يعرض الباحث المغربي في هذه الدراسة سيرة حياة عالم الاجتماع الكبير ومساره المهني قبل أن يتفرغ لتقديم عدد من المفاهيم الأساسية الجديدة التي شكلت إضافاته المتميزة لعلم الاجتماع في العصر الحديث، والتي تعتمد عليها نظريته الاجتماعية التي تشكل حجر الزاوية التي بنى عليها دراسته للذائقة الفنية وا لحقل الثقافي.

بيير بورديو.. مساره المهني ونظريته الاجتماعية

محمد أعراب

يعد بيير بورديو Pierre Bourdieu أحد علماء الاجتماع الفرنسيين الأكثر أهمية خلال النصف الثاني للقرن العشرين، والذي أصبح في نهاية حياته، بفضل التزامه العمومي أحد الفاعلين الرئيسيين في الحياة الثقافية الفرنسية. لقد مارس فكره تأثيرا عميقا في العلوم الإنسانية والاجتماعية وبصفة خاصة في السسيولوجيا الفرنسية غداة الحرب العالمية الثانية إنها «سسيولوجيا الكشفsociologie de dévoilement « التي كانت موضوع عدة انتقادات خاصة فيما يخص نزعتها الحتمية الاجتماعية  le déterminisme socialeوالتي كان يدافع عنها. لقد طغى على عمله السوسيولوجي تحليل ميكانيزمات إنتاج التراتبيات الاجتماعية hiérarchies sociales  reproduction des

يلح  بورديو على أهمية العوامل الثقافية والرمزية في "إعادة الإنتاج" هده وينتقد الأسبقية التي أعطيت للعوامل الاقتصادية في التصورات الماركسية. فهو يؤكد على أن قدرة الفاعلين في موقع السيطرة على فرض إنتاجاتهم الثقافية والرمزية، تلعب دورا أساسيا في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية للسيطرة. إن ما يدعوه بورديو بالعنف الرمزي والذي يعرفه بوصفه "القدرة على عدم التجاهل" الاعتباطي لهذه الإنتاجيات الرمزية وبالتالي قبولها بكونها مشروعة، تحظى بأهمية كبرى في تحليله السوسيولوجي. إن العالم الاجتماعي le monde sociale في المجتمعات المعاصرة، يبدو بالنسبة لبيير بورديو وكأنه منقسم وموزع إلى "ميادين" أو حقول des champs يبدوا له، بالفعل، أن تمايز واختلاف الأنشطة الاجتماعية la différenciation قد أدى إلى تكون فضاءات اجتماعية تحتية،des sous espaces sociaux كالحقل الثقافي أو الحقل السياسي المتخصصين في إنجاز نشاط اجتماعي معين.هذه الحقول لها استقلالها الذاتي النسبي بالنسبة للمجتمع في كليته، إنهم يوجدون بكيفية تراتبية، ويستمدون حيويتهم من التنافس بين الفاعلين الاجتماعيين، من أجل احتلال مراكز مهيمنة أو مسيطرة. وهكذا، على غرار المحللين الماركسيين يؤكد بورديو على أهمية النضال والصراع في صيرورة المجتمع. ولكن بالنسبة له، هذه الصراعات، تجري وتتم قبيل كل شيء في مختلف الحقول والميادين الاجتماعية. إنها تجد مصدرها في التراتبيات القائمة، وتجد أساسها في التعارض بين الفاعلين السائدين والمسيطرين، والفاعلين المسودين أو المسيطر عليهم. بالنسبة لـ"بورديو"، إن الصراعات لا تختزل فقط في الصراعات بين الطبقات الاجتماعية، والتي يتمركز حولها التحليل الماركسي.

كما أن بيير بورديو قد طور أيضا نظرية théorie d'action، انطلاقا من مفهوم الأبيتوس habitus والذي مارس تأثيرا قويا في العلوم الاجتماعية. هذه النظرية تريد أن توضح أن الفاعلين الاجتماعيين يطورون استراتيجيات، تقوم على أساس عدد صغير من الاستعدادات المكتسبة عن طريق التنشئة الاجتماعية، والتي،بغير وعي يتم تكييفها، طبقا لضرورات العالم الاجتماعي.إن عمل "بورديو" يقوم على أساس مجموعة من المفاهيم الرئيسية : الأبيتوس habitus باعتباره مبدأ للعمل بالنسبة للفاعلين، و"الحقل" كفضاء للتنافس الاجتماعي  espace de competition ومفهوم العنف الرمزي la violence symbolique كآلية أولى لفرض علاقات السيطرة.

1. السيرة الذاتية  Biographie
ولد " بيير بورديو" سنة 1930 في البرانس، المحيطية Pyrénées Atlantique بقرية صغيرة في Bearn  ينتمي أبوه إلى طبقة الفلاحين الصغار، بدأ يشتغل كعامل زراعة، ثم أصبح موزع البريد، دون أن يغادر وسطه القروي. وكانت أمه بدورها تنتمي إلى نفس الطبقة تقريبا، وكان الطفل الوحيد في أسرته.

الدراسة:
درس بيير بورديو بثانوية lycée لويس بارطو lycée Louis-Barthou وعاش بالقسم الداخلي، لقد أثار انتباه أحد أساتذته،وهو خريج المدرسة العليا للأساتذة بباريس Ens de Paris. والذي نصحه بأن يلج ويسجل بالأقسام التحضيرية ب "كان" khâgne" ب ثانويةLycée Louis-la Grand  بباريس سنة 1948. لقد تم استقباله بالمدرسة العليا للأساتذة بزنقة أولم  rue d'ulmسنة 1951، حيت التقى بأصدقائه القدامى. من بينهم جاك دريداjacques Derrida  ولويس مران louis Marin في الوقت الذي كانت فيه الساحة الفلسفية الفرنسية تشهد هيمنة فلسفة جون بول سارتر والوجودية نجد " بورديو على غرار العديد من خريجي المدرسة العليا للأساتذة من جملة les Normaliens، الذين فضلوا التوجه نحو دراسة التيارات السائدة les courants dominés في الحقل الفلسفي ألا وهو حقل تاريخ الفلسفة القريب من تاريخ العلوم وهو التيار الذي يمثله Martial Guéroult وJules" vuillemin  والابستيميولوجيا التي يمثلها غاستون باشلارGaston Bachelard  ناقش" بيير بورديو".سنة 1953، بحثه المعنون "les animadversions "Leibniz تحث أشراف Henri Gouli  بالموازاة مع ذلك كان يتابع دروس "إيريك فايلEric Weil  بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا حول فلسفة الحق عند هيجل"l'Ecole pratique des  Hautes études sur la philosophie du droit de Hegel  وعندما حصل على شهادة المتريز سنة 1954 في الفلسفة سيسجل عند الأستاذ جورج كانجيلم من أجل تحضير أطروحة في الفلسفة حول "البنيات الزمنية للحياة الانفعالية،" والتي سيتخلى عنها سنة 1957 لكي يهتم بالدراسات الأنتربولوجية الميدانية. الامر الذي يعد نوعا من التراجع في سلم المواد في الحقل الأكاديمي.

البداية المهنية:
عين جورج كانجيليم تلميذه "بورديو" بالقرب من باريس كأستاذ في ثانوية مولانlycée des moulins  سنة 1955-1954. ولكن بيير بورديو كان ينبغي عليه أن يؤدي خدماته والتزاماته العسكرية أولا (الخدمة العسكرية). وبعدما رفض متابعة تكوينه كطالب ضابط احتياط، تم إلحاقه بالمصلحة النفسية للجيش بـ"فرساي"، حيث سيتم تعيينه لأسباب تأديبه، ويتم ترحيله مع مجموعة من الشباب المجندين إلى الجزائر. حيث سيقضي الخدمة العسكرية لمدة سنتين. ونظرا لقدراته التحريرية، سيتم تعيينه بمصالح الإقامة العامة بالجزائر تحث إمرة  robert lacoste ومن سنة 1958 إلى 1960، سيعمل مساعدا بجامعة الجزائر (كلية الآداب).

الجزائر: الانتقال إلى السسيولوجيا:
كانت هذه المرحلة الجزائرية حاسمة. حيث هنا تبدأ فصليا مهنته كعالم اجتماع. لقد تخلى عن جميع القضايا الخادمة للفلسفة وستقود سلسلة من الأعمال والدراسات في "الأثنولوجيا" في الجزائر. والتي مكنته من كتابة عدد من المؤلفات. لقد قادته بحوثه الأولى إلى منطقة "القبائل" و"منطقة كولو
kabyle et kolo  والتي تعتبر قلاعا للحركة الوطنية حيث كانت تعيش في حالة المعركة والحرب. إن كتابه " سسيولوجيا الجزائر sociologie de l'Algérie  هو تركيب للمعارف الموجودة حول ثلاث جهات ثم نشرها في سلسلة ماذا أعرف؟ que sais-je? سنة 1958. بعد استقلال الجزائر، سينشر سنة 1963 "الشغل والعمال بالجزائر" وهي دراسة تكشف العمل المأجور وتكون البروليتاريا الحضرية في الجزائر. سنة 1964، سينشر مؤلفه "أزمة الفلاحة التقليدية بالجزائر"، وذلك بالتعاون مع صديقه الجزائري "عبد المالك صياد "و هو مؤلف يدرس هدم وتدمير الفلاحة والمجتمع التقليدي بالجزائر، وسياسة تجميع السكان من قبل الجيش الجزائري.

بعد عودته إلى فرنسا، سيستفيد بورديو  إلى حدود سنة 1964 من العطل الدراسية من أجل تجميع معطيات جديدة حول الجزائر الحضرية والقروية في تلك الحقبة. ورغم عودته إلى فرنسا، فإن الاهتمام بالحقل الأنتربولوجي لمنطقة القبائل بالجزائر لم يفتر ولم ينقطع، بل ظل يغدي الاهتمام والعمل الأنتربولوجي لبورديو. إن أعماله الرئيسية حول نظرية الفعل "مقدمة لنظرية في الممارسة  Esquisse d'une réflexion de la" pratiqueو"المعنى العملي "le sens pratique 1972 -1980 والتي كانت نتيجة لتأمله وتفكيره الأنثروبولوجي حول "المجتمع القبائلي التقليدي. ستكون الأسس التي انطلقت منها الكثير من أعماله التالية. فقد اعتمد بورديو في بحثه في الجزائر، إلى جانب أدوات بحث أخرى، على تقنية التصوير. لقد تم تقديم هذه الصور الفتوغرافية في أول معرض للمنوغرافيات، تم تنظيمه بمدينة Tours  الفرنسية سنة 2012.

باحث وجامعي : chercheur et universitaire
سيلتحق بورديو سنة 1960، بباريس لكي يصبح مساعدا لـ"ريمون أرون Raymond Aron بجامعة باريس. والذي بدوره سيعينه كاتبا لـ"مركز السسيولوجيا الأوروبية" وهي مؤسسة للبحث تم تأسيسها سنة 1959، وذلك بمساهمة مالية من قبل مؤسسة فورد la fondation Ford لكن المساعد الشاب، لـ"ريمون آرون" حصل على منصب أستاذ محاضر، بجامعة ليل  Lille الفرنسية وهناك سيلتقي بـ"ايريك فايل "Eric Weil وسيتعرف على المؤرخ " بيير فدال ناكي" وسيلتقي بصفة خاصة العالم اللغوي والهرمونوتيكي. جون بولاك Jean Bollack والذي سيصبح صديقا مخلصا له. وفي سنة 1962 سيتزوج  ماري كلير بريزار" Marie claire Brizard

المدرسة العليا لدراسات العلوم الاجتماعية Ecole des hautes études en sciences sociales
سنة 1964 سيلتحق بورديو بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا. ثم سنة 1975 مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في نفس السنة بدأ تعاونه مع صديقه "جون كلود باسرون"jean Claude Passeron والذي توج بنشر العمل المعنون " الوارثون "les Héritiers والذي حظي بنجاح كبير وساهم في تكوينه وحمله لقب "عالم اجتماع" بامتياز. ابتداء من سنة 1965 مع إصداره لكتاب" فن متوسط "بحوث في الاستعمالات الاجتماعية للصورة، متبوعا سنة 1966 بكتابه "حب الفن "l'amour de l'Art دشن "بورديو" سلسلة من الأعمال التي تهتم بالممارسات الثقافية، والتي حظيت بنصيب وافر من عمله السوسيولوجي خلال العشرية اللاحقة، والتي اختتمت بنشره سنة 1979 في (التمايز والاختلاف: النقد الاجتماعي للحكم) والذي يعد عمله الأكثر شهرة والأكثر أهمية في الحقل السوسيولوجي.و يعتبر من بين الأعمال العشرة الأولى الأكثر أهمية على الصعيد الدولي في القرن العشرين، حسب الترتيب الذي أعدته الجمعية العالمية للسسيولوجيا.

رئيس مركز البحث : Patron de centre de recherches
بعد أحداث ماي 1968، قطع "بورديو" علاقته مع "ريمون أرون" المفكر الليبرالي الذي كان يناهض الحركة الاجتماعية، وهكذا أسس سنة 1968 مركز سسيولوجيا التربية والثقافة le centre de sociologie de l'éducation et de la culture والذي أصبح جزءا من المركز السسيولوجي الأوروبي. في نفس السنة، سينشر رفقة "جون كلود شمبوردان".jean-claude chamberdon و"جون كلود باسرون "jean Claude passeron كتابه "مهنة السسيولوجي". وفي سنة 1985، أصبح بورديو مدير السسيولوجيا الأوروبية. إن استقبال أعمال "بيير بورديو"، قد تجاوزت حدود السسيولوجيا الفرنسية، وأصبحت أعماله تحظى باهتمام أوساط المؤرخين" الفرنكفونييينHistoriens Francophonie. لقد مكن الاعتراف الدولي "لبيير بورديو" أن يقوم بالعديد من الزيارات والأسفار، أحيانا رفقة أفراد أسرته، وإلقاء وتنظيم محاضرات خاصة في الدول الأنكلوسكسونية وفي اليابان وألمانيا، وسكاندينافيا.

كوليج فرنسا  collège de France
بفضل دعم
"André Miquel" أندري مايكل أصبح "بورديو" أستاذا في "كوليج فرنسا" سنة 1981. ويعد أول عالم اجتماع فرنسي يحصل على الميدالية الذهبية من "المركز الوطني للبحث العلمي". وهكذا يمكن لنا أن، نسجل إحدى المفارقات، والتي تكمن في كون الرجل الذي ما فتئ يعيش على هامش المؤسسات الأكاديمية الرسمية المساندة، والتي قام بدراسات نقدية حولها، مثلا في كتابه" الإنسان الأكاديمي" في الوقت الذي حقق فيه أفضل المسارات المهنية الجامعية الممكنة في فرنسا.

الإلتزام:
انطلاقا من بداية الثمانينات 1980، سينخرط "بورديو" أكثر في الحياة العامة. وهكذا سيساند مبدأ مشاركة وترشيح "كولوش" للرئاسة سنة 1987، " جول كولوش" ومفكرين فرنسيين، آخرين. لكن في سنوات التسعينات من القرن الماضي 1990، سينخرط بصفة كلية في الحياة العامة وسيتميز بحضوره كمثقف عضوي وملتزم. وسيساند المثقفين الجزائريين خلال الحرب الأهلية في الجزائر. خلال حركات نونبر ودجنبر 1995، سيساند ويدافع عن المضربين. إن محور التزامه يكمن أساسا في نقده لتوسع الليبرالية الجديدة وسياسات تفكيك مؤسسات الدولة.

2 النظرية الاجتماعية عند "بورديو : la théorie sociologique
تقديم
: عمل ذو مشارب متنوعة
يعد "بورديو" وريثا للسسيولوجيا الكلاسيكية، حيث قام وفق مقاربة شخصية عميقة بتركيب الخلاصات الأساسية، وهكذا حافظ على أهمية النقد الرمزي لكل سيطرة في الحياة الاجتماعية وكذلك فكرة الأوامر الاجتماعية والتي ستصبح في نظرية "بورديو" هي الحقول كما أخد مفهوم "الرأسمال" من كارل ماركس، الذي عممه على كل الأنشطة الاجتماعية، وليس فقط الأنشطة الاقتصادية
. وأخيرا، ورث من "إيميل دوركايم " Emile Durkheimنوعا من النزعة الحتمية (مبدأ السببية) كما تأثر بـ"مارسيل موس" وكلود لفي البنيوي كما لا يمكن أن نقلل من أهمية التأثيرات الفلسفية عند هذا الفيلسوف. بالتكوين. وخاصة تأثير "موريس ميرلو بونتي"Maurice Mérlou-Ponty ومن خلاله "فينومنولوجيا هوسرل  la phénoménologie de Hesserlوالتي لعبت دورا أساسيا في تفكير "بورديو" حول الجسد، ومتطلبات الفعل والحس العملي، وبعبارة أخرى في تعريف المفهوم المركزي "للأبيتوس" Habitus كما أن "فينتجنشتاين" يعد مصدر إلهام جد مهم بالنسبة "لبوريو" لقد تم ذكره في مِؤلفه" مقدمة لنظرية في التطبيق" سنة 1971 كما في نهاية حياته علاقة نظريته الاجتماعية بفلسفةPascal"   باسكال."

بنيوية بنائية أو بنائية بنيوية:
لقد شيد بورديو صرحه السسيولوجي، انطلاقا من إرادة صريحة من أجل تجاوز التعارضات والتناقضات القائمة والمؤسسة للعلوم الاجتماعية (الذاتية-الموضوعية/ميكرو -ماكرو/ حرية -حتمية) خاصة بابتكار مفاهيم جديدة: "الأبيتوس" "الرأسمال" ومفهوم "الحقل" التي تم نحتها واستعمالها من أجل هدم كل التعارضات. وهكذا نجده في كتابه "choses dites" الأشياء التي تم قولها،" يقترح أن يطلق اسم " البنيوية البنائية" أو "البنائية البنيوية "على نظريته السسيولوجية. وتتجلى في هذه التعابير الإرادة من أجل تجاوز التعارضات المفاهيمية المؤسسة للسسيولوجيا: وبصفة خاصة، هنا التعارض بين البنيوية التي هي خضوع الفرد لقوانين بنيوية، والبنائية التي تجعل من العالم الاجتماعي نتاجا للفصل الحر للفاعلين الاجتماعيين، كما أن" بورديو" يريد كذلك أن يؤكد أن العالم الاجتماعي مكون من بنيات تم بنائها من قبل الفاعلين الاجتماعيين، حسب موقف البنيويين.

المفاهيم الأساسية:
يتكون إنتاج "بورديو" الغني من أكثر من ثلاثين كتابا، ومئات المقالات، هذا الإنتاج الخصب يعالج العديد من المواضيع الأمبيريقية، والذي ينتظم حول بعض المفاهيم المركزية.

- مركزية "الأبيتوس"، كمبدأ للفصل بالنسبة للفاعلين في العالم الاجتماعي.

- عالم اجتماعي موزع إلى حقول أو ميادين تشكل أماكن للمناقشة، مشيدة ومبنية على أساس رهانات خاصة.

- عالم اجتماعي يلعب فيه العنف الرمزي، دورا أساسيا.

- إنتاج "بورديو" ينتهي في النهاية إلى بناء نظرية في المجتمع والجماعات، الاجتماعية التي تكونه، والتي تتوخى توضيح ما يلي:

1. كيفية تكون وتشكل التراتبيات بين المجموعات الاجتماعية.

2. كيف أن الممارسات الثقافية تحتل دورا حاسما من أجل إعادة إنتاج وشرعنة هذه التراتبيات الاجتماعية: نظرية المجال الاجتماعيune théorie de l'espace sociale.

الأبيتوس:
ينبغي البحث عن أصل هذا المفهوم، في الفكر "السكولائي" لـ"طوماس الأكويني" الذي استعمل مفهوم "الأببيتوس" من أجل ترجمة مصطلح
d'Hexis. يتوخى "بورديو" من استعماله لمفهوم "الأبيتوس" التفكير في العلاقة بين التنشئة الاجتماعية وأفعال الأفراد. فالأبيتوس" يتكون عمليا، من مجموع الاستعدادات، وخطاطات الفعل، أو تصورات الفرد التي اكتسبها عبر تجربته الاجتماعية من خلال التنشئة الاجتماعية، ثم من خلال المسافة الاجتماعية، كل فرد يختزن ويكتسب مجموعة من طرق التفكير، والإحساس، وطرق العمل والتصرف والتي تبقى دائمة.. ويعتقد "بورديو" أن هذه الاستعدادات هي مصدر كل الممارسات المستقبلية للأفراد.

إن "الأبيتوس"، هو أكثر من مجرد شرط يقود إلى إعادة إنتاج بكيفية آلية، ما اكتسبه الفرد. إن "الأبيتوس" لسبب مجرد عادة ننجزها بكيفية آلية، إن هذه الاستعدادات هي بمثابة النحو بالنسبة للغة الأم، بفضل هذا النحو الذي اكتسبناه عن طريق التنشئة الاجتماعية، يمكن للفرد أن يكون عددا لا نهائي من الجمل لمواجهة كل الوضعيات إنه لا يعيد دوما نفس الجملة، إن استعدادات الأبيتوس هي من نفس الصنف، إنها خطاطات للتصور والفعل تسمح للفرد أن ينتج مجموعة من الممارسات الجديدة تتوافق مع العالم الاجتماعي الذي يوجد فيه. إنه هو مصدر المعنى أو حس عملي.

و يعرفه "بورديو" كما يلي: «بنيات تم بناؤها مستعدة لكي تشتغل كبنيات مشيدةDes structures structurées prédisposées à fonctionner comme structures structurant". إذا كانت هذه الاستعدادات، تكون نظاما، فإن "الأبيتوس "هو مصدر وحدة أفكار وأفعال كل فرد. ولكن إذا كان هؤلاء الأفراد، ينتمون إلى نفس الجماعة الاجتماعية، وعاشوا تنشئة اجتماعية متشابهة فإنها تفسر تشابه وتطابق طرق تفكيرهم وإحساسهم، وطرق تصرفهم وعملهم. لكن هذا لا يعني أن استعدادات "الأبيتوس" جامدة : إن المسافة الاجتماعية للأفراد يمكن أن تؤدي إلى تغير وتعديل جزئي في "الأبيتوس.

الخصائص العامة للأبيتوس:
تتصف المقتضيات المكونة "للأبيتوس"، بخاصية أولى وهي كونها دائمة ومستمرة ومن أجل التفكير في هذه الاستمرارية التي يتصف بها "الأبيتوس"، يدخل "بورديو" مفهوم d'hystérise de l'Habitus  هذا المفهوم الذي يقصد به أن الفاعل الذي يتلقى تنشئة اجتماعية في عالم اجتماعي يحتفظ وبكيفية واسعة، على شكل الاستعدادات والمتطلبات، رغم كونها لم تعد تتوافق فيما بعد، نتيجة مثلا لتطور تاريخي مباغت، كثورة مثلا، عملت على غياب ذاك العالم الاجتماعي.

قابلية الابيتوس للنقل  Transposabilité de l'Habitus
إن مقتضيات واستعدادات "الأبيتوس" تتصف أيضا بكونها قابلة للنقل. يريد "بورديو" من خلال هذه الخاصية، أن يصرح أن الاستعدادات والمتطلبات المكتسبة في نشاط اجتماعي معين، مثلا في أحضان الأسرة، يمكن نقلها إلى نشاط أخر، مثلا إلى العالم المهني. إن خاصية نقل المتطلبات والاستعدادات، يرتبط بفرضية أخرى: إن استعدادات ومتطلبات الفاعلين مترابطة فيما بينها ومتوحدة. تعد هذه الفرضية، هي مركز مؤلفه، والذي يحاول فيه أن يوضح أن مجموع سلوكيات الفاعلين تتداخل فيما بينها، بواسطة نمط مشترك وله علاقة خاصة بالبنية الاجتماعية. يؤكد "بورديو" وجود أنماط عيش قائمة على أساس مواقع طبقات اجتماعية مختلفة، وهكذا يوضح الصلة التي تربط جميع الممارسات الاجتماعية للعمال. وهكذا يشرح علاقة موقف العمال من التغذية، ونظرتهم إلى الفن. فالتغذية والغذاء حسب العمال، يجب أن يكون دسما أو مغذيا، كما أن الفن ينبغي ألا يكون تجريديا، بل واقعيا وعمليا، ويعود بالنفع. "بورديو" يجد هذه الصفة خاصة في نفعية وصلاحية اللباس الذي يحمله العمال، والذي يتميز بكونه لباس وظيفي، دون الاهتمام مثلا بالأناقة  l'élégance بالنسبة لبورديو فإن نمط عيش العمال يقوم على أساس إعطاء الأهمية للجوهر، بما هو أساسي بدل الشكل أو الصورة في جميع الممارسات الاجتماعية. ويرى ""بورديو" في هذا النمط من العيش لدى العمال، نوعا من التأثير الذي تمارسه’ متطلبات واستعدادات الأبيتوس عند العمال والتي هي نفسها نتاج لنمط حياتهم.إن حياة العمال، تقع تحت ضغط الحاجة، وفي غياب الموارد الاقتصادية. ولهذا فهي تلتقي مع الاستعدادات والمتطلبات التي يغلب عليها البحث عما هو نافع وضروري.

الخاصية العامة للأبيتوس:
يؤكد "بورديو" في العديد من النصوص على الخاصية العامة "للأبيتوسgénérateur  هذه البنية المبنية مستعدة للاشتغال كبنية بناءة تتصف بالفعل بكونها هي أصل كل الممارسات الممكنة. انطلاقا من عدد محدد من الاستعدادات والمقتضيات يصبح "الفاعل" قادرا على خلق واختراع العديد من الاستراتيجيات،شبيهة بوضعية النحو بالنسبة للغة -الفرنسية مثلا - مجموعة من القواعد تسمح للناطقين باستعمال ما لا نهاية من الجمل، في كل حالة.

الحس العملي : sens pratique
يرتبط مفهوم "الأبيتوس"، وخاصة طابعه العام générateur بمفهوم أخر، أو خاصية أخرى وهي "الحس العملي" يقصد به، "بورديو" أن الأبيتوس، الذي هو انعكاس للعالم الاجتماعي سمح للفاعلين، أن يستجيبوا ويردوا مباشرة، بدون تفكير على الأحداث التي تواجههم. وهكذا على طريقة لاعب المضرب، الذي اكتسب منطق لعبته، يجري نحو المكان الذي ستسقط فيه الكرة، التي رماها خصمه، دون أن يفكر في ذلك. فالفاعل بدوره، سيتصرف بنفس الطريقة في العالم الاجتماعي الذي يعيش فيه، حيث يطور بواسطة "الأبيتوس" استراتيجيات حقيقية لا واعية مناسبة لمتطلبات هذا العالم. وهكذا فالمبدأ الأساسي لاستراتيجيات هذا الحس العملي أو حسب تعبير الرياضيين، حيث اللعبة الذي يتم اكتسابه عن طريق التجربة.

ويوسع "بورديو" نقده برفضه للنزعة النفعية لنظرية الفاعل العقلاني: إن الفائدة لا تنحصر حسب "بورديو،" في الفائدة المادية. إنه الاعتقاد الذي يجعل الأفراد ينظرون إلى نشاط اجتماعي، أنه له قيمة وأهمية وستتحقق ممارسته وإنجازه ومتابعته. لهذا يوجد العديد من أنواع الفائدة، كما يوجد العديد من الحقول الاجتماعية.. فكل مجال اجتماعي يقترح على الفاعل، رهانا خاصا. ولهذا فالفائدة التي يجري ورائها رجال السياسة، ليست هي نفسها التي يسعى إليها رجال الأعمال والمال. ويعتقد البعض، أن السلطة هي المصدر الأساسي للنفع والأهمية. في حين أن الثراء الاقتصادي هو الدافع الأول بالنسبة لرجال الأعمال. وهكذا اقترح "بورديو" أن يضع مفهوم "illusion"  الوهم والاعتقاد" مقابل مفهوم " المصلحة "intérêt".بناءا على هذا المفهوم، فهو يقصد أنه ليس هناك "فائدة" دون وجود اعتقاد أو عقيدة أو"وهم" وكما يسجل بورديو الوهم أو l'illusion  هو أن يجد الإنسان نفسه داخل اللعبة، ويعتقد أن اللعبة تستحق بالفعل ذلك الجهد والعناء، وتستحق أن نلعب اللعبة. في حين أن هذا "الوهم" قد تم اكتسابه عن طريق التنشئة الاجتماعية، لهذا فالأهداف الاجتماعية والأغراض الاجتماعية، هي في نهاية الأمر، معتقدات تم ترسيخها واكتسابها، وأصبحت لها الصلاحية، هذا الاعتقاد، يصبح أكثر قوة، بصفة خاصة حسب بورديو لدى الذين ولدوا في هذا الحقل الإجمالي، أي أنهم أبناءه، والذين يملكون الخصائص المميزة، المطلوبة أكثر في هذا العالم الاجتماعي، والتي تتيح النجاح.

في أصول مفهوم الأبيتوس:
الابيتوس مفهوم، تم بناؤه في نهاية سنوات الثمانينات من القرن الماضي، وظهر أول مرة في مؤلف "مقدمة لنظرية في الممارسة" سنة 1972، وتم تطويره في كتاب "الحس العملي" سنة 1980. وكان هذا المفهوم يهدف إلى تجاوز المفهومين: "الفاعل أو الذات "و "الفعل" اللذين كانا سائدين في الأوساط الفكرية الفرنسية. هذان المفهومان يعارضان النظريات المستمدة من "الظاهراتية la phénoménologie وبصفة خاصة من وجودية "جون بول سارتر" التي كانت تجعل من الحرية محور الفعل المطلق بالنسبة للفاعل أو الذات سلوكا كاملا تحكمه قواعد موضوعية.

في مواجهة الوجودية، أراد بورديو أن يعطي قدرة للفعل المستقل بالنسبة للفاعل، دون أن يمنحه تلك الحرية التي تمنحه إياها الوجودية. إن الحل الذي يقدمه "بورديو" يكمن في اعتبار الفاعل قد اكتسب في مختلف ضروريات التنشئة الاجتماعية التي مر بها، واختزن خاصة في تنشئته الأولى مجموعة من مبادئ العقل، التي هي انعكاسات لبنيات موضوعية للعالم الاجتماعي الذي يعيش فيه، والتي أضحت بالنسبة للفرد أو الفاعل "متطلبات واستعدادات دائمة وقابلة للنقل" حسب إحدى التعاريف التي يقدمها "بورديو" للأبيتوس". وهكذا فالفاعل يتصرف وفق ذاته، على خلاف الذات أو الفاعل البنيوي الذي كان يحين القواعد، ولهذا ففعله هو نتاج لاستراتيجيات لا واعية يطورها... إن هذه الاستراتيجيات تتكون انطلاقا من الاستعدادات والمتطلبات التي راكمها الفاعل. في عمق الفعل، نجد إذن مجموع هذه الاستعدادات التي تكون "الأبيتوس". إن فعل أو عمل الأفراد هو إذن حسب نظرية "بورديو" فيه، والذي يطيح مجموع الاستعدادات فيهم، والتي يستطيع بدورها مجموع طرق تفكيرهم وإدراكهم، وطرق تصرفهم وردود فعلهم.

في أصل نظرية الحس العملي:
منذ أواسط سنوات الستينات، اهتم "بورديو" بحقل أو ميدان دراسات القرابة التي تحظى باهتمام كبير من طرف الأنتربولوجيا الكلاسيكية. وسيكون هذا أول ورشة للنقد الراديكالي للنزعة الموضوعية التي كانت سائدة في "الانتروبولوجيا". ولقد سجل قطيعة مع النزعة النفسية في تفسيره للقواعد والمفاهيم التي تحكم الممارسة العملية والاجتماعية. وذلك عندما شيد وهي نظرية تستمد أصولها من الحس العملي. لقد كانت دراساته الأثنوغرافية في "القبائل" وكذلك في Bearn (قريته التي ولد فيها) مناسبة لاقتراح مفهوم جديد، وهو إستراتيجية مزدوجة.stratégie matrimonial يقول لنا "بورديو" أن الفرد الاجتماعي هو "فاعل" تحركه فائدة معينة، أو مصلحة شخصية أو جماعية (جماعته- أسرته) في إطار تم بناؤه من قبل "الأبيتوس" بمعنى انطلاقا من مجموعة محدودة من المبادئ المعيارية، التي تطابق وضعا اجتماعيا ووضعية مادية، فإن الفاعل يعد الإستراتيجية التي تخدم أهدافه بكيفية أفضل إذا طبقت هذه النظرية الفكرية في حقل القرابة، فإنها تبين لنا كيف أن الأفراد يقومون باختيار حاسم عند الزواج، بهدف المحافظة أو تحسين الوضعية الاجتماعية، للأسرة حسب بورديو.

نظرية الحقول أو الميادين:
يعرف "بورديو" المجتمع بأنه "حقول أو ميادين متداخلة". حقل اقتصادي، حقل سياسي، ثقافي، فني، رياضي وديني. كل حقل منظم حسب منطق خاص، له رهاناته الخاصة ونقط القوة التي تحكمه كما أن التفاعلات تبنى وتحصل على أساس هذه الرهانات ونقط القوة والموارد التي يعبئها كل "فاعل". أي حسب تعبير "بورديو" أي الرأسمال الذي يوظفه، سواء كان رأسمالا ماديا، اقتصاديا، أو ثقافيا، اجتماعيا أو رمزيا.

الحقل هو مجال اجتماعي، حيث يتوفر لكل المشاركين نفس المصالح والفوائد أو الأغراض. بالإضافة إلى أن لكل واحد من هؤلاء، أغراض ومصالح خاصة وشخصية داخل الحقل. لكل حقل قواعده الخاصة، ولكن يمكن أن نجد بعض القواعد العامة : صراعات بين القدامى والجدد، الكل يقبل تحدياته ورهانات الحقل واستمراريتها وبقائها.

العنف الرمزي : la violence symbolique
إن مفهوم العنف الرمزي، يقودنا إلى استيعاب من قبل وكلاء أو فاعلي السيطرة الاجتماعية المتأصلة في المكانة التي تكونها في حقل محدد، وبشكل عام، مرتبط ومتأصل في وضعيتهم الاجتماعية، هذا العنف اللاوعي والذي يقوم على أسس بين الأفراد (فرد على فرد أخر) ولكن على أساس هيمنة بنيوية (المكانة أو وضعية على حساب وضعية أخرى). هذه البنية التي تتحدد انطلاقا من "الراسميل " les capitauxالتي يملكها الوكلاء أو الفاعلون، تنتج العنف، دون إدراك من الوكلاء أنها مصدر الاحساس بالدونية. فالعنف الرمزي يجد أساسه وعمقه في شرعنه الخطاطات المرتبطة بالترابية الخاصة بالجماعات الإجمالية.

نظرية المجال الاجتماعي:
أقام "بورديو" وشيد في مؤلفه "التمييز" نظرية في المجال الاجتماعي، تتقاطع مع تقاليد الفكر الماركسي و"الفيبري ".wébérien"

 تتوخى هذه النظرية تفسير مل يلي:

1. منطق تكون وتشكل الجماعات الاجتماعية انطلاقا من أنماط تراتبية المجتمعات.

2. أنماط الحياة والصراعات التي تخوضها عند الجماعات الاجتماعية.

3. شروط إعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية والجماعات الاجتماعية.

التراتبية وإعادة إنتاج الجماعات الاجتماعية
يقترح ويقدم "بورديو" في مؤلفه "التمييز " la distinctionنظرية أصيلة في تراتبية الفضاء الاجتماعي، انطلاقا من قراءة جديدة "لماكس فيبر". هذه النظرية تتعارض مع التقليد الماركسي الذي يرى ويؤكد أن بناء المجتمعات يتم اعتمادا وأساسا على صيرورات وعمليات الإنتاج الاقتصادي. وهكذا في ما يطلق عليه الماركسيون بنمط الإنتاج، فإن الإنتاج يشيد ويقام على أساس علاقات الإنتاج التي يتعارض فيها المنتجون المباشرون ومالكو وسائل الإنتاج. وهكذا فالرأسمالية تنشئ طبقتين اجتماعيتين العمال والبورجوازية العمالية. هاتان الطبقتان تدخلان في صراع. البرجوازية حسب الماركسية تستغل العمال. إن الإنتاج الاقتصادي يبني هكذا مجتمعا بتكوينه وتشكيله طبقات اجتماعية متصارعة.

يرفض "بورديو" هذه النظرية في المجال الاجتماعي. وهكذا فهو يؤكد بعد "ماكس فيبر" أن المجتمعات لا يتم بناؤها فقط انطلاقا من منطق اقتصادي واعتبارات اقتصادية. يقترح "بورديو" أن يضيف إلى الرأسمال الاقتصادي ما يسميه بالرأسمال الثقافي. يبدو له أنه في مجتمعاتنا المعاصرة، تلعب الموارد الثقافية المتنوعة التي يملكها الفاعلون الاجتماعيون، دورا أساسيا في مواقعهم الاجتماعية وأوضاعهم. مثلا الوضع الاجتماعي للفرد بالنسبة "لبورديو" يتحدد بناء على الدبلوم والشهادة التي حصل عليها، أكثر من الثروة الاقتصادية التي ورثها. وهكذا فان "بورديو" يشيد نظرية في المجال الاجتماعي، لها بعدان، وتتعارض مع النظرية الماركسية ذات البعد الواحد. البعد الأول يتكون من الرأسمال الاقتصادي الذي يملكه الفرد، والبعد الثاني من الرأسمال الثقافي. إن الفرد يتموقع ويحتل مركزا في المجال الاجتماعي بناءا على المجموع الكلي للرأسمال الاقتصادي والثقافي الذي يملكه. ولكن طبعا مع الأهمية النسبية لكل واحد من هذين البعدين أو النوعين من الرأسمال من حجمه الكلي. مثلا من بين الأفراد اللذين يملكون رصيدا كبيرا عن رؤوس الأموال ويشكلون طبقة مسيطرة في المجتمع. نجد "بورديو" يضع في تعارض وتقابل أولئك الذين يملكون كثيرا من الرأسمال الاقتصادي وقليلا من الرأسمال الثقافي (البرجوازية الصناعية أساسا) مقابل الأفراد الدين يملكون رأسمال ثقافي كبير ولكن عندهم رأسمال اقتصادي قليل (الأساتذة الجامعيون مثلا). ويلح ويؤكد "بورديو" على أن تصوره ونظريته في المجال الاجتماعي هي علائقية. إن وضعية ومكانة أي فرد لا توجد في حد ذاتها ولكن بالمقارنة مع كمية من الرأسمال الذي يملكه الفاعلون أو الأفراد الآخرون.

من جهة أخرى إذا كان "بورديو" يعتقد ويرى أن الرأسمال الاقتصادي والرأسمال الثقافي هما نوعان، من الموارد التي تكون وتبني بصفة أكثر المجتمعات المعاصرة فإنه يترك دورا لكل نوع آخر من الموارد التي بإمكانها حسب كل مجتمع خاص أن تحتل مكانة محددة وفاعلة في تشكل وتكون التراتبية الاجتماعية. إن "بورديو" انطلاقا من هذه النظرية الخاصة بتراتبية المجتمع، يريد أن يفهم كيف تتكون الجماعات الاجتماعية. على خلاف الماركسيين، لا يعتقد "بورديو" أن الطبقات الاجتماعية توجد هكذا بذاتها; وبشكل موضوعي; طبقا للتصور الذي يوصف بكونه واقعي. أظهرت العديد من الدراسات ; أن بعض الأفراد يمكن اعتبار أنهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة أو الراقية أكثر من تلك التي حددناها انطلاقا من تعريف موضوعي. يعتقد "بورديو" أن جزءا كبيرا من العمل السياسي يتحدد في تعبئة الفاعلين الاجتماعيين، والعمل على جمعهم في جماعات، بصفة رمزية من أجل خلق شعور بالانتماء، و بالتالي تكوين طبقات اجتماعية معبئة.

مجال أنماط الحياة والنضالات الرمزية:
يرى "بورديو" أن أنماط الحياة بالنسبة للأفراد، هي انعكاس لوضعهم الاجتماعي. وهكذا فان "بورديو" يعمل جاهدا لكي يظهر ويكشف ترابطا قويا بين انماط العيش والإحساس والتصرف و الأذواق بصفة خاصة مع المكانة التي يحتلها الأفراد في التراتبية الاجتماعية. هذا الترابط بين الوضعيات والمكانات الاجتماعية والممارسات الاجتماعية، يوضحها "بورديو" بتبيان يطابق بين كل مجال لأوضاع اجتماعية، ومجال لممارسات اجتماعية ثقافية وسياسية. و"الابيتوس" هي وساطة من الوساطات الأساسية لهذا الترابط. إن الأفراد يكتسبون عن طريق عيشهم، ضمن نمط حياة، محدد تصرفات ثقافية محددة.

وهكذا فالعمال، المحكوم عليهم بنمط حياة تغلب عليه الحاجة الاقتصادية، لهم تصور وظيفي للتغذية. حيث ينبغي أن تكون قبل كل شيء مغذية، أو الفن الذي يجب إن يكون واقعيا.                                                     و ينظرون إلى أجسامهم باعتبارها آلة ينبغي دعمها عن طريق ممارسة الرياضة التي تزيدهم قوة عضلية وفيزيائية. يعتقد "بورديو" أن جزءا من الصراع بين الجماعات الاجتماعية’ يأخذ شكل وصورة صراع رمزي. إن أفراد الجماعات المسودة، تعمل ما في وسعها من أجل تقليد الممارسات الثقافية للجماعات الاجتماعية السائدة تحظى بقيمة اجتماعية. ونظرا لكون هده الطبقات والجماعات المسيطرة تتميز بإحساسها تجاه هذا التقليد والمحاكاة ’فإنها بدورها تعمل على تغيير ممارساتها الاجتماعية وتبحث عن ممارسات تتميز بالندرة- تمكن من المحافظة على تميزها الرمزي. إن هذه الجدلية بين رفض المحاكاة والبحث عن ممارسات نادرة ومتميزة حسب "بورديو" هي الأصل في تغير وتطور الممارسات الثقافية. لكن في هذه الصراعات والنضالات الرمزية فان الطبقات المسيطر عليها هي الخاسرة باعترافها بالتميز الثقافي دون القدرة على إعادة إنتاجه. إن المجال الاجتماعي بالنسبة لـ"بورديو" هو فضاء ومجال علائقي. لا يمكن أن توجد أذواق مبتذلة في حد ذاتها وإذا وجدت فهذا يعني في المقابل، وجود أذواق أخرى متميزة. ان لعبة "الكلف" لا يمكن اعتبارها لعبة مميزة إلا بوجود أنواع أخرى من الرياضات ككرة القدم مثلا. لهذا فإن التميز في الممارسات الاجتماعية يتغير مع الزمن وخاصة مع توظيفها واستعمالها من قبل الطبقات الاجتماعية الدنيا.

إعادة إنتاج التراتبات الاجتماعية :
يتم إعادة إنتاج النظام الاجتماعي حسب "بورديو" وفق عمليتين عن طريق إعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية، وعن طريق إضفاء الشرعية على إعادة الإنتاج هذه. إذ يرى "بورديو" أن النظام التعليمي يلعب دورا مهما في إعادة الإنتاج داخل المجتمعات المعاصرة. وهكذا يعد ويشيد "بورديو" نظرية في التعليم التربوي تهدف إلى توضيح ما يلي:

1. ان النظام التعليمي يقوم بتجديد النظام الاجتماعي وذلك عن طريق تمكينه الأطفال الأعضاء المنتمين للطبقة السائدة المسيطرة من الحصول على شهادات ودبلومات. تسمح لهم وتؤهلهم لتبوء والوصول إلى المناصب والمواقع الاجتماعية السائدة والمسيطرة في المجتمع.

2. إن النظام التعليمي يضفي شرعية على هذا التراتب والتصنيف المدرسي والتعليمي للأفراد. وذلك بإخفائه الأصل الاجتماعي، وان يجعل منه على العكس من ذلك نتائج لخصائص وسمات حضرية للأفراد طبقا لـ"ايديولوجية الموهبة ".l’idéologie du don”.

في كتابه "إعادة الإنتاج  la reproductionيسعى بورديو رفقة كلود باسرون  Claude Passeron إلى توضيح أن النظام التعليمي يمارس سلطة العنف الرمزي. التي تساهم في إضفاء الشرعية على علاقات القوى التي هي مصدر التراتبيات الاجتماعية. كيف تتم هذه العملية؟ يرى أنه لاحظ إن النظام التعليمي يعمل على نقل المعارف القريبة من الإفراد المنتمين إلى الطبقة السائدة. وهكذا يصبح لأطفال الطبقة السائدة رأسمال ثقافي يمكنهم من التوافق والتأقلم بسهولة أكثر للمتطلبات الدراسية وبالتالي إمكانية النجاح في مسارهم الدراسي. وهذا حسب "بورديو" يسمح بإضفاء الشرعية على إعادة الإنتاج الاجتماعية. كما ان السبب في النجاح المدرسي لأعضاء الطبقة السائدة يصبح مقنعا. وتتم ترقيتهم بواسطة شهاداتهم ودبلوماتهم إلى مواقع اجتماعية مسيطرة وسائدة.

يتم تكريس عملية إعادة الإنتاج هذه حسب "بورديو" بواسطة فكرتين أساسيتين. من جهة اعتقاد أن المدرسة محايدة وأن معارفها مستقلة كليا. حيث لا يتم اعتبار المدرسة باعتبارها أداة لترسيخ ونقل تراكم ثقافي ينتمي إلى ثقافة الطبقة السائدة والمسيطرة اجتماعيا أي البرجوازية. مما يضفي الشرعية على هذه التصنيفات. ومن جهة أخرى، اعتبار أن النجاح المدرسي أو الفشل أمران مرتبطان بالموهبة ويرجع إلى طبيعة الأفراد. إن الفشل الدراسي الذي هو عملية وصيرورة اجتماعية بالأساس، سيتم اعتباره وفهمه من قبل الفرد، انه فشل شخصي، راجع إلى عجزه ونقصه على المستوى القدرات العقلية. تلعب حسب "بورديو" نظرية أو "ايديولوجية الموهبة "دورا حاسما في قبول الأفراد لمصيرهم المدرسي وبالتالي لمصيرهم الاجتماعي.

هذه الأطروحات سيتم تطويرها وتوضيحها أكثر في مؤلفه" نبل الدولة " la noblesse d’état" الذي نشره سنة 1989 بتعاون مع "مونيك دوسان ماركان  Monique de saint Martin

فروع سسيولوجية متخصصة:
درس "بورديو" اعتمادا على جهازه المفاهيمي العديد من الحقول الفرعية للسسيولوجيا. كسسيولوجية الرياضة وسسيولوجيا السياسة والسسيولوجيا المدينة.

سسيولوجيا الإعلام
خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي اهتم “بورديو” عن قرب بوسائل الإعلام ونشأة "سسيولوجيا وسائل الإعلام" عنده بصفة خاصة انطلاقا من دراسته لمشكلة التلفزة، والتي كان يحمل نحوها نظرة نقدية في مقاربة تقل فيها الرؤية الأكاديمية على خلاف مؤلفاته السابقة، طور وقدم" بورديو" تحليلا لدور هذه الوسيلة الإعلامية في الفضاء الاجتماعي والسياسي. وقدم العديد من المنشورات،من بينها كتاب "حول التلفزيون  "sur la télévision 1996

انتقادات :
لقد كانت أعمال "بورديو" موضوع انتقادات جد خاصة. نظرا لتأثيرها في حقول العلوم الإنسانية لقد كانت هذه الانتقادات متنوعة ومختلفة الاتجاهات والنزعات والتيارات في العلوم الإنسانية، من الماركسيين إلى أصحاب نظرية الفاعل العقلاني.l’acteur rationel ويبقى نقد جد مهيمن هو الاتي/ انه نقد يرتبط بطبيعة المحددات الاجتماعية في نظرية "بورديو" والتي وصفت بأنها جامدة وتبسيطية (نقد الحتمية). بالنسبة لمفهوم "الابيتوس  habitusتم انتقده باعتباره يطرح ويثير مجددا الإشكالات التي يزعم انه قد عالجها. بين النزعة الحتمية لدى "البنيويين" (حيث يخضع الفاعل لقواعد) والحرية بدون حدود عند "الوجوديين". إن مفهوم "الابيتوس" الذي اقترحه "بورديو" لتجاوز هذا الخلاف وهذا التعارض لم يتمكن من نزع هذا التناقض، ويميل بدوره إلى صورة جديدة من الحتمية.

 

استاد باحث في سسيولوجيا التنظيمات والتربية والتواصل/ المدرسة العليا للتكنولوجيا/ جامعة مولاي اسماعيل- مكناس

 

المراجع
• Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron، Les héritiers : les étudiants et la culture، Paris، Les Éditions de de Minuit، coll. « Grands documents » (no 18)، 1964، 183 p.

• Pierre Bourdieu et Alain Dardel، L'amour de l'art : Les musées et leur public، Paris، Les Éditions de Minuit، coll. « Le sens commun »، 1966

• Pierre Bourdieu (dir.)، Robert Castel (dir.)، Luc Boltanski et Jean-Claude Chamboredon (préf. Philippe de Vendeuvre)، Un art moyen : Essai sur les usages sociaux de la photographie، Paris، Les Éditions de Minuit coll. « Le sens commun »، 1965، 368 p.

• Pierre Bourdieu، Jean-Claude Chamboredon et Jean-Claude Passeron، Le métier de sociologue : Préalables épistémologiques، Paris، Mouton de Gruyter، 1968، 357 p.

Pierre Bourdieu 18

• Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron، La reproduction : Éléments d’une théorie du système d’enseignement، Les Éditions de Minuit، coll. « Le sens commun »، 1970، 284 p

• Pierre Bourdieu، Esquisse d'une théorie de la pratique précédé de Trois études d'ethnologie kabyle، Genève، Droz،

1972، 269 p.

Cf. Esquisse d'une théorie de la pratique et Trois études d'ethnologie kabyle

• Pierre Bourdieu، La Distinction. Critique sociale du jugement، Les Éditions de Minuit، 1979، 670 p.

• Pierre Bourdieu، Le Sens pratique، Paris، Les Éditions de Minuit، coll. « Le sens commun »، 1980، 475 p.

• Pierre Bourdieu، Questions de sociologie، Paris، Les Éditions de Minuit، coll. « Documents »، 1980، 268 p.

• Pierre Bourdieu، Ce que parler veut dire : l'économie des échanges linguistiques، Paris، Fayard، 1982، 244 p.

• Pierre Bourdieu، Homo academicus، Paris، Les Éditions de Minuit، coll. « Le sens commun »، 1984، 302 p.

• Pierre Bourdieu، Choses dites، Paris، Les Éditions de Minuit، coll. « Le sens commun »، 1987، 229 p.

)

• Pierre Bourdieu، La noblesse d'État : grandes écoles et esprit de corps، Paris، Les Éditions de Minuit، coll. « Le

sens commun »، 1989، 568 p.

• Pierre Bourdieu، « La domination masculine »، Actes de la recherche en sciences sociales، no 84، septembre 1990،

p. 2-31، à distinguer de son livre la Domination masculine (1998)

• Pierre Bourdieu، Les règles de l'art : genèse et structure du champ littéraire، Seuil، 1992

• Pierre Bourdieu et Loïc Wacquant، Réponses : pour une anthropologie réflexive، Paris، Seuil، 1992، 267 p.

• Pierre Bourdieu (dir.)، La misère du monde، Seuil، coll. « Points essais »، 2007 (1re éd. 1993)، 1 460

• Pierre Bourdieu، Raisons pratiques : sur la théorie de l'action، Paris، Seuil، 1994، 251 p.)

• Pierre Bourdieu، Sur la télévision suivi de L'emprise du journalisme، Paris، Liber، coll. « Raisons d'agir »، 1996،

95 p.)Réunit deux cours télédiffusés du Collège de France.

• Pierre Bourdieu، Méditations pascaliennes، Paris، Seuil، coll. « Liber »، 1997، 316 p.

• Pierre Bourdieu، La domination masculine، Paris، Seuil، coll. « Liber »، 1998، 142 p.

• Pierre Bourdieu، Les structures sociales de l'économie، Paris، Seuil، coll. « Liber »، 2000، 289 p)

• Pierre Bourdieu، Science de la science et Réflexivité، Raisons d’agir، coll. « Cours et travaux »، 2001، 200 p.

• Pierre Bourdieu، Le Bal des célibataires. Crise de la société paysanne en Béarn، Seuil، coll. « Points Essais »، 2002، 266 p

• Pierre Bourdieu، Esquisse pour une auto-analyse، Paris، Raisons d’agir، 2004

• Pierre Bourdieu، Sur l'État : Cours au Collège de France (1989-1992)، Paris، Seuil، 2012، 656 p.

(ISBN 9782020662246)ouvrage publié par Patrick Champagne، Rémi Lenoir، Franck Poupeau et Marie-Christine

Rivière à partir des notes de cours de Pierre Bourdieu

.