجري سوى الكتابة، أتمنى أن أجد قلمي الذي كتبت به رواياتي، ومقالاتي، محبرتي السوداء، نشافة الورق، ممحاة قلم الرصاص، كم أحن لكل هذه الأشياء الصغيرة، أحن إلى منضدة الكتابة، أتمنى أن أجلس ساعة خلفها وأحمل ما كتبت إلى روفائيل بطي، اسمع رأيه بها فهو الذي احتضن رواياتي وقصصي، نشر الكثير منها، قدمها للناس بأريحية كبيرة، تحمل الأذى من أجلي، كان مبدعا خطفته الصحافة من الإبداع ثم خطفته الوظيفة والوزارة من الصحافة ثم خطفه الموت من كل شيء!

آه لو ألقاه لساعة للحظات!

(89) روفائيل بطي: يطير على لحية انستاس الكرملي من الموصل إلى بغداد!

ما وقع لروفائيل بطي ذات ليلة شتائية عاصفة في الموصل شيء لا يصدق، نشأ روفائيل في بيت فقير في الموصل أوائل القرن العشرين. أبوه كان حائكاً بأدوات بدائية يكدح ليل نهار ليوفر لعائلته الصغيرة لقمة شريفة، وإن كانت خشنة يابسة، آملاً أن يرسله لكتاتيب الكنيسة ليصير قساً، ويتدرج في المناصب فيصير كاردينالاً، وربما بابا الفاتيكان، فالعائلة كاثوليكية شديدة التدين؛ يليق بها ان تنجب بابا بأدق المواصفات الشرقية الصارمة!

لكن الابن الذي كان يؤدي إشارة الصلاة لأيقونات المسيح والسيدة العذراء المبثوثة في جوانب البيت الصغير، كان منجذباً مشدوهاً لوجه آخر يطل من إطار تساقطت قشرته الذهبية معلق على الجدار يطل منه، مثله الأعلى: الأب انستاس الكرملي. رغم إنه راهب لكنه عالم وأديب ومفكر، ومنغمس بالهم الدنيوي كما الروحي والكنسي، يتقن أحد عشر لغة، لكنه عشق منها العربية، ونذر جسده الجبلي القوي المتين لها؛ كما نذر روحه للمسيح ورعيته. كان روفائيل يحب انستاس لا كقس أو رجل كنسي؛ بل كناطق بكلمات أقرب للشعر،فيها نفحة من نصوص الكتاب المقدس لكنها مختلفة عنه في انغماسها الدنيوي، مترعة برائحة البشر المعترفين للمذبح الكنسي،أكثر من مسوح القسسة المشيحين عنهم!

روفائيل يحس إنه قد نهل من ينابيع المعرفة في الموصل ما يكفي. فهو قد تعلم في مدرسة الآباء الدومنيكان الكنسية العالية،وألم بكثير من العلوم والآداب وأتقن السريانية،وادهش معلميه عندما اصدر جريدة حائط سماها "اليراعة" تخرج وهو لا يزال يافعاً كان ذلك عام 1914، وصار معلماً في مدرسة ابتدائية، واخذ يساعد العائلة ويحسِن من عيشها، وشارباه لم يختطا بعد. لكن الوالد ما زال يريده ان يصير قساً،(أن تكون قساً تضمن لنا ولك مستقراً في الجنة) أما إذا صرت البابا: فستدخل كل خراف مسيحي الشرق إلى مراعي الجنة، يكفيهم قليل من العشب، المهم تجنبهم لظى الجحيم!

يضحك لكلمات والده المهووس بجنة المسيح. ويعتكف في حجرته؛ يفكر كيف يذهب إلى عاصمة البلاد ليكون قريباً من معلمه الكرملي. الأب الآخر العظيم الذي استلب روحه في مقالاته وأفكاره ونصوصه المرافقة لنصوص جبران خليل حبران، تعانقها مرة، تصارعها مرة أخرى، تنقضها تارة، وتتلاشى حزينة أمامها تارة أخرى. لكن جبران يعيش بعيداً في أمريكا منهكاً، كما سمع، بمرضه وأحزانه وخمرته،وتباريح عشقه،وتقلباته. وانستاس يسكن ديراً رحيباً متسامحاً في بغداد، يكفي ان يفتح له مكتبته التي سمع الكثير عن كنوزها، قيل "مكتبة الكرملي هي مغارة علي بابا، فقط هي من الورق العتيق الأصفر، وليس من الذهب والجواهر! وإنه كان يقتر على نفسه ليجمع كتبها ونفائسها. لابد ان يذهب إليه ليعمده في محراب الإبداع الأدبي العظيم! ماذا سيفعل للعالم لو صار قساً؟ أو حتى لو صار البابا؟ ألم يكن الباب موجوداً حين صارت كل هذه الحروب التي قتلت مئات الملايين من البشر؟ ولم يستطع أن يوقفها؟ كثيرون هم رجال الدين في العراق من مختلف الأديان. كلهم يأكلون ويشربون ويعاشرون، والناس ما زالوا فقراء معذبين، والموت كثير، والجنة لم يحن موعدها بعد، ويبدو أن أوانها بعيد جداً. ما يسود اليوم هو جحيم الفقر والجهل. ألم يكتب في جريدة "اليراعة" الحائطية " كلما تكاثر رجال الدين، تقلص الدين في قلوب البشر، ذلك إن رجال الدين،يستهلكون الدين ويحولونه من نور إلهي إلى أطعمة دسمة في أحشائهم الضخمة!" لا يريد ان يكون قساً، مجرد قلنسوة سوداء أخرى. لا أكثر" بينما هو كلما أمسك قلمه يحس ان في داخله برقاً ورعوداً تريد ان تتفجر لتهز العراق، وربما العالم! وحتى إذا هزت بغداد فقط فهذا شي جيد. ولكن الحروب قامت أيضاً وفي العالم آلاف المفكرين والمبدعين! على كل حال المفكرون مثل الراهب انستاس يعرفون أسباب الحروب؛ أكثر من رجال الدين المتزمتين أو الذين يستعملون الدين للحرب أيضاً. هؤلاء لا يعرفون سوى الوقوف متمتمين على قبور الضحايا، بينما المفكرون يكتبون رسائلهم إلى الأحياء يعلمونهم ويحذرونهم لكي لا تبتلعهم القبور. لن يكون قساً يتسلى باعترافات وعذابات الضعفاء الخاطئين والضالين، ضحايا الأقوياء والأثرياء. لا! لن أكون قساً! حتى لو اختار انستاس أن يكون قساً لا مفكراً سأفترق عنه. لكن كيف يصل إليه؟ ما في جيبه من مصروف لا يكفي لركوب بغلة إلى ضاحية في المدينة. ديون العائلة القديمة التهمت راتبه. هل يتوسل بأصحاب الأطواف ليضعوا رأسه المفكر بين رؤوس البطيخ واليقطين الكبيرة التي ينحدرون بها في دجلة إلى بغداد؟ أيسير على قدميه من الموصل إلى بغداد؟ كان بيتهم يعبق برائحة الصوف والقطن. والده غائص حتى نصفه في الأرض وراء "جومته" ينسج بساطاً يأمل بعد الانتهاء منه أن يسدد بقايا الديون ويأتي للعائلة بأكلة طيبة! وهو جالس في حجرته يحدق بصورة انستاس ماري الكرملي منغمراً بلحيته، الغيمة العتيقة المختزنة مطرها لدهر بعيد قادم، وصلعته التي تشبه صينية عرس قديمة ما زالت العروس تجلوها سعيدة كل يوم رغم أن شعرها قد أبيض ولم ترزق بذرية. كانت تلمع متقدمة رأسه الكبير وشعره الطويل الأشيب المنسدل خلفه، روفائيل ينظر إليه بخشوع ممتناً لما نهل من مجلاته وكتبه: " الفوز بالمراد في تاريخ بغداد"، "بلوغ المرام في شرح مسك الختام"، "التدبر في أغلاط النحويين الأقدمين"، وغيرها عشرات.الكتب والرسائل. أحس أنه يقتسم معه معجزته ويقرأ كتبه التي لم يألفها حتى الآن، ويتصل بذكائه ودأبه بما يشبه الوحي. في العام الماضي سمع أحدهم يقول إنه يشبه طاغور شكلاً وروحاً، فقط إنه لا ينظم كلماته . أجهد نفسه باحثاً عن صورة لطاغور. وجدها في جريدة قديمة مصفرة، ارتعش قلبه: فمثله الأعلى هو النسخة اللبنانية العراقية لطاغور(فالأب انستاس ماري الكرملي ولد في بغداد عام 1866 لأب لبناني وأم عراقية، درس في لبنان وبلجيكا وفرنسا وأسبانيا الفلسفة واللاهوت ولغات قديمة وحديثة. قطف من حرمها الجامعي زبدة العقول والكتب والأسفار. قدم إلى بغداد 1894 وقد أزمع أن يمسها بقبس من الحضارة الأوربية الذي أخفاه في أحشائه كما يخفي حامل النار في صحراء العرب القديمة شعلته من ريح باردة. وجد الأتراك في أفكاره وحماسته للغة العرب خطراً على دولتهم ونفوذهم. سجنوه ثم نفوه إلى حلب وهموا بشنقه لولا تدخل نخبة رجال دين مسيحيين ووجهاء أحبوه. كان يشبه طاغور بطول قامته، ورأسه الضخم ولحيته البيضاء الطويلة المرسلة،وبما تشيعه طلته من طمأنينة وسلام روحي، لكن صوت طاغور كان خفيضاً حالماً، بينما صوت انستاس أقرب للزئير. وضحكته مجلجلة تهز أركان الدير. كان معتداً بنفسه يقول : "أنا عراقي لبناني في آن واحد. ومن جناحاه لبنان والعراق لا يمكن إلا أن يكون نسراً مأواه قمم الجبال وذرى الإبداع" أجهد روفائيل نفسه في تعلم الإنجليزية وقرأ ما عثر عليه مما ترجم إليها من شعر طاغور, ليعود إلى عزلته في حجرته يحدق في لحية انستاس الكرملي. كانت العاصفة تقرع قلب الموصل فتجعله ينبض كالبحر، وفجأة وجد روفائيل نفسه محمولاً على لحية الكرملي في الهواء وقد أخذ يحلق به مندفعاً جنوباً،ثم في لحظات لذيذة سريعة خاطفة رأى يده تمسك بمدق باب دير الآباء الكرملين في بغداد غير بعيد عن جامع الخلاني خلف شارع الرشيد! وعلى وقع المدق النحاسي، هزته اليقظة الجارحة. كيف انتقل إلى بغداد وهو لم يستقل سيارة ولم يركب دابة؟ كل ما يتذكره إن لحية انستاس قد تحركت مثل مروحة هائلة احتضنته كالطفل النائم (أحس بدفء أشعره إنه في حضن جده الذي وعى على آخر أيامه) وان الهواء مضى ناعما رقيقا عذباً بطيران آمن، ثم حطت اللحية المباركة به أمام انستاس. كان في صومعة جدرانها كتب وأوراق وريش طيور مغمس بمحابر من ألوان شتى. استقبله الأب الكبير بحنو كأنه يعرفه من زمن بعيد وينتظره. كان في مجلسه الذي يعقده كل يوم جمعة، ويؤمه عشرات الكتاب والمؤرخين يتقدمهم مصطفى جواد ومحمد الشبيبي وغنيمة وكوركيس وأحمد سوسة وآخرون. شرطه الوحيد على زواره هو عدم النقاش في السياسة والمذاهب، قائلاً "هذان اللغمان يمكن أن يفجرا الجبال، فكيف بالرجال؟" كان معه ذلك اليوم الحافظ مهدي، قارئ القرآن في جامع أبي حنيفة، والذي صار فيما بعد أبرز مقرئي القرآن في الإذاعة منذ افتتاحها أوائل الثلاثينيات. اعتاد الكرملي الطلب منه كلما زاره أن يرتل مجوداً آيات من القرآن. كان يهيم بصوته الرخيم الشجي وأدائه المبهر. راح يصغي له مغمض العينين خاشعاً مطلقاً روحه في عالم يصعب التكهن بمداه ومنعرجاته. جلس روفائيل أمامه وقد زاد إعجاباً به، كان منتشياً لرحلته الأسطورية الخاطفة وهذا المجلس الطافح بالوجوه التي كان يسمع عنها ويقرأ لها، ويراها الآن في هذه الصومعة البسيطة المتقشفة. انتهى الحافظ مهدي من تلاوته العذبة، فنهض أحد الحاضرين وتلا أبياتاً:

عشنا وعاشت في الدهور بلادنا جوامعنا في جنبهن الكنائس

وسوف يعيش الشعب في وحدة له، عمائمنا في جنبهن القلانس!

افتر ثغر الكرملي باسماً! باشاً مرحباً ثانية بضيفه ومريده الشاب. وروفائيل يتمتم مرتبكاً بين خجله ودهشته وثقته بنفسه. قال أحدهم للكرملي: الآن هدأت نفسك بعد غضبتك على أمين معلوف! أطلق ضحكته المجلجلة. كان قبل قليل محتداً يصب اللعنات، متوعداً بالويل والثبور أسعد داغر وعبد الله البستاني وأمين معلوف وغيرهم من كتاب ولغويي لبنان. ولولا أنهم في بيروت لحمل عصاه كعادته وأنهال بها على ظهورهم! من يرى غضبته عليهم يظن إن بينه وبينهم خلافات دينية طائفية، قبلية،أو سياسية، بينما كل ما في الأمر إنه اختلف معهم في مراسلاته لهم على وضع الهمزة في بعض الكلمات، هل تكون على عمود جاثمة كحمامة وديعة، أم تجلس كفتاة فاتنة معززة مكرمة على كرسي! حين عرف روفائيل ذلك هم بالضحك لكنه كتم ضحكته في صدره فأوجعه. شعر بفرح، إنه خلال ساعة واحدة تلقى الكثير من الدروس! هنا ستغتني روحي، وسيمتلئ قلمي وسيفجر بروقه ورعوده! حتى بعد أن تقدم في حياته الفكرية والصحفية واصدر جريدة البلاد،وصارت أبرز صحف العراق.وكوكب اللبرالية والتنوير الساطع، ظل يعتقد إنه قد طار على لحية انستاس من الموصل إلى بغداد.وإلا كيف لا يتذكر شيئاً من الطريق المتعرج الطويل بين الموصل وبغداد؟ أصحاب التفسير المادي الواقعي للأشياء يقولون ان روفائيل قد شبه له، وإنه قد هز بمس عبقري، جعله في غيبوبة عن نفسه فخرج من البيت متسللاً ومضى يمشي ويمشي أياما ولياليا، ذاهلاً عن نفسه، وعما في جيبه من نقود قليلة، حتى تهرأ لحم قدميه مع حذائه العتيق، فوصل دير الكرمليين. لكنه يرفض هذه التفسير لرحلته الطويلة المثمرة. سماها معراجه الروحي إلى نور الشرق والغرب المتجمع في سماء بغداد معشوقة الشموس! وإن صومعة الكرملي هي العربة الذهبية التي تنقل عشاق النور إلى واحات السماء الخضراء والزرقاء. يأتون بالكثير من فاكهتها إلى المعذبين والملهوفين في هذه الأرض المهجورة منذ أزمان بعيدة. لذلك ظلت نفحة روحانية تلهب كلماته في كل ما كتب وأبدع، ظل يمسك المادة في اليسرى، والروح في اليمنى، الواقع مع رجال السلطة، والخيال مع رجال المعارضة والثورة. يجلس مع القساوسة ورجال الدين مسلمين سنة وشيعة، يهود ومندائيين وأيزيدين، يجادلهم في مذاهبهم بخشوع المؤمن،وينشر في جريدته تهويماتهم وإنذاراتهم ونصوصهم الإيمانية، إلى جانب بيانات ومقالات الشيوعيين والقوميين عرباً وكرداً وتركماناً وآشوريين وكلدانيين،ولا يرد طلباً لفهد قائد الشيوعيين كلما أراد لقائه أو محاورته، ويحفظ سره مهما اختلف معه. يقول الجهنمي : إن معجزة طيران روفائيل على لحية الكرملي ليست هي الوحيدة في حياته. هناك معجزة أخرى، فهو قد غطس في بقعة بنهر دجلة قبالة مقر جريدته المحاذية لبناية وزارة الدفاع القديمة، ويظل غارقاً تحت الماء طيلة أيام الانتخابات المليئة بألاعيب الصورية والزيف الديمقراطي ثم يظهر فجأة في البصرة حاملاً مرسومه: نائباً دائمياً أو مزمناً عنها حتى أصيب بالسكر لكثرة ما أكل من أسفاط تمرها اللذيذ يأتيه هدايا من ناخبيه الذين لم يرهم ولم يروه. فصارت الناس تتساءل كيف لمن ولد في الموصل التي تبعد عن البصرة أكثر من ألف كيلومتر وعاش في بغداد ولم ير البصرة في حياته يصير نائباً عن البصرة؟ لقد سمعنا عن زواج بالمراسلة لكنا لم نسمع عن نيابة بالمراسلة. كانت لحية الكرملي قد دخلت دون أن تدري في معركة صراع على قلب وعقل روفائيل، فحين ينتصر عنده الباشا نوري السعيد نرى روفائيل نائباً أو وزيراً أو صحفياً منحازاً لمعضلات السياسة العويصة، فيخسر الكثير من وقته وجهده وصحته! وحين تنتصر لحية الكرملي في أعماقه نراه مبدعاً محلقاً في عالم الشعر والنقد فيبرز رائداً لقصيدة النثر في العراق منظراً لها. ويضيف الجهنمي: قال لي كلمة لا أدري إن كان دونها في بحوثه الكثيرة: إذا كنا صادقين في تحرير الشعر من القافية وحكاية الصدر والعجز لم لا نحرره من الوزن؟ روح الموسيقى ستظل ترافق الكلمة كلما اقتربت من منطقة الشعر الحقيقي. الحرية لا تتجزأ. أنت لا تحرر العبيد إذا ألزمتهم أن يترددوا كل يوم على مخفر الشرطة ليثبتوا وجودهم في المدينة!

كان مع عبق صومعة الكرملي يستعيد صحته، قامته الفارعة ووجهه الطافح بالبشر والقوة, فيصير هو صوت اللبرالية القوي الذي كان يؤكد أن الحضارة في ذلك العهد قد وصلت إلى العراق فعلاً، وكم تمنيت لو تجترح لحية الكرملي معجزة أخرى فتحمل روفائيل من مقر جريدة البلاد في بغداد وتعيده إلى بيته في الموصل ليعمل معلما بسيطا متقشفاً. كم من الشعر والرواية والفكر النير كان سيعطي لثقافتنا؟ ولكن على ما يبدو أن لحية الراهب لا تمنح من تصطفيه سوى معجزة واحدة، وعليه هو أن يصنع الأخرى!

ضحك الجهنمي قال: رغم كل ما منحه للشيوعيين من فضاء في جريدته وعلاقاته، لكنهم ظلوا يشنون هجومهم عليه، فيتهمونه بأنه عميل لنوري السعيد وللإنجليز وإنه متميع الفكر مهلهل العقل، فكلمة لبرالي ومستنير لدى الشيوعيين مرادفة للخائن والعميل والجاسوس! كتبت مقالاً في جريدة البلاد صرخت فيه بوجوههم: أيها الخرفون المعتوهون، تتلقون من موسكو الفكر المتكلس والتوجيه الخاطئ، دون خجل ثم تتهمون غيركم بالعمالة، متى تصحون على أنفسكم؟ كان مقالي حادا عنيفاً وقد شطب روفائيل الكثير منه. ودعى معارفه الشيوعيين للرد عليه. ردوا ولكن كالعادة كان قولهم متهافتاً مليئاً بالمغالطات، فهم يعدون العلاقة بلندن عمالة مخلة بالشرف، بينما العلاقة بموسكو ثورية تجلب المجد والشرف! كان حوار روفائيل مع فهد حواراً بين الحرية الطليقة، وبين الحرية المدعاة والمؤجلة. كان روفائيل مرناً متسامحاً رحب العقل، كان فهد قساً في محراب ستالين مشدوداً لفاتيكان الكرملين في موسكو! لذلك في خصومتهما كنت أقف مع روفائيل مهما تناوشته ألسنة الشيوعيين وأصحابهم. والعراقيون عادة لا يكرهون شيئا في الدنيا قدر من يدلهم على طريق الصواب! ولا يحبون في الدنيا أحداً قدر حبهم لمن يأخذهم في رحلات لذيذة في طرق الخطأ والضلال! حتى إنني كتبت مقالاً نشره روفائيل على الصفحة الأولى (في العراق لا يصح إلا الخطأ) كنت أشعر أن الجهنمي يتحدث بسرعة يريد أن يقول كل شيء قبل أن يعود العطار فيرده أو يصحح أقواله أو يسفهها. لذلك حين شعر بخطوات العطار تقترب من باب الحجرة، توقف عن الكلام وتشاغل بفتح قنينة عرق. لم أكن أعرف أن الموتى حيت يعودون يشربون كل هذه الكميات من الكحول، دون أن يفقدوا ذاكرتهم وألسنتهم، أو توازنهم!

صرنا نسمع صيحات تأتي قوية واضحة من كهف الشهداء، حاكموا المثقفين المضللين!

حاكموا أولئك الذين كانت لعبتهم رؤوس الشهداء! حاكموا من صنعوا خمرتهم من دمنا! نظر إليَ الجهنمي نظرة شك واتهام، فهو يعتقد إنني أتستر على الجواهري ومواقفه وسيرته الملتبسة التي أضرت بالكثيرين كما أضرته هو أيضاً وعرضته لسجن ومنفى، جاء العطار ليقول من الأفضل أن يحاكم المثقف المبدع نفسه قبل أن يحاكمه الآخرون، فهؤلاء لا يعرفون قوته وضعفه، آلامه ومسراته، نواياه وكلماته، دعك من قضية الإبداع المعقدة ومخاضاتها الأليمة. صدقني إنني في قبري كنت أتسلى بمحاكمة نفسي، أقلبها ذات اليمين وذات اليسار كما الزهور على النار لتعطي خلاصتها الأخيرة، وعطرها الأثير! حاكمت من أعرفهم من أصدقائي معي حانياً محباً لا كارهاً، وأنتما تعرفان صداقتي مع الجواهري، وتقلبات ايامنا معاً، فكيف لا أنظر في مساره، صوابه وظلاله وعثراته؟ وفي النهاية نحن جيل احترق معتقداً إنه خلف لهباً. لكن الرماد كان كثيراً!

انبرى الجهنمي ليقول: ومع ذلك لا تظلم جيلنا، كنا اقتربنا من روح العراقيين وحاولنا مساعدتهم للوصول إلى الحقيقة والسعادة. ماذا فعلت الأجيال التي أتت بعدنا؟ أتعتقد أن هذا الخراب المريع لا يد لها فيه؟ تطلع إليه العطار بحزن وهدوء، رأيت عينيه تنديان بدمع بعيد الغور.

(90) بغداد: أقصت شاعر الروح، واحتضنت شاعر الدم. لطبيعة فيها أم لسوء طالعها؟

وراح العطار يتحدث:

كانت الساعة التي تعرفت فيها على الجواهري حزينة غريبة. كنت ذاهباً مع الشاعر أحمد الصافي النجفي في يوم ربيعي يميل إلى الدفء من عام 1927 إلى محطة السيارات الصغيرة في بغداد لأودعه في سفره إلى النجف. في محطة السيارات؛ رأيت شاباً طويلاً على رأسه عمامة بيضاء، أسمر زائغ العينين خلف نظارة طبية، يتقدم منه أحمد الصافي فيصافحه ويقدمه لي: شاعرنا محمد مهدي الجواهري! كنت قد سمعت عنه، ورأيت صورة له في صحيفة، لكنني لم اكن قد رأيته من قبل. ربما هي ليست المرة الأولى التي يزور فيها بغداد لكنه بدا مستغرباً مستوحشاً، كان الصافي النجفي يكبره بسنوات قليلة. قال له: هذا العطار صديقي سيقوم بالواجب، سيهتم بك اكثر مني، هو يعرف الكثيرين هنا! التفت إلي قائلاً: إنه شاعر ينتظره مستقبل كبير. كنت أنا اصغر منهما، وقد زادني ذلك ثقة وشعوراً بالمسؤولية نحوهما. ركب النجفي السيارة ولوح لنا واختفى، ولم أره إلا بعد عشرات السنين. دعني أحدثك قليلاً عن الصافي النجفي لتعرف أكثر الجواهري من خلاله. كان النجفي قد أتي إلى بغداد بحثاً عن طبيب يعالجه من مرض عصبي مؤرق يحرمه النوم، وراحة البال، ويعيقه عن القراءة وكتابة الشعر. كنت أحرص أن ألقاه وأصحبه في تجواله. حيثما سرنا يظل حذراً متلفتاً، فهو لا ينسى أنه محكوم بالإعدام شنقاً حتى الموت من قبل الإنجليز؛ لمشاركته بثورة العشرين. كان قد هرب إلى إيران، مشى إليها على الأقدام اثنتي عشر يوماً متواصلة. مكث هناك ما يقرب من سبع سنوات، لم ينفقها هدراً. تعلم الفارسية، وترجم منها رباعيات الخيام بأجمل صيغة عربية. وترجم للفارسية كتاباً عن علم النفس من العربية، لكن الأوراق المحفوظة في دائرة الشرطة لم تبتلع حكم الإعدام، أو يبهت عليها. كنت أحبه واحترمه كثيراً، فهو بسيط قنوع متقشف يبدو العقال والكوفية على هامته، وجسده الطويل مثل كأس سعف على نخلة باسقة مثقلة بالرطب. لكن تحت جلده الأسمر الناشف تضطرم خلجات نار لا تهمد مهما خفف من أوارها بدفقات من نبع شعره! وكلما تعكر مزاجه من نوبات عصب منهك في أعماقه سرعان ما يصفو، ويقبل على حديث نقي شجي. كان حريصاً أن لا يكلفني شيئاً في استضافته، فإذا دعوته ونحن في المقهى للذهاب إلى المطعم، يخرج من جيب جانبي في دشداشته رغيف خبز خال من أي شيء، ويأخذ يقضم منه قائلاً: هذا غدائي، لا أريد أن أحرجك فأدعوك لتأكل معي منه؛ فأحرمك غداءك.‍ ارجع الطبيب حساسيته العصبية لحر المناخ في البلاد وغبرته؛ فنصحه بالسفر إلى الشام والتمتع بهوائها العليل عله يشفى ويستعيد قدراته الإبداعية. كان النجفي يقول لي دائماً: أنا قلق على شعري؛ أكثر من قلقي على حياتي! لم يكن يمتلك المال لسفر طويل. عرضت عليه أن أساعده، لكنه رفض بإباء. قال إنه سيعود إلى النجف ليتدبر أمره، ولا أدري كيف يتدبره؛ وهو الذي نشأ يتيما فقيراُ منذ طفولته. فوالده توفى وهو في السابعة، تبعته والدته بعد سنوات قليلة. له أخ شارك في ثورة العشرين فحكم بالإعدام، وفر من العراق، وعاش مطارداً لا يملك لنفسه شيئاً، فكيف يساعده؟. ظل عاطلاً لا يعرف شيئاً في الدنيا سوى تقطير الشعر من القلب. أصر على الذهاب إلى النجف عله يجد فيها شيئاً يساعده على رحلة العلاج التي ستطول حتى تلقفته رصاصة قناص في بيروت إبان الحرب الأهلية، كأنه كان ينتظره منذ خمسين عاماً. في تلك اللحظة التي غاب فيها وجه الصافي النجفي وراح يطالعني وجه الجواهري الأسمر المستطيل البارز العظام تحت عمامة بيضاء. لم اكن أعلم إنني استبدلت وتحت سطوة مقادير غامضة صديقاً وديعاً بصديق مشاكس! واستبدل العراق أيضاً أحمد الصافي النجفي؛ شاعر الروح الحكيم الزاهد، بمحمد مهدي الجواهري؛ شاعر الدم العنيف الصاخب! شاعر لو نظم قصيدة لحديقة ورد زاهية، لما اختار منها سوى الزهر الأحمر ليحرقها به، أو يغرقها بعصارته القانية! تمت هذه الصفقة المدمرة في نهار كانت فيه الشمس تداعب طلع النخيل لينعقد تمراً، ومن الأرض تتصاعد رائحة دماء الذبائح مختلطة بأسراب الذباب والبعوض. أكان ذلك لسوء حظ بغداد؟ إذ ولدت معفرة الوجه بمشاعل مهندسيها وبنائيها الأوائل وبقايا سيوف معارك الأمويين والعباسين واختباء جمر الضغائن تحت حدائقها؟ منذ مئات السنين وماء دجلة يغسل وجهها وقدميها لكنها لم تستطع إطفاء ذلك الجمر. ظل يتقد ينتظر ريحاً عاتية ليستحيل إلى حرائق. ظلت طواحينها تدور؛ ولا تبعث سوى جعجعة فارغة إلا إذا تعلق الأمر بطحن الجماجم البشرية! هل كان هذا هو النبض السري في دم الجواهري، الذي لم يختر من الشعر سوى اللهب يلقيه على هذا الركام المشبع بالزيت؟ عصر اليوم التالي، كنت متجهاً إلى حانتي المعتادة فقررت أن أمر على الجواهري، كان قد نزل في فندق "الأعيان" غير بعيد عن جامع الوزير في الرصافة، مكثت معه. قليلاً قلت له: جئت لأطمئن عليك! واعتذرت له أريد الانصراف لأن لدي موعداً مع أصدقاء في الحانة. كنت قد سمعت أن كل شاب من أية مدينة في العراق يستطيع أن يدخل بغداد ويخرج منها ثم لا يخسر فيها أو في حاناتها ومواخيرها سوى نقوده, إلا الشاعر القادم من النجف فإنه يخسر فيها نقوده وعمامته أيضاً! ربما خطر لي أن أكون أنا من يشهد كيف ينزع الشاعر النجفي عمامته في حانة. قلتها للجواهري على سبيل التجربة وبخبث أيضاً: إذا رغبت تستطيع أن تأتي معي.هناك أصدقاء سيسرون بلقائك! بمزيج من الدهشة والفرح رأيته ينهض على عجل من سريره، بدشداشة بيضاء خفيفة هي التي كان ينام فيها، متناولاً من حقيبة على الأرض سترة خفيفة وكوفية بيضاء لفها على رأسه، نظر إلى عمامته المعلقة على الجدار بتشف، واستعلاء، وخرجنا إلى الحانة. كان ذلك نصراً لي أيضاً! قال فيما بعد، عندما قدمت من النجف إلى بغداد كانت شفتاي طيلة الطريق ترددان قول على ابن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسر، جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري، ولكنني وجدت ابن الجهم قد خدعني، فالهوى أو الهواء بين الرصافة والجسر قد أطار عمامتي عن رأسي؛ دون أن يطيح بقلبي في أحضان مها جميلة! في الحانة أنشدنا مرتجلاً قصيدة عن هذه الصخرة الرهيبة التي أزاحها عن رأسه ما زلت أتذكر مطلعها" جبل تحدر عن رأسي فقلت له كفاك تسحق أهوائي وأحلامي" (ربما هذا البيت من نظم العطار، فقد كان في مطلع شبابه ينظم الشعر، ثم تركه متجها إلى القصة والرواية، لكنه ظل يلجأ إلى النظم كلما أراد أن يركب على لسان شاعر قولاً لمدحه أو ذمه)

يومها كان الجهنمي بين أصدقائنا جلاس الحانة، همس لي: هو نزع العمامة. وماذا بعد؟ انتظر! كم رجل نزع عمامته وتصورنا إنها ذهبت مع الريح، ثم نكتشف أنها قد غاصت تحت قحف الجمجمة واحتوت المخ تحركه ذات اليمين وذات اليسار! لا تخف إلا من الذي عمامته داخل رأسه، لا فوقه!

في جلسة شراب طويلة لوحدنا حدثني الجواهري عن حياته: نشأ خائفاً مزعزعاً منذ طفولته في كنف أب قاس عنيف رغم إنه رجل دين. أراد له أن يتفقه في قضايا المذهب، ويجتهد به ليستعيد مكانة مرجع الشيعة الأعلى التي تبوأها جدهم الذي جاء النجف قادماً من إيران. ألف كتاباً شهيراً في الفقه بعنوان(جواهر الكلام) ومنه أخذت العائلة لقبها. ألبس والد الجواهري ابنه عباءة وعمامة؛ وهو لا يزال في العاشرة، وصار يحبسه في حجرة مغلقة معتمة الضوء، ويضع بجانبه كومة كتب سميكة في الفقه والشعر القديم، فكان عليه أن ينقل كل غبارها المتعطن إلى عقله ودمه، ويحفظ مطولات شعرية ولغوية تلتهم نهاره وليله ولا تنتهي. كان يسمع عبر النافذة المغلقة، لغط أقرانه في الطريق وهم يلعبون بطابة الخرق وكعاب العظام، فيتحسر إنه لا يستطيع مشاركتهم لهوهم ومرحهم. وحين ينتهي من واجبه الدراسي الطويل الثقيل، ويأذن له أبوه بالخروج، يجد أن أقرانه قد انتهوا من اللعب وعادوا إلي بيوتهم، ومن تبقى منهم ينظر إليه فيجده شبحاً عاد لتوه من القبور، فيفر منه، ويبقى هو واقفاً أمام البيت صافناً لا يدري ما يفعل سوى نش الذباب عن وجهه! لقد ذهبت طفولته مكسورة تحت أثقال كتب صفراء ثقيلة، وحين تذهب الطفولة؛ لا يستعيدها كل الذهب والمال الذي نحصل عليه في كبرنا. لكنه لا يريد أن يقر بذلك. كلما شهدت أطوار حياته فيما بعد، أتذكر ما حدثني به في جلستنا تلك، فأجد فيه مفتاحاً أو تفسيراً لذلك، وأحيانا يجعلني لا احمله ذنباً أو جريرة في هذا الذي صار الناس يستنكرونه منه. فهو قد ظل مهما تقدمت به السن يبحث عن أب يكون رحيما يمنحه نعيم طفولته المفقودة. كان يجده مرة بملك أو أمير أو زعيم أو رجل قوي أو ثري، فكان يسارع للتقرب إليه بوسيلته الوحيدة: قصيدة مديح! ومهما أكثر في مديحه وأسف فيه حد تحويل الظالم إلى حاكم عدل، ما كانت تهدأ نفسه للأب الجديد فيظل خائفاً ان ينقض عليه. ألم يكن أبوه الحقيقي لا ينفك يلاحقه بعصاه الطويلة، وهو رجل الدين المتحدث عن الورع والتقوى؟ فيدفعه قلقه للتمرد على كل أب استظل به، فيهجوه بقسوة أو يكف عن مديحه ويهرب بعيداً خارجاً عن سلطته، ولكن عبثاً فالأب القاسي المتسلط منغرس في الأحشاء، فهو أول سهم تصوبه السماء لأحشاء الطفولة الغضة. وهكذا عاش متنقلاً يحمل قصائد المديح محاولاً أن يسكن بها غرائز ونزعات الأب الخائف الطموح لكي لا يؤذيه أو يضطهده أو يحرمه اللعب. لعنة الأب القاسي حين تحل في قلب الطفل تحيله إلى قنديل مطفأ إلى الأبد‍! لكن الجهنمي المولع بفرويد والتحليل النفسي يفقد موضوعيته حين يتعلق الأمر بخصمه القديم.هو مهما بذر من مال لا يريد ان ينسى روبياته التي يدعي ان الجواهري أكلها عليه:

ـ أنت دائما تجد له الأعذار. أنت تنسى إنه مهما أغدق عليه من يمدحهم يظل خائفاً متوتراً لا يدري متى يبعدونه عن مجالسهم فكان يصرف توتره النفسي بالدعوة إلى العنف وتفجير الدماء، وحين تسيل الدماء ويطغى الخطب، يعاوده الخوف فيبحث عن قوي صاحب سلطان ليحميه فيطمئن، ظل هذا التقلب والجدل المرير يلعب به جيئة وذهاباً دون نهاية! لم يظهر في تاريخ العراق شاعر دعا للاحتراب والتقاتل وسفك الدماء كالجواهري، ما حل في وضع أو مجلس إلا وأشعله فتنة وضغينة. لم يدع يوما لحل قضية بالهدوء والروية والحوار. دائماً يصيح: لتروي الدماءّ دماءً!. قلت محاولاً التخفيف من غلوائهم عليه إنه يلقي قصيدته ويمضي وتستطيع الناس رفضها أو قبولها!

انقض الجهنمي: لا ! ما ذنب الشاب يسلط على ضميره اليافع لهيب الشعر الحماسي فجعله يهب ليبترد بدمه. لا لشي سوى لأن السيد الشاعر نشأ في كنف أب قاس يريد لابنه ان يستعيد مجداً موهوماً. ما تفسيرك لتهالكه على عطايا الممدوحين وانتظار أن يعينوه نائباً في البرلمان؟ بينما شعراء حقيقيون يتعففون منزوين في ضنك وفقر؟ مهنة التكسب بالشعر يا صاحبي ثاني اقدم مهنة في التاريخ، وصديقك ورثها عن الشعراء العرب الأقدمين، ولا يجدي معها تبرير أو تحليل نفسي.

استغل الجهنمي طول صمت العطار متفكراً فأضاف: كنت دائما أقول ان اثنين تسلطا على الشيوعيين: نوري السعيد يحاربهم بالرصاص والسجون والمشنقة إذا اقتضى الأمر، والجواهري يجرهم بالكلمات إلى المهالك والمعارك الخائبة!

ضحك العطار فجأة قال ما لم أتوقعه: نعم الجواهري يجيد صناعة الشهداء شرط أن لا يكونوا من لحمه أو دمه!

قلت: ولكن شقيقه استشهد ورثاه بقصيدة‍. رد على عجل: لذلك حكاية غريبة لو أمهلنا الموت سأرويها لك وهي في خلاصتها ليست كما جاءت في قصيدته. الجهنمي محق في سؤاله أين الجواهري؟ فحيثما يوجد تفجر للدماء تقف قصيدته وإصبعها على الفتيل والزناد لا على الضماد! فلكي نعرف لماذا هذا الحفل يغص بهذه الكثرة من الشهداء لا بد من اقتفاء مجرى الدم وسنجده يقودنا إليه، فنراه واقفاً متجهماً بيده قصيدة طويلة، بيت يمسك بالآخر كخرطوش الرصاص، ويتساقط الضحايا وهو يصيح: هل من مزيد؟

بعد يومين على ما أتذكر من جلستنا متحدثاً عن طفولته الحزينة، جاءني إلى مدرستي في ثانوية بغداد المركزية حيث أعمل غير بعيد عن فندقه، قال إنه يريد ان يتحدث معي بأمر هام . كنت مهيئاً للخروج معه. هذه المرة هو الذي اقترح أن نذهب إلى الحانة. صحبته إلى حانة جديدة وضعت على بابها لافتة (حانة المتيمين،وتحتها عبارة، هنا يغتسل القلب بخمرة الحب،ودموع الوجد) علق الجواهري: وهل سيبقى لنا هذا الكلب خمرة للحب؟ لم أعرف من يقصد، لكنني خمنت أن ما قاله له علاقة بقضيته. لم أكن أتصور إنها تنطوي على عاصفة خطيرة. جلسنا في مكان بعيد عن الآخرين. ما أن احتسى كأسه الأول، واحرق سيجارتين أو ثلاث، حتى انهال على ساطع الحٍصّري شتماً ولعناً. لم أفهم الأمر، فهو حين يتدفق في حديثه يظل يدور ويتعرج كثيراً متحدثاً بصوت كالرعد المكتوم في جوف الليل قبل أن تعرف صلب موضوعه. عرفت إنه تقدم ليشغل وظيفة مدرس في ثانوية الكاظمية، وإن ساطع الحٍصّري طالبه بالأوراق، والوثائق القانونية لذلك! رجوته أن يتحدث بهدوء. قال وهو ينفث سحابة دخان عميقة:

ـ لم أقل لك عن سبب مجيئي إلى بغداد، "سيظل باطنياً، يتكتم على الأشياء، لا يطرحها على صديق حميم له إلا بعد أن تتفاقم، أو يصير في مأزق". تلقيت رسالة من صديقي باقر الشبيبي يخبرني فيها إنه يسعى لتعيني بوظيفة مدرس ثانوية في الكاظمية، مرفقاً استمارات طالباً أن أملأها! أثارتني الأسئلة التي تحويها! وجدتها مساً بأصلي وفصلي ومنزلتي كشاعر. كتبت في حقل شهادتك؟ (اشهد أن لا اله إلا الله)، جنسيتك؟ كتبت: (هندي!)، مواليدك؟ كتبت: لا يعلمه إلا من لم يلد ولم يولد! أعزب أم متزوج؟ كتبت: بين بين، هل تعرف لغة أخرى غير العربية؟ كتبت : لغة الطير والجمال والخيل والليل والبيداء! مسقط رأسك؟ كتبت: رأسي لم يسقط،ولن يسقط، ويسقط من يريد إسقاطه. وهكذا سخرت وهزأت من الحٍصّري ولعنت سلفه سلفاه! ذهلت حقاً، قلت:

ـ لقد أخطأت يا صديقي، ما هكذا ينبغي أن يتصرف معلم الأجيال، هذه استمارة عامة، طبع منها الكثير ولم يعدها الحٍصّري خصيصاً لك. هي استيضاح يطلب من كل متقدم لهذه الوظيفة أو غيرها الإجابة عليه سواء كان شاعراً أو مثقفاً عاماً، سنياً أو شيعياً، مسيحياً أو يهودياً، عربياً أو كردياً أو تركمانياً، عراقياً أو أجنبياً،والتوثيق من متطلبات دولة تريد ان تبني نفسها على أسس قانونية. أنا أيضا قدموا لي هذه الاستمارة فأجبت عليها بكل طيبة خاطر! طلب شهادة الجنسية لا يعني شكاً في عراقيتك، بل يعني إثباتاً لعراقيتك بورقة! لكنه ظل مستثاراً هائجاً:

ـ هذا التركي الطائفي يطالبني بورقة تثبت إنني عراقي،كأن سلسلة قبور أجدادي الممتدة طويلاً في تراب النجف؛ لا تثبت إنني عراقي!

ضحكت قائلاً:

ـ وهل ستسوق قبور أجدادك أمامك على عجلات في دوائر الدولة، وأينما حللت وارتحلت، لتثبت إنك عراقي؟ دع أجدادك في نومتهم المريحة، ولا تتعبهم بالتجوال بمعاملة تعيينك، قدم بدلاً عنهم ورقة اسمها شهادة الجنسية، وينتهي الأمر؟ ليست هذه الورقة هي التي تجعل منك عراقياً، بل عراقيتك هي التي تجعل هذه الورقة وثيقة! وهي لا تقتضي سوى مراجعة قصيرة لوزارة الداخلية! ينبغي أن لا نتسرع في الحكم على الناس بالطائفية، بذلك نلقي بيوض الطائفية في المستنقعات؛ لتفقس للأجيال القادمة عقاربَ وأفاع أكثر من البعوض! هز رأسه موافقاً، لكن من عادته أنه ينسى ما يلتزم به بعد دقائق! بصعوبة استطعت إقناعه بمراجعة وزارة الداخلية، ووعدته بأنني سأجد له من يساعده هناك! وفعلاً مضى كل شيء بهدوء وحصل على شهادة الجنسية العراقية. قلت له :

ـ بدلاً من صرف طاقتك في شتم الحٍصّري، حضر نفسك لعملك كمدرس، فالتعليم مهنة صعبة! تتطلب عدم الغضب أو التحامل المسبق. انس الحٍصّري هذا الرجل الثقيل الظل! أنت لا تحتاجه في شيء، فكر بتلاميذك وشعرك!

مضى العطار يحتسي كأسه، يدخن ويتحدث،كأن صوته قد أخذه وهج الماضي؛ فصار أقرب لصفائه أيام شبابه: بعد أيام أتاني الجواهري أكثر هيجانا يكاد يحفر الأرض بقدميه الطويلتين قال:

ـ الحٍصّري،هذا الكلب المسعور، رفض تعييني، يقول إنني لا أحمل شهادة تربوية. هو لا يعترف بشهادتي من المدرسة الدينية!

نصحته التريث والهدوء، قلت له: هذا جمود وتزمت، هو يعرف إنك تعرف في اللغة والأدب أكثر من خريج كلية. ربما حجته إنك لا تعرف أسس وطرائق التعليم الحديث، وهذه يمكن تلافيها بدورة قصيرة. ينبغي ان نحرك عجلة الوساطة والضغوط عليه؛ لكي يتراجع عن قراره!

ـ ألم أقل لك إنه طائفي!

ـ حتى إذا أراد أن يكون طائفياً فهو لا يستطيع. الملك فيصل حريص جداً على نظافة مملكته من جرثومة الطائفية، وهو يبعد عن الدولة ودون تردد كل من يجده طائفياً!

كان الحٍصّري مديراً للمعارف. جاء مع الملك فيصل الأول إلى بغداد، أو تبعه. كلفه ببناء جهاز التربية والتعليم للعهد الجديد مستنداً إلى خبرته الكبيرة التي استقاها من نظم التعليم الأوربية التي درسها في معهد عال، وخبرها حين عمل مستشاراً للتعليم في اسطنبول! أحرز نجاحاً كبيراً في بناء المدرسة العراقية، ومناهج التعليم واختيار المعلم وإعداده. فصل التعليم عن الدين، مركزاً الجهود على الدروس العلمية والأدبية والعامة. لم يستبعد الدين من الدروس المقررة، لكنه لم يجعله درساً إلزامياً، ولم يدخل درجاته ضمن سلم النجاح! لقي تشجيعاً من فيصل، والمستشار الإنجليزي! فكان تقريباً هو وزير المعارف الدائم، بينما الوزير واجهة سياسية شكلية ومتغيرة! احبه كثيرون، سموه معلم العراقيين، فهو الذي وضع "القراءة الخلدونية" الكتاب الأول الذي يتعلم به التلاميذ في الابتدائية القراءة والكتابة بلغتهم! كرهه كثيرون، قالوا إنه من أصل تركي، تفضحه لكنته، وعدم أجادته الكتابة بالعربية، كيف لتركي أن يعلم أبناء العرب لغة الضاد؟ لكن هذا محض تشنيع، فهو من أسرة عربية معروفة في حلب الشام. كان أبوه قاضياً في الدولة العثمانية، تنقل بأسرته في مختلف الأمصار حسب أوامر إدارية، وقد ولد ساطع في اليمن، ثم انتقلت أسرته مع والده إلى اسطنبول، وعندما نقل الأب ثانية إلى طرابلس في ليبيا، اضطرت العائلة لترك ساطع في قسم داخلي حتى يكمل دراسته. فكان من الطبيعي بحكم النشأة والرفقة الطويلة أن تخالط لسانه اللهجة التركية. كان هو يردد دائماً: ليس أصل المرء هو ما يحدد انتمائه للوطن، بل حبه وإخلاصه له!

بعد مراجعات ووساطة وبتدخل من وزير المعارف مهدي المنتفكي، قال الحٍصّري:

ـ سأعينه معلماً ابتدائياً، وهذا أقصى ما أستطيعه في خرق القانون التربوي، اقدم عليه دون إرادتي!

ظل الجواهري مهتاجاً غاضباً:

ـ الحٍصّري لا يريد تعيني مدرساً في الثانوية. كيف تقول إنه ليس طائفياً وعنصرياً؟

ـ ربما هو طائفي وعنصري ومتعصب لكن علينا أن نرى طلبه على ضوء القانون لا في عتمة نزاعات قديمة! لا شك عندي إنك تعرف في اللغة والأدب أكثر من خريج كلية، لو عقدت مسابقة بينك وبين الحٍصّري في العربية بالطبع كنت ستفوز بفصاحتك وتدفقك اللغوي وموهبتك الكبيرة، ولخسرها الحٍصّري بلكنته التركية وتلكؤه في التعبير والكتابة! ولكن الفرق بينكما إنه جاء بشهادة عالية من الاستانة، والقانون أعمى! مضيت أعزف على وتر نرجسيته:

ـ بل أنت تعرف في التعليم والمعارف أكثر من وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي!

كان الجواهري نفسه يردد مع من يقول عن المنتفكي إنه أمي، لا يعرف كيف يكتب اسمه. يبصم بختم نحاسي يحمله في جيب ثوبه الفضفاض. فهو إقطاعي لا شأن له من المعارف والعلوم سوى عدد وأسماء أملاكه في المنتفك. عين وزيراً للمعارف استرضاءً لمراجع شيعية علهم يتراجعون عن فتواهم بالتحريم على أتباعهم العمل في الدولة، ويكفون عن القول أنها باطلة حتى ظهور المهدي المنتظر. أضفت أمازحه:

ـ حقاً لم لا نقنع فيصل ليعينك أنت وزيراً للمعارف؟ ذلك اسهل من تعيينك مدرسا في الثانوية!

ـ أنا بأي حال، وأنت بطران تنكت وتمزح!

ـ أبداً لا أمزح! سيأتي يوم ينتبه الملك لمواهبك ويدعوك للعمل معه! لم أكن أعلم أن ذلك سيتحقق فعلاً، لكن الجواهري لا شيء في رأسه سوى الحٍصّري:

ـ عليه اللعنة، سأهجوه في قصيدة أظهره فيها على حقيقته تركياً طائفياً وكلباً وابن كلب!

ـ حتى لو كان خنزيراً، القانون معه! هو يتحدث عن نظام عام يسري على الجميع، وأنت تريد استثناءً لنفسك! شيء حسن إنه لم يردك خائبا وعرض عليك وظيفة معلم ابتدائي، كان يمكن أن يقول لك أنت لا تحمل شهادة تربوية، ولا مكان لك في سلك التعليم، والقانون سيكون بجانبه، والناس الواعون سيكونون معه لا معك! الصورة التي تحملها عن نفسك تخصك وأصدقاءك، والآخرون غير ملزمين بها. راح يسعى هنا وهناك، يجأر بالشكوى بادئاً حديثة: إنها مظلومية أتباع أهل البيت، متواصلة من عهد الأمويين إلى اليوم! محرضاً صحفاً ومنابر في بغداد والنجف وكربلاء لتكتب ضد الحٍصّري. تحولت هذه المسألة الشخصية العادية البسيطة إلى قضية كبرى توشك بشرارة صغيرة أن تتحول إلى حرب طائفية! راح كثيرون يتحدثون أن الدولة تقف ضد الجواهري وكل أتباع أهل البيت! عبثاً يذهب كلامي معه:

ـ أنا لا علاقة لي بالحٍصّري، ولا أوده، وأنت صديقي واحبك، ولكنني أقول لك أنت لست على حق، لا تكبر الأمر وتحوله إلى قضية طائفية فالبلد لم يبرأ من جراحاته القديمة، لا تنكأها بقضية شخصية متهافتة! حين التقاني الجهنمي وكان يتابع من خلال الصحف قضية الجواهري، فقد صارت فجأة تشغل أناساً في مقاه ودوائر حكومية. قال آنذاك: ألم أقل لك إن عمامة الجواهري انزلقت من فوق رأسه لتختفي داخله! وفي الداخل تكون العمامة أخطر واشد فتكاً، فهي تراك وأنت لا تراها! بذلت جهداً لإقناع الجواهري بقبول وظيفة معلم ابتدائي. قلت له ما ستحققه من منجز تربوي؛ سيجعلهم يجبرون على تقديمك للتعليم الثانوي! كان على وشك الزواج وبحاجة لمورد عيش؛ فقبل على مضض. ولكن هل انتهى الأمر؟ لم يمض في عمله سوى فترة قصيرة، حتى ظهرت له في إحدى الصحف قصيدة فجرت قضية أخرى أشد خطورة:

لي في العراق عصابة لولاهم ما كان محبوباً إليّ عراق

لا دجلة لولاهم،وهي التي عذبت، تروق ولا الفرات يذاق

هي "فارس" وهواؤها ريح الصبا وسماؤها الأغصان والأوراق

استدعي للتحقيق أمام لجنة في ديوان مديرة المعارف، حدثني عن أعضائها:

ـ هم هررة جائعة، ليس بينهم من هم من الأكثرية الساحقة التي أنا في الصميم منها!

يقصد طائفته! عرفت من كلامه الكثير الصاخب المليء باللعنات والشتائم على الحٍصّري ومن معه انهم قالوا له: نحن لا نحقق معك كشاعر، أنت حر كشاعر، تقول ما تشاء، تذم وطنك وتمدح وطن الآخرين, هذا شأنك،وذاك ضميرك، ولكننا نحقق معك كمعلم نضع الأجيال الجديدة بين يديه، ويجب أن يكون محباً لوطنه معتزاُ به، في الأقل مثل حبه لوطن الآخرين! رد الجواهري: أنا لي في المتنبي قدوة. هو سبقني بمدح تلك الأرض في قصيدته عن شعب بوان: مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان.

رد الحٍصّري: المتنبي مدح الطبيعة بشكل عام،ولم يقل هي فارس. ولم يشتم أبناء وطنه، على العكس هو تذكرهم بإكبار، قال: ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان! ظل الجواهري غاضباً مستثاراً: راح يضخ في القضية المزيد من الغل الطائفي، استطاع أن يحرك معه كتاباً في صحف ذات نزعة طائفية، أو تبحث عن الإثارة فعزفوا على أوتار خطيرة دون روية أو حذر. كان خلاصة ما قالوه: أن ساطع الحٍصّري السني التركي يضطهد الجواهري الشيعي العربي، وإنه يريد أن ينسبه لإيران، وهو العربي الأصيل! رد الحٍصّري بمقال طويل: ما خاصمت الجواهري لأرومته الإيرانية، بل لأني وجدته في هذه القصيدة وغيرها، لا يمدح وطنه، بل يمجد بلاد فارس مظهراً استعلاءً على العراقيين، مزايداً عليهم بالوطنية، محرضاً لهم على البغضاء! مؤكداً إنه من أصل عربي، وإن لكنته سببها نشأته وعيشه شبابه في الاستانة، مضيفاً: حتى لو كانت أصولي تركية، فالأرومة ليست هي القضية، القضية هي حب الوطن والعمل من اجله.

أتذكر يا جهنمي يوم جئت تنصحني قائلاً: الأقدمون قالوا: وجاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس! لكن المتنبي شغل الناس بشعره المترع بالحكمة والجزالة. شعر الجواهري لا يرقى إلى خصر شعر المتنبي، فأراد أن يملأ الدنيا ويشغل الناس بعنعناته الطائفية، وتحريضه السياسي، وبئس شعر يقتات على مصائب الناس!

ثمة كتاب من الشيعة وقفوا ضد الجواهري مع الحٍصّري: أحدهم وكان يلقب نفسه بكاشف الغطاء، قال: الجواهري مفطور على المشاكسة والنكد، والحٍصّري حارس أمين للتعليم، ويقوم بواجبه وفق القانون، والجواهري هو الذي قدح شرارة الطائفية، وتسلح بها تعويضاً عن الشهادة التربوية!

والجهنمي الذي حتى الآن رغم معاشرتي له لأكثر من خمسين عاماً في الحياة الدنيا، فإنني حتى الآن لا أعرف إن كان سنياً أو شيعياً، كتب مقالة بعنوان تشريح الجواهري، أتذكر عبارة منها: لا شيء في قلبه سوى رسيس أرومته الأولى وعقدة الاضطهاد الطائفي، وما بينهما سورة من الدم والحقد. إنه ليس بشاعر، هو جزار اللحم البشري! يومها قلت لك يا جهنمي: الجواهري ضليع باللغة والشعر، لكنه لا يفقه شيئاً بمبادئ السياسة وخباياها، ولا يقدر عواقب الأمور، لذلك يجب أن لا تستفزه ولا تكتب ضده، على العكس يجب أن تقف معه، تمحضه النصيحة الحسنة، كي لا ينزلق لما هو أخطر، ويجر الناس إلى وقيعة دموية! كان الجهنمي، قد وقف مع الحٍصّري ضده، وكتب أكثر من مقالة في جريدة "النهضة" قال فيها أن الجواهري يريد تحويل مسألة بسيطة وعادية، كان يمكن حلها بأوراق قليلة كالآخرين من السنة والشيعة، إلى فتنة أهلية. هو يريد أن يعامل كإله لا يسأل عن شيء، ومن حقه أن يسأل الآخرين عن كل شيء! يعتقد إن مجرد قدرته على نظم الكلمات تمنحه الحق ليكون فوق الآخرين! وحين تعوزه الحجة المنطقية يلجأ إلى الدرع الطائفي محتمياً بما يسميها المظلومية! اتهم الجواهري في البداية إبراهيم حلمي العمر،بكتابة المقال بتحريض من مزاحم الباججي صاحب جريدة "النهضة". ثم عرف فيما بعد أنه الجهنمي، وهذا من المقالات القليلة التي لم يرد عليها الجهنمي من جريدة أخرى.

أصدرت مديرية المعارف قراراً بفصل الجواهري، قال الحٍصّري:

ـ كنا قد تساهلنا وعيناه معلماً وهو لا يحمل شهادة تربوية، لكنه لم يبرر الثقة به. اظهر ميوله لإيران شعراً وملاسنة عندما حققنا معه. إننا نخشى إنه لو لقن تلاميذه وهم رجال المستقبل بهذه الأفكار والنزعات، فقد يأتي يوم على العراق تجد مثقفيه وحكامه خاضعين لشاهات إيران!

غضب عبد المهدي المنتفكي، وألغى قرارا الفصل. اعتكف الحٍصّري في بيته محتجاً، بينما التزم المستشار البريطاني الصمت ظاهرياً. قيل إنه كان يحرك الجمر من تحت الرماد. يريد أن يتحول الأمر إلى قضية احتقان طائفي تعم البلاد. ولا شيء مقدس لدى الإنجليز اكثر من فرق تسد! وفعلاً أخذت هذه القضية تكبر. تحولت إلى ما يشبه الحرب الباردة، جرت إلى دوامتها المزيد من الصحف والمنابر، وصارت حديث المجالس والمقاهي! شغلت العراق كله منافسة قضية فلسطين، والمعاهدة مع الإنجليز! ويأتينا الجواهري إلى المقهى مفاخراً:

ـ قضيتي صارت قضية العراق كله! أين يولي هذا القنفذ المدعو الحٍصّري وجهه من قصيدتي؟ هي كالموت ستدركه أنى يكون!

ذلك جعل الجهنمي يوماً يثور في وجهه على غير عادته:

ـ بدلاً من أن تعلم تلاميذك ألف باء اللغة والأدب، رحت تعلم الناس ألف باء الطائفية والعرقية!

تشاتما، وتماسكا بالأيدي، فتدخلنا بينهما. خربت جلستنا التي أعددنا لها شراباً وطعاماً في بيت صديقنا جميل جرجيس.

صرت أشعر إنه لم يعد يحتاجني. وجد حلفاءه بين رجال دين وكتاب صحف متصيدين في الساحة. يؤكدون كل يوم " ما يحدث للجواهري تجسيد لمظلومية أتباع أهل البيت"

وهاهم أحفاد يزيد يضطهدون حفيد الحسين! ومهما جمحت في خيالي لم أكن أتصور كيف تتحول قضية إدارية أو ثقافية محدودة واضحة، إلى قضية كبرى غامضة ساحبة خلفها كل جحافل وجيوش الماضي بكل خنادقه وخيوله وسيوفه. والجواهري منتش فرح يحس بالانتصار أن ثمة استقطاباً وتحفزا بين الناس، وثمة نذر خطيرة في الأفق، وبدلاً من أن يقلق على ما سيجره التحريض والشحن الطائفي من أخطار على مستقبل المجتمع، كان مزهواٌ إنه صار محور أحاديث الناس! هذا هو الذي كان يشغله ويسره فقط. وكل هذا ما كان ليحدث لو امتلك عقلانية وحكمة. قلت له:

ـ لو فقط تريثت بنشر قصيدتك حتى ترسخ قدميك في الوظيفة.

ـ أنا في الصميم من أكثرية،لا أخشى شيئاً، وعلى الحٍصّري التركي أن يعرف ذلك!

لم أكن أتصور إنه يحمل كل هذا الخزين الطائفي والعرقي! صرت في أعماقي انفر منه، وأحياناً أرثي له. فكرت بنفض يدي من مشاركته ومتابعته في قضاياه التي ما أن تنتهي حتى تبدأ. وأتذكر صديقي أحمد الصافي النجفي الذي عرفني به، ربما يعرفه منذ صباه. بالتأكيد لم يكن يقصد إيذائي، حيد قدمه لي فقد كان لقاؤنا بمحض الصدفة. وأظل أمام وجه النجفي، ذلك الطيف العذب الذي لم اسمع منه يوما كلمة طائفية، حتى ما يأخذه البعض على لقبه، هو لم يقصد منه تقوقعا طائفياً،بل حنينا مشروعاً لمسقط رأسه. يؤلمني إننا فقدناه ليعيش شريداً معذباً في بلاد الشام! واسأل نفسي لماذا لا يعود؟ ألم يشف من مرض الحساسية في صدره؟ أيخاف الإعدام رغم تراخي قبضة الإنجليز على البلاد، أم هو يرى ان العيش هنا لا يقل سوءاً عن العيش تحت سيف الإعدام. عدت أخشى أن تتحول قضية الجواهري إلى شرارة تشعل الهشيم الطائفي المتراكم كالقش المتيبس داخل نفوس وبيوت الكثيرين من أبناء الطائفتين. مضيت أجالسه وأداري مزاجه وأهدئه:

ـ أرجو ان تتفهم ندائي لنعمل على إيقاف هذه الحملات ونحاول حل المشكلة بهدوء، اكتب قصيدة أخرى أكثر عمقاً ودقة تؤكد حبك الذي لا شك فيه للعراق! ويكتفي بإطلاق ضحكة ساخرة!

ـ أنت تعرف في أعماق شعبنا جراحات كثيرة من أحقاد الفرس!

يرد بغضب:

ـ وجراحات كثيرة وعميقة من أحقاد الأتراك، وأطماعهم وجراحهم فينا لم تندمل بعد!

ـ نعم هذا صحيح، والتعرض لهذا لا يعني الإقرار بذاك، إنما كل شيء يعالج حين يحدث ما يثيره. ولكي نبني بلدنا اليوم ونتخلص من الإنجليز يجب الحذر من الترويج للفرس أو الأتراك!

يبلل سيجارته بطرف لسانه ثم يشعلها ويعب من كأسه المترع،ويطلق تنهيدة ويصمت!

وبعد ان تمضّ بنا الكؤوس الكثيرة. أرى دموعه! كما كان قادراً على سكب دموعه ندماً في سكرة هادئة حتى آخر الليل، وأحياناً نكسرها بكؤوس مترعة في الصباح لنزيل الصداع ونواصل أحاديث الليل من جديد! يا لتلك الأيام كم كانت حافلة بالمتناقضات! بعد موت طويل آتيك آملا بهناءة قصيرة، ثم تزجني يا يونس بذكرياتنا الحادة الجارحة!

ـ ألم تعدني ان ننزل من الجبل الشاهق بهدوء، سنقترب من الأرض السهلة لنعيش بهدوء وسلام لا نأخذ من الماضي سوى رحيقه. طارحين سمومه جانباً. دعنا نفصد الجرح من خزينه!

يصمت العطار برهة حزينة، ويعود للحديث: ويبلغ التوتر الطائفي حداً مريعاً، وتتدخل جهات عديدة لتصريفه. فجأة يتخلى عبد المهدي المنتفكي عن قضية الجواهري. قيل إنه اقتنع بأن الجواهري حول قضيته الشخصية إلى قضية عامة تكاد تجر البلاد لنزاع دموي لا حد له. وتجره هو إلى موقف قد يفقده منصبه. جاء باقر الشبيبي للجواهري في بيته، فهو الذي بدأ القضية. لم يكن يتصور حتى في افظع الكوابيس إنها ستتطور إلى هذا الحد المخيف. حين علم الجواهري بتخلي المنتفكي عنه؛ ثار وأخذ يشتمه، ووعد إنه سيهجوه بقصيدة، مردداً "أمي وزيراً للمعارف؟ آخر بدع هذا الزمان،عيش وشوف!" كان باقر يعرف مزاج الجواهري، فراح يمس الوتر النرجسي في داخله:

ـ دع عنك كل شيء! لقد انتصرت على الحٍصّري! هو الآن معتكف في بيته، مهزوم يلعق جراحه! هذا لم يحدث له في حياته. قدم استقالتك، سوف لا تعتبر معزولاً من الوظيفة بل خارجاً منها بمحض إرادتك. بذلك تصفع الحٍصّري. كتب الجواهري استقالته على عجل وقدمها لباقر الذي سارع بها إلى الوزارة حيث صدر القرار بقبولها على الفور. ولكن هل انتهت مصائبه؟ بالأحرى: مصائبي معه؟

(91) في شط البصرة: توابل وأفكار ولؤلؤ، ونبي يتوكأ على منجل ومطرقة!

في البصرة قالوا إن الشيوعيين يهيمون رواحاً ومجيئاً كالنحل، يبنون خلاياهم، ويبحثون عن زهور يانعة مفعمة. صرت أتتبع ذبذباتها ونبضها: أسمع أخبار نشاطاتهم من صديقي أحمد الأنصاري وغيره من مثقفين ومتعلمين وحتى من طلابي في المدرسة. بلغني يا صديقي أن ثمة رجال تعرفوا على الفكرة في شبابهم، وكبروا معها يدفعون ثمن بقائها في رؤوسهم من صحتهم وحياتهم وحياة أسرهم. قتل بعضهم. مات آخرون يائسين مسترخين في أسرتهم، أو معذبين تحت وطأة أمراضهم وشيخوختهم المبكرة. عاش بعضهم وقد كلل الشيب رؤوسهم منذ شبابهم! حدثوني كيف أنهم كانوا يتابعون عن بعد، وبشغف ولهفة، أفكار جماعة الجوال الشيوعية، قادمة من بغداد فمستهم بقوة وألهبت التاريخ في دمائهم. رجت مدينة البصرة تحت أقدامهم،أحسوا بها تبحث في تاريخها معهم تريد أن تهبهم فكرتها الخاصة الكامنة في أعماقها. فهي تتذكر الأيام الأولى ليقظة البشر على وجودهم، وشمسهم وسنابل خبزهم، وأعناب خمرهم!

لم تكن أرض البصرة في موقعها الحالي. زحفت من وسط العراق كالسلحفاة ملاحقة البحر، فاكتشفته بكتبها وأقلامها قبل مراكبها، ثم غامرت في اقتحام أنوائه وأعماقه ومنحته البوصلة والأغاني والأشرعة! ظلت البصرة تحمل الكثير من طبع السلاحف في العمر المديد، والصبر والهدوء والدأب على السير مهما كان بطيئاً والقدرة على العيش في الضفاف والجفاف! للبصرة طبائع مائية مفتوحة على الخليج والأنهار وغابات النخيل، وعلى مجالس الأنس والطرب والغناء مثلما هي مفتوحة على العبادة والنسك والحزن والبكاء. تمزج ماضيها بحاضرها كما تمزج امرأة حسناء قدح القهوة بالحليب، وتجلس على أريكة ناعمة ترقب الشاطئ البعيد، تقرأ جريدة اليوم. لها طبع الطير إذا هاجر، وإذا عاد. والسفينة إذا رحلت محتضنة توقها للبعيد، وثقتها بمرساتها وانشدادها للديار. هي رقاص ساعة العراق في ترددها بين بحار من شعر وفلسفة وتدين وتهتك وكفر وخلاعة وفجور. بين بحار ماء ونخيل وسفن وأقمار وأسماك ونوارس. كان هؤلاء الشبان الممسوسون بسحر الشيوعية، يحسون بكل هذا؛ مثلما كانوا يحسون بالنداءات القادمة إليهم من بغداد. وجدوا في ذاكرتهم ثورة القرامطة؛ فراحوا يصيحون كلما سنحت لهم فرصة في مقاهي وشوارع البصرة (انهض أيها القرمطي)، قالوا أن ثورة القرامطة شيوعية سبقت ماركس بألف عام. أحيت ذكريات المشاعية البدائية الجميلة بعد آلاف الأعوام من أفولها. فهي قد نادت أيضاً بإشاعة ما لدى الناس من ثروات وجنس وعلم وخمور. قالت بوجود الدنيا فقط، فلا آخرة هناك، ولا جنة ولا نار. دعت المسلمين لترك الصلاة والصوم والحج والزكاة وعدم أداء الشهادة، والتطلع إلى السماء كنزهة روحية أو بصرية فقط! بإيقاظ هؤلاء لشيوعية الزنج الساذجة المتخمرة المتحولة خلاً فاسداً تحت الأرض، أيقظوا معها ذاكرة المؤرخين والفقهاء الذين يعدون هذه الحركة مؤامرة فارسية لمحق العرب عبر هدم الأركان الخمسة لدينهم. فالقرمطية في رأيهم أتى بها أحمد بن الأشعث من بلاد فارس إلى الكوفة وسمي بقرمط لقصر قامته وساقيه ويديه وسميت باسمه وانتشرت بدهائه وبطشه. وهو لم يقصد منها خير الناس بل شفاء غليل الفرس الحاقدين على العرب لأنهم هم من فرضوا عليهم الإسلام وحكموهم به، رغم أن الفرس أصحاب خبرة طويلة في صنع الأديان والآلهة والجواري والخمور! وأمام هذا التفنيد من متدينين ومؤرخين مقروناً بالتهديد نادى هؤلاء الشبان بأن الشيوعية هي امتداد لثورة الزنج. فهي أفلحت في إقامة حكومة شعبية "شيوعية" قبل أكثر من ألف عام أيضاً جنوب البصرة. قادها كادحون وجوعى أجبرهم الإقطاعيون على العمل في مزارعهم لقاء لقمة خبز لا يوفون بها. كان الخليفة العباسي لاه بخيرات إمبراطورية كبرى تغرقه بالنساء والغلمان والخمور والشعراء والفقهاء. تاركاً أمور الناس للعساكر الأتراك. استمرت كومونة الزنج الشيوعية قرابة خمسة عشر عاماً. صبغت مدناً وبقاعاً كثيرة ببيارقها الحمر. امتدت إلى البحرين وكادت تسقط بغداد في أحضانها. حتى قضي عليها الخليفة العباسي المعتمد بحملة عسكرية كبيرة قادها أخوه. قال هؤلاء الماركسيون ان الفقهاء والمؤرخين في حينها واليوم أيضاً لا يذكرون طبيعتها كثورة مضطهدين. لا يتحدثون عنها سوى أنها كانت بقيادة رجل يدعى علي بن محمد الفارسي المتأثر بالزرادشتية والمزدكية وغيرها. وإنه بعد فشله في التقرب إلى السلاطين بقصائد رديئة والحصول على أعطياتهم، قرر الثورة الشيوعية عليهم مستعيناً بمدد وعود فارسي سري وعلني. خصومنا يخدعون أنفسهم،كما يخدعون أنفسهم اليوم حين يقولون أن حركتنا الثورية هي امتداد للكفر والزندقة والعصيان القديم، متجاهلين كما تجاهلوا سابقاً دوافعها الإنسانية العميقة والجديدة. مضى الشيوعيون المبتدئون ابعد من أسلافهم. أسسوا جمعية علنية أسموها جمعية الأحرار كانت تدعو في البدء إلى تحرير المرأة (وإطلاق سراحها من السجنين الأبديين كما قالوا : (الدين،والرجل) لكنها تخلت عن قضية المرأة. تبنت قضية الإلحاد. دخلت في معركة غير معقولة وغير متكافئة مع الدين فأسمت جمعيتها (بالحزب اللاديني). راحت تطلق أفكارها ضد ركائز الدين الكبرى،مستعيدة كل مقولات جماعة الجوال بتفاصيل وشروح أكثر تجريحاً وإيلاماً. أعادت الحديث في نظرية خلق القرآن وفسرتها على طريقتها بأنه كتاب عادي فيه أخطاء نحوية، ومتناقضات معنوية كثيرة، كأي كتاب مؤلفه من البشر. بالتالي يجوز نقضه ونقده وتغييره،وإلغاءه. تجرأوا على القول أن الأنبياء مرضى في نفوسهم، يعانون من انحرافات جنسية وداخلية عميقة، وأنهم أنانيون أحبوا أنفسهم فقط، ولم يحبوا البشر، وقد كذبوا عليهم مدعين أن الله أرسلهم إليهم؛ فاستغلوهم وفرضوا عليهم تخليدهم والصلاة لهم والولاء لأبنائهم ونسلهم، لذا يجب قطع كل علاقة معهم وانتظار نبي جديد سيأتي من جهة البحر متوكئاً على منجل ومطرقة. تلك كما أشاروا:هي "إماراته الواعدة" "النافية لإمارات الساعة ويوم القيامة"، "المانحة للإنسان قدرته على اختيار طريقه ومثله العليا". مضوا في جرأة فظيعة يفتحون الجراح ويلقون فيها ملحاً وباروداً وينخرطون في نوبات غضب وانفعال ضد الدين ورجاله حتى ضج الناس منهم،وأخذوا يتعاطفون مع رجال الدين بعد أن كانوا قد فقدوا الثقة بكثير منهم، أو شتموهم جراء تصرفات مشينة لهم. بنفس الوقت انبرى رجال دين وأعادوا القول أن في الإسلام اشتراكية عادلة وصحيحة تحمل نور الله، ورائحة السماء. أوردوا آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحض على البر بالفقراء، وعلى المساواة والإخاء. بعضهم برر الغضب الثوري ضد الإجحاف والظلم وتجويع الناس فأورد قولاً لأبي ذر الغفاري وهو صحابي عرف بتقواه وزهده وانحيازه للفقراء والمعدمين والثائرين على الظلم والانحراف الذي تفشى ببدء تقادم الحكم الإسلامي:إني لأعجب لمن لا يجد رغيف خبز في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه! لكن هؤلاء اسكتوا من قبل رجال دين غاضبين على الشيوعيين وكل من يحاول أيجاد صلة قربى أو مصاهرة معهم. لم يكترث الشيوعيون المبتدئون لهذه الجسور الذهبية المجانية التي حاول هؤلاء مدها إليهم! فيما بعد حين انبرى بعض الاشتراكيين يبحثون في التاريخ عن جذور للاشتراكية والشيوعية في الإسلام،وعادوا بحصيلة جذابة منها،انقلب عليهم رجال الدين الذي نظموا أنفسهم بأحزاب سياسية ودخلوا معهم بمعارك كلامية ونارية حامية،وردوهم قائلين: شيوعيتكم الملحدة غير اشتراكيتنا المؤمنة. اشتراكيتنا سمحاء واشتراكيتكم حمقاء. اشتراكيتكم ليست سوى صك تنازل عن أرضنا ومقدساتنا لستالين،لا حوار معكم إلا بأسنة الحراب.وأفتوا بهدر دمائهم. قاطع الناس في البصرة دعوات اللادينيين الشيوعيين وطالبوا بلجمهم وتأديبهم، ووضع حد لهم من قبل الحكومة. أرسل وزير الداخلية في طلب مدير الأمن في البصرة، ووبخه على عدم استطاعته القبض عليهم وتأديبهم وعقابهم بشدة،"وقد لوثوا هواء البصرة بأفكار الإلحاد والكفر والزندقة" قال مدير الأمن:

ـ سيدي بحثنا عنهم في كل مكان، ولم نجدهم،إنهم يزوغون كالثعالب!

صرخ وزير الداخلية:

ـ ألا تعرف أين تجدهم؟ إنهم في المساجد!

وراح يرغي ويزبد. كان الوزير يستند في ذلك على خبرة الشرطة مع جماعة الجوال، عاد ضابط الأمن إلى البصرة تخنقه حيرته وقلقه، جمع ضباطه وشرطته قال لهم:

ـ يبدو إن علينا أن نجد الشيوعيين الملحدين في الجوامع والحسينيات والكنائس والكنيس، ورجال الدين المنقلبين علينا وعلى الإنجليز في الحانات والمواخير. وإذا وجدنا الوقت للبحث عن القتلة واللصوص والمجرمين العاديين، فسنجدهم مختبئين في بيوت المسؤولين وتحت أسرتهم وأنا منهم! إنها إحدى علامات قيام الساعة، أو قرب الانقلاب على حكومة جلالة الملك وسلطة الإنجليز! أنا، هكذا دولة لا أستطيع العمل معها!

كتب استقالته في عريضة طويلة ضمنها رده على عبارات مهينة تفوه بها وزير الداخلية في نوبة غضبه ولم يستطع رده عليها مواجهة. ذهب ليعمل نوتياً على ظهر إحدى السفن المشغلة في استخراج اللؤلؤ من شواطئ الخليج، مع جماعة من الكويتيين والخليجين. خلال سنوات قليلة صار تاجر مجوهرات كبيراً، يمتلك الملايين، لكنه كان يعترف بمناسبات كثيرة بين أصحابه:

ـ الفضل في هذه النعمة الإلهية التي ألقاها البحر في أحضاني كأسماك ذهبية فاتت على السندباد نفسه، يعود للشيوعيين. لولا قضيتهم الملحدة المثيرة والسخيفة،لما خرجت من سلك الشرطة ولبقيت شرطياً فقيراً رثاً مهما وضعوا على كتفي من نجوم وتيجان!

كان قد عرف بأناقته وترفه وغزواته الغرامية (يقال أنه هو المقصود بالأغنية الشعبية: واقف على العشار يقرا بجريدة، يمشط بالتواليت حسباله أريده)

لكنه دخل في منافسات ومضاربات مع تجار كبار من آل البهبهاني، وكاد يطيح بهم بالضربة القاضية، لولا أن عاجلته عاصفة اللؤلؤ الاصطناعي الهابة من شواطئ اليابان فمحقت ثروته، وصرعته في نوبة قلبية، وهو يقرأ الجريدة في شرفة قصره المنيف المطل على العشار!

(92) حين لا تتحدث الأم مع ابنها إلا بعد أن يستشهد!

كان أذان الظهر من جامع حديث كبير ذي مئذنة عالية، قريب من بيت المتعة والأنس، يدخل حجرة نومي. أحسسته يحز في سريري كمنشار يؤنبني على سكرة الليل ومجونه. لكن حديث العطار عن تصارع الأفكار والفلسفات مع تراب العراق ومائه وسمائه لا يزال يدور في رأسي. عجبت كيف ينام العطار هادئاً رغم شخيره الطويل. نهضنا متأخرين. فتحت صدري رائحة القهوة فاغمة شهية تملأ البيت. رأيت العطار فرحاً مستبشراً يقبل سيدة البيت عند الدرج المفضية إلى الصالة قائلاً:

ـ انتظر أموالاً تصلني من بيع أملاك المرحوم جدي.سأتزوجك مع فتياتك الأربع دفعة واحدة، وأريحك من الكدح الليلي مهما كان جميلاً،ولكن حيرتي أن الشرع لا يسمح لي بالزواج سوى من أربع!

ظلت المرأة تبتسم، تهز رأسها لا تدري ماذا تقول. قلت ما اعتقدت أنه إنقاذ للموقف:

ـ ضع واحدة ضمن "وما ملكت أيمانكم!"

قال وكأنه ضبطني بالجرم المشهود:

ـ أنت تصلح للعمل مع فهد، فأنت بارع بإيجاد التخريجات القانونية لنظريته المقدسة!

كان يتحدث بطلاقة وعفوية، مقدراً وهذا صحيح، إن هؤلاء النسوة لا يعرفن من هو فهد، ربما يعتقدن أنه تاجر أو محام أو موظف في الحكومة!

بعد أن تناولنا فطورنا دون شهية، جلسنا نستريح في جانب مشمس من الحديقة تحفه نخيل وشجيرات آس وياسمين. عاد إلى حكاية أمس. كأنه اعتقد إنني غير مصدق ما حدثني به. فتحت القهوة والشاي الأسود المهيل جفونه ومزاجه:

ـ كثير من هؤلاء أعرفهم. فأنا أعرف المرأة الحسناء الأجمل من الماركسية التي خطفت قلب الجوال وعقله وقاربت به الجنون، وعشت نعه الغيبة الإلحادية في مسجد الحيدر خانة الذي طبخت في محرابه أولى شرائح الماركسية، وأستطيع الآن أن أصف لك أروقته وأعمدته الجميلة والفرمانات العثمانية وقصائد ثورة العشرين التي ما تزال معلقة على جدرانه. أتذكر إنني أيام اعتناقي للشيوعية كنت أدخله كالحاج والمتعبد، ولك أن تتصور حاجاً شيوعياً في مسجد بغدادي! ظل العطار مهموماً بوضع الحزب الشيوعي رغم تسفيهه لفكرته. ما أن نأخذ مجالسنا حتى يبدأ يتحدث عنه داحضاً أو وناقداً. كنا آنذاك نرتاد مقهى شريف وحداد، مقهى أوانيس، البرازيلية، ثم أحياناً مقهى البلدية بعمقها الغامض. ومقاه أخرى افتتحت حديثاً في شارع الرشيد والباب الشرقي. كنا نرى في البرازيلة والسويسرية فتيات بثياب حديثة جريئة وزينة حضارية جذابة مع أزواجهن أو خطابهن أو عشاقهن. كنت أساله آنذاك:

ـ لماذا تهتم بتنظيم تعرف إن فكرته فاسدة، دعه يسقط صريع ضلاله.

ـ أنت لم تفهمني! فكرة فاسدة مع رجل متحجر جامد، قضيتان رهيبتان، اجتماعهما معاً كارثة على البلاد، دعنا نفكك هذا اللغم الكبير الذي يريد ستالين زرعه في بلادنا.

ويمضى يتابع سيرة الحزب، وسلوك فهد ومواقفه. صرت أعتقد أنه يتمنى لو كان هو الممسك بدفة الحزب. ربما ليحله في اليوم التالي، معلناً خطأه كما يوحي وربما يمضي به إلى النهاية في تذويب تدريجي لفكرته وقضيته فيريح الناس ويستريح كما يعتقد! أو قد يصوغه في بناء آخر ومسار جديد. بقدر ما كان العطار واضحاً حين يتحدث، يظل غامضاً في نواياه وأهدافه. الآن أنا استحثه على اعترافات ما بعد الموت! بقيت أتابع أفكاره آنذاك مثيرة عندي، تحفزني للتفكير بوضعي. صرت أمل حياة الشرب واللهو، وإن كنت لا أقاومها حين تكون مع العطار، فهي مقرونة بالفكر والتأملات وبحكمة لذيذة لا أجدها في الكتب، فهي معه تعبق برائحة الخمرة وعطر النساء! قررت أن أواصل بحثي متقصياً بداية الحزب، ودور فهد في نشوئه. قلت في نفسي، عندما تستعصي علي حلقة أو أجد فترة معتمة في ذهني سأستعين بالعطار، رغم تحامله واستغلاله كل ثغره ليهجم على فهد. العطار لا يحتاج لاستدراج أو دعوة للحديث عن فهد. هو مهيأ ومستعد لذلك في أية لحظة، شرط توفر الشراب ومجلس الأنس الهادئ. لكن حديثه يمتعني ويفيدني كثيرا، وإن رأى آخرون غير ذلك!

حين انتهى العطار من حديثه، وجد يونس وصديقاه أنفسهم يطلون على كهف الشهداء كأنهم فيه، يرون ما يجري بوضوح. كانت بجانبهم امرأة تنغط مثل حمامة شريدة، كسيرة. يبدو إنها أم شهيد وقد جاءت تبحث عنه. كانت تعلق صورته في قلادة على جيدها. هي نفسها لا تدري أهي تحدث نفسها أم من حولها:

ـ كان يقول لي دائماً أريد أن أكون شهيداً. لم أكن أفهم أو أصدق ما يقوله. كان أبن جيراننا يقول أريد أن أصير طبيباً،ابن أختي يقول سأصير معلماً، وهو يقول أريد أن أكون شهيداً. ما هذا؟ هل الشهادة مهنة؟ من علمه؟ من دله على ذلك؟ لا أدري. يا لبلاهتي يا لحسرتي! في حياته، لم أضمه إلى صدري ولم أتحدث معه إلا قليلاً. بعد موته صرت أتحدث معه أكثر. أجلس معه، أضمه إلى صدري، وألوم نفسي لماذا لم أحتضنه في حياته وأقبله كل ساعة، لماذا لم يخطر لي إنني قد أفقده، يا لغفلتي، أنا السبب في ضياعه، أنا السبب في خروجه من هذه الدنيا. ربما راح ينشد حنان الأرض، حين حرمته من حناني!

لم يكن أحد يعيرها اهتماماً. ود الجهنمي لو يقول شيئاً، لكنه ابتلع كلماته كأنه تذكر أنه في الحقيقة ميتاً، وليس حياً كما يتوهم يونس. طلب طلقة من قادة الحزب المتهمين التحرك من أماكنهم حيث يقفون، لكي يفسحوا المكان للمتهم الذي سيأتي. لم يكونوا في قفص اتهام، لكن الدائرة المحيطة بهم تتجسد لدى من يراهم على أنها قفص اتهام حديدي وثقيل جداً. تنحى المتهمون جانباً. جمدوا في وقفة ذليلة مستكينة كمتهمين مؤجلين. كانت ملامحهم تتردد بين هواجس الشعور بالعودة لعالم الحرية، وبين اقترابهم من تهم أشد ثقلاً سـتأتيهم ضمن تسلسل تاريخي لا فكاك منه. قطع قلقهم أو فرحتهم المؤقتة سماعهم صوت رئيس المحكمة وهو ينادي بصوت لا يخلو من بقايا وجل حيث هو يستدعى وجهاً طالما خفق قلبه له بتبجيل وتقديس:

ـ المتهم فهد!

جاءوا بمناد جديد هو شهيد عرف بمرحه وكان يتصدر حفلات الحزب، وما أكثرها كعريف حفل. ردد نداءه هذه المرة بتنغيم لا يخلو من المرح أو العجب!

وقف هيكل عظمي مهشم لشهيد قديم بدا من انحناءة هيكله وارتجافه وارتعاش صوته إنه عانى كثيراً وإنه مات تحت تعذيب طويل وفظيع. قال بصوت خافت لكنه كان مسموعاً ومؤثراً:

ـ حسناً فعلتم. اجلبوا هذا المغامر. هذا الذي زج بلادنا في مجازفة مهلكة لحساب ستالين. اجلبوه وحطموا معبد المقدسات الثورية الطائشة. فهي لا تقل تدميراً عن المقدسات الدينية المتزمتة!

جلس الهيكل العظمي بصعوبة وقد تساقط نصفه تقريباً. صمت وكأنه الآن قد مات فعلاً. وقد عاش حياته واستشهد فقط ليقول هذه الكلمات التي بدت ثقيلة وسمجة للبعض. وللبعض الآخر خفيفة رشيقة كزهور على غصن شوكي! أوعز رئيس المحكمة للحاجب أن يكرر النداء بصوت أعلى وقد أحس لا شعورياً أن فهد يهيم الآن في أعالي السماء، كما كان يحس به في أيام الحزب الخوالي. فاجأه أحدهم يقول ضاحكاً:

ـ هو لا يسمعكم، فهو الآن مختبئ في سرداب سحيق تحت الأرض!

قر في نفس الحاجب أن يهب للبحث عنه بين الشهداء المبثوثين في هذا الحيز الشاسع من العالم السفلي. تزاحم هياكل الشهداء كان شديداً؛ حتى إن عظام بعضهم تداخلت مع عظام البعض الآخر مثل كومة حطب هائلة. كان أحدهم إذا نهض أو تحرك يسحب معه عظماً من شهيد بجانبه. لحظ رئيس المحكمة ذلك وهو يرقب جو المحكمة بحذر خشية أن يحدث شيء لها،كأن يتطور امتعاض الشهداء الآخرين إلى انتفاضة مضادة لانتفاضتهم فيخرب، ويضيع كل شيء! انحنى بجذعه العاري على جو الكهف. قال بصوت أراده حياً مجسماً كأنما ليعوض عن افتقاده لحم الحياة :

ـ أرجو من الرفاق الشهداء،وأهلنا وأصدقائنا الأحياء التزام الهدوء وفسح الطريق للمتهم للوصول إلى المكان المخصص له أمام المحكمة.

قرر أن ينتظر لدقائق أو حتى لنصف ساعة ريثما يأتي هذا الرفيق الذي أعدم من قبل نوري السعيد رجل الإنجليز في العراق كما يقال. وقف أحد الشهداء غاضباً مرعداً:

ـ لن تنالوا من هذا الرجل العظيم. هو المسيح الثائر، صعد مشنقته إلى المجد. إذا أردتم أن تنالوا منه، تفضلوا باللحاق به إلى السماء!

قال آخر:

ـ المشانق واطئة وقذرة،لا يستعملها ضد خصومه؛ إلا الفاشلون الزائلون! لكنها تصير سلماً إلى السماء حين تطأها أقدام الأبطال! ومحكمتكم هي مشنقة أخرى!

وقفت شهيدة بقامة أقرب للقصر، وربما كانت في حياتها بدينة، كانت عريضة الكتفين:

ـ قال فهد وهو على المشنقة، وبوجه جلاديه : " الشيوعية أقوى من الموت، وأعلى من أعواد المشانق" أتظنونه سيخافكم؟ من أنتم لتحاكموه؟

جاءت همهمات من هنا وهناك: عملاء الإمبريالية الأمريكية،رسل الصهيونية، أيتام الباشا، جواسيس النظام! لم ينهض من الشهداء أنصار الانتفاضة، سوى شاب مهشم الرأس واليدين كان قد قتل في قبو للتعذيب في بغداد، قبل سنوات قليلة. قال بصوت حزين واهن:

ـ أتظنون إنها لحظة ممتعة سعيدة أن نحاكم مؤسس حزب استشهدنا من أجل مبادئه؟ لا أبداً!

لكن خراب وطننا، وشقاء شعبنا يحتمان علينا أن نسأل: لماذا حدث كل هذا؟ هل كله من فعل الأعداء؟ أم إن هناك خللاً ما في فكرنا، في قادتنا؟ طبعاً نحن الشيوعيين، لسنا المسؤولين عن كل ما حدث. ولكن علينا أن نفعل نحن ما تطلبه ضمائرنا منا، والآخرون،سلطة، أحزاب وجماعات وأشخاص، قادة أو صعاليك، هم وضمائرهم!

عقب رئيس المحكمة على ما قاله الشهيد بهزة من جمجمته، حتى تساقط منه دود القبر. وجه كلامه للشهداء المعترضين على المحكمة:

ـ لا أريد ان استعمل مفرداتكم. ببساطة نحن لا نريد النيل من أحد. بطلاً أو شهيداً بسيطاً، نحن نبحث عن الحقيقة. وعن العدالة. لماذا تفترضون إننا سندينه؟ قد ننصفه. لكنكم على ما يبدو لا زلتم تدافعون عن الجمود والتحجر، والمحرمات، والمقدسات الزائفة، وهي أساس انهيار حياتنا!

تناقل الشيوعيون؛ ان فهد قال كلمة عند المشنقة " الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من المشانق " فهد لم يقلها هكذا، كنت قد حضرت إعدامه، نفذوه في السجن، ثم نقلوا جثته، وعلقوها في ساحة المتحف. قال بوجه سجانيه كلمات عميقة مؤثرة. ربما أرعبتهم، لكنهم قابلوها باستخفاف واستهتار،رفاقه ظلوا يرددونها بفخر ويغيرون في صياغتها حسب أمانيهم. استقرت في قلوبهم تعويذة تمنحهم الثقة والمزيد من المضاء على طريق لا تلوح نهاية له. امتلكت هذه الكلمات من العناد، لتشاكس موتاً كثيراً نزل بهم. ظل كثير من الشيوعيين يعزون فشلهم وخسائرهم المتلاحقة لغيابه، بل هم يعتبرون أن ما نزل في حزبهم وفي العراق من خراب وضياع سببه افتقاد قيادته الملهمة. فهو خلاصة العقل والحكمة التي لا يمكن أدراك انتصار أو تقدم دونها،حتى العطار الذي كان خصمه اللدود كتب عنه بعد إعدامه نصا مؤثراً بعنوان(كوكب تطلقه مقصلة إلى السماء) لكن آخرين يرون العكس تماماً. ويقولون إنه بصخبه المتطرف المتهور جلب للعراق فكرة طائشة مجنونة محقت كل نفحة عقلانية، وأسست للثورية الجذرية المدمرة، وإن أعدائه لم يعدوا الحقيقة حين وصفوه هو وأتباعه "بالهدامين" فهم برأيهم يريدون زج الشعب في طريق المغامرة والصراع بين الشرق والغرب، أو بين السوفييت والأمريكان، الذي لا مصلحة للعراق فيه. لا زال اتباعه يبكونه ويعتقدون انه كان يمتلك الوصفة السحرية لخلاص البلاد وتحقيق سعادتها وقد دفنت معه بضربة من الإنجليز وعملائهم، وقد ظلوا ينتظرونه كما ينتظر مؤمنون المسيح أو المهدي كمخلصَين.أعاد الحاجب النداء بصوته المميز لدى الكثير من الشهداء وتذكروا وقفاته وتعليقاته المرحة، أيام كان عريف حفلات الحزب الفرحة الضاحكة، رغم الأحزان والخسائر!

التفت الجهنمي إلى العطار يسأله:

ـ أتعتقد أن فهد سيحضر أم سيظل هارباً من وجه العدالة؟

ظل العطار صامتاً، متفكراً يجيل بصره عبر النافذة في سماء بغداد في شكلها الحلمي الغريب،مرة تضيئها نجوم ليل قادم من بعيد، ومرة تضيئها كمعدن نحاسي شمس صيفية متوهجة. لم ينتظر الجهنمي إجابة العطار بادر للقول:

ـ لا أعتقد إنه سيحضر، سيبقى هارباً من وجه العدالة كما كان وهو يتنقل بين سراديب بغداد مهووساً في تقويض أسس دولة جميلة كانت قد نهضت لتوها، من أجل دولة ستالينية مجهولة!

لست متراجعاً عن أمانتي القانونية التي صغت بها دفاعي عنه آنذاك، ولكن الكثيرين يعرفون أن قناعات القانون والقضاء،هي غير قناعات الفكر والسياسة والأخلاق! رغم إنه واجه الموت بشجاعة، وأثبت أنه كان صادقاً في وعده وإيمانه بقضية كبيرة، إلا إن هذا لا يعني أن ما جاء به كان صحيحاً وصائباً، أو أنه ملائم للوطن وضروري له، قلت :

ـ لكنه لم يخش محكمة الإنجليز في بغداد، وصعد المشنقة!

خرج العطار من صمته قائلاً بهدوء:

ـ محكمة رفاقه أصعب! فهي تتعلق بوعوده لهم، ثقته به وثقتهم به،الأمر لا يتعلق بقصيدة حالمة جميلة نشرها في صحيفة. هو طرح مشروعاً سياسياً وعملياً انخرط به الآلاف من هؤلاء الناس الطيبين في عمل محموم لا جدوى منه. ماذا سيقول وقد تكشفت وعوده الهائلة عن كذبة كبرى؟ أصعب المحاكمات هي تلك التي يوجه بها المرء حقيقته الداخلية، تليها صعوبة محاكمة الأحباب لأحبتهم، ثم محكمة الرفاق لرفاقهم، محكمة الأعداء،بقدر ما هي صعبة، هي واضحة!

(93) للإنسان صورتان، ولعبتان!

في سني الأربعينيات في بغداد، التي صارت بعيدة كأنها وراء الوجود، لا أدري من أين جاءتني قناعة: أن لكل إنسان في هذه الدنيا تاريخيين، أحدهما هزلي مضحك، والآخر جدي، مبك، ولا يمكن معرفة الشخص على حقيقته دون معرفة هذين التاريخيين. كل من يصور لك إنساناً بشكله الجدي الصارم الجاف يظلمه، مثلما يظلمه حين يصوره لك مهزلةً أو أضحوكةً. ثمة حقيقة أخرى: أكثر الناس إضحاكاً وهزلاً ينطوي على الحزن الأعظم بين البشر، وأكثر الناس جدية إذا فتشت حياته وجدتها ضحكة لو انفجرت لأضحكت مدينة بأكملها. لذلك كنت أرى دوماً أن الإنسان هو كما كانت تصوره الكاميرا القديمة نسخة سوداء مقلوبة مضحكة؛ يجرى تبييضها للصورة الجادة المعروفة. وإنه لعبتان: لعبة موت في الحياة، ولعبة حياة في الموت، وبارع من يتتبع خيوط شخصية كما يتتبع الحائك خيوط سجادة فاخرة! لذلك حرصت على معرفة الجانب الهزلي والمأساوي في شخصية فهد مهما كلفني ذلك من آلام وتقولات وشكوك ومعارضة! ورغم ما ظل العطار يقوله عنه: إنه زرع الكراهية والأحقاد داخل المجتمع وبين الناس تحت ذريعة الصراع الطبقي، والبحث عن العدالة الإنسانية! قبل اعتقال فهد كنت أعرف عنه في النهار من صحف بغداد المشبعة برائحة بارود، ودم محترق يهدر دون جدوى، صورته الجدية الثائرة،الرجل الذي دوخ حكومة نوري السعيد، وشرطة بهجت العطية، والسفارة البريطانية؛ ببضعة رجال ونساء منظمين، وبيت أو بيتين صغيرين متواضعين سريين، وبضعة دنانير يتبرع بها عمال وفقراء يقتطعونها من لقمة أطفالهم، وطابعة صغيرة عتيقة تبلع وتسرق الحروف، وشعارات جذابة ملطخة بالحبر الزيتي المسخم. وأعرف عنه في الليل مع رائحة العرق، والويسكي الذي بدأ يغزوا موائد وبيوت المترفين في العراق، ولجاجة الأغاني الحزينة المنكسرة، وقرع الكؤوس الثقيلة في البارات المعتمة؛ صورته كما يرويها لي العطار: ساذجة دعية هزلية أو مسخرة مضحكة، شخصية محدودة القدرات لكنها سادرة في حلم أهوج وموشكة أن تقع في مصيدة نوري السعيد والسفارة البريطانية، فتصفى هي وأتباعها بسرعة وحسم ولا يبقى لها أي أثر يستحق الذكر. وكنت أحرص أن اجمع الصورتين له في مخيلتي وأرى إن كانت بهذا القدر من الصحة أو أقل، لم تكن إحداهما في ذهني تلغي الأخرى،بل الواحدة تستلزم الأخرى وتكملها حيث لا يمكن معرفتهما إلا معاً، وسواء كانت صورته النارية القوية الجارفة التي أراها في النهار، أو صورته الخمرية الناعمة الهشة المضحكة التي أراها في الليل، أو مزيجهما، هي الحقيقة فإنه ظل هو نفسه بشخصيته كثيرة الغموض يستحث عقلي ومخيلتي على محاولة الاقتراب منه. بقيت أتمنى وأتوقع أحياناً أن ألتقي به، أتعرف على شخصيته، وربما أكون معه في سفينة حزبه،ورحلته المغامرة المثيرة! وأقول في نفسي،أنه ما يزال في هالة خاصة مهما أوغل العطار في تجريحه أو محاولة إلغائه! عند باب كهف الشهداء عند لقائي بالعطار في حديثي معه بعد وصوله من رحلته عبر الفيافي مطلق السراح من قبره:

ـ أتذكر يا العطار كنت عضواً في اللجنة المركزية الأولى للحزب الشيوعي، ومن الرعيل الصغير المؤسس.

فجأة انقلب العطار على وعده لي بأن يرافقني في رحلتي راجعين إلى أيام شيوعيتنا الأولى:

ـ ما عدت إلى الدنيا لأختلط بالشيوعيين ثقيلي الدم، خذني إلى ليالينا القديمة السعيدة الناعمة بموسيقى قباقيب الحسناوات, وأساورهن الذهبية المزيفة، حتى لو كن عاهرات ماكرات، ولا تعدني إلى قعقعة السلاح والمنشورات الحزبية، ورطانة السياسيين، وغباوة العسكريين ووحشيتهم! ما عدت إلى الدنيا لأفسدها بالسياسة!

ـ أعدك أن ننغمر بتلك الليالي، ولكن الأمانة تقتضي أن نتحدث بما تحدثنا به آنذاك!

كنت قدرت أن الموت لم يشف غليله، وتحامله الطائش والموضوعي معاً على فهد، كان هذا التحامل في الدنيا فظيعاً:

ـ ثم لا تنس أنك كنت قد عملت شيئاً في هذه الدنيا، كنت أحد المؤسسين للحزب الشيوعي، الذي لعب دوراً رهيباً في صياغة مصير البلاد دون أن يصنع مصيره هو، أو حتى يكون قادراً على تلقي ميراثه الخاص، قل يا صانع الروايات الأولى في العراق، هل هناك ملحمة عذاب إنساني بلا جدوى، كملحمة هؤلاء المساكين!

هز رأسه كطفل، ترضيه قطعة حلوى صغيرة، ما جعلني أعتقد ان الموت يعيدنا أطفالاً حال إخراجنا من هذه الدنيا المحكومة من الكبار، قال مبتسماً:

ـ نعم أنت مصيب ولو امتدت عودتي إلى الدنيا زمناً كافياً لكتبت هذه التراجيديا المعقدة ووضعتها إلى جانب الدون كيخوتة! فهي بقدر ما تثير من حزن وبكاء، تثير الكثير من المرح والضحك.

ـ خاصة وإنك قد عشتها وكنت أحد مطلقيها: حزمة ألعاب نارية في بلاد البترول!

(94) من يجرؤ على نقل القديس من المحراب إلى المشرحة؟

أنا الآن في لهفة عميقة للقاء الرفيق فهد. كان قدوتي، ومثلي الأعلى، وطالماً أحسسته قريباً مني وهو في قبره. عايشته عن بعد وعن قرب منذ شبابي. ظل طيفه يرافقني على مدى طريقي الطويل. اهتزت صورته وأصابتها شروخ وتصدعات في خضم الأحداث والتحولات وقناعاتي الفكرية اللاحقة! والآن أجد لدي الكثير مما أريد أن أواجهه به، فأنا وبعد دفاعي المستميت عنه في محكمة جزاء بغداد، محكمة الموت الأخيرة قبل أكثر من نصف قرن أراه يتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عما وصلت إليه بلادنا من خراب وعذاب. لست متراجعاً عن أمانتي القانونية التي صغت بها دفاعي عنه آنذاك، ولكن الكثيرين يعرفون أن قناعة القانون والقضاء، هي غير قناعة الفكر والسياسة والأخلاق! ولست متخليا عن تلك اللحظة الرائعة التي منحني فيهل لمسته الحانية في ضمي إلى ركب الشيوعيين وهو يتجه إلى المشنقة، ولا منكراً إنه واجه الموت بشجاعة، وأثبت أنه كان صادقاً في وعده وإيمانه بقضية كبيرة، إلا إن هذا لا يعني أن ما جاء به كان صحيحاً وصائباً، أو أنه ملائم للوطن وضروري له. كونه قد رحل إلى عالم الأموات،كهلاً دون أن يستمتع لا بشبابه ولا بسنوات رجولته إذ قضاها نضالاً وتخفياً وقلقاً وترحالاً، لا يعني إنه غير قابل للمساءلة من الأحياء. لا ينبغي لي أن أخشى لقاءه، حتى لو سألني بصراحته أو خشونته المعهودة " ها، يا رفيق يونس أما زلت حياً في عالم مات فيه حتى الشباب والأطفال، والأجنة في البطون؟"

أن أبقى حياً كل هذا الزمن تهمة كبرى من قبل نفسي لنفسي، هل هو أيضاً يعتقد أن الاستشهاد هو الدليل الأعظم على الوفاء للفكرة، وإن بقائي حياً يعني أنني لم أؤد الأمانة التي استودعني إياها؟ لو سألني عن ذلك سأقول له:

ـ يخون المرء فكرته حين يتوقف عن الحوار معها! وينتهي عمر المرء حين ينتهي ضميره عن مساءلة ومراجعة الذات. ما زال ضميري في محاكمة دائمة لي ولفكرتي،ولمن حولي!

لقد مات شاباً أو كهلاً. هل كان ضميره قد انتهى من مهمته وتوقف عن المساءلة؟ لا بالطبع! الرجل مات مع رفيقيه صارم وحازم على مشنقة، ربما هو لم يتوقف عن الحوار مع ضميره حتى والحبل يلتف على رقبته، لكن المصيبة إنه كان متعصباً لفكرته، وانطوى عليها كما تنطوي البذرة على نسلها، والذئب على سره وشكيمته؟

مضى ولم يسمح لضميره باختراقها أو خدشها، ربما قناعته بها مطلقة أو أن عقله لم يستطع اختراقها! أعرف إنه كان يخشى النقد، ومن لا يجد النقد زاخراً صائباً حوله، أو لا يتقبله، لا ينمو ولا يتطور، ولا يساعد الحياة على أن تتطور، فكيف يدعي أنه سيبني حياة جديدة؟ اتفق جلال العطار الذي ناكفه وافترق عنه، بل ناصبه عداءً ورفيقه تقي صبري الذي مالئه وسايره وربما لم يحبه (كان يعتقد إنه الأجدر بتأسيس الحزب وقيادته) على أن صدره كان يضيق بأية ملاحظة على العمل أو النظرية مهما كانت صغيرة، ويعتريه الغضب والحنق من مساءلتهم أو شكوكهم في أي من جوانب طبيعة الحزب أو سياسته. صورته عن نفسه أنه القائد الذي لا يخطئ، والمحور الثابت القوي الذي لا تدور حوله سوى الحقائق والنجوم المضيئة! حدثني تقي صبري: "كنت جالساً معه في باحة السجن، ذكرت له اسم رفيق عرف بأسئلته الكثيرة له وشكوكه أو اعتراضه، فنهض منتفضاً كأنه لسع، وتركني غاضباً ممتعضاً متعجلاً رغم درق الحديد الكبيرة المشدودة إلى رجليه، ولم يكلمني بعدها لأيام!"

ورغم إنني مقتنع بأنه كان جافاً متحفظاً يصعب استمالته بود أو عاطفة؛ سألت مستزيداً،مرات عديدة، سامر عبد الحميد عن ذلك، وكان زميلي في الدفاع عنه أمام محكمة الجزاء الكبرى في بغداد فكان يقول:

ـ لا أعتقد إنه مغلق متعجرف إلى هذا الحد، ما أتذكره عنه بعض التسامي أو التعالي، أو الاعتزاز الشديد بنفسه كمناضل في ظروف صعبة جداً. كان يعرف متى يكون صريحاً حد كشط اللحم عن العظم، ومتى يكون رقيقاً مدارياً ومجاملاً، فلا يجرح ولا ينكأ جرحاً قديماً أو جديداً! ومهما كان الأمر في الحياة الدنيا فهو الآن في قبضة الموت، ولابد أن الموت غير من أخلاقه وسجاياه! الموت يغير الناس نحو الأفضل، فيه يدركون كم كانت حقيقتهم في الحياة صغيرة وهشة، وكم الحياة نفسها واهية تافهة، فيتخلون عن غرورهم وخيلائهم وصلفهم. ربما يكبرون بنظرنا فقط، وليس بنظر أنفسهم، بعض الأحياء يقولون أن الموت يطيل سيقان الموتى، ربما، ألا تقصر سيقان الأحياء بنظر الموتى؟ ومع كل ذلك هل يجرأ اتباعه على البحث في شخصيته، جذوره ودواخله، كنه نفسه، فكرته وإيمانه، ثباته وتطرفه؟ كيف يرتضي المؤمنون والمتعبدون أن ينقل قديسهم وإمامهم من محرابه ومذبحه إلى المشرحة، وهل يُشرح نور الله؟

(95) البصرة: فتاة سمراء عارية في أرجوحة بين تاريخ طيني يهدم، وآخر يبنى من رخام!

عدنا لمجلسنا. فتيات البيت صرن يخطرن بيننا شبه عاريات، يعط عطرهن في أرجاء الحجرة. رائحة الشهوة تتصاعد من أجسادهن إلى عظامنا فتحييها وهي منخورة. يطفن علينا تارة بالكؤوس، وتارة بالفستق الحلبي، والقبلات والعناق، أجمل ما فيهن أنهن حقائق مؤكدة، بينما الحوريات مجرد وعود وأحلام! عاد العطار يحدثني عن فهد وأيامه معه. لم يأت بما هو مختلف عما كان قد حدثني به قبل أكثر من نصف قرن. قال: كان ثمة مدرس زميل لي في ثانوية البصرة، كان كلدانياً، من أتراب فهد في الحي البصري، وفي المدرسة ويمت له بصلة قربى أيضاً، حدثني بالكثير عن طفولة فهد وشبابه! كان قد وعى مع جيله فترة محتدمة تغلي بالأحداث، فترة بين انسحاب وتقهقر الجيش العثماني من العراق جاراً وراءه على الدواب أسلابه البالية. طلائع الإنجليز يتقدمهم الهنود السيخ والكركة بلحاهم السود الطويلة يدخلون البصرة منتصرين ملوحين، بأيدي بعضها بقفازات بيض. رغم أن الحرب العالمية الأولى كانت في بداياتها تقريباً، ولا يعرف متى تضع أوزارها. القتال استمر لفترة في جنوب العراق ووسطه، مشتعلاً هنا وهناك، في الماء وفي اليابسة، بين النخيل وعبر التلال والصحارى وحول أسوار المدن العصية، رغم أنها من طين وجريد نخيل! في البصرة لم يكونوا يشمون سوى رائحة التوابل والبهار، ممزوجة بروائح السمك، تفوح من الأسواق والمطاعم وأرصفة الميناء ومن شوارب السيخ والكركة الهنود! يرون البصرة امرأة سمراء حسناء على أرجوحة تهتز بين تاريخ يهدم وآخر يبنى،واحد طيني بدأ يتفتت وإن بعد مقاومة، وآخر رخامي لا يزال في مخيلة الإنجليز. لكن التاريخين في نظر العراقيين المعدمين مجرد أعمدة هواء. والحقائق تجري بمعزل عن الجميع: جسد يولد حياً من جثة ميتة لم تدفن بعد، دم وصرخات، وآمال ومخاوف، صدمة دخول الإنجليز فجرت اليقظة أو الوعي في الرؤوس وفي الحجارة، وبدأت التطلعات وصار الناس يسلخون أنفسهم من أنفسهم، لحمهم من جلودهم، يكشطون العصب الميت ومسامير الخلايا الهالكة من أقدامهم التي تعبت من السير على الطرق المتربة المعوجة. يتفحصون رؤوسهم، يلقون عنها القمل بينما الأفكار القديمة تغوص في خلاياهم متشبثة أكثر خائفة من الضوء القادم. لا يعرفون ماذا يضعون في قلوبهم وأرواحهم من هذه المظاهر التي راحت تزحم المدينة وتمتد إلى بيوتهم! بعضهم قال لأول مرة صرنا نحس أن لنا رؤوساً ويجب أن نستعملها! وولجوا عالماً آخر، لم يكن واضحاً تماماً، ما أحسوا به أو شعروا أنهم سيرتمون في أحضانه لا محالة. كان فهد ومجموعة شباب متفرقين بين طالب أو عامل أو عاطل، أو من لا تعرف أين هو ومن هو يتفتحون بسرعة فائقة على هذه الهزة الكبرى، زهرة نالتها زخات المطر، قال لصديقه الكلداني: وعي الإنسان ينبغي أن لا يكون بحدود نفسه أو حتى مدينته أو بلده، بل يجب أن يفكر بتغيير العالم كله! ضحك صديقه قائلاً ليتني أستطيع تغيير نفسي أو بيتي أو محلتي فقط، القناعة كنز لا يفنى! رد فهد بحزم رغم إنه كان في الثامنة عشرة: بل قل القناعة كنز يفني الناس ولا يفنى! لكن ثمة رجل اسمه يوسف، لم تخبئه أم بسفط في شط العرب لكي لا يجده جند فرعون، ظل مكشوفاً يناغي الليل في مهده، سيكون اسمه فهد، وسيكون له مع الإنجليز علاقة طويلة بدأت من خدمتهم في البداية حتى صعود مشنقتهم في النهاية، حقاً من هو فهد؟

(96) نهض من جذر عميق في الآلام، امتد حتى مصابيح كهنة الكلدانيين!

ولد فهد في بغداد، مع مولد القرن العشرين، وكما هو مسجل في ورقة حائلة اللون في 19 حزيران من سنته الأولى. نزحت عائلته الكلدانية الفقيرة إلى بغداد من قرية بين برطلة وألقوش في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر.كان هؤلاء القرويون يتحملون جدب الأرض وشقاءهم المزمن قريباً من قبورهم وكنائسهم، لكن حروب السلطة العثمانية عليهم أخذت تزداد وحشية وضراوة، فأخذوا يهجرون زرعهم المتيبس، ويفرون مكتفين بجلودهم المشققة وما عليها من أسمال. كان الباب العالي في الإستانة ينظر للأرمن ولسكان الأرض الأصليين الآشوريين والكلدانيين المسيحيين، كأقوام كافرة وغريبة، يجب التخلص منها، فكانت تشن عليهم حروب إبادة وسبي وإزاحة بالتواطؤ مع زعماء قبائل كردية وتركمانية. كان النصر عليهم محسوماً منذ البدء، وكانت الغنيمة تقسم على الشكل التالي: جماجم هؤلاء المسيحيين ونساؤهم الجميلات وأموالهم للجندرمة الأتراك، والأرض للإقطاعيين والمزارعين الكرد والتركمان. وبالطبع لم يكن يخلو الأمر من تنازع آخر عليهم بين الكرد الضعفاء المستفيقين تواً من نومهم الطويل وعزلتهم المتوحشة على قمم الجبال، والتركمان أبناء عمومة الأتراك وأمرائهم المحليين! في بغداد لم يجد السيد سلمان والد فهد عملاً. أدرك أنه لا يوجد في بغداد سوق عمل، بل سوق بطالة، تطفر منها فرصة عمل هنا أو هناك، فيتلقفها قوي تلقف الذئب لشاة ضالة. فلجأ إلى نفسه وأبتدع عملاً بسيطاً يدر بعض القطع النقدية الصغيرة: صنع وبيع حلويات بدائية قليلة في دكان صغير في حي فقير من الكرادة الشرقية في بغداد. كان الرجل بسيطاً وقنوعاً. اكتفى وعائلته برغيف الخبز، حاول أن يستنفد الطاقة القصوى للحلوى والألوان؛ فصنع منها ديوكاً وطواويس، وشعر بنات وأصابع عروس. وعمامات متدينين وسحرة. إلا أن ذلك لم يجد نفعاً، فأولاد الفقراء الذين كانوا يشترون منه بقطع نقدية صغيرة صاروا يتجاوزون دكانه إلى محلات أخذت تبيع حلوى جديدة قادمة من الشام وإيران ومن الهند، وبعض البيوت الغنية صارت تعرف الحلوى الألمانية والإنجليزية القادمة بأغلفة مذهبة. لم يعد عمله القليل الضعيف يوفر حتى رغيف الخبز لعائلته التي كبرت وأخذت حاجاتها تكثر وتلح. لم يجد مفراً من التخلي عن دكانه الخاوي وتلبية نداءات صارت تصله من أقارب له في البصرة؛ أن ثمة فرصاً للعمل والعيش افضل هناك بين تجمعات مسيحية، تعمل في موانيء السفن الآخذة بالتكاثر أو في المطاعم والبارات والفنادق الملبية لحاجات البحارة. جمع أشياءه القليلة وساق أبناءه الصغار أمامهم، يتقدمهم أبنه البكر يوسف، إلى شاطئ دجلة. انحدر إلى البصرة في سفينة لقيت رياحاً رخية، فراحت أشرعتها ترسل حفيفاً حزيناً تجاوب معه الملاحون؛ فطفقوا يغنون عن حزن العراقيين الأبدي في الرحيل والفراق والخيبات المتواصلة. ألقتهم السفينة المنهكة على رصيف العشار. ومهما حاول فهد نسيان ماضيه الخاص والاندماج في ماضي الكادحين، لا يمكنه أن ينسى كيف كانت عائلته آنذاك منهكة رثة الثياب مشردة تبحث عن مستقر ولقمة عيش، ولا ينسى أنها تعيد حكايتها القاسية هاربة من سواقي الدم الفائرة بين أشجار قرى القوش. لا بد أن هذه الذكريات ظلت جارحة لقلبه وهو يبحث عن المبادئ التي تحل مأساته ومآسي العراقيين. فلم يجد غضاضة بالعنف الثوري طريقاً لنيل الحقوق المهضومة، لكنه ظل يسدل على ذكرياته القاسية حجباً من الصمت،والغضب المكتوم الذي أخذ طريقه بهدوء لأغلب انفجاراته الثورية المتلاحقة! أمضى في البصرة طفولة حزينة صامتة في بيت منغلق على نفسه محافظاً على تقاليده المسيحية؛ داخل مجتمع إسلامي أنهكه التخلف. لكن للمجتمع البصري انفتاحه الخاص: ثغر بحري مشرع الأبواب على ضياء آفاق بعيدة، وخليجية وهندية مشبعة بشذى التوابل والحكايات السندبادية الغريبة. تأتي كل يوم، أنباء عجيبة قارية قصية وأوربية مكتظة برائحة الشهوات والأطماع والمخترعات والاكتشافات والعلوم والدعوات السياسية المتفجرة! في البصرة يستطيع الغريب تجاوز الفظاظة والنبذ ليجد حضناً فيه دفء وفرص للحب والتعاون والعمل. ذلك أتاح للعائلة الشريدة ومضة وعود وأمل منحت الصبي يوسف ثقة بالنفس وطموحاً أنه يستطيع في المستقبل أن يجد له مكاناً بينهم، وأن يكون فعالاً ومؤثراً وربما حلم من ذلك الحين أن يكون قائداً لهم! لم يستطع والده أن يجد عملاً افضل من أعماله الفاشلة في بغداد. أخذ يقوم برحلات إلى دول مجاورة محاولاً أن يجرب حظه في التجارة بأية بضاعة بسيطة مشروعة يوفق إليها. عمل وسيطاً أو سائساً في بيع خيول وماشية، فوصل إلى إيران والهند والقفقاس، كان همه أن يأتي بمبلغ يستطيع فيه أن يبدأ تجارة ناجحة مستقرة قريباً من زوجته وأولاده الأربعة والبنت الوحيدة. لم يوفق،فعاد منهكاً عليلاً خائباً، قال عنه فهد فيما بعد: "جلب لنا ونحن أطفال من ترحاله المضنى والخائب درة ثمينة، هي فكرة الشيوعية، فهو قد سمع ورأى عنها في أجزاء من روسياً ما جعله يهيم بها، ويرى فيها الخلاص الحقيقي لمحنته، ومحنة العراقيين جميعاً، فمن غير الأشرار واللئام لا يريد نظاماً يحقق العدل والخير والمساواة للجميع؟ نعم لقد تلقيت فكرة الشيوعية من والدي وصية عزيزة أخيرة‍.

(97) حزن العائلة، صار حزن الحزب!

كان والده قد أرسله وهو في السابعة من عمره إلى مدرسة الكنيسة السورية في البصرة، ليخفف عن كاهله المنهك بأعماله المتعثرة الخائبة، ويوفر لقمة فهد لبقية أفراد العائلة!

بقي فهد في هذه المدرسة حتى سن الثالثة عشرة. بعد أشهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى سجله أبوه في المدرسة التبشيرية الأمريكية في العشار، وهناك كان معه في نفس الصف طالب ظل يناكفه على رحلة الدراسة وسيكون بعد حوالي خمس وثلاثين سنة هو من يلف حبل المشنقة حول عنقه! إنه بهجت العطية أبن العائلة الثرية الموسرة القادم من القرنة! ومدير التحقيقات الجنائية في العراق في العهد الملكي، الأنشط في قضايا توطيد أمن الدولة الجديدة والأشد فتكاً بأعدائها. كانت القوات البريطانية قد دخلت البصرة إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، وضواري أوربا يلتهمون أملاكها الشاسعة بشهوانية وتلذذ مشبع بأخيلة ألف ليلة وليلة، والانكسارات الصليبية .الجنود البريطانيون ترافقهم فرق من جنود الكركة والهندوس والسيخ تتقدمهم عمائمهم البيض المائلة ولحاهم السود الكثيفة تكاثروا أفواجاً وزادوا عن ذي قبل وأخذوا يملئون شوارع البصرة. لم تتوقف القوات البريطانية عند نشاطها العسكري. راحت تعمل لصياغة العراق بشكل يمكن أن يكون حلية أخرى إلى جانب الهند درة التاج البريطاني،فيكون مستعمرة تدور في فلكها وتؤمن لها طريق الهند، ومحطة الوثوب العسكرية في المنطقة. رائحة النفط بدأت تطغى على روائح التوابل ونساء ليالي المستشرقين الراقصات بغلالات من الأحلام، وإن جاءت مخففة من تحت الأرض مختلطة بأريج زهور أشجار البساتين الممتدة مع النهرين، وروائح المباخر المنبعثة من أبواب المساجد،التي لم يعد يدعون على منابرها لسلطان الباب العالي! كان الجو مفعم بعلاقات وإيماءات غريبة يستثير هؤلاء القادمين بجزماتهم الثقيلة، وأهل الأرض الحفاة في غالبيتهم! يبدو أن السيد سلمان لم يجد له فرصة في الحركة الاقتصادية الجديدة التي بدأت تدب في أسواق المدينة، ثمة قلق غامض يستعر في أعماق روحه، فظل يواصل رحلاته الطويلة حتى أقصى الشمال الإيراني متجاوزا الحدود إلى بلاد السوفييت،دون أن يستطيع انتشال عائلته من الفقر والعوز. تجاهل نذراً جسدية مقلقة ومضى بين كدح يومي، وسفر فاشل، يزيده ضنكاً حتى وقع طريح الفراش وأحس بدنو رحيله النهائي. لم تستطع العائلة إيجاد علاج له وهو ينحدر سريعاً نحو الموت. عندما كان فهد يدفنه اتخذ قرارين: الأول ان يأخذ حلم والده بالشيوعية وصية يجب أن يعمل على تنفيذها حتى لو كلفه ذلك حياته، والثاني أن ينقطع عن المدرسة ويتحمل أعباء ومسؤولية العائلة. عمل مترجماً مع الجيش الإنجليزي لفترة قصيرة، ثم انتقل إلى وظيفة أفضل في مصلحة الكهرباء التي أسسها الإنجليز وأخذوا يديرونها. عرف البصريون من خلالها الكهرباء لأول مرة،كان فهد فخوراُ انه صار يعمل في منح النور للعراقيين ولو بتمويل وإدارة الإنجليز، لكنه ظل يحس بضرورة الوصول إلى معارف وعلوم أكبر من العلم الذي يجعل هذا الحديد يدور، ويخرج نوراً وطاقة، معرفة تتسع للعالم كله صار يقول لأصحابه:

ـ أتمنى أن أمنح العراقيين النور الآخر: نور المعرفة‍.

ويسأله أحدهم :

ـ أنت تمنحهم نور الإنجليز الكهربائي، لم لا تمنحهم نور حضارتهم كلها؟

ويهز كتفيه النحيلين، كانت نظراته شاردة دوماً خلف غابات النخيل تعانق أشرعة السفن الذاهبة الآيبة في الشط الواسع المديد. انه رغم عمله مع الإنجليز يكرههم ويحس أنهم غزاة لبلاده، اغتصبوها من أجل مصالحهم. رغم أن حضارتهم تبدو عجيبة لكن هناك حضارة جديدة أفضل منها تنشأ الآن هي تلك التي حدثه والده عنها، وهي الآن تتألق صاعدة في بلاد السوفييت! لا ينسى فهد يوماً هزت فيه أضلاعه صيحات حشود تحيط بمحطة الكهرباء الإنجليزية حيث كان منكباً على عمله، كانت الحشود تهتف(خذوا مكائنكم النجسة وارحلوا)، على الفور تذكر الفتاوى التي كانت تصدر من رجال الدين منذ أسس الإنجليز شركة الكهرباء. رأى وجوه زملائه الإنجليز تمتقع صفرة، وفرائصهم ترتجف غضباً وخوفاً، فهم قد تعبوا من الحديث معهم عبر المترجمين مع الأهالي المهيجين من رجال الدين، كانوا يقولون لهم دائماً هذه آلات تهبكم النور الذي تستعينون به لقراءة القرآن في الليالي المظلمة، لماذا ترفضون النور، فقط لأنه يأتي من الإنجليز ومن آلات تعتقدون أن في داخلها شياطين تديرها. حكمكم الأتراك المسلمون أربعمائة عام، وكان ينتزعون ذهب الضرائب من جلودكم، ولم يقدموا لكم سوى الظلام! وها نحن الذين تسموننا بالكفار أتينا ومعنا الكهرباء والسيارات والآلات والمدارس والمستشفيات، وسنبني أكثر وأكثر حتى نحقق لكم الحضارة كلها، ونسلمها لكم ونخرج، ماذا تريدون؟ لكن الناس اليوم مدفوعون من رجال دين شيعة وسنة، وإقطاعيين وتجار كبار أفلحوا في تفجير ثورة سموها ثورة العشرين. إذا كانت هذه الثورة تريد أن تحرمكم النور كما حرمت عليهم المدارس والوظائف، ماذا ستقدم لكم لو انتصرت؟ خرج فهد للحديث معهم، واجهته لافتة كبيرة خطت عليها آية قرآنية بحروف كبيرة(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) هز رأسه متحيراً، كان المتظاهرون على وشك اقتحام المحطة، يريدون تحطيم هذه الآلات الشيطانية، وطرد الإنجليز، وإنزال القصاص بالعملاء المحليين العاملين معهم. أخذ فهد يرقبهم بمزيج من الخوف والشفقة. هو عميل بنظرهم، لكن الإنجليز في المحطة قرروا مشاغلتهم، بمفاوضات شكلية فكان فهد يخرج عليهم بكلام، ويعود منهم بكلام؛ حتى أتت قوة مسلحة إنجليزية وفرقت المتظاهرين الغاضبين بالبنادق.

تكون جرح عميق غائر في نفسه حين قطع دراسته في سن مبكرة قبل أن يشبع طموحاته وتطلعاته. لم يندمل جرحه رغم إنه حاول أن يعالجه بدراسات ذاتية نهمة وكثيرة وبقدر ما تتيح أسواق الكتب الفقيرة التي لم يكن يصلها سوى القليل من الكتب العربية من دمشق بيروت والقاهرة. بعضهم يقول إنه أتقن القراءة بالإنجليزية لكن العطار، كعادته يقول:

ـ فهد لا يعرف من الإنجليزية إلا بقدر ما يعرف بدوي عن لغة أهل بغداد!

وأسأله:

ـ كيف إذاً كان يعمل مع الإنجليز؟

ويبلغ التحامل لدى العطار أنه يجيبني:

ـ بالإشارات، وبعض الكلمات لكي يثبت أنه ليس أخرساً!

كان ذلك حديثه عنه في الأربعينات، ماذا يقول عنه اليوم بعد الموت؟ يقول بنبرة خافتة حزينة "كان حكيما بعيد النظر، لا يجد غضاضة في التعامل مع الأجنبي،إذا كان ذلك لمصلحة بلاده" وعلى كل حال،كانت الكتب الأجنبية في زمنه قليلة، ولم تكن تصل إلا مع جنود وضباط الجيش البريطاني أو مع بريدهم العسكري. أخذ فهد يردد ما جعل بعض أتباعه يعتقدون أنها نظريته القاطعة الصحيحة: الحياة أكبر جامعة في الدنيا، الثقافة العظيمة هي ما نستقيها منها ومن تأمل أحوالها وأطوارها وسرعة تقلباتها، ثقافة الكتب ذكاء، وثقافة الحياة دهاء. لكنني لمست من تجربتي معه إخلاصه الأشد لوريقات قليلة مترجمة يسميها كتباً أو كراريس عن الشيوعية يقوم بتغليفها،مزمعاً ان يجعل ألوان أغلفتها الرمادية أو الحمراء هي ألوان أيام الحياة العراقية وليس العكس! لكنه أخذ يتلمس طريقه إلى طموحه الخاص. انتمى للحزب الوطني الذي أسسه وقاده جعفر أبو التمن، كان الحزب يدعو لخروج الإنجليز من العراق ليتولى أهله حكمه وفق نهج وطني حر للأعمار بعد طول ركود وتخلف في ظل العثمانيين.

وقد ظل فهد يتلقى نغزات وطعنات من بعض زملائه في الحزب أو من أشخاص خارجه

ـ كيف تعمل بحزب يطالب برحيل الإنجليز، وأنت تعمل معهم في شركة كهرباء البصرة؟ أنت إما جاسوس وإما منافق؟

كان منخرطاً في نشاط الحزب، دون ان يغفل التطلع هنا وهناك بحثاً عن طريق آخر يلبي طموحات كبيرة تضج في أعماقه مسببة له آلاماً في الجهة اليسرى من صدره فتحرمه النوم. كان يجد في وريقاته وكراريس شيوعية مرسى أو مستقراً ذهنياً لكنه يدرك أنها لا تكفي لتكوين نهج متكامل. ظل يحس بعمله مع الإنجليز كجرح في قلبه، وإنه أضطر إليه من أجل عائلته الجائعة المحطمة، لكنه كان يقول لأصحابه، "الاقتراب من الغزاة والمحتلين مصيبة أبدية عرفها البشر، والحكماء هم من خرجوا منها مع أوطانهم بأقل الخسائر" ويترنم بشجن وصوت مسموع: ببيتٍ للمتنبي:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يجد عدواً له ما من صداقته بد

من بين الشعر القليل الذي قرأه في المدرسة: ظلت قصائد للمتنبي أثيرة في نفسه، كان يحس بانجذاب خاص للمتنبي، كان يسأل نفسه أحيانا هل لحكمته وجزالة شعره أم لتطلع للسلطة؟

بعد قرابة الخمسين عاماً، وهو في السجن وظل المشنقة يقترب منه، استيقظ فهد مذعوراً، سمعه رفيقه صارم في الزنزانة يصرخ لا لا وهو يستيقظ من نومه مذعوراً، قدر إنهم ربما رآهم يأتون لتنفيذ الإعدام. هو يعرف شجاعته، لكن عادات الشجعان في الأحلام ربما تتغير، ما رواه فهد لرفيقه كان غريباً:

ـ أنت تعرف عندما دخل الإنجليز العراق، كنت شاباً غراً، في أخطر أعمار الحب، وإنني عملت معهم مضطراً. في تلك الأيام، كانت تتردد على المحطة شابة إنجليزية شقراء،زوجة مهندس إنجليزي كبير السن، رأيتها ترمقني باشتهاء، بل راحت تحاول معي حتى إنها قالت لي: أتعتقد إن الإنجليزية باردة؟ تذكر إنني قضيت في الهند سنوات وقد امتص جسدي الكثير من شمسه اللاهبة. ورفعت فستانها لتريني فخذيها وبطنها، قالت: كنت أستحم بعصارة القرنفل والزعفران الوردي كل يوم! لا أخفي عليك إنها استهوتني لكنك تعرف أخلاقي، فلم أشجعها وصددت عنها، تصور صارت لليلتين تأتني في منامي وخلفها الجيش الإنجليزي كله تقول لي: اترك الشيوعية، هي عربة خشبية مخلعة بلا عجلات، تعال معي اركب عربتي الذهبية، انظر ها هو الجيش الإنجليزي كله، معي مستعد لينحني لك، يحطم المشنقة ويسلمك العراق كله لتحكمه مطلق اليد! طبعا أنا صرخت بوجهها: لا لا أغربي عن وجهي أيتها البرجوازية الفاجرة. ابتسم رفيقه صارم بحزن: قال له الصمود في الأحلام أعظم أنواع الصمود، مفكراً مع نفسه، حلم فهد توجيه حزبي لأحلامي أيضاً، لو فرغت هذه الحسناء من فهد، وانتقلت إلي في هذه الزنزانة الضيقة، سأقول لها أيضاً: اغربي عن وجهي ايتها الإمبريالية الفاجرة!

قال العطار، لم أر فهد يبتسم ولو مرة واحدة، كان حزيناً دائماً. رافقه حزنه العائلي المبرح إلى الحزب، وإلى حياته السياسية كلها!

(98) ما سر هذا الرجل الغريب الغامض؟

أغرب شخص لقيته في البصرة، هو أبو ناصر! كان لديه محل للخياطة، يقف وراء منضدته، وعلى كتفه شريط القياسات، وكأنه رتبة عسكرية! كان محله أنيقاً مرتباً، على رفوفه الكثير من لفائف الأقمشة الفاخرة، خاصة الجوخ الإنجليزي الذي صار يعشقه العراقيون في العهد الجديد. كان محله يقع في منعطف شارع صغير يتفرع عن الكورنيش، الشارع الرئيسي المحاذي لشط العرب. تعرفت عليه مصادفة، لفتت انتباهي لافتة تعلو واجهته "محل أبو ناصر للخياطة الحديثة، مستعدون لتعليم الخياطة مجاناً" دخلت محله، دهشت إذ وجدت عنده زميلي مدرس الفيزياء في ثانوية البصرة عبد الحميد الخطيب. بدا عليه بعض الارتباك. فأنا قبل أيام حدثته إن كان يعرف خياطاً جيداً، كنت أريد أن أستبدل ثيابي التي جئت بها من بغداد؛ فجو البصرة الحار الرطب يفرض ثياباً مختلفة؛ فلم يحر الخطيب شيئاً، وها أنا افاجئه وهو في حديث ضاحك معه. يبدو إنه صديقه، أو على معرفة وثيقة به. رحب بي الرجل، وأخذ مقاساتي، وكان لطيفاً. عزوت اللكنة الغريبة في لهجته البصراوية المتدفقة؛ إلى إنه قد يكون من أرومة إيرانية، لذا هو على صلة مع الخطيب؛ فالخطيب كما عرفت من أصل إيراني! وكان عليُ ان أقضي وقتاً طويلاً حتى أعرف سر العلاقة الخطيرة بينهما!

لم تلبث علاقتي به ان توطدت. كان حلو المعشر، بقامة فارعة. رأس كبير عليه لبدة شعر خشنة بنية فاتحة، بملامح حادة. يتكلم بصوت أجش، لا تفارق الابتسامة محياه، سريع التآلف، متلهفٌ للعلاقات والصداقة مع الجميع. في اللقاء التالي؛ عندما جئت لأخذ بروفة الخياطة، دعاني لكأس من العرق. كان يخبئ القناني، والكؤوس في أدراج تحتية لمنضدته. صرت أتردد عليه بين فترة وأخرى. وجدته مثقفاً ملماً بالكثير من المعارف السياسية. كانت لي جلسات طويلة معه. دعاني هو إلى حانة قديمة قريبة من ضفة الشط، على الكورنيش، اعتاد التردد عليها، ويرتادها البحارة في البصرة، نحتسي كؤوسنا بهدوء، تأتينا أصوات الصيادين في أغانيهم الشجية، تقاطعها زعقات طيور الماء، ما أن نخرج منها حتى ننعطف إلى مطعم شعبي يقدم السمك الزبيدي مشوياً على جمر فحم الكراجي، مع أطباق من الرز العنبر المطيب بالزعفران. صرنا نرتاد الحانة مرة أو مرتين في الأسبوع، بدا مقبلاً على الحياة منغمساً بتفاصيلها، لكنه يظهر قلقاً أيضا. رأيته ينظر إلي ويطيل النظر كمن يتحسر، بعد سنوات وبعد أن تكشفت لي حقيقته،قدرت معنى نظراته تلك، كان ربما يقول لنفسه " هذا من كنت أبحث عنه، ولكنني لقيته بعد فوات الأوان" . وثق بي كثيراً. طفق يتحدث لي بصدق عن نفسه، كأنه يمهد لمكاشفات أكبر، إذا امتدت علاقتنا طويلاً. عرفت أنه جورجي من اصل آشوري، قدم من تفليس في جورجيا السوفييتية، حيث نشأ وتعلم. كان والده الآشوري المهاجر قد خرج به وعائلته من العمادية في شمال العراق هرباً من المذابح التي أوقعها العثمانوين بالآشوريين مستخدمين جيشهم المعتاد من عصابات التركمان والكرد، والفرق انه كان تحالفهم الأخير! حل في البصرة في السادس والعشرين من ديسمبر 1922 حالماً بالعودة إلى جذوره في العراق. سألته لماذا لم تقم في الموصل، نينوى، وهي مثوى أسلافك؟ ضحك، قال ما أن حللت في البصرة حتى اجتذبتني إلى أعماقها، أحببت فيها امرأة سمراء، غانية في ملهى، لعبت بعقلي وقلبي، وأجبرتني على الاستقرار هنا، لكنني زرت الموصل عدة مرات، أفكر في الاستقرار فيها، عندما أحيل نفس على التقاعد من الخياطة، لقضاء بقية العمر على تراب أجدادي! لم اقتنع بكلامه، تفاقمت شكوكي حوله، لكنني أحببته، كان يتكلم عدة لغات إضافة للروسية والآشورية: العربية والفارسية والتركية والإنجليزية. أتقن العربية باللهجة البصراوية، وعرف كيف يتحدث بها مع الناس، وبنبرة حانية؛ فيكسب ودهم وثقتهم بسرعة! سافر مرتين على ما أتذكر إلى الموصل، طلب مني مرافقته فاعتذرت، قلت له لو ذهبت إلى الموصل لما عدت، لا تنكأ جراحي، اعتدت على فراقها! كان يعود حزيناً من الموصل، لم أكن أعرف إنها أيامه الأخيرة في العراق، أعلمني شيئاً فشيئاً أنه شيوعي، كان يردد دائماً: "الشيوعية مستقبل العالم، بها يصير الكون وطناً واحداً والشعوب شعباً واحداً، بل أسرة واحدة" ! لكنني لم أركن لكلامه تماماً، بقيت تساورني شكوكي. سألني لو دبرت لك منحة لمواصلة دراستك للرياضيات في موسكو، هل ستذهب؟ هززت رأسي وقرعت كأسي بكأسه وقلت ضاحكاً، كأنني أريد أن اسبر غوره: لو ذهبت إلى موسكو لما درست سوى الماركسية! رد بلهجة لا تخلو من الجد: قل الماركسية اللينينية؛ فلا ماركسية دون لينينية . ولا لينينية دون الماركسية. ومضى يشرح لي بعض المبادئ الشيوعية. أثار دهشتي، كيف لخياط مهاجر، يعرف كل هذا القدر من المعارف عن فكرة غريبة هي موضع تساؤلات، وشكوك، ملاحقة مطاردة، هل ذلك دون هدف أو غاية؟ أحسست إنني أمام لغز! أهو مبعوث سوفيتي، أم جاسوس إنجليزي؟ تلك حيرة تارة أعد المضي في إجلائها من صميم همي الإبداعي للتمرس بالكتابة الروائية، ومرة أجدها تتعبني وتصدني عن تمتين وصقل أداتي للكتابة؟ في تلك الأيام تعرفت على فهد، الذي سيكون المؤسس والباني الدؤوب للحزب الشيوعي. كان لا يزال على اسمه الاعتيادي يوسف سلمان. أتى به إليَ أحمد الأنصاري، أقرب أصدقائي في البصرة إلى قلبي. جاءني فهد مرة أخرى لوحده يطلب مني مقالات لجريدة "صدى الوطن" جريدة الحزب الوطني، كان يعمل مراسلاً لجريدته من الناصرية والبصرة. أعطيته إحدى القصص التي كتبتها مستوحيا أجواء البصرة، لكنها ظهرت في جريدة اسمها "الثابت". كانت الجريدة السابقة قد أغلقت، كما أغلقت سابقتها "صدى الاستقلال". صار فهد يلقاني حين يأتي إلى البصرة من الناصرية حيث يقيم ويشتغل مع شقيقه في معمل للطحين والثلج. كان بقامة متوسطة أقرب للقصر، نحيلاً أسمر، خشن الملامح، بشخصية مميزة، رصيناً هادئاً. وجدت اهتماماته عملية خالية من بعد عاطفي أو جمالي.عندما أعطيته إحدى قصصي، قال: لو كتبت لنا انطباعاتك عن معاناة عمال الموانئ، فأنت تترد على الشاطئ هناك، وقد رأيت تعاستهم. كأنه يقول: أنا أراقبك وأنت ترتاد حانات وملاهي البصرة، غير مكترث لمعاناة الفقراء والكادحين، العاملين في مرافقه! مع ذلك اهتممت بطلبه، وقد أخذت شخصيته، وسيرته تثير اهتمامي! دعاني يوسف (فهد) عدة مرات إلى الناصرية فلم أستجب، لكنه حين أعلمني إنه افتتح مكتبة يبيع بها الصحف العراقية، وبعض الكتب والمجلات العربية القادمة من القاهرة وبيروت؛ زرته هناك. وجدت مكتبته دكاناً صغيراً ملحقاً بمعمل الثلج المطل على النهر، اشتريت بعض الكتب والمجلات. كان يبعها بأسعارها الأصلية تقريباً، غير متوخياً أي ربح. عندما سلمته الثمن دس في يدي البيان الشيوعي بخط اليد. عرفت منه فيما بعد إنه عثر في إحدى الصحف الإنجليزية على اعلان من جمعية الصداقة السوفييتية البريطانية بوجود كتب لمن يطلبها، فراسلهم على الفور. وصلته من لندن رزمة على البريد الإنجليزي الذي لا يمر على رقابة جيش الاحتلال تضم الدستور السوفييتي، وبعضاً من خطب لينين، فانكب على ترجمتها. سألته، لماذا تبذل كل هذا الوقت والجهد في موضوعات كهذه؟ لم يكشف لي غايته الحقيقية. قال " للاطلاع!"؛ كان أبو ناصر قد سألني: ما رأيك بيوسف وتقاريره عن البصرة؟ قلت جيدة، وتنم عن حرص ومحبة للمدينة وأهلها! قال هو كذلك، وسيكون له مستقبل، وشأن كبير! ولم أسأله ماذا يقصد، لكنني خمنت إنه يتحدث عن عمله كحزبي في إطار الحزب الوطني. ولم يكن يخطر ببالي شيء آخر!

الآن أكاد اجزم أن علاقته بيوسف ذات طبيعية سياسية، أو ثورية، ومن عيار ثقيل! قلت له ضاحكاً: أنت جعلت هذا المكان من الناصرية يجمع بين لهب الكتب، وثلج الآلة، ولا أدري أيهما سينتصر في النهاية! قال بكل جد: لهب الكتب طبعاً!

شعرت إنني في عالم غامض يتحرك به هؤلاء البصريون ناسجين مسارات غريبة لحياتهم! هل هم بلاشفة؟ هل هم مجندون عند الإنجليز لغايات مريبة؟ كيف لا ينصرف ذهني لذلك؛ وفهد كان يعمل موظفاً لدى الجيش الإنجليزي؟ وكأني قدرت ان أبو ناصر بلشفي يبحث عن اتباع، فأردت تحذيره، قلت أتعرف أن فهد كان يعمل مع الجيش الإنجليزي؟ قال أعرف، وهذا لا يخل بوطنيته! سألني على الفور، عن جماعة الجوال، وحين عرف إنني كنت أحد أعضاءها؛ قرع كأسه بكأسي قائلاً: بصحة الثبات على المبدأ، وعندما رحت أروي له كيف كنا ندعو للشيوعية من داخل مسجد، أخذ يبتسم متهللاً فرحاً، قائلاً: هذا هو الديالكتيك، يخرج الحي من الميت، قلت ويخرج الميت من الحي. هز رأسه ضاحكاً، قائلاً: في أوربا أيضاً خرجت من الكنائس والأديرة دعوات التنوير السرية! أخذت أرجح أن يكون أبو ناصر بلشفياً، ربما يدعو لهاعلى سبيل الهواية والمزاج؛ إذا لم يكن مرسلاً! ثم جاء ذلك اليوم الذي تكشفت فيه حقيقة أبو ناصر، وربطت الشرطة بينه، وبين فهد، بقضية تقارب الفضيحة، اختفى الاثنان في ليلة ظلماء واحدة. انتشرت في البصرة أنباء تقول أن أبو ناصر جاسوس سوفيتي، مرسل من قبل ستالين لتشكيل شبكة تجسس كبيرة! هكذا صارت النطفة الأولى للحزب الشيوعي، في أذهان الكثير من الناس، وكالة تجسس لا غير!

أخذت أتصور كيف ان أبو ناصر كان يخفي في سلة عدة الخياطة التي على منضدته حزباً شيوعياً للعراقيين كما يخفي الفقير الهندي أفعى مرحة في سلته تنهض راقصة على أنغام المزمار! بعد سنوات نهض الحزب الشيوعي من سردابه ليرقص على أنغام مزمار آخر، أفعى الفقير الهندي وأفعى أبو ناصر كلاهما مسالم طيب ودود، بلا أنياب سامة، كلاهما سيستمر في لعبة الاختفاء القسري، والظهور القسري، بلا جدوى، سوى لتفجير ضحكات المتفرجين والمراقبين. لعبة استمرت دهوراً، لكنها مع فهد الفقير العراقي كانت محزنة، مكلفة، اقتاتت على دماء الكثير من شباب وفتيات طيبين. لا تدري من كان عليه ان يتقن اللعبة؛ الفقير الهندي، أم الأفعى؟ أم الحزب؟ أم من يلعب به على الرصيف؟ أبو ناصر؟ فهد؟ السوفييت؟ أم العراقيون؟

استثارتني شخصيتي "أبو ناصر" و"فهد"، كانت غريبتين مؤثرتين كثيراً، فواصلت بحثي عنهما، واصلت التقصي والبحث عن حقيقة "أبو ناصر" واستفساراتي عنه، حتى بعد أن خرجت من العراق، مصمماً أن ألم بجوانب شخصيته، وما تركت وراءها في العراق من كوامن وجذور، وربما ألغام أيضاً. من محاسن الصدف إنني وجدت كتيباً صغيراً، نشر في بيروت، بدار نشر مغمورة، ولم يلق اهتماماً كافياً، يتضمن مذكرات "أبو ناصر" الذي عرفت فيما بعد أن اسمه بيتر فاسيلي، ومن مذكراته، عرفت الكثير من أسرار ومجريات حياته، بدءاً من مغادرته موسكو، حتى وصوله البصرة عبر إيران، إلى عودته بعد إنجاز مهمته حتى إفلاته من حملات الإبادة الستالينية، ولجوئه إلى تركيا، حيث أقام بقية عمره خائفاً قلقاً متنكراً! متردداً سراً على مرابع أسلافه في نينوى. من الطريف إنني وجدته قد تطرق لي في اكثر من صفحة فيها، وكان مثيراً، وممتعاً أن أعرف بعد أربعين سنة كيف كان ينظر إليَ: "فكرت بجلال العطار فهو مثقف ملم بالماركسية، مقتنع بالشيوعية، لكنني وجدته رجلاً بوهيمياً متهتكاً، ميالاً للشراب واللهو، والثرثرة حول الروايات والقصائد، هو قد يصلح كداعية للشيوعية، لا قائداً للشيوعيين" ضحكت يومها حين عرفت بالمنصب الذي رشحني له في دولته الشيوعية، وحكمه علي بالتهتك، بينما كان هو شريكي في التردد على الحانات والملاهي والمواخير أحياناً! هكذا هي ذاكرة البشر، تسقط ما تشاء، وتثبت ما تشاء، ومع ذلك تظل الواحة المستعصية على الجفاف، قادرة على تحويل رماد الموت إلى سماد لزهورها اليانعة!ثم يقول في موضع آخر" كان قد وقع اختياري على عبد الحميد الخطيب خدعت به، كان أفعى بجلد حمامة بيضاء، ليتني التقيت العطار قبل أن أقع في حبائل هذا الرجل الذي لم يختزن من التراث الفارسي العظيم سوى لعب الخبث والمكر" ضحكت مرة أخرى، من حسن حظي إذاً أنني تأخرت في التعرف عليه!ملاحظاتي وتأملاتي في وضع "أبو ناصر" وما تجمع لدي من أقوال الناس عنه؛ أكد لي إنه كتب مذكراته بوضوح وعمق بصدق وحميمية، ولوعة تثير الشجن! اهتممت بأبي ناصر وفهد لا كشخصيتين سياسيتين أو حزبيتين، أو تنويريتين، بل كشخصيتين إنسانيتين عميقتين كلما تذكرتهما؛ رجعت معهما إلى بداية العراق وحضاراته العظيمة الآفلة! فأبو ناصر آشوري، حاول جاهداً أن لا يكون مجرد مبعوث، ومبشر بقضية هي في جوهرها لمصلحة دولة أجنبية، بل كمواطن يعود لوطنه بعد منفى طويل. وفهد كلداني، عانى آلام وطنه؛ ولم يشأ أن يهرب منه، بل العمل على صياغته بهيئة لا يكون فيها مواطناً من الدرجة الدنيا. هما ينهضان من أعماق التاريخ في محاولة شبه مستحيلة لإعادة بناء وطن أسلافهما وفق نسق إنساني جديد! ولكن هيهات فكل شيء قد فات أوانه، كان يجب على أنا الذي التقيتهما، وعايشتهما ولفترات متفاوتة أن أجسدهما برواية تبقى تذكرة لأجيالنا القادمة، ولكن ها أنت تراني؛ كتبت رواياتٍ كثيرة ومقالات، وبحوثاً مختلفة، ورحلة العمر قد انقضت ولم أكتبها، ربما تهيباً،ربما كسلاً، وربما لضعف الشعور بمسئوليتي إزاء التاريخ، ومصائر الناس!

(99) عاد بطرس ليستنسخ مكتبة جده آشور بانيبال الحجرية، على ورق أحمر!

ويمضي جلال العطار، الروائي المخضرم، وهو جالس في بيت المتعة والأنس، بعد عودته من رقدة طويلة في أحضان الموت، معرجاً على الحكمة، وهو القائل "لا فكاك للموتى من الحكمة، كما لا فكاك للأحياء من الموت" : العراق أرض الشمس والظلام، القيظ والزمهرير، الماء والظمأ، الذئاب والأرانب، أسراب هائلة من النحل يجنى العسل كل يوم من أرواح الناس؛ لتلتهمه كروش الرجال الكبار. غربان وفقراء، وكلاب سائبة. إذا تكلم النابهون قتلوا. إذا صمتوا ماتوا داخل جلودهم. كثر المنفيون، وقل العائدون. والعراق يظل يرى من بعيد بحيرة نفط. طريق إلى الدفء والسيطرة. آثار طريفة تمنح السياح الأجانب الكثير من المتعة، خاصة إذا جاءوه لقضاء شهر العسل؛أو في سن التقاعد والشيخوخة، فسيجدون في نقوش جدرانه أخيلة جنسية رائعة مشجعة! صمت برهة كأنه كاهن كفر به قومه، وتركوه لعزلته الماجنة. انبعث صوته حزيناً واهنا بطبقته الواضحة. رغم إننا في بيت المسرات، غانيات وزبائن، قمار ولغو في الحجرات الأخرى، قال:

ـ جاء بطرس فاسيلي إلى البصرة بأربعة أسماء قابلة للزيادة: بطرس شمعون لدى والديه وعائلته. بيتر فاسيلي، في جورجيا. اسمه الحزبي في الكومنترن لا نعرفه، لكنه موجود حتماً، ولنفترضه: ديمتري. اسمه المحلي الذي أطلقه على نفسه: أبو ناصر. مع أولى الخطى، كان بطرس لا يدري أهو مبعوث غزاة؟ مستطلع لهم ومستكشف؟ أم منفي عائد إلى أرض أجداده؟ فهو في هويته الحديثة رسول أممي أو سوفيتي، وفي هويته القديمة رجل ينهض من حطام الإمبراطورية الآشورية الغاربة، ويعود لتراب أهله بعد تشرد طويل في أرض الآخرين! كان يحمل فكرة الشيوعية بنكهة الثورة، وهي ما تزال في فترة الحب ولم يقتله الزواج أو الطلاق بعد! وبنفس الوقت كان مكلفاً أن يعود إلى موسكو بخرائط هذه الأرض وعقول أهلها وأمزجتهم وميولهم وقدراتهم! إنها مهمة ثقيلة صعبة لكن تاريخ العراق وواقعه ثقيل صعب أيضاً! ويختار فاسيلي المحطة الوسطى: هو عائد لبناء وطن الأجداد، بنفس الوقت هو مبعوث الثورة العالمية وقائدها لينين. اخذ يعد نفسه لعمل طويل شاق، تعرف في المحمرة على رجل عربي من أهل القرنة، يدعى: عبد الحسين الجابري. كان يعمل ميكانيكياً في ميناء البصرة، ترك عمله فجأة وقام برحلات طويلة غريبة معتمداً على تدبيره، وأعمال بيع وشراء بسيطة يقوم بها في الطريق. كان مولعاً بالكتب والرحلات، يحاول التعرف على الأفكار والاتجاهات التي تشغل الناس. لمس بطرس أنه مثقف يعرف جيداً بالسياسة، ومحب للقراءة، ولديه معرفة عامة بالشيوعية وميلاً لها. يتحدث عن إعجابه بالثورة البلشفية لكنه لا يلبث ان يغير رأيه بها متحدثاً عن أنها كانت دموية وقسرية، تأخذه بين فينة وأخرى فكرة، ثم تعود به أخرى فيبقى متردداً موزعاً. رافقه فاسيلي في عبور شط العرب. تحدث معه وهما في سفر تخللته استراحات في فنادق رخيصة وجلسات في المقاهي. أعلمه بطرس أنه آشوري عراقي يعود إلى وطنه. وجد عنده المأوى في القرنة لأيام؛ كان بيته مع أمه وشقيقه بسيطا. أثاثه رث وقليل. ورغم قلقه وتردده، اطمأن له، وفكر أن يجعله معتمده، والنواة، والمحور الذي سيبنى حوله التنظيم الشيوعي في العراق. ما كان يتصور أنه بهذه البساطة والسرعة يصل إلى هدفه. راح يفضي له ببعض أفكاره. قال بطرس:

ـ سافرت إلى بلاد السوفييت مستطلعاً للتجارة. وجدت ذلك صعباً معهم. أعجبت بنظامهم وبالشيوعية. عرفت عنها الكثير. وجدت أن الشيوعية ليست فكرة غريبة عن العراق. هي في تراثه وتاريخه منذ القدم. شعرت أنها موجودة في دمي؛ دون أن ادري. كان والدي يحدثني في طفولتي بقصص وأفكار وجدتها هي نفسها لدى السوفييت. يمكن القول إن أهل العراق القدماء هم أول من عرف الشيوعية، فالمشاعية شقيقة الشيوعية الفطرية والبدائية، قامت في أرضهم الخصيبة. السومريون والبابليون نظموا حياتهم على أسس من الخير والوفير والعدالة. تصاعد صوته بحماسة:

ـ كل ذلك منقوش على الحجر في مكتبة جدنا الكبير آشور بانيبال، أول مكتبة في العالم، وإن كانت من الحجر! ويرد الجابري عليه ضاحكاً:

ـ واليوم تريد إعادة كتابتها على ورق أحمر! لا تقل لي أن الآشوريين كانوا شيوعيين. كانوا محاربين غزاة. ربما لا شيء يجمعهم مع الشيوعيين سوى جمع الكتب. الآشوريون لم يقرأوا كتبهم. انهمكوا في الحروب، ولا أدري إذا كان الشيوعيون سيقرأون كتبهم، أم سينهمكون بالنضال!

ـ القراءة واجب يومي على الشيوعيين؛ كما لمست في موسكو!

ـ لكن هذا يعني أن الشيوعيين يستقون قراراتهم من الكتب، لا من الواقع؟ وهذا على ما يظهر ليس له نهاية أو نتيجة!‍

أدرك فاسيلي أن الرجل، يبدو بسيطاً، لكنه عكس توقعه، صعب المراس، ولا يحبذ النضال طويل الأمد، أي إنه قصير النفس؛ بلغة الشيوعيين:

ـ لكن الشيوعية غاية عظيمة تستحق النضال الطويل، والتضحيات والصبر!

ـ ربما،هي تستهويني فعلاً لكن ثمة من يقول: هي حلم بعيد يكسر ظهورنا، ثم لا يتحقق. ظهورنا هشة بعد قرون من الظلام!

ـ هذا كلام يائسين، العراقيون أصحاب حضارات وقادرون على النهوض بالأفكار العظيمة!

ـ ولكن متى تتحقق هذه الأفكار العظيمة؟ ربما يتوافق قيامها مع جنة السماء، وآنذاك لا داع لها، فالناس ستفضل جنة الله.

ـ أتفهم مخاوفكم، لقد منيتم بخيبة من العثمانيين ومن الإنجليز، وربما من معارضي الإنجليز أبناء وطنكم أيضاً، ولكن الأمر مختلف مع الشيوعيين. لو جاء السوفييت بلادكم بدباباتهم، وقالوا لكم أنهم جاءوا محررين، لا فاتحين فهم صادقون!

ويطلق الجابري ضحكة مجلجلة:

ـ لماذا؟ وهل السوفييت سيطوفون حول الكعبة، ويختنون أنفسهم، ويضعون عمائم على رؤوسهم، قبل ان يأتوا إلينا؟

ـ لا .هم ثوريون إنسانيون فعلاً. الإنجليز رأسماليون طامعون جشعون.

ـ لا تهتم. جربت بلادنا أنواع البشرية: شرفاءها، وأنذالها، أسودها وثعالبها، عقلائها ومجانينها، دون جدوى، لم يتبق لها سوى السوفييت، والشيوعيين، لتجربهم، هي وحظها!

في تلك الليلة لسع قلب فاسيلي. الناس هنا ليسوا بالبساطة التي صورها البعض له. هم أذكياء، ماكرون كثعالب صحاريهم. بقدر ما تستهويهم أحلام الشيوعيين يصغون أيضاً لدعايات الحكومة والإنجليز وتحذيراتهم من الشيوعية والسوفييت. للناس تجاربهم الحادة أيضاً. لهم آلامهم وانكساراتهم، ومخاوفهم. يجب أخذهم بالرفق والصبر! قرر أن لا يعتمد هذا الرجل نواةً ومحوراً لتنظيمه المأمول. وجده غير مقتنع من أعماقه بالشيوعية، لديه توجساته وشكوكه وحتى سخريته المريرة منها، رغم تكراره القول أنه يحبذها.أو إنه لا يرفضها. أريد رجلاً مؤمناً بالشيوعية بعمق وثبات، يصل إلى الخشوع والتقديس! بدون ذلك يسقط التنظيم لدى أول هزة من الإنجليز، أو رجالهم العراقيين.

ويحل في مركز مدينة البصرة، وينسى اسميه فاسيلي وبطرس، معلناُ اسمه: أبو ناصر‍! ويفتتح دكاناً للخياطة في البصرة. مهنة تليق بالمؤسسين لفكرة عظيمة. فيها المسطرة والمقص والإبرة والخيط. هذه عدة المفكرين أيضاً، كيف تقتطع فكرة من فكرة؟ كيف تلصق فكرة بأخرى؟ كيف تفصل فكرة على مقاس جسد أو أرض أو حالة؟ عدة الخياط هي عدة المفكر! ثم هي تبعد الجواسيس والعيون إذا دخل موظف كبير أو صغير دكانه في المدينة، وأسلمه أكتافه وخصره، طرد كل الجواسيس عن دكانه. بعد اشهر، افتتح دكاناً آخر في الناصرية. صار يتنقل بين دكانين، مفتوحين على الدوام للناس غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم. وحيث إن أغلب الناس هنا فقراء عاطلون لا يستطيعون الدفع للخياطين للحصول على ملابس وفق مقاساتهم، فقد وجد أبو ناصر الحل: ملابس جاهزة بأسعار زهيدة وبالتقسيط أحياناً. "والمهم تشرفونا بزيارتكم!" "وزورونا تجدون ما يسركم". كانت عيناه ولسانه في دوران دائم بحثاً عن صيده المنتظر! لم يكن أبو ناصر يعتني بأناقته، لكنه في كثير من الأحيان يظهر ببدلات أنيقة وجميلة كأنه يقوم بعرض أزياء لنفسه كخياط، مهنته الظاهرة. حين يعود إلى حرفته السرية، ثوري وصانع ثوار، يعود للباسه العادي الذي لم يكن مهملاً أو مبهدلاً. كلما مر في سوق المدينة يسمع أحدهم يقول: "أية حياة هذه،أحلم بيوم أشبع به خبزاً فقط!" فيقترب منه؛ يحدثه بلهجته البصرية الدافئة، لا يجد فيه مواصفات القائد الذي يبحث عنه. لكنه يتحدث بشيء عام عن فكرته؛ فيعرف إلى أي مدى يستطيع الناس الذهاب مع فكرة كبيرة خطيرة كفكرته! ابتدع وظيفة أخرى: تعليم الخياطة لمن يرغب بها؛ بما فيهم منافسيه. أغدق عليهم أسرار مهنته، وجعلهم يتفوقون عليه. كسب قلوبهم. صار الناس يحبونه ويثقون به، ويفتحون له بيوتهم، وأماكن عملهم! ومع ذلك، ظلت دعوته فكرية، سياسية عامة، وأقرب للتعاليم الروحية، تحدث مع من يثق بهم لفترة ملبساً الشيوعية شجرة قديمة قائمة عند ملتقى نهري دجلة والفرات في القرنة، ويعتقد الناس هناك أنها شجرة آدم، مفترقه عن الجنة! جعل الشجرة ثوباً للفكرة، فستاناً ملوناً زاهياً لامرأة حسناء طيبة فاضلة، كان يقول لهؤلاء الذين يثق بهم، لكنه لا يثق بقدراتهم على القيادة:

ـ الشيوعية هي هذه الشجرة نفسها، سيرويها الناس بدمائهم فلا تعود تلك الشجرة التي طرد آدم بسببها من الجنة، بل ستغدو هي الشجرة الحاملة فاكهة الدنيا كلها، ستتكاثر، وتغطى صحاري العالم؛ فتصير هي الجنة نفسها، وسينعم الناس بظلالها الوارفة؛ فيصيرون عائلة واحدة سعيدة متحابة، لا يعرفون البغضاء، لهم بداية واحدة ومصير واحد، حتى موتهم في أحضانها بعد عمر طويل؛ سيكون سعيداَ!

ظل يدور بعينيه متلهفاً، كأنه يبحث عن فتاة أحلامه؛ ليسلمها قلبه، وعمره ومصيره، ويستريح. حالماً برجل يستطيع أن يلقي عليه المهمة الأممية؛ ويعود لزوجته وطفليه في جورجيا. كم هي مهمة صعبة البحث عن رسول لفكرة أو مهمة كبرى. ظل يتابع باهتمام شديد وحذر أنشطة الشيوعيين المبتدئين في البصرة. سمع بكل بداياتهم، أو ما يحلو لبعضهم تسميتها "إرهاصاتهم" الفكرية القديمة والحالية. وجد إن الذين استلبت عقولهم الشيوعية؛ قليلون وسذج وسطحيون، وغير ملتحمين بالطبقة العاملة. لا يزال العمال قليلين، وبحالة رثة وبعيدة عن النضج. هم مبعثرون هنا وهناك. مجموعة عمال في الميناء. مجموعة أخرى بالقاعدة الإنجليزية في الشعيبة، مجموعات داخل المدينة. مشتتون كأشجار متباعدة لا تشكل غابة. كان قد عرف الاندفاعات الماركسية الصاخبة لأولئك الشباب الذي سرقوا مسجداً في بغداد من يد متدينين عميان. لم يتقبلها. أسماها الاختلاجات الطبيعية التي تسبق الحمل، وليست الحمل نفسه. ستة شهور لمستطلع مكتشف مثله كافية لأن يعرف كل كهوف شاطئ البحر، وما يلوذ به من كائنات الأعماق الغامضة. عرف كل هؤلاء جيداً. ظل يحذر التورط معهم بعلاقة؛ دون دراسة متأنية صبورة.

(100) وتعصف بالعطار قصة حب!

كان ذلك قبل ما يقرب السبعين عاماً، لا زلت أتذكر، بعد أن توطدت صداقتنا، راح العطار يروي لي ما حدث له في ذلك الحب الغريب:

ـ في ربيع سنة 1933 حدث شيء عظيم في حياتي، أحببت "نورا". تركت البصرة التي فتحت قلبي على بحار الدنيا، وشموسها المبللة برذاذ السفن والنجوم الخفية تحت الماء، وغيوم الأحلام، وما تأتي به شباك الصيادين من الأعماق، ودموع أغانيهم. عدت إلى بغداد الواحة الخضراء المسورة بصحارى وبساتين تتقاتل فيها الذئاب، وتمكر فيها الثعالب والوزراء والسفراء، والأحزاب الموالية والمعارضة. معللاً نفسي أنني سأحتضن أجمل امرأة في الدنيا!

هجعت الأرض أعواماً طويلة تحت أوحال أمطار شحيحة متعطنة، وهجير لاهب، واليوم بعد الموت، يعيد العطار الحكاية نفسها، وماذا لدى الموتى غير ذكريات الحب المجرحة بكؤوس الليالي المحطمة؟ كانت حياته ضاجة بالشهوات والآمال العظيمة، اليوم تحدث بفرحة من نسى مصيبته،بخدعة من القلب، أو الزمن. توقف برهة وقد غص قلبه بالذكريات.عاد صوته خافتاً مثقلاً بوجع تعتق في الروح،فاستحال خمراَ استطاع بحماسته الدائمة للحياة ن يضيفه لذاك الخمر الجميل الذي كان منبع نشواته في الدنيا ومجلى طموحاته العظيمة. والمرارة؟ لقد أفلح أن يتجرعها في الدنيا بالتقسيط، مدافة باللذة، جاعلاً حلاوة الدنيا هي الغالبة. اليوم بعد عودته إلى الحياة، ومضي كل هذا الزمن على جلستنا تلك، ينبعث صوته طريا هادئاً، فقد ولد من جديد، سيكون الحب ذاك الحب مرة أخرى،الشباب يعود كأنه لم يذو أو يتبدد، والآمال تنهض من الأرض الموات، أشجار الكافور تنهض خضراء فواحة في شوارع بغداد المحطمة بالحروب والقمع، ويعود القلب نابضا قوياً مفعما بالحب،من قال أن هناك موتاً وفناء ونسياناً، سمعني وأنا أهمس لنفسي:

ـ اللعنة على السياسة؛ كم أنستنا من حقائق الدنيا الصغيرة البسيطة الجميلة؟

رد مستدركا:

ـ السياسة هي لغة الأشياء التعيسة، هي لغة الأشياء الطيبة، حسب مشيئة الإنسان!

ومضى يتحدث:

ـ غادرت البصرة، مدفوعاً بأمل أكبر من أية عاصفة في الدنيا، حب لي في بغداد حل في قلبي كما يحل الربيع وزهوره وأمطاره وطيوره في أرض قاحلة! كان ذلك في ربيع عام 193ذلك العام، كأنه عمري كله أكثر أيامي ثراءً بالأحلام والطيوب!

حتى اليوم، بعد موت امتد طويلاً، لا يتذكر نورا إلا ويختنق صوته كأنه يبتلع غيمة من الأحزان! تغيم عيناه وراء دموع لا تهطل، كل سحابة غائبة في السماء تعود إلى مكانها من أية بقعة في الأرض أو البحر امتصتها، ثم تهطل ثانية، ودموع العطار تبقى حبيسة القلب والعينين الذابلتين! يبرر ذلك بهدوء:

ـ حب محروم، حب مشتعل أبداً، هكذا قالت العرب قديما، وهكذا صاغوا مصير أبناءهم أبد الدهر! "وإن حباًً خامر القلب في الصبا؛ يزيد على مر الزمان ويشتد" .. لقيتها في محطة قطار كركوك، كنا قادمين من الموصل متجهين إلى بغداد، لم يكن آنذاك ثمة قطار بين الموصل وبغداد، ويرتعش صوته، ويتعمد الشرود إلى أمر آخر:

ـ كنا نأخذ أية واسطة نقل توصلنا إلى كركوك، لنستقل القطار إلى بغداد!

وأروح أستجمع شظايا قصته، أو قطع قلبه المتناثرة بين كلماته المبعثرة؛ لأستكمل قصة حبه التي صعدت به الذرى، لا لشيء إلا لتلقيه من هذا العلو الشاهق إلى الأرض ليصير حطاماً،ظل طيلة عمره يحاول بالكأس، والتدخين، والزيارات الطويلة لبيوت الغانيات، وبالقلم السيال،ومنشورات الأحزاب ومقالات الجرائد، واللسان الحاد، لمه وترميمه وإصلاحه دون جدوى!

نورا من أب مسيحي وأم يهودية، حسناء، مثقفة، تصغره بعام واحد، تعمل مدرسة، تعيش مع أمها في بغداد في رغد ورفاهية، والدها توفى مبكراً (تزوج أمها بعد قصة حب عسيرة وطويلة). ترك لهما أملاكاً كبيرة. كانت تحظى برعاية أعمامها وأخوالها، بعضهم تجار كبار في بغداد والموصل! كانت وأمها في زيارة لأقاربهما في الموصل، حين لمحها العطار عند باب عربة القطار، صعقه جمالها، قال :(عيناها الواسعتان كانتا نافذتين تحفهما ورود وأحلام وأنوار شموس لا مغيب لها، وتشعان عذوبة وحزناً) تجرأ ورفع معها حقيبتها، وتجرأ مرة أخرى، وتحدث معها، وحين رأى أمها تبتسم مضى في حديثه معهما. وجد نورا تهوى القراءة، وتحاول كتابة القصة. فأيقن أنه وقع على حلمه العظيم، وقد جلبه هذا القطار الغريب معه من بلاد غريبة مجهولة!

ـ أجمل خدمة قدمها لي كتابي الأول، أنه وصل إلى يدي نورا وعرفني عندها، قالت لي أنها قرأته باستمتاع وإعجاب، فراحت تتابع ما ينشر لي في الصحف من قصص. أعطيتها عنواني في البصرة، وأعلمتني هي أين تسكن. أخذت رسائلها تصلني متلاحقة بانتظام، كان أسلوبها وخطها جميلين جداً، أوراق رسائلها الملونة معطرة فواحة برائحة غامضة. شعرت منذ البدء أنها مزيج غريب عليَ أن أفك طلاسمه. قلت لأترك الأيام توضح لي معنى رسالة تفرحني وتحزنني! وجدت أن الدنيا تضحك لي وإنني سأعدل عن قراري بعدم الزواج، واقترن بها وأخلص لها إلى الأبد. سأتجاوز كل عقبة أو حاجز بيننا، أشارت لي ولأكثر من مرة أن أمها لن تمانع في زواج يسعدها، لكنها تخشى أن يتدخل أقاربها ويعارضوا زواجها من غريب، حتى لو كان مسيحياً أو يهودياً. هم يريدون أن تتزوج شاباً منهم، وبإرادتهم، فكيف بي وأنا المسلم، والغريب عنهم تماماً؟ ملأ حبها جوانحي بسعادة لم أعرفها من قبل. توقفت عن كثير من عادتي السيئة. لم أعد أبحث عن النساء. وجدت أن أجمل امرأة في العالم لا تهمني ما دمت قد حظيت بنورا، فهي تقطر جمالها الخاص ورقتها ولطفها، زهرة غريبة في ندى صباح مشرق، حتى ضبابه الخفيف كان يشف بصفاء وعمق. توقفت عن الشرب اليومي، صرت لا أشرب إلا مرة في الأسبوع، وأحياناً لا يخطر الشراب على بالي، وقررت وقف التدخين، فأفلحت في ذلك رغم صعوبته. صار تذكري لها أو تصور وجهها وملامحها وكلماتها يسكرني. تغيرت حياتي تماماً، صرت أكتب أكثر، لم أعد أرى الوطن إلا من خلال الحب! غمرتني حكمة مفاجأة: لا وطن حقيقي دون حب،وعاطفة شخصية خاصة. ولا حب حقيقي دون وطن تحس أنه لك، وأنت له دون حواجز أو عنف أو ظلم. من هنا نبعت وطنيتي ونضالي السياسي كله! صرت أكثر مضاء في نضالي من أجل عراق تعيش أديانه وطوائفه وقومياته في وئام ودون كراهية واحتراب! كنت أضحك ممن يقول أن الحب يغير الإنسان، صرت مقتنعاً أن الإنسان لا يكون موجوداً إلا بالحب، وإذا لم يولد من رحم الحب، فإن رحم أمه لا يكفي لولادته!التحقت بثانوية بغداد المركزية مدرساً للرياضيات، قالوا عني إنني كنت متميزاً لكنني كنت فقط أؤدي واجبي بحرص وإخلاص شديدين. استأجرت بيتا يطل على النهر غير بعيد عن البتاوين حيث أخذ المسيحيون واليهود يبنون بيوتاً حديثة بعيداً عن مرابع طفولتهم في مركز بغداد. كانت نورا وأمها يسكنان هناك بيتاً أنيقاً واسعاً مشاد بطابوق أصفر ذهبي، مزدان بشرفات، تحيطه حديقة كبيرة، بناه الأب قبل أن يداهمه مرض الموت بعامين تقريباً. كنت أطوف في المساءات المضاءة بقمر صاف سخي النور حول هذا البيت المسيحي اليهودي الجميل، وقد صار لي فيه أنا المسلم شمعة مشتعلة تضيء قلبي وحياتي! وأحلم أن تفتح نافذة لغيري في وطني. صرنا نلتقي بلهفة تتزايد رغم اللقاء في أوقات متقاربة، نغيب عن أنفسنا نشوى هائمين في جولات مسائية في شوارع بعيدة عن الأحياء السكنية، خلوات قصيرة نرتبها بصعوبة شديدة خشية الرقباء والفضوليين وما أكثرهم. حاولت الاقتراب من جسدها، فصدتني برفق دون أن تفقد حنانها ورقتها، ولم أعد المحاولة إلا في قبلات سريعة خاطفة. صرت مقتنعاً إنها ستكون زوجتي، فلم التعجل؟ بعد أن وثقت أمها مني ومن نيتي الصادقة بالزواج من نورا، صارت تسمح لي بزيارتهما في بيتهما في أوقات كان تجهد في اختيارها لكي لا تتصادف معها زيارات لأحد من أقاربهما أو جيرانهما. أخذ بعض الجيران يعرفني أنني من أقاربهم في الموصل وقد أفادتني اللهجة الموصلية على إقناعهم بذلك، فكنت أكثر من لفظ القاف خفيفاً رشيقاً عكس قاف أهل بغداد الثقيل الذي يصير كافاً مضاعفة، حتى وجدت هذا الحرف هو الحامي والحارس لحبنا بين هؤلاء الجيران الذين ما زالوا ينظرون لغيرهم ويتساءلون ويشككون، رغم أن بيوتهم الكبيرة وما فيها من أثاث حديث،وسيارات فارهة؛ توحي بأنهم قد دخلوا الحضارة والتمدن! لكنهم كانوا كأسلافهم يتبغددون بالأكل والشراب والطرب والعشق السري، معتقدين أنها الحضارة!

كانت نورا تحب سماع الأغاني، وتحرص على حضور الحفلات التي تقام في بيوت لأقاربها ومعارفها، وقد اصطحبتها مرة إلى محل لبيع الإصطوانات يدعى (جقماقجي) في شارع الرشيد، وقد طاف بنا صاحب المحل على رفوف الأسطوانات، فاشترينا مجموعة من أسطوانات الأغاني العراقية والمصرية، قال إن محله تأسس سنة 1909، ويلقى إقبالاً كبيراً من الناس، سألته عن معنى كلمة جقماقجي، قال أنه لقب عائلته التركية، ويعني: مصلح الأسلحة. حين خرجنا قالت نورا بلهجتها الرقيقة المحببة:

ـ يبدو إن الدنيا بخير، أن ينتقل هذا الرجل من مهنة أصوات الطلقات النارية إلى مهنة تحفل بالموسيقى، وأصوات المغنين!

ـ وكيف لا تكون بخير وأنت فيها؟

نظرت إلى بحزن نظرة طويلة، ما تزال كلما تذكرتها اشعر أن قلبي ينسحب معه من أحشائي ويحلق خلفها في الآفاق البعيدة سألتها:

ـ لماذا أنت حزينة إذن؟ فسكتت!

صمت فجأة ثم ندت عنه آهة: .... نورا أين أنت الآن؟

قلت بنبرة يائسة:

ـ بل قل أين نحن الآن؟

رد الجهنمي بغضب:

ـ وأين تريدنا أن نكون والدنيا قد عادت إلى عالم الأسلحة؟

ران علينا صمت ثقيل، عاد العطار لحديثه الشجي:

ـ غمرتني طمأنينة، أن علاقتنا تنمو وتعلو، شجرة فارعة مثمرة فواحة، فصرت أكثر انصرافاً لموهبتي. رحت التهم الكتب واسطوانات الموسيقى العالمية، وأتأمل تجارب الناس وشئون حياتهم العامة. انتقي علاقاتي مع الأصدقاء المثقفين، والمحبين للثقافة، وللبسطاء الطيبين، وأخصص وقتاً أطول للتفكير والكتابة! غافلاً عما تعد الأيام لنا، بينما أرى أدغال وأشواك، العراق تعلو وتتشابك وتتكاثر فيها هوام وضوار وكأن هناك قوى مجهولة تستكثر علينا أن يكون لنا وطن يضم حياة عادية بسيطة! صرت أحلم أن يعيش كل الشباب مثلنا الحب. وجدتني ألج السياسة من باب الحب. كانت عينا نورا تدفعانني لذلك، وتصداني عنها بنفس الوقت، تلهمني الاندفاع وتمنحني الحذر، ولكنني كنت أخاف أن أفقدها، فالسياسة تأخذني لأوقات طويلة عنها، حدثتها بما يساورني، راحت في سهوم طويل حزين في أفق بغداد، من الغريب كان الشفق الأحمر ينتصب أمامنا كأنه ينذرنا، قالت:

ـ يصير الحب مملاً حين يحصره المرء بنفسه وشريكه فقط، يجب محبة الآخرين أيضاً!

قلت : لكن تقلبات والتواءات السياسة في العراق مربكة دائماً تفسد الحب الشخصي والحب العام، وكل شيء!

قالت بصوت يختلج:

ـ لا بأس ان يقدم الإنسان ما يستطيع ولا يبالغ في قدراته، كما لا يبالغ بضعفه! وعادت للصمت!

(101) ويفلت من قبضة ذكرى الحبيبة الأليمة، إلى قبضة جماعة الأهالي!

كنت أيام دراستنا ومراهقتنا الفكرية، أقضي أوقاتاً طويلة في نقاشات لا تخلوا من خلافات ومشاحنات مع أصدقائي عبد القادر البستاني، وحسين جميل، وعزيز شريف، كانت مترعة بهموم أكبر بكثير ما كانت تضمه مناهج الدراسة الرسمية المصممة من قبل الإنجليز ومعاونيهم من العراقيين أو العرب مبتدئي الثقافة. ثم وقعت أحداث وأشياء كثيرة، كان عبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وعلي حيدر سليمان قد عادوا إلى بغداد، ومضوا في نشاطهم الفكري شوطاً كبيراً، صارت نسورهم تمسك الطرائد الكبيرة! في زياراتي السابقة إلى بغداد، أعدت صلتي بمحمد حديد وعلي حيدر سليمان صديقي صباي أيام دراستنا الابتدائية والمتوسطة في الموصل. لم يعد محمد حديد من بيروت، وإنما من لندن بعد أن قفز إليها ليدرس الاقتصاد متسلحاً بأفكار شيخ إنجليزي، يكلل رأسه شيب بارد مضمخ بالضباب، يدعى هارولد لاسكي، مؤمناً بالفابية، ولا يتردد على لسانه سوى ماركس مقلوباً على رأسه، ولاسكي وبرنارد شو، وكول، والكثير من أقطاب حزب العمال البريطاني، حتى نصحه تاجر موصلي مقيم في لندن : عد إلى الموصل وبت ثلاث ليال في مقام النبي دانيال، واغتسل في حمام العليل، لتستعيد عقلك الضائع في مدارس الإنجليز المخبولين الفاقدين طريقهم بسبب الضباب! لكن محمد عاد وانهمك بمحاولة تعريب بعض ما كتبه اساتذته الفابيين! ضبطه البستاني متلبساً بهذا الجرم الفابي الخطير،فصار يقول عنه : "كان في لندن يأكل السجق الفابي، ويشرب فابية، ويتنفس فابية، ويحلم بالفابية ويغازل النساء بالفابية، وفي بغداد صار يأكل الكبة الموصلية، ولكنه لم يستطع استبدال الفابية سوى بوظيفة بالمالية "

ظل يقابل منتقديه بترفع برجوازي من علو قامته الممشوقة الزاهية ببذلة أنيقة من الجوخ الإنجليزي، وينفث في وجوههم دخان غليونه المعطر، صامتاً لا يتكلم معهم ويصفهم (بالأميين بالفلسفة، وبالخطرين أكثر من الأميين بالأبجدية) فهو يحمل شهادة شرف في فلسفة الاقتصاد السياسي من الأكاديمية الإنجليزية الصارمة، ويشغل وظيفة مرموقة في وزارة المالية! كان قد عزز علاقته، بعبد الفتاح إبراهيم الذي عاد من أمريكا بعد أن طار إليها برحلة دراسية، ثم اضطر لقطعها لفقره، وظروف عائلته الصعبة. عاد إلى بغداد حاملاً كتابه "على طريق الهند". تضمن الكثير من آرائه في كيفية خروج العراق من تخلفه وأزمته الحضارية، مقترحا عليه أن يقتدي بالهنود، اهتم مثقفون كثيرون بالكتاب، عدوه فتحاً جريئاً ومعتدلاً في الفكر السياسي فتجربة الهند جاهزة ناضجة ويمكن دراستها وأخذ منها ما يناسب أوضاع العراق سيجنبه كثيراً من المزالق والنكبات، لكن البعض سفه الكتاب وسخر منه واسماه (على نقيق الهند،ونهيق وزعيق وبريق وما يجيده عراقيون متبرمون من كل شيء في التخريجات النغمية الساخرة)وعملوا على طمسه والتعتيم عليه، وسمى مؤلفه: عبد الفتاح الهندي، وفيلسوف الفلفل الحار، والهندوسي الذي يأكل لحم البقر، وغاندي الذي لا يمتلك حتى عنزة!

كان البستاني قد عرفني بعبد الفتاح فهو صديقه وابن خالته. ولد عبد الفتاح في الناصرية، في أسرة نزحت من عانة. كان والده رجل دين أسر مع الجنود العثمانيين من قبل الإنجليز، واقتيد إلى اسطنبول. فانتقل عبد الفتاح للعيش مع أخواله في البصرة، وبذلك تحول من تكية الملا وكتابها المقدس الوحيد، إلى رحلة المدرسة الابتدائية، وكتبها الكثيرة بعض الشيء، فكان يقفز منها إلى الصفوف بسرعة أدهشت مدرسيه وشخصوا عبقريته، وتنبئوا له أن يلعب دوراً خطيراً في مستقبل العراق! أحدهم وصف ذكاءه (هادئ، مرعب في عواصفه المفاجئة)

وقد عاد حيدر سليمان إلى بغداد من بعثة دراسية حصل عليها لكونه كان يحرز المرتبة الأولى في كل سنوات دراسته في الجامعة الأمريكية، فأرسلته الجامعة ليمثلها في دورة دراسية في سويسرا عن الشئون الدولية أعد خلالها بحثاً مهماً عن القضية الفلسطينية. فعين مدرساً في دار المعلمين ومحاضراً في المدرسة الحربية ومدرستي الكرخ والتفيض، وألف كتاباً بعنوان تاريخ الحضارة الأوربية؛ تضمن آراء أثارت عليه المسؤولين، فنقلوه إلى ديوان الوزارة مديراً للترجمة!صرنا نلتقي في مقهى عارف أغا، أو أدعوهم في بيتي على طبخة أعدها بنفسي بعد أن أجبرتني عزوبيتي على استعادة ما أعرفه من المطبخ الموصلي، نتجاذب مواضيع شتى! يحدثونني عن حياتهم في بيروت ورحلاتهم الدراسية والسياحية إلى البلدان الأخرى فيشعلون في أعماقي أحلاماً تكاد تقتلعني إلى ذلك العالم البعيد. لكن وجه نورا يطل علي ليؤنبني، ويعيدني إلى شوارع وحدائق بغداد، فأجد ان في وجهها إشراقة شمس، أين منها كل شموس العالم؟ كان يثير مخيلتي كيف أنهم أسسوا في بيروت جمعية سرية تقوم على نظام الخلية والمبادئ الملزمة، مبهورين بالفاشستية الصاعدة في إيطاليا، وجدوها تمثل الروح المنقذة للبشرية بعد ويلات الحرب العالمية الأولى،تجمع بين الاشتراكية والقومية وتعمل على وحدة الأمة! كادوا ينسون دروسهم، وواجباتهم الطلابية منغمسين بالحلم الفاشي، يرتدون القمصان السود، ويعقدون اجتماعات سرية في ساحة اللعب في الجامعة محيطين بتمثال موسوليني كما يحيط المتعبدون بصنم إلههم. يصطحبون التمثال ليتنزه معهم على شاطئ بحر بيروت، ويضعونه على مائدتهم وهم يحتسون الشاي في المقاهي، يضعون أمامه أفضل فنجان للقهوة تكريماً له، ويتناقشون بمقولاته وأفكاره كآيات مقدسة، وموسيليني في صمته الطويل بين أيديهم يمنحهم عتمة وغموض أعماق المجهول،وبريق سماء العالم كلها، ثم أخيراً موافقته النهائية على آرائهم، وبإيماءة من رأسه الصنمي الكبير يضم هؤلاء العراقيين الباحثين عن قائد منقذ، إلى حزبه الفاشستي! قال عبد الفتاح إبراهيم: " تشردنا الفكري في بيروت كان مراهقة عقلية أقسى من مراهقة الجسد، وهي حلم أو مرض لذيذ يصيب كل من يحل ببيروت المجذوبة بنجوم وانفعالات البحر الأبيض المتوسط الذي تذوب فيه الأحلام ودماء التاريخ وصخوره كله كما يذوب السكر في قدح القهوة! كنا نسمع ونحن جالسين على كراسي الخيزران أمواجه تصطخب مع صراعات العالم، وكما في جوفه تأكل أسماكه الكبيرة الصغيرة، نرى على صفحات جرائده وأمواجها ما يجري في العالم: الكبار يأكلون الصغار، الأقوياء يلتهمون الضعفاء، فتضج في قلوبنا نخوة نصر المظلومين، ويفجر كل سنتمتر من الشاطئ في عقولنا ينبوعاً للثورة، والأفكار العظيمة، فنندفع بكل قوة نريد تحطيم كل شيء، وبناء كل شيء من جديد، والجنون هو أقل ضريبة يدفعها للريح أو لعيادات الأطباء من يريد الإقامة في بيروت! قالوا إنهم ظلوا يتنقلون ويتفاعلون بين مختلف الأفكار للنظريات، ثم أخيراً ارتموا في أحضان المصري سلامة موسى! وجدناه الأب الذي كلما ضل أبناؤه ثم عادوا إليه يستقبلهم بقبلاته ودموعه، ولا تنسوا إنه مسيحي يضاعف القبلات كلما كان الضلال ليس بعيداً عن الشاطئ" " إنهم يظلمونه حين يقولون إنه برنارد شو العرب، لا هو ماركس العرب الحقيقي، والمفكر الكبير الذي بلغ به التواضع أن يتعلم من النحلة الصغيرة، جمع رحيق أفكاره من كل زهور الأرض ليحوله إلى هذا العسل القادر على تغذية الجسم ولئم جراح العرب التي لا حدود لها" إنه أستاذنا الكبير، اليوم وغداً! دون أن يغفلوا استزادتهم من أساتذة ومفكرين التقوا بهم في سفراتهم الدراسية إلى مدن أوربا وأمريكا! وما أن حلوا في بغداد حتى مضوا يواصلون بحثهم في مكتبات ودكاكين الوراقين القديمة، لكنهم كانوا يذكرون في ما بينهم بصمت وأسى: أمين الجوال " والصحيفة" التي حرثت عقول شباب ورث من تاريخه لقاحات تكفي لجعل حجارة بغداد تفرخ ملائكة وشياطين، ألقت فيها بذور الماركسية، فكانت رغم ضعفها كافية لإشعال روح الثورة فيها،واللهفة للتغيير. جاء من يسألهم كيف نسيتم شيخ المفكرين، الأب الماركسي العتيق: أمين الجوال؟ قال عبد الفتاح إبراهيم:

ـ أجد الكراس المنسوب إليه(وصفة الجوال في شفاء الحال)، صار متخلفاً جداً عما أتينا به من أفكار، لكنه كان في حينه وابل مطر سخي في أرض قاحلة!

فال البستاني بلهجته الثورية:

ـ نعم هو الآن مجرد دفتر إنشاء في مدرسة الثورة الابتدائية! ولكن لابد من لقائه لنصل الحاضر بالمضي، ومن لا ماض له لا حاضر له!

قالوا لهم إنه الآن معتكف في بيته، ولا يزال مصراً على اعتزال العمل الفكري والسياسي تماماً!رد حسين جميل المعروف بلغته القانونية حتى مع الحلاقين فلا يسلمهم رأسه دون حديث يشبه العقد:

ـ أنه أتعس أنواع التقاعد، وإهماله أتعس أنواع التقصير!

اجمعوا على لقائه وإخراجه من عزلته، بحثوا عنه طويلاً، وجدوه مسترخ بوظيفة متوسطة في دائرة السكك الحديدية قرب الصالحية، وقد فرض عليه كرسي الوظيفة كرشاً غليظاً!

التقى به البستاني وعبد الفتاح في نادي السكك على مائدة شراب، وكمن يفيق من نومه راح يتذكرهم ببطء ثم يحدثهم عن أحلامه النسائية! حاول البستاني أن يستنهض فيه ذكريات الثورة والنضال القديمة:

ـ من يستطيع إشعال ثورة الفكر غيرك؟

أجابه الجوال:

ـ كل ما تبقى من عمري لا يكفي لإشعال شمعة أو سيجارة!

ـ والبذور الماركسية التي غرستها في تربة بغداد الخصبة؟

ـ كانت سكرة بيرة!

وقد ظل عبد الفتاح، قليل الخبرة بالشراب يدير رأسه لم يفهم شيئاً، فأوضح له البستاني الخبير بالخمر ومحتسيه، إنه يشير إلى كون البيرة تمنح سكرتها الفائقة بسرعة، وتتلاشى بسرعة! فضحكا، عاد البستاني يلح عليه:

ـ اجعلها سكرة بحليب سباع هذه المرة!

لزم الصمت، ثم قضى بقية الجلسة يحدثهم عن الحب والحزن والوحشة التي يلقيها حب الفتاة الصغيرة في قلب الرجل المسن، حتى لو لم تهجره، وراح يبكي فجأة، وقضيا بقية الجلسة يواسيانه وهما لا يعرفان أن كان يبكي على فتاة حقيقية أو وهمية، أو على ثورته الضائعة!

(102) لقد بلغوا سن الرشد، ماذا ينتظرون؟

قرروا أن يعتمدوا على أنفسهم ويؤسسوا لفكرهم الخاص الجديد، لا يستصغرون شأن أنفسهم كونهم لا يزالون شباناً يافعين يعدهم البعض دون سن الحكمة والفكر. استجمعوا طاقتهم بنفير عاجل، الآن أزفت الساعة التي نهب فيها وطننا زبدة أفكارنا بعد هذا المخاض الطويل، هيا إلى العمل الفكري، نعم، الفكر الفكر، وحذار من السياسة الآنية المباشرة المضيعة للعقل. نعم الفكر هو من سينقذ العراق وليس النفط! حذار من النفط فهو بدون الفكر سيكون حصانا جامحاً دون فارس، وسيجره إلى حريق يحيل العراق رماداً. ومضوا يشكلون ناديهم وجمعياتهم التي أرادوها صوامع تأمل داخل المدينة، وورشة كتابة وبحث فردي وجماعي لا بد كما قال البستاني (أن نضع أيدينا على مفتاح عقل بغداد، بعد أن ضاعت مفاتيح أبوابها الأربعة بين أرجل الغزاة وسنابك خيولهم اللاهثة على كنوزها الكثيرة!)

الشبان العائدون من بيروت عبر عواصم العالم المتمدن، مفعمين بصخب النظريات المطبقة المجربة، وتلك التي ما تزال مجرد افتراضات وآمال، وهي كلها في مجملها طيور ملونة تجرب الطيران خارج الأقفاص، اسماهم الناس ب(جماعة بيروت)، بينما سموا الشبان المعفرة وجوههم بغبار شوارع بغداد غير المبلطة، والضاجة أجسادهم برائحة دروب ومكتبات جوامع باب الشيخ، وبالأحلام الطموحة المتضاربة(جماعة بغداد)،واعتبروا لقاءهم كأنه دجلة وقد التقى بالبحر المتوسط! ردد كثيرون كما لو بصوت واحد:

ـ هؤلاء سيحدثون زلزالاً في فكر العراق الراكد مع مستنقعاته منذ مئات السنين، والعاصفة قادمة، انتظروها!

انبروا يعدون لإصدار صحيفة، فبرزت أمامهم مشكلة، أي باب يطرقون ليحصلوا على المال؟ وهم يؤسسون لجريدة تريد أن تعمل ضد استغلال أصحاب الأموال؟ ظلوا يقلبون الأمر حيارى مثل عشاق فقراء يريدون الزواج من بنات أغنياء! لم يكونوا يتصورون أن المفاجأة السعيدة تكمن قريباً منهم، أخرج عزيز شريف خمسين ليرة ذهبية، عداً ونقداً، كان يجمعها منذ طفولته، وزاد عليها حين اشتغل معلما،كان يدخرها لحلم دراسته في الخارج معوضاً بها المنحة التي سلبت منه بسبب الصراع الطائفي. وضعها أمامهم قائلاً، مقنعا نفسه:

ـ عدم توفر المال لدينا لإصدار الجريدة؛ يعني إننا سنبقى نثرثر في المقاهي، ثم نذهب للنوم لتلعب بنا أحلامنا وكوابيسنا!

كان المبلغ كبيراً، ظل البستاني مبهوراً، يكاد يعشي بصرة بريق الذهب الذي لم يره يوماً على هذه الدرجة من القرب، وهو يحلق بعيداً عن الأرض بريش الماركسية، فقال بين الجد والهزل:

ـ الآن عرفت يا عزيز لماذا لم تقرضني ربع ليرة طلبتها منك لموعد غرامي، كان يمكن أن يغير مجرى حياتي!

لكن عزيز الذي يظل جاداً وقانونيا صارماً حتى في مخدع الزوجية قال:

ـ أعرفت كيف يمكن للمال أن يكون مفسدة أو مرشدة؟

تحرك عبد الفتاح إبراهيم على الفور وجلب تحويشه عمره 2000 روبية كان قد ادخرها عله يستطيع السفر بها إلى أمريكا لموصلة دراسته التي قطعها لشحة المال. قال وهو يضعها جنب ليرات عزيز " آن لهذا الحلم الدراسي المضطرب أن يرسو اليوم على شاطئ الوطنية حتى لو انتهى مجرد قارب سيئ الحظ، محطم على الصخور"

نزلوا سوق المطابع المتفرع عن شارع الرشيد بثقة عظيمة بالنفس، وخلال أيام قليلة، كانت جريدة "الأهالي" جاهزة للصدور، اقتبسوا الاسم من صحيفة مصرية كانت تصدر في الإسكندرية. اسندوا إدارة تحريرها لعزيز شريف، قال عبد الفتاح، متجاهلاً إنه مساهم في المال أيضاً:

ـ ليس ذلك لأنك زودتنا بالمال الذي لولاه لبقينا حدادين دون فحم، بل لأنك ستزودنا بالعقل والحكمة!

وضعوا على صدر صفحة الأولى (للأهالي) الشعلة الملتهبة شعاراً، اقتبسوه أيضاً من صحيفة العصور المصرية، واقتبس الناس اسم صحيفتهم ليطلقوه عليهم، وقد ارتاحوا هم للتسمية فهو الاسم الآخر للشعب الذي ظلوا يؤكدون في المقاهي وفي البيوت والندوات، أنهم رغم اختلاف مستوياتهم الطبقية، منه وإليه!

صدرت الأهالي أوائل عام 1932،احتفل الجماعة بها في خان جغان. جلبوا الكعك من محل السيد الذ افتتح حديثاً واشتهر بكعكه الذي تفوح منه رائحة الحبة حلوة. وأتى أحد عمال المطبعة بلفة كبيرة من خبز عروق اللحم والبصل، قال إنه خبز العباس وقد خبزته أمه "من أجل جريدة الفقراء" كما قالت، كان ساخناً ملأت رائحته حجرة التحرير. وقد دارت عليهم استكانات الشاي المهيل، لكن البستاني جلب معه ربعية عرق لنفسه، وأمسك بالعدد الأول، مغروق العينين واقترب من عبد الفتاح وقال بصوت مرتعش وهو ينظر إلى الجريدة كمن ينظر بوجه حبيبته:

ـ أتذكر يا عبد الفتاح جريدة الحائط التي أصدرناها ونحن في المدرسة الثانوية؟

فوجئ عبد الفتاح بسؤاله، لكنه تذكر، فنهض، كان أقل عاطفية من البستاني، ومع ذلك قبله قائلاً :

ـ ها نحن الآن نعلق جريدتنا على حائط الوطن كله!

اقترب حسين جميل منهما قائلاً:

ـ صدرت جريدتنا في الوقت المناسب، البلد يعيش تحولات حادة وعنيفة، رغم السكون، صارت الأراضي الأميرية التي كانت مشاعة للعشائر وبيد الفلاحين الكادحين إلى ممالك للإقطاعيين الجدد من شيوخ العشائر والتجار وكبار الموظفين مستندين إلى تشريعات صممها الإنجليز من أجلهم، وحرمت الدولة من ريعها، هذا سيخلق صراعات كثيرة علينا أن نستعد لها!

كان محمد حديد يرقبهم فاقترب منهم ليقول كلماته المالية الفابية:

ـ موارد النفط ستغطي على هذا الاغتصاب، وتمتص هذه الصراعات إلى حين!

رد البستاني بنبرته الماركسية وقد زادها العرق علواً:

ـ نعم هكذا تحالف المحتلون الإنجليز مع رجال الإقطاع وبمباركة رجال الدين، ولكن مهلاً نحن لهم!

وتوالت مقالات الأهالي: "منافع الشعب فوق كل المنافع!"

ثم مقال: "أفي البلاد نهضة؟ لكن مقالها المدوي كان: "أين صرفت حصة العراق من كنوزه النفطية؟" قابل رئيس الوزراء نوري السعيد الأهالي بصمت مشحون بتذمر وغيظ، لكن كامل الجادرجي الذي كان يودع شبابه على أعتاب رجولة مكللة بكثير من امتيازات المناصب ونياشينها المبكرة؛ تنبه لها! لم يخف إعجابه بها وبأصحابها! كان عضو الهيئة العليا لحزب الإخاء ومسؤول جريدتها. صار يفز من نومه منتشياً بأحلام عطرة، وغيمة بعيدة ستظل تلاحقه مدى العمر: تنازع بين كرسي السلطة الذهبي، وبين طيف الديمقراطية الذي صار يطوف عليه بهيئة امرأة نورانية حالمة تقتضي الكثير من التضحيات لنيلها عشيقة أو زوجة أو صديقة! نهض من سريره مبكراً، وقبل أن يتناول فطوره راح يقلب صفحاتها ويتأمل عناوينها وأسماء كتابها! تمنى لو يكون زعيماً لهم، وليس مجرد واحد منهم، رغم إنه لم يكن يمتلك ثقافة أي منهم، مثلما لم يكن أي منهم يمتلك سمعته السياسية، وخبرته العملية!

ومع ذلك رد على افتتاحيتها المعنونة (عبودية!) بمقالة عنوانها (سيادة!) محاولاً أن يظهر فيها قدراته الكتابية، لكنه كان يعاني مما يسميه النقاد القدامى "العي والحصر". وهو تعبير مخفف عن انعدام موهبة الكتابة، وحتى إذا كتب تأتي عبارته صخرية ثقيلة بحاجة لأن يمر عليها قلم متمرس لحقنها بشيء من خفة دم الصحافة.، فلم يهضمها القراء، ولم يستسغها البستاني لكنه وجد فيها إرهاصات مهمة، فترجمها مستعينا بعدة كؤوس من العرق، وعلبتين من سجائر ثقيلة الدخان: حتى جعلها تقول بخياله هو لا بخيال الجادرجي: أن الحرية التي يريدونها هنا ما تزال تتجول في أوربا، وستستغرق وقتاً لتصل إلى بغداد، وحتى إذا وصلت فأنها لن تكون عذراء، فقطاع الطرق كثيرون، سيغتصبونها ويجعلونها تحمل بصبي سيقتلها غسلاً للعار. فكرة مدهشة هائلة، لم تكن للجادرجي بل للبستاني الأديب المتأرجح بين القصة والسياسة، لكنه تنازل عنها ونسبها للجادرجي وقدمها لجماعة الأهالي لينظروا في أمرها، بعيدا عن قراءتها السطحية. لم يمض حسين جميل المتحفظ كقانوني إزاء الخيال مع أفقها الفلسفي بل مع دربها الواقعي الضيق، قال: لا قاطع طريق للحرية في بلادنا سوى نوري السعيد، فليضع الجادرجي يده في أيدينا لرده على أعقابه!

ومضى البستاني هائما مع حلمه من أجل الوطن الذي أحبه، سفه بقوة ما ينشر عن أجواء بغداد المخملية الحالمة في صحف الحكومة وصحيفة الاحتلال، سافر إلى الأهوار وعاش بين سكان الصرائف الطافية على الماء. لا أحد معهم من الأرض والسماء سوى الكلاب والأبقار والأسماك والطيور. كتب سلسة مقالات مؤثرة تحت عنوان(أربعون يوماً في الأهوار بين المعدان: شعب يلاحق روح العراق السابحة بماء النهرين). توقف كثيراً عند معاناة هؤلاء الناس الذين وجد لديهم الطيبة رغم شظف عيشهم. سعداء راضون بأفراحهم الصغيرة، قبلة ساخنة بين القصب، غناء شجي بصوت جميل من القلب، زواج، ميلاد، حتى الموت يستقبلونه بغبطة، يحملون النعش في قارب واثقون إنه ينساب إلي الجنة،عبر قبر جاف في مقبرة وادي السلام في النجف. يعودون بعد دفن أحبتهم إلى طمأنينتهم في عزلة ندية خضراء تنحدر نجوم السماء فيها من سقف الليل لتلاعب السمك والثعابين وبراعم البردي! غفلة حالمة لا يعكرها سوى مداهمة جحافل من رجال الدين، وما يسمونهم بالموامنة لأكواخهم، لأخذ الخمس، حصتهم التي يدعون شرعيتها من ثمرات كدحهم، متسلحين عليهم بكتبهم الثلاثة التي تهرأت وعطت منها رائحة زنخة لكثرة ما تشبعت بعرق آباطهم وبطونهم: القرآن، ومفتاح الجنان، وحديث كميل! تحدث البستاني عن واقعة حصلت قبل مجيئه إليهم بأيام: رجل من المعدان وقف بوجه رجل الدين: أنت تأتي لتأخذ من كل خمسة بقرات بقرة، ومن كل خمسة سمكات نصطادها سمكة، ومن كل خمس دجاجات دجاجة، ومن كل خمس بيضات بيضة، أنا اليوم لدي خمسة أمراض، هل تستطيع أن تحمل أحدها، وتخفف عني؟ أغلظ رجل الدين له بالقول فحمل الرجل فالة صيد السمك وهم بغرسها في صدره، لكنهم أوقفوه وحين أخذوه إلي شيخ السلف حمى له سيخاً حتى توهج وكوى به لسانه ليفقد النطق إلى الأبد، أمام رجل الدين الذي قال للشيخ : بهذا ضمنت الشفاعة والجنة من جدي رسول الله!

أراد البستاني أن يدعو في الأهالي للواقعية الاشتراكية، فنشر فصولاً من رواية (جلال خالد)، كان محمود أحمد السيد قد كتبها على هدي تعاليم الجوال!

مضى يطلق النار من شباك شقته الصغيرة في الخان على أولئك الشعراء والأدباء الذين همهم التقرب لرجال السلطة والوجهاء بمذلة واستخذاء، وتهالك على فتات موائدهم، بعضهم رغم فقرهم وعوزهم يسكنون الأبراج العاجية، ينظمون قصائد هائمين فيها بمخيلاتهم مع الفتيات الجميلات في القصور بينما الكادحين والفقراء يتساقطون على الطرقات! ولكن البستاني كاد يوقع الجريدة في ورطة عندما نشر دون تروٍ مقالة للجهنمي قال فيها: (القرآن وعد المسلمين في الجنة بالحور والحسناوات الفاتنات الشهيات وبالخمور والعسل، وبكميات غير محدودة مما قد تصيبهم بالتخمة وأمراض الإسراف، بينما هم الآن في جوع وظمأ لكل ذلك، أما كان الأفضل لو أعطاهم الله منها الآن قليلاً لخلق التوازن وشيء من العدالة؟ أو حتى ولو على سبيل التجربة أو الدعاية مثلاً ؟ وقد أنهى مقاله مروجاً لنظريته الجنسية هاتفاً: اجعلوا الحب طريقاً إلى الدين، لا الدين طريقاً إلى الحب، فالطريق الأول مضمون النتائج بينما الطريق الثاني أثبت أن الكثيرين غرقوا في الدين فطالت لحاهم وألسنتهم وجيوبهم وضمرت قلوبهم، ولم يصلوا إلى الحب بل إلى الكراهية والحروب والإرهاب!) أثار المقال رجال الدين وحرضوا على غلق الجريدة، لكن الحكومة آنذاك كانت منشغلة بدورة انتخابية، وكانت تحلم باستمالة الجريدة إلى جانبها فغضت النظر عن الموضوع، مكتفية برسالة من مدير الرقابة والدعاية قال فيها: ما هكذا تورد الإبل يا جماعة الأهالي؟

رغم أنهم صاروا أكثر حذراً في نشر المقالات المستفزة، لكنهم حاولوا أن يجعلوا صحيفتهم جامعة يدرس فيها الناس كل علوم وشئون الحياة! قال عبد الفتاح:

ـ جئنا فوجدنا شعبنا متأخراً عن كل شيء، صرنا كمن يجد أبويه متخلفين لا يعرفان أي شيء، فوجد لزاماً عليه أن يضخ فيهما كل علوم وثقافة الدنيا، ليكونا لائقين، لا يخجل حين يعرف أصدقاءه عليهما!

(103) ستكون لنا نجوم فوق بغداد أكثر من نجوم السماء!

راحوا بصحيفتهم ذات الورق الأصفر الخشن وطباعتها الرديئة الملطخة، وصدورها المتلكئ، يهزون عقل بغداد الذي حسب قول حسين جميل (تحجر طويلاً بقدر ما ذابت وتفسخت كتبها الكثيرة المطمورة في مكتباتها المهجورة!)

أحدثوا أصداءً وموجات قوية واضحة في مستنقع الحياة البغدادية، كان جوهر دعوتهم: إقامة مجتمع جديد، قابل للتطور الدائم، يقوم على أسس صحيحة وسليمة من الحضارة المعاصرة! انضم إليهم مثقفون كثيرون، بعضهم شخصيات كانت تصعد سلم الشهرة في مجتمع صغير يسمع دبيب النمل إذا اقترب من كيس التمر: خليل كنه، جميل توما، نوري روفائيل، إبراهيم بيثون، إسماعيل غانم، كثيرون،دون أن تكون بينهم امرأة، راحوا يطرقون بابهم الذي وصفه أحدهم: (باب طبيب الصدر، هبط فجأة في مدينة عشاق محرومين يائسين يعانون جميعهم من السل فلا يجدون ما يتداوون به سوى المزيد من العشق المبرح، والقبلات القاتلة) فراحت حلقتهم تكبر وتوسع معها الأرض التي يقفون عليها، ولم يكن مفاجأة لهم أن يجدوا أنفسهم محاطين بالمعارضين والرافضين لهم يشحذون أقلامهم وأنيابهم عليهم!

هؤلاء اسماهم الأهاليون بحراس المستنقع وهم من فئتين: الأولى أفندية العثمانيين المتقاعدين، وصفوف موظفي الدولة الجدد الممزقين بين تطلعاتهم الوطنية وأنظمة الانتداب البريطاني الخائفة من كل تململ أو حركة ضدها!

والثانية صفوف من عمائم رجال الدين سنة وشيعة يحيطهم رجال بعباءات حريرية مقصبة ومذهبة من الإقطاعيين وشيوخ القبائل والعشائر! وكل هؤلاء كانوا يجدون كتاباً وشعراء فصحى وشعبيين يكتبون لهم محرضين على جماعة الأهالي التي صاروا يسمونها وفق التصنيف العراقي (جماعة : البلشفالي،والشيوعالي والأحمرالي) وأعضاؤها(بستانينوف وابراهيموف وحسينوف وحديدوف وعزيزوف وهكذا،)

وقف البستاني يوماً على شرفة بار الفردوسي وهو بار فقير خلف مقهى المربعة، وقد احتسى جرعات كبيرة من عرق بيتي قوي، التفت إلى حسين جميل الذي يشرب بدلاً من العرق كأسا من خل الطرشي النجفي:

ـ أنظر: هؤلاء استطاعوا صنع خيمة هائلة فوق العراق؛ غابت خلفها شمس الدنيا كلها، وحجبت عن العراقيين كل نسمة هواء تحمل رائحة العالم المتحضر!

أجابه حسين:

ـ بأقلامنا سنثقب هذه الخيمة، وبكل نغزة قلم سنصنع نجمة فيها!

قال البستاني ضاحكاً:

ـ ستكون لنا نجوم فوق بغداد أكثر من نجوم السماء!

قال حسين وهو يزدرد حبات باقلاء مسلوقة:

ـ هذه ليست أحلام مراهقين يا بستاني، هذه وعود رجال!

قرع البستاني كأس العرق، بكأس الخل الذي يقول عنه حسين انه يمنحه نشوة أكثر من العرق الذي جربه فلم يورثه في اليوم التالي سوى الصداع، ولعنات أبيه:

ـ في صحة نجومنا القادمة!

ويسكت جلال العطار، مجيلاً بصره في سماء بغداد بنهم كأنه يريد أن يسكبها في قلبه حتى آخر غيمة شاردة، بعد أن احتجبت عنه وهو داخل قبره سنين طويلة:

ـ عرض علي أكثر من عضو بارز في جماعة الأهالي أن أنتمي لهم، كنت آنذاك اقرب في تفكيري للاشتراكية الماركسية كما فهمتها من الجوال، وكما استقرت في قراءاتي وتأملاتي، كنت آنذاك ما أزال موزعا بين نوازعي الأدبية، وما ألهمني إياه حبي لنورا وضميري من ضرورة العمل المباشر والسريع لتدارك أوضاع العراقيين، جاء اقتراحهم مناسبة للتفكير في مدى اختلاف أفكاري الاشتراكية التي وجدتها أكثر عمقاً عن طروحاتهم الإصلاحية شبه الاشتراكية وكان انطباعي عنها آنذاك أنها بسيطة وساذجة، كنت في البصرة أتسمع وأرقب عن كثب نشاط فهد في تنظيمه الشيوعي هناك، صرت على قناعة أنه يمضي في فكرة الاشتراكية، بل والأخطر قضية إصلاح العراق، أكثر مما يجب، وجماعة الأهالي تمضي بالاشتراكية أقل مما يجب! كنت أتصور إنني أدرك كما الملاح الماهر عمق الماء المطلوب لإبحار سفينة ثقيلة بحجم العراق، لكن هذه القناعة بالطبع اهتزت وتغيرت كما شهدنا في زماننا العاصف فيما بعد! لم ارفض طلبهم، ولم أقبله، وعدتهم أن أفكر، وفعلاً بقيت أفكر مقلباً اقتراحهم عل جمر آلامي المضمرة. تطل علي نورا بجمالها الباهر، ورقتها وثقافتها وحسها الإبداعي لتذكرني بأفق علاقتي بها ومداه، لأجد أن ذلك يحسم علاقتي بالأهالي، إذا نلت نورا زوجة لي سأضع كل جهدي وحياتي لخدمة شعبي في نضالي مع الأهالي. التي صرت اقتنع بها شيئا فشيئاً، لكنني وجدت أن العقبات التي تحول دون اقتراني بنورا كثيرة جداً، وتزداد تضخماً كلما أمعنت في تدقيقها وتأملها بعمق وصراحة مع النفس،وكان هذا أقسى ما يؤرقني، فهو يعني ابتعادي عن أعظم أملين في حياتي: الحب السعيد، والأفق النضالي الصحيح! ومع ذلك لم أيأس، وخيل إلي أن نورا لم تيأس أيضاً، وإن صرت ألمح في نظراتها ووجهها الجميل حزناً، يزداد عمقاً، يوماً بعد آخر! كما لم يمل البستاني ولا عبد الفتاح إبراهيم من توجيه نفس السؤال تقريباً:

ـ متى أيها الماركسي العتيد تنضم لحركتنا بتوقيع واضح من يدك التي تكتب قصص المناضلين على الورق فقط ؟

صار البستاني الأكثر لجاجة يسألني: متى تحسم أمرك معنا لكي تحسم نوار أمرها معك؟ كان يعتقد بتفكيره الثوري الجامح أن قضية الفكر وقضية الحب يمكن حسمها بجلسة شراب واحدة،

لا بسكرات طويلة بشراب ودون شراب، وبصدمة واحدة، لا بصدمات كثيرة بجدران أو دون جدران. كان يهمه فقط إنني الأقرب إلى تفكيره من أنصار الأهالي فأنا مثله مشغول بالهم الاجتماعي، وقضية انتشال الكادحين والفقراء من عذابهم اليومي الطويل، بفكر جذري غير ترقيعي. وهل غير الاشتراكية كما كنا نعتقد آنذاك سفينة منقذة؟ كان يقول: وجودك في الجماعة سيشجع على انحيازها لهذا الطريق. وأقول له: ما زلت أفكر، كان هو يعرف حبي لنورا، ويقدر خوفي وقلقي أني قد لا أستطيع الزواج منها. صار يبدي استعداده لمناقشتي وإبداء النصح في أي أمر يتعلق بذلك قائلاً وهو يضحك، وينفث سيجارته الغليظة في وجهي "حبكما صار قضية وطنية يجب أن نضع ثقلنا الثوري خلفها لتنجح" وكان يلح في أن أكون معهم كل يوم، رغم إنني لم أكن قليل الحضور بينهم، وإنجاز ما أستطيعه من أجلهم!

كان بعض من الحكومة يشعر بخطر الأهالي على مواقعهم فيعاديها، وكانت تغلق وتصادر أعدادها مرات ومرات، وآخرون لا يتنبهوا لخطرها على السلطة، وكانوا يطالبون معاملتها برفق ولين! كان عبد الفتاح هو الأكثر اهتماماً بنقاء الفكر الحر، كان البستاني دائماً يقول عنه لمن يسأله عنه :

ـ هو صائغ الذهب الأمين الأكثر اهتماماً من المشتري بالتوثق أن بضاعته هي ذهب حقا‍ً.

ويمضي البستاني سارداً مواقفه:

ـ عبد الفتاح تصدى للحكومة التي أرادت تقديم الحرية للشعب بالتقسيط بحجة أن عشاقها الظامئين الملهوفين قد يلتهمونها دفعة واحدة، فتصيبهم بالتخمة، فيتقيأونها دماً ويلوثون ملابس علية القوم، وتجرأ على رجال الدين قائلاً (هم يريدون الحرية مائدة طبيخ الصدقات المتعفن محروسة بلحاهم وكروشهم!) وتصدي للقوميين في مقالة: أرادوا حرية الأمة الواحدة الكبيرة التي ينقر نسر المجد عينيها صباح مساء، وتظل ترى مثل زرقاء اليمامة،فينسى المواطن بلاده من أجل بلاد شاسعة لا تحس به. وتصدي للشيوعيين فرآهم: يقدمون الحرية مضروبة مع الروح بالمطرقة، ومقطعة بالمنجل!

كثيرون اعتبروا عبد الفتاح زعيم اللبراليين المصلحين، ونقلوا عنه كلمة مازال الحالمون بالحرية غير الحمراء، يتداولونها(الحرية ببساطة هي أن تسمح لعصير العنب أن يأخذ مجراه ليصير شراباً طهوراً، أو نبيذا مسحوراً، أو خلاً مهجوراً،فقط أن تمنع الأوغاد من إلقاء سمومهم فيه!). كان عبد الفتاح دون الثلاثين، يفيض طاقة وتفاؤلاً وحبوراً، متوسط الطول، إذا أخذ بوجهه الأسمر دقيق الملامح، مع جسمه الرشيق الأقرب للنحول يبدو مثل عاشق منهك بالهم والسهاد في عشق حبيبة يعرف في قرارة نفسه أنه لأسباب كثيرة لن ينالها، ولولا حمرة تعلو وجنيته لعد مصابا بسل المغرمين المفجوعين! يبدو شاباً عادياً لكن التماعة ثابتة في عينيه، توحي بطيف عبقرية ستحتشد قوى كثيرة لضرب طوق العزلة حولها، وإن كل حركته الدائبة حالياً ما هي إلا محاولة يائسة لدرء هذه النهاية المحتمة الفاجعة، وإنه بمسحة الحزن على وجهه يعد نفسه منذ الآن لمنح كل شيء نكهة الوداع الأخير!

لم يتوقف حيدر سليمان عن الحوار معه منذ جلساتهم الحالمة حول تمثال موسليني في بيروت، هما الآن شفيا إلى حد بعيد من جراثيم تماثيل موسيلني وهتلر وستالين، وصارا يتمتعان بصحة وطنية جيدة. أخذ حيدر يكتب في الأهالي عن فلسطين كقضية قومية عربية، مؤجلاً قضيته القومية ككردي حتى إشعار آخر. كان يحب الجدل والنقاش، فكنا ننتحي جانباً من البيت نتحدث في قضايا كثيرة كانت تشغل بالنا جميعاً. رغم سكون الأجواء. كان ثمة وجوم وحزن يخيمان على محياه حين أسأله :

ـ وقضية الكرد، كيف تراها كمفكر شغلتك قضية القوميات؟

ـ رغم اعتزازي بقوميتي ككردي، لكنني أرى أن من الممكن أن تتعايش في العراق كل القوميات والطوائف بسلام، إذا نال كل حقه!

ـ ولكن الكرد قاموا بالانتفاضات المسلحة مطالبين بدولتهم المستقلة؟

ويرد بهدوء:

ـ من حق الكرد طبعاً أن تكون لهم دولتهم الوطنية، ولكن القوميين الكرد وجدوها اليوم فرصتهم للزعامة والارتزاق، سيجنحون لمزيد من التطرف القومي كلما غالى القوميون العرب في شعاراتهم القومية!

كنا كلنا آنذاك نرى أن من حق الكرد أن يكون لهم وطنهم ودولتهم، ولم لا؟ كل شعوب الدنيا لهم أوطانهم الخاصة ودولهم، لكننا نلوذ بالصمت، لأننا آلفنا الكرد وأحببناهم أخوة لنا، وآمنا أكثر مما ينبغي بوطن متعدد القوميات، أو لأن زعماء الكرد القوميين المتعصبين أرادوا أكثر مما يستحقون، وكشروا عن جشع وأطماع؛ فقدموا صورة سيئة عن الكرد، لكنني بقيت مشدوداً لحيدر سليمان، كردي قومي أصيل مؤمن بحق الكرد في الاستقلال، ويقنعنا أكثر بقناعاته، بنفس الوقت وطني يحب العراق لا يريد الانفصال عنه، رغم إن ذلك حق وعدل . يحب العرب ويناضل من أجل فلسطين أيضاً. أدهشني إنني وجدت عزيز شريف العربي يضاهيه أو يفوقه انغماساً في القضية الكردية، ليس فقط لما سمعه من أحاديث محمود الحفيد المنفي في عانه، والذ صار جارهم وصديقهم. بل لقراءاته وحواراته الكثيرة حولها وقدرته على حب الناس وأمله أن يعيشوا في وئام.صارت القضية الكردية تشغلني أيضاً، وصرت أكثر قناعة بحق الكرد بدولتهم المستقلة،ولكنني كنت أخشى عليهم من الزعامات القومية الأنانية الجاهلة والتي لا تملك مشروعا للإصلاح الاجتماعي! في جلسة طويلة لي مع حيدر سليمان قلبنا فيها القضايا التي من المحتمل أن تكون ألغاماً ستنفجر وتحيل العراق شظايا، قال :

ـ القضية الكردية ستكون هي المسألة الأولى التي ستشغل العراق، وستكون فاعلة مؤثرة وربما مدمرة له كلما غفل عنها!

قلت له:

ـ أنت تذكرني بصديقي أحمد الأنصاري الذي كان يقول المسألة الطائفية هي القضية الأولى في العراق!

قال:

ـ البستاني يقول مسألة العدالة الاجتماعية هي القضية الأولى في العراق!

وعبد الفتاح إبراهيم يقول المسألة الثقافية هي القضية الأولى في العراق!

قلت:

ـ كم قضية أولى في هذا العراق الغافل الراكض في البرية مثل حصان جامح، تطارده اسود جائعة!

قال :

ـ لتكثر الأولويات لا يهم، بالعزيمة الصادقة وبمزيد من المحبة نحلها كلها!

كنا آنذاك في زمن التفاؤل!

وكنت أجاريه تفاؤله،الذي هو سمة جماعة الأهالي كلها. كانوا شباباً حالماً مفعماً بالأفكار الباهرة لا يتوقف عن الطموح ولا يعرف اليأس أو السلبية. أعظم مواقفهم كانت هي عدم ذهولهم أو انجرافهم مع الانفعالات والعواطف إزاء الإنجليز، والعهد الجديد، الذي شرعوا ببنائه، كان عبد الفتاح يقول:

ـ لا شك نحن ضد بقاء الإنجليز، ونريد جلاءهم بأسرع وقت، ولكن لا نريد أن يتوقف بناء العراق، ولا بناء أنفسنا، ونؤجل كل شيء حتى خروج أخر جندي!

ويتدخل خليل كنه مسفهاً أقوال أولئك الذين عابوا عليهم أنهم لم يحملوا لواء ثورة العشرين، وراحوا ينادون بشعارات البناء والتحول الديمقراطي بينما الجيش الإنجليزي ما يزال يحتل العراق:

ـ لا تحتاج مواجهة الاستعمار بالسلاح إلى ذكاء أو عبقرية، صار ذلك واضحاً وتقليديا على مر العصور، ما يحتاج للذكاء حقاً هو كيف تدرك وزن قوتك إزاء قوته، وكيف تقاومه ببناء نفسك أولاً حتى لو اقتضى الأمر الاقتراب منه، والاستفادة من خبرته وعلمه وحضارته، وتحويل انتصاره عليك إلى انتصار لك عليه، وعلى نفسك وتخلفك، ولو بعد حين!

(104) لوح لهم بالذهب، وسترى أين تهوي سيوفهم، وكتبهم المقدسة!

أتذكر تلك الأيام لم نعد ننظر بازدراء أو حتى باستياء لأولئك الذين اقتربوا من الإنجليز دون أن يرتموا بأحضانهم، ظل البعض منهم على مسافة معقولة. لا يجد غضاضة في الاستفادة من المنجزات الجيدة والجميلة التي صارت تتحقق بصورة تقارب الأحلام. من كان يتصور أن تكون للعراقيين المستلبين من العثمانيين قرونا، دولة وجيش وكهرباء ودستور ونظام تعليمي حديث ومستشفيات وطرق معبدة، وصحف وإذاعة ومكتبات. كانوا كأنهم جميعا وبشكل ما رفعوا راية العقل والحكمة دون أن يغفلوا أصوات البنادق تأتي بين فترة وأخرى من أماكن نائية تحمل أصوات شيوخ العشائر ورجال الدين، كنا أحياناً نستقوي بها ضد الإنجليز رغم معرفتنا أن من الممكن للإنجليز أن يستقووا بها علينا، فنحن نعرف مدى انتهازية وهشاشة شيوخ العشائر ورجال الدين،يضيف العطار:

ـ لوح لهم بالذهب، وسترى أين تهوي سيوفهم، وكتبهم المقدسة!

ولكن أنسيت يا جلال، كنا نقول أننا آنذاك في محنة، فلم نكن نريد ان نسلم عقولنا وضمائرنا لرجال دين وشيوخ عشائر نعرف محتوى جماجمهم وحقيقة مصالحهم. ولا للإنجليز الذين لو استفردوا بنا لمسحوا بأوراقنا بساطيل جنودهم، حاولنا أن نبقى بين هذين النارين متحدثين عن جنة العقل والعلم، بينما نحن في جحيم الحصار والنبذ!

نعم كانت حقبة مريرة، لكن المثقف أثبت آنذاك جدارة هائلة لا أدري إن كان سيصل إليها في محن أخرى لاحقة! مضى يتحدث متوقفاً فجأة عن الشراب:

ـ كنت أنا أجد عزائي ومستراحي وسندي بنورا، كان وجهها مصباح حياتي، يقودني إليهم ويضعني بينهم ومعهم مهما طرحوا من مهام كبيرة. ولكن آه كم أنا نادم لم أهبهم حياتي كلها، ظل خوفي على نورا، يجعلني لا احسم أمري لألتحق بهم كلياً، ربما كان تعلقي بالاشتراكية الجذرية كحلم هو مجرد عذر لهذا الهروب! وقد ظل هذا الحلم الهائل البعيد هو عذر الكثيرين للهروب من المهمات القريبة الضرورية والممكنة!

رغم حب نورا لي لكنها لم تقبل أن تدخل بيتي. احترمت أنا قراراها وازددت تعلقا بها، فأنا رجل شرقي كما تعرف، وتثير شكوكي، أو لا تحظى باحترامي آنذاك امرأة سهلة المنال!

كنا نلتقي في حدائق أو متنزهات بدأت تقام وتزهو في بغداد، أو في التجوال على شواطئ دجلة أحيانا كثيرة بصحبة والدتها، وأحياناً كثيرة أخرى لوحدنا. كانت والدتها طيبة جداً، وثقت بي، وصارت تتمنى أن أتزوج نورا، رغم إنها كانت تدرك أية مشاكل ستثار في وجهها وابنتها من أقاربهما وربما بعضها تتعلق بأملاكهما واحتمال ادعاء البعض منهم بحقوق مختلقه له فيها، ولو فقط لخلق مشكلات لنا! كنت ونورا أحيانا نستقل عربة يجرها حصان نشيط ونتجول في مساءات بغداد الهادئة الحالمة!

سألتني حين التقيتني قادما من الموت، إن كنت أريد الذهاب إلى الموصل، لكنني جئت إلى بغداد، لماذا؟

الآن أقول لك الموصل مسقط رأسي لكن بغداد مسقط روحي! في قبري كنت أترنم بأغاني ولهجة أهل الموصل، اكتشفت أن الإنسان حين يهبط قبره لا يتحدث إلا بلغة مسقط رأسه عند الولادة، فهذا كل ما تبقى لي بعد الموت من مدينتي القديمة!

كنت أول من ركب أول قطار سار بين بغداد والموصل كان ذلك في صيف 1940، كثير من الموصليين لا يزالون حزانى على مليكهم غازي، وجدوا فيه الزعيم القومي الذي يحميهم من أطماع الأتراك بمدينتهم، وهجمات الناهبين قطاع الطرق من الكرد، ومع ذلك خرجوا يلوحون ويغنون للقطار الذي يربطهم بعاصمتهم الكبرى، ومثوى غازي هناك! ولكنهم بعد فترة لعنوا القطار، فقد صار فجأة وحشاً كبيراً يبتلع أحبتهم ليغيبوا إلى الأبد، يسمعون أنهم هاجروا إلى أمريكا أو كندا،تصلهم منهم رسالة أو حوالة صغيرة ثم يعم الصمت والسكون، ندت عنه ضحكة حزينة قصيرة:

ـ ماذا تبقى لي في الموصل؟ كل الأهل ماتوا، الأحفاد لا يعرفوننا، ومن تبقى من أبنائنا لا يتذكروننا. كل حجر فيها سيجرح قلبي ليذكرني بنورا التي لا أدري تحت أي ثرى تهجع الآن، صرنا عجائز من زمن طويل، ولا أستطيع أن أرى الموصل وقد أضحت عجوزاً مثلي!" العطار، ربما لا يعرف إنه لا يستطيع أن يقنعني بذلك، لكنها كثيرة الحيل التي يرتبها لنفسه ليخفف من وطأة حب نورا في قلبه، هو جاء إلى بغداد لأنها ديار نورا! لم يلبث أن قالها : "لا تصدق من يقول لك أن روح الميت تصعد إلى السماء، أنها تذهب إلى المكان الذي يكون فيه حبه الأول، تظل هناك هائمة تستعيد كل عطر الأرض،روحاً لها! "

ظلت نورا حبه الحقيقي الأول والأخير، ولا يزال بعد الشيخوخة، والموت الطويل،والعودة القصيرة للحياة يبحث عنها، كل النساء اللواتي تهالك في البحث عنهن أو اللواتي التقاهن وعربد أو تبتل معهن يبحث بينهن عن نورا، أو يحاول عبثاً أن يحول واحدة منهن أو كلهن في حزمة واحدة إلى نورا!

(105) شيئاً فشيئاً تسرب الكثير من وسخ الدنيا إلى الينبوع!

في الساعة السادسة وخمسين دقيقة من نهار 21 كانون ثاني 1924 توفي لينين في موسكو إثر نزيف في المخ. في الساعة السادسة وواحد وخمسين دقيقة من نفس اليوم. نزع ستالين قفازه الحريري الذي كان يرتديه، وهو يدير شئون الحزب والدولة في السنتين الأخيرتين من عهد لينين بعد أن أقعده المرض. ارتدى القفاز الفولاذي ذا المخالب الحادة كالسكاكين؛ ليمسك بعنق الدولة السوفييتية، والحركة الشيوعية في العالم! وبينما انبرى خبراء مستعينين بخبرات الفراعنة لتحنيط جثمان لينين لوضعه في حجرة خاصة في الساحة الحمراء؛ فيكون الكعبة التي يتجه صوبها الشيوعيون في صلواتهم، وطقوسهم العقائدية. انهمك ستالين بالعمل على التخلص من كل معارضيه أو منتقديه في اللجنة المركزية للحزب، وقادة الدولة بإعدامهم، أو إرسالهم إلى الأشغال الشاقة في صقيع سيبريا، وبينهم أصدقائه ورفاق دربه ومن ساعدوه للوصول إلى مركزه الحالي! انطلقت من الكرملين برقية على عجل لكافة المبعوثين المبشرين بالشيوعية شعوب العالم وبينهم الرفيق بيتر فاسيلي أن يتجهوا فوراً إلى موسكو؛ لتلقى تعليمات جديدة بصدد مهماتهم الشيوعية الثورية! عاد أبو ناصر إلى اسمه. بطرس فاسيلي. شد الرحال إلى موسكو عبر إيران في طريق صار يعرفه جيداً ويسلكه ليس دون صعوبات. أول صدمة تلقاها هناك، وجد إنه قد أصبح موظف مخابرات، وليس مبعوثاً أممياً. وعقائدياً. عليه الآن أن ينسق مع المخابرات ويحظى بحمايتها. الرجل الذي جلس معه في السابق كمناضل؛ اختفى. حل مكانه رجل مخابرات يدعى سيرجي لافروف. تحدث معه بلهجة آمرة. كان حريصاً أن يشعره بكونه مجرد موظف وجندي؛ عليه أن ينفذ مهمات الدولة السوفييتية:

ـ ما أرسلناك إلى العراق لعزف موسيقى مرحة تحت شرفات الضباط الإنجليز في البصرة؛ ليتبادلوا عليها القبلات والأنخاب مع عشيقاتهم. أنت هناك لتقلق راحة الإمبريالية البريطانية، وتحطم دولتهم في العراق، ووفق مفاهيم عمل خاصة!

سكت برهة متأملاً وجه بيتر (ربما ديمتري اسمه الحزبي أو المخابراتي) الذي علته الدهشة والاستنكار:

ـ مقولة ماركس : (متى ما تلبست الفكرة الجماهير؛ تحولت إلى قوة مادية جبارة) يجب أن تترجم إلى لغتنا، لغة المخابرات: تنظيم تعبوي لتقديم المعلومات، وتنفيذ المهمات السرية حتى لو يسمونها "قذرة". يجب ضبط إيقاع الجماهير من قبلنا، لا خوف من الفرس إذا كانت نشيطة قوية ما دام القياد بأيدينا. يجب البحث عن بشر نحشوهم بالفكرة. كما تحشى الاسطوانات الصغيرة بالبارود؛ فتصير رصاصاً قاتلاً!

فتح بيتر فمه ليقول:

ـ أنا مبعوث أممي، لدي رسالة فكرية وإنسانية!

لم يكن يتصور يوماً أن مهمته ستكون مخابراتية، رسخ في ذهنه، أن مهمته ثورية، وتتمازج أحياناً في وجدانه مع نفحة تبشيرية مسيحية إنسانية. أوقفه لافروف بإشارة فظة من يده. نهض عن مكتبه وراح يدور في حجرته كالنمر. تذكر بيتر نصيحة رفاق وأصدقاء له التقاهم أمس لدى وصوله موسكو: إحذر! الجو تغير بعد أن امسك ستالين برأس الدولة. أطع!،نفذ ثم ناقش، بالأحرى نفذ، ولا تناقش! وإلا! يقطعون رأسك. ينكلون بعائلتك. لست مبعوثاً أممياً بل سوفيتياً ومخابراتياً. من يمنحك الراتب والحماية والتوجيه هو رئيسك! لا تهوم كفراشة على النور فتحترق! لقد تحولت الثورة الشيوعية اليوم إلى سلطة، وكل فكرة أو دين يتحول إلى سلطة يفسد، كالنبيذ أو العسل حين يوضع في آنية أخرى ليست له! قرر بيتر (ديمتري) أن يصمت ويستمع إلى رئيسه رجل المخابرات التعبوي متصنعاً القبول والانصياع. هناك في العراق الذي أحب أهله واستعاد فيه جذوره وتاريخ عائلته؛ ربما يستطيع أن يتصرف بشكل آخر. راح يستمع إليه، وهو يلقي عليه كلمات هي مزيج من مفاهيم فلسفية وبوليسية. رجل المخابرات هذا كان في شبابه ثورياً صاحب فكرة، ولكنه اليوم في سلك المخابرات، وموائدها العامرة بالمال والنساء والفودكا، ودخان غليون ستالين؛ تحول إلى شيء آخر:

ـ لقد سمعت كثيراً عن هؤلاء العراقيين الخارجين من احتلال تركي ديني عتيق داخلين إلى احتلال إنجليزي إمبريالي حديث. يبدو لي إنهم مهابيل أغبياء. لا يجيدون سوى الصراخ من المآذن خمس مرات في اليوم، والركض إلى المراحيض؛ كلما خرج من ثقوبهم التحتية شيء. أدبارهم تعاني من إسهال أبدي، بينما عقولهم تعاني من إمساك أبدي! لا تتعب نفسك معهم، خذهم على قدر عقولهم الصغيرة. ستسمع بعضهم يتحدث عن الشيوعية كمنقذ لهم من بؤسهم. أو أديانهم وتقاليدهم البالية كثياب المتسولين. لا تلتقط من كلامهم ونضالهم وثوراتهم سوى قضيتنا نحن، دع قضاياهم لهم! إذا وجدتهم يجروننا لمأزق، عليك أن تحد من اندفاعهم! عليهم أن يعرفوا أن ميدان الشيوعية؛ ليس مفتوحاً حسب المزاج. يجب أن نمسك بزمام الحصان، لن ننظر لهم أكثر من حراس لثورتنا؛ يقفون على خطوط متقدمة جداً. لن نسمح لهم بجرنا لمعاركهم؛ والتصادم مع العدو الطبقي العالمي من أجلهم. لا ! هذا فوق طاقتنا، وضمن طاقة الغرب، مما يعني هزيمتنا حتماً. ولكن لا ينبغي أن يعرفوا بكل ذلك! الرفيق ستالين كان صائباً وعبقرياً. طبق بإبداع قرار لينين القاضي بعدم تصدير الثورة البلشفية، جعلها تنتصر في روسيا أولاً، منحها الفرصة الكافية لتمتلك قوة المثل الذي يحتذى! جعل الحالمين بها يثورون من أجل أن يطبقوا مثيلها في بلدانهم. ذلك مفيد لنا أكثر مما هو مفيد لهم؛ فهم سيهزمون حتماً. قضيتهم ميئوس منها، لكنهم سيشاغلون أعداءنا وينهكوهم، دون أن يأخذوا السلطة في بلدانهم فيكلفوننا حمايتهم أو الوقوف إلى جانبهم. بذلك نرد إلى نحر المهووس تروتسكي دعوته في تحويل الشيوعية إلى ثورة عالمية دائمة. تذكر إنك في هذه البلدان تصنع ركائز أعمدة سياج كوني للثورة السوفييتية. فقط لا غير. نعم عليك يا بيتر أن تعي هذه الحقيقة! كررها على نفسك كل يوم! قل لهؤلاء الشيوعيين المساكين :إننا معكم! ثوروا على أعداءكم الطبقيين، اهدموا دولتكم صنيعة الإنجليز، لكن عليكم دائماً أن تعرفوا أين يجب أن تقفوا. وإذا لم يتوقفوا، يجب أن توقفهم؛ حتى لو تعاونت مع أعدائهم! سكت لافروف برهة. أشعل سيجارة، نظر من النافذة كأنه يستمد من العلم الأحمر المرفرف قبالته والمحتضن في قلبه المطرقة والمنجل؛ شحنة جديدة، قال نافثاً سحابة من دخان ثقيل:

ـ احفظ قانوننا للثورة العالمية! عن ظهر قلب(ما نريده: نشاطات شيوعية مصممة ومحفوظة بالحدود التي يحتاجها رفيقنا العظيم ستالين لبناء دولتنا، وحمايتها حتى تتمكن من بسط سيطرتها على العالم كله، وفي الوقت والحجم الذي يريده هو وحده، لا أحد غيره)

تذكر! لا نريدها ثورة شيوعية، تجعل منا مدراء ملجأ أيتام لقادة الأحزاب الشيوعية في البلدان الفقيرة المتخلفة. نريد فقط لعبة ألغام بوجه الإمبريالية. بالونات اختبار، وبحدود لسع الجلد الإنجليزي البارد السميك؛ ليتراجع ويستجيب دون أن يهيج ويثير المتاعب بوجه دولتنا الشيوعية الفتية، أو يحطم القوارير الدبلوماسية بيننا! سكت برهة. وجه لبطرس السؤال بلهجة مؤنبة زاجرة:

ـ حتى الآن لم تجد رجلنا في العراق؟ ماذا تنتظر؟ هذا تقصير واضح!

راح ينظر إليه بشك وامتعاض، قال بيتر:

ـ ما زلت أبحث بعناية، لا أريد ان أجازف؛ وأضع حملنا، ورهاننا على حصان هزيل خاسر.

راح يشرح له وضع المتعاطفيين مع الماركسية، والشيوعية في العراق، قاطعه:

ـ تستطيع ان تغريهم بالمال. رغم تقشفنا، نستطيع ان ندفع لهم بالجنيه الإنجليزي، أو بالليرات الذهبية العثمانية!

ـ هؤلاء العراقيون حساسون إزاء هكذا أمور. هم منذ الآن يرفعون الإيمان بالفكرة الشيوعية إلى مرتبة الإيمان الديني، وما يقتضي من طهارة!

(106) أربعة أسماء لبطرس، واسم واحد له بين فلاحي الجنوب وفقرائهم: ملا سروال!

عاد بطرس فاسيلي إلى البصرة استرد اسمه (أبو ناصر) ثانية. لا يزال واجماً، يلوح له وجه لافروف وهو يدور كالنمر في الحجرة، يصر على أسنانه ولغديه الأحمرين المتورمين من الدهون أسفل حنكه، بينما يتحدث كالآخرين في موسكو عن ضرورة التقشف وتقنين الاستهلاك وشد الأحزمة على البطون! الثورة الشيوعية تنهض من خرائب الحرب الأهلية التي أشعلها المنشفيك والبرجوازيون كما يقولون، وما تزال لا تستطيع ان تقدم حتى الخبز والجزر والبطاطا للجميع! وتلوح له عيناه الجاحظتان وهو يحمله وصاياه السوفييتية ملفوفة بشعارات شيوعية وإنسانية ثورية. كم كان قاس القلب. يحملني خطة شريرة لتدمير هذه البلاد بيد أبنائها الذين يريدون تطويرها، وبنائها من جديد! إذا كان نضال هؤلاء الشيوعيون المساكين سينتهي إلى مجرد لعبة سياسة سوفيتية عابرة، رصاصة رحمة لقلوبهم المعذبة، حشو غليون للرفيق ستالين، لماذا نورطهم معنا بحزب شيوعي سيموت ويتعذب من أجله الآلاف والآلاف، وربما ينحرف مستقبل بلدهم به نحو الهاوية؟ راحت تتقلب عليه مناظر الطريق ومشاهد الحياة اليومية، السفن الشراعية الرشيقة قادمة من أعماق الخليج العربي تمخر الشط العريض،مشارف غابات النخيل في البصرة. لا يزال الحلم الشيوعي يلوح له جميلاً، أفلح في إزاحة ظل رجل المخابرات التعبوي في موسكو عن ناظريه ووجدانه، واتخذ موقفاً متوازناً: أن يعمل على تحقيق نهضة وعي ثوري جديدة في العراق يمكن أن تتطور في موعد لا حق، لا يعرف ميعاده إلى ثورة شيوعية! هذا مرهون بميعاد إنجاز الشيوعية في الاتحاد السوفييتي. لنقل أن القضية ستكون: حين يكتمل بناء الشيوعية في الاتحاد السوفييتي؛ تبدأ الثورة الشيوعية في العراق، ولكن متى يتحقق هذا؟. بعد مائة سنة؟ ألف؟ اكثر؟ أقل؟ لا أدري، ما أعلمه أن تحقيق الشيوعية يقتضي أولاً تغيير الإنسان. كنت قد سمعت من مفكر روسي قديم جملة: من السهل تغيير الجبال، وتحويل الأنهار، ولكن من الصعب جدا تغيير الإنسان. إنه أصلب كائن في الوجود،بل أصلب من الفولاذ. من السهل أن يتغير نحو الأسوأ، الأصعب أن يتغير نحو الأحسن! والشيوعية تقتضي مجتمعاً من الملائكة. رجال ونساء أجسادهم حزم من نور وعطر. أناس يعملون وفق قانون سماوي لا ديني ولا أرضي: يعطون كل حسب قدرته، ويأخذون كل حسب حاجته. بالتأكيد إن سيرجي لافروف ليس أحدهم، والرفيق ستالين؟ ارتعش قلب بطرس، لا!، إنه القائد العظيم، ولكن ما صرت أعرفه أن الملائكة قلة، حتى في حزبنا الشيوعي السوفييتي، فقد صارت تظهر للكثيرين كروش ورقاب غليظة وضمائر ميتة؛ مختنقة بدمها الشهواني، من أين نأتي بالملائكة؟ أن نزج العراقيين بهكذا موعد بعيد يعني هو ما يقوله لافروف: ثورة وقلاقل واضطرابات وهدم الدولة في العراق من أجل بناء الاتحاد السوفييتي أولاً ؟ هذا صحيح، ولكنه سيكون عندي بنية حسنة، ولدى لافروف بنية خبيثة، وماذا يجدي ذلك؟ النتيجة واحدة! لا! هناك فرق: لافروف يقول لن نسمح لهذا النضال أن يتطور لأكثر من فتح ثغرة للتمدد السوفييتي هناك. وللدفاع عن دولتنا، أنا أقول ينبغي أن نحقق له أسساً تجعل من الممكن أن يتطور لما فيه خير العراقيين، ثمة فرق كبير. لن أخون أخوتي في هذه الأرض، لن أخون الإنسان. سأنقل إليهم الفكرة كم أراها ولن أعطيهم نصيحة ضارة، لن أترجم مقولة ماركس إلى لغة المخابرات: الفكرة تساوي خلية تجسسية أو حتى دعائية. لا. الفكرة تنظيم ثوري فعال وبناء حر، وبإرادة أهله، فعلاً فكرة الثورة هنا غير ناضجة، هذا ما سيجعلني الآن ومؤقتاً، على وفاق مع لافروف! استطاع بطرس التوفيق بين ضميره ومهمته، بين فكرته وأوامر رجل المخابرات. صار الآن بمزاج جديد، يجهد لإرضاء مسئوله في موسكو، وضميره معاً، صار يحس شيئاً فشيئاً بجذوره الآشورية تعود لتمتد في هذه الأرض، عاد يشعر أنها أمه ولن يخونها. ولكن الأمر لن يقف عنده. الخطر الأكبر هي كيف تفكر موسكو. إذا مت أو عزلت سيفعلون ما قرروه. هل أستطيع أن أتوقف عن أداء هذه المهمة الخطيرة؟ عدم دس البذرة الخطرة الغامضة في هذه التربة الخصبة. ولكنهم سيرسلون غيري على الفور، وسيدس معها بذور سموم مصائب أخرى كثيرة. الأفضل ان أبقى. عليَ أن أحفف من نواياهم وغلوائهم. أفهم العراقيين بشكل ما، أن "ناضلوا مع رفاق أمميين، ولكن لتكن الكلمة في النهاية كلمتكم!" كوني آشوري لا يمنعني من الدعوة بين العراقيين؛ ليصهروا أنفسهم في سبيكة ذهبية واحدة. تلك مزية أممية بالتأكيد لا تروق للافروف. أخذ يزيد من نشاطه، قام بزيارات إلى الفلاحين في قرى المنتفك وكسب صداقات كثيرة بينهم، صار لا يستقر في مدينة أو مكان.

صرت أرجع إلى مذكراته التي كتبها بحنين جارف، وقلق واضح، كأنه غير مطمئن إلى خلاص رقبته من مقصلة ستالين بعد ان كشف ولو في نطاق الهمس ألاعيبه في قلب العمل الأممي إلى نشاط مخابراتي لصالح سلطته الغاشمة. استعنت بها في ترميم ذاكرتي، وما تبقى فيها من أصداء أحاديثه معي أيام كنا شابين حالمين نسمر في حانة الصيادين، والحانة الأخرى قبالة ساحة أم البروم في البصرة. ومرة في ملهى الفنار حيث كانت جليستنا راقصة هندية! كان يمضى على صهوة حصانه متجهاً إلى قرى وبلدات حول البصرة مكتنزة بخيرات ومفاتن كثيرة، تحيطها وجوه جائعة شاحبة حزينة، سالكاً الطرق الملتوية غير المطروقة، تجعله يطل على الضفاف؛ ليرى السمك الوفير يتقافز في الماء المتدفق بغزارة على الشواطئ، يتيه في حقول الفلاحين البعيدة، وقد صار كثير منهم أصدقائه، يحتفون به بحكم عاداتهم في إكرام الضيف، متوغلاً صعوداً حيث الأهوار تنبسط كسماء هبطت بجناتها على الأرض! هكذا يصفها في مذكراته، يحل على ضفافهم المتشعبة المكتظة بالقصب والطيور الوافدة والآبدة، تلاعبها أفاعي الماء والجاموس والكلاب الرشيقة. يحل بين رجال سمر نحيلين، ونساء سمراوات ذوات عيون واسعة مكحلة في وضح النهار بدهان من ظلام الليل! ينزلونه في بيوتهم المصنوعة من القصب طافية على الماء، أو يقدمون له طعامهم البسيط. السمك المداف بطحين الرز العنبر متبلاًً برائحة النار، يدعونه "الطابك"، ولحوم طيور الخضيري الدسمة مشوية يقدمونها على أرغفة الخبز الخارج لتوه من التنور. طعام شهي لم يذق مثله من قبل. كان يحمل لهم بعض الملابس، يخيطها لهم من بقايا أقمشة رخيصة، صار همه أن يقدم لأطفالهم ما يكسو جلودهم العارية المثقبة من لسع البعوض، وأسراب الذباب. وجد أن معظمهم رجالاً ونساء ليست لديهم سراويل، جلب لهم سراويل خاطها بنفسه، واشتراها جاهزة، ولكثرة تأكيده عليهم بلبس سراويله صاروا يسمونه "ملا سروال"!. حصل على اسم آخر! كان يتأمل بهدوء طيبتهم وعفويتهم، يستمتع بغنائهم الشجي وأصواتهم القوية العميقة.لا أنسى مقطعاً له في مذكراته "أستغرق معهم، وهم يسحنون اللغة " كما يدقون قهوتهم بالهاون" ليصلوا أدق مفرداتها غير المتوقعة، ويولدوا منها في أغانيهم معاني وصوراً ترتعش لها أرواحهم وتسيل لها دموعهم، ويستعصي عليَ فهمها؛ فيتولون شرحها لي ضاحكين من لكنتي، دون أن تثير ريبتهم، وأفكر أية فواجع تكمن وراء وجوههم المبتسمة، وغنائهم الحزين؟ مرة سألت أحدهم عن سبب حزنه، كان الشاب قد عاد لتوه من موكب بكاء ولطم في كربلاء، فقال إنه حزين لمقتل الحسين، لكنني أراه يبكي حياته القاسية، حبه الخائب، وأحلامه المحطمة. هم يتجمعون في كربلاء ليكونوا من دموعهم بحيرة يستحمون بها خلاصاً من مآسيهم، وآثامهم الخاصة!" كتبت ذلك في رسالة إلى موسكو، ولكن هل سيفهمها لافروف؟ وهو الذي يلح علي "اكتب لنا عن أحوال الناس في تلك البقاع، عاداتهم ظروفهم وأمزجتهم، تعرف عليهم جيداً لنعرف مداخلنا إلى نفوسهم، عند تحريكهم ضد أعدائنا البريطانيين الإمبرياليين" كان أبو ناصر يتألم وهو يرى هؤلاء الناس في الربع الأول من القرن العشرين يكدحون ليل نهار، عرايا تقريباً، تحت لهيب الصيف، وزمهرير الشتاء، تنهشهم البلهارزيا وملاريا المستنقعات. يزرعون الشلب والحنطة، ويكونون من حباتها تلالاً عالية فضية، وذهبية، لكنهم يظلون جوعى، فهي ليست لهم، إنها للإقطاعي مالك هذه الأرض الواسعة التي تصل ملكية الشخص الواحد فيها ما يكفي لإقامة دولة. والإقطاعي هو ملك وأمير يمتلكهم كما يمتلك خيوله وماشيته، له عليهم سلطة مطلقة! الحكومة لا تستطيع منعه من قتل فلاح أو انتزاع زوجته، أو ابنته منه! لا يظهر إلا في مواسم الحصاد وجني المحاصيل، أو حين يأتي بحثاً عن فتاة جميلة مطمورة بأسمالها تكدح في الحقل ليتخذها خادمة، أو عشيقة له، وإذا فتح أبوها أو أخوها فمه بكلمه؛ ألقمه رصاصة! لم يكن تعامل وكلاء الإقطاعيين السراكيل مع الفلاحين أقل قسوة وفظاظة! هم يحاسبونهم على كل صغيرة وكبيرة، يمتصون آخر خلية في أجسادهم،ثمة حلف بينهم وبن رجال الدين الذين يأتون لأخذ ما أبقاه لهم الأقطاعيون،أو ما يسمونه الخمس، يعتبرونه حقهم وفق مذهبهم، ولا يكتفون به. فهذا الخروف، وتلك الدجاجات وبيضها، وكيس الرز، وصفيحة السمن سنأخذها ضماناً لشفاعة الإمام عند باب الجنة! وإذا لمح فتاة حسناء يطيل مقامه ويعقد عليها زوجة، أو محظية بعقد متعة فقط! أموال كثيرة يحملها رجل الدين بمسوحه السوداء، ولقبه الذي يدعي نسبته للرسول، تنتزع من لقمة أطفال الفلاحين لتتكدس في خزائن وبيوت مراجعهم في النجف وكربلاء. لا أحد يرى شيئاً منها بعد ذلك، فلم يسمع عن أحد منهم أنه بنى مدرسة، أو مستشفى، أو دار للعجزة أو قدم عوناً لفقير أو أرملة أو مقعد! كان بطرس يهز رأسه حزيناً مما يرى ويسمع،رغم إنه شهد وسمع عما عاشته روسيا في عصر القنانة. كانت الثورة الشيوعية قد كنست كل ذلك. هل ستحدث هنا ثورة شيوعية تكنس هذه المآسي؟ ما سمعه من لا فروف، وما يلمسه من تحجر هنا يجعله يرى أن هذه الثورة بعيدة المنال. ومع ذلك يزداد قناعة بضرورة تأسيس حزب شيوعي. عل الحصان لا يخسر السباق! كان يمرر فكرته بدهاء إلى من يتوسم فيهم قدرة أو استعداداً لاعتنقاها، والنضال من أجلها! يقول لأحدهم لقد اصدر المرجع الديني الكبير تقي الدين الشيرزاي فتوى يقول فيها يجب اعتبار البلاشفة "أصدقاء المسلمين"! أما سمعتم بذلك؟ وحين يهز هؤلاء المستوحشون المعزولون رؤوسهم بالنفي؛ يعود ليشرح لهم معنى البلشفية، ومن هم البلاشفة، يخرج من عليجته كتيباً طبع في حلب اسمه "مبادئ البلشفية: فحواها ومسراها" قائلاً : هذا الكتاب الآن متداول في العتبات المقدسة بالنجف وكربلاء والكاظمية. ويأخذ يقرأ ويشرح لهم فقرات منه: أتعرفون ان كتاب نهج البلاغة للإمام علي ابن ابي طالب، فيه كل بذور الشيوعية؟ أتعرفون لماذا استشهد الحسين؟ ويضحك أحدهم: لا تقل من أجل البلاشفة! وينبري ابو ناصر: بل من أجل نفس أهداف البلاشفة: العدل، والحق ورفع الظلم. هذه الأرض التي تكدحون بها؛ يحب أن تكون لكم، لا للإقطاعين ودعاتهم من رجال الدين الجشعين!كان لكي يستعديهم عليهم يقول أنهم يأخذون لقمة عيشكم دون علم من المراجع الكبار، ومخالفة لتعاليم الإمام علي!

(107) كتب إلى لافروف الكثير، ولكن هل هذا السكير يقرأ؟

كتب أبو ناصر في رسالة طويلة إلى لافروف: من السهل أن يصير الشيعي شيوعياً، وذلك لشدة إحساسه بالظلم، ولكن من السهل جداً عودته إلى شيعيته، وسرعان ما يعود يبكي لسماعه صوت رجل الدين الذي يخدعه ويظلمه أيضاً، فيلعن معه الشيوعية. تحدث في مذكراته إنه مرة كسب عدة أشخاص في قرية إلى الشيوعية. ثم بعد فترة زارهم، فطردوه، عرف أن أحد أحفاد رسول الله كما قالوا قد زارهم؛ فأعادهم إلى صوابهم.أخذوا يصرخون بوجه الملا سروال: كيف تقول أن الحسين كان شيوعياً؟ كادوا يقتلونه، لولا أن انبرى آخرون لحمايته. ومع ذلك ظل مشدوداً لهم، يجد دائما طريقة للوصول إليهم، وكسب ودهم. كانت ابتسامته تزداد اتساعاً كلما اكفهرت الظروف في وجهه! كتب في صفحة مؤثرة من مذكراته: " كنت أرى وجوه صبيانهم وبناتهم الصغيرة، تطفح بالنباهة والذكاء، تحت طبقات من الذباب والبعوض، يحوم عليها، لا تكسوا أجسامهم سوى أسمال وسخة، فأسأل نفسي: متى تصل المدارس إلى هؤلاء، فيتعلمون ويقرأون ويعون ويعرفون من يستغلهم يسرقهم ويضطهدهم، يقتنعون بالشيوعية ويدخلون فيها أفواجاً؟ ولكن الإنجليز والحكم الجديد الذي أقاموه فتحوا مدارس ودعوا الناس لإرسال أبنائهم إليها. أصيب الإقطاعيون هنا بالرعب، تعالت صيحات إقطاعيين وسراكيل: إذا صار أبناء الفلاحين معلمين وأطباء ومحامين ومهندسين وضباط في الجيش، من سيبقى يعمل في أرضنا؟ كيف سيخضع الفلاح لنا ويطيعنا؛ إذا صار ابنه ضابطاً في الجيش، أو موظفاً لدى الحكومة؟ هرعوا إلى مراجعهم الكبار في النجف، وجدوهم لا يقلون عنهم فزعاً وخوفاً، فهم يتوقعون ان التعليم الجديد سيخرج أبناء الطائفة عن طاعتهم، سيذيب الطائفة كلها في المجتمع الجديد، على من ينصبون عروشهم ومنابرهم؟ وكيف يملأون خزائنهم؟ فأصدروا فتاوى تحرم ذهاب أبناء وبنات الفلاحين للمدارس، أوكلوا للإقطاعيين والسراكيل مراقبة وتنفيذ الفتاوى بما لديهم من بنادق وسياط وهراوات، وكلاب مسعورة. لكن رجال الدين هؤلاء سمحوا لأبنائهم بالذهاب إلى المدارس؛ بل أرسلوهم في بعثات لبلاد الإنجليز وغيرهم؛ بحجة أنهم يستطيعون مراقبة أبناءهم، وإبقاءهم على ولائهم للأئمة الأطهار! أصدروا فتوى أخرى: لا يجوز لأتباعهم أن ينخرطوا في وظائف الحكومة أو الجيش والشرطة، ولا يشاركوا في انتخابات، بهذه يضربون طيوراً عديدة بخرطوشة واحدة، ألا يتجبر أتباعهم عليهم، ويرموا باللائمة فيما بعد على عدم إشراكهم في الحكم على الطائفة الأخرى! لكي تبقى أبناء الطائفة ملتفين حولك، أحطها بسور من العزلة، حول محيطها إلى أحياء مغلقة، خوفها بالطائفة الأخرى، اجعلها في حالة عداء وتوتر مع عدو تلطخ بيديك وجهه بالدم والأوساخ كل يوم. بهذا تبقى الحاكم السعيد الآمن، وتبقى الأبقار تدر لبنها في آنيتك، والدجاجات تبيض ذهباً وفضة في سلتك، وكل شيء لك!". كان يسأل نفسه كلما كتب شيئاً هل سيقرأه لافروف؟ هل يعرف كم تعبت وتحملت من أخطار لأصل إلى هذه الحقائق؟ ويروح يتأمل ما يحدث أمامه بهذه الأرياف الغنية الشاسعة، أشياء كهذه حدثت أيضاً في روسيا، ولكن ليس بهذه الفظاعة. يبدو أن رجال الدين هنا، أذكى وأخبث من رجال الدين في روسيا أيام القيصر! كان أثناء عودته من رحلاته المنهكة والممتعة والمفيدة، يفكر بما سيكتبه إلى موسكو، ويرى أن عليه أن يقوم بزيارات لأرياف غرب العراق، وشماله، لكن أصدقاءه، نصحوه أن الأمر قد يكلفه حياته! مع ذلك، ظل دائم التنقل بين البصرة وبغداد وديالى، ومدن أخرى، حتى سماه أحد الجواسيس في تقرير سري عنه للإنجليز، استطاع أن يحصل عليه ويثبته في مذكراته(هو البرغوث الثوري الملعون، الرجل الذي تشتعل الثورة في دبره ورأسه معاً، إنه مثير للقلق ويجب مراقبته وحتى اعتقاله لكي يعترف على المتذمرين والناقمين والمخابيل الذين يعتقدون أن السوفييت سيصنعون لهم دولة شيوعية!) كان يختار أصدقاءه من بين أعضاء الحزب الوطني الذي يناصب الإنجليز عداءً ثابتاً ويصر على خروجهم. كانوا يرفعون شعاراً مقتبساً من الحزب الوطني في مصر: (الاستقلال التام، أو الموت الزؤام). "هذا يتلاءم مع مخططنا، هذه المرة يبدو لي حديث لافروف معقولاً: نحث العراقيين على طرد الإنجليز، تنظيف شواطئ الخليج منهم، ثم نحن والعراقيون على موعد وحديث آخر. إذا وجدت من المناسب والمفيد أن يكون الشيوعيون العراقيون هم اللاعبون الأساسيون الحاكمون؛ سأجهد لإقناع قادتنا في موسكو بالتضحية من أجلهم ومنحهم غطاء وحماية، والخروج على مبدأ حصر الثورة في بلاد السوفييت!" صار في كل يوم يقنع نفسه بحكاية! جذب لفكرته أعضاء في الحزب الوطني: كانوا كادحين وفقراء متعلمين وغير متعلمين، بينهم معلمون وموظفون. صار كأنه اقتسم مع جعفر أبي التمن قاعدته في هذه المناطق. لجعفر إعجاب الناس بوطنيته العاطفية الملتهبة، وعمامته، وجبته القشيبتين. ولأبي ناصر، ملا سروال، شعارات المطالب الكبيرة، والمناقشات المتأنية. ظل يقدم فكرته لبعض هؤلاء، وقد التفوا حوله، أو التف حولهم، مخففة مذابة بماء الفرات الحلو مرة، وماء الخليج المالح مرة أخرى. كان يردد في نفسه: هنا أمعاء الناس تعمل أفضل من عقولهم، اعتاد الناس هنا لبن الجواميس كاملة الدسم، لكنهم لم يتعودوا الأفكار كاملة الدسم، لذا لابد من التدرج في إدخالها عقولهم دون أن تصيبهم بعسر هضم، أو إسهال قد يصير دموياً! ها أنا قد كتبت للافروف الكثير عن خصال وأفكار الناس هنا، ولكن هل هذا السكير المولع بالكافيار الأصفر وأنواع الكحول يقرأ أو يكتب؟ مضى يقدم فكرته للناس هنا غير مكتملة وعلى أقساط ودفعات. لم يجد فيهم من تتمثل به المواصفات التي يريدها ليكون محورهم وقائدهم جميعاً، فيعطيه الفكرة كاملة الدسم مع الوصفة السرية السحرية لطبخها؛ فتكون طعام الناس الشهي. ولا يكون الناس هم الطعام الشهي للفكرة؛ بحجة إن الثورة تتطلب الكثير من الدم البشري! كان دائما يردد لنفسه: فكرتنا شرهة شرسة، إما أن يأكلها الناس فيشبعون، أو أن تأكلهم بوحشية ولا تشبع، وتظل تريد المزيد! ظلت عيناه تبحثان في الأفق، هنا وهناك عن الرجل المنتظر الذي سيكون قائد الفكرة، وباني حزبها المنفذ الحقيقي، والمطيع لنا، حسب قول لافروف (حزب بمواصفات عملية، ثورية بعض الشيء، لا بأس أن تكون تجارية أيضاً مادام المطلوب منذ البدء ثورة ناقصة للاستعمال الخارجي، ثورة بمواصفات حاجة تكتيكية لدولة أخرى! وعاد يقول: نحن مستعدون للدفع بالليرات الذهبية)!

بينما كان أبو ناصر يحتسي الكأس الأول، في مساء صيفي جميل هبت فيه نسمات غير مشبعة بالرطوبة، دخل عليه رجل؛ عرفه على الفور. إنه الجابري. الرجل الذي التقاه وهو يعبر إلى العراق لأول مرة. وأقام عنده في القرنة، وأزمع أن يجعله معتمده للشيوعية في العراق، يبدو اليوم من مظهره إنه غني. لم يبق متردداً بين التجارة والنضال والكتب، حسم أمره، أخذته التجارة ودنانيرها الذهبية، وما أتت به من نعم وكالعادة، نساء وخمور وملاه، ونسى بطرس وكتبه الحجرية والورقية. لم يعرف الرجل بطرس إلا بعد ان حدق بوجهه، فهو لم يكن يقصده. كان يريد أن يخيط بدلة فاخرة؛ فدله أحدهم على هذا الدكان، تقدم نحوه بطرس معانقاً مبادراً بالحديث؛ لكي يقطع أية تكهنات أو تداعيات في تفكيره قد تكشفه، بادر إلى القول:

ـ كم كنت حكيماً يا عبد الحسين لا تفيدنا الأحلام والخيالات، العمل والتجارة أفضل.

رد، ليس دون شكوك:

ـ سمعت الروس ميتين من الجوع، دير بالك على نفسك ورزقك.

ـ نعم. أشكرك .

تناول الشريط وأخذ يقيس له، كم سمن عن ذي قبل! عندما رآه لأول مرة، كان نحيفاً. بدوياً قادماً من صحراء قاحلة. الآن هو بضعف جسمه السابق. ولكن هل سمن العراقيون؛ أم هزلت أجسامهم بعد دخول الإنجليز؟ ما يعرفه إنهم صاروا يأكلون أفضل قليلاً عما كانوا عليه في العهد العثماني. بدا له الرجل منطفئاً، ليس كما رآه متأججاً متعطشاً للحديث والأفكار وبعينين براقتين. هل كبر جسمه، وصغر عقله؟ ما أراد أن يدخل معه في أي نقاش، فلهؤلاء الأغنياء الجدد ارتباطات بالإنجليز والسلطة. دعاه الرجل بلهجة لا تنم عن الجد بل عن التباهي:

ــ يسعدني ان تزورني في بيتي، إنه كبير، بنيته قبل سنة على العشار!

شكره أبو ناصر، وغير الحديث معه. تحاشى ان يدعوه لكأس من الشراب في دكانه أو حانة. لكنه عرض عليه أن لا يتقاضى منه شيئاً: فضلك كبير علي! رفض الرجل، فراعاه بالسعر كثيراً، حدد له موعداً قريباً ليسلم بدلته. عرف من حديثه إنه الآن تاجر كبير، يستورد ويصدر كل شيء يعرض عليه، عجب أبو ناصر من نفسه، كيف خطر له آنذاك أن يجعله قائداً للشيوعيين؟

(108) حيرة أبو ناصر بين مناضل يكتنفه فساد وانحلال، ومناضل له ماض مشبوه!

"طال ترحالي بين الوجوه، والعقول، بحثا عن رسول شيوعي، أو سوفيتي ولافروف يستحثني، ويقرعني برسائله المشفرة" قالها وهو في محله وحيداً وقد لفته وحشة الغروب. بعد يومين وبالضبط مع ساعات الصباح الأولى وصلته رسالة طويلة من لافروف بيد شاب شيوعي من إيران. كانت رسالة متفجرة. ساخرة قاسية شديدة اللهجة: " ها قد مرت عليك عشر سنوات يا فاسيلي وأنت في البصرة، ولم تصنع لدولتنا الركيزة الشيوعية المطلوبة. لا ندري ماذا كنت تفعل؟ وكيف قضيت هذا الوقت الطويل دون نتيجة؟ هل دخلت الإسلام؟ وتزوجت أربع نساء مع رهط من الغلمان؟ هل صرت من هؤلاء المعتوهين، تدور راكضا بين المرحاض والمسجد خمس مرات في اليوم، حابساً الغازات في بطنك لكي لا تنفثها فيغضب عليك الله؛ ويصرعك؟ أم تراك لا زلت غارقا في هذا الذي يسمونه العرق، وقد بلد ذهنك فأفقدك ثوريتك، وشيوعيتك؟ أم استطاع الإنجليز كسبك صديقاً لهم بعد أن رحت كما سمعنا، تخيط لضباطهم وزوجاتهم بدلات على موضات المجلات الإنجليزية البرجوازية، أخذنا الآن نرقبك عن كثب. نمهلك ستة اشهر أخيرة لإنجاز مهمتك، والعودة للتداول. طوى الورقة. قال في نفسه اخطر ما في الرسالة؛ كلمة واحدة، هي الأخيرة، "للتداول"، فهذه تعني، هيئة تحقيق تضم حزبين وضباطاً من شعبتنا. والنتيجة معروفة فحملة الإعدامات والإرسال للأعمال الشاقة في سيبيريا آخذة في الاتساع الآن؛ وبإشراف مباشر من ستالين. هذا لم يعد خافيا عليه. ثمة رسائل أخرى تصله، وإن بشكل متباعد من زوجته ورفاق وأصدقاء في موسكو. استلقى على سريره محاولاً الاسترخاء، لكن رسالة أخرى وصلت هذه المرة إلى رأسه، ليس من مكان بعيد، من مكان قريب، من قلبه، ورسائل القلب لا تخطئ. حقا كيف مرت هذه السنوات الكثيرة، وأنا بعيد عن زوجتي وولدي وابنتي الاثنتين، لقد كبروا، لم أغمرهم بحناني ورعايتي. حين وافقت زوجتي الشيوعية على سفري البعيد والطويل؛ كانت تأمل أنها بهذه التضحية تقدم معي خدمة لحزبنا ودولتنا،وللشيوعية حلم البشرية جمعاء! لكنني لم أحقق شيئاً من هذا إلى الآن، رسائلها المقتضبة الأخيرة تنم عن سأم وعدم رضا، وتسأل حتى متى أنتظر؟ لا بد أنها الآن صارت لديها علاقاتها الخاصة، ربما لديها الآن عشيق، أو صديق، لا ينبغي ان أكون ظالماً،أرتضي لها الحرمان، وأبيح لنفسي تخمة المتع التي قطفتها في ملاهي ومواخير البصرة. لكنها ستكون صدمة لي إذا قررت هجري نهائياً، والزواج، فيكون لأبنائي أب آخر. ماذا فعلت بنفسي؟ أهي ورطة لي وللآخرين معي هنا أيضاً؟ لا أدري، هي ضرائب النضال على أي حال. هم لا يعلمون كم أعاني وأجهد نفسي لكي أحقق هذه المهمة الخطيرة الصعبة! ما أن طوى الرسالتين كل في مكانه، حنى تحول من فاسيلي إلى "أبو ناصر" .صار حتى هو نفسه يشكك في ذلك الجهد المضني الذي بذله وهو يبحث عن المبشر المحلي لفكرته أو ركيزة السوفييت في هذه البلاد كما يريد لافروف. كان يتوقف دائماً عند يوسف سلمان "فهد". كانت تعجبه تقاريره التي تنشرها جريدة الحزب الوطني. كان يظهر منها ميله للكادحين والفقراء ويبدو وكأنه يدعو لفكرة جديدة جذرية للتغير. وتجذبه شخصيته الهادئة المهذبة. لكنه كلما هم بمفاتحته بمشروعه الكبير يوقفه شيئان خطيران يبرزان أمامه كسورين، أحدهما يحيط بالآخر. فهو يعرف ان يوسف يعمل مع الإنجليز "رحلته إلى بلاد الشام في محاولة الوصول إلى موسكو لم تخف علينا، ألم نفسرها في حينها إنه مرسل من قبل الإنجليز لاختراقنا، كيف نأتمنه اليوم؟ كيف نضع بين يديه مشروعنا الشيوعي؟ ماذا سيقول سيرجي لا فروف؟ والمانع الآخر، إنه مسيحي؛ بينما المفضل أن يتولى قيادة هكذا تنظيم؛ رجل عربي مسلم؛ لكي يكسب ثقة الأكثرية في هذه البلاد". لكنه لم يستبعده، أبقاه ضمن بصره. راح يستعيد ما عرفه عن حركة الجوال ومن برز منها وأعقبها من شخصيات ظهرت في بغداد وتحدثوا عنهم انهم ماركسيون أو يدعون للشيوعية. تذكر إنه بحث واستقصى عنهم، وجدهم مجرد مثقفين تنحصر دعواتهم بحدود الكلام أو الكتابة المحدودة كأقصى جهد أو استعداد للتضحية. والجماعات والأشخاص الذين ظهروا في البصرة كماركسيين أو شيوعيين أو لادينين لم يعملوا بشكل هادئ رصين. معظمهم اتصف نشاطهم بالفوضى واستفزاز الدين والمتدينين، وهذا يخالف التعاليم بضرورة العمل الهادئ الرصين. لوحة واسعة في كل مرة يستعرضها فاسيلي لا يعرف من أين يبدأ، وأين ينتهي. تذكر صديقه عبد الحميد الخطيب،مدرس الثانوية،هو من أصل إيراني، مقيم في البصرة منذ فترة طويلة، يتكلم العربية كأهلها، ينوي البقاء في البصرة وسيتجنس عراقياً قريباً. يقول فاسيلي عنه في مذكراته: جاء ليخيط بدلة عندي فارتاح أحدنا للآخر، بعد جلسات في بيتي، وأخرى ببيته، وفي نزهات على العشار، وجدت فيه ضالتي. فهو مثقف، أظهر معرفة بأسس ومبادئ الشيوعية، قال إنه قرأ عنها وعرفها مذ كان بالثانوية في طهران، وقد أبدى حماسة شديدة لها. أقلقني انه لا يكتفي بالشرب الهادئ في بيته أو حانات البلدة، هو مغرم بجلسات شراب وملذات مع تجار ورجال في سلك الشرطة يقضي معهم ليالي خمر وجنس وقمار. لكنه وعدني أن يكف عنها ويكتفي بجلساته في بيته أو معي في بيتي أو الحانة.أشياء كثيرة فيه توحي إنه لن يخيب أملي. قررت أن ألقي مرساتي على شاطئه. وأسمع هدير الموج من بعيد. والطيور البيضاء تلتقط الأسماك الصغيرة، رغم أن الريح عاتية! أبو ناصر (فاسيلي) لا يتطرق إلى فهد في أحاديثه معي إلا بحذر، وتحفظ،. في مذكراته تحدث عنه بإسهاب، وبلهجة نادم أنه لم يوله اهتمامه منذ البدء، مركزاً اهتمامه على عبد الحميد الخطيب الذي سيغدر به ويوجه له طعنه رهيبة دفع مع كثيرين ثمنها باهظاً، ومريراً! عرفت مما كتبه عن فهد، إنه قد انفق الكثير من الجهد في مراقبته، ورصد تصرفاته تاركاً لشكوكه تعيق حسم أمره معه، يقول: كان يوسف (فهد) جاداً صادقاً في كل عمل يقوم به، وإنه كان يتميز بانضباط شديد يليق بمناضل شيوعي عليه أن يكرس نفسه لقضيته حتى النصر أو الموت، والموت دون نصر، هو الأكثر احتمالاً، يقول: كنت أسأل نفسي من أين أتى يوسف بهذه القدرة على ضبط النفس، والسيطرة على الحياة والسلوك والتفكير، هل استقاه من المسيحية وآلام المسيح؟ إذ هي لا تتسامح مع النفس في الزلل، رغم دعوتها للتسامح مع الآخر، لكنها لا تصل درجة الانضباط الحزبي، إلا مع الرهبان والراهبات، كنت أخشى أن يكون قد تعلم انضباطه من الجيش الإنجليزي، أو إنه تلقى دورة تدريب في مخابراته؛ وهذا جعلني أتردد في اختياره منذ البدء، ليكون مبعوثنا الشيوعي إلى بلاده! تأكد لي إن علاقته بالإنجليز هي بحدود كونه موظفاً إدارياً في شركتهم للكهرباء، لكنني بقيت على ترددي حياله، وضيعت وقتاً ثمينا حتى جاءت طعنة الخطيب لنا؛ فحسمت أمري واخترته ليكون رجلنا في العراق!

(109) فهد يترك وظيفة كاتب عند الإنجليز، من أجل وظيفة نبي لدى السوفييت!

يقول العطار: لو كان الإنجليز قد تنبهوا لفهد لسخروه بنشر نور حضارتهم كلها، لا نور الفانوس الكهربائي فقط، ولجعلوا منه قائد اللبراليين في العراق. قلت له: الأمر ليس بهذه البساطة، لفهد مزاجه وآلامه الكبيرة، وقد تحدث عن وصية والده بالشيوعية، وهو رغم عمله مع الإنجليز لكنه في أعماقه يكرههم ويراهم محتلين مغتصبين لبلاده، وحتى لو فكر أن يمضي معهم في الشوط بعيداً، فهو يعرف إنه كمسيحي لا يمكن أن يقبل به المجتمع ذو الأكثرية المسلمة حاكماً له، فقط مع الشيوعيين يمكن أن يكون قائدا وحاكماً! يتدخل الجهنمي في النقاش قائلاً: اللبرالية موهبة عظيمة وصعبة، لا يمتلكها فهد، إنه صاحب نظرة واحدة جامدة، وإرادة مطلقة واحدة، لا تقبل الشراكة! كان فهد يتقاضى من الإنجليز لقاء عمله في مصلحة الكهرباء راتباً قدره: 126 روبية أي ما يعادل 9،50 جنيه إسترليني، وهذا المبلغ آنذاك، يحقق له ولعائلته؛ عيشة رغيدة؛ أو أكثر من معيشة عادية!

لكنه ظل يتحين الفرصة للخلاص من ربقة الإنجليز، والحصول على عمل حر حتى لو كان بأجر أقل بكثير من روبيات الإنجليز. صار يتنقل بين البصرة والناصرية مع شقيقه بحثاً عن مشروع يستطيع إقامته بما وفره من نقود. يمكنهما من إطعام عائلتهما، ويتفرغ هو لحلمه، نشر الشيوعية، وتشكيل حزب حديدي جبار لإقامتها في العراق!

كان فهد قد قرأ كراس الجوال، وتابع باهتمام كتابات ودعوات جماعته، وحرص على أن يقرأ أعداد صحيفتهم بإمعان. أحذ كراريس وجرائد من الإنجليز الذين كان يعمل معهم، تحوي مقالات واستطلاعات عن الشيوعية تتبناها وتدعو لها، أو تنتقدها وتهاجمها، فيحصل على معلومات جديدة تزيده انبهاراً بها. أخذت الشيوعية تتغلغل في خلاياه تغلغل الماء في أرض عطشى، هي الآن حلمه وأمله. مع ذلك أصر على ان لا يستلم الفكرة نفحة فكرية وروحية حرة غير مقيدة أو مشروطة. ظل يبحث عن مصدر رسمي يستقيها منه، ويرتبط من خلاله بمركزها الأعظم موسكو، بذلك يأخذها رسالة تبشير مهمة خاصة، موثقة من دولتها، كرسالة سماوية تحميها السماء بهالتها النورانية،فهو قد تعلم من مدرسة الأمريكان ومن عمله مع الإنجليز، أن الأشياء الجديدة لا بد أن تؤخذ من منشأها الأصلي؛ فيكون مظلة لها، تحميها، وتؤمن لها رعاية تسوسها وتدفع لانتصارها. وكما سمع ان ثمة فقمة وصلت من جليد القطب إلى شط البصرة، كان يخطر له أن ثمة رجلاً من موسكو جاء خلفها لمهمة ثورية لها علاقة بالشيوعية ويقصده شخصياً. بفطرته ونباهته أحس ان الخياط أبو ناصر، هو ليس الخياط أبو ناصر، بل هو شيء آخر، هو الشيوعي مبعوث العناية الستالينية إلى العراق. هو من يبحث عنه. ولكن لماذا كلما اقترب منه؛ يجده جداراً غليظاً أصم؟ حتى إنه زاره أكثر من مرة في محله، خيط عنده بدلة، مرة أخرى قميصاً، وكلما أجرى معه حديثه لا يحظى منه بأكثر من كلام عام مبعثر يشتت الذهن والانتباه أكثر مما يفتح طريقاً للضوء. أبو ناصر لم ينفتح، ولا يبدو إنه سينفتح له في وقت قريب. هو يخشاني، والسبب واضح، هو عملي مع الإنجليز، لا ألومه، لم يزعجني في شيء، ولا ينبغي ان أكرهه. لديه عذر واضح ومبرر. هو لا يعرف حقيقة مشاعري نحوهم، ومشاعري نحو وطني، ونحو السوفييت والشيوعية، لا يهم، يأتي يوم هو سيبحث عني.

ـ هل كان طامحاً في مجد خاص أم صاحب رسالة إنسانية كبرى؟

سؤال يقفز من جمجمة الجهنمي مع برغوث القبر، يهز العطار جمجمته الضاجة بالأفكار، رغم بلى زمن الغياب وحطامه:

ـ اليوم لا يسعني إلا أن أعده بين الباحثين عن عالم جديد وإنسان جديد، لكنه لم يكن يدرك آنذاك ولا أظنه يدرك الآن، أنه أشاح عن بداية الطريق كما تركه الجوال، وأصر على يتلقاه من تحت خطى فاسيلي،ثم هو لم يختر الممكن،اختار طريق المستحيل، لو كان أراده لنفسه وحسب، فلا أحد له الحق في أدانته، لكن المصيبة إنه جر حشوداً هائلة من البشر خلفه!

قال الجهنمي كأنه يستحث مخيلته الروائية:

ـ كما أرى هو نطفة معتقة من خلايا العراق الأولى، أراد إيقاظ الحلم الذي رقد مذعوراً في أعماق سكان البلاد الأوائل على وقع سنابك خيول المسلمين الغزاة، وسيوفهم وكتابهم ليضعه اليوم على طريق العصر والحياة الجديدة!

ـ فعلاً كان يقول لي "أردت توحيد المسلمين والمسيحيين واليهود، السومريين والكلدانيين والعرب الكرد والتركمان، ربط بداية العراق بنهايته على طريق جديد". هو فعلاً ثوري، وقديس، لكنه بارتباطه بستالين صار أمعة ودمية محشوة بنظرية جامدة!

عاد الجهنمي يقول بلهجة مسترخية، لا تدري أهي ساخرة أم جادة:

ـ سمعت أنه في شبابه كان يحلم أن يصير نبياً، كان يقول في هذه الأرض ظهر إبراهيم الخليل، أبو الأنبياء، قال إنه تلقى رسالته من السماء، ستكون الرسالة هذه المرة من الأرض، ومن موسكو. لذلك هو ترك وظيفته عند الإنجليز؛ ليصير دفعة واحدة نبياً مبعوثاً من السوفييت!

هل إن العطار لا يزال متحاملاً عليه، رغم الموت الطويل؟ قلقاً مضطرباً في تقييمه؟ أم هو يفكر بشكل موضوعي جرئ، صريحاً يقول ما يجده. تركته يتحدث على سجيته، متحاشياً أي حكم عليه:

ـ راح فهد يبذل الجهود المضنية ويغامر بحياته للوصول إلى الكرملين ليأخذ منه الوحي النبوي الجديد!

صار يرى حتى نجمة الصبح شيوعية، يمس نورها روحه، وتومض له من السماء أن يتبعها ويمضي وراءها؛ وستضعه على عتبة الكرملين؛ ليجد السجادة الحريرية تحت قدميه لتوصله إلى عرش ستالين رب الكون الجديد.

نهض مع أفولها صباحاً، كان بحيوية فائقة، فقد أزمع شيئاً خطير سيغير مجرى حياته وحياة الكثيرين أيضاً. ذهب إلى الشركة الإنجليزية. استلم آخر راتب له، وقدم استقالته، ورقة الخلاص النهائي. ثمة جناح آخر لهذا الحلم، هرع إلى دائرة الشرطة، سيأخذ جواز سفر ويرحل إلى العالم كجوال! يقول أبو ناصر في مذكراته نقلاً عن فهد، "ما أن رأيت وجه مدير الشرطة حتى خمنت أن زوجته قد ناكدته صباحاً قبل أن يخرج، ولم تكن مضاجعته لها في الليل موفقة. كان كدر المزاج، أراد في البدء أن يسري عن نفسه معي، ربما متسائلاً مع نفسه، من هذا الشاب القادم يطلب جواز سفر، يترك به العراق وأهله"، ويمضي بطرس يسرد وقائع اللقاء، سأله رجل الشرطة:ـ لماذا تريد أن تسافر إلى خارج العراق، هل وطنك لا يعجبك؟

قال فهد بهدوء:

ـ أريد أن أرى العالم، وأتعرف على سكان هذا الكوكب، وأراهم كيف يعيشون.

هز مدير الشرطة رأسه مستخفاً قائلاً:

ـ ولكن هل رأيت كيف يعيش الناس في الأهوار، أو بادية الجزيرة؟

قال بلهجة قلقة تكاد تكشف هدفه:

ـ لأني رأيت كيف يعيش الناس هنا، أردت أن أعرف كيف يعيشون هناك!

رد رجل الشرطة بصوت حازم:

ـ يأتي الأجانب ليروا حياتنا، ويتعلموا منها!

وجد فهد نفسه محرجاً، مضطراً لنقاش سياسي مع رجل السلطة:

ـ ربما يأتون ليتفرجوا علينا، وقد آن الأوان لنتفرج عليهم، ونتعلم منهم!

ـ كم تريد أن تبقى؟

ـ لا ادري ربما أشهراً،أو أسبوعاً، حسب ظروفي هناك!

ـ كيف ستعيش؟

ظل على هدوئه:

ـ سأكسب عيشي بالعمل، لا أستنكف من العمل حمالاً أو نادل مطعم، وفي طريقي سأبيع الصور الفوتوغرافية!

ـ أية صور فوتوغرافية؟

لم تكن لا في السوق العراقي ولا لدى فهد صور فوتوغرافية، قالها جرياً على ما قرأ عن سياح في أوربا يعيشون على بيع الصور، والتذكارات لسياح آخرين، لكنه قرر أن يمضى بادعائه:

ـ صور معالم أثرية عراقية، ونخيل وشطآن، ووز عراقي مهاجر!

تجهم وجه رجل الشرطة، سأله بلهجة تحقيقية

ـــ من أين لك هذه الصور؟

ـــ اشتريتها من أستوديو مجاز رسمياً.

ظل يتأمله بشك. فجأة عاوده غضبه وانفعاله، من هذا الشاب ثقيل الظل الذي لا يعجبه وطنه، ويريد ان يرى غيره؟ زاده ضجراً، نهض مهتاجاً:

ـ جئت لتضحك علينا؟ من أنت؟ من تكون؟

رآه في شحوبه وهزال جسده اقرب لشبح عليه ثياب قديمة متهدلة ويريد أن يذهب ليرى العالم، ويتحدث لهم عن العراق وأهله :

ـ لم يصدر أمر بتعينك سفيراً متجولاً لتذهب حاملاً صور العراق إلى العالم، أجلس في بيتك إذا لم تشأ أن تشتغل حمالاً، أو عامل مطعم في بلدك!

اعترته نوبة سعال؛ أغضبته أكثر على فهد؛ فضرب على منضدته:

ـ طلبك مرفوض! أرني عرض اكتافك.

خرج فهد يجر خطاه، قر في نفسه أن لا يستسلم، وسينتقم من مدير الشرطة المسعور هذا، سيرى هو إذا كانت أكتافه العريضة تحمي الحدود حقاً من تسلل فكرته العظيمة التي ستقلب كرسيه على رأسه. صار يعبر الحدود خلسة وبمساعدة مهربين. يسافر عبر وسائط بدائية، مستعيناً بالسير على الأقدام، إلى الكويت وخوزستان ويتجول في مدن إيرانية. هائماً بفكرة تلهب أعماقه، أنسته كل شيء، وجعلته غارقاً في لجة نور تغسل روحه، وتطرح عنها كل غبار الماضي، دنيا مفعمة بالآمال غداً تشمل العراق كله ببهائها وضيائها العظيم، كان مستعجلاً لبلوغ هذه الذروة الهائلة. في فندق عتيق قذر في المحمرة سقط صريع حمى غامضة، جعلته يتردى في كوابيس حادة متشابكة. كان يسمع صوتاً قادماً من بعيد، موسكو بالتأكيد، فهو يحمل رعشة برد سيبيرية، كان يتصبب عرقاً، أحس بانحطاط في قواه، ويأس مفاجئ . بعد يومين،فارقته الحمى وأخذه حلم جميل، هو في الساحة الحمراء يتلقى الراية الحمراء من رجل طويل ممتلئ، أهو ستالين؟ تذكر قول لينين: الثورة حلم، والحلم ثورة. تذكر بيتا من الشعر حفظه من الشعر القليل الذي قرأه في المدرسة،وللمتنبي أيضاً "وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام". حقاً هو الآن على هذا الطريق، ولكن هل سيبقى هذا الشعر جميلا، قرأ قبل أيام أن الإبداع الأدبي والفني الإنساني بدأ مع أول طلقة مدفع لثورة أكتوبر، وإن معظم التراث الإنساني قبل ثورة 1917 مصيره القمامة، هل هذا ما سنفعله حين ننتصر؟ أدب جديد وكل القديم إلى المزبلة؟ ولكن هذا ليس أوانه؟ الأنوار ستأتي من هناك حتما، راح يرنو إلى شفق الأفق هناك: موسكو.

(110) يا لقلوب الشباب كم تفجرت فيها من صبوات الثورة، وكم تلقت من طعنات!

وجد "يوسف، "لم يصر اسمه فهد بعد" إن الطريق إلى موسكو عبر إيران محفوف بالمخاطر. اتجه للحدود الغربية عبر بادية الشام في لواء الدليم، تسلل عبر القائم بمحاذاة الفرات إلى البوكمال، ثم استقل سيارة عتيقة وبطيئة إلى دمشق! ظل حذراً من الأجهزة الأمنية، فهو قد جاء من بلد تابع للاستعمار الإنجليزي؛ إلى بلد تابع للاستعمار الفرنسي، وكلاهما كما قال في نفسه، يكره الشيوعية كما تكره الأفاعي رائحة النعناع! لديه عنوان شخص ذي ميول شيوعية. أخذه من صديق أرمني له في البصرة. أكثر من ذلك، كتب له أن يثق ويعتني به ويساعده في ما يريد! لم يطل بحثه عنه. وجد آرا أوهان في دكانه الصغير لتنظيف وكي الملابس عند ساحة المرجة. كانت رسالة صديقه قد أحدثت مفعولاً مدهشاً. فقد استقبله بترحاب وود كبيرين. هو أشقر طويل بنحافة، بعينين زرقاوين حزينتين رغم ابتسامته، احتضنه بحرارة، وبعد ان دعاه لغداء مشويات في مطعم صغير يجاوره؛ أخذه بجولة في ساحات وحواري دمشق. كان واثقاً من نفسه، ولم يلحظ لديه خوفاً من الشرطة! قال له: بالشيوعية فقط سنعوض ما فات بلداننا تحت حكم العثمانيين المتوحشين. ضحك قائلاً: من ظلام العثمانيين إلى نور الشيوعية الباهر؟ نقلة مدوخة تعشى الأبصار! يجب التريث! يبدو إنه يتكلم دون تحفظ . سمة يكرهها فهد بالمناضلين بل تخيفه. لكنه أحبه واطمأن له. إنه طيب القلب، نابه يقظ،. يجب ان أوثق علاقتي به، ليس فقط لمساعدتي في التسلل عبر تركيا أو البحر إلى الاتحاد السوفييتي، بل لكي أعرف من خلاله وضع الشيوعيين العرب وما فعله الكومنترن من أجلهم، لأعرف كيف أتعامل معه!" كان آرا يريد ان يعرف ماذا حقق العراقيون. قال: العراق سيكون جناحنا الشرقي للشيوعية، نريد فيه تنظيماً شيوعياً قوياً! لم يسمح له بالإقامة في فندق. استضافه في بيته. انفتح آرا عليه بسرعة ولطف. هو شيوعي منذ سنوات. أعزب وقد تجاوز الثلاثين، كثير القراءة، سخي وحنون، مصيبته إنه ثرثار لا يكف عن الكلام، ما أن يضع الكتاب جانباً؛ حتى ينفتح فمه بسلاسل من الكلمات، لا يستقر سر حزبي في أعماقه، كأن الأسرار الحزبية تصير في أحشائه يرقات طائرة، ولا يمتلك عضلة تغلق فمه وتمنعها من الطيران. ظننته في تلك الأيام صيداً سهلاً لرجال الأمن، لكنني لاحظته كيف يحول حديثه بسرعة وبراعة حين يداهمنا زبون أو زائر من حديث عن الساحة أو الراية الحمراء، إلى حديث عن الطماطم الحمراء! يكثر من تدخين الأرجيلة، يعمرها كلما انطفأت من جمر المكوى، ويعمر المكوى من جمر الأرجيلة! كأنه يكوي قلبه وروحه أيضاً! (طلبت من آرا ان يسميني "سعيد" عندما يقدمني للآخرين).قضيت معه عدة أسابيع، حدثني طويلاً عن التنظيم الشيوعي في سوريا ولبنان وفلسطين، ودور اليهود في بناء الأحزاب الشيوعية في بلداننا. يقول: هم محقون لا نستطيع الخروج من مأزق الأديان والطوائف والقوميات المتحاربة على أرضنا وداخل جلودنا إلا بفكرة حضارية جديدة توحدنا على طريق سعادتنا والمساواة بيننا! ولا فكرة أرقى من الشيوعية! ليس كل ثرثرة سيئة، فهو يلقي خبراته الشيوعية عليَ بسرعة كما يلقي على المنضدة القميص الذي ينتهي من كيه بالمكواة الحديدية المملوءة بالجمر المتوهج!

(111) قلوب الشيوعيين المصريين والفلسطينيين واللبنانيين برتقال أثقل غصونها رماد النجوم!

بعد أن فرغ آرا من نزهته معي في حواري دمشق القديمة، أخذني برحلة خيالية أخرى عرفني فيها بالشيوعي الروسي اليهودي جوزيف روزنتال. كان قد حل في الإسكندرية أواخر القرن التاسع عشر، وأخذ يعمل صائغاً، ومن دكانه المزدحم بالزبائن الموسرين ومتوسطي الحال راح ينشر الأفكار الشيوعية في مصر وقبل ثورة أكتوبر في روسيا! كان يحرض العمال على الإضرابات والتمرد ضد أرباب العمل. لفت أنظار السلطة إليه، لقب بالفوضوي والمحرض والرجل الخطير، وراحوا يراقبونه ويحاصرونه. لم يكن روزنتال ميالاً لتشكيل حزب شيوعي في مصر، كان يدعو إلى إدخال الشيوعيين في أحزاب أو تنظيمات قائمة لتحتلها من الداخل، وتوجهها نحو الشيوعية أو الاشتراكية، وتعمل معها بذكاء وصبر وفي أطر القانون وتقاليد البلاد. بعضهم قال إنها فكرة معقولة، واقعية ومضمونة النتائج، آخرون قالوا إنها تمييع وتفتيت للشيوعية ومحق لعظمتها وهيبتها وقوامها الخاص. حتى لو اختفى ألف شيوعي داخل حزب إسلامي كيف يمكن تحويله إلى شيوعي؟ هل سمعتم يوماً أن رجلاً اختفى داخل أسد مجوف؛ فصار الأسد المجوف، إنساناً، أو حتى أسداً حقيقياً؟ هنا فقط يمكن للإنسان أن يصير أسداً مجوفاً! رجل يريد ان يضيع عسل الشيوعية في فسيخ المصريين. هذا فعلاً تحريف! أنا مع نظرية تشكيل حزب خاص بالشيوعيين! مضى روزنتال على هذا النهج فشكل النادي الشيوعي في الإسكندرية، وجماعة الدراسات الاجتماعية، وجماعة كلاراتيه مقتفيا خطى مثيلها في باريس! وفهد يخلو لنفسه مع كتب بيت آرا عاودته نظرية روزنتال تذكر عمله في الحزب الوطني، لم لا يستغرق به ويجعله غطاءً لفكرته؟ جنيناً في رحمه؟ يكبر داخل إهابه، ثم حين يكتمل يمزق جلد هذا الحزب التقليدي العتيق، ويطيح بجعفر أبي التمن وعمامته في دجلة، ويخرج للنور حزباً للطبقة العاملة للشيوعية أو لاشتراكية معقولة مقبولة في العراق. لو تحقق ذلك ستكون ضربة بروليتارية عظيمة‍. مرة أخرى قال هذا هراء، ويعقب الجهنمي لو كانت مواهب الشيوعيين وأفكارهم داخل أحزاب أخرى وطنية ومستقلة لتغير حال العراق إلى مرتبة ممتازة. نظر إليه العطار، حقاً يا جهنمي إن أفكارك جهنمية فعلاً! حدثني فهد فيما بعد: من مكتبة آرا حصلت على صحف مصرية قديمة قرأت فيها مجريات تلك المعركة التي خاضتها الشيوعية وهي تشق طريقها إلى أذهان المصريين! كان مفتى مصر الكبير محمد بخيت قد تورط بلعبة جره إليها ضابط مخابرات إنجليزي بإصدار فتوى تدين الشيوعية وتحرمها، فتصدى له سلامة موسى في جريدته (الأهالي) مدافعاً عن البلاشفة. نشرت الأهرام مقابلة مع لينين أجراها صحفي ألماني، عرف فيها الشيوعية وشرح معناها، وقد وجدها القراء المصريون تدحض أقوال المفتي، وتزكي الشيوعية، ما جعل الشيوعيين يهتفون في جريدتهم(خدعوك يا بخيت، فانحرفت عن طريق الحق لتقدم خدمة للإنجليز) وقال الشيخ الإصلاحي رشيد رضا: لم يكن أحد في مصر يعرف عن الشيوعية شيئاً، ولم تكتب الصحف عنها بهذا القدر قبل نشر فتوى بخيت! هذا درس جيد نتعلمه من مصر المكتنزة بالدروس العظيمة، إذا تعرض رجال الدين في العراق لنا بفتوى تدين الشيوعية أو تحرمها، ينبغي ان نرحب بها، فهي فرصة لنعرف الناس بالشيوعية، ولا ننجر لتسفيه الدين أو تجريحه! توقف فهد عند رحلة الشيوعي محمد حسني العرابي عام 1922 من القاهرة إلى مدرسة كادحي الشرق في موسكو،وعودته حاملاً عضوية الكومنترن،كان ذلك حلمه يوم يؤسس مثله في بغداد الحزب الشيوعي ويدحض نهج روزنتال بتذويب عسل الشيوعية في كؤوس الآخرين! إذا كان الحزب الشيوعي المصري قد انهار وتشتت بعد عامين فالحزب الشيوعي العراقي لن ينهار ولن يتشتت حتى بعد قرنين. العرابي ارتكب خطأ جسيماً عندما اصطدم بسعد زغلول الذي وصل إلى رئاسة وزراء مصر بعد كفاح وطني طويل ضد الإنجليز. فقد شن العرابي بوجهه إضرابات عمالية في الإسكندرية، وحاول تنظيم فلاحي مصر في سوفيتات! سوفيتات بجانب الأزهر؟ مطرقة ومنجل في العلم فوق الهلال؟ كأن المطرقة تهوي على هلال المسلمين في علمهم لتثلمه أو تحطمه! استفزاز صارخ، ثمرة مبكرة فجة مرة بلا شك، يبدو إنه رجل معتوه. ولكن لا مفر لنا من المعارضة والمواجهة، فحكامنا عملاء للإنجليز؟ شتان بين سعد زغلول ونوري السعيد وأمثاله! آرا يقول : حتى نوري السعيد وأصحابه وطنيون وهم يقودون مرحلة ضرورية ولا بد منها، بناء البرجوازية الوطنية وأخرج لي من جريدة عتيقة نصيحة الكومنترن للعرابي: دعم البرجوازية الوطنية في كل الحالات التي تشن فيها حرباً قوية من اجل التحرر الوطني، والهجوم عليها بحزم وإصرار متى ما لمستم لديها أي فتور وتردد في صراعها مع البرجوازيين والمستعمرين) العرابي على ما يبدو غير ناضج الفكر، وعديم التجربة:لا أظنه لمس تردداً وانتهازية لدى زغلول قائد البرجوازية، هو فقط لم يقدر ظروفه الصعبة في صراعه مع الإنجليز والملك وحاشيته؟ قلت لآرا إنني قرأت في جريدة أخرى أن توجيهات الكومنترن للأحزاب الشيوعية الآن وتحت قيادة الرفيق ستالين لم تعد كذلك، صارت أكثر تشدداً مع الأحزاب الوطنية البرجوازية، والدول القائمة في ظل الاستعمار، فهي تحث على شن حرب شعواء عليها من أجل إضعافها وخذلان الاستعمار معها، وتحقيق انتصارات للطبقة العاملة، لكن الثرثار الماكر آرا قال لي: هذه توجيهات حمقاء: كيف تحطمون البرجوازية الفتية في بلدانكم؟ من يبنى المصانع والشركات ويشغل العمال؟ لا طبقة عاملة قوية ونشيطة بدون برجوازية قوية ونشيطة أولاً، ولا حزب شيوعي دون طبقة عاملة. بل لابد من تأييد الأحزاب البرجوازية والتحالف معها إن أمكن، كيف تحطمون الدولة، لا لشيء سوى لأنها صنعها الإنجليز، أو الفرنسيون! الوطني لا يحطم سيارة جميلة مفيدة فقط لأنها صناعة إنجليزية أو ألمانية! آرا أحيانا يثير حنقي، هو لجوج وعنيد في مجادلاته. هذه قضايا سأحسمها هناك في موسكو؛ فهي لا تعطينا نصيحة غير صحيحة، أو غير ناضجة! رغم الصعاب والعقبات التي وضعها الإنجليز والبرجوازيون والرجعيون في طريق شيوعي مصر فأدت إلى تمزقهم وتشتتهم، لكنني أتوقع أن النهوض الشيوعي في مصر سيكون قريباً وحاسماً ويبدو إن الإنجليز يدركون ذلك، فهم بعد خيبتهم مع بخيت، لم ييأسوا فدفعوا مجموعات من رجال الدين والمتدينين، ومدوهم بالمال والحماية الأمنية لتشكيل حزب جديد يدعى (الإخوان المسلمون) هدفه إعاقة كفاح سعد زغلول الوطني، ومحاربة الشيوعية والشيوعيين في مصر! سمعت أن الإنجليز يعملون على تأسيس فرع له في العراق في أوساط السنة، وربما سيؤسسون شبيهاً له لدى الشيعة، وبمباركة إنجليزية أيضاً، وهذا يقتضي منا منتهى اليقظة! حقاً إن توقفي في دمشق كان فرصة للتزود بأفكار ودروس جديدة عما يجري في بلداننا لكي لا تتكرر الأخطاء في العراق وتتضاعف التضحيات! بيت آرا رغم إنه صغير؛ لكنه جميل، يحاذي بردى، نظيف ومرتب، لم أعد أكثر الخروج إلى مقاهي أو شوارع دمشق الجميلة، فمكتبة آرا قد اجتذبتي؛ أغرقتني في تياراتها وسوراتها العميقة. كنت متردداً في الخروج لأسباب أمنية، طمأنني رفاقي من السوريين واللبنانيين الذين عرفني عليهم آرا وأخذوا يزورونني: الأمر لا يعود لتسامح السلطات بل لعدم انجرارنا إلى استفزاز المتدينين والمحافظين، وعدم دعوتنا لصدامات عنيفة مع السلطة. قال أحدهم مهما قلنا من كلام صريح لا يرقى إلى ما قاله الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد)، هنا التربة مهيأة لتقبل الفكرة الاشتراكية، لكن آرا قال: الحس القومي لدى الشوام عظيم وعنيف جداً بعد أن انتزعت تركيا منهم لواء الاسكنرونة!وبعد وعد بلفور لانتزاع فلسين من جسد العرب. لذا فهم في صراع داخلي حاد: الاندفاع مع النزعة القومية، أم مع النزعة الإصلاحية؟ قلت: كلاهما طبعا، ولا تعارض! قال ضاحكا هذا ما تقوله في بيت صاحب مكوى، لكن ما يقال في الصالونات أو في دوائر الحكومة، شيء آخر، ولا أدري ما هو هذا الشيء الآخر! تعرفت على فرج الله الحلو، شيوعي لبناني قيادي لطيف المعشر، وعلى موريس صليبي، شيوعي سوري مرن ومحب للثقافة، يدرس الحقوق، وبرفاق آخرين متحمسين للشيوعية كحماس العمال لتشغيل آلة حديثة كبيرة! صرت أقضي وقتاً طيباً معهم في جدل، وتبادل للرأي، ثم أنصرف أياماً لمكتبة آرا العامرة بالكتب والمجلات والصحف القديمة مكدسة في حجرة خاصة لا يمكنني الحصول عليها في العراق. لم يجتذبني جمال دمشق ومباهجها الكثيرة؛ قدر ما اجتذبتني هذه الكتب والمجلات القديمة. حين يعود آرا من عمله نقضي الوقت نحتسي القهوة ونناقش قضايا كثيرة ونتبادل الأخبار والمعلومات ونقرأ بعض صحف اليوم، متوقعاً في أية لحظة أن ينقض علي بحديث طويل عن تاريخ الشيوعيين الشاميين! هو يمتعني مهما كان طويلاً ومملاً لغيري! لكنني أتألم كثيراً حين تلح عليه ذكرياته الأليمة التي ما تزال تحفر في قلبه عن المذابح التي تعرض له أهله الأرمن في تركيا؛ فيروح يحدثني عما شهد من أهوالها وهو صبي في الخامسة عشرة أو أكثر بقليل. كان قد سار معهم في تلك الجحافل الهائلة من البشر. جمعهم القادة والجندرمة العثمانيون بمعونة عصابات كردية، وساقوهم كقطعان الماشية من شرق تركيا إلى بادية الشام لتوطينهم هناك، مواكب طويلة تخب تحت الزمهرير، وتحت لظى الصيف تارة أخرى! قضى الكثيرون من الجوع والعطش والإنهاك. أعدموا كل من توقف عن المسير. سمحوا لقطاع الطرق ورجال القرى التي مرت بها قوافلهم باغتصاب نسائهم، وأخذ ما يروق لهم من أطفالهم. شهد كيف انتزع رجال من القرى الجبلية شقيقتيه الجميلتين واقتادوهما لجهة، لا يزال يجهلها حتى الآن رغم بحثه عنهما طويلاً؛ فيما بعد! عانى مع والديه احتضارهما على الطريق الطويل حتى أن الحراس من الجندرمة لم يسمحوا له، ومن معه بدفنهما! تبنته في دمشق عائلة من المسلمين المحسنين وساعداه في الذهاب إلى المدرسة حتى المتوسطة. تعلم العربية بسرعة، وما زال حتى اليوم يعتبرهم أهله وعائلته ويعتز باسمه الآخر العربي عندهم (عايد)! انتهاكات وفظاعات، لا تزال تمزق روحه، وحين تحتشد على لسانه يتلعثم فيروح يؤشر كالأخرس لا يكاد يخرج صوته من صدره المتنهد بقوة، فيجعلني معه على حافة البكاء! لكنه بعد فترة صمت تعتريه؛ يعود للوجه الذي لقيته فيه لأول مرة، مبتسما بشوشاً كأنه لم يعش هذه المآسي. قال بصوت هادئ: لا أحمل الآن حقداً على الأتراك أو الكرد، صرت فقط أكثر إيماناً بضرورة النضال لتخطى الفوارق الدينية،والقومية، وجعل الناس جميعاً مجتمعاً واحداً. كثير من الأرمن وجدوا في الشيوعية الوصفة السحرية لذلك؛ فسارعوا لنشرها وتكوين خلايا، كانت اللبنات الأولى للأحزاب الشيوعية في بلاد الشام! الشيوعية دخلت سوريا عن طريق بيروت، ثمة شباب أعضاء في حزب الهنشاق الأرمني هم الذين أسسوا الخلايا الشيوعية الأولى في بيروت. آرتين مادويان، كان لا يزال يدرس الطب، ابن إسكافي من أضنة في تركيا، مع صديقه الطالب في كلية طب الأسنان الأرمني هايكازون بوياجيان وكلاهما قدما مثلي في تلك الجحافل على طريق الآلام الممتد من أضنة إلى الشام والذي قطعنا معظمه سيراً وهرولة حتى تهرأت أقدامنا بالحجارة، وجلود رؤوسنا تحت وقع السياط! عمل الشيوعيين في لبنان لم يتطور إلا بعد أن عاد فؤاد شمالي من مصر، عامل تبغ ماروني فقير من قرية السهيلة، كان قد هاجر إلى الإسكندرية بحثاً عن عمل فكسبه إلى الشيوعية رزونتال وسجله في دفاتره على أنه: أول شيوعي لبناني، وأول شيوعي ماروني في العالم، لكن نشاطه هناك اصطدم بالسلطات المصرية والإنجليزية عندما ضبط يحرض العمال على الإضرابات وتحطيم آلات العمل. اعتقل وطرد من مصر. عند دخوله ميناء بيروت، كسب أول شخص لبناني يلقاه إلى الشيوعية، موظف الكمرك يوسف يزبك الذي فتش حقائبه، فقدم له من بين طيات ملابسه بعض الكراريس وحدثه عن الشيوعية.، وقع في حبها من أول جملة وصار على الفور صديقه وشيوعياً، وانخرط معه بنشاط كبير فانضمت إليهما الخلايا الشيوعية التي شكلها الأرمن! قام الرفيق بويوجيان بتعريف فؤاد على طالب كردي يدعي خالد بكداش فأعجب به وراح يوجهه ويرعاه ثم أرسله إلى موسكو للدراسة في مدرسة كادحي الشرق. سكت آرا برهة قال: رفاق شمالي لاموه على تسرعه بمنح الثقة لبكداش هذا، فهو كما عرفوه بدأت تأخذه خيلاء الغرور، ونزعة السيطرة على رفاقه! أضاف آرا وهو يقدم لفهد فنجان القهوة: هوس السيطرة يا رفيقي مندلع بين الشيوعيين العرب، فالشيوعيون السوريون يريدون السيطرة على الشيوعيين اللبنانيين، ولا يطيقون سماع أن فؤاد شمالي اللبناني هو سكرتير الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان! والشيوعيون الفلسطينيون يريدون السيطرة على الشيوعيين السوريين، فمؤسس الحزب الشيوعي الفلسطيني وقائده اليهودي حاييم أورباخ يعتبر صداقته للينين عندما كان منفياً في جنيف بمثابة التزكية المقدسة له ليكون قائداً للشيوعيين العرب! فراح يعمل جاهداً للتدخل في شئون الشيوعيين اللبنانيين والسورين وحتى شئونكم أنتم العراقيون. هم متعصبون ليهوديتهم، لازالوا يعتقدون انهم شعب الله المختار، وبنفس الوقت هم شيوعيون أمميون، مختارون، كيف يستقيم هذا؟ فهم لا يجدون مكانا ولو ضيقاً لعربي مسيحي أو مسلم بينهم، ثم يسمون حزبهم: بالشيوعي الفلسطيني! سنوات طويلة والحزب على هذه الحال، ولا يبدو على أورباخ إنه سيغير التركيبة القيادية اليهودية، أو يضم إلى الحزب أعضاء عرب مسلمين ومسيحيين بما يوازي حجمهم في فلسطين حيث هم أكثر بكثير من اليهود! الحزب اليوم يهودي قبل أن يكون شيوعياً! وكلما طالب الكومنترن أورباخ ورفاقه في زياراتهم إلى موسكو بتغيير ذلك، وبما يرضي الفلسطينيين جميعاً؛ لا يمنحون سوى الوعود التي لا تتحقق! ذلك جعل الكثيرين يعتقدون إن أورباخ ورفاقه يمتثلون لتوجيهات صهيونية للسيطرة على الأحزاب الشيوعية العربية وتحريكا وفق مصالحها!

لم يسلم سعيد " فهد" بما قاله آرا عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، كما لم يركن لوعده له بأن يحصل له على تزكية من فؤاد شمالي، وجده متردداً في السفر معه إلى بيروت، قال له أمس: ثمة رفاق في بيروت يقولون : خاب أملنا في كل من زكيناهم للكومنترن! قرر السفر إلى القدس عله يحصل على تزكية من حاييم أورباخ فهو كما سمع لديه كلمة مسموعة في موسكو! يقف بنفسه على ما قاله آرا عنه، وعن الحزب الشيوعي الفلسطيني. لم يخطر بباله كمسيحي وهو يدخل القدس أن يحج أو يزور كنيسة المهد، كان حجه الأكبر أن يلتقي اليهود قادة الحزب الشيوعي الفلسطيني. التقى حاييم أورباخ نفسه، كان الموعد في مقهى جميل على شاطئ حيفا، احتضنه بحرارة وعامله برقة ولطف، استضافه في بيت رفيق له مجاور لبيته، واخذ يزوره كل يوم، صاحب البيت وخادمته يعدان له الكثير من الأطباق الفلسطينية الشهية. عملاً بحكمة يهودية قديمة تقول الطريق إلى عقل الرجل يمر بمعدته. لمس وبسرعة محاولة سيطرته عليه، وبدلاً من إرساله إلى موسكو، وجد لديه رغبة في إعادته إلى العراق:

ـ لا بد ان يكون لديكم تنظيم يعتد به لتقبل في موسكو كقائد شيوعي، وعضواً في الكومنترن!

قال بثقة، شاعراً إنه لا يكذب، فالطموح الذي في قلبه وذهنه أعظم من أية حقيقة على الأرض:

ـ لدي تنظيم، ولكن لا يخفى عليك، لا أستطيع كشف شيء عنه!

خشي ان يطالبه بخطوط عريضة عن تركيبته ونشاطه، لكنه قال له:

ـ يجب ان نسمع عنه لا عبركم، بل عبر الصحف، وما يتناقله الناس من أخبار نشاطاته ونضالاته!

تلك طعنة موجعة، كم أورباخ هذا ماكر خبيث، هذا يعني هو إنه لا يثق بي، وغير مصدق بوجود حزب لنا؛ لا يسمع عن مظاهرة واحدة له! ساد صمت ثقيل. إذاً هو كما قال آرا يريد أن نكون تابعين له، يريد مساومتي: يعترف بوجود تنظيم لي؛ إذا منحته قياده وعدت إلى العراق ليسمع بنشاطاتنا من هناك. نفر منه، وكلما زاد حاييم بكرمه معه ازداد توجس فهد منه، وحرصه على أن تكون ثمة مسافة بينهما، وجده أيضاً شديد الاعتداد بنفسه، يعد نفسه مثقفاً كبيراً استقى الشيوعية من فم لينين وغليونه السويسري المعطر. مضى حاييم يقول: أنا مؤسس أول حزب شيوعي في المشرق العربي، رد فهد: لكنني سمعت أن المصريين سبقوكم، بل إن بعضهم يقول أنهم هم من بنوا حزبكم! رمق فهد بعدم ارتياح قال: جوزيف روزنتال أب الشيوعية في شواطئنا المتوسطية، وهو يهودي روسي! كأنه يتحدث عن قرابته الدينية معه؛ لا قرابته الشيوعية! تدخل مضيفه قائلاً:

ـ الشيوعيون المصريون لا يملكون الصلابة البروليتارية الكافية، لا بضاعة لديهم غير الكلام والثرثرة، تنتهي عادة بجلسات الكيف والتحشيش والرقص!

تطلع فهد إليه مستغربا، لكن أورباخ قطع الصمت قائلاً:

ـ الحزب الشيوعي اللبناني السوري تابع لنا! لم يلزم فهد الصمت قال:

ـ هم يقولون إن حزبهم مستقل تماماً وهم أحرار في كل قراراتهم! ويعترضون على محاولات للتدخل منكم!

نهض أورباخ من أريكة الجلد الطويلة المتكئ عليها، في بيت رفيقه وجاره،كان يحاول أن يخفي ارتجاف فرائصه، استنشق هواء النافذة المطلة على حائط المبكى في القدس: التفت فجأة وصاح مهتاجاً:

ـ هؤلاء المراهقون فؤاد ويوسف وفرج الله الحلو وصليبي وأمثالهم ما زالوا تلامذة لا يميزون بين جدل الطبيعة، وجدل التاريخ، وكلما لقيتهم يسألونني: ماذا أراد أن يقول لينين في كتابه "ما العمل؟"، وهل لخصت لنا كتابه (الدولة والثورة)؟

جلس وعاد يتحدث:

ـ من الضروري بناء حزب شيوعي عراقي على عجل! استعينوا بخبرتنا، بل لدينا رفاق هناك في بغداد.

نطق بأسماء مثقفين يهود معروفين للكثيرين، وليسوا شيوعيين، لكن حاييم أراد أن يثقل يده بهم. قال فهد:

ـ بعضهم أصدقائي ولا أحتاج لأعرف بهم، وبعضهم لا علاقة لهم بالشيوعية! يجب أن يكون لكل بلد عربي حزبه الشيوعي الذي يعرف ظروفه ومزاج أهله، وبعد أن تنتصر أحزابنا نكون حزباً شيوعياً واحداً، دولة شيوعية عربية واحدة، ثم نحن في طريقنا إلى عالم شيوعي واحد، لم العجلة؟

نطق عبارة جعلت أورباخ ينهض من مكانه ثانية إلى الشباك كأنه وخز:

ـ أعتقد لا تبعية ثورية مشروعة وحقيقية؛ إلا للكومنترن، وللكرملين!

عاد حاييم ليجلس محدثاً صوتاً وهو يلقي جسمه على الأريكة الجلدية، أخذ ينفث دخان غليونه في وجه فهد، وصدره يعلو ويهبط! تخلص فهد من كل محاولاته للهيمنة عليه ببراعة؛ تأكد له ان حاييم لن يبذل أي جهد لتحقيق دعوة له إلى موسكو. خطر له أن يتصل بالشيوعيين المصريين، فهم شيوعيون مثقفون، يبدون له حيويين ومتوثبين للبناء والتطور رغم النكسات. لم لا يشد الرحال إلى هناك وليس بين القدس أو بيروت والإسكندرية سوى رحلة باخرة ستكون ممتعة على أي حال! فهم سيمنحونه تزكية للكومنترن، وربما هم يرتبون له صلة مباشرة معهم! قرر أن يعود إلى دمشق عله يجد فيها من يزوده برسالة إليهم. أحد الشيوعيين الفلسطينيين وكان من المسلمين القلائل الذي حصل على موقعاً متقدماً في الحزب أسر لفهد بهمومه، وهو يرافقه إلى محطة السيارات:

ـ في البداية تصورت أن الشيوعية ستوحدنا نحن المسلمين واليهود والمسيحيين، وستحل القضية الفلسطينية دون إراقة قطرة دم، بل وتحيل فلسطين إلى جنة اشتراكية، لكن استئثار اليهود بالحزب، قيادة وقاعدة خيب أملنا وجعلنا نشعر أن الصهيونية قد دخلت هذا المكان أيضاً، ماذا تبقى لنا من أمل؟ كانت تضحياتنا نحن المسلمين والمسيحيين كبيرة فنحن نتحمل نظرات الشك من أخواننا المسلمين والمسيحيين، وتربص دوائر المخابرات البريطانية والفرنسية؛ بينما رفاقنا اليهود يتمتعون بوضع آخر!

لم يجد رحلته إلى فلسطين فاشلة، فقد صار على معرفة بالواقع الحقيقي للشيوعيين العرب. وجده على مرارته وصعوبته بمثابة حلم كبير. لكنه صعب مكتظ بالعقبات. في السيارة التي دارت به طويلاً على طريق ترابي طويل. ابتسم لنفسه بحزن، يا لعذابنا نحن شباب هذه البلاد، تقاذفنا المستعمرون؛ عثمانيون وإنجليز وفرنسيون، ومع ذلك بقينا نتطلع لعالم جديد، كم ستطول رحلاتنا بحثاً عن طريقنا، طريق أوطاننا المعذبة، كم من الصبوات تتفجر في صدورنا ولا نصل الطريق. عاد يتطلع إلى التلال والأرض الحمراء تتدرج عليها صفوف أشجار الزيتون، خضراء كثيفة، في داخلها الكثير من الزيت، كم سيضيء من قناديل؟ وكم يحيي من عضلات؟ هذه دفعة أولية معقولة من أجل ثورتنا طويلة الأمد؛ وستبقى أشجار الزيتون معنا حتماً! وتنعطف به السيارة إلى سفوح أخرى فيمتلأ صدره بأريج منعش، ويلوح له البرتقال مصابيح صغيرة تضيء طرقاً بعيدة، تكتنفها آلام كثيرة، لكن رائحة غليون حاييم لا زالت تلاحقه فتعكر نكهة البرتقال، وجد نفسه يدخل غابة أخرى من قلوب هؤلاء المناضلين، أحس أنها تتوهج كذاك البرتقال لكنه مثقلة بالكثير من رماد النجوم، تلك التي تلوح له كل مساء وتدعوه للمزيد من النضال!

قاطع الجهنمي العطار؛ ليسأله: لم اختار هذا الرعيل من جيلنا الشيوعية؟ كانت هناك طرق أخرى، كان في عروق الشجر زيت يكفي ليضيء كل شيء، ولكن أنوار موسكو كانت تعشي الأبصار! قال العطار: كان العذاب مريعاً يجعل حتى طريق الخروج منه مصيبة أخرى. يقول فهد: في رحلاتي لبلاد الشام تعلمت كيف يبنى الحزب، وكيف ينبغي أن يقاد ويعمل ويشق طريقه. وتلك مأثرة عظيمة كنت أفتقدها، ومن أين لبلداننا قبل هذا أحزاب حقيقية نتعلم منها؟ ولكن لا بد من استقاء الحلم من ينابيعه، لا بد من الوصول إلى موسكو، عاد آرا ينصحه بالتريث،الشيوعيون المصريون أقل رصانة مما تتصورهم، هم ممزقون مشرذمون هواة كلام وثرثرة. وعده أن يحصل له على تزكية من فؤاد شمالي! إنه جاد فعلاً، لكنه يصطدم بمترددين أو متصلبين في بيروت. عاد يحدثني عن بيروت: هناك يا رفيقي الكثير من الأفكار والخبرة الشيوعية، فهي دائماً فنار الشرق، كأس كرستال طافح بنبيذ الأفكار والنظريات، بيروت تبدو امرأة عارية مستلقية غافية على الشاطئ، لكنها في الحقيقة سفينة مبحرة دائماً تشق عباب الدنيا تجلب الكتب والذهب والعطور، ولا يراها مبحرة سوى الشيوعيين والذين يشربون عرق زحلة في الحانات القديمة! فجأة راح يضحك أتعرف أية مهمة غريبة اقدم عليها الكومنترن تناهت إلينا أخبارها أخيراً؟ قال وهو يضحك: أرسل الكومنترن بعثة من الشيوعيين المسلمين إلى مكة يحاولون إقناع الحجاج لدخول الشيوعية! تصور يا رفيقي حزب شيوعي بجوار قبر نبي المسلمين، ستالين وماركس يغتسلان بماء زمزم، ويستلقيان تحت الحجر الأسود، قفزة عالية في الهواء، أليس كذلك؟ كشف أمرها أحد المبعوثين، شاب اذريبجاني من طشقند؛ ما أن وصل مكة حتى ألقى شعار المطرقة والمنجل إلى الشيطان مع حصى الرجم، وجثى على ركبتيه يبكي في الكعبة طالباً التوبة والمغفرة! لم أجد فيها ما يضحك. على العكس اعتمل في قلبي الغضب على الشاب الاذريبجاني الذي خان الأمانة. كنت أزمع السفر مع آرا إلى بيروت ولقاء فؤاد شمالي، لكنني ما أن سمعت بتوقيع نوري السعيد على معاهدة الانتداب حتى ألغيت موعدي معه. بدأت أعد للعودة إلى بغداد. سألني آرا عن سبب عدم إتمام المهمة التي جئت من أجلها: ارتباطي بالمركز الأممي! قلت له يجب أن أكون في العراق لتعبئة الجماهير للوقوف بوجه هذه المعاهدة الجائرة! ندت منه ضحكة: وماذا لديك لتقف بوجه معاهدة استراتيجية رتبتها دولة عظمى مع دولة ضعيفة هشة، خرجت لتوها من بالوعة العثمانيين؟ لم يعجبني كلامه، شعرت إنه يستهين بوزني وقدراتي. لم آخذ كلامه سوى على محمل ثرثرته المعتادة! لكنني تذكرت كلامه كثيراً وأنا أرى كل مساعينا لإلغاء المعاهدة، أو تغير بنودها؛ تصطدم بعقبات كأداء حقاً، وترتد إلينا، لكنني لم ارفع راية بيضاء!

(112) موسكو كانت في البصرة، لماذا ذهب فهد يبحث عنها في بلاد الشام؟

كان عبد الحميد الخطيب يبحث منذ أشهر عن مساعد له يقوم بشئون التنظيم لينصرف هو إلى شئونه ولهوه. هو لا يطيق أعباء التنظيم مع عمله مدرساً. وهو بطبعه كسول، مع إنه كثير الأحلام والتطلعات. لديه نزواته وشهواته الكثيرة أيضاً. رتب شيئاً هنا وشيئاً هناك ليجعل لقاءه بفهد محض مصادفة. أخذ يكسب ثقته شيئاً فشيئاً حتى جاءت ساعة، صارحه فيها إنه مخول من موسكو لإقامة حزب شيوعي في العراق، وطلب منه الانضمام إليه ليكون أحد قادته. أوحى له أن هناك آخرين معه، وخلايا كثيرة ناشطة يجد بها نحل؛ يأتي بالعسل من أرجاء البصرة! بينما لم يكن لديه شيئاً. دخل فهد في شرود مفاجئ، أحس إنه صدم. ما الذي جعل موسكو تختار الخطيب؟ كل هذا الحلم الذي يضج في صدره؛ لم تسمع موسكو به أو تحس بنبضه، فتأتي إلى هذا الرجل لتختاره مؤسساً لحزب الشيوعيين؟ أهذا معقول؟ لماذا يا موسكو؟ كم بحثت عنك، ذهبت حتى آخر الدنيا، وقبل أيام فقط عدت من رحلة أخرى؛ بحثاً عنك في بلاد الشام، ما هذه؟ أهكذا تجازينني؟ ظل صامتا والخطيب ينتظر إجابته. أحس بذهوله يتبخر مع الهواء الرطب الذي كان يتدفق عليهما من شباك مفتوح على العشار في بيت الخطيب. عليه أن يحسبها بسرعة، ويهدأ. ربما الخطيب رسول من موسكو إليه، لا ليقوده؛ بل ليسلمه القيادة تدريجياً، ليتريث، ربما هو أجدر منه، فهو يكبره بعدة سنوات، مدرس ثانوي والأهم، والأخطر، هو لم يعمل مع الإنجليز، وشخصية جذابة مؤثرة، وجه أسمر دقيق الملامح، قامة سمراء الطويلة ممتلئة، ملابس أنيقة، شديد الثقة بنفسه، بينما هو بوضع آخر، حتى قامته لا تكاد تصل إلى كتفه، ولكن أهذا هو معيار اختيار القائد الشيوعي؟ لو يعرفون في موسكو، أي إخلاص وحب أكنه للشيوعية لما اختاروا غيري. اللعنة على تلك اللحظة التي عملت فيها مع الإنجليز، حتى متى تظل تلاحقني؟ تكاد تصيبني باليأس، ولكن لا، سأثبت لهم إنني الأكثر إخلاصا للشيوعية، واستعداداً للموت من أجلها لأضع يدي بيد الخطيب، ربما هي صلة تدريجية مؤقتة معه ويعود الحق إلى نصابه.

أخذ الأمر كخطوة أولى، ومن أجل عزاء نفسه، قال ها هي موسكو تأتيني إلى هنا، بل هي كانت في البصرة، لماذا ذهبت أبحث عنها في بلاد الشام؟

وافق فهد على أن يكون معه: أضاف الخطيب:

ـ ستكون ذراعي الأيمن، ولم لا نقول، ستكون أنت أنا، وبيدك كل شيء.

ذلك زاد فهد قناعة بتصوره إنه مبعوث من موسكو إليه ليسلمه التنظيم بتأنٍ وسلاسة. فتحمس للعمل أكثر. توطدت الثقة بينهما. راح الخطيب يستفيض في الحديث عن استعدادات السوفييت لنشر الشيوعية، ستكون مع الشمس خيمة ذهبية لكل العالم:

ـ أهم ما ينبغي أن نثقف به من يلتحقون بنا، أو من نريد كسبهم: نقول لهم هل نسيتم أن قادة الثورة البلشفية فضحوا المستعمرين، ووقفوا إلى جانب شعوب المستعمرات، هم الذين كشفوا أسرار معاهدة سايكس بيكو، أصدروا نداءهم العظيم: استيقظي يا آسيا، استيقظي يا أفريقيا، لنضع أيدينا بأيديهم، ونسير خلفهم لبناء العالم الجديد!

وجد الخطيب أن فهد هو الشاب النشيط المنشود الذي سينهض بالعمل كله، ويترك له وقته ويوفر له جهده وراحته. أخذ الخطيب يقضي لياليه كعادته في بيوت تجار، وموظفين كبار، بينهم شرطة، وملاه راقية، متخفياً قدر استطاعته عن "أبو ناصر". وعن فهد. وأحياناً وفي مواعيد منتظمة تارة ومرتجلة تارة. يجلس مع يوسف (لا يزال لم يصر فهد) يوجهه بكلام طويل يختمه، قائلاً:

"هذه حكمتي هذه وصيتي لك، اذا ما غبت عنك لا تحد عنها" وفهد ينظر إليه مستغرباً. كان الخطيب يتحدث منتشياً، يحتسي كؤوسه الكثيرة، ويردد بين فترة وأخرى بيت شعر لعمر الخيام بالفارسية، ويترجمه له على طريقته.(ترجمه أحمد رامي فيما بعد: هبوا املأوا كأس الطلا قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر) وفهد يصغي له مفضلاً احتساء الشاي أو عصير الفاكهة. قال إن السوفييت مهتمون بانتزاع بلاد ما بين النهرين وشواطئ الخليج من شباك الهيمنة الاستعمارية الغربية، بعد أن بدأت فيها أولى ينابيع البترول تبعث روائحها الشهية؛ فتجتذب خياشيم أباطرة العالم كما تجتذب روائح السمك القطط الشرهة! وها هي طلائع جيوشهم تقف على أبواب الخليج؛ فجأة ينظر إلى فهد قائلاً:

ـ أرى فيك الكثير من ملامح الرفيق ستالين، وأحيانا يقول له ضاحكاً: من الرفيق يسوع المسيح أيضاً!

يكرع كأسه، يطلق ضحكة مجلجلة، ويلتفت إليه يوسف مستفهماً فيرد (لا هيج، ما كو شي) كانت بعض حركاته تحيره، لم تعجبه تصرفاته، عاد يلوم موسكو على اختياره! أيمكن لموسكو ان تخطئ؟ هذا غريب حقا ولكنه حث نفسه على الصبر، ولم يشك به بل شك بقدراته وسلوكه المتفسخ. اعتبر ما سمعه عن معاشرته لرجال من الشرطة والموظفين الكبار نوعاً من التغطية على مهمته الخطيرة، وإن لم يقرها. واظبا على الجلوس معاً، مستعرضين ما تحقق لهم من تنظيم خمسة عمال. مع شخصين فلاحين في حديقة عامة، وآخر معلم. هذا كل ما تحقق الآن وكله بجهد فهد ومثابرته، والخطيب له كشف الحساب فقط.

لم يستغرق فاسيلي وقتا طويلاً في الحصول على دعوة الخطيب إلى موسكو. كان لافروف متعجلاً أيضاً، فهناك من هم أعلى منه بجوار ستالين تماما، يستعجلونه يريدونه، يصيحون: أين رجالنا في تلك الأرض التي تفجر فيها ما صاروا يسمونه الذهب السود وقد استحوذ عليه الإمبرياليون. لم يتثبت فاسيلي جيدا من الخطيب إن كان قد التزم بوعده، وكف عن اللهو ومعاشرة الأغنياء والشرطة، اكتفى بسؤاله: هل لا زلت على جلساتك القديمة مع أصحابك القدامى وفي الملاهي؟ أطلق ضحكة قال: أقل بكثير، لم انسحب كي لا أثير شكوكهم! اقتنع فاسيلي بذلك، لم يجد مفراً من القناعة، هو سيذهب إلى موسكو بعد أسابيع. عسى ان لا يخيب أمله. دراسة النظرية الماركسية اللينينية والخبرة الشيوعية، والتدريب على فن القيادة الشيوعية لابد ان تؤثر وتغير شخصيته، وتجعله يكرس نفسه وحياته للنضال. طلب منه ان يرشح أبرز من يراه مناسباً في تنظيمه ليرتبط به ويتولى قيادة التنظيم. كان فاسيلي يعرف ان يوسف هو الأبرز، لكنه كان قد قبله على مضض، وعلى سبيل التجربة؛ فهو لا يزال يشك فيه لماضيه، لكنه ترك للخطيب ان يقترح من ينوب عنه. فكر الخطيب إنه لو زكى ورشح يوسف؛ فأنه سيبهر أبو ناصر بقوة شخصيته ونشاطه ودأبه وإخلاصه, سيمحو شخصية الخطيب التي تجسدت في ذهن أبي ناصر، ويكون هو معتمده ورفيقه. لا لن أجعله خليفتي قرر أن يضرب على الوتر الذي يعرفه لدى فاسيلي: لا زلت اشك فيه، قلبي غير مطمئن له، من عمل مع الإنجليز لا يمكن أن يكون قلبه مع الشيوعية ومع رفاقنا السوفييت، لكنني رشحته على سبيل التجربة، وهو على كل حال ليس سيئاً؛ لكنني لا أجازف بكشفك له، لا داع أن ترتبط الخلية بك، فقد رتبتها لتعمل كالساعة. سنة واحدة وأعود، لا داع للقلق. نظر إليه فاسيلي برهة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، كيف يضع تنظيماً وجهداً كبيراً في مهب الريح: قال له يمكن ذلك لفترة قصيرة، نعتبرها على سبيل التدرب والاختبار، لكنني أطلب منك أن تعلمه أنه معرض في أية ساعة لاتصال من رفيق لديه كلمة سر، ودلالات أخرى؛ سأمليها عليك الآن. فقد تستدعي ظروفنا أن أقوم بالإشراف عليه بنفسي. نظر الخطيب إليه برهة، ولم يجد مناصاً من القبول!

كان الخطيب في جلسة عمل مع يوسف، كأس العرق أمام الخطيب كعادته. التفت إليه يسأله:

ـ إذا غبت عنك وتوليت قيادة التنظيم كم من المال تحتاج لنرسل لك من موسكو؟ رفض يوسف بشدة تلقي أموال. قائلاً: أنسيت ما يقوله العراقيون: أقل السمكة بدهنها! سأجعل التنظيم يدبر تكاليف نضاله. رغم إن الخطيب طرح موضوع المال في سياق ثرثرته المعتادة، لكنه نظر إلى يوسف بإعجاب، لم يكن يشك به، عمله مع الإنجليز كان لحاجة العائلة إلى مورد رزق واضح تحت الشمس، لا شيء آخر. قال لأبي ناصر إنه يشك به، لكي لا يجعله يحل محله. ما أن شرب كأس العرق دفعة واحدة، انطلقت ضحكته المجلجلة، تلك الضحكة الغامضة المحيرة، صارت مريبة ليوسف التفت جهته. لم يحر الخطيب شيئاً. لم يشأ أن يقول له إن ما أضحكه هو تصوره ان يوسف سيضع رجال ونساء التنظيم، في المقلاة فوق النار الحامية، يقلبهم مثل السمكة في المقلاة ويستخرج زيتهم، ويدير به عجلة التنظيم. رغم إنه مجرد تصور لحال ومصير التنظيم مع يوسف. لكنه فكر أن يوسف رجل خطير فعلاً وسيسوم رفاقه مشاق مضنية من اجل فكرته، سيقليهم كالأسماك، ولكن هل سيتحقق شيء؟ أنا نفسي اعتنقت الشيوعية، غير متأكد من صحتها ومن ضمان نجاحها، هي براقة جذابة مدهشة حقاً. فكرة تقلب الكون. لا توجد فكرة تقابل المنظومة البشرية والمنظومة الشمسية معاً غير الشيوعية؟ فكرة تشبع بالغرور، وتغري بالطموح الجامح للأعالي، أجد فيها لذة المغامرة، أجلس مع رجال شرطة وجيش وموظفين كبار وأحياناً إنجليز،وأنا اضمر خطة هائلة مخالفة لهم، ستقلب كراسيهم يوماً من الأيام. كم هو شعور لذيذ، مزيج من المغامرة والحلم الذي لا يخلو من قلق وخوف! قال ليوسف وقد شعر بنشوة مفاجئة: بعد أن بنينا معا نواة الحزب هنا. سأذهب في مهمة أخرى في مكان آخر، أنا مطمئن ان الحزب بين يديك سينمو، ويكبر ويصير الآلة العظيمة التي نهدم بها دولة الإنجليز ومن تحالف معهم، ونقيم دولة العمال والفلاحين. وستكون بقيادتك الحكيمة! تمتم يوسف رافضا هذا العرض المغري: لا أنا لست طالباً للسلطة! مرة أخرى أطلق الخطيب ضحكته المجلجلة المقلقة. عندما قاربت جلسته الخمرية على الانتهاء قال ليوسف:

ـ أنت سليل المسيح المخلص، وستكون أنت مسيحاً أحمر بيده مطرقة وبندقية إذا اقتضى الأمر بدلاً من غصن الزيتون، أو كأس النبيذ، ستكون الراعي المحنك لكل هذه الخراف العراقية الضالة!

ـ ربما يستدعيني الرفيق ستالين؛ لأتزود منه بتعليمات أخرى؛ ومواصلة مهمتنا الكبرى في هذه البلاد العظيمة! لي كل الثقة أنك ستقود التنظيم بكل حكمة واقتدار! قد أعود إليك قريباً أو أرسل إليك من يعقد صلة أممية معك. سلمه مظروفا صغيراً أزرق من تلك التي تستعمل في الرسائل الغرامية، قال له: قد يطول غيابي، خبئه في مكان لا يخطر على بال. ولا تفتحه قبل ثلاثة أشهر. كان يتضمن كلمة السر التي سيقولها له أبو ناصر، إذا ما جاء ليتصل به!

اختفى الخطيب فجأة. ورغم إنه نوه كثيراً ليوسف عن غيابه، لكنه ظل يحس بنكهة المفاجأة، غموضها وإثارتها. وراح يتكهن أين يكون ذهب؟ إلى إيران؟ أفغانستان؟ باكستان؟ ربما، وبدلاً من أن يشك به أو بكل وعوده ومشاريعه، وجد أن اختفاءه الغامض زاد من هيبته والهالة الكبيرة التي تحيطه. قرر ان يعتمد على نفسه، يبني التنظيم، وينتظر ماذا ستسفر عنه هذه الرسالة الغامضة العجيبة. ظل ثلاثة أيام يفكر ويقلب الأمر حتى اهتدى إلى مكان آمن يضعها فيه؛ تجويف صغير بجدار حجرة نومه، بعد أن لفها بجلدة اغلق الفجوة بملاط، وعلق تحفة هي سجادة صغيرة تحمل زهوراً حمراء، جلبها معه من دمشق في زيارته الأخيرة. كلما نظر شتلة الزهور الحمراء المتفتحة: شم الرائحة العطرة للشيوعية!

قال العطار: ذلك ما يستلب عقل فهد دائماً: الغموض والسرية والإبهام والتخفي والغياب.

قلت: هو تكيف إزاء سلطات غاشمة. لكن العطار رد قائلاً:

ـ لو أجهدنا أنفسنا على فكرة دقيقة صائبة لما تلقفتنا من أجلها سراديب ولا سجون، ولا تخيفنا وراء أسماء سرية وأوراق وطلاسم، من تستوعبه الشمس؛ يجبر الآخرين على استيعابه!

حكم، كلام جميل، خواطر عذبة نقولها بعد موت طويل يا صديقي، من قال إن ما نتحدث به اليوم صحيحاً، ما هو صحيح اليوم لم يكن آنذاك صحيحاً، وما تحدثنا به آنذاك وبدا صحيحاً، لم يعد اليوم صحيحاً، لكل يوم كلام، ولكل يوم كلمات، ولكل يوم حروف. كلام مجرد كلام، وربما مع قليل من الأوهام الجميلة أيضاً.

(113) نورا والأهالي، وأحزاني الأخرى!

حتى تلك الفترة وقد مضيت في العمل مع جماعة الأهالي لم احسم أمري بالانتماء رسمياً إليهم، كنت موزع التفكير بين العمل العام، وحياتي الشخصية التي صارت نورا محورها، بقيت قلقاً خائفاً، لم أتقدم لخطبتها خشية أن ترفضني عائلتها الكبيرة، فمن الواضح إن أمها لا تستطيع اتخاذ قرار تزويجها لوحدها. لا بد أن تعرضه على أعمامها وأقاربها الآخرين، وسيرفضونني حتماً. حين يعرفون بعلاقتي بها ستلاحقني مراقبتهم وأحرم منها نهائياً. هي كانت تعرف ذلك، وكلما ناقشنا أنا وإياها الأمر نصل إلى نفس النتيجة. ما كانت هي تمتلك الجرأة لنتزوج سراً، ونضعهم أمام الأمر الواقع. كانت ما تزال مشدودة للأواصر العائلية، ولا تريد أن تعرض أمها لهزة نفسية قد تؤذيها، وهي تعاني من أمراض مزمنة!

كان يحزنني أيضاً وضع الأهالي في محيط تتشكل فيه الأحزاب بالسرعة التي يشكل بها التجار شركاتهم واتفاقاتهم. كانت بلا أية مشاريع، أو أهداف، أو فكر تراعي المصلحة العامة، هم أصحابها الوصول إلى كرسي السلطة، أو قطعة منه، الحزب دابة أو مطية يصلون بها إلى الوظيفة والمال والنفوذ والملكيات الكبيرة، ثم يسرحونه مع الكلاب السائبة، وما أكثرها. كانت أحزابهم وتحالفاتهم وتجمعاتهم تنتهي كما موجات الذباب على المزابل، أو كما قال البستاني (فقاعات في طشت غسيل قذر)!

كان الجادرجي يدرك كيف يسري هذا القانون على حزب الإخاء الوطني؛ لذلك كان يطمح لأن يتركه، ويلتحق بتنظيم سياسي يقوم على فلسفة راسخة واضحة وأهداف تتعلق بمصالح أوسع قطاعات الشعب ليضمن ديمومة لمركزه ومستقبله.

وجد في جماعة الأهالي هذا كله، والأكثر دم الشباب الذي يمت له بقربى فهو لا يكبر أكبرهم سوى بتسعة أعوام، فهو من مواليد 1897، بينما عبد الفتاح إبراهيم من مواليد 1906.

لكن مشكلة الجادرجي أنه هذه المرة لا يرضى بأقل من أن يكون زعيماً لهم، فهو إذا كان قد قبل أن يكون عضوا في قيادة حزب الإخاء، فلكون رئيسه ياسين الهاشمي يكبره بكثير، أما اليوم فهو شاب وشيخ معاً!

ولد كامل الجادرجي في كنف أسرة تنعم بالثروة والسلطة معاً. حين هبط إلى الوجود في حجرة واسعة عالية الجدران، دلكته القابلة على الفور بعصارة أوراق زهور الخزامى التي تنمو كثيفة في حديقة دارهم العامرة القريبة من جامع الحيدر خانة في بغداد، فهي كما يعتقد تجعل الابن وريث أمجاد البيت، يحافظ عليها ويزيدها دائماً! كان والده أمينا للعاصمة لعدة مرات، فنشأ مدللاً، لا تتردد الخادمة عن تنفيذ أي طلب له. كانت تحمله وعمره أربعة أعوام على سطح البيت في مساء بغداد. شاهد القمر بدراً يتوسط قبة سماء بغداد الرحيبة؛ فراح يدق بساقيه ويديه صدرها ورأسها يريد منها أن تجلب له القمر! تحيرت كيف تحقق رغبته هذه؟ اعتادت هي نفسها أن تجد أي رغبة في هذا البيت غير مستحيلة. نزلت به إلى جدته التي يقال أنها من أصل تركي. وجدت الحل سهلاً. أخذته في حضنها، وراحت تنومه على أغنية تركية قديمة تجعل الطفل حين يسمعها ينام؛ ليقوم هو بنفسه بإنزال القمر، واحتضانه في فراشه. وحيث كانت تعرف أن الأطفال الذين يحتضنون القمر في نومهم يبولون عليه عادة، فقد قامت بحشو لباسه بالقطن المخلوط بزهور جافة، ليتضوع عطر حديقتهم، مع بول حفيدها، على سطح القمر! عندما خاض الجادرجي معترك السياسة مبكراً، وصار أصغر وزير في تاريخ العراق، آنذاك روى هذه الحادثة لبعض أصدقائه، وقد أمسك بها خصومه قائلين أنه برجوازي؛ أبسط طموحه أن يمسك بالقمر، بينما لا يجرؤ فقير في بغداد أن يحلم بقطعة صغيرة من القيمر!

كان قد تخرج من كلية الحقوق، معجباً بمبادئ الثورة الفرنسية، وبكتاب مونتسكيو (روح القوانين) مفنداً ببعض فقراته تعصب رجال الدين، واستبداد الحكام، خاصة إذا تحالفوا معاً، ومع ذلك كان كثير الشك والتردد أمام تجربة يخوضها شخص آخر حتى لو قدمها له بأجمل الكلمات، وأكثر الكتب أناقة، دون أن يفقد الاهتمام باقتناء الكتب وقراءتها، لكنه كان يفضل خوض غمار الحياة والوصول إلى حكمتها بنفسه. كان وسيماً أنيقاً معتدل القوام وبرشاقة جذابة، لكن ظل يستهويه كرسي السلطة، وكرسي الحزب، اكثر من كرسي الكتابة، أو سرير المرأة! عندما تزوج عام 1924،حضر حفل زواجه كبار الشخصيات العراقية مع زوجاتهم، كانت بين المدعوين المسز بل المستشارة البريطانية التي لعبت أدواراً حاسمة في مصير العراق وحكامه. وسميت عرابة ومولدة الدولة العراقية، وحكامها. أمرت مدبرة منزلها البارعة بتحضير الحلوى، أن تعد لها قصعة فاخرة ولذيذة من الكيك على الطريقة الإنجليزية، سألتها المدبرة:

ـ ماذا؟ ملك آخر؟

ـ ربما! من يدري؟ قد يصير هذا الشاب الطموح ملكاً!

كانت المسز بل هي من صاغت طرائق الحكم في هذه البلاد، وفق المساطر الإنجليزية، وهي التي قلبت بيديها الناعمتين كل المرشحين لتاج المملكة، واختارت فيصل المعروف بقامته الرشيقة المتوسطة، ووسامته الحالمة الحزينة، كانت المسز تقول إن وجهه الشاحب يشع بجمال الروح ويذكرها بوجه السيد المسيح في كل أيقوناته وصوره في الكنائس. يقال إنها عشقته، فوصلت إلى سرير نومه. ربما كانت تبحث في جسده النحيل عن قبس من نور الشرق العابق باللذة. ضباب إنجلترا بشمس العراق الناهض من غباره، ربما هو غرق معها بنشوة امتزاج الجنس بالسلطة، المالك بالمملوك! كتبت لأبيها في إحدى رسائلها (لقد تعبت يا أبي من صناعة الملوك) قالت المدبرة:

ـ سأصنع هذه الحلوى بهيئة ملك يعانق ملكة، أنت تصنعين الملوك من لحم البشر المر، وأنا أصنع الملوك من لحم النبات الحلو!

الحكاية وصلت للجادرجي، عبر زوجته الشابة الصغيرة التي لم تكن قد رأته قط حتى ليلة زواجهما! كلمات الإنجليزية الخبيرة بصنع الملوك من لحم البشر، صارت جزءاً من خيلائه وربما غطرسته أيضاً!

كان عبد الفتاح قد التقى الجادرجي في مكتب الروائي محمود أحمد السيد الذي كان رئيس محررين في أمانة بغداد. في البناية الصغيرة المقابلة للقشلة. كان الجادرجي يرتدي بنطلونا ازرق ضيقاً عند اسفل القدم، وقميصاً غامق، أسبله فوق الحزام، يحمل عصا يتبختر بها تحت إبطه، أفنديا نموذجياً، يقول عبد الفتاح: كشت نفسي منه في البداية. قلت كيف لهذا الغني المرفه أن يحس بآلام الفقراء، ويرافقنا نضالنا الذي سيكون طويلاً وشاقاً؟ لكن الزمان جمعنا به؛ فوجدناه مستعداً للذود عن الفقراء دون أن يتخلى عن شغفه بالغنى والثراء. للأنصاف أقول: أنه كان يحتقر الغنى؛ إن لم يكن مقرونا بغنى العقل والفكر، وخاصة بحب الموسيقى والتصوير الفوتوغرافي! قلت في نفسي، ولم لا؟ يمكن العمل معه، ولكن بحذر! اتصل الجادرجي بعبد الفتاح وفاتحه برغبته بالانضمام إلى جماعته. رحب به هو وجماعته. قال أحدهم: اليوم وقع الجوكر بأيدينا، دعوه للقاء في مكتب المحاماة المشترك بين حسين وعبد القادر، وهو شقة متواضعة في سوق دانيال. كان ذلك في يوم عاصف هجم فيه البرد سريعاً في شتاء عام 1932! كان وحده فيهم يضع على رأسه الضخم المدور السدارة الفيصلية بينما هم حاسرو الرؤوس، كان يتقدم الجماعة عبد الفتاح بصمته وطموحه وقد صار لا يخلو من تيه وإعجاب بالنفس، وبجانبه البستاني الذي صار فكره يزداد اقتراباً كل يوم من هموم الكادحين والفقراء والتبلشف دون أن يفقه بعد كل مثلثاته ودوائره ومستطيلاته كما قال. الجادرجي وحده لا يتقدم أحداً، ولا يتقدمه شيء سوى غليونه المعطر التبغ، وإتيكيته الأرستقراطي! بينما كان محمد حديد الثري المولع بأناقة ملبسه وأناقة أفكاره ومشاريعه، يحتفي به بنفس أرستقراطية مع فابيته، وبدا إنه قد وقع في قلبه منذ تلك اللحظة؛ فصار الأقرب إليه منهم جميعاً. كان محور حديثهم في هذا اللقاء المفاجئ هو ضرورة اجتماعهم على مشروع اقتصادي اجتماعي ثقافي ينقل العراق إلى العصر الذي دخله العالم؛ فلا يبقى يدور بين خيام البدو والمسلمين الأوائل الممسكين بخيولهم وسيوفهم. في العالم تتوالى الاختراعات والاكتشافات والأنوار، وهنا تتولى بدع الظلام، وخطب الجوامع، وحشود الباكين واللاطمين على مصائب الماضي! اختصر الكلام البستاني على طريقته القصصية قائلاً:

ـ العراق يغوص بأوحال عصور الكهوف والطوائف والأديان المتحجرة، ولابد من أيادي مخلصة تنتشله. عقب عبد الفتاح :"يد تحمل مصباح الديمقراطية!"

قال الجادرجي: فعلا، نريد يداً قوية نشيطة لا تسقط المصباح، وتستطيع الدفاع عنه!

وعدوه ببلورة نص مكتوب في ذلك. أضاف كما في خطوبة امرأة فيقال "منك المال، ومنها البنون"، قال: منكم الفكر، ومني العمل! وبهذه المعادلة وضع الثقل الأكبر في كفته؛ فهو يعرف أن أرض بغداد خاصة، صلبة وعرة،تحرث عادة باليد والولائم، والمال والوجاهات، لا بالقلم! وتعهد لهم برسم الخطط العملية والسياسية لتنفيذه، بأقرب وقت. كان قد طلب من سائق سيارته أن يدق عليه بهورن سيارته لينبهه إلى موعد له مع جعفر أبي التمن. أحس بجسده ساخناً، لم يكن يتصور أن الحمى الثورية ستنتقل إليه بهذه السرعة. نهض مسرعاً، وهو يسمع صوت البوق:

ـ هيا ! قطار التاريخ يدق، وهو لن ينتظر الكسالى!

لم يسألوه ماذا يعني بذلك، لكنه تصور أبا التمن في تلك اللحظة قد نزع جبته وعمامته، وارتدى بذلة سائق قطار. فكر هل يستطيع نقل هذه الحمى الثورية اللذيذة إلى جسد أبي التمن المتيبس على البسملة والتعاويذ والأدعية، وهو لا يفتأ يردد أنه قد كبر وجسده أخذ يبرد، ويقترب من القبر. هو يفضل أن يستمع لبعض البواكي الحسينية، ويستغرق بتأملاته الحزينة، بعيداً عن الشعارات السياسية الصاخبة!

بعد ذهاب الجادرجي في ذلك اليوم المطير؛ وجدوا أنفسهم يناقشون أمرين متباعدين. الأول السدارة التي كان يعتمرها. كانوا ينظرون إليها بريبة، يعدونها زي الأفندية المسرحين من دولة العثمانيين، ويعجبون كيف يضعها الملك فيصل الأول على رأسه، والعراقيون لا يزالون يمقتون العثمانيين؛ مقتهم للصوصهم جباة الضرائب، وللطواعين، وموجات الجراد التي تسبقهم عادة مبشرة بقدومهم! سمى الناس سدارته (الفيصيلية)، وتسابق موظفو الدولة والوجهاء على ارتدائها، قال حسين جميل:

ـ لا تجعلوا من الأمر قضية، فيصل أراد بها التخلص من الإنجليز لكي لا يفرضوا عليه قبعتهم، وجدها أهون الشرور، العراقيون ارتدوها لكونهم منذ القدم يخافون حكامهم، ويتقون شرهم بتقليدهم في ملبسهم وشواربهم ولحاهم وعباءاتهم!

لكن البستاني قال :

ـ ارتداء الجادرجي للسدارة يعني إنه في منزلة أخرى، وإنه مرشح دوماً لمنصب في الدولة، وإن بيننا وبينه سوراً، لا نستطيع اختراقه!

الأمر الثاني الذي ناقشوه بينما بقايا عطره لا يزال يملأ الحجرة الرطبة، هو أن الجادرجي كان قد وافقهم على كل ما طرحوه، قائلاً: خذوا مقدماً بصمات أصابعي العشرة على ذلك! لكن عبد الفتاح الأكثر تدقيقاً بملامح الرجال وكلماتهم، والذي لا يزال يحافظ على مسافة منتصف الطريق مع الجادرجي؛ مذ رآه في مكتب الروائي ابن خالته، قال: لا أدري لماذا خامرني شك بوعوده، شعرت إنه بعد أن يوقع سينفخ بيديه ليل نهار ليغير خطوطها وبصماتها، وحتى سلخ جلدهما؛ ليتنصل من عهوده، فهو بمزاج رجل برجوازي قد لا تسحره الثروة لأن لديه منها الكثير، ولكن السلطة تسحره؛ حد سجوده لها. اعتقد إنه لم يفكر بترك حزب الإخاء كما قال؛ إلا لأنهم لم يمنحوه منصباً كبيراً، كان يطمح إليه، وأتمنى أن أكون مخطئاً! بدا عبد الفتاح أكثر المنفعلين أو المتأثرين باللقاء، كأنه هو أيضا خشي على زعامته غير المعلنة للجماعة. ظلت العلاقة بينه وبين الجادرجي مفعمة بالشك والتوتر تتخللها لقاءات صفاء وعمل، وود صديقين يتنافسان، لكنهما لم يهبطا يوما عن نفحة راقية متسامية!

مع ذلك توافقت الجماعة أن لقاءها بالجادرجي هذا اليوم الذي أغرق بالمطر حتى منتصف الليل، يمثل التقاء الفكر العميق رغم اختلاطاته؛ ممثلاً بهم، مع الخبرة السياسية، والحنكة الدبلوماسية ممثلة بالجادرجي، ولا بد لهذا من ثمرة كبرى تثري هذا البلد وتحقق سعادة أهله! لكن هذا الأمل كأي أمل آخر في العراق، سار في منحى آخر، وسترى!

بعد أن توثقت صداقة خاصة سياسية وأرستقراطية بين الجادرجي ومحمد حديد، كان البستاني جالسا مع عبد الفتاح في مطعم شعبي، قال عبد القادر مطلقاً لسانه الظريف:

ـ بينما أنا وإياك هنا نخمد جوعنا بالباقلاء المسلوقة، يجلس الجادرجي ومحمد حديد في قصر أحدهما يأكلان أشهى الأطعمة، ويشربان الويسكي، ينفثان الدخان المعطر أحدهما في وجه الآخر، ويتحدثان عن الديمقراطية، والوطنية، وقيادتهم للفقراء!

قال عبد الفتاح بصوت حزين:

ـ ولكنني أشعر أن زمن أبناء الذوات بدأ يتهشم، مرة هم يأكلون الباقلاء معنا، ومرة نشرب الويسكي معهم،عصر جديد يهل على العراق أيها البستاني!

لكن البستاني الغاضب على الأثرياء دائماً، قال :

ـ لكنهم في النهاية سيستحوذون على كل شيء، ونحن سنُنسى!

قال عبد الفتاح:

ـ لم تعد الحكمة: نقول كلمتنا ونمضي، بل: نقول كلمتنا، ونبقى لنصارع حتى الرمق الأخير!

(114) صمت الحاكم، يعني صراخ الوطن!

بعض الأحزان تتصاعد كالعطر، برقته وقوته، لا تجعلك تبكي، لكنها لا تدعك تضحك من القلب! كان خلاف نورا الوحيد معي هو قربي من جماعة الأهالي، ودعمي لهم، وانخراطي في معظم أنشطتهم، لم تكن تنسى لهم أنهم حرضوا على محاربة الآشوريين وإنهم سكتوا، على المذابح الفظيعة التي أرتكبها بكر صدقي وجنوده في قراهم. كان والد نورا آشورياً، وهي قد ورثت عن الآشوريين: جسدها الأشقر الفاتن، قوامها الفارع، شعرها الكستنائي الطويل، عينيها العسليتين الواسعتين، فمها المضموم على اشتهاء وغموض ساحر.كثير من أقارب أبيها قد قتلوا في هذه المذابح، وهي تعزو موت أبيها المبكر إلى معاناته وعذابه أنه لم يقف معهم ويحارب قتلتهم! قبل أكثر من خمسة آلاف سنة صار الآشوريون أسياد هذه الأرض، وقد ظلوا كذلك لمئات السنين. كانت قلب حكمهم، وفيها عاصمتهم نينوى. امتدت إمبراطوريتهم إلى أهرامات مصر، وإلى ضفاف السند وكنوز الهند. كانوا محاربين أشداء، لكن الإمبراطوريات لا تدوم بالسيوف وحدها. نخرت حكمهم سوسة الفساد والطغيان، فانهارت ممالكهم، وتضاءلوا بالهجرات، وحملات الإبادة التي كانت آخرها من العثمانيين وحلفائهم التركمان والكرد أواخر القرن التاسع عشر. سمي أحفادهم أنفسهم بالآثوريين، كأن قلب الشين إلى ثاء في اسمهم يعني انقلابهم هم إلى الزمن المعاصر. في عصر استيقظت فيه القوميات من سباتها الطويل، استيقظوا هم أيضاً متذكرين أمجاد أسلافهم. استنهض الإنجليز في جماعات منهم مهنتهم العسكرية التي تورثوها عن أجدادهم، حتى ليتحدث بعضهم عن سيوف ودروع شاركت في حروب قبل الميلاد بألف عام لا تزال معلقة على جدران بيوتهم وأديرتهم! كون الإنجليز منهم جيشاً أسموه (الليفي) وجعلوا منه قفازاً لمهماتهم الداخلية مع أهل البلاد، وأيقظ القس مار شمعون فيهم ثباتهم على دينهم بوجه الفتح الإسلامي! فهبوا ينشدون دولتهم المستقلة على أرضهم القديمة. أيد الإنجليز طموحاتهم ومنحهم القس بركاته وزعامته ليجمع بيديه السلطة الدينية والزمنية، ويمنحها نكهة نبيذ الأديرة العتيقة! لكن كل هذا لم يصد الملك فيصل عن تأمل قضيتهم، كان يعرف أن الآثوريين والكلدان هم سكان العراق القدامى، وينبغي احترامهم كما يحترم المسنون في العائلة، لذلك طلب من ابنه غازي ورئيس وزرائه ومعاونيه تفهم مطالبهم ومعاملتهم بلين، ومرونة عالية! بعضهم نظر إلى وصية الملك على أنها خنوع للإنجليز، بينما نظر لها آخرون على أنها حكمته المعروفة: سأجمع الهلال والصليب، حلية ثمينة على صدر المملكة! لكن غازي الذي كان يدير البلاد كولي للعهد، يستفز هوسه القومي عصفور يحط على سارية علم قصره! ورئيس وزرائه رشيد عالي الكيلاني، ووزير داخليته حكمت سليمان، اللذين يتحدث الناس عن كونهما من آصال غير عربية، وينبغي لهما إثبات العكس، عدوا تمرد الآشوريين بدفع من الإنجليز لإضعاف العراقيين ودولتهم الناشئة، ومحو طابعها العربي. عندما تصاعدت مجريات قضيتهم كان الملك فيصل الأول في زيارة رسمية لبريطانيا بدعوة من الملك جورج الخامس، فقرر الأمير غازي ومن معه توجيه ضربة عسكرية شديدة للآثوريين، بينما عارض أو تحفظ نوري السعيد وآخرون ممن عدوا من عملاء الإنجليز! كان ذلك في صيف 1933، كانت جريدة الأهالي تدعو منذ وقت طويل لمحق تمرد الآثوريين. هو في رأيها مؤامرة إنجليزية لتمزيق العراق، وإبعاده عن أمته العربية. هللت لهذه الحملة خاصة وهي قد حظيت بتأييد قطاعات واسعة من العراقيين المهتاجين قومياً من جهات عديدة! كان على رأس كتائب الحملة العسكرية الضابط بكر صدقي، اشتهر بفظاظته وجلافته. هو كردي مستعرب. قدم ما عده برهاناً على إخلاصه للقومية العربية في قمعه قبل فترة قصيرة وبقسوة شديدة تمرد الكرد البرزانيين في مناطقهم!

كان عدد الرجال الآثوريين المتمردين، مسلحين، وغير مسلحين حوالي ألف وخمسمائة! وكانوا قد دخلوا الأراضي السورية، لاجئين احتجاجاً على خطة الحكومة لإسكانهم بالقوة دون تلبية مطالبهم السياسية. لكن الفرنسيين الذين يحكمون سوريا صدوهم، فعادوا إلى الأراضي العراقية. واجههم الجيش ببنادقه ومدافعه. قتل المئات منهم. لم تستغرق معركة الجيش معهم لدحرهم سوى عشرين ساعة، لكن عمليات التنكيل بهم وبعوائلهم استغرقت أكثر من أسبوع، وعلى شكل متقطع لأكثر من شهر! قام الجنود بأمر من بكر صدقي بجمع العوائل في قرية سميل. أجبروا النساء على السير عاريات؛ ليختار الجنود منهن من يشتهون، اغتصبوا الكثيرات منهن، قتلوا أطفالهن أمامهن. اقتحموا الأديرة والكنائس، ذبحوا الكثير من الرهبان والقسسة. أحرقوا كتبهم، وداسوا على أيقوناتهم وصلبانهم. تجاوز القتلى الثلاثة آلاف من الرجال والنساء والأطفال، ولم يغادر الجنود القرى الآشورية إلا بعد أن احرقوها وتأكدوا من عدم إمكانية عودة سكانها إليها. تناقل بعض الناس أخبار المذبحة في تفاخر، تحدث عنها رجال بمرح وكأنهم يروون نكاتاً: كيف أن بكر صدقي جعل السيارات العسكرية تدوس بعجلاتها على بطون النساء الآثوريات الحوامل لتنفجر كالبالونات بفرقعة(بم ..بم ..بم .. بم) فتثير ضحكهم! قليلون أحس إن ما حدث كان فظيعاً، وحشياً ومخزيا! عار لا يمحى! تحدثوا عن رجل دين مسلم جز لحيته قائلاً: لن أجعلها تطول ثانية حتى يعلن رجال الدين ومن على منابر المساجد، شجبهم لهذه الجريمة الشنيعة وتكفير بكر صدقي وجنوده، ومن أرسلهم. مورداً الآية التي تقول أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكلك يفعلون، قائلاً المقصود بالملوك: هم الضباط والجنود، وإذا لم يتبرأ المسلمون من هؤلاء فأنا بريء من إسلامهم! ولكن لا رجال الدين ولا رجال السياسة ولا رجال الثقافة، أدانوا أو استنكروا ذلك، ولا يعرف إن كان رجل الدين هذا قد ترك لحيته تطول ثانية أم لا! لم تكن جريدة الأهالي غافلة عن تفاصيل ما حدث، لكنها تحدثت كالصحف الحكومية والقومية الأخرى عن سحق الجيش للآثوريين وكأنه انتصار على بريطانيا العظمى! طالبت بعدم الاكتفاء بالنصر العسكري؛ بل يجب أن يمتد إلى تصلب سياسي في التعامل مع بريطانيا، ومع عملائها الآثوريين! عاد الملك فيصل الأول من سفرة علاجه في الخارج، بسرعة عله يتدارك ما يقع على الآثوريين من انتهاكات ومذابح، لكنه وجد أن الآثوريين قد ذبحوا وانتهكوا، وكل شيء قد انتهى، وكل من حوله يتحدث عن انتصارات ومآثر وبطولات؛ فلاذ بالصمت، قال له أحد المستشارين الإنجليز:

ـ صمت الحاكم يا صاحب الجلالة، يعني صراخ الوطن!

وقيل إن الإنجليز ونوري السعيد تحدثوا عن العار الذي لحق بالعراق وقد يدفع ثمنه خراباً هائلاً في يوم من الأيام! لكن الملك الذي أوغل في الصمت عاودته أوجاع القلب بشكل اشد، فرجع للعلاج في سويسرا، ثم جاءت رسالة من رئاسة البلاط إلى مجلس الوزراء يشكرهم على جهودهم في وأد الفتنة البريطانية الآثورية. كان من الواضح أن الشكر جاء من غازي ولي العهد. ما جاء بعد أيام من فيصل حقاً هو أنباء عن دخوله في غيبوبة بين فترة وأخرى، وتفاقم مرضه!بعض من ذوي النزعة الاجتماعية في الأهالي، أرادوا من ذوي النزعة القومية في جماعتهم أن ينأوا عن تبني كل الإجراءات التي اتخذت لإنهاء تمرد الآثوريين، وفي الأقل التذكير بأخطاء ارتكبت في هذه العمليات، لكنهم لم يفلحوا. احتفت الجريدة مجلجلة بعودة بكر صدقي وجنوده من ساحة القتال ولقائه بوزير الداخلية حكمت سليمان الذي صار صديقه المقرب، وأسمتهم بأبطال الانتصار، وراحت تتغزل بوجوههم وقسماتهم البطولية، وتصف زخارف وألوان أقواس النصر التي نصبت لهم على مداخل المدن!

كانت نورا آنذاك تقول: أنا لا أعتب على صحف الحكومة، والمحافظين والرجعيين ولكن ما بال الأهالي صوت الكادحين والمسحوقين والحضارة الجديدة كما تقول؛ لا تدين هذه الجرائم، أو في الأقٌل تلتزم الصمت، ولا تهلل لها مع الحكومة وضباطها القتلة! ماذا أقول لنورا؟ أأقول لها إني تحدثت مع بعض قادة الأهالي، وقلت لهم ربما لكم الحق في رفض تقطيع أوصال العراق؛ بدويلات صغيرة، ومحاربة الإنجليز وعملائهم، ولكن كان يجب عليكم إدانة الانتهاكات الشنيعة التي قام بها الجيش في قمع انتفاضة الآثوريين. وإنهم أشاحوا عن كلامي،كانت ستقول لي ها أنت عجزت عن التأثير عليهم لماذا تبقى معهم؟ لم أقل لها أن موقف الأهالي من المذبحة التي تعرض لها الآثوريون جعلتني أحسم موقفي في عدم الانتماء رسمياً لهم دون أن أقطع صلتي بهم، خفت أن تطلب مني الابتعاد عنهم نهائياً، وهذا لا أريده. قلت لها: نشاط هذه الجماعة لا ينحصر في هذه القضية فقط، وهذه كبوتهم ويجب أن أناضل مع التقدميين منهم كي لا يكرروها، وكي يراجعوا أنفسهم ويدينوها! كانت تلك بقعة سوداء في تاريخ الأهالي، وفي تاريخي أيضاً، لا يمكن تبريرها مهما أوردت من حجج وادعاءات! يبدو إنني آنذاك لم أكن يقظ الضمير بما يكفي. تصور كم نحتاج من الموت لنستيقظ بضمائر حية مرهفة؟

(115) وقال لي إذا مررت بقبره؛ سلم، وانتظر حتى يرد السلام. كم علي أن أنتظر؟

كان رئيس المحكمة مشتبكاً مع الشهداء المناوئين للانتفاضة، يرد على هتافاتهم وصيحاتهم:

ـ بل أنتم الذين صرتم مع الفكرة وقادتها من المتحجرات، بذلك ساهمتم في خراب البلاد!

صمت برهة ومضى ليعلن:

ـ في الجلسة القادمة سيكون آخر نداء لرفيقنا المتهم فهد، وإذا لم يحضر سنحاكمه غيابياً!

سمع أكثر من شهيد يقول:

ـ لا أظنه سيحضر، ماذا سيقول بعد أن تكشف أن صفيحة العسل التي أتى بها من موسكو كان نصفها الآخر السم الزعاف!

راح الجهنمي يتساءل مع نفسه: لماذا يتحدثون عنه بهذه القسوة، ألم يكونوا رفاقه؟ صمت برهة، وجه كلامه للعطار:

ـ بعد كل هذا الذي جرى وبعد سنوات موتنا الطويلة، كيف ترى الآن فهد؟ قال العطار بهدوء:

ـ كان مناضلاً عظيماً، ومفكراً سيئاً!

ـ ورفاقه؟

ـ طيبون جداً، حد السذاجة والغباء!

ثمة صوت يأتي من جهة الكهف البعيد: يسأل أين هو قبره؟ لنذهب إليه ونجلبه منه؟ كلام مس قلب يونس، فراح في ذهول حزين، ربما هيكل فهد العظمي المكسور على مشنقة غير قادر على السير مئات الكيلو مترات من بغداد إلى هنا. مر على استشهاده أكثر من نصف قرن. بعد إنزاله من المشنقة؛ دفن على عجل في مقبرة صغيرة قرب الباب الشرقي في بغداد، غير بعيد عن إحدى الكنائس. رافقته طقوس مسيحية مختصرة. لم ترعها الكنيسة بطقوس كاملة لإلحاده، ولزجه المسيحيين في موقف عدائي مع الحكومة. لم تكترث الحكومات الملكية المتعاقبة لقبره. صار لفترة غير قصيرة قبلة لفقراء وكادحين يزورونه وبتوجيه من الحزب الشيوعي. وكالعادة في حكاية الأضرحة يلتبس الأمر، ويتداخل فيه النسيان بالوهم بالإشاعة والخرافة والدعاية، ومصالح الأشخاص. صار قبر المسيحي الشيوعي فجأة؛ ضريح وليٍ من أولياء الله الصالحين وصفوتهم المختارة، مسلم عظيم الإيمان، وجد خطأ بين قبور مسيحيين لحكمة؛ لا يعرفها إلا الله! ربما ليمتحنه حتى في موته، ما أكسبه المزيد من العطف والاهتمام، فحطت على قبره هالة كالتاج البلوري. وضعوا له شاهدة كتب عليها الآية القرآنية الملازمة لمعظم قبور المسلمين (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، وادخلي في عبادي، وادخلي جنتي)،أدخلوا المسيحي الشيوعي جنة المسلمين، بعد أن عجز عن إدخالهم جنته المصنوعة بأيدي الملحدين. حكمة إله، أم شيطان؟ أكدوا أن وساطته وشفاعته مقبولتان بسرعة لدى الله. صاروا يقبلون حجارته وترابه ويحملونه آمالهم ورغباتهم وطموحاتهم الصغيرة، راح كثيرون يأتونه بحاجاتهم وعللهم. النساء اللواتي استعصى لديهن الحمل أو الزواج، يأتين ليعفرن جزءاً من أجسادهن بتراب قبره. من أصيب ولده أو ابنته بمس جنون؛ يأتي به ليحني الرأس المختل على شاهدته عله يعقل. من خسر تجارته أو وظيفته يأتي ليحمل شيئاً من فتات حجارته في جيبه ليمتلئ بالذهب. بعد انقلاب تموز 1958 وتصاعد نجم الشيوعيين في سماء بغداد، حتى خيل للناس أنهم سيكونون ملوك العراق الجدد، وإلى الأبد، فكر بعض قادة الحزب ببناء ضريح فخم له على غرار ضريح لينين.لم تمهلهم الأحداث المتسارعة.هوى نفوذهم،مع الكثير من رؤوسهم. انهمكوا في صراعاتهم مع بعضهم في القيادة، وصراعاتهم مع البعثيين والقوميين من جهة، ومع قاسم من جهة أخرى. نسوا القبر كما نسوا بيوتهم وعوائلهم. بعد ان انقض أعداؤهم عليهم بدعاوى إثارة العنف والفوضى في البلاد، وإعاقة مشروع الوحدة العربية، راحوا يبحثون عن جذور الشيوعيين يريدون اقتلاعهاً، ألقوا الأزبال والكلمات النابية على قبر فهد.تصاعدت الأحقاد تنصب على القبر تريد إزالته وطمسه. لكن القبر بقي وزواره يتكاثرون، ذلك زاد من اعتقاد الناس بأن للقبر قدرات خارقة صمدت بوحه هذه الجهات السياسية الكبيرة. وإنه يوشك على الصعود إلى السماء. كانت قدرات الناس على تكملة النقصان، وإنقاص الكمال، تعمل بشكل نشيط حول القبر، فكانت كراماته في تكاثر: وصل القبر إلى شيوعية المعجزات الصغيرة؛ يوزعها كالحلوى والتمائم على العوانس والعجائز والعواقر والرجال المربوطين. فالخرس تكلموا، والطرشان سمعوا، والأغبياء تذاكوا، ونجحوا ونالوا المناصب والأموال، وكل شيء أنجز على أفضل وجه! أراد بعضهم نقل القبر إلى مقبرة المسلمين؛ وبناء ضريح كبير له غير مصدقين قول بعضهم إنه شيوعي ملحد، مسيحي لم يؤد في حياته شعيرة دينية. قال بعضهم إن إلقاء هذه الهالة النورانية على قبره هي حيلة من الشيوعيين الماكرين فهم بذلك جعلوا يد الدين الحانية المقدسة والماكرة المهابة ترعاه، حتى إذا قاموا بثورتهم البروليتارية، وأقاموا فردوسهم الشيوعي المنتظر، سيبنون ضريحه كصرح ملحد علماني شمولي كبير ويجعلونه قبلة أهل البلاد يتحتم عليهم زيارته والتبرك به وبدء حفلات القران والميلاد بوضع أكاليل الورد عليه كما يفعل السوفييت عند ضريح لينين! ورغم إن كثيرين قالوا أن الشيوعيين لا يمتلكون هكذا بعد نظر ونزعة انقاذية، وإلا لأنقذوا حزبهم وأنفسهم مما هم فيه من محنة وهوان، إلا أن القيادة البعثية الأخيرة استشاطت غضباً وخوفاً من القبر الآخذ بالتضخم والتهيؤ للصعود إلى السماء، ليصير كوكباً هادياً خارجاً عن فلكها، مما يرجح كفة الشيوعيين عليها، فلجأت إلى خدعة عمرانية: قررت توسيع ساحة الطيران وجعلتها تلتهمه مع ما حوله من قبور (روجوا أن فهد مصدر شؤم ونحس حتى على جيرانه في القبور، فجرها للموت ثانية والتلاشي، وقيل أن صدام دار بسيارته المارسيدس السوداء المصفحة على البقعة المبلطة فوق قبره، وقال لمرافقيه: سيستلم الشيوعيون السلطة فقط إذا نهض صاحبهم من هنا) ماذا تبقى منه ليأتي لهذه المحاكمة الغريبة؟ وهل اقتنع بها للحضور إليها، والدفاع عن قضيته من جديد؟ كيف يسمع نداء الشهداء، وشوارع وساحات بغداد طافحة بصخب وضجيج يختلط فيه هدير السيارات، وأبواقها المسرعة المنذرة، بصراخ الباعة المنهمكين، وعويل النائحات، والثاكلين أبناءهم في الحروب، وضجيج خطب القائد والأناشيد الهادرة من الراديوات والتلفزيونات! مع كل توقي للقائه اليوم، كنت قلقاً متوجساً أن يكون ما يزال على عناده وتصلبه، جموده وتحجره؛ فيسخر من ثورة الشهداء، ويسفه أفكار الشباب وتطلعهم المشروع للتغيير، والتحول الجذري نحو مسار جديد، وأهداف صحيحة معقولة قابلة للتحقق! سألقاه هيكلاً عظمياً طبعاً، آمل أن لا أجده مفتتاً، وإنما متماسكاً بعقل حي قوي نابه كعهدي به، أيام كان نور الشمس يغمر الكائنات بحب وأمل وتطلع للعدالة! عندما تطوعت مع سامر عبد الحميد والبيرماني وعشرات من زملائي المحامين للدفاع عنه! أنوار وشذا تلك الأيام تحدث وخزاً لذيذاً في القلب، نسمات شجية تهب من جهة الروح القديمة البعيدة، لتنعش روحي الجديدة القريبة المنهكة! تنبه يونس لصوت شهيد كان هيكله في وضعية الجلوس، ممتعضاً من المحكمة:

ـ إلى متى نظل نبكي على الدم المراق؟ لنشد عزائمنا، وننطلق من جديد. ما زالت نظريتنا كلية القدرة، وإذا فشل رفاق لنا في تطبيقها في بلد؛ فهذا لا يعني أنهم سيفشلون في بلد آخر!

تعالت من حوله قهقهات وصرخات وكلمات:

ـ يبدو إنك يا رفيق ما تزال تستطيع النوم في حضن الغولة، وداخل العاصفة، تهانينا!

لكن صوت امرأة سمع حزيناً واضحاً:

ـ إذا كنت ما تزال متعطشاً لمزيد من الدماء، تستطيع أن تذهب إلى أقرب مسلخ، وتشرب دم جميع الذبائح، ارفعوا أيديكم عن دماء أبنائنا!

ران صمت عميق قطعه صوت شهيد بان من هيكله انه استشهد شاباً، قبل فترة قصيرة:

ـ يا رفاقي: ماذا كنتم تظنون أن تجدوا وانتم تفتحون قبوركم؟ جراحات وأسراراً صغيرة؟ أوراقاً صفراً، بيضاً؟ أكياس عظام، تراباً وقشاً؟ نظرة عجلى متأنية إلى الوراء؟ لا يا رفاقي أنتم أهجتم الأشباح الشرسة، الأرواح الشريرة لتنهض ساحبة خلفها مواجعنا القديمة التي ظننا إننا شفينا منها؛ لنجدها الآن أشد فتكاً. في مسارنا الطويل رأينا الكثيرين: من تجنى قاصداً مستمتعاً، متجبراً. من جرحنا غير قاصد ولا راغب. من لم يحسن العمل واقتصد في نفسه وعطائه، ومنع الآخرين عن الإحسان. من لم يفعل شيئاً، تفرج علينا وسخر وتشفى، وضحك وما يزال يضحك! كلهم، هؤلاء وغيرهم كثيرون، صنعوا قبورنا؛ وكل هذه الأشواك التي تزحف في عيون الأحياء من أحبتنا!

لكي تصلوا إلى الحقيقة، حذار من حصر السؤال بقائد أو جماعة، حاكموا تاريخنا المحشو بالألغام والمواعيد القاتلة كله! حاكموا الثقافة والمثقفين الذين احتضنوا لعبة خراب كل شيء! هل لديكم الطاقة والمزاج على ذلك بعد الموت الطويل؟ هل ستمهلكم قبوركم، وتعطيكم وقتاً كافياً لذلك؟ ما فعلتموه اليوم موجة واحدة من البحر الذي جاء إلينا ولم نذهب إليه، وهو لا يقبل حكايات وأعشاب، كنا نخدع بها أنهارنا الصغيرة!

(116) النشيد الوطني: مركب فجل سويت وجروخه شلغم!

ظل يتناهي إلي يونس صوت أبي العصماء في هلوساته، وتعليقاته العجيبة الغامضة والتي هي ليست دائما دون معنى. الآن اسمعه يحدث جمهرة شهداء ملتفة حوله. هذه المرة، بدلاً من أن يلقي خطبته العصماء. كان يحكي لهم إحدى هلوساته: كانت بغداد لا تستطيع النوم والشيوعيون يجوبون شوارعها كل يوم: مظاهرة، إضراب، اعتصام، حملة لصق شعارات رنانة على الجدران. ثم لا تسمع سوى: يسقط، يعيش. الموت والعار لنوري السعيد، الحياة والمجد لستالين! ناضلوا من أجل المستقبل الشيوعي الوضاء!عاشت الشيوعية، عاش السوفيت ويا عمال العالم اتحدوا! وجدت بغداد أنها لا تستطيع التخلص من لجاجتهم وإلحاحهم سوى ان تستجيب لهم. ذات ليلة صاخبة مغبرة لملمت نفسها وطارت إلى بلاد السوفييت على بساط من عباءات سود لأمهات وزوجات وبنات الشهداء في حومات النضال. وجد البغداديون أنهم قد ناموا عراقيين برجوازيين مستعمرين؛ واستيقظوا شيوعيين سوفيتيين أحراراً! وإن مدينتهم بثياب السباحة مستلقية على نهر الفولغا. وإن فخذيها مرفوعان قبالة شاربي ستالين بطريقة لا تخلو من بذاءة تخدش الحياء, بينما العلم الأحمر المحلى بالمطرقة والمنجل؛ يرفرف على أسطحها. هنأ الحزب الشيوعي نفسه، وهنأ العراقيين على هذا النصر العظيم. والسرعة العظيمة في الوصول إلى الشيوعية، وها قد رأيتم بأنفسكم كيف وفينا بالوعد العظيم! كان الشيوعيون يطوفون الشوارع منتشين يغنون: اليوم صار الوطن حراً، والشعب سعيداً. تخلصنا من نوري السعيد، صار قائدنا المحبوب الرفيق ستالين العظيم. لم يأسف الناس كثيراً أن مساجدهم وكنائسهم قد اختفت، لكنهم وجدوا أن كل شيء عليهم أن يحصلوا عليه بالبطاقة: الخبز بالبطاقة. البصل والجزر والبطاطا وأرجل الدجاج الوسخة بالبطاقة، المسامير لكي يصلحوا أحذيتهم القديمة بالبطاقة. كل شيء بالبطاقة: المضاجعات والحمل والولادة، بالبطاقة، حتى الطفل الصغير عليه أن يجد بطاقة ليرضع الحليب من ثدي أمه! عدد القبلات بين الأحباب يجب أن تسجل بالبطاقة، رؤية السماء ببطاقة. الكلام بالبطاقة، دخول المرحاض بالبطاقة. فقط السفر لا يحتاج لبطاقة، لأنه ممنوع أصلاً وتماماً، ولا تنفع معه كل بطاقات الدنيا. زهقت أرواح البغداديين جراء ذلك وصار بعضهم يتساءل أهذه هي الشيوعية؟ قيل لهم: لا. هذه ضريبة الشيوعية،ومقدمتها،الشيوعية ستتحقق سعيدة تماماً بعد وقت طويل بعض الشيء! سألوا متى بالضبط؟ قيل: هي ستتحقق قبل قيام الساعة حتماً، ولكن متى تقوم الساعة؟ قال البعض آنذاك ستتحقق الجنتان معاً، جنة الشيوعيين، وجنة المتدينين! ذلك كثير علينا. سنتخم في أنهار الفودكا والعسل والجنس ولحم الخرفان. قرر البغداديون تدارك أنفسهم وأعمارهم، فأخذوا يتظاهرون ويقرعون جدران الاتحاد السوفييتي بوصفه صار سجنهم الكبير! أمر ستالين شرطته بإطلاق الرصاص عليهم فتساقط الآلاف منهم قتلى وجرحى! لم يجدوا عباءات سود يطيرون عليها عائدين إلى شواطئ دجلة فاللون الأسود ممنوع في قاموس الشيوعية! أخذ البغداديون يحاولون تركيب عجلات لمدينتهم القديمة علهم يدفعونها بصدروهم ليعودوا بها. صارت نشيدهم الوطني مطلعه "مركب فجل سويت وجروخة شلغم، وكلمن حزيبه عسل بس حزبي علقم" ومع ذلك لم يستطيعوا زحزحة مدينتهم ولو متراً واحداً. نصحهم البعض بان يرسلوا من يبتهل لهم في مرقد الكيلاني عله ينزل قبقابه العظيم فوق رأس ستالين. استجاب الكيلاني كعادته في عدم رد نداء لملهوف. فحطم بقبقابه كل صواريخ ستالين، واقتلع شواربه التي اندست في مصير العراقيين. وسحب بغداد من أرض الاتحاد السوفييتي، وأعادها إلى شوطي دجلة. اشترط على أهلها أن يأكلوا كل يوم ألف طن من الفلفل الهندي الحار، علهم بلسعاته النارية لأحشائهم وأدبارهم، وبالدموع التي ستذرفها عيونهم يكفرون عن هذه الخطيئة الكبرى التي ارتكبوها فحلموا بجنة الشيوعيين بدلاً من جنة الله! وهكذا يا أصدقائي الشهداء كتب على العراقيين أن يعيشوا محنتهم الأبدية بين جنة الله،وجنة الشيوعيين! قلت لهم لا نريد أية جنة، قبلنا بحياتنا البسيطة، فقط اتركونا بحالنا! تلك هي حكايتي، من شاء أن يصدق، فليصدق، ومن لم يشأ أن لا يصدق، فليأتني بحكاية صحيحة واحدة في هذه الدنيا.

كنت اسمع حسن طلقة يعقب على هلوسته هذه: أصبت كبد الحقيقة يا أبا العصماء، هاتوا حكاية صحيحة واحدة في هذه الدنيا؛ لنكف عن الهلوسة. ويمضي في تعليقاته ونكاتة، وحكاياته،سمعته يقول لأحد الشهداء: أتذكر إن صوتك كان جميلاً، لم لا تجلس على صخرة هنا وتغني لنا على مقام النهاوند قصيدة "أنا من ضيع في الأحزاب عمره؟" أحسست بالطمأنينة إنني لم أبتعد عن محفل الشهداء، بينما أنا أتوغل في قلب بغداد القديمة!

(117) ومات الملك!

في صباح يوم الجمعة الثامن من أيلول 1933 أذاعت الحكومة العراقية البلاغ التالي: "فجعت الأمة عند منتصف ليلة أمس بوفاة سيدها، وباني مجدها، جلالة الملك فيصل الأول نتيجة نوبة قلبية. شاءت الأقدار الإلهية أن تحرم البلاد في أشد ساعاتها حراجة من قيادة مؤسس الدولة العراقية، وزعيمها المحبوب. كان الله في عون الجميع على هذا المصاب الجلل" كان الخبر صاعقاً لشطر من العراقيين، وفرحة سرية خافتة لشطر آخر. جاء كصبغة كاشفة للشروخ العميقة بين الطوائف والقوميات! ومع ذلك احدث زلزالاً في العراق. ظلت رعوده الصاخبة، وانزلاق طبقاته البشرية، وخرابه تتولى حقباً طويلة، وربما ما تزال حتى اليوم! لم يخل موت ملك أو زعيم في العراق من غيمة شكوك وتحريض وإشاعات ترافق الخبر كأنها جناحان له، لا توجد مخيلة أخصب من مخيلة العراقيين في صنع الإشاعات، لا يتسلون بها بقدر ما يعذبون بها أنفسهم الميالة للكآبة تحت صخب مرح مفتعل، وأغان صادقة أو ملفقة!قالوا أنه قتل مسموماً، من قبل الإنجليز وصاحبهم الباشا نوري السعيد. قالوا أن امرأة حسناء مجهولة أحبها في أخريات أيامه،نال منها وطراً، ثم حين لم يتزوجها دست له السم! بل قيل إن المرأة التي تزوجها فعلاً في الحلة ثم هجرها أرسلت له من انتقم لها. آخرون قالوا إن مذبحة الآثوريين سحقت قلبه وأدمت ضميره، وكانت فوق احتماله. آخرون قالوا بل هو قضاء الله وقدره. وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس في أي أرض تموت. وهو ابتلاء صب على العائلة الهاشمية التي هي كما جدها الحسن والحسين مهاجرة مبتلاة بالمصائب من اجل نبوة جدهما ومبادئه. قيل وقيل، لكن الذين قالوا بأن الإنجليز قتلوه لديهم أدلتهم المقنعة، أو المتينة. فصلوها في مجالسهم وقضوا فيها شتاء بغداد وربيعه إعادة وصقلاً وعراكاً، وشغلتهم عن أرواحهم وشئونهم. هم يقولون أن قضية التخلص من فيصل كانت قد نوقشت عدة مرات من قبل وزارتي المستعمرات والخارجية خلال فترة الانتداب البريطاني. في سنة 1922 رفض فيصل تصديق قرار مجلس وزرائه بتوقيع المعاهدة العراقية البريطانية الأولى، ووقف مع القوى الرافضة للانتداب، والمعاهدة. حتى أن مدن العراق الرئيسية راحت تلتهب وتصعد أنفاسها على نبض قلبه، ما أدى لاستقالة الوزارة. أبرق المندوب السامي برسي كوكس ومستشار الملك إلى وزارة المستعمرات معلنين أن فيصل لا يصلح أن يكون ملكاً أبداً، وإنه ضعيف الشخصية ويخدع بريطانيا! وقد تصاعد الخلاف ووصل ذروته حين رفض فيصل منح كوكس تفويضاً لقمع الثائرين ضد الانتداب. إثر وعكة خفيفة ألمت بفيصل ربما لإكثاره من شرب القهوة على معدة خاوية؛ أعلن سندرسن طبيبه الخاص، الإنجليزي، أنه بحاجة إلى عملية جراحية لاستئصال الزائدة الدودية. اقتيد كالمعتقل إلى المستشفى، وعندما صار تحت التخدير، وأصبح العراق بلا ملك؛ استلم كوكس السلطة. قام بقمع المنتفضين ضد الإنجليز مستخدما قواته البرية مسنودة بالطائرات، في قصف العشائر ومناطق تجمع الناس وزج الكثيرين بالسجون، ونفى آخرين وأغلق الأحزاب والصحف الوطنية. خرج فيصل من المستشفى، ذاهلاً يحس في أعماقه أن الكثير رتبه الإنجليز بغيابه. وبينما هو في حجرته في بيته الذي هو أكبر من بيت عادي واصغر من قصر. يرسل نظراته عبر النافذة متأملاً سماء بغداد التي تبدو صافية بعيدة عن همومه، دخل عليه المستشار البريطاني حاملاً رسالة من تشرشل وزير المستعمرات، كانت شديدة اللهجة، يقول له فيها إن عليه أن لا ينسى أن بريطانيا هي من أجلسته على عرش العراق، وإن عليه أن يخضع لسياستها، أو أن يترك العراق ويعود إلى الحجاز! أشاح عن المستشار الذي خرج بصمت؛ ليتركه يتجرع ما في الرسالة من سم مع بقايا أدويته. أدار فيصل بصره في الأفق، كان يحتويه شفق أصفر مرتجف، أسراب طيور تعبر مهاجرة هائمة، تتبعها سحابة شفق أحمر مثقلة بغبار ودخان. وجد نفسه وحيداً، تحيطه وحشة حزينة تتمايل فيها سعفات النخيل كما من شجن أو غفلة، ثمة فاختة تشدو،عصافير تحط متصارعة على عناق أو بقايا ثمر. شعر بالوحدة ثقيلة ساحقة. لم يشعر بها جارحة كما هي اليوم. العراق منقسم بين مؤيدين له يقهرون ويحطمون، وبين رافضين له سادرين في إهمالهم له ولا مبالاتهم لما يحدث له، مستغرقين بتجارتهم ومصالحهم أو متلفعين بمسوحهم الدينية، ولم أتباعهم حولهم. المقاومة للاحتلال سحقت تحت وطأة أخطائها، ونواياها الملتبسة، وقسوة المحتلين. كوكس هذا الذي تفوح منه رائحة خنزير في زريبة، كما يراه، نفذ خطته الدنيئة، والعملية الجراحية كانت لجسد العراق وتاريخه وليس لجسده الضعيف وحسب. الإنجليز يزدادون غطرسة. صرت أكرههم بعد أن كنت أحببتهم خلال رفقتي وصداقتي للورانس. كم كان هذا الرجل طيباً عاشرنا وعرفنا وأحبنا وأحببناه، وتألم كثيراً حين غدر بنا سادته في لندن، كم أتمنى جلسة بسيطة معه في الصحراء العربية نستعيد فيها كيف يخف وزننا، كما يقول، بحجم النور الذي تغمرنا به فنصير أرواحاً هائمة بين السماء والأرض. أين هو الآن؟ يقولون أنه توارى في الريف اللندني خجلاً منا، آسفاً على ما آل إليه حالنا! لا أنسى للإنجليز أنهم خذلوا والدي، بعد أن تحالف معهم في ثورته على العثمانيين. كانوا قد أقسموا له بكل قيم حضارتهم بأنهم سيفون له بوعودهم بالوقوف مع العرب في تحقيق أمانيهم وإحياء دولتهم الكبرى. نصبوني على عرش الشام وباعوني في صفقة لهم مع الفرنسيين. كانت تضحياتنا أنا ووالدي رهيبة. فأن يضع المسلم يده في يد كافر ضد مسلم تعني أن جهنم ستوقد أعظم نيرانها له ولعائلته وذريته.فكيف بنا ونحن أحفاد الرسول؟ نكث الإنجليز كعادتهم بوعودهم وزادوا عليها في تبنيهم وبقوة وعد بلفور في اقتطاع فلسطين من قلب العرب ووضعها تحت أحذية اليهود. وهل الذين يكرهونني هم الإنجليز وحدهم؟ لا. إنهم كثيرون. هم هنا حولي، أو غير بعيدين عني. يتخفون خلف وجوه مداهنة مطلية ببشاشة وزبد وعطر، يعدونني عميلاً للإنجليز، ومع ذلك يحسدونني على موقعي ويتمنون إزاحتي للجلوس مكاني! هم لا يعرفون كم أعاني للخلاص من الإنجليز وتخفيف مظالم احتلالهم. لو أجلسهم الإنجليز على عرش العراق؛ لقبلوا أقدامهم. دخل الإنجليز بلادنا بجيوشهم الجبارة، حتى لو لم نتعاون معم كانوا سيدخلون. منذ زمن بعيد، لقرون طويلة، هم منتصرون ونحن مهزومون. هم أقوياء ونحن ضعفاء. منذ مئات السنين ونحن لا نتوارث سوى الهزائم والخسارات والانهيارات، وهم منذ مئات السنين يتوارثون الانتصارات ويبنون ويتقدمون. نعم هم غزاة معتدون، ونحن ضحايا وأصحاب حق. ولكن من قال أن صاحب الحق هو صاحب القدرة أيضاً؟ ربما الحق يمنحك جزءاً من القوة، لكن الجزء الأعظم من القوة يبقى بيد من يمتلك العلم والثروة والأسلحة الحديثة. الذين لا يرون الحقائق، ويهومون مع الفراشات على النار لن يجلبوا للبلاد سوى المزيد من الكوارث! ظل يتقلب في فراشه. جرح العملية لا يزال يؤلمه، ونهوضه من الفراش يجعله يحس بدوار وإعياء، ولا يستطيع النوم. كثيرون في العراق يكرهونني. رفضت نصائح كثير من الأقارب والأصدقاء. قالوا لي لا تنس ما قاله جدك علي ابن أبي طالب عن أهل العراق، أنهم أهل غدر ونفاق وشقاق، لا تنس إنهم دعوا الحسين للثورة، وبعد ان وثق بهم وجاءهم، خانوه في الكوفة وكربلاء وتحالفوا عليه مع قتلته، قطعوا رأسه وداروا به على الرماح مبتهجين، ثم ندموا وراحوا يبكون ويلطمون عليه كل عام. قلت لمن نصحني، لا يمكنك حكم أناس تعتقد أنهم يكرهونك ويتآمرون عليك. يجب أن ننسى ما حدث قبل مئات السنين، حتى إذا هم لا يريدون أن ينسوا. من أجل عراق متماسك سعيدٍ يجب أن ننسى جرائر الماضي وحماقاته وضغائنه! ثمة رجال دين في النجف وكربلاء لا يريدون أن ينسوا لغاية في نفوسهم، أو تحت تأثير الإيرانيين، هذا شأنهم وتلك أخلاقهم. حتى لو كرهوني ووصموني بالعمالة للإنجليز، وحرموا العمل معي، ونبذوني كأني جمل أجرب، ليأتوا هم ويتصارعوا مع الإنجليز، وسنرى إن كانوا سيحصلون منهم أكثر مما حصلت عليه! وإن كانون سيبنون العراق أم سيشغلون الناس بالبكاء واللطم الذي ليس لديهم شيء آخر غيره؛ للم الناس حولهم! بعد ما رأيت من العجب في تعامل بعضهم معي لم أعد استغرب أن يدعي رجال بينهم من الفرس قرابة بالرسول وعلي وينفيان قرابتي لهما وهما جدي الحقيقيين! ومع ذلك بقيت أحاول إقناع أهلنا الشيعة العرب للمشاركة في الحكم، وأخذ أي موقع يريدونه فيه، لكنهم واقعون تحت سيطرة رجال دين ومعظمهم ليسوا عرباً، بل كارهين للعرب. هؤلاء، يتركونهم ينطقون باسمهم، ولا يجرأون على اعتراضهم. هم يرفضون دولتنا ويسفهون قيمنا ومبادئنا ورجالنا. آخر مبعوث أرسلته إليهم هو شيخ عشيرة آل سكر، رددوا بوجهه بصوت واحد:

ـ الحكم باطل في غيبة المهدي المنتظر، وكل من يريد جرنا إليه هو فاسد فاجر، لا شفاعة له عند أئمة آل البيت!

عاد الرجل إليٌ خائفاً وجلاً، فأوقفت مناشداتي لهم! هم كعادتهم سيجأرون بالشكوى، الآن وبعد مائة عام قائلين: ظلمونا وأبعدونا عن الحكم، ملقين جريرة عزلتهم علينا، ذلك ديدنهم، لا يستطيعون العيش دون مظلومية، يصنعونها لشد أتباعهم حولهم، يلقونها على الآخرين، عقد اضطهاد يبتدعونها ويتلذذون بتوارثها! هذه ليست من سجايا معظم أبناء الشيعة، فهم عرب أصائل وهم أهلي وأحبتي، الفتنة هي دسيسة من عتاة الفرس. أنا عربي وبدوي وأعرف أن العربي لا يكتم حقده ولا يستعين بالتقية ليظهر خلاف ما يبطن، وهو لا يتاجر بالثأر، ولا يزايد على غيره به. هو صريح يقول لمن يريد أن يقتله سأقتلك ثم يجد في أثره. الحسين جدنا، ونحن نحمل دمه في قلوبنا، ونربأ بانتقام له من أجيال أتت بعد استشهاده بثلاثة عشر قرناً أو أكثر. هؤلاء الذين يصيحون يا لثارات الحسين يريدون دولتنا ورؤوسنا حتى أحفادنا، ويعملون ليل نهار على تقويضها، هاتفين أننا أحفاد يزيد. هذا منتهى التجنى والضلال، فنحن من العوائل القليلة التي شجرة عائلتها مدونة على جلد غزال طاهر بورك في حفظه ببيت الله. نسبنا يمتد إلى الحسن وأخيه الحسين وهما قرة عين رسول الله، أعلينا يزايدون؟ إلى أي هاوية سيقودهم أصحابهم الفرس؟ يقولون إن نهايتنا ستكون على يدي المهدي المنتظر، ليظهر وسنرى بمن سيطيح. ولكن ما يظهر لي كل يوم وكل ساعة هي وجوه العراقيين شاحبة ذابلة أنهكها الجوع والضنك، فأشعر إن علي مسؤولية الأب أن أوفر لهم الخبز والعلاج والعلم!

بلدنا اليوم بلا حدود راسخة. انسلخ من الدولة العثمانية في عجالة الهارب من ذئب جريح ما زال يمسك به. إيران مستمرة في ممالئة الإنجليز، والضغط علينا بما لديها من طابور في داخله؛ لاقتطاع ما تستطيع من أرضه ومائه، وتكبيله بالتزامات ثقيلة. صار الإنجليز يستعملون الإيرانيين للضغط علينا، والإيرانيون يستعملون بعض العراقيين للضغط على الإنجليز أيضاً. العراق بلا جيش، ولا خزينة مليئة، ولا موارد ثابتة، والنفط الذي يتحدثون عن خيراته القادمة ما يزال لم نحصل منه على شيء. عساه يكون برداً وسلاماً للأجيال القادمة، لا مصدر نار ودمار! أحمد الله أن الفساد والغش والسرقة والابتزاز تصدر من المحتلين، وليس ممن معي من العراقيين والعرب. ما زالت في بداوتنا التي يسخر الإنجليز منها؛ قيم نقاء وصدق ونزاهة، رغم قيم أخرى سيئة؛ امتلكنا الشجاعة لمحاربتها والتخلص منها قدر الإمكان. على العموم نحن الآن ضعفاء منهكون وفي وضع لا نقوى فيه على مجابهة الإنجليز أكثر مما جابهناهم. يبدو لا مناص من التوقيع على المعاهدة، لكن هذه لن تكون نهاية معركتي مع الإنجليز، بل بداية طريقة جديدة للتعامل معهم، لا يجدي أن تضمر في قلبك أحقاداً، أو تفجرها قنابل ورصاصاً، بل ضع في عقلك خططاً صحيحة للمستقبل! هكذا يقول العقلاء، وهذا يمنحني الطمأنينة أنني إذ أجعل بندقيتي آخر حل،لا مفر منه، آنذاك ستثبت على الأرض حتى تزيح هؤلاء الإنجليز المتجبرين المستهترين!

كانت أولى خططي تكوين جيش قوي يعتمد أبناء البلاد كلهم لا فرق بين طائفة وأخرى، ولا قومية وأخرى. سميناه فوج موسى الكاظم؛ تأكيداً على إنه رغم كل ما لقيناه من رفض وتشهير من رجال دين شيعة لن أكف عن حلمي بتوحيد الطائفتين! أردت للجيش أن يقوم على التجنيد الإلزامي، وجعل التهرب من الخدمة العسكرية خيانة تقتضي العقاب الصارم!

بحواره مع نفسه أحس بالتخفف من همومه. أخذته غفوة، حلم أن شبحاً يخرج من هذا الجيش وينقض عليه، وحين دفعه عن صدره مع كابوسه الثقيل سمعه يقول: "لا تفرح بنصرك، سأظل ألاحقك وأقتلك حتى لو تخفيت في جلد حفيدك!" ومع ذلك حين أفاق سخر من حلمه وعزاه لدواء الإنجليز المشوب بمخدر، يبعث الأخيلة البشعة عادة!

(118) لا طريق للعراقيين إلى الجنة؛ إلا عبر الجحيم!

كما تقول يا صديقي العطار، قبور الشهداء لا زالت مفتوحة؛ تنتظر المحكمة والمرافعات، ولم يعد يهمها حكم أو قصاص أو عدم قصاص. ولكن مهلاً، فنحن لم نبتعد كثيراً عنهم، ما تحدثني به سيوضح لي ولهم ما سيقال في المحاكمة، ربما هو جزء منها، نحن أيضاً، لا نريد أحكاماً ولا قرارات تجريم، ولا اتهامات. نريد سرد وقائع تقربنا من الحقيقة، أو ربما تبعدنا عنها، المهم أن الحقيقة على الطرف الآخر، همنا الكبير، هي لعبتنا أو نحن لعبتها، يحزنني حقا بقاء القبور مفتوحة، مثل جروح قلوبنا، ولكن هل لو أغلقت سيغادرنا الحزن؟

لا تبتئس يا جلال العطار، لقد حاولت أن تقرأ تاريخنا بصفاء. لذلك تعذبت كثيراً، قرأت كثيراً، كتبت كثيراً،خضت في غمار الأشياء، كأنك موكل بتراب العراق تنبشه. تحدثت مع رجال ونساء كأنك محقق. مضيت هائما بروح العراق تسكنها وتسكنك، مشردا تارة في زحامات البشر، منفردا زاهداً منتبذاً صومعة في برية أو مدينة مزدحمة! وحتى حين كنت تفرط بالكحول وتتشرد في دروب بغداد، وبيوت الغواني الطيبات منهن والقاسيات لم تكن تكف عن التفكير بوضع وطنك، ومعاناة أهله ومصائرهم! وفي النهاية لم تنج من الطعنات والأقاويل والشبهات! كنت تقول يا للعراق، بين فترة وأخرى، يطلق شخص أو جماعة فكرة، أو تحدث فيه ثورة، يهلل لها الناس عادة ويبنون عليها الآمال والأحلام ثم تتكشف عن كذبة كبرى، طعنة، صفقة أشخاص يبحثون عن أمجادهم السخيفة، فتعود البلاد إلى الوراء؛ لتقف في طابور منتظري سعادة الأقدار من جديد! في بلدان كثيرة تحدث زلازل في الأرض؛ فيحتضن الناس ضحاياهم، ويعيدون بناء ما تهدم. في العراق الأرض مستقرة، والزلازل تحدث في تاريخه الطويل، فيقتل الناس وينتهكون ويحدث الخراب في الأرواح والنفوس, أسمع صوتك من وراء نصف قرن وأنت تقول: زلازل التاريخ أفظع من زلازل الأرض، من يبنى النفوس ومن يلئم الجراح؟ بل من يرد الأرواح إلى حياتها الأولى؟

ويعود العطار لحديثة، هذه المرة دون شراب أو دخان: رغم كل ما كنت أقوله في تسفيه الحكم،وازدراء الدولة، ومشاركتي لكثيرين في النضال ضدها لكنني كنت اشعر في أعماقي بشكل غامض، وواضح أحياناً أننا نعمل على التفريط بشي ثمين في أيدينا من أجل مجهول قد يكون هو الفناء. بيدنا دولة حديثة في بلد متخلف، لم لا تمنحها فرصة، الحكام مع كل ما يقال عنهم كانوا يبنون وتبرز معالم التحضر في البلاد شيئاً فشيئاً. كنت أتخيل نفسي في أحيان كثيرة في حجرة الملك أرقب معاناته وآلامه ومحاولات وضع العراق على طريق الحضارة. بعيداً عن تحامل وأحقاد قادة طائفيين وقوميين متعصبين!

كنت أرقب كيف ظلت علاقة الملك مع بريطانيا صراعاً وتوتراً راح يخفيه وراء شعاره "خذ وطالب" لكن بريطانيا تعرف أنه يكرهها، وهو يعرف أنها تكرهه، وهي في بعض الابتسامات واللمسات الحضارية تجامله على الطريقة الإنجليزية والاستعمارية!

تحرش فيصل الأول بالإنجليز مرة أخرى حين أصر على أن يدخل العراق عصبة الأمم بعد أربعة سنوات من إبرام هذه الاتفاقية، وان لا يبقى كطفل يتيم تحت رحمة بريطانيا إلى ما تشاء! عاد القادة الإنجليز يتداولون بشأنه. اقترح مستشارو المندوب السامي نفيه. شرشل رد عليهم أتريدون أن نكرر ما فعلناه في مصر حين نفينا أحمد عرابي؟ لو عاد فيصل من المنفى فسيكون ثائراً لا يهدأ، وسيكون أعوانه غاضبين لا يرضون بأقل من جلائنا مشيعين برصاصهم ولعناتهم. استقر رأيهم على بقائه في العراق، والعمل بأساليب أخرى لإخضاعه!

لكنه هذه الأيام مضى في خطوة مفضوحة. سيكون ساذجاً جداً لو اعتقد أن بريطانيا ستأخذها على أنها كانت بنية حسنة منه: وتقول له "خطوة عزيزة" لقد قرر في سفرته إلى سويسرا للعلاج أن يعرج على روما ويلتقي بموسليني. فسر الإنجليز خطوته بأبعد مراميها. إنه ينوي استقدم خبراء عسكريين إيطاليين، بديلاً عن الخبراء الإنجليز الذين سيرحلون حتماً. الرجل جن بلا شك. هو يلعب بعيدا خلف الخط الأحمر بنفس المسافة التي يبتعد بها السجين عن زاويته مقترباً من أسوار السجن! ومتى؟ الآن بعد أن بلغهم الخبر السار(تقول التحريات الجيولوجية أن العراق يطفو على أكبر بحيرة نفط في العالم). الآن كيف يريدنا هذا المجنون أن نتركه لغيرنا؟ نحن لم نكتشف نفط العراق فقط، بل أعدنا اكتشاف العراق نفسه. أخرجناه من الركام والعفن العثماني القديم، وأجليناه جوهرة تحت الشمس. جعلناه قويا معافى. كيف نتركه قوة مع أعدائنا، لا قوة معنا؟ راحوا في وزارة المستعمرات يتداولون سرا وعلناً بشأنه. اقتنعوا إن للرجل أحلاماً توسعية، قال أحدهم:

ـ إنه إمبريالي عربي يحلم بتحقيق الإمبراطورية العربية بقوافل من الخيول والجمال والخيام والسيوف الصدئة!

ـ بل قل بما يستطيع شرائه من أسلحة حديثة لو صب ذهب النفط في خزائنه!

لكن الرجل الكبير صاحب الأمر الحاسم بينهم قال:

ـ لن نترك العراق ونفطه لغيرنا! يجب التخلص من هذا الملك المعتوه!

قرروا وضع حد لحياته. أتعبهم وآن لهم أن يستريحوا منه. حقنة صغيرة تزرقها الممرضة في وريده. سيجفل لحظة، ثم تتحول ثيابه البيض إلى ظل أسود يتلاشى معه في سديم العدم. لكن فيصل كان قد أعد لممرضته شيئاً لطيفاً، عقداً من الماس وساعة ذهبية، هدية جميلة تليق بملك. حين دخلت الممرضة عليه وجدته يتمتم، حمداً لله حققت لوطني شيئين عظيمين، دخوله عصبة الأمم، واستقلاله الوطني، في الأقل قانونياً. الأعداء سيسحبون أنيابهم حين يجدون لحمنا مراً "همت أن تتركه نائماً مستمتعاً بحلم فيه حديث لا تفهمه لكنه يبدو جميلاً فثمة ابتسامة تطوف على محياه. أحس بخطوتها الرقيقة. فتح عينيه وكلمها بلطف. سلمها الهدية. فطبعت قبلة على جبينه. قيل إنها هي آخر من كان في حجرته قبل أن يسلم الروح. اتهموها بزرقه حقنة الموت. ظلت تهز رأسها بحزن، فهي تعرف شيئاً آخر! كانت قد عادت إليه تريد أن تتأكد من تناوله حبة دواء ضرورية. رأت على مسافة شبحاً يخرج من حجرته. كان مسرعاً لم تتبينه. حتى لم تستطع أن تجزم أكان رجلاً أم امرأة. عجلت في الجلوس قرب الملك. وجدته يحتضر. أمسكت يده أحست بروحه تخرج من تحت أصابعها. تكاد تجزم، أنها رأت حزمة نور ساطعة تخرج من جبينه! امتثلت أمامها حقيقة ما حدث. لمن تتحدث؟ وكيف تتحدث؟ وكل ما رأته مروق شبح، وومضة نور على جبهة الملك، وهي كممرضة ينبغي أن تتحدث بالعلم لا بالأوهام والتهيؤات، والأمر يقتضي تشريح الجثة. والكثيرون هنا يرفضون ذلك! تم كل شيء بيسر،اليوم فيصل لا وجود له، أبرقوا بلهجة عراقية للرجل القوي المؤتمن نوري السعيد،(البقية بحياتك يا باشا!). أعقب نعي الحكومة، بيان للفيلد مارشال (اللنبي) الإنجليزي قال فيه "الموت دائماً جم النشاط بين الرجال العظام على وجه الأرض! بوفاة فيصل ملك العراق اختفت شخصية من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً رئيسياً في الحرب العالمية!" هكذا روى مراقبون موضوعيون وحكواتية،أو قصه خونية حكاية موت الملك. لكن لا أحد يجزم بصحة هذه الرواية أو تلك. بكاه العراقيون الذين يحبونه، واستبشر الذين يكرهونه. عقدت مجالس عزاء ونظم شعراء قصائدهم. شدت نائحات بلوعة في مجالس النساء في البيوت كللت بالسواد. رفعت صلوات، خفضت صلوات، نحرت خراف وجمال، ونجت خراف وجمال من الذبح في أماكن تكره الملك، ومدت موائد، وطويت موائد، ثم عاد السكون يخفي تحته نفس الصراعات القديمة وبوتيرة أخرى!

صباح يوم 9 أيلول نقل جثمان الملك من محطة برن في سويسرا، إلى برنديزي في إيطاليا، نقلته مدرعة إيطالية مجللة بالسواد، وسلمته للمدرعة البريطانية، (داسباتش) . في 14 أيلول وصلت إلى حيفا، ونقل الجثمان منها إلى البر. حملته طائرة خاصة من نوع فيكتوريا، إلى بغداد بحراسة ثلاث طائرات من القوة الجوية البريطانية في فلسطين. من الرطبة استقبلت الجثمان (9) طائرات من القوة الجوية العراقية حتى مطار بغداد. منه نقل إلى البلاط الملكي، حيث غسل وكفن وألقت عليه العائلة الملكية النظرة الأخيرة. خرج النعش ملفوفاً بالعلم العراقي تتقدمه فرقة الفرسان مصحوبة بالموسيقى الجنائزية. سار الموكب إلى مقبرة خاصة في الأعظمية. وضعت أسس بنائها على عجل حيث أريد لقبره أن يكون الجذر الأول لشجرة ملكية زاهرة مثمرة في العراق، دون أن يعرف أحد أية عاصفة تتربص بها في بناية عسكرية لا تبعد عنها سوى أمتار قليلة. ثمة مشيعون قالوا أنهم رأوا النعش ينتفض حين مر أمام بناية وزارة الدفاع، بعض فسر الأمر. إن الملك الميت رأى في غفوته الأبدية شبحاً يخرج منها وينقض عليه وعائلته!

شهدت ذلك اليوم الحزين وكنت بين المشيعين، جئت مصادفة لأشغال أخرى. كانت بغداد مكللة بالسواد. الناس تبكي على جوانب الشوارع. خيل لي أن الشجر والطير حزين أيضا. كان موكب التشيع طويلاً ومهيباً. أغلب السائرين في الجنازة يجهشون في بكائهم بأصوات مسموعة. ثمة نساء وشيوخ يتصايحون. رأيت بين المشيعين الجواهري. لم أره منذ فترة طويلة، مذ غرق مع نوري السعيد وأصحابه في صراعه للحصول عن مقعد في البرلمان. كأني أراه لأول مرة: وليس صديقي القديم الذي لي معه أيام وكؤوس ودموع وملذات ليال وأسحار وذكريات! لا يزال في أوج شبابه، أسمر طويلاً أعجف ناتئ عظام الوجه يعلو هامته شعر رمادي قارب المشيب، كأنه سيبدأ من شيخوخته ويمضي إلى شبابه كلما تقدم به العمر. حييته عن مسافة قصيرة ولم أتحدث معه فالجو الحزين المهيب رغم الضجيج والبكاء لا يسمح بحديث طويل بين اثنين. الجواهري في هكذا مواقف يكون في مزاج عكر، متوتر. كان مطرقاً واجماً. أنا أيضاً بقيت صامتاً. فكرت هل سينظم قصيدة تليق بهذا المصاب الكبير، يصحح بها مساره المعقد معه! أم تراه لا يزال متحاملاً عليه؛ ناسياً كل ما لقيه في بلاطه من حنو ورعاية؟ حين عدت إلى حجرتي في الفندق لأبات ليلتي وأنهض مبكراً وألحق بقطار ينقلني إلى كركوك محطتي الأخيرة على القطار قبل الموصل، طاف في مخيلتي وجه الجواهري في موكب جنازة الملك، وكيف رد على تحيتي بإيماءة وعاد لصمته وأفكاره. لا أظنه سيكتب قصيدة في رثاء هذا الملك الصالح رغم كل ما أسداه له من تقدير ورعاية. فهو يحمل نحوه مشاعر متناقضة، بعضها مستقى من الجو الموغل في القدم الذي لا يزال يتصاعد غباره من النجف وكربلاء حتى بغداد. وبعضه الآخر من ضغينة خاصة. هو لا ينسى له إنه لم يستعده بعد أن خابت رحلته بعيداً عنه، بينما بقي محتضناً ساطع الحٍصّري خصمه وعدوه اللدود.

(119) لا زالوا يطالبون بمحاكمة الديواني!

لزم العطار فجأة الصمت. كأنه تذكر إنه ليس شهيداً، مجرد ضيف، أصغى بانتباه لأحد الشهداء يقول:

ـ حاكموا الديواني بصرامة، به ستحاكمون الثقافة المضللة. المثقفين بائعي الأوهام. ودورهم الشنيع في نكباتنا!

انطلقت صيحات كثيرة من أرجاء الكهف:

ـ حاكموا الديواني الشاعر، وولديه الفصيح والشعبي!

ـ حاكموا الطبلجي والخطبجي والقلمجي!

ـ حاكموا المغنين الذين روجوا للتفاهات في حياتنا!

ـ حاكموا مؤلفي الأغاني والأناشيد والقصائد الفصيحة والشعبية الأكثر احمراراً من خلفيات القردة! ويأتيهم الرد من الجهة الأخرى قوياً مجلجلاً مرعداً:

ـ لا. لا. الشيوعيون هم من صنع ثقافتنا الوطنية، لولاهم لظلت على شعر أبي نؤاس المتهتك، والمتنبي المهووس بالسلطة! راحوا يتراشقون بالكلمات:

ـ لا ! الشيوعيون دفنوا أعظم المواهب بتوابيت شعاراتهم وأوهامهم!

ـ الشيوعيون هم من مجدوا في ثقافتهم المرأة والطفولة والحب والجمال والعدالة!

ـ المثقفون الشيوعيون باعة ماء السراب! باعة مخدرات الشعارات، والوعود الكاذبة!

ـ الشيوعيون هم من ربطوا الكلمة بمصير الإنسان، وهم من صنع أفضل الأسماء في ثقافتنا!

ـ حاكموا الشعراء الذين أغروا أبناء الفقراء للموت في المظاهرات والثورات الخائبة، بينما هم أرسلوا أبناءهم للدراسة في البلدان الاشتراكية، مجاناً وبرعاية استثنائية!

ـ المثقفون الشيوعيون دعاة الديمقراطية وحماتها!

ـ في الثقافة الشيوعية بذور الديكتاتورية!

ظل الشهداء يتقاذفون الكلمات كالحجارة، حتى اضطر رئيس المحكمة لإسكاتهم:

ـ سنحاكم ثقافتنا ونرى ماذا كان دورها في خراب بلادنا ووصولنا إلى هذا الكهف المظلم، لا تستعجلوا الأحكام!

يميل الجهنمي إلى العطار: الشهداء محقون في مطالبتهم بمحاكمة مثقفين وغيرهم، ولكن من هو الجدير بمحاكمتهم؟ الأفضل أن يحاكم المثقفون أنفسهم!

ويضحك العطار: المثقفون يحاكمون أنفسهم؟ هم مولعون بمحاكمة غيرهم، مدللين أنفسهم!

ويسأله الجهنمي بما لم يكن تجرأ عليه قبل الموت: وأنت هل حاكمت نفسك؟ ويقول العطار ما لم يقله يوماً قبل الموت:

ـ أنا أسوء مثقف في العراق، حابيت نفسي وتعصبت لها كثيراً، ادعيت حب الناس، فأنا عملت لنفسي أكثر مما عملت لهم، ولكن ماذا يجدي أن ندرك عيوبنا بعد أن صرنا تراباً؟ وماذا يجدي أن أحاكم نفسي أو يحاكمني غيري، وكل شيء صار لا يمكن إصلاحه؟

مضى بصوت متحشرج معذب يواصل حديثه: لقد طال حديثنا. ليل الموت طويل لا يمكن قطعه دون حكايات مسلية بعض الشيء!

(120) يا للغرابة!.. ملك حكيم، شاعر طائش!

لم أجد رغبة في الخروج من حجرتي في الفندق، أحسست إنني لا أستطيع تنفس الهواء وعطر الزهور في حزن بغداد بعد تشييع الملك، يطوف بي وجه الجواهري في الجنازة، لا تعرف أهو حزين أم فرح بموت الملك! ما كان الملك فيصل الأول بعيداً عما جرى بين الجواهري والحٍصّري. يرقب ما يحدث بينهما صامتا متفكراً. لا يريد ان يقف مع طرف ضد آخر، لكنه مصمم بكل قوة ان يوقف الأحداث في أية لحظة تقارب الانفجار! كما وجد محمد الصدر المرجع الشيعي الهادئ الطبع، والمقيم ببيت مفتوح لآلاف الإتباع في الكاظمية، أن هذه القضية أحدثت شرخاً في المجتمع أكبر من حجمها بكثير. قام بزيارة للبلاط مصطحباً معه الجواهري. كان فيصل قد فتح ديوانه للصدر وقد وجد فيه صديقاً وزعيما وطنياً يجمع بين الخبرة الدينية والدنيوية. لم يخضع لفتوى مرجعية النجف في مقاطعة العهد الجديد، ولا ينتظر ظهور المهدي حتى ولو بعد ساعة أو ساعتين لكي يمارس علاقة ضرورية مع السلطة. كان يقول "كل شيء في أوانه". قال الصدر للملك فيصل ضاحكاً: جئتك بمن شغلك وشغل الناس. أرجو أن تجد له مكاناً بين الموهوبين من أبنائك! رحب الملك بالجواهري. عينه في بلاطه موظفاً في التشريفات. أخذ يناديه: ولدي محمد. صار هو من يدخل عليه ضيوفه ووزراءه، ويرافقه في سفراته إلى مدن البلاد! احتفى أفراد الحاشية الملكية به مؤملين أن يكون جسراً للبلاط إلى مراجع النجف التي ما تزال تدير ظهرها لهم، وترى فيهم استمرار لبني أمية. أملوا أن يكون قد استفاد من التجربة المريرة مع الحٍصّري، وخرج بحكمة تفيد البلاد، والوئام بين الطائفتين. صارت علاقتي مع الجواهري في هذه الفترة اكثر هدوءً. فلم يكن هناك ما ينغصه، كان راتبه جيداً، أعلى من راتب مدرس ثانوي، وبمكانة أكثر هيبة. صرنا نتناقش في الشعر والرواية، والقضايا الفكرية التي بدأت تطرح كمتطلبات أساسية لتطور البلاد، ولم نكن نغفل الترفيه عن أنفسنا. بقينا على جلساتنا للشراب والسمر، صار يتحاشى الجلوس في الحانات خاصة الرخيصة، لكننا إذا سمعنا أن راقصة أو مغنية جديدة قد حلت في ملهى نقصده دون تردد. كان يقول انهم في البلاط وحتى الملك يعرفون إنني أشرب، وأتردد على الملهى، ولا يعترضون. إنهم طيبون متسامحون جداً! كنت أمازحه، وأحاول ان احك ترسباته التي كانت تظهر جلية قبل أشهر في معركته مع الحٍصّري: احذر مباهج وغوايات بني أمية! فيقرع كأسه بكأسي ضاحكاً:

ـ عليك اللعنة، وعلى من قال: واستمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت وعضت على العناب بالبرد! (يقصد قائلها،يزيد طبعاً)

كان قصر الملك مستأجراً من ثري يهودي يدعى شعشوع. وظل يدعى "قصر شعشوع" أكثر مما يدعى قصر الملك! لا يرى حوله أية طقوس أو بهرجة ملكية. كان الجواهري يحدثني عما في داخله: قصر بسيط، مكون من ست حجرات، يستقل الملك منها حجرة لا تتجاوز مساحتها العشرين متراً. تتصدر جدارها الأمامي لوحه زيتية تجمع فيصل بالكاتب الفرنسي أنا تول فرانس، رسمها أحد الفنانين الكبار في باريس، عندما حضر فيصل نيابة عن والده محفل معاهدة فرساي. كنت أشاهد الملك ينظف منضدته بنفسه مستعملاً مكشة من الريش، تواضعه وبساطته، تجعلان قلبي يقشعر خجلاً واحتراماً. يدخل مكتبه كأي موظف حكومي آخر. الفرق بينهما؛ أنه لا وقت محدد لعمله، كثيراً ما كانوا يوقظونه من نومه ليبلغوه بأي خبر يصلهم. مرة أيقظوه ليبلغوه أن قافلة من الجمال داهمها السيل فغرقت في وادي حوران . رأوه يتطلع في وجوههم مستغرباً. قال له سكرتيره، سمعتك تردد كثيراً قولة عمر ابن الخطاب: والله لو إن شاة ضلت في شواطئ العراق لظننت إني مسؤول عنها"، وهذه قافلة من الجمال وليست شاة واحدة! ضحك. قال: فتشوا في الخزينة؛ هل فيها ما نستطيع فيه تعويض هؤلاء البدو المساكين. تابعوا ما يحدث وأعلموني! وعاود نومه!

كان الجواهري يضحكني كلما حدثني عما رأى في القصر، يقف عند ما وجدها أعجوبة عظيمة: إذا أراد جلالة الملك استدعائي يشتعل أمامي شيء عجيب، أي والله عجيب: مصباح أخضر صغير، مثل عين القطة تغمز لي، فأنهض لأعدل هندامي، وأدخل على الملك، فيقول ولدي محمد..! نسى الجواهري كل ما شهده في هذا القصر من أحداث وشواهد، وظل هذا المصباح الأخضر الصغير، عين القطة، أعجوبته المدهشة مهما تقدم به العمر، ودخل العراق من مخترعات ومصنوعات!يقطع حديثنا في سهراتنا عن الشعر والقصة وقضايا الحياة البغدادية المتفجرة بكل ما هو جديد وهي تتدفق كنهر نحو مستقبل يومئ بالآمال الكبيرة، فيحدثني عما يقع له وهو يرافق الملك في جولاته: رأيت الكثير معه، استمتعت بصحبة أماكن وبشر، لم أتصور يوماً أن اقترب منهم. زرت معه كنائس جميلة، واستمتعت بتراتيل فتيات وشبان كالزهور. دخلنا الكنيس اليهودي وحضرت حفل افتتاح مدرسة كبيرة لليهود تدعى الألينس. دخلنا مندي الصابئة وشهدت طقوسهم المائية، وأكلنا أطباق الدجاج المطبوخ على طريقتهم المشبعة بالتوابل. ذهبت معه إلى مصيفه في الشمال، مترددين بين الكلي وشقلاوة. نتمتع بكرم الكرد البسطاء وطيبتهم. ولا ينسى أن يعرج بنا إلى بيوت شيوخ التركمان فيجعلنا نتذوق أحاديثهم وطبخاتهم الشهية. كان فيصل لا يفوت فرصة لأي من الطوائف أو القوميات إلا ويكون فيها، يشملهم بحضوره المهيب وابتسامته الحزينة، كأنها قلقة من الآتي. ولكي يشجع الشبان بالانخراط في معاهد إعداد المعلمين ذهب إلى مدرسة المأمونية الابتدائية في الميدان، فسجل نفسه معلماً للابتدائية وأدى درساً للتلاميذ الصغار، وسجل ابنه غازي طالباً معهم، ومنتسباً للكشافة. كنت واقفاً بجانبه وهو يعلم الصغار كتابة الحروف الأولى، بينما هذا اللئيم المدعو ساطع الحٍصّري واقفاً على الجانب الآخر يرمقني والغيرة تأكل صدره. كنت اضحك إنه لا يزال يكن الحقد للحصّري حتى بعد ان واساه الملك وقربه منه. يضيف غير مكترث لضحكتي: كنت معه بجولته في الحضرة الحسينية بكربلاء. كان معه رستم حيدر، ومرافقه خالد الزهاوي. كان علماء الدين والمراجع يقدمون عرائض وظروفاً تحمل استرحامات ومطالب، فيسلمها إلى رستم. فإذا برستم يلتفت إليُ وبلباقته ودعابته يسألني: هل تحزر ما في هذه الظروف؟ قلت أجل: ثلاثة مطاليب لا أكثر: لماذا توجد محلات بيع اسطوانات قرب الحرم الحسيني؟ لماذا توجد محلات ولو خفية لبيع الخمور في كربلاء؟ ثم وهذا هو الأهم: طلبات تعمير لهذا المسجد أو ذاك لتقبض الأموال عنه، كما هو الشأن في النجف، من قبل رجال الدين هؤلاء وليس غيرهم، ثم تنزل في جيوبهم، فلا يعمر مسجد ولا تبنى مدرسة! في محل الضيافة فتح رستم المظاريف، وكم كانت دهشته كبيرة حين وجدها لا تتعدى هذه المطالب الثلاثة. التفت إلى الملك فرحاً مبتسماً " هذا محمد قرأ العرائض قبل فتحها" دهش الملك. سأل: كيف قرأها قبل فتحها وهي مغلفة؟ فحدثه رستم عما حصل بيننا، فابتسم الملك. كان يعرف نزعات شعبه. ويريد مداراتهم للوصول بهم إلى بر الأمان. لكن الرياح كانت تعاكسه دائماً! اعتقد إن فيصل كان يجب ان يبقى ملكاً على سوريا، فهم لا زالوا يبكون عليه، أنا أخاف عليه من العراقيين، هم سيقتلونه أو ذريته حتماً!‍

رغم بقاء حقده المضحك على الحٍصّري، أفرحني كثيراً ان الجواهري بدأ يراجع قناعاته السابقة ويقترب من الموضوعية وروح المواطنة الحقة. قرأ علي قصيدته "جربيني"،فنصحته بالتريث ولا يتسرع بنشرها، وجدتها غير ناضحة. لكنه فاجأني بنشرها بجريدة العراق. جاءني ليقول: لقد حسدتني، كنت قد قلت إنني أعيش في البلاط جواً من التسامح، ولكن اليوم حدث شيء رهيب. "وهو يقول على أبسط مشكلة "رهيب"، لو جرح نفسه عند الحلاقة يقول "رهيب"، لو انطفأ عود ثقاب في يده وهو يولع سيجارته، يقول: "رهيب". لو سقطت ذبابة في استكان الشاي أمامه يقول: "رهيب" مع ذلك شحذت سمعي له: اليوم استدعاني الملك فيصل. قال لي بكل لطف ابني محمد قرأت قصيدتك في الجريدة وهي شيء جميل، لكن خابرني أخي الملك علي، وأنا أحترمه، فهو أكبر مني سناً، وهو رجل متدين متعبد زاهد، وكان غاضباً عليك، وكل ما أطلبه منك أن تذهب وتعتذر له عن هذه القصيدة. رتبت نفسي، وعدلت هندامي، وذهبت إلى بيت الملك علي معتذراً. قال أنا غاضب كيف تقول شعراً كهذا وأنت من عائلة دينية مرموقة معروفة؟ كيف تقول:

أنا ضد الجمهور في العيش والتفكير طراً وضده في الدين

ائذني لي أنزل خفيفاً على صدرك كقطرة من معين

اسمحي لي بقبلة تملكيني ودعي لي الخيار في التعينِ

قلت يا جلالة الملك أنا لست ضد الدين، ولكن ضد ما يقدمه رجال دينٍ من دينٍ. أرجو قبول اعتذاري. قال: اقبل اعتذارك شريطة ان لا تعد لمثلها. خرجت من عنده؛ وأنا اقسم بالطارق والنجم الثاقب، ان أعود، وأعود لمثلها، وان أضحي بألف وظيفة ووظيفة في سبيل ان أعود إليها‍. قلت له بهذا التمرد وضعت قدميك على طريق الشعر الحقيقي، رغم أن قصيدتك لم تعجبني، وخالفتني ونشرتها دون تعديل أو تطوير!

قال: المهم أنها أثارت أميراً في البلاط. قلت لا تجعل المعيار في جودة الشعر ما يثيره في القوم أو عليتهم، المهم أن ترضي قانون الشعر السري غير المعلن وغير المكتوب! قرع كأسه بكأسي ضاحكاً: أنت تدخلنا في متاهات، رهيبة!

لم يكن سيل الشعر يتوقف عنده، إذا لم يتفجر في أعماقه دون إرادته، كان يتكلفه. يكاد حجم التكلف لديه يوازي ما يتفجر في ذهنه تفجر الينابيع في الأرض الصخرية. كنت أعرف إنه مبتلى بشعره، يلقي عليه مسؤولية صعبة ومؤلمة. قال لي مرة وهو يكاد يختنق بدخانه. كم أتمنى لو لم اكن شاعراً، بل فلاحاً بسيطا مهجوراً منسياً في قرية على الفرات! وكان صادقاً، وبنفس الوقت كان كاذباً! لأنه كان موزعاً بين حب الشهرة والأضواء وحب العزلة، ودائما يغلبه حب الشهرة والأضواء والعيون تتسلط على وجهه وقامته الطويلة الجافة. كنت أتخيل قامته النحيلة شجرة طارت أغصانها وأوراقها في عاصفة، ولم يبق منها سوى ورقة واحدة هي قصيدته! فكيف لا تكون عاصفة أخرى متمردة مدمرة؟ لم يخف من صولة الملك علي فيتخلى عن قصيدته. قال لي وكان محقاً: هل عليً أن أعيد صناعة عقول الأمراء والملوك، وهي عادة ومنذ القدم، لا تريد من الشعر سوى تسلية أو مديح؟ قلت كلامك يفرحني، وصلت اليوم شاطئ الحقيقة. قال ضاحكاً وكان محقاً أيضاً، ولكن شاطئ الحقيقة ليس شاطئ السلامة، على العكس هو شاطئ الموت أو العذاب. نعم قلت له، ولكننا سنجعله شاطئ السلامة أيضاً! عليك ان تهتم بإعادة صياغة ذهنك وقصيدتك! أنس تلال الكتب التي حملت وزرها في النجف! ابدأ من جديد!

(121) ستبقى طويلاً هذه الأزمات، أو حين يتجلى الشاعر كما يريد الشعر!

كنا في عام 1929. كادت تفتح أول مدرسة للبنات في النجف لكن رجال الدين هبوا بوجه وزارة المعارف. وجدوا إن فتح مدرسة للبنات في النجف؛ يعني انقلاباً عليهم وعلى سلطتهم! رجال المرجعية دعوا أبناء الشيعة أن لا يذهبوا لمدارس الحكومة، بل لمدارسهم الدينية فقط، فكيف يأتي هؤلاء من بغداد؛ ليفتحوا مدرسة؟ وللبنات؟ هذا تحد صارخ لهم وتمهيداً للقضاء على مؤسستهم الموازية تقريباُ في جباياتها المالية وتأثيرها المعنوي لسلطة الدولة. قال الجواهري: أموال المرجعية أكثر من أموال الدولة، أين تذهب؟ لا ندري؟ هم يريدون عزل الشيعة عن الآخرين للاستحواذ على أمولهم وعقولهم. هذا كل شيء. ثار رجال المرجعية ضد مدرسة البنات. خرجوا بمضابط شعارها: مظلومية أتباع أهل البيت متواصلة، منذ يزيد حتى فيصل الأول، كفاكم استهتاراً بمشاعر الشيعة أحفاد علي والحسين! مدرسة للبنات في النجف يعني غداً ملهى وسينما وتياترو وحانة وربما ماخور! انقلاب لن يمر! كان في مقدمة المحتجين حملة المضابط والعرائض والشعارات رجل دين مسيس من أصل إيراني مع ثلة كبيرة من اتباعه. الصراخ يتعالى: كفى مظلومية، ولبيك يا حسين لبيك. ويا لثارات الحسين! واحسيناه، بني أمية يريدون انتهاك حرمات نساء الشيعة، وجرهم للفسوق! واشتعلت شوارع النجف وكربلاء ومدن أخرى في الفرات الأوسط! في لحظة تجل رائعة. نزل الجواهري الساحة كأنه الفيلق الأعظم، بقصيدة عنوانها "الرجعيون". قال لي مبرراً نظمه لها: وجدت نفسي كأنني المسؤول عن منازلة هذه القوى الجبارة التي لا يجرأ أحد أن يمسها فضلاً عن ان يهاجمها، وينال منها، اسمع يالعطار:

ستبقى طويلاً هذه الأزمات إذا لم تقصر عمرها الصدمات

إذا لم ينلها مصلحون بواسل جريئون فيما يدعون كفاة

سيبقى طويلاً يحمل الشعب مكرهاً مساوئ من قد أبقت الفترات

ألم تر إن الشعب جل حقوقه هي اليوم للأفراد ممتلكات

ومن عجب إن الذين تكفلوا إنقاذ أهليه هم العثرات

غداً يمنع الفتيان أن يتعلموا كما اليوم تمنع الفتيات

من الأبيات الأولى أدركت أنها قصيدة أخرى تماماً. إنها مفاجأة رائعة ومزلزلة‍ لم أتمالك نفسي، نهضت وقبلت رأسه. قلت له بهذا الشعر أنت تواجه بقلبك العاري الشر والخطأ والاعوجاج. بعد الآن، لا تمدح ولا تهجو، ولا تتجشم عناء غزل لا تجيده، في أعماق ثورتك العادلة هذه يكمن الحب، التمرد الصحيح من اجل عدالة واضحة ممكنة، هو الحب نفسه، هو العشق العظيم للنور، وللمرأة التي هي ينبوع الجمال والخير والحنان!

فإن ينعَ أقوامٌ علي مقالتي وما هي إلا لوعة وشكاة

فقد أيقنت نفسي، وليس بضائري بأني في تلك العيون قذاة

...............

كان كلما قرأ بيتا أنهض مصفقاً مرسلاً له القبلات في الهواء طالباً منه أن يعيد، وأستزيد. حتى ثار في وجهي:

ـ شنو يعني متريدنا نخلص ونتزقنب شوية عرق؟ نظل للصبح نقرا!

كم حلا صوته ورق وتجلت فيه طيبته. حمدت نفسي إنني من القلة الذين عرفوا المكنون النبيل لهذا الشاعر الذي ظلمه الناس بقدر ما ظلم نفسه. يا لشجاعته يتعرض لمراجع ورجالات كبار غاضبين ثائرين لو أمسكوا بمن يخالفهم لمزقوه إرباً وهو ابن مدينتهم،ماذا سيبقون له؟:

أتجبى ملايين لفرد وحوله ألوف حلُت عليهم الصدقات

وفي تلك مبطانون صغر نفوسهم وفي هذه غرثى النفوس أباة

ولو كان حكم عادل لتهدمت على أهلها تلكم الشرفات

على باب "شيخ المسلمين" تكدست جياع علتهم ذلة وعراة

هم القوم أحياء تقولّ كأنهم على باب "شيخ المسلمين" موات

وخلفهم الأسباط تترى، ومنهم لصوص، ومنهم لاطة وزناة

توقف ليقول إنه يشير إلى أملاك أحد رجال الدين الممتدة على جانبي النهر في الكوفة أخذها بأموال الخمس، وسجلها باسم أولاده وبناته:

يدي بأبدي المستضعفين أريهم من الظلم ما تعيا به الكلمات

أريهم على قلب الفرات شواهقاً ثقالاً تشكى وطأهن "فرات"

بنتهن أموال اليتامى،وحولها يكاد يبين الدمع والحسرات

بقايا أناس خلفوها موارداً تسدد لهو الوارثين،وماتوا

وجدتني مذهولاً .تجلى الجواهري صادقا كبيراً، قلت: لو ليس لديك سوى هذه القصيدة، لاستحققت الخلود. عدني أيها الشاعر العظيم بعد هذه القصيدة: لا تمدح أحداً، كل الذين مدحتهم أنت الشاعر أعلى منهم، كل الذين هجوتهم لا يستحقون كلمة منك، كن أيها المبدع نفسك فقط. اتجه للحب، للتأمل، للفلسفة، لروح الإنسان! فجأة رمى القصيدة على المائدة وراح يضرب عليها قائلاً:

ـ ومن أين أعيش؟ أتضمن عيشي وأبنائي وزوجتي المريضة؟ صمت، وصمت هو أيضاً. ورحنا نبكي معاً!

بعد نشر القصيدة، ثار رجال الدين في النجف. حرضوا على الجواهري أتباعهم في شبكتهم الواسعة المتغلغلة في الفرات الأوسط والجنوب وبغداد. لم استغرب أن رجال الدين شيعة وسنة قد توحدوا ضده، قلت له: قمت بما لم يستطع الملك القيام به. أنت وحدت رجال الدين الشيعة والسنة! راحت رسائل وبرقيات الاستنكار والاحتجاج من رجال ومراجع النجف وكربلاء والأعظمية والرمادي والموصل تنهال على البلاط كالمطر. كلها تحرض الملك ضد الجواهري. ونحن في جلسة شراب مرتاحين نشعر بالانتصار، رغم إنهم حالوا دون فتح مدرسة البنات في النجف. حدثني وهو يحتسي الكأس بهدوء ويولع سجائره الواحدة من الأخرى: استدعاني الملك. خمنت غرضه. وجدته غاضباً. لأول مرة خلال فترة عملي أراه غاضباً عليُ. قال مشيراً إلى الجريدة التي أمامه: " ما هذا يا محمد؟ " قلت: والله يا سيدي هذا ما كان مني" قال هل تعلم كم تلقيت من المكالمات والبرقيات التي يقول أصحابها: هذه أفعال ابنك محمد، الذي يعمل عندك وفي ظلك. أنت تعلم. هذا يسبب لي حرجاً شديداً. قلت آسف يا سيدي، لما سببته لك من حرج واستميحك العذر، ولكن لن أسبب لك بعد اليوم، وبعد هذه الساعة أي حرج. التفت مستفسراً: ماذا تقصد؟ قلت: اقصد ما قلت، ان لا أكون سبب إحراج لكم سيدي. رد على الفور: لا،لا، عد إلى مكانك، لقد أردت أن أنبهك، حتى تكون على بصيرة. عدت فعلاً إلى مكاني، في حجرة التشريفات، وأنا اشعر إنني صرت أقرب إليه وهو أقرب إليُ. وما انفكت رسائل الشتائم تنهال عليُ وبرقيات ومكالمات طلب أخرجي من البلاط تنهال على الملك، فيتجاهلها. التبس الأمر علي في حينها لماذا قرر الملك أن يعفيه من مهمات التشريفات، ويسند له عملاً إعلامياً في البلاط: قراءة الصحف وإعداد تقريرٍ له عنها. الجواهري قال لي: الملك أراد أن يدللني. سألني بلطف هل أستطيع يا ولدي محمد أن أعهد إليك بقراءة الصحف تتسلى بها، تعد لي تقريراً عنها، ذلك انسب لك من التشريفات. بعد ربع ساعة تقدمت إليه بقائمة لأكثر من عشر صحف جديدة. كان هذا يعني أموال ودنانير غير قليلة ومريرة الوقع على السيد صفوة العوا ناظر الخزينة الملكية ورئيس التشريفات المعروف بأمانته مع ميزانية صغيرة محدودة. كانت حتى فناجين القهوة في القصر معدودة دون تبذير ولا تقتير. وكانت ميزانية الدولة كلها لا تزيد على الثلاثة ملايين ونصف المليون دينار، يشرف عليها وزير المالية اليهودي حزقيل ساسون بأمانة وحرص شديدين، فيدفع وبالمواعيد الدقيقة تكاليف الصحة والتعليم والكهرباء ورواتب موظفي الدولة والأمن والدفاع والسفراء دون عجز أو نقصان. ورغم حب الناظر لي لكن ميزانية الصحف هذه كانت ثقيلة عليه، ومع ذلك صرفها لي. صرت أقرأ الصحف في البلاط أو بيتي، وأتقاضى راتباً مع هالة ملكية، تلك متعة عظمى! أخذت اشكر الحٍصّري اللئيم، إنه حال دون بقائي في التعليم! كانت أيام عمله في القصر مريحة ممتعة له. لم يلق لا من الملك ولا من أي أفراد الحاشية أي إزعاج أو مضايقة. كان مدللاً.ولكن هل ركن للهدوء والسكينة وانصرف لتطوير أداته الشعرية وتعميق ثقافته وإبداع الجديد والجميل من الشعر؟ والكل ينتظر منه قصيدة جميلة. على العكس نظم قصيدة للملك ذات وجهين، تحتمل المدح كما تحتمل الذم. لمته إنه لم يطلعني عليها قبل نشرها. جلبت عليه ريبة وحنق بعض أفراد الحاشية، وكيف لا يرتابون وهو يقول عن فيصل:

لباس أطوار يرى لتقلب الأيام مدخراً سفاط ثياب

يمشي إلى السر العميق بحيلة أخفى وألطف من مدب شراب

يبدو بجلباب فإن لم ترضه ينزعه منسلاً إلى جلباب

كان الملك خارجاً من حجرته، فلقيه مع موظفين في الممر، سأله:

ـ هل طلبت منك يا ولدي محمد أن تمدحني؟

ـ حاشا يا جلالة الملك!

ـ كل ما أطلبه منك، أن لا تمدحني!

قال الجواهري وهو ينفث دخانه في وجهي: إنه مزاحم الباججي! هذا الطويل الماكر الفتان هو الذي أوغر صدر الملك ضدي! وكم ندمت إنني لم اقل للملك ذلك. قلت: كان سيغضب اكثر إذ تصوره إنه غبي لا يفهم في الشعر حتى يأتي الباججي ويعلمه! من الواضح إن قصيدتك تحتمل وجهين ومن يمدح ملكاً يجب أن لا يترك شكاً في قصيدته؛ أنها تهلل لمجده ولا تفتح أي باب آخر، بل تغلق الأبواب كلها! يوماً بعد آخر أكتشف شيئاً في الجواهري وفي شخصية الشاعر عموماً، إنه بقدر براعته وذكائه في صياغة قصيدته يبدو ساذجاً حد الغباء في علاقاته الشخصية والعامة. حتى ليستطيع أي رجل في السوق أن يضحك عليه، ينتزع نقوده ويعطيه بضاعة فاسدة!

أراد أن يرضي الملك بطريقة أخرى. جاء وفد من الأسرة الحاكمة في السعودية إلى بغداد، فانبرى لرجال الوفد والسعودية بقصيدة طافحة بشتائم مقذعة، نافذاً منها للغمز من أصولهم العربية، وماساً ما بين الأسرتين الهاشمية والسعودية من صراعات قديمة. أشعل غضب الملك عليه. استدعاه. قال له بلهجة زاجرة لأول مرة:

ـ كل ما أريده منك أن لا تمدحني، ولا تهجوا من تعتقد انهم خصومي!

ولكن هل سكت؟ هل قدر صبر الملك عليه. نظم قصيدة تعرض به وإن من بعيد:

في ذمة الشعر ما ألقى وأعظمه إني أغني لأصنام وأحجار

لو في يدي لحبست الغيث عن وطن مستسلم ولقطعت السلسل الجاري

العذر يا وطن أغليت قيمته عن ان يرى سلعة للبائع الشاري

الكل لاهون عن شكوى وموجدة بما لهم من لبانات وأوطار

وكيف لا يمنع صوت الحق في بلدٍ للإفك والزور فيه ألف مزمار

قال لي الجواهري، لقد قرأ الملك القصيدة ولم يغضب علي. يا لعظمته كم كان حليما صبوراً معي! لكنني شعرت ان الملك ربما أدرك أخيراً أن النصح لا يجدي معه، فالضغينة كامنة في أحشائه! قال الجهنمي:

ـ حاول فيصل الأول أن يجعل بلاطه مشبعاً بالحب والوئام الروحي، وهذا لا يلائم مزاج الجواهري القائم على العنف والكراهية والتمرد الدموي!

لم يتوقف العطار عند كلام الجهنمي فهو يعرف إنه متحامل عليه كل سنوات الدنيا والقبر معاً، لكن خطر لي أن اسأل العطار: أعرف إنكما عشتا علاقات كثيرة. هل تتذكر له قصيدة غزل متميزة؟ هز العطار رأسه ضاحكاً، قال: كنا نتردد أنا وإياه على ملهى روضة البدور في منطقة الميدان، كانت نجمة مسرحه راقصة تدعى بديعة عطش، قادمة من بلاد الشام. وقد تدله الجواهري بحبها، لكنها بالطبع كانت معشوقة الزبائن، ومن يدفع أكثر ويفتح لها قناني الشراب, ولم تكن تفهم في الشعر شيئاً، فكيف بشعر الجواهري المعقد المكركب، والذي يبدو لها من لغة أخرى، أصر ان تجلس أمامه خاشعة ليقرأ عليها قصيدة كتبها بحقها قائلاً: سأخلدك! سأجعلك كليلى المجنون، وكجولييت روميو وشكسبير، وراح يقرأ:

هزي بنصفك واتركي نصفا لا تحذري لقوامك القصفا

أبديعة ولأنت مقبلة تستجمعين اللطف والظرفا

رأيتها وهو يقرأ قصيدته الطويلة تتثاءب وتعلك، وتبدل من وضع فخذيها العاريين، واحداً فوق الآخر، فيبين لباسها الداخلي، والجواهري يزداد لهاثه، وهي تقول بين فينة وأخرى:

ـ زبون بيندهلي! شوكت تخلص؟

وحين انتهى سألها: ما رأيك يا فاتنتي، يا معبودتي؟ قالت وهي تنهض:

ـ شو بدك خيو؟ تئطعني نصين؟

توارت وهي تتضاحك بصوت مموسق، فالتفت إلي قائلا:

ـ هذي صحيح غبية، كل شي ما تفتهم بالشعر. زين انت شنو رأيك؟

وجدت أن القصيدة سطحية متكلفة، خالية من أية صورة أو خيال، كمعظم شعره العاطفي، لكنني وجدتها بارقة طيبة ان يبتعد عن شعر المديح والهجاء ويتجه للغزل، مهما كان مستواه. قلت قصيدة جميلة، أرجو أن تواصل هذا النمط من الشعر. لكنه فاجأني : شفتها شلون ازدرتني؟ هذي لا زم أهجوها، وأطلعها من بيت علو وجلو! بعدها لا أتذكر إنه حدثني عن ولعه أو حبه لامرأة سواء في حياته العادية،أو بين الغانيات!

ـ لكنني قرأت له قصيدة يرثي بها زوجته، بقصيدة حزينة جميلة صادقة.

نعم هو يستثيره الحزن والفقدان، ولا يستثيره وجد المحب في لحظة الحياة النادرة مع المحبوب.

وبعد سبعين عاماً وتراكم الكثير من تراب الموت، يهمس الجهنمي قائلاً:

ـ هو لا قدرة له على الحب. تصور شاعراً عاش مائة عام، ولم يترك خلفه قصيدة حب واحدة؟ الطفولة الميتة في أعماقه جثة متفسخة، جعلته لا يعرف الحب، وأقرب لنزعة الكراهية المتأصلة فيه، فلا يستطيع النظم في الغزل أو الهموم الإيجابية الأساسية للنفس البشرية! ما معنى: جربيني من قبل أن تزدريني وإذا ما ذممتني فاهجريني

أهي قصيدة حب أم إعلان سمج عن بضاعة؟ تصور نفسه إنه قام بمعجزة حين تحدث عن تجربة جنسية، كيف تحدث عنها؟ وصف آلاتها ودورتها السطحية: ودسسنا باسم الشيطان! فهو لديه الجنس عمل شيطاني! أهكذا يحكى عن أجمل وأعمق حالة يعيشها الإنسان في الوجود؟

قال العطار بهدوء:

ـ هكذا يكون شاعر الشهداء! بدون هذه المواصفات لا يستطيع ان يرسل أكبر قدر من الشباب بعجالة إلى الموت!

وكأن العطار لم يأت من قبره بل من عمله في المدرسة، أو من المطبعة حيث فرغ لتوه من تصحيح صفحات رواية له، عاد لحديثه:

ـ قال لي الجواهري إنه دخل على الملك صباح يوم مطير. حاملاً ورقة تتضمن سطوراً قليلة، قدمها له باحترام:

ـ لي رجاء أخير لديك يا جلالة الملك: أن تقبل استقالتي هذه!

دهش الملك، لم يقبلها على الفور، ذلك يساوي أن يكون عجزه عن إقالته، كان في نفسه شيء من تراكمات تصرفاته الحادة، لكن أراد أن يصرفه بلطف، خطر له أن يحذو حذو خديوي مصر مع أحمد شوقي؛ فيرسله في بعثة إلى باريس لينهل من نورها وجمالها، عله يعود شاعراً آخر، رقيقاً، رصيناً:

ـ لدينا بعثات إلى الخارج، القانون يسمح لي ان أمنح واحدة منها. لتكن لك، تذهب إلى باريس تتعلم الفرنسية لغة الشعر كما يقولون وتتعرف إلى شعرائها والحياة الجميلة فيها وتعود لنا شاعراً كبيراً مثل أحمد شوقي في مصر!

ـ سيدي يشرفني ان أقبل فضلك، لكنني أريد أن أمارس الصحافة. المهنة التي أحبها!

دهش فيصل، قال كلاما كأنه يعرف مملكة الشعر أكثر مما يعرف مملكته:

ـ ولكنك شاعر. لا تضيع نفسك بين المتزاحمين على السلطة!

لم يتوقف الجواهري عند قول الملك، ولم يقل الحقيقة، التي كانت شيئاً آخر تماماً. كان وراء طلب استقالته، ورفضه الذهاب إلى باريس ولقاء آلهة الشعر هناك، قضية أخرى، كان قد نوه لي عنها وحذرته من الانسياق بها. كان نوري السعيد في تلك الأيام قد أخذ يلف حبائله حول خصر الجواهري الأهيف. عرف كل نقاط ضعفه، وما يستلب عقله وضميره. فراح يجتذبه لمشاريعه وخططه. نسى الجواهري ما كان يسميها مقدسات الطائفة أمام القصعة الدسمة لهذا الرجل القوي الصاعد مدارج السلطة. كان قد وعده بمنحه امتياز جريدة، وكل تكاليف تهيئتها وإصدارها، مع مقعد في البرلمان. قلت له أنت شاعر، والشاعر أكبر من نائب في البرلمان، ومن وزير أو رئيس وزراء، وملك. أحذر! استفد من جو العزلة والتفرغ والرفاهية التي منحها لك الملك؛ لتكتب شعراً جميلاً، لا تفرط بها. جاء ليعلمني أن الملك عرض عليه بعثة إلى باريس. دهشت حتى إنني بقيت لحظات أبحث عن لساني في حلقي لأتكلم. لا أكتمك إنني حسدته، وغرت منه كثيراً، بل حقدت عليه! تمنيت لو إن الملك منحني هذه الفرصة العظيمة لأذهب إلى باريس الضاجة بالأنوار والجمال والتي كانت تستلب عقولنا وخيالنا. أتعلم الفرنسية، وأطلع على شوامخ الروايات الفرنسية والعالمية، وأعود علني أكتب ملاحم المسار العراقي الزاخر بكل بما هو معقد، وعميق ومؤثر. وتذكرت المثل العراقي الذي يقول "الله يعطي الجوز لمن لا أسنان له"! قال الجهنمي لو ذهب الجواهري إلى باريس لما تعلم شيئاً، كان انشغل في البحث عن عاهراتها وخمورها، ومقاهيها يغشاها بكسله المعتاد. عقب العطار: هذا شيء لا باس به، لو اقترن بالإبداع الشعري، لكنه سيظل ينظم هذا الشعر الجاف الثقيل الأقرب لشواهد قبور؛ صفت على شكل أبيات في قصيدة. ربما يمكن لفيصل أن يكون خديوي العراق، ولكن لا يمكن للجواهري أن يكون أحمد شوقي!

قلت هذا ليس ذنب الجواهري. شوقي نشأ في قصر ملكي وروضة غناء ناعمة عطرة. الجواهري نشأ وترعرع في بيت فقير يجاور أكبر مقبرة في العالم! من الغريب إن الجهنمي أيدني: هذا صحح فالشاعر ابن بيئته! يقول العطار: أعدت على الجواهري كلمتي: الشاعر اكبر من أي سلطان! لكنه أصر قائلاً بغضب: السلطان أكبر وأهم من أي شاعر! كان همه أن يصير نائباً في البرلمان، ظل ذلك طموحه وعقدته وعذابه حتى آخر أيامه. وحين لا يثق الشاعر بنفسه، ولا برسالته ودوره في الوجود يصعب بل يستحيل أن يقنعه بها أحد حتى لو كان الله نفسه! أخذ الجواهري يباعد لقاءاته معي بعد أن كانت يومية تقريباً. عرفت من أصدقاء حميمين لي أن نوري السعيد بدأ يقربه إلى مجالسه. ويتودد له. بعد أن كان يقول عنه (قلبه طائفي موغر ضدنا، يعتقد أننا نستأثر بالحكم، بينما أبوابنا مشرعة له ولكل قادم من أية طائفة أو دين أو قومية)! وحين التقيت الحواهري حدثني إن الباشا بدأ يتقرب إلى الرصافي بعد أطوار من الكراهية بينهما. كان الباشا آنذاك يريد أن يمرر اتفاقية الانتداب مع الإنجليز، راح يحاول كسب الرأي العام إلى صفه. ومن يؤثر في الناس اكثر من الشاعر؟ وسعى لصفقة ود مع الرصافي والجواهري. عله يكرس شعرهما للترويج لمشروعه السياسي، أو في الأقل لضمان سكوتهما عليه. وعد الجواهري بتمويل جريدة له وبمقعد في البرلمان بأقرب دورة انتخابية. اجتذبت الجواهري أجواء الباشا ووعوده ولياليه. استلم من الباشا أربعمائة روبية، قال له: دبر بها حالك الآن، والآتي أكبر!

(122) الرصافي بين كلب الزهاوي.. ومعاهدة الانتداب!

خرج الشاعر جميل صدقي الزهاوي من بيته الجميل ذي الحديقة الواسعة في الأعظمية، مقتاداً كلبه الصغير الأبيض المبقع بالبني. يقول الزهاوي ان لديه شجرة عائلة هذا الكلب، فهو من سلالة أوربية عريقة شريفة نشأت وتربت في قصور العائلة الملكية البريطانية. جاءه هدية من ضابط إنجليزي تقديراً له على إحدى قصائده الفلكية التي حدد فيها مكان عطارد بين الكواكب، والمسافة بينه والأرض بعدد التفعيلات الشعرية لا السنوات الضوئية. سماه (ولك)، والبعض يقول إن هذا الاسم شفرة مراسلة سرية مع سكان الكواكب البعيدة. فالزهاوي يعتقد إنه لكثرة مناجاته سكان الفضاء بقصائده الفلكية صار مشهوراً بينهم، كما هو حسب اعتقاده مشهور في كافة أنحاء كوكب الأرض. ولديه عشيقات جميلات في المريخ وزحل والزهرة، خاصة الزهرة فهي نفسها عشيقته، ولا تطل على الكون إلا لترى الزهاوي وتهيم بتجاعيد وجهه الشبيهة بطيات جريدة مدعوكة تحمل كل الأنباء المفجعة في العالم! وكان الرصافي حين يهجوه لا ينسى ان يعرج على "ولك" بأبيات بذيئة. فيرد الزهاوي عليه هاجياً قطاً له مؤكد وجود علاقة مشبوهة بينهما! نسي الزهاوي إنه خرج لحضور إحدى جلسات مجلس الأعيان الذي هو نائب مزمن فيه. في الطريق تذكر مجلس الأعيان، ونسى الكلب! وقد ظل الكلب يسير خلفه مستمتعاً بصباح بغداد المتألق ذلك اليوم بشمس خفيفة ناعمة وشذى ورود بيوت راحت تتسع وتغدوا بحدائق فسيحة كلما توغل في الوزيرية. صار يمشي إلى البرلمان بهدوء والكلب كأنه يعرف رائحة أعضاء مجلس الأعيان المسنين لا يحيد عن طريقه. عند باب البرلمان أوقفه الحراس متضاحكين. تنبه للكلب. صار في حيرة. أيرجع بالكلب إلى البيت؟ أم يدخل به البرلمان وقد بدأت الجلسة؟ اقترح الحرس أن يبقوه عندهم: وافق، لكنه قال لهم:

ـ أرجوكم لا تتحدثوا بذلك! أخشى ان يعرف الرصافي، فينظم في ذلك قصيدة كلبية مسعورة!

وكم كانت دهشته رهيبة حين وجد الرصافي يقف قبالته.

كان قد سمع حديثه وعرف ورطته: فوجدها فرصة عظيمة لمنازلته:

ـ لم لا تدع كلبك يحضر جلسة برلمان الطراطير هذا؟ فنباحه أكثر فصاحة من كلامهم السخيف، ورائحته الزنخة أفضل من رائحة فسادهم الأنتن من كنيف!

ذهل الزهاوي. ماذا يستطيع ان يقول له؟ أهو في كابوس أم في هذا النهار المشمس اللطيف؟ أراد أن يتكفى شره ويغمزه أيضاً:

ـ هندامك جميل اليوم، هل أنت على موعد غرامي؟ أهو غلام اسود أيضاً؟

رفع الرصافي رأسه شامخاً:

ـ أي غلام أيها الخرف؟ لقد أرسل الملك في طلبي، وسأذهب لأرى ماذا يريد!

شحب لون الزهاوي، وأخذت يداه ترتعشان، وقد أحس كلبه بما اعتراه، فأخذ ينبح فيتردد نباحه في قاعة البرلمان الصغيرة الكابية المطلة على النهر وراء ظهر بناية الثكنة العثمانية. سأله بصوت مرتجف:

ـ مع الملك؟

ـ نعم الملك فيصل الأول نفسه!

ـ كيف؟

أراد الرصافي ان يفسد علاقته بالجواهري فهو يعرف إنه صديقه ويلقاه دائماً، الجواهري يحتسي العرق، والزهاوي يعب فناجين القهوة والدخان، ويقلبان سيرته وجهاً على قفا.

ـ الجواهري رتب لقاءنا، الملك يريد ان يعتذر لي عن تقصيره بحق الوطن، وبحق الشعر، وحقي!

راح الزهاوي يردد بصوت مسموع:

ـ الملك يعتذر، الجواهري رتب اللقاء، ما هذا الذي يجري؟

تركه الرصافي، دون وداع أو كلمة أخرى، وواصل سيره إلى البلاط، قرر ان يمشي الهوينى، وأحيانا على إيقاع بحر الرمل والمتدارك، فهو أيضاً يريد ان يستمتع بشمس الصباح قبل أن يحين موعده مع الملك! أحس بنشوة إنه ناكد الزهاوي، كان يقول إنه أحتكر الملك والبرلمان له وحده. عاوده وجومه. لم يكن الجواهري هو الذي رتب لقاءهما. إنه نوري السعيد. تحدث مع الملك وحدد الموعد، وقد طلب مني ان أكون ودياً مرناً مع الملك. ترى لماذا فجأة صار يلح على مصالحتي مع الملك؟ أيريد ان يشتري سكوتي لتمرير معاهدة الانتداب؟ هل سيصوت كلب الزهاوي معهم عليها؟ على الأرجح المعاهدة هي السبب. لكنه لن يستطيع إسكاتي لا بالمال ولا بالقوة. على كل حال أنا فعلاً في ضائقة مادية شديدة، لا بأس من السكوت لفترة ريثما نرى ما سنحصل من الملك. الجواهري قال لي إنه أعد لي جراية خاصة من القصر رغم ضعف ميزانيته؟ ماذا سيقول لي الملك؟ هل سيحاسبني على قصائدي في هجائه؟ ولكن أي القصائد؟ فهي كثيرة؟ أهي تلك نظمتها عندما أغرق الفيضان قصره الملكي على ضفة دجلة؟ كنت قاسياً بذيئا:

ليت شعري أبلاط أم ملاط أم مليك بالمخانيث محاط

(وعندما أسكر أقرأها : بالمناويك محاط)

غضب الله على ساكنه فتداعى ساقطاً ذاك البلاط

أم تلك التي ألقيتها في حفل حاشد ببيروت ونشرتها الصحف اللبنانية؟ تجاهلت في حينها دعوة مغرية خلابة من عبد المحسن السعدون لي للقدوم إلى بغداد لتسلم منصب كبير، والقرب من الملك، فقلبت بها كل شيء، وكيف لا يقلب كل شي قولي عن فيصل:

ليس له من أمره سوى إنه يعدد أياماً ويقبض راتبا

أعرف فيصل مذ كنا معاً في الإستانة. كان طيباً ودوداً مهذباُ لكنه كان بدويا لا ينسى الإساءة حتى لو كانت بحجم لسعة بعوضة. بنفس الوقت حين يقول كلمته لخصمه، هو متسامح غفور. مرت الساعات عليه طويلة منهكة. وأخيراً أدخله الجواهري الديوان حالما بدأ الملك يستقبل زواره. بادره الملك بالسؤال وهو لا يزال واقفاً أمامه:

ـ أنا يا معروف من يعدد أياما ويقبض راتبا؟

أجابه الرصافي مداريا ارتباكه:

ـ أسأل الله أن لا تكون كذلك!

وجلس على الكرسي الوحيد أمامه دون استئذان، لم يحر الملك شيئاً، والجواهري واقف بينهما صامتاً مترقباً. قال الملك بصوت المعاتب:

ـ ليش كل هذا العداء يا معروف؟

ـ يا صاحب الجلالة لا يوجد واحد في الدنيا يقول إنني طامع في مقامكم لأجل أن يكون لي عداء معكم، لأن الأغراض هي التي تولد العداء.

ـ وبلاط أم ملاط ما هذا؟

ـ هذا لم يكن موجها لشخصكم الكريم، وإنما لأفراد في حاشيتكم أساءوا للبلاد.

ـ إساءة بعض الحاشية لا يبرر هذا القول! قام الرصافي على الفور مودعاً الملك بإيماءة من يده. ظل الملك غاضباً، وربما ازداد غضباً، يحس إنه طعن من رجل كان قد منحه المحبة والعون عندما كانا معاً في الاستانة. لكنه هجا والده الحسين بن علي بحدة. عده متحالفاً مع الكفار ضد حكم العثمانيين المسلمين. أيد طالب النقيب في ان يكون ملكاً على العراق، وشرع يعد لحملة البيعة له لولا أن الإنجليز سارعوا ونفوا النقيب خارج العراق. لقد آذى الرصافي أسرتنا ولا يزال يؤذينا، ولكن مع ذك هو فقير معدم، وشاعر مشهور له كلمة مسموعة بين الناس. والصفح عند المقدرة شجاعة وحكمة. قال للجواهري المنتظر أمامه:

ـ لا زلت عند وعدي: اجروا راتباً للرصافي.

كان الرصافي قد غادر البلاط.ذهب الجواهري مساءً إليه في بيته بالصابونجية.الحي المكتظ ببيوت العاهرات. سلمه مظروفاً أنيقاً يحمل الروبيات:

ـ لم يتراجع فيصل عن تخصيص راتب لك!

لم يجروء الجواهري على القول " رغم فشل لقاء مصالحتكما!"

استلم الرصافي الظرف السميك متصنعاً عدم الاكتراث، لكنه هز رأسه قائلاً:

ـ رجل أصيل كبير حتى في عداوته!

سادت برهة صمت بينهما، قال الجواهري:

ـ أود أن أخبرك إنني سأترك العمل في البلاط!

رفع الرصافي رأسه عن بريمز صغير كان يعد عليه الشاي:

ـ لماذا؟ هل ضايقوك بسببي؟

ضحك الجواهري:

ـ لا، سأصدر جريدة كبيرة باسم الفرات، ستكون مفاجأة للجميع، وانتظر منك قصيدة تزين صفحتها الأولى.

ـ ومن أين لك المال وأنت لا تملك شيئاً! مضيفاً وهو يضحك:

ـ راتبك صرفته كله على لياليك مع بنات الملاهي، وجلسات مع العطار والجهنمي، مرات عديدة قلت لك تعال هنا اشرب واختر لك صاحبة من بنات الصابونجية، وحتى غلاماً إذا شئت، لكنك لا تسمعني! والمصيبة الأكبر، إنك تذهب لتجلس قبالة لحية الزهاوي. قل لي بربك كم قملة قفزت منها إلى رأسك العبقري؟

اخذ الجواهري يضحك، لكن لا بد له من العودة إلى موضوع جريدته، لم يستطع أن يتكتم على طبيعتها ومن يقف وراءها، ثم ان الرصافي سيعرف حتماً!

ـ الباشا سيدعمني مالياً ويمنحني الحماية الحكومية!

هز الرصافي رأسه بطريقة غامضة، لكنه ربط بين دعوة الباشا له إلى البلاط، وجريدة الباشا ومعاهدة الانتداب القادمة، وحتى كلب الزهاوي! تأكد للرصافي أنه والجواهري في نفس المركب، كما تأكد الجواهري ان الرصافي في المركب أيضاً. تبادلا النظرات وران عليهما الصمت. نهض الرصافي تاركاً الشاي يخدر. جاءت فتاة حسناء تتردد على الرصافي من بيت قريب للدعارة. أخذت تقدم الشاي بالاستكان لهما، وجلست ترقبهما وهي تعلك وتدير على شفتيها قشرة الجوز، الديرم الحمراء الباهتة. روى لي الجواهري فيما بعد إنه رأى الرصافي وهو يستلم آخر راتب له من الملك. جاء البلاط فأخبره المحاسب بأنه لا يجد له في القوائم راتباً هذا الشهر. أدرك الرصافي أن شتائمه على الملك والباشا لم تتوقف دون أن يدري، حين يفرط في الشراب، ويتعتع في مجلسه الليلي الذي لم ينقطع يوماً. وإن ندماءه في مائدة الشراب يوصلونها إلى البلاط. والملك غاضب عليه دون شك. يقول الجواهري: جاءني الرصافي إلى مقهى عارف أغا حيث أجلس عادة ليخبرني بانقطاع راتبه. كان الملك بعد خروجي من حاشيته، قد ترك لي بابه مفتوحاً أدخل حجرته متى أشاء دون المرور على موظفي التشريفات. اصطحبت الرصافي إلى البلاط! دخلت عليه وحدي. أعلمته بانقطاع راتب الرصافي. طلب الملك من المحاسب ان يجلب الراتب من الخزينة، ويسجله فيما بعد. كان الرصافي واقفاً عند الباب لم يأذن له الملك بالدخول. حمل الملك مظروف الراتب ولم يفتح الباب سوى قليلاً. حدجه بسحنة مكفهرة. مد يده إلى الرصافي بالراتب دون سلام أو كلام، وسلمه له! تلك كانت أول مرة أرى فيها الملك غاضباً، يجد صعوبة لكتمان غيظه، عائداً إلى قسوة البدوي!

(123) شاعر لا يكتب قصيدة حب؛ يكتب قصيدة أخرى بالجماجم!

صباح يوم شتائي وأنا أمر عادة على باعة الصحف في شارع الرشيد قبل ذهابي إلى مدرستي حيث اعمل مدرساً للرياضيات، طالعتني جريدة الفرات،التي أصدرها الجواهري أخيراً، وعلى صفحتها الأولى قصيدة للجواهري يمدح بها نوري السعيد:

على اسم الثورة الحمراء جرب نشاطك أيها البطل الجري

وهب أن الدماء تريد تجري فشق لها ليندفع الأتيٌ

فإن لم يرق بالتلطيف شعب، فبالإرهاب فليكن الرقي!

هو لم يكتف بمواصلة المديح الذي اكرهه، إلا إذا كان لشيء لا شك في عظمته، هو هنا يحرض الممدوح على قمع شعبه وتفجير الدماء! ثم بعد ان تقع المصائب، يأتي ليلومه على ظلمه الذي كان هو الذي حرضه عليه. أهذا شعر، أم جريمة تحريض على قتل وترويع؟ حتى إذا كان الحاكم يريد أن يجنح للسلم، يدفعه: فبالإرهاب فليكن الرقي! تلك أول مرة اسمع بكلمة الإرهاب تستعمل في هكذا سياق، ماذا جرى لعقله؟ أهذا هو الشاعر الذي قبلت رأسه وهو يقرأ لي قصيدته" الرجعيون"؟ لم اصدق! كنت أتوقع أنه سينساق مع نوري السعيد في صفقة ما، لا تليق بشاعر، لكنني لم اكن أتصور انه سينحدر إلى هذا الدرك. أهو الجواهري صديقي الذي كنت أتسامر وإياه على كأس وغناء وهوى في ملهى أو بيت للمتعة؟ كانت صدمة لي. بدا لي صغيراُ منكمشاً حتى كرهت نفسي لعلاقتي به. لماذا نلوم الجهنمي ونضحك عليه؟ الجهنمي صريح ونقي وواضح! ولا ينشد سلطة. قررت أن لا ألقاه، وإذا لقيته لا أحييه!

ويتدخل الجهنمي:

ـ هو ليس بشاعر، أنت خدعت بقصيدة" الرجعيون". هي قصيدة تقليدية مباشرة، كل حسنتها أنها تصدت لطغمة دينية طائفية. هو لا يجيد سوى النظم فقط, هو مستعد ان ينظم أو يلظم سبحة من الجماجم ويجلس يتسلى بعدها، تالياً آيات الرحمة على أصحابها الشهداء! عملت معه في جريدته السعيدية. رغم مناكفاتنا القديمة، كنت أرى إن دعم الإنجليز واجب وطني. وإن كانت للجواهري مأثرة فهي في ما كتبه من مقالات باسم مستعار أو دون توقيع في مدح الإنجليز، والدعوة للتحالف والعمل معهم. وإسناد نوري السعيد رجل حضارة البلد حقاً. الجواهري أنه ما أن تنزل الفلوس في جيبه حتى تتفجر كل شهواته ونزواته. صرف مالية الجريدة في أسابيع معدودة، وذهب صاحب المطبعة، وبائع الورق إلى نوري السعيد؛ يريدون فلوسهم، فهم يعرفون مع الناس إنها جريدة نوري السعيد. كان الجواهري يردد بيننا في حجرات الجريدة بالحيدر خانة. شاتماً الباشا: هذا شلون رزيل، بخيل غدار، ورطني بمبلغ لا يكفي سوى لكم عدد. ثم قطع الدعم. زين منين أجيب فلوس حتى تستمر الجريدة وتمر المعاهدة!ويعترضه العطار:

ـ اختلفت معه يا جهنمي بسبب الفلوس لا المبادئ! قلت لي: الجواهري تقربز عليُ ولم يعطني أجوري لفترة بحجة إفلاسه المفاجئ!

رد الجهنمي بضحكة مجلجلة: أنت دائما تتصورني دون مبادئ، في حين إن أعظم مبدأ في الدنيا هو المبدأ الذي يعلن في حينه، فرصة تصنع مبدأً، أفضل من مبدأ لا يصنع أية فرصة! أصدر الجواهري من جريدته عشرين عدداً. لم يستمر الباشا بمد جريدته لا بالمال ولا بالحماية الحكومية، لا إعلانات من الوزارات ولا اشتراكات ولا بطيخ مبسمر! نكث الباشا بالجواهري، فمشروعه السياسي قد مر، ولم يعد بحاجة للشاعر. فاضطر الجواهري إلى إغلاقها ضارباً عصفورين بحجر واحد كتب: مقالاً عنيفا ضد عدوه القديم والأبدي ساطع الحٍصّري، فأغلقت بقرار قضائي. أعلن إفلاس الجريدة، وتجميد أو إلغاء ديونه لتجار الورق وصاحب المطبعة وللمحررين. حين لقيته لم أستطع أن لا أحييه، بل عانقته! لا يمكنني إنهاء صداقتي معه. ربما كنت اشعر بالذنب اتجاهه، لأني أنا الذي دعوته إلى الحانة التي نزع من أجلها عمامته إلى الأبد. وطلق النجف، وحوزتها الدينية، وغرق بليالي بغداد الناعمة منها والقاسية. أكنت أنا شيطان غوايته؟ أم لديه شيطان آخر؟ لا أدري. بقيت كنوع من التكفير عن الذنب أشاركه همومه وقضاياه الكثيرة. لكنه أتعبني! ما أن يخرج من قضية حتى يدخل أخرى! لم يف الباشا معه بعهده مرة أخرى! ولم يمنحه مقعد نائب في البرلمان، لا في الدورة الموعودة، ولا في التي بعدها! شعر بطعنة الباشا عميقة الغور في نفسه، جارفة ترسبات وعقابيل الماضي السحيق كله، بكل جراحات طوائفه وأعراقه لتضغط على قلبه وعقله. قرر ان ينتقم. ماذا لديه غير الهجاء؟ نظم قصائد في هجاءه لاحسا كل مدائحه السابقة له. دخل معه في مناكفات طويلة. كان معتركاً شائكاً، فيه الطرف الآخر أقوى من بكثير. فدفع أثماناً باهظة من حياته وعيش عائلته. كان خلافي اليومي معه حول مساره الخطير هذا. أقول له: أنت تهين وتذل الشاعر الذي تقول إنه يملأ إهابك. اصح! تيقظ وانتشل نفسك قبل فوات الأوان، المبدع الحقيقي أعظم من نائب ووزير وملك! أحيانا يبكي بينما يعب كؤوس العرق. ويحرق علب السجائر، ويقسم أن لا يعود للعبة السلطة والسياسة، ثم يعود ويعود وبشكل اكثر ابتذالاً. ويأتيني ثانية ليشكو نفسه ويتألم لابتلائه بلوثة المديح والهجاء والعنف! ورغم الوقت الطويل الذي استغرقه معه في نصحه؛ ليكف عن ذلك ويتجه بطاقته الفنية والشعرية إلى مواضيع الشعر الحقيقي:

ـ أنت شاعر، يهمك الجمال والتناسق الإنساني، لا ضير أن تكتب عن الثورة والتمرد ولكن بعمق النفس البشرية إذ تحاصرها الحقائق والآلام العميقة. لا الانفعالات الطائشة!

كان يتعهد لي بأنه سيأخذ بكلامي، لكنه كالمدمن لا يستطيع الخلاص من كأسه أو سيجارته!

استمر صراعه مع نفسه ومع رجال السلطة الذين كانوا أقوى منه فيطيحون به دائماً. وكان عذرهم في كل ذلك: هو شاعر، ما الذي أتى به بيننا نحن السياسيين؟ رافقته في معظم تفجراته وثورات النفسية العنيفة. تواصلت صداقتنا سنوات طويلة وحتى مماتي. كنت في أعماقي اشعر إنني وصلت إلى نقائه الطفولي الداخلي المؤود؛ فأحببته دون عطف أو رثاء. أما هو فلا أدري حتى الآن إن كان قد أحبني أم كرهني. أنا أرى الشاعر المستغرق بذاته وطموحه الوهمي ونزواته لا يصطفي صديقاً، ولا يصطفيه صديق، ولكن المجاملة وقواعد اللياقة ظلت سائدة بيننا. بقيت مشاكله مع نفسه والآخرين في تصاعد. كنت اقف معه. فأقول إنه مظلوم، رغم إنني في قرارة نفسي أعرف إنه كان في كثير من الأحيان ظالماً لنفسه وللآخرين. كانت مشاكله تتلاحق: مع أمين الريحاني، روفائيل بطي، إبراهيم حلمي العمر، مزاحم الباججي، ياسين الهاشمي. ثم مع القطبين الكبيرين الباشا والوصي، ولا أدري ما الذي يدفع شاعراً موهوباً لجعل كل هؤلاء الأقوياء خصوماً له؟ ألا يتعبه ذلك؟ ألا يعيق موهبته النادرة عن التفتح؟ ألا يشوه شعره؟ أما مشاكله مع باعة الورق والأحبار وأصحاب الجرائد. ومع زملائه الصحفيين. وبائع الرقي والفجل والحلاق، والقصاب، فكنا نحلها ونحن نمشي في طريقنا إلى المقهى أو الحانة! اتخذت صداقتي معه طريقاً يتعرج بين المحبة القلقة، والورطة التي لا مهرب منها.، ولهذه حكايات طويلة سأحدثك بها لو أمهلني الموت ولم ينه إجازتي خارج القبر! ظل شعر أحمد الصافي النجفي ينعش روحي، فهو يكتب قصائده القصيرة المتألقة: عن أشياء صغيرة منسية ومهجورة : استكان الشاي المطيب بالهال. سيجارته التي لسعت روحه قبل أن تلسع أصابعه، زهرة كما الروح تبتسم على شاهدة قبر. رسالة كتبها وطواها خجلاً من إيصالها لفتاة أحبها. غيمة أو نجمة تهمس له في ليل أرقه. حتى عن سجنه، يتحدث بحميمة آسية: " لئن أسجن، فما الأقفاص إلا لليث الغاب أو للعندليب! ألا يا بلبلاً سجنوك ظلماً فحن لعزفه الغصن الرطيب! وأقول لقد خسرته بغداد؛ لتأخذ الجواهري فيدحرج فوق رؤوس الناس فيها صخور مدائحه وهجائه. كانت قائمة فرائسه طويلة: ملوك وسلاطين وأثرياء وضباط وأصحاب جاه وقلم لا يحصون ولا يعدون. كانوا يتناسلون في رأسه أكثر من تناسلهم في مخادع نومهم! وحين يفرغ يلتفت إلى سورات الدماء، إذا كانت متفجرة زادها فيضاناً، وإن هدأت نكأها لتسيل وتلطخ الطرقات والثياب. وإذا لم يجد فرصة للوقيعة وسيل الدماء يروح يؤلب الغيوم على الناس: أطبق دجى أطبق سحاب أطبق جهاماً يا ضباب. لماذا؟ هذا ليس إيقاظ أحاسيس! هذا حقد على الناس مستحكم في النفس لا يبرره الظلم الخارجي. انبري الجهنمي للقول:

ـ هو استعمل موهبته الشعرية في أسوأ مضمار. لم يركن للتفكير والتأمل والنزول إلى أعماق الأشياء، ظل يركض على سطحها تستلبه الملذات والمظاهر وتصفيق الناس وتطلعهم إليه! إنه أحد الذين أهانوا الشاعر وأذلوه وأبعدوه عن مهمته العظيمة: البحث تحت سطح الحياة عن جوهرها المضيء لها أكثر فأكثر! عقب العطار: نعم لم تعرف نفسه هدوءً ولا سلاما ولا قدرة على الحب والتعاطف. وهذا جعلني أتألم من أجله حتى بعد أن تباعدت السبل بيننا! كنت أوهم نفسي في قراءة شعره لأكون قريباً منه، لأني أراه روحاً قلقة معذبة مسحوقة، مرة بطموحاته ومرة بطموحات الآخرين! لكنني أعود لأكتشف مدى التخريب الذي يحدثه في أرواح الناس فأعود لنصحه: ابتعد عن الهجاء والمديح والتحريض على العنف! اتجه إلى الحب والجمال والأمل العميق! تحدث في الثورة والتمرد ولكن بعمق وهدوء، فهذا أخطر ميدان، قد تدمر فيه الناس من حيث أردت خيرهم. ولكن هيهات! لم يستطع التحول عن هوسه الشعري السطحي المرعب. يمكن لأسد بابل أن ينطق بقصيدة حب وأمل، والجواهري لا يستطيع سوى المديح والهجاء والتحريض على الدماء، كل ذلك بحجة الثورة الحمراء! سألته: لماذا لا تكون ثورتك بيضاء؟ قال هل رأيت يوماً ناراً بيضاء؟ هل رأيت يوما دماً ابيض؟ الثورة نار يرفدها الدم بزيته، من أين أأتي لك بلون آخر؟ كم كان قادراً على تبرير دمويته. وأقول للعطار: ولكنك أنت أيضاً كرست الكثير من نصوصك لقضايا في السياسة والصراعات وكره الدولة، ومناطحتها برؤوس الشباب. لماذا تلوم الجواهري؟ رد بهدوء: هذا صحيح، لكنني لم أحرض الناس على العنف دون تبصر بالعواقب. ولم اشحن قلوب الناس بنزعة التمرد دون بديل أفضل. ولم أتعجل الموت إذا كانت ثمة فرصة لحل الأمور بالكلمة الطيبة والمسعى الهادئ. كنت متريثاً. أنت تعرف، انسقت مع فهد في مشروعه الشيوعي وصرت رفيقه في القيادة؛ لكنني تراجعت عندما اكتشفت إننا سنفجر الكثير من الدماء دون ان يحصد الناس سنبلة واحدة. ثم إن طبيعة النثر ومهماته غير مهمة الشعر، النثر على الأغلب يعبر عن الهموم المباشرة والواضحة وفي الهواء الطلق، الساحات والحقول والشوارع، بينما الشعر يهتم بالأشجان الغامضة العميقة والمعقدة في زوايا القلب وظلال الروح وطبقاتها العميقة، حتى حين تكون تائهة في الساحات والشوارع! الجواهري زج الشعر في غير مهمته، وأنا حاولت البقاء مع النثر في مهمته. بالطبع هذا ليس كل الفرق بيننا، هناك أشياء أخرى كثيرة بعضها لصالحه، وبعضها لصالحي. لا أدري مدى صحة رأي أو تبرير العطار، لكنني تجاوزته ونحن في عجالة الفكاك من الموت. مضى العطار يروي: على عكس كثيرين نفروا من الجواهري وناصبوه العداء، فهجوه بقصائد بذيئة جارحة قاسية، بقيت أكن له الود والاحترام وحتى إنني أحيانا أدافع عنه وأنا أعرف إن موقفه ضعيف ومتهافت. كنت أشعر يبكي حين يقف أمام مرآة نفسه. فيكون ذلك الطفل الذي لم يستطع أن يحياه في أوانه، ولم يجده لدى من مدحهم وبجلهم بكلام كثير لا يؤمن به. وكان في لحظات تجليه خاصة حين يجلس في البار وأمامه كأس مترعة، وعلب سجائر، يتهدج صوته ويتقطع ويختنق ويغدو؛ صدى متردداً وجلاً. دائما تلاحقني صورة صوته " رعد تائه في جوف الليل تردد أصداءه جبال بعيدة"! هو جزء من كنه الطبيعة التي لم تستطع أن تكون أفضل، فتحتفظ بجمالها وتتفادى الموت. كان يريد محبة الناس، يتمنى لو يبعد عنهم الشقاء والموت، فيقسوا عليهم معتقداً إنه يصلحهم، فيجرهم دون وعي منه لدوامة الدم والموت. صرت أكثر رفضا لشعره كلما تعمق فهمي لطبيعة وحقيقة الشعر، إذ يبدو الشعر لأول وهلة مجافياً للعقل، لكنه في النهاية من اكثر الإبداعات تطابقاً مع العقل، ومدعاة لأن يفتخر العقل به. لكن الجواهري كان في شعره ومواقفه يبتعد عن العقل كثيراً، وينساق لجيشان عواطفه اللاهبة فيصير حاداً نزقاً لا يعرف السكينة. فيأتي شعره لا مع العاطفة ولا مع العقل السوي. بعضهم كان يجد له العذر، مانحين الشاعر كالنبي كل عذر وكل مبرر. ولكنني أراه في النهاية بعد كل هذه الرحلة المتعبة لا يقدم لنا سوى شعرٍ خطرٍ مدمرٍ، يعتمد على رصف الكلمات المهجورة والرنين الصاخب!

وصلتني رسالة من أحمد الصافي النجفي، يقول إنه: نزل في حجرة بسيطة قرب سوق الحميدية في دمشق، يغادرها بين فترة وأخرى في حجة قصيرة إلى بيروت. أرسلت له مكتوباً مع صديق مسافر إلى بيروت (كنت أعرف ان النجفي لا يعترف ولا يقر بالرسائل التي يحملها موزع البريد. هو لا يؤمن إلا برسالة يحملها شخص يقول إنه يحمل شيئاً من رائحة المرسل) قال لي هذا الصديق حين عاد: أنت تعرف كم النجفي أبياً معتز بنفسه، يعيش بلطف وهناء رغم فقره، وقد حل مسألة سكنه بطريقة عجيبة. فقد هيأت له الأقدار سيدة لبنانية أراد أن يؤجر لديها حجرة على سطح بيتها. رأت قطرات من عرق يده تسقط على زهرة لديها في أصيص على الجدار. بعد أيام راحت الزهرة تنمو بقوة وتتفتح متضوعة. قدرت أن في عرقه مواد مقوية لزهورها. منحته السكن مجاناً في الحجرة مقابل أن يسقي زهورها ويجود على كل زهرة بقطرة من عرقه. صارت زهورها أفضل من زهور الجيران، حتى عريشة العنب أعطت الكثير من العنب وصنعت منه خمراً. قال لي هذا الصديق السر في ذلك، أن الصافي لا يغتسل سوى مرة واحدة في السنة، فكان عرقه يحمل أملاحاً جيدة للزهور، وبنفس الوقت إيجاراً لحجرته. مثلما دمه يمنح قصائد رائعة. حين زارني في الفندق كنت في الحمام، عندما خرجت سألني كم مرة تستحم في السنة؟ قلت له ضاحكاً: مرة في الشهر! قال: شنو أنت بطة؟ كان إنساناً بسيطاً متقشفاً. وشاعراً صادقاً! لم يتزوج، عاش وحيداً، فقيراً لم يتقرب من ملك أو حاكم. ولم يتاجر بشعره، ولم يسخره لخدمة سلطة أو للتحريض على العنف. ظلت قصائده تتقافز كالفراشات بين زهرة في شق جدار. امرأة مهجورة تحجرت عيناها لطول انتظار. قطة تموء في النافذة، وفأرة تضحك عليها تحت صندوق خشبي مفكك فيه قطعة جبن. طير يعبر سماء الليل، وريشه يتساقط أسرع من الضوء. ‍وفاء صديق لصديق غدر به. جمال وقبح امرأة ألقت بها الظروف إلى العهر! ظل يهوم في سماء بيروت روحاً سمراء داكنة تواقة لبياض ثلوج الجبال، وزبد البحر. حتى رمته رصاصة قناص في الحرب الأهلية التي فككت بيروت كعقد لؤلؤ على صدر امرأة تغتصب من أقاربها. سقط الشاعر الحزين جريحاً لكنه لم يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا في بغداد. أتى لمدينة غادرها مرغما بباقة من أنفاسه الأخيرة مع صندوق من دواوين شعر جميل منشور وغير منشور. ما وقفت أمام النجفي إلا وتذكرت الجواهري. هما نشئا في مدينة واحدة، ولكن كم من السنوات الضوئية تفصل بينهما؟ كم هي النجف رحيبة بعمق الكون، كم هي ضيقة بمساحة ورقة عليها قصيدة هجاء أو مديح، أو فتوى دينية؟ حتى اليوم ما أن يذكر اسم احمد الصافي النجفي إلا وأنهض إجلالاً! واصل الجواهري هجاءه لنوري السعيد وحكومته، سرعان ما تحولت قصائد الهجاء في عقول الناس سيئة الهضم إلى قصائد وطنية. ثم في أذهان آخرين إلى قصائد شيوعية، قصائد طويلة تحرض وتفتن وتزرع الألغام تحت أسس الدولة الناشئة. وتحول الكلمات إلى دماء! وها أنت ترى هذا البيدر من جماجم الشيوعيين! تلال جماجم خرجت من رحم قصائد شاعر مهووس بسرعة البرق، أسرع من الوقت الذي استغرقته أمهاتهم في إخراجهم من أرحامهن! يا صديقي ها أنت ترى بيادر حصاد الجماجم أعلى من بيادر الحنطة والتمر. بيادر هائلة يطوف حولها الشيوعيون راقصين مغنين متفاخرين! ما تزال الناس تقول حساب البيدر غير حساب الحقل، ولكنني سأقول لك هنا وفي لقائنا هذا: حصاد البيدر غير حساب الناس. وغير حساب التاريخ! فقد انتهى الحال لأسوء كثيراً مما كان. ماذا استفاد الناس من هذه البيادر الهائلة من جماجم الشهداء؟ لا شيء طبعاً! لقد ذهبت هذه الأرواح الطيبة هباءً، وكل دموع الأمهات ضاعت على الأرصفة، وبين الصخور!

تلك قضية أرقتني كثيراً في حياتي، فكتبت مقالاً،بعنوان "شاعر لا يكتب قصيدة حب، سيكتب قصيدة أخرى بالجماجم" نشره لي روفائيل بطي محتفياً به بإطار من الزهور، وقد ظل هذا العنوان يتردد معي في جنبات قبري كصدى بعيد! يخرج الجهنمي عن صمته. رغم إنه يتحدث عن المبادئ التي تعلن في حينها لكنه في ملاحقته لكبوات الجواهري، يرى إنه كان على الجواهري أن يعلن عن مبادئه كلها بين يدي القابلة التي رأى بين يديها نور الحياة لأول مرة!

ـ لو عرف الباشا كيف يداري الجواهري ومنحه مقعداً في البرلمان، أو منصب وزير، لصار أقوى بوق للسلطة على مر العهود، ولجاءت قصائده شتائم للشيوعيين!

قال العطار: ربما كان ذلك افضل لهم، يقلل عدد شهدائهم!

ظل فيصل الأول يرعى الجواهري حتى بعد ان خرج من بلاطه، وأغلقت جريدته. أمر وزير المعارف عبد المهدي لتجاوز قضية الشهادة وتعيينه مدرساً في الثانوية بالضد من إرادة الحٍصّري. ولكن الجواهري نسى هذا وكل الرعاية التي لقيها في البلاط فشمل بحقده الملك فيصل. وقد سنحت فرصة. جاء الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود في زيارة إلى العراق، فذهب إليه بقصيدة طويلة يمدحه، متجاهلاً إنه كان قد هجا الملك السعودي قبل اشهر. نشرت القصيدة في جريدة أم القرى السعودية الرسمية. ما كان مديحه للسعوديين ليغضب الملك، لكنه كيف لا يستثار وهو يقرأ:

على حين اصطلى جيران نجد بجمر لظى وسم الأفعوان!

أرادته اضطرارا لا اختياراً وليس لها بدفعته يدان

يقول من رأى الملك وهو يقرا القصيدة: إنه ألقاها جانباً دون أن يكملها متسائلاً: أكنت أفعواناً؟ هل لدغته يوماً، أم هو الذي كان يلدغني؟ ينفث بوجهي السم وامنحه العسل، أي حقد قديم يعتمل في عروقه؟ هل العراقيون أردوني اضطراراً وهم الذين بايعوني واستفتوا علي؟ ما هذا التجني؟ اقترح أحد المستشارين على الملك ان يسجن الجواهري فهو يشتم حكام بلده، ويحرض جيرانهم عليهم. "وليس لها بدفعته يدان" . لكن الملك فيصل رفض. لم يجد وزير المعارف عبد المهدي مهرباً من إيقاع عقوبة خفيفة عليه احترماً للملك: أمر بنقله من ثانوية المأمونية في بغداد إلى ثانوية في البصرة! وعاد مرة أخرى يتحدث عن مظلومية أتباع أهل البيت! قلت له:

ـ ولكن من اصدر أمر نقلك هو وزير شيعي!

ـ أنه وزير إمعة! خرج على فتوى المرجعية وعمل مع الحكام!

ـ وأنت ألم تعمل معهم؟

ـ لا أنا صاحب رأي وموقف مخالف دائماً!

كان دائما يبيح لنفسه مالا يبيحه لغيره! لم يكن من السهل مناقشته أو الإمساك بموقف له، كلماته كحبات الزئبق لا تمسك. ومع ذلك نظم فيما بعد عدة قصائد حاول فيها استرضاء الملك فيصل. ولكن عبثاً! أراد مرة ان يدخل البلاط فرده موظفو التشريفات، زملاؤه القدامى، على أعقابه. كان من الواضح أن الملك لا يريد ان يرى وجهه ثانية.

في تلك الأيام أخذ يبتعد عني وعن الزهاوي، ويوثق علاقته بالرصافي. جمعهما حقدهما على فيصل. نصحته بالهدوء والصمت عن أي مدح أو هجاء: لا تسئ لرجل رعاك كثيراً، ولم يسيء لك. عاد يقول: إنه مزاحم الباججي! هذا الطويل الماكر الفتان هو الذي أوغر صدر الملك ضدي! تلك لازمته عمن كان صديقه. قضيا معاً أوقاتاً طيبة. كان يقول إن الباججي أقرب الساسة للأدب، إنه صديقي ثم يأتي في يوم آخر ليقول عنه: رجل غبي سمج مهذار أبعد الساسة عن الأدباء والمثقفين. قلت له بل أنت من يوغر صدور الناس ضدك. صدقني إذا قلت لك، لا يوجد عدو للجواهري سوى الجوهري نفسه. ظل يحلم أن يستدعيه الملك يوماً، لكنه هذا لم يحدث. وها هو يلقي الملك للمرة الأخيرة جنازة، يمضي إلى مثواه الأخير!

(124) ينذر نفسه للكشف عما تحت اللحى الراقصة في الظلام!

تمدد العطار على الأريكة القديفة الحمراء، كان قد عاد للشراب والتدخين حين صار حديثه يمس مواجعَ في نفسه. ألم أقل لك إن حكايتي تتوالد الواحدة من الأخرى. وقبري ضبع جائع يصرخ طالباً عودتي إليه. أو كما قال أحد الفلاسفة: لا يمنحني الوقت الكافي لأختصر، لذا أعذرني إذا أطلت. كان العطار في أيامنا القديمة دائم الشكوى من افتقاد العقلانية في حياتنا السياسية، والثقافية. كان آنذاك يقول:

ـ ما زلنا نحمل في رؤوسنا بدلاً من الأفكار قراد إسطبلات العثمانيين. نطلقها في بيوتنا وفي دوائر الحكومة، والبرلمان والمقاهي، وحتى نوادي الإنجليز!

كان ميالاً لاحتساب الأمور بحسه الشعري والخيالي، مخالفاً اختصاصه في الرياضيات أيضاً لكنه بنفس الوقت كان حريصاً على صياغة تعابيره بدقة علمية حين يقارع شخصاً أو فكرة! اليوم وبعد نهوضه من الموت صار حديثه مزيجاً من هذا وذاك، أرقاماً وحروفاً.شجناً وفرحاً، تفاؤلاً وتشاؤماً، صحواً وغيبوبة.واصل حديثه هادئاً رخياً،وجو بيت الأنس قد هجع أهله بعد أن انصرف رواده من طلاب المتعة واللهو:

ـ تفجر حلمي القديم ان أتعرف على وطني كله: أرضه، مياهه، بساتينه، وناسه، وحيواناته وأسماكه. اختزن تجارب أكتب عنها،أو أغذي بها وجداني لأيام العمر القاحلة المقبلة. انتقلت للعمل مدرساً في البصرة. سألني معارفي: ألم يكن المفروض ان تنتقل من بغداد إلى الموصل مسقط رأسك؟ قال أحدهم ممازحاً، أن البصرة صارت مسقط قلبك، ربما عشقت واحدة من نسائها، فهن يمتزن بسمرة خمرية ودفء ورقة. قلت وهل خلت الموصل وبغداد من نساء جميلات؟ لو إنني في البصرة لم أفعل شيئاً سوى تعرفي على صديقي أحمد الأنصاري لكان ذلك كافياً! رافقني رحلة عمري كلها، وحين مت في فينا تخيلت إنه هو من سيأتي ليحمل نعشي إلى المقبرة الأوربية الباردة! كان الأنصاري إنساناً رائعاً. ملأ الفراغ الذي اكتنفني بوحشته بعد ابتعادي عن البستاني وحسين جميل وعزيز شريف. بعد أن غرق الجواهري في همومه مع نوري السعيد، وهوسه في أن يكون نائباً في البرلمان، قد ابتعد عني، لا يأتيني إلا إذا أراد ان يبثني شكواه، فأسري عنه وأهدئه. نقضي معاً ليلة شراب، فينسى همومه، وأكرر نصحه فيعدني خيراً، ثم يعاود في اليوم التالي سيرته الأولى. صرت كلما أقبل عليُ أقول في نفسي: "فالج لا تعالج!" فرحت اقتصر في الحديث معه على ما تقتضيه المجاملة واللياقة. رحت أنشد الخلاص منه ومن همومه التي لا تنتهي. لكن الغريب ان الجواهري أسدى عليُ فضلاً دون ان يدري. فكما عرفني الصافي النجفي عليه, عرفني هو على أحمد الأنصاري. كنا يوماً مجموعة من المدرسين والمعلمين والأشخاص الآخرين مدعوين في بيت موظف كبير في الميناء. حين عرفت أن الأنصاري من النجف اقتربت منه وقلت له: لا شك أنت تعرف الشاعر الجواهري؟ ابتسم قائلاً، وكيف لا أعرفه، إنه من أقراني وزميلي في المدرسة الدينية. تواصل حديثنا وتواعدنا على لقاء. تكررت لقاءاتنا ونمت صداقتنا. كان يكتنز معرفة واسعة عن بيئته ومجتمعه. من خلاله عرفت أهل الوسط والجنوب. أحببتهم وتعاطفت معهم في معاناتهم وتطلعاتهم. وبأحاديثه الجريئة الصريحة وقفت على حقيقة صراع الطوائف، وتلقيت نذراً جديدة بما تحمله من شرور وأخطار. خرجت بشكل ما من قوقعة صراع الأفكار الحديثة في بغداد، إلى ما تتصارع به أفكار وتقاليد قديمة في وجدان الناس وعقولهم منذ مئات السنين، تحسم مصائرهم وتصنع مآسيهم! توثقت صداقتنا بسرعة. صرنا نتجول في حواري البصرة العتيقة. نتمشي بمحاذاة نهر العشار، نرافقه في سيره الهادئ الحالم حتى إشراقة ثغره ليرضع من شط العرب، وقد التمت عليه بيوت قديمة وحديثة، كبيرة وصغيرة، قطعاناً من كائنات أسطورية ترتوي منه وتدخل معه في حلمه الطويل المفضي إلى البحر وأبواب العالم؛ تظل قانعة بشواطئه الخضراء، تأكل من سمكه وتمره، وتستأنس بغناء ملاحيه، تعانق بقوة من يحبها، وتنسى بسرعة من يكرهها. نروح نتأمل من بعيد شناشيلها وشرفاتها وانعكاسات شمس الغروب على زجاجها الملون، وزخارف شبابيكها الخشبية الرقيقة. كنت أراها مظفورة بالأشجان والرؤى الغامضة الواعدة والمنذرة. تدعوني إلى مزيد من التجوال بينها. الأنصاري شاب تجاوز الثلاثين بسنوات. أسمر، ممشوق القوام، برأس كبير وشعر خشن، وعينين واسعتين ذكيتين، أنيق دون تكلف أو إسراف، رصين هادئً متأنٍ بكلامه. لكنه يحتد إذا قاطعه أحد في حديثه بما يعتقد أنه كلمة حق. دائم الابتسام؛ مع أن وجهه حزين ساهم في الأفق. يظل نابها يقظاً حتى ليسمع ويتلفت لخفقة طير! كان يجاريني في المشي الطويل على امتداد النهر رغم آلام يعانيها في مفاصله. نروح نجوس بين روافده الكثيرة. كان يقول: في مدينتي القديمة النجف كنت في سجن، هنا في رحاب البصرة، أطلق سراحي وأحسست بالحياة! نظل نتجول لساعات، حتى نكل ويصير التعب لهاثاً، فتعرج على حانة قديمة في البصرة. أو نجد واسطة نقل تأخذنا إلى المعقل حيث نادي الميناء. كان يقع في حي جميل أقامه الإنجليز وفق نظامهم العمراني. بيوت أنيقة لطيفة أمامها حدائق منسقة مزدانة بالخضرة الكثيفة. طرقات وشوارع واسعة تظللها صفوف من الأشجار المتصافحة مع بعضها بأقواس من الغصون والزهر، تهب خللها نسائم رائقة ندية عذبة. نجلس في زاوية قصية منه نحتسي كؤوسنا ونتحدث في الشعر والقصة، والدين والسياسة. كان لديه خزين من الحكايات الجميلة وقصائد الشعر القديم والجديد، حفظه ودرسه على أيدي فقهاء في مدارس النجف الدينية. كانت مفاجأة لي أن أعرف إنه ابن أحد مراجع المذهب الجعفري الكبار المعروفين في النجف. مع كأسه الأول ينبري في إنشاد شعر صوفي يتهدج له صوته وتغرورق عيناه بالدموع، ثم لكي يكسر الجو كما يقول، يروي نكاتاً معظمها بذيئة، أبطالها عادة رجال دين ناسباً لهم شعراً جنسياً إباحياً قائلاً:

ـ أنها خلجاتهم السرية الصادقة، يطمسونها خلف عمائمهم وعباءاتهم السود، ولحاهم الراقصة مع الكلمات المجاملة أو المنافقة، خشية على مواقعهم وأرزاقهم!

حذف لقبه الأنصاري من اسمه كرهاً بالألقاب، لكن الناس أصرت على إلصاقه باسمه إصرارها على النهوض له وتحيته عند قدومه، كان يقول:

ـ بعضهم يحييني لأني أبن مرجع ديني، وبعضهم يحييني هنا لأني رفيق كاس وأنس، وكما ترى فأنا أغرف من اليمين واليسار!

حل في البصرة أوائل الثلاثينيات، لاجئاً عند أخواله في العشار. هارباً من جحيم روحي تأجج في أحشائه، وحاصره في النجف:

ـ مدينة في حالة حداد دائم؛ تطبق عليُ. غبار كثيف كان يأتي من جهة القبور ويثقل على صدري. خلافات حادة مع أبي تتلف أيامي وتسحقني. مذ وعيت الدنيا كنت في نزاع معه حول كل شيء تقريباً: تعامله مع أمي، وأفراد عائلتي، وأتباعه ممن يجمعون له الأموال. متشبثاً برأيه وشهواته، ومتسلحاً بفتاواه وآياته القرآنية، وأحاديث النبي وآل بيته، جاهزة تحت يديه دائماً.عادات وتقاليد بالية متعطنة كانت تحاصرني حيثما وليت وجهي. نهج الناس في الحياة والفكر والسياسة كانت يصيبني بالإحباط, لا أمل ولا أحلام. انكماشهم الممتد منذ قرون، تحفزهم الشرس ضد كل جديد؛ رغم انتفاضاتهم الصغيرة؛ جعلني اعتقد أنهم يريدون الحياة هكذا، وعبثاً محاولاتي إيقاظهم أو تنبيههم. خرجوا من ظلمات العثمانيين، ودخلوا العهد الإنجليزي ولم يتغير فيهم شيء. ثمة رجال كبار يقفون حراساً على الأبواب يصدون بعباءاتهم السود، النور عن المدينة. يقال أنها كانت قديماً خضراء جميلة زاهية! أضحت تحت جناحهم مجللة بالتراب والكآبة. مقبرة كبيرة، لا تدري من هو الحي فيها، ومن هو الميت، فالأحياء يهيمون منهمكين يجهزون أنفسهم لرحلة الموت وجنته الموعودة. والموتى من قبورهم يحركون الأحياء الذين لا يرون حياة إلا تحت ثراهم!

أدركت ان أحمد ما زال مهموماً متألماً، مشبعاً بالجانب الكئيب القاسي من مدينته، كنت أعرف شيئاً عن النجف من خلال قراءاتي عنها، لكنني لم أزرها. بقيت فقط أحلم أن أعمل فيها مدرساً، أو أمكث فيها فترة ولو قصيرة، قلت:

ـ النجف ليست مقبرة وحسب، في داخلها يمور حلم عظيم للجمال!

قال بهدوء:

ـ أعرف أنك تتصورني متحاملاً على مدينة لقيت فيها أذى وعذاب، نبذتني أو نبذتها. لا أبداً. جذوري لا تزال تمتد إليها، ونسغها يدور في عروقي. لكنني أتلمس حقيقتها حباً بها. من لا يعرف مدينته كما هي، يخونها. المدينة أم نحبها مهما لقينا منها. ثمة نهر رماد يخترق المدينة ولا يريد الكثيرون أن يروه. كل مواهب وقدرات الناس العظيمة في الشعر والفكر معرضة للانطفاء فيها، إذا لم تخرج إلى بغداد، أو العالم الخارجي لتلتحم بتيارات إنسانية أخرى!

صمت برهة ساهماً ثم عاد لحديثه بنبرة أكثر حزناً:

ـ اهتزت المدينة عند دخول الإنجليز، فهبوا عام 1920 بثورة ضدهم. كان عمري واحداً وعشرين عاماً. شاركت فيها دون وعي واضح، كنت عاطفياً مندفعاً مع الموجة الدينية والجماهيرية الهائجة والتي أضحت مسلحة حامية. اجترح فيها كثير من الناس مآثر وبطولات، كأي ثورة تجتذب الحالمين غير مدركين حقيقتها ونوايا قادتها! أنا اليوم أرى إنها كانت ثورة الإقطاعيين متحالفين مع رجال الدين من أجل مواقعهم. اقتراب الإنجليز منهم، وما تحدثوا به عن قوانين أردوا بها تحديد ملكية الأراضي، وفرض هيمنة الدولة المركزية على مناطقهم، وفتح المدارس لأبناء وبنات الفلاحين. جعلهم ينبرون لهم ويجهدون لإطفاء أي مصباح يبدد الظلام الدامس المحيط بأتباعهم سواء جاء به الإنجليز، أو غيرهم! ظلوا خاضعين للعثمانيين أربعمائة عام، رغم كرههم الطائفي الشديد لهم! لأن الأتراك رغم موبقاتهم الكثيرة تركوهم طلقاء يتحكمون بإقطاعياتهم الواسعة، وبرقاب فلاحيهم وأقنانهم كعبيد وكيفما شاءوا! الإنجليز جاءوا اليوم ليسقطوا من أيديهم سيوفهم الطليقة، وليردوهم مواطنين عاديين كالآخرين، فلجئوا إلى مراجعهم الدينين في النجف وكربلاء لإشعال ثورة أعطوها صفة القداسة والوطنية. بينما هي في حقيقتها مقاومة لاستحقاقات العدالة، ولرياح الحضارة والعلم والتغيير، مهما كان رأينا بالإنجليز وأطماعهم!

ـ لكن الثورة أجبرت الإنجليز على تكوين الدولة!

قال بحدة، مطلقاً ضحكة قصيرة ساخرة:

ـ هل كان الإنجليز سيحكمون البلاد دون آلة الدولة، لو لم تقم ثورة العشرين؟ لا أبداً! على العكس هذه الثورة جعلت الإنجليز يصوغون الدولة بخبث ودهاء أكثر. تركوا رجال الدين والإقطاعيين طلقاء يبنون الأسوار حول رعاياهم الفقراء الكادحين، يمتصون دماءهم، ويلعبون بعقولهم، فيصير كيانهم الطائفي ورماً محتقناً شديدة الحساسية، يخوفون به السنة، ويخوفونه بالسنة. وبدلاً من منح الكرد حقهم في دولتهم المستقلة، على ما يستحقونه من أرض؛ أبقوهم داخل دولة العراق، ليضغطوا بهم على العرب، ويضغطوا بالعرب عليهم، فينفذوا قانونهم فرق تسد على أكمل وجه! ثورة العشرين جعلت الإنجليز أكثر تحفزاً وشراسة، وما نزفوا فيها من دماء أضمروا أن يحصلوا على أضعافه من دماء العراقيين ونفطهم ومستقبلهم!

ـ أنت تغمط حق ثورة تغنى بها كل الشعراء.

أطلق ضحكة عميقة بنبرة حزن واضحة:

ـ هؤلاء شعراء عاطلون، وجدوا فجأة ما يقولونه. فراح أحدهم يخاف أن يسبقه الآخر بنظم الوطنية قصائد وهوسات. كانوا قبلها يتغنون بالمحتلين العثمانيين، يتهالكون ليكونوا نواباً ومبعوثين عندهم. اسألني أنا الذي شاركت في الثورة وشهدت مجادلات ومراسلات زعماؤها من رجال دين وإقطاعيين وتجار وأغنياء. ما هي مساحة الحرية في تفكير هؤلاء؟ صدقني لو كانت قد انتصرت وأقامت دولة الإقطاعيين المتحالفين مع رجال الدين، لما رأيت هذه الدولة الحديثة الناهضة الآن. كانوا قد أحالوا العراق كله إلى مدن مقدسة لا تبنى فيها مدرسة ولا جسر ولا سينما ولا يسمح بموسيقى أو فكر. يلهون الناس بالبكاء واللطم والتطبير وزواج المتعة، وهم ينهبون ثروات البلاد. من حسن حظ العراق ان هذه الثورة دحرت.

سكت برهة، أشعل سيجارته. نفث نفساً عميقا، وعيناه تدوران في أرجاء نادي المعقل حيث ينشر المساء دعة ناعمة:

ـ يا عزيزي هذه الثورة رد فعل متهور على فعل عقلاني أوربي وصفوه بالاستعماري. قال أحد الظرفاء: أنها ثورة العشرين (بضم العين)،وهي كذلك، فلو جمعت العشر، مع العشر يتكون لديك الخمس. هي ثورة أصحاب الخمس ضد من أراد حرمانهم منه!

أضحكني هذا التخريج، فقلت:

ـ لا حاجة لهذه المعادلة المعقدة، لا تنس ان العشرين خمس المائة!

ضحك هو أيضاً وقرع كأسه بكاسي قائلاً:

ـ يا لهذا الكأس كم فيه من تجليات!

اعتراه وجوم مفاجئ فقال :

ـ أفظع ظلم يقترفه الحكام السنة، هو تركهم أشقاءهم أبناء الشيعة فريسة هؤلاء المراجع الأسياد. كيف يسمحون لهم بجبي ضريبة الخمس منهم، كيف تكون في دولة واحدة سلطتان مختلفتان للضرائب؟ ضرائب المراجع تهرب لهم ولأبنائهم إلى الخارج، ولا يبنى منها ولو مدرسة، أو مستشفى صغير! قلت:

ـ كنت أتحدث مع مسؤول سني كبير في الحكومة حول اضطهاد أحد الإقطاعيين الشيعة للفلاحين، وانتهاكه لحرماتهم وأعراضهم. سألته كيف تسكتون عليه؟ قال بكل جبن وتخاذل: خلينا بحالنا، نحن بدون ذلك متهمون بظلم اتباع أهل البيت! لكن الحقيقة: هؤلاء الحكام يريدون الحفاظ على مواقعهم بتحالفهم مع إقطاعي الشيعة، وليذهب الشيعة الفقراء إلى مصيرهم، بحجة أنهم هم الذين اختاروه ورضوا به!

كنا نتذكر الجواهري في جلساتنا. يحدثني الأنصاري عن صباهما معاً فهما قد ولدا في نفس العام أو ربما الجواهري يسبقه بعام. "كلانا ولد في السنة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة من القرن التاسع عشر" . قال: أتعرف ان أول كأس من العرق شربته في حياتي كان مع الجواهري؟ ضحكت قلت: أنا أعرف ان أول كأس من العرق شربه الجواهري، كان معنا في حانة ببغداد. قال: لا. كان يشرب في مقبرة النجف سراً قبل أن يأتي إلى بغداد. قلت مستغرباً: في المقبرة؟ لم يحدثني الجواهري بذلك، كأنه سر خطير. قال وهو لا يزال يضحك: كانت قناني العرق والخمر تهرب من بغداد والبصرة وتباع في النجف سراً، وبأسعار أعلى طبعاً. كنا في الصيف أو الربيع نحمل قناني العرق والمزة والطعام يرافقنا عادة شبان عرفوا بأصواتهم الجميلة، فهم الذين يصدرون المواكب ينشدون قصائد المأتم الحسيني، والردات الحزينة. نجلس هناك جماعات متناثرة بين القبور، يغمرنا ضوء القمر، نتوسل الهواء أن يجود علينا بنسمة عذبة، نتطارح الحكايات والشعر أو نتبارى بقوافيه وأوزان. كان بعضنا ينسج حكايات حب وعشق لنفسه أو لغيره فيشد قلوبنا قبل أسماعنا. كنا نراوغ زماننا. جعلنا من المقبرة حانة سرية لنا. يقال أن مقبرتنا هي أكبر مقبرة في العالم حيث تردها الجنازات من أقصى الدنيا. لذا فقد رضعنا كؤوسنا الأولى في أكبر حانة في العالم. كان عزاؤنا إننا نؤنس الأموات معنا بعد إن صار الخمر بعد موتهم حلال عليهم، فهم من أهل الجنة بلا شك، وهل لميت يدفن في النجف لا يدخل الجنة؟ حتى لو ارتكب المعاصي كلها! كان خمرنا حلالاً علينا بواسطتهم وصحبتهم. هناك كان يقرأ علينا الجواهري شعره ومنه لمست ميله للحدة في السياسة، ولهجاء الأشخاص أو تبجيلهم بمبالغات هو نفسه كان يسخر منها فيما بعد. لمست ميله الفارسي والطائفي فحز في نفسي. قلت له عليك بقارب الحب والخمر. ما استقله شاعر واحسن قياده إلا ووصل إلى الجزر المسحورة للشعر. لكنه مضى في طريق آخر، تابعت صراعه مع الحٍصّري، وقلت في حينها إنه لم يكن على حق، وكان يغالط. تقطعت السبل بيننا الآن. لم أعد أطيق شعره ولا أقرأه! كان الأنصاري أيضا يحب شعر الصافي النجفي ويراه من القلائل الذين يدركون كنه الشعر الحقيقي في العراق، ويخشى ان يفقده وطنه. يقول: أتمنى أن لا يكون بسفره إلى الشام قد اختار المنفى يائساً من بلاده وأهله! كانت آراء الأنصاري تجذب انتباهي وتدهشني وتشدني إليه. صرت أحرص على أن يكون مجلسي معه كل يوم تقريباً، محاولين قدر الإمكان أن لا ندع أحداً يعكر صفو جلستنا وحواراتنا التي تتناول مواضيع حساسة، بل خطيرة بمقاييس ذلك الوقت!

(125) أخشى على صلاتك أن تضل طريقها!

حدثني الأنصاري أن خصامه مع أبيه بدأ حين وجد أن والدته ماتت كمداً وهي ما تزال شابة بسبب تصرفاته معها. ظل غاضباً عليه، فهو قد خذلها وتزوج عليها فتاة صغيرة لم تتجاوز الخامسة عشرة. أعقبها بأخرى كانت في الثلاثين، ولكنها جميلة فاتنة قادمة من إيران! كانت حجته أن الأسر التي تتخذه مرجعاً لها وتقلده في عباداتها وطقوسها هي التي تهدي له بناتها الجميلات، فكيف يردهم وقد أباح له شرع الدين قبول المرأة كهدية، والزواج بأربع،ومعاشرة ما ملكت أيمانه، وله في تعامل رسوله الله، وإمامه علي مع النساء، أسوة حسنة. ألم يكن الرسول يقبل المرأة التي تهدي نفسها له؟ كان الأب يكرر دوماً: لولا تعففي لتزوجت كل أسبوع من فتاة جميلة! ويتغير صوت الأنصاري ملامساً نبرة طفولته المعذبة:

ـ وكيف لا يتزوج والأمر لا يكلفه شيئاً، فهي تأتي هدية مطهرة، ومعها حمولة مؤنة ومال وحلي. ثمة قوافل رجال ونساء أغنياء من لبنان وسوريا إيران وباكستان وبلدان أخرى بعيدة ومشهورة بنسائها الجميلات، يأتون النجف للتبرك بمراقد الأئمة! يهدون أجمل بناتهم لرجال دين طمعاً بشفاعة ينالون بها الجنة. كانت تلقى في أحضان والدي بين فترة وأخرى حورية من السماء. وأمي مهجورة في حجرة بقعر البيت تجمعنا حولها نحن أطفالها لتبكي في أحضاننا، ونحن صامتون فزعون. والدي ورجال دين كهول وشباب من أعوانه وتلامذته لا يفوتون فرصة في التمتع حتى الثمالة بفتاة جميلة بعقود مكتوبة، أو شفاهية. تحول هزال جسد والدتي وشحوبها إلى مرض عضال واضح. ماتت شابة، كنت في الخامسة عشرة من عمري. تركت جرحاً غائراً في قلبي. عمق الهوة بين وبين أبي فظلت علاقتنا قلقة متوترة متفجرة، وقد صبرت عليه طويلاً . لم أعد أطق مناكفاتنا التي تخللتها مهاترات ومشادات مؤلمة. كان عمري ثلاثين عاماً تقريباً عندما افترقت عنه نهائياً. آثرت أن يتم ذلك بهدوء. جئت إلى البصرة. هنا أخوالي وأقارب أمي. لا يزال أحمد مشدوداً لطيفها لا يذكرها إلا ويتحشرج صوته، ويختنق بعبراته، وهو يرى أنها ما تزال ترعاه حتى وهي في قبرها، فحين قدم إلى البصرة وجد إنها قد أورثته أملاكاً آلت إليها عن أمها وأبيها! كانت والدته ابنة عائلة موسرة تسكن قصراً على العشار. تزوجها والده عندما جاء من النجف ليسهم في مجلس خاص في سرادقهم الكبير قارئاً ومتحدثاً على المنبر الحسيني. سحر عائلتها بلسانه الطلق الناعم. وصوته المؤثر، وهو يرتل وينشد قصائد عن مقتل الحسين ليفجر دموعهم وجيوبهم، وليحصل على فتاة جميلة من هذا البيت الكثير الثراء. مس روحها وعقلها بما أنشد على المنبر من قصائد المثل العليا، ومديح وهيام بالرجال المعصومين والمقدسين الكبار، فتعلقت به وجعلته مثلها الأعلى، وحلمها العظيم! كان البيت الذي ورثه أحمد، جميلاً بشناشيل وبستان صغير يطل على شط العرب. اقترح عليه بعض أخواله مزاولة التجارة معهم، لكنه رفض ذلك، وفضل عليها وظيفة معلم في مدرسة في البصرة، حصل عليها بمساعدتهم أيضا. تزوج من فتاة سنية مؤكداً كما يقول: " السنة والشيعة عائلة واحدة، فرق بينهم متصيدون منتفعون" . حرص أن تكون بمثل عمره، أوكل لها شئون العائلة كلها، متدخلاً أحياناً كما أخبرني في تربية ابنتيه وولده الصغار. أزمع منذ البدء تربيتهم وفق أسس مدنية. يتركهم لاختياراتهم وقناعتهم، ولا يلزمهم بصلاة أو صوم أو يضيق عليهم بلباس أو سلوك.(أريد أن أخلصهم من لعنة تقاليد تجرعناها نحن آلاماً وتخلفاً عن كل شيء، والمهم أن أركز في قلوبهم الاستقامة والصدق ومحبة الناس) منصرفاً في بقية وقته، لقراءاته الكثيرة المتنوعة وأكثر ما كان يشكو منه شحة الكتب الحديثة الجيدة والصحف الواردة للمدينة. فانكب على تعلم القراءة بالإنجليزية. ظل على رأيه بالدين كابتكار بشري، لكنه يؤمن به حاجة روحية كبرى للبشر. كان كما يقول، يصلي أحيانا(أنا اشتهي الصلاة كما أشتهي فاكهة أو أغنية أو كأساً أو قبلة حب) ويصلي بطريقة غريبة، فهو يضع يداً على صدره على طريقة السنة، ويسبل اليد الأخرى على طريقة الشيعة، ولا يستعمل قرص تربة الحسين ليضع جبهته عليه حين يسجد، ما يجعل زوجته الملتزمة بفروض الدين، تضحك منه قائلة:

ـ أخشى على صلاتك أن تظل طريقها، أو تسقط في الطريق، فهي بجناح واحد!

ويرد عليها ضاحكاً:

ـ أي جناح تقصدين؟ الأسود كعمامة سوداء؟ أو الأبيض كعمامة بيضاء؟

فترد ضاحكة:

ـ الله وحده يعرف!

صلاته المزاجية لا تمنعه من الشراب حتى في بيته. تتولى زوجته المتدينة إعداد مائدته، وتجلس بجانبه تنادمه،فيقول لها:

ـ أتصدقين لو قلت لك، كل كلمة طيبة تقوليها لي، وأنا أحتسي كأسي الحزين، هي صلاة ثانية لك؛ سيكافئك الله عليها بالجنة!

فتقول له ضاحكة:

ـ وماذا أعمل بالجنة إذا كنت أنت ستدخل النار بسبب هذا المنكر!

ويجيبها بلهجة واثقة:

ـ ولكن القرآن يقول إننا نبدل بغير أزواجنا في الجنة، وإذا كان يحق للرجل في الدنيا الزواج بأربعة نساء، ففي الجنة ستكون له مائتا امرأة أو ثلاثمائة، إي إذا كانت حصة المرأة في الدنيا ربع رجل، فستكون حصتها في الآخرة واحد على ثلاثمائة من الرجل! المرأة المسلمة هي الخاسرة دائماً في الدنيا والآخرة مهما تعبدت وصلت وصامت!

ـ ماذا تقول زوجتك حين تسمع هذا الكلام؟

يضحك قائلاً :

ـ تظل ساهمة، ثم تقول: أنت توشك أن تجعلني أترك الصلاة، وألتهم كأسك!

في الآونة الأخيرة صرنا نسهر معاً في حانة قديمة معتمة أسميناها "حانة الهجران". كان حريصاً على العودة إلى بيته دون أن يتأخر أو يثمل، أو يترنح في مشيته. كثيراً ما يكون على اتفاق مع صاحب قارب يتهادى به على مياه العشار الرائقة لينزله أمام باب بيته الذي كما يقول تغسل قدميه مياه نهر تتمازج فيه نكهات كل انهار العراق ومدنه العريقة!

كان يحدثني كيف إنه ينفق الكثير على شراء الكتب، يضحك قائلاً تصور لقلة الكتب أنا اشتري بعضها أكثر من مرة لمجرد تبديل غلاف التجليد وكعبه المذهب. يقضي نهاراته كل يوم يقرأ الكثير عن أصول المذاهب الإسلامية، وظروف نشأتها، حقيقتها وأهدافها، ومقاصد الفقهاء وعلاقاتهم بالحكام. مقارناً ما يتوصل إليه مع ما كان قد سمعه أو عرفه من والده ومن أصحابه ومن الكتب والرسائل التي كانت تملأ خزائن بيتهم ومكتبات الحوزة في النجف، قال:

ـ أنوي الاستقالة من وظيفتي وأكرس نفسي كلياً لتحليل وحل المسألة الطائفية في العراق. أنا أراها القضية الأولى، وستكون محور ومصدر كل مصائبنا في المستقبل!

ندت عني ضحكة عفوية، أحسستها أشبه بحسرة عميقة:

ـ فهمت أنك ستحلل هذه القضية، ولكنني لم أفهم كيف ستحلها!

ـ سأعمل على ذلك مع كثيرين يجدون أن في حلها تحقيق لوجودهم وخيرهم، صار الكثيرون يعرفون أن الظلم الأكبر الواقع على الشيعة، هو بالدرجة الأولى من مراجعهم ورجال الدين الكبار المنتشرين من قم إلى النجف وكربلاء! فهم لكي يبقوا عقول الناس مغلقة، وإرادتهم مشلولة ثابتة على طاعتهم، كادحين مستكينين للإقطاعيين، اصدروا فتاوى منعوهم فيها من إرسال أبناءهم إلى المدارس، والعمل في وظائف الحكومة أو الجيش. كيف يقبل الإقطاعيون أن يصير أبناء الفلاحين الشيعة مهندسين وأطباء ومعلمين وضباط في الجيش؟ هم يريدون إبقاءهم ضعفاء فقراء بلا نصير ولا معين، يأتونهم في نهاية الموسم ليأخذوا الحصة الأكبر من ثمار دمهم وعرقهم، ثم يأتي رجال الدين ليأخذوا الخمس بصفتهم مقلديهم، مبقين لهم الفتات، تاركين أطفالهم يتضورون جوعاً، يعيشون مرضى معذبين، أو يموتون مبكرين. قل لي : من الذي يوقع كل هذا الظلم بهؤلاء الشيعة؟ هل هم سنة؟ هل هم مسيحيون أو يهود؟هل هم الإنجليز؟ لا، هم شيعة، يظلمون شيعة!

ويلقي كأسه على المائدة بعد أن أفرغ ما في جوفه بسرعة كأنه يطفئ ناراً تلتهب في أعماقه،قائلاً:

ـ ثم لا يفوتون لحظة، ولا منبراً أو جمهرة في حسينية، إلا وقالوا: السنة هم من يظلمكم، هم قتلوا الحسين ويريدون اليوم قتلكم! فيجعلونهم دوماً خائفين يلوذون بعباءاتهم كالأطفال حين تخوفهم أمهاتهم من الأشباح!

ـ الخلاف بين السنة والشيعة قديم عميق، خندق هائل مملوء بإرث من الكراهية والنبذ المتبادل حتى إن كلاهما لا يعد الآخر مسلماً أو مؤمناً! حاول كثيرون قبلك تخليص الجميع منه فباءوا بالفشل واليأس!

قال بصوت هادئ منشرح :

ـ بعد زوال العثمانيين الذين لعبوا أربعمائة سنة على احتراب الطائفتين سيسهل على الطيبين منهم ردم الماضي، وبدء عهد جديد!

ـ الإيرانيون صاروا اليوم أكثر قوة ومكراً هم لا يحبون الشيعة، يحبون مصالحهم التي تقتضي صراع الشيعة والسنة، وبقاء العراق ضعيفاً ممزقاً،فيسيطرون عليه.

خالطت صوته رنة غضب :

ـ إنها هجمة الفرس المتأخرة، فهم بعد أن خسروا حربهم على الأرض، انبروا لكسبها داخل عقول المسلمين ووجدانهم!

نظرت إليه بإكبار وخفت عليه، قلت أريد تهدئته، وجذبه عن طريق صراع قد يؤذيه:

ـ دع كل هذا الآن، انصرف لبحوثك ودراساتك. رياح العصر ستغير الكثير. بدأ في العراق عهد جديد. الملك فيصل الأول قطع شوطاً في التصدي للطائفية. حقق خطوات جيدة. النمو الاقتصادي سيقرب بين الطوائف والأديان والقوميات!

ـ إذا كانت الريح تفتت الصخور فهي غير قادرة على تفتيت إرادة من وجدوا رزقهم وسطوتهم في الطائفية. هم عاطلون كسالى لا نشاط لهم سوى في تأجيج الطائفية، فهي حرفتهم وتجارتهم.

ـ وما الحل؟

ـ ليتولى أبناء كل طائفة هداية طائفتهم، وتخليصها من عيوب المتحكمين بمصائرها، وأنا كشيعي أجد من واجبي العمل على إنهاء لعبة الطائفية السمجة بين أبناء الشيعة!

بدا لي إنه يمضي في يقين راسخ لا يتزعزع، لذت بالصمت لكنه مضى يقول:

ـ أتعتقد إنني لا أعرف حجم هذا العدو الذي يجب منازلته، الاصطدام بالطائفية هنا يعني التحرش بالإيرانيين ونفوذهم!

ـ الشيعة عرب أقحاح لا تخف عليهم، لن يتسلل إليهم غزاة.

ـ لا. ثمة ركائز إيرانية غرست داخلهم تحاول جرهم بعيداً عن أرواحهم مستخدمة مقدسات، تصنع وفق مقاساتهم!

قلت له حاول أن تتفاهم مع أهلك في النجف، من الضروري أن تركنوا للتسامح! أطلق ضحكة قصيرة حزينة قال: التسامح؟ من يضمر أحقاد قضايا حدثت قبل ألف وأربعمائة عام، كيف يتسامح معك في قضية حدثت قبل عشرة أعوام، أو حتى خمسين عاماً؟ هؤلاء لا يعرفون التسامح، انهم أهلي وأعرفهم. هم يأخذون بمبدأ التقية، أتعرف ماذا يعني ذلك؟ هو أن يظهر لك المرء خلاف ما يبطن، هم قد يبتسمون لي ويأخذونني بالأحضان، ثم يقتلونني في إحدى كثبان النجف! أو يسلموني للإيرانيين ليقتلوني! إنه متشائم جداً، لكنه غاضب، مشتعل عزيمة على المضي في منازلة شقيقه وأبيه، بقيت صافناً أرنو لوجهه. بدا عليه التعب والشيخوخة قبل الأوان، وأحاول ان أغير موضوع حديثنا، استدرجه ليعود إلى الشعر، الغناء والنكات المهذبة والبذيئة. يهدأ ساعة، نجول بأحاديثنا حول كل ما يعن لنا عن نخيل وتمور، مراكب تجار وصيد، بيوت طرب ولهو في أحياء البصرة القديمة، حتى سمك الزبيدي، نتحدث عنه كأنه قضية كبرى، ثم أخيراً نقرر أن يكون عشائنا منه لليلتنا، لكنه يفاجئني مكرراً حديثه عن مظالم رجال الدين وإن بكلمات أخرى، فينطلق صوته غاضباً، وقد زادته الخمرة حدة:

ـ انظر! الإقطاعيون هنا يمتلكون أكثرية الأرض الخصبة، وتجارهم يسيطرون مع اليهود على معظم الأسواق من البصرة حتى بغداد. كيف لمن يمتلك كل هذه الثروات يكون مظلوماً، مسلوب الحقوق؟ ثم يجأرون اليوم بالشكوى أن السنة أخذوا الحكم، وكل شيء منهم واحتكروه لأنفسهم! كذبة مضحكة ومع ذلك انطلت على الكثيرين حتى مثقفين منهم.

ـ يحسبني البعض على السنة. لا أحسب نفسي إلا عراقياً، أرفض أن يستحوذ السنة على الحكم لوحدهم، عليهم دائماً أن يبحثوا عن رجال من الشيعة لا يخضعون لأوامر مراجعهم، ويشركونهم في الحكم، على قدم المساواة، أو حتى أكثر من ذلك!

ـ بالطبع هذا لا يعفي قادة السنة من المسؤولية، هم دلسوا وارتاحوا لهذه الغفلة والمكيدة التي وقع بها الشيعة، فاستغلوهم، وزادوا عليها طبعا!

ـ لا تستغرب، هذه طبيعة النفس البشرية، تستغل الغفلة، وتستغل طريقة الناس في فهم الأمور. ثمة رجال من الشيعة أهملوا فتوى مراجعهم وشاركوا في الحكم، وعملوا في وظائف للدولة هذا يبشر بالخير.

ندت ضحكته القصيرة، قال:

ـ راتب الدولة لا يعني شيئاً لرجال الدين الشيعي، القصعة الدسمة هي في الخمس، والهبات أو السرقات الأخرى، يقتلعونها من جلود الفقراء، ثم يسعون للحصول لأبنائهم وأزواج بناتهم على مناصب كبيرة في الدولة: وزير، نائب، سفير، للوجاهة أو لتمرير صفقة فساد يجد لها مسوغاً شرعياً! لا تنس إن رجال الدين يسيرون مع الإقطاعيين خطوة خطوة! منكم الدنيا، ومنا الآخرة، وصدقني إذا قلت لك: معظمهم لا يؤمنون بالآخرة!

ـ ولكن هناك كثير من أبناء الشيعة أثبتوا جدارة كبيرة في وظائف الدولة والعمل العام، والسياسي خاصة، وهم أمل العراقيين في إشاعة روح المواطنة!

ويستبشر وجهه قائلاً:

ـ نعم هذا صحيح، ومع هؤلاء سنعمل لتصفية نزعة الانعزال، والمعسكرات المغلقة بيد قادة الطوائف!

ـ هذا رائع يا أحمد، أفكار صحيحة لكل عهد جديد!

ويعيد القول كأنه يؤكد الطريق لنفسه قبل غيره:

ـ ينبغي أن يعرف الشيعة أن من يظلمهم هم مراجعهم ومن يقلدونهم متحالفين مع الإقطاعيين وسلطة الدولة التي يتصدرها رجال سنة،آنذاك سيسهل النضال ضدهم للتحرر من هيمنتهم والالتقاء جميعاً شيعة وسنة شعباً واحداً، عراقيين وحسب!

وأقول مداعباً:

ـ أنت استطعت التحرر من ربقة أبيك بميراث أمك! كيف لهذه الجموع المنهكة الجائعة الهائلة أن تجد ميراثاً من أمهاتهم المسكينات ليتحرروا من ربقة رجال الدين المدججين بالدين، وخزائن الإقطاعيين؟

ويأخذ الأمر بجد قائلاً:

ـ هم لديهم قوة عملهم وعقولهم، هذا أعظم ميراث، سيحررهم من سياط الإقطاعيين، ولحى رجال الدين!

وعاد يحدثني: أخي ظل يناكفني، يقول أنت خرجت علينا، ولولا أنك أخي لطالبت أن يوضع عليك الحد. أنا أعرف ما يريد، كتبت له: اطمئن! كل ثروة أبي التي جمعها من السحت الحرام باسم الخمس، خذها لا أريد حصة فيها. لا يشرفني ولا يسعدني أن آكل مالاً انتزع من الفلاحين والفقراء. سكت، وما زال ساكتاً، الناس ينادونه بآية الله، أتعرف بماذا حصل على هذه الدرجة الفقهية التي يعدها أعلى درجة علمية في العالم؟ برسالة فقهية حول "الوضوء والطهارة" فيها فصل بعنوان" الرأي المصيب في عدد مرات مط القضيب". هل هذا علم وفقه؟ كان الأنصاري مشحونا بغضب هائل، ورؤية واضحة عميقة، فتحت عقلي على قضايا كثيرة، كنت غافلاً عنها. هذا التيه وسوء الفهم والالتباس المتبادل بين طائفتين هما في الحقيقة شعب واحد وأرومة واحدة، ومصير واحد مهما اختلفوا. تعتمل بينهم الآن بغضاء تعتمل تحت سطح ساكن، ولا يعرف متى تتفجر فتزهق أرواحاً وتدمر وتحرق كل شيء. ثمة أمل في تذويبها منذ الآن كأي دم فاسد، وهواء راكد، ما جعلني اشعر بثقة في مستقبلنا إذا نجح أمثال هذا الرجل في هدفهم. أزمعت أن أقف معه. كنت اشعر بسعادة وأمل عند محاورته. أظل ساهماً أرقب الأفق، وقد أخذتنا فترة صمت، وأراه يرنو إلى صفوف النخيل على ضفاف شط العرب ملتمعة بضوء الشفق الأحمر، شعرت بشكل ما أن نشوة كؤوسنا تسري في أرواحنا كصلاة عميقة مشتركة تغسلها من غبار زمن وصراع نفوس معذبة ظالمة ومظلومة! ويقطع الصمت بإحدى فوراته المفاجئة:

ـ لا بد من مواجهة ذلك، لم يعد الصمت ممكناً!

ـ لا يمكن مواجهة ذلك إلا من قبل مثقفين شيعة، أي اختلاط في ذلك سيأخذ معنى طائفياً، ويحبطه في مهده! مواجهة ظلم أقطاب الطائفة من أبناء الطائفة أنفسهم مشروع رائع يستحق أن ينذر المرء عمره له!

ـ فكرت بذلك طويلاً، وخطر لي تشكيل حزب من رجال شيعة يؤمنون بنفس فكرتي أعرفهم أشد قناعة وحماساً مني في التصدي لهذه المظالم. لكنني خشيت أن يتحول تجمعنا بمرور الزمن والتخريب الداخلي إلى حزب شيعي، فنقع بالخندق الطائفي! وبينما كان هدفنا في البدء لحمة العراقيين من شيعة وسنة ومسيحيين ويهود ومندائيين، نصير في النهاية سبباً في فرقتهم وتقاتلهم!

ـ لماذا تتعبون أنفسكم بتشكيل حزب جديد؟ هذا هو حزب جعفر أبي التمن، الحزب الوطني، يمكن أن يحقق ذلك!

ـ لا!،قالها بنبرة غاضبة، مضيفاً:

ـ جعفر أبو التمن لا يزال خاضعاً لأوامر مراجعه الدينيين. هو بهيئته ومسوحه الدينية يؤكد لك انه في أعماقه متردد خائف، وهو في النهاية ليس سوى تابع مطيع لهم، ومنذ رفضه مرافقة فيصل الأول من الحجاز، وهو يناصب عرشه والدولة الحديثة خصومة مقنعة، ويعارض وبشدة كل أجراء تتخذه حكومته. طرحه لمطلبه التعجيزي بجلاء الإنجليز على الفور، ليس سوى نكاية بالدولة التي يرونها سنية. هم أداروا ظهورهم لها، ادعاء المظلومية هوس مرضي. وطنية أبي التمن محدودة، ومرسومة بالأحمر من قبل عمائم سود.

رحت أرقبه بقلق مشفقاً عليه، إذ قرر ملاحقة هذه العباءات، والكشف عما تحتها من نوايا وأشباح وظلمات كما يقول، يخوض بذلك معركة غير متكافئة، قلت:

ـ عليك الحذر،أنت تنازل عدواً جباراً!

قال بحزم:

ـ أعرف ذلك. لا أستبعد أن والدي وأخوتي في النجف قد يدبرون لقتلي!

نظرت إليه قلقاً، هو يسلك طريق استشهاد. وعلى حافة واد سحيق، صمت هو، فصمت معه. رحت أحتسي كأسي محاولاً استعادة هدوءنا الجميل. أجواء أشعاره الصوفية الحزينة التي بدأ بها جلستنا. صار من الواضح لي إنه لا يعيش حيرة أو تردداً. حسم أمره على المضي في مهمة شبه مستحيلة، رغم ضرورتها القصوى. صرت أكثر قلقاً عليه. هو يبحر في يم عاصف، ملئ بالكواسج والحيتان!في جلساتنا الأخرى حاولت ان اصرف ذهنه وحديثه عن الطائفة، والطائفيين، قلت:

ـ يبدو أن للماركسيين أو الشيوعيين الناشئين نشاطاً كبيراً في البصرة.

وجدته ملماً ببداياتهم وامتدادتهم وحلقاتهم وعثراتهم، سألني:

ـ أسمعت بفهد يوسف سلمان يوسف؟

ـ أتقصد مراسل جريدة جعفر أبي التمن؟

ندت عنه ضحكة قصيرة:

ـ نعم وهو هنا يدعو للشيوعية.

دهشت، كيف؟ قال سأحدثك عنه يوماً، بل سأعرفك عليه.

 

باب الغياب

 

حسب علمي لقد خرجت من بيتي.

رحلت بعيداً!

عبرت بحاراً وجبالاً وصحارى!

دخلت بطون حيتان وسفن وعواصف.

حللت في مدن ومقابر وغابات.

رأيت بشراً أحياءً وموتى.

عاشرت طيوراً وحيوانات وحجارة!

رقدت على ثلوج القطب، وتقلبت على لهب الاستواء!

وحين فتحت عيني وجدتني عند باب بيتي!

وبيدي مفتاحه، لم يدر في القفل أبداً!

الشاعر المجهول من أيس

 
(126) رماد كل الشهداء في قلبي! كيف لا أصرخ؟

صمت العطار ليقول: ما يجدي أن تعذب نفسك يا يونس. ما يجدي كل هذا الكلام؟ قبلك تعذب كثيرون، قالوا وكتبوا الكثير، ولم يغيروا شيئاً. أتذكر إنني قلت له:

ـ أحس أن رماد كل الشهداء قد تراكم في قلبي، كيف تريدني أسكت؟ كيف لا أصرخ؟ حيرتي هي إنني لا ادري كيف أتكلم؟ هل أغرد مثل بلبل سكير في حانته الصغيرة داخل الشجرة؟ هل أهمس مثل عاشق مكلوم؟ هل أصرخ مثل رجل بريء يقاد إلى المشنقة؟

في تلك اللحظة جاء صوت من محفل الشهداء المجتمعين بعيداً. أصواتهم واضحة، كأنها جدلت في صوت واحد كبير، حبل ضخم يربط بين ضفتين في هذا البلد الشاسع :

ـ نعم لقد غرر بنا فهد، استولى على الثورة التي في دمائنا، صادر نبض قلوبنا، قبض عل كل لحظة غضب في شوارعنا وحقولنا وبيوتنا ووضعها في قوالب ودحرجها على سكة ستالين! الثورة التي كان يمكن أن تنطلق من أعماقنا بقوة وعفوية حولها إلى مجرد هراوة غليظة بيد ستالين يخوف بها أعدائه في العالم. حشد كل من يعرف سطراً معوجاً ليغمس قلمه في دمائنا ويكتب ما يريده أصحابه منه، لا ما نريده ونحتاجه نحن، جعل كلماته قبل دمائنا وأعلى منها! رفوف الكتب قبل الرؤوس الحية. الورق قبل العصب البشري. صرنا رسومات على الأعمدة الرخامية في الكرملين، أية جناية اقترفها بحقنا هذا الرجل!

انطلق صوت شهيد معترض ساخر:

ـ ها انتم تختتمون حياتكم بالوقوف مع القتلة الذين شنقوا هذا البطل العظيم!

ـ نحن ضد قتلته. وكما نحن ضد من يجابه الفكر بمشنقة، نحن ضد من يجابه المشنقة بفكر يشنق أفكار الآخرين! كلهم ساهموا في قتلنا، وقد يقتل الإنسان بأيدي أعدائه وأصدقائه معاً!

أكان جلال العطار يسمع مثلي هذا الحوار الذي أثار شجوني . أهي نهاية المحاكمة؟ لا. من غير المعقول. الشهداء كما أعرفهم لا يستبقون الأحكام. لا يحكمون قبل محاكمة تفصيلية عادلة. هم غير نزقين،ولا هلعين. هذه ثورة قلوب معذبة ما زالت تنبض داخل هياكلها العظمية المنخورة. ولكن هل اقتربت من محفلهم أكثر، هل ابتعدت مصغياً للعطار يروي لي ما يعتقد إنه له علاقة بمحاكماتهم المنتظرة. لا أحس إنني ابتعدت، فأصواتهم ما تزال تهز قلبي كما تهز الريح طيرا شريداً هزيلاً تائها في الصحراء. سمعت الجهنمي يقول بصوت ضجر ملول: ما لنا ومقبرة التاريخ الطويلة ننبشها؟ هل جاء رفاقك لينبشوا قبورهم،أم قبر العراق؟

صمت، كنت أتحاشى الرد على كلمات الجهنمي أحياناً ليس لازدواجيتها فقط، بل رحمة به فهو معذب دائما، انبرى له العطار:

ـ هم يريدون محاسبة قادتهم، هل يمكن تحقيق ذلك بعدالة دون محاسبة قادة العراق الذين صنعوا المصائر التي جرفتهم أيضاً، وأين تذهب السفينة بركابها في البحر العاصف؟ ها أنا أرى، وأنا في هيكلي العظمي وكأس الويسكي المثلج في يدي، والفتاة الجميلة الشبقة عارية في السرير تنتظرني؛ أن لا شيئاً منفصل عن شيء تماماً. لا شيئاً متصل بشيء تماماً. لا قبراً كامل فيه كل أعضاء الميت، ولا كل ذرات روحه مطمئنة في السماء، لا قبراً ناقص تماماً. لا قبراً كامل ناضج تماماً، سكت الجهنمي واخذ يتثاءب، فجأة فكرت أن افضل طريقة لإخراج الجهنمي من عذابه هي استفزازه:

ـ ألم تشبع من نومة القبر؟ مالك طيلة عمرك ضجراً من كل قضية جدية؟

ندت عنه ضحكة قصيرة جافة قال:

ـ لا شيئاً جدياً في هذه الدنيا لأكون جدياً معه! خلاصة أمرك يا يونس أنك خرجت من بطن أمك، ثم من بطن الحوت، ثم خرجت من بطن الحزب، لكنك لم تستطع الخروج من بطن العراق، الذي هو ليس سوى قبر كبير. لا حياة ولا سعادة فيه . كل ما عاشه أهله فيه من متع وملذات هي محض أوهام وأكاذيب وزيف.

انفتحت شهيته للكلام ولكن في تقريعي وتقريع العراقيين. هل هو غاضب عليَ لأني لم أذهب به إلى منزول الميدان، ولم أساعده في العثور على صويحباته القديمات، وأتينا به إلى بيت المسرات الراقي الذي كان ينفر منه في الحياة الدنيا. تركته يتحدث على هواه:

ـ أهل هذه البلاد موتى صنعوا من أيام تيههم وضلالهم: أموالهم ومناصبهم وبيوتهم الفخمة ونساءهم، معتقدين أن هذه هي الحياة، بينما الحياة شيء آخر! السفراء والأجانب سواح أو مستشرقون، قالوا لهم مجاملة: بلادكم جميلة عريقة وأنتم عظماء، فصدقوا وتفاخروا وتعالوا على العالمين! عندما كنت حياُ، كلما دفنوا شخصاً كنت أرى أنهم نقشوا على شاهدة قبره آية تقول " يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية، وأدخلي في عبادي وادخلي جنتي" ثم حين مت وذهبت حيث ذهب لم أجده راضياً عن نفسه، ولا حشرات القبور راضية عنه. تساوى في ذلك الشيوعيون والمتدينون! عاملهم القبر سواسية وبعدالة. القبر وحده يصلح وزيراً للعدل!

لم يقاطعه العطار، تركه يتحدث على هواه، اغتنم لحظة راح الجهنمي فيها يصارع لفتح قنينة شراب، ويملأ كأسه، تكلم العطار بصوت لاهث مرهق:

ـ حدثتك عن كل من وجدت له علاقة بما جرى لشهدائكم، وشهداء بلادنا كلهم، بمن صنع السفينة ومن قادها إلى هذا الشاطئ أو ذاك. عن كل طير بقي يغني على حطب الأغصان، أو مات هنا أو في منفاه. أتلومني إنني شرقت وغربت، هل نزلت معك الجبل، أم صنعنا جبلاً آخر فوق جبلك؟ أسعدني الشهداء إذ أيقظوني من رقدتي في اللحد، أرجو أن تشكرهم نيابة عني. كان بودي ان أبقى في دنيا أحبتي القدامى، اسر بلقاء الكبير والصغير، الغني والفقير، الملك والوزير والصعلوك، العامل والفلاح الكاتب والقارئ، ولكن حتى هؤلاء راحوا يموتون ثانية بعد أن نهضوا معنا. صارت أسئلة الجهنمي تفاجئ العطار:

ـ أنت كانت لك دعوات كبيرة أيضاً، لماذا لم تضح من أجلها؟

ـ أنا لم أضح بالكثير من أجل الآخرين، فأنا لم أمت شهيداً في وطني، مت في أحضان حسناء فاحشة الثراء في فينا. إذا كنت تقصد عملي في كتابة الرواية الاجتماعية والتربوية لصالح الآخرين فقد أنهيت إحداها يوما بحكمة اليوم وكل يوم: عليك أن تخدم نفسك وتحبها من أجل الآخرين، وعليك أن تخدم الآخرين وتحبهم من أجل نفسك!

لم تستوقفني حكمته. سمعتها منه كثيراً حد الملل. استوقفني تطرقه للحسناء، وقوله إنه مات في أحضانها، أتكون هي نورا؟ كلما حاولت استدراجه للحديث عنها يلتزم الصمت، يرتعش صوته بهمهمات غامضة، وأحياناً أرى في محجريه دموعا تخالط غبار القبر، فاضطر للسكوت منتظراً يوما يحدثني فيه عنها أكثر وبتفصيلات حميمة دقيقة. ما زلت أتطلع أن أعرف ماذا حدث له معها، وماذا جرى لها حقاً. فقد رافقت اسمها شائعات كثيرة. قالوا إنها شقت طريقها في العالم الخلفي للسياسة العالمية من فينا وباريس ولندن متسلحة بجمالها وثقافتها وذكائها، والأهم جراحاتها القومية والنفسية العميقة هنا وهناك. قيل أنها تزوجت يهودياً فاحش الثراء كان قد هاجر مع عائلته واستقر في جنيف، قالوا إنها استغلت علاقاتها السرية والعلنية، فضاعفت ثروة زوجها الهائلة أصلاً، وإنها بالاشتراك مع مستثمرين يهود سيطرت على بنوك عديدة في سويسرا، وصارت السكرتيرة السرية للمحفل الماسوني العالمي. قيل أيضاً أنها كانت تدير جمعية صهيونية سرية وإن خريطة دولة إسرائيل، كانت في مخيلتها قبل أن تقوم على الأرض منحازة بذلك لأخوالها اليهود. وإنها أدارت وكالة كبرى للتجسس لحساب دوائر أمريكية وغربية وأنشأت في العراق ومصر ولبنان أحزابا وجمعيات للترويج للسياسة الغربية، فكانت وراء انقلابات عسكرية في مصر والعراق، ودول عربية أخرى. وكانت من المساهمين الأقوياء في صدور قرار تقسيم فلسطين، وتشريد الفلسطينيين، وبصنع مصير العراقيين وشعوب أخرى كثيرة في الشرق الأوسط! وقيل وقيل وقيل، ولكن هل من المعقول أن تقوم بكل هذه الأعمال الأسطورية ؟ من الواضح إنها من نسج مخيلة عراقيين يجيدون التحليق بمخيلتهم وهم يحيطون بموائد كؤوس العرق الزحلاوي والمستكي تحلق فوقهم غيوم من أبخرة تتصاعد من قدور البامية والمحشي والباجة؟ قالوا إن نورا ظلت تتحاشى الظهور في تجمعات السياسيين المخملية أو المتقشفة متحاشية أن تلتقط لها صورة فيظهر في الصحف اسمها الألماني المستعار الذي غطت به على اسمها الحقيقي! ساقوا تهماً وأقوالاً أخرى بعضها يمكن تصديقها وأخرى كانت مبالغات وتهويلات لا يمكن تصديقها. أتكون كل هذه الأشياء أو بعضها في حياتها، ويظل جلال العطار حبيبها، وتظل هي حبيبته ورفيقته؟ أم هي أطوار الحب المعقدة تتجلى مرة على شكل زهرة، أو كأس خمر، ومرة على شكل شوكة تجرح القلب؟ لذلك كان هناك من ينفي كل ذلك مؤكداً إن ما قيل عن نورا محض افتراء وتلفيق وخيال وأكاذيب وإنها عاشت في أوربا امرأة شرقية محافظة جاهدة في التوفيق بين ولائها لليهودية والمسيحية دون أن تعادي الإسلام والمسلمين. ظلت مخلصة لوطنها الأول وتحولت لكتابة الشعر المغرق بالحنين والتهويمات الحزينة، زاهدة في النشر ولم تتورط بأي نشاط يشين سمعتها فصارت نوراً قادما من كوكب شرقي إلى صقيع وضباب أوربا! مضيفين أن العطار بحث عنها في الكثير من بلدان أوربا ولم يجدها، وإنه في أخريات أيامه عاشر امرأة صاحبة فندق آوته ورعته ومات بين يديها! ألغاز وأشياء غامضة كثيرة لا يستطيع سوى العطار أن يحلها ويجلوها ويحكم فيها، أو في الأقل يرويها بصيغة أخرى. هو لم يخرج إلى المنافي من أجل السياسة بل من أجلها(من أجل الحب العنيف الذي مزق شغاف قلبي، هذا ما قاله في إحدى همساته النادرة) هو منفي من أجل الحب لا من أجل السياسة. مشرد من أجل قلبه لا من أجل عقله. تبعها كما يتبع الرازح في ظلام طويل بصيص نور من بعيد، لكنه حين لقيها وجد فيها كل عذابات العراق التي هرب منها! مع ذلك ثمة خبايا وأسرار كثيرة يعرفها العطار عن نورا وعن حكاية حبه الطويلة لها، مرة سألته بشكل مفاجئ عنها قال:

ـ شردتني حكايتها في طرق الدنيا وطرق الموت معاً!

صمت وظل صامتا وكلما حاولت أن استحثه لمواصلة الحديث كان يتجاهل كلامي قائلاً:

ـ عم تتحدث؟

مرة أخرى قال: جعلتني حكايتها أرقاً في قبري، لا أستطيع مواصلة نومتي الأبدية إلا بالتهام الحبوب المنومة! لم تستوقف الجهنمي من كلامه سوى "الحبوب المنومة" فسأله:

ـ من أين تحصل عليها في أسواق القبور المقفرة؟ رد العطار دون اكتراث:

ـ تجلبها لي طيور الليل، التي لا يراها ولا يكلمها سوى الموتى الزاهدين بالجسد!

غامزاً هوس الجهنمي بالجنس حتى وهو في قبره! سألته مرة أخرى بشكل غير مباشر، عله يذكرها بشيء:

ـ ماذا كنتم تفعلون كمثقفين في أوربا؟

قال بأسى واضح:

ـ حاولنا التجمع حول روح وطننا البعيد ولو بحدها البسيط، فشلنا وتبعثرنا حطاما بين قبر بارد مهجور، أو بيت يكره الآخر!

كم أتمنى أن يغفل الموت عنا، ويمنحنا فسحة أكبر فيطول لقاؤنا، واسمع اعترافاته أو أقواله وآراءه في ذلك، أم تراه سيصر أن نورا لم تخرج من العراق، وإنها ماتت محترقة منتحرة من أجله بحمام في بغداد،كما يدعي؟ رغم إن الجهنمي لا يتطرق إلى نورا إلا قليلا، ويقال إنه ظل يوفر للعطار عاهرات من الميدان يرى فيهن ملامح نورا، لكنني بقيت أعتقد إنه يعرف عن نورا الكثير، وذلك لأنه دائم المتابعة لما ينشر في الصحف الغريبة عن العراق والعراقيين، والجاليات العربية في الغرب، وأنه لا يفوت فرصة يستطيع بها الاختلاط بالأجانب خاصة العاملين في السفارات الغربية لا سيما الانجليزية والأمريكية. كانت إحدى الإشاعات أو التهم تلاحقه فوق مصائبه الأخرى إنه من المحتمل أن يكون جاسوساً مزدوجاً لأكثر من جهة (تردد اسما المخابرات الإنجليزية والألمانية). لكنني استبعد ذلك، رغم إنه قال لي مرة إنه يعكف على تعلم اللغتين الألمانية والفرنسية. لكنني أرد ذلك لحبه للغات وللاستطلاع ولتشتته وتطلعه للحصول على فرص عمل آمنة. لا أستبعد إنه كان يتتبع مسار نورا في أوربا سواء بدفع من العطار أو لفضوله النسائي، أو العام! كنت أنوي مفاتحته عله يحدثني عنها، لكن همومنا في هذه اليقظة كانت كثيرة، وثمة شعور غامض ان الموت سيداهمنا الذي عاملنا بكرم هو ليس من خصاله. لذا منيت نفسي في الحديث مع الجهنمي بذلك في يقظة أخرى،أو حلم آخر، وهل سيتحقق؟ علني أصل إلى حقيقة نورا فهي رغم إنني لم أرها إلا من خلال العطار والجهنمي، لكنها صارت امتدادا لأشجان أيامنا القديمة التي مرت كالقوارب المخلعة على نهر الزمن المسرع، حاملة ما تستطيع من أحلام الثورة والحب والكتب، فكانت خيبتنا بالثورة والحب والكتب في ليلة واحدة! أثارت العطار مطالبات الشهداء بمحاكمة الثقافة والمثقفين، فهو كان بارزا بينهم.قلت له:

ـ يبدو لديهم الكثير مما يريدون قوله أو السؤال عنه! وربما إذا لم يفلحوا في هذه المحكمة وهذا متوقع، فقد يقيمون محكمة أخرى، وقد يدعوننا إليها.

ـ ولكننا شخنا كثيراً ونحن في قبورنا، كما إن الناس اليوم متعبون، ليتهم يجدون طريقة لنشهدها ونحن في قبورنا أو بيوتنا! ضحك الجهنمي قال:

ـ عرفت من سيدة البيت أنهم صارت لديهم تلفزيونات ملونة، وقنوات تستطيع ان تبث من داخل القبور إلى داخل القبور والبيوت! قال العطار كلاماً غامضاً:

ـ في هذه الحالة نستطيع مع الناس ان نرى كل شيء ونحن داخل بيوتنا أو قبورنا أو أحلامنا وضحكاتنا، غارقين في دموعنا! على ضفاف النهر الغافل تتفتح كل يوم حدائق وجداول وأوحال ومستنقعات!

وعاد العطار يقطع لحظات صمتنا ليسألني ماذا حل بالبلاد بعد موتنا؟ هذا من حقه، فحتى الطفل حين ينام على حكاية يسأل جدته في اليوم التالي ماذا حل بناسها! كنت ألوذ بالصمت. كم أتمنى لو يسعفنا الموت فلا يتعجلنا لأحدثه أكثر، وبرفق وعناية بالذي حل بنا في غيابه! الانقلابات الدموية، الحروب والحصارات وهجمات الغدر والالتواء كثيرة طبعاً، حكايات غير مسلية، ربما كان يتوقعها. اكتفيت بالقول: لدينا الآن جبال من الجماجم والعظام! قال: الجماجم التي رأيناها في كهفكم، أنبأتني ان هناك الكثير منها في كل مكان! هذا من ذاك! وذاك من هذا! الجندي لا يقتل برصاصة من عدوه الذي أمامه. هو يكون قتل مسبقاً من قبلنا نحن. وقبل ان يذهب إلى الحرب. وطن فيه شاعر يقول وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم، كيف لا يكون فيه الشهداء بعدد أحجار البناء؟ من حق الشهداء ان يستدعوننا لمحاكمة صارمة، من يعترض يكون ضالعاً في الجريمة! قال الجهنمي فجأة بغداد تبدو لي مقبرة كبيرة حتى من بقى حياً فيها هو ميت بشكل ما. ماذا فعلت بنا يا يونس؟ أخرجتنا من مقبرة إلى مقبرة"!فجأة قال الجهنمي كلمة، كأنها آخر ما سيقوله في هذه الدنيا:

ـ أتعرف ما هي محنة هؤلاء الشهداء؟ هم حاولوا الخروج من مقبرتهم فسقطوا في مقبرة وطنهم، كان التاريخ فاغراً فمه لابتلاعهم. جاءوا ليحاكموا قادتهم، فحاكموا أنفسهم وتاريخهم كله. أليست هذه محنة الإنسان في كل زمان ومكان حيث لا يعرف دوما من هو الجاني، ومن هو المجني عليه الحقيقي!

(127) وأتاهم هازم اللذات، ومفرق الجماعات!

سمعنا صوتاً نسائياً جميلاً، أصخنا السمع. ربما كلنا ظنناه صوت سيدة البيت تدعونا لشيء. لكن العطار أول من تبينه: صوت شهرزاد يأتينا من وراء سجف الغيب النائي الملاصقة لباب كهف الشهداء، كان صوتاً حزيناً رائقاً " ثم أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات" ارتجف صوت العطار وهو يقول: أسمعت؟ هذه شهرزاد! كانت تلاحقنا وترقبنا مهما كبرنا وادعينا النضج، نحن أطفالها المشردون. نعم كلنا يشملنا قانونها البسيط، أقوى قوانين الدنيا قاطبة "أتاهم هازم اللذات، ومفرق الجماعات" رتلته الآن شهرزاد بشفتيها الناتئتين المكتنزتين تغريان بالقبلات: قانونها الحاد القاطع الذي لا يقبل استئنافاً أو رفضاً. ظل صوته يتحشرج ويختنق. أخذ ينتفض. حملت إليه كأس الماء. متى أعاد كأس الماء ميتاً؟ همد على الفور. انقطع صوته تماماً، كأنه أسطوانة وصلت نهاية دورتها، وارتفعت عنها الإبرة. بانت صورة الكلب المقعي أمام سيده في قلبها مصغيا للصوت. لا تدري أيهما أكثر غموضاً وإبهاماً: الموسيقى؛ أو ما سيفهمه الكلب من الموسيقى! صار الكلب الذي في قلبها هو سربروس حارس الموتى. لا أحد يخرج من حقل الموت وسنابله المحروقة. لا أحد يدخله دون أذنه؟ وحتى لو دارت الأسطوانة واختفى الكلب. هل سيختفي حقاً؟ ألا يحتمل إنه يفهم أيضاً موسيقى الوجود الغامضة وهو يدور معها على الأسطوانة؟ يا لمعضلة الموت كم هي مضحكة مبكية؟ أخذت أهز كتف العطار. وجدت المصيبة الأعظم: إنه عاد هيكلاً عظمياً. تلفت إلى الجهنمي أستنجد به، وجدته هيكلاً عظمياً منخوراً كأنه هو أيضاً مات منذ ألف عام! الجلسة كلها انطفأت. حتى الأطباق وجدتها خاوية. كأن عاصفة من القحط قد مرت عليها ومسحتها. كل شيء انهار ونزلت الثريا من السقف، وراحت تبحث عن النافذ لتطير. الجلسة انحدرت عن ذروتها. طائرة تهبط فجأة اضطرارياً، بينما الكؤوس تنقلب فوق رؤوس الركاب. تلفهم غيوم سوداء، وتسبقهم قلوبهم في الهبوط. شاشة كانت تعرض فلماً قديما حزيناً مثيرا ومسلياً تنقطع عنها الكهرباء. ما هذا الذي حدث؟ أيكون ما رواه قد أتى به إلى الموت، أم تكون شهرزاد قد جعلت من ينطق بقانونها ينفذ عليه فوراً؟ ما هذا الذي حدث؟ هل انتهت محكمة الشهداء من عملها حيث كانت عودتهما إلى الحياة بقدحة منهم؟ لكنني ما زلت أسمع ضجيج الكهف من بعيد ولا أتبين ما يقولون. أيكون العطار والجهنمي قد سئما منها، ومن بغداد والحياة كلها واشتاقا العودة إلى الموت؟ أيكون هواء بغداد اليوم قد خنقهما حيث لم يعد ملائما لمن عاش بغداد في هوائها القديم؟ كل شيء ممكن. أحس يونس أنه يفجع بهما الآن، الآن فقط. حين ماتا لأول مرة، لم يشهد موتهما، كان منشغلاً بالحزب والسياسة. الآن يموتان أمامه في هيكليهما العظميين. رآهما طفلين صغيرين نائمين في لجة من الأحلام! فجيعة فقدهما، وفجيعة فقد الحكاية التي راحت تجري على لسانيهما مجرى الماء في نهر جاف مهجور منذ عهد سحيق! انقطعت الحكاية. من سيرويها؟ جئت أنا الحي استمع إلى قصة ماضينا، وماضي وطني وخيباتنا الكثيرة الطويلة من ميتين، وحين بدأت الحكاية تزدهر وتعلو؛ هوت وتهشمت. الموتى وحدهم أعادوا رماد النسيان غصوناً خضراء. رماد النسيان ترسب مع بقايا الشراب في الكأس. وجد نفسه ما يزال يمسك به ودموعه تسيل. ربما ندت عنه شهقة أو صرخة. جاءت سيدة البيت الجميلة نصف عارية. بدا على وجها المتحفز أنها عرفت بكل ما جرى فقد توقف الغرامفون في صالونها، وظهر الكلب أمام سيده وكشر عن أنياب سربروس! لم تعد الأغنية تنبعث آخر الليل هذا. وقفت واضعة يديها على جانبي خصرها الأهيف الشهي، وانبعث صوتها نديا ناعماً غاضباً:

ـ فعلتها يا يونس؟ ألم تجد مكاناً تقتل به هذين الرجلين الطيبين غير بيتي؟ أين نذهب بجثتيهما أو عظامهما، وقد نخرهما الموت في دقائق؟ أين يا يونس؟ سمعت أنك مثقفٌ شيوعيٌ أو تقدميٌ، كما يقولون. كيف قتلت رفيقيك؟ ما هذا؟ كيف نتستر على جريمتك وعلى بقايا الميتين، ورجال الأمن يحيطون بنا؟ قالت فتاة جميلة عارية تماماً، لحقت بها: سنحفر لهما في الحديقة وندفنهما مع السيد يونس وينتهي الأمر كله! ما هذا الذي يجري؟ أية أهوال اندفعت نحوي؟ راحت السيدة تتمتم: دائما أنتم الشيوعيون مزعجون. طلاب مشاكل ومصائب. سأعفيك من النزول معهما ولكن ساعدنا في دفنهما. عادت الفتاة العارية حاملة مسحاة، قالت سنحفر لهما في الحديقة، اندفع نحوهما متوسلاً: تريثا رجاءً، هما لم يموتا. من تستدعيه الحياة لحاجتها إليه؛ فيعود، لا يموت أبداً، هما فقط في حالة غياب بسيط! راحت السيدة وصاحبتها تضحكان وترددان: غياب بسيط، أيها الأهبل؟ غيبوبة، إغماء، من علمك هذا الهذيان؟ ألا تراهما هيكلان عظميان؟ أم تراك عميت؟ ألا ترى إن الهواء لا ينقص ذرة أوكسجين، ولا يزيد ذرة كاربون. أتعتقد لأنني أبيع المتعة، لا أعرف شيئاً من العلم؟

راح يونس يحرك لسانه ويده وأعصابه كلها محاولاً أن يقنعهما بالتوقف عن دفنهما:

ـ فقط أمهلاني ساعة واحدة فقط. اتركانا لوحدنا، سيعودان للحياة حتماً. قالت المرأة وقد ازداد جسدها شهوة وتألقاً:

ـ الإنسان لا يأتي للحياة سوى مرتين. مرة من رحم أمه. ومرة من قبر طيب. لا يعود ثالثة. أتعتقد لأنني عاهرة لا أعرف الحكمة؟

ـ اتركينا رجاء! سأدفع لك كل ما تطلبين!

ـ هذا بيت حب وعشق ورزق، لا بيت موتى. ألا تكفون أيها الشيوعيون عن تحويل مخادع الحب إلى ثرثرة وموت، وبعث من موت، وأشياء سخيفة من هذا القبيل؟ هكذا قالت وأعادت القول سيدة البيت، يا لخبثها لقد استقبلتنا بالقبلات عند باب البيت،ثم تنكرت لنا فجأة.

وجد يونس أن توسله بهذه السيدة لم يعد مجدياً. قرر ان يقف أمامها متحدياً:

ـ اسكتي! أرجوك أنت نفسك لم تعودي للحياة لولا رغبة العطار والجهنمي ومن خلفهما شهداؤنا الأبرار.

سكتت فجأة. كأنه سكب فوقها الماء كله.(وجد إن كلمة "الأبرار" بقدر ما بدت له مضحكة بعض الشيء، لكنها ما تزال تحدث مفعولها المطلوب). لكن المرأة ظلت واقفة شرسة متحفزة. هزت رأسها وانصرفت تتبعها الفتاة العارية. سمع الكرامافون يصدح بأغنية بغدادية قديمة لم يتبين كلماتها عدا لازمة كانت تتكرر: عيني جميل شبدلك .. وهذا دوران الفلك!

تأملهما، هما ميتان، كطفلين نائمين، موتهما هذا أهون من موتهما الأول. سبقته تجربة. لم تلبث سحابة الحزن التي اكتنفت قلبه أن زالت فجأة، فقد تذكر إنه سيدفنهما في بغداد. ذلك أفضل لهما. هو يعرف ان العطار كان مدفوناً في فينا. حنينه الشديد؛ هو الذي حمله من قبره في هذه الرحلة المتعبة. لا يعرف من أي قبر جاء الجهنمي. على كل حال هو احب بغداد، وله فيها حبيبات وجولات. تذكر فجأة أمراً خطيراً، من سيصدقه في قلعة أربيل، إنه خاض هذه الرحلة الطويلة مع الشهداء، وإنه كان مع العطار والجهنمي؟ تذكر أن سيدة البيت كانت عند دخولهم البيت قد أوقفتهم أمام نخلة باسقة محملة بعذوق التمر الذهبي والتقطت لهم صوراً عديدة بكاميرا قالت إنها حديثة ودقيقة وتخرج الصور على الفور. سيذهب إليها يتوسلها أن تعطيه صورة. سيريها لمن يشكك في صحة رحلته، ولمن تبقى يتردد عليه في بيته المعزول المحاصر ليعلموا بما جرى له. نهض مسرعاً. قال للسيدة بصوت متوسل: لو أعطيتني إحدى صورنا؟ هزت رأسها مبتسمة، وكأن ليس هناك ميتان في الحجرة المجاورة، وكأنها لم تكن معه فظة قبل قليل، أعطته واحدة. كانت ملونة. توقف. كأنه صعق! كان العطار والجهنمي بملابسهما الأنيقة يظهران حيين ضاحكين سعيدين، وهو مجرد هيكل عظمي،وكان عارياً منخوراً! أهذا معقول؟ قالها متوجهاً إليها كأنه يتهمها: قالت كاميرتي دقيقة لا تخطئ، وأنا لا اعرف اللعب لا بالصور، ولا بالكلمات! انسحب حزيناً محطماً. صار يحس بهيكله العظمي لأول مرة مهشما يتساقط. لكنه انتفض. لا زالت عروقي تنبض، وبما يكفي لاحتضانهما وإعادتهما للنطق! ولكن هل سأبقى حياً أو نصف حي لأستعيدهما؟ لو يمهلني الموت يوماً واحداً فقط. علني اسمع منهما بقية حكايتنا، جزءاً آخر منها فهي طويلة. سأبقى حياً. الميت لا يستطيع منح الموتى حياتهم. علني بهذه العروق القليلة المتيبسة على نبض واه أستطيع إيواءهما من تشردهما الطويل ومنحهما حياتهما. بالأحرى ما تبقى من حياتي.

عاد يحدق بالهيكلين. وجد نفسه متلهفاً للحكاية التي لم تكتمل, للجبل الذي لا يدري هل هبط منه، أم صعد إليه ثانية، أم تسلق جبلاً آخر فوقه؟ من يكمل حكاية فهد الذي حتى الآن لم يظهر أمام المحكمة؟ ومن يكمل حكاية نورا والعطار نفسه؟ قضية الأنصاري وصراعاته الأليمة. تألم كثيراً. هل أضعت شيئاً من الوقت لم استثمره في البحث معهما عما مضى كما أضعت الكثير من أيامي الماضية " كم كان عليُ أن أدرك قيمة كل دقيقة في حياتي ولا أفرط بها" " ولا انقاد لكل من يطرق بابي قائلاً تعال معي،فأهب لمرافقته! لسع بشيء, أتكون نورا هي سيدة البيت نفسها؟ وإنها وضعت لهما شيئاً في الشراب ليموتا فتنقطع الحكاية ولا يكشف سرها؟ أم هي عشتار التي تركناها في الكهف تبحث عن تموز. فهي تحمل الكثير من ملامحها. وعشتار نفسها كانت عاهرة وقوادة في محفل الآلهة. قر في نفسها أنها عشتار ليست غيرها. ولم يلبث أن راوده الشك. أيعقل إنها تخلت عن بحثها وانتظارها لتموز، وراحت تتبعنا، تتجسس علينا، تنصب لنا كمينا! ما هي مصلحتها في ذلك؟ أنسيت يا يونس ان تموز رجل ثورات وانقلابات، وأنتم صرتما من خصومه. ثمة من يقول أن من خلائق عشتار: القسوة، والفظاظة والشهوة العارمة! كثير من قسوة هذه الأيام هي من در ثدييها المكتنزين بلبن الشهوة والقوة واللامبالاة؛ فهي جدتنا الأولى؟ لا. هذه غير معقول! هذه أخيلة فاسدة من وحي هذه الحجرة المثقلة بهيكلين عظميين. يا يونس كفاك تهويماً وشططاً. فجأة توقف، وجد أن مصيبة أخرى أشد هولاً قد حدثت. لقد انقطعت أصوات الشهداء ولم تعد تصله. هل ثمة شيء حصل في الجو، والفضاء؟ وما الغرابة والحروب الغاشمة والتقلبات الدموية تكتسح المنطقة؟ أم إن الشهداء توقفوا عن محاكماتهم وحواراتهم؟ هل صفوا محفلهم وعادوا إلى قبورهم خائبين؟ لم يأت المتهمون المطلوبون، ولم يلقوا القبض على اللص الداعر كمتار بيس الهارب ليحاكموه. ماذا حدث؟أحس نفسه خائبا محطماً. وها هي ترسل البنت العارية لتوجه له الإنذار الأخير:

ـ اسمع يا يونس! عفوا يا رفيق يونس! إذا لم تعد صاحبيك إلى الحياة خلال نصف ساعة وتخرجون من هذا البيت كما أتيتم، أو تحمل هيكليهما العظميين على كتفيك وتخرج بهما ستضطر سيدتي إلى استدعاء رجال الأمن، ليتولوا أمركم!

راح يدير رأسه متحيراً متصوراً إنه بعد أن كان يقضي اجمل الأوقات معهما في مشرب شريف وحداد وحانة البلابل الخمس، يحمل هيكليهما العظميين على كتفيه، يدور بهما في شوارع بغداد، يدخل بهما الحانات يطلب لهما شراب يعيد لهما الحياة، إذا كان هذا ممكناً في كل مكان في الدنيا فهو في بغداد لم يعد ممكناً. عاد يحاول استرضاءها:

ـ اعطني مهلة قصيرة لأتدبر أمري. أعتقد إنهما عند بزوغ الفجر سيعودان للحياة. سأضاعف لكما الأجر.

قالها يونس رغم إنه لم يكن يحمل في جيبه سوى بضعة دنانير لم تعد صالحة، أو أن قيمتها قد تدنت كثيراً، حتى لا تكفي لشراء سيجارة واحدة. عاد يتمتم مع نفسه سيعودان، ويكملان الحكاية ضحكت الفتاة التي ازدادت جمالاً وهي تنحني في عريها مستندة على مسند الكرسي:

ـ كما قالت سيدتي أيها الشيخ، الموتى لا يعودون كثيراً إلى الحياة. فهذا يتعبهم!

أراد تملقها:

ـ كيف لا يعودون كثيراً إلى الحياة، وفيها فتاة جميلة مثلك!

ـ إذا كنت جميلة، لماذا لم تنم معي حتى الآن؟

قالتها متأوهة بصوت شهي مثير:

ـ لم أشأ إزعاجك، فأنا آسف منهك، قد يأخذ الأمر وقتاً طويلاً حتى أتشرف بالوصل لذروة مجدك!

ـ هذا ما أريده، كلهم يفعلونها بسرعة، كأن أمهاتهم فوقهم تضربهم بالمكنسة! هيا نفعلها هنا بين هذين الهيكلين العظميين، ذلك سيكون عظيماً، ذلك قد يعيدهما إلى الحياة! هم أن يقترب منها، رغم معرفته بعجزه حتى إنه لم يعد يقدر على خلع لباسه الداخلي. فقد سمع أن بعض النساء يعدن الشيخ إلى صباه، بل بعضهن يعدن الميت إلى الحياة! ثمة طرق على الباب تعالى فجأة جعلهما يصمتان ويرفعان رأسيهما يصغيان مبهوتين. ومعه عادت أصوات الشهداء قوية واضحة:

ـ اجلبوهم أولئك الذين ضللونا، الذين حكوا لنا شيئاً آخر غير الحقيقة، غير الواقع. عاودته السكينة والثقة. هو الآن يستطيع مواجهة كل رجال السلطة حتى لو جاءوا جحفلاً واحداً!

صار القرع على باب البيت يتصاعد بقوة! من؟ أهم رجال السلطة؟ وماذا سيجدون؟ هيكليين عظميين كانا معرضين لعهود سابقة. وأنا العجوز المتهدم لا تزال معركتي مع الأشرار لم تنته بعد، الذي انتهى فقط هو خوفي وترددي.سمع أصوات الشهداء تأتي واضحة قوية، تزيل آخر نأمة خوف من نفسه، تمنحه طمأنينة دافئة، سمع رئيس المحكمة يقول:

ـ نظراً لعدم مثول المتهم؛ سنضطر لإجراء المحاكمة غيابياً، سنحدد موعدها بإشعار آخر. ترفع الجلسة!.