يقدم الشاعر المصري المبدع شريف الشافعي تجربة، يجدد فيها الهوية الجمالية للذات من خلال تأملات الوعي، وتداعيات الكتابة، ولغتها التصويرية الاستعارية في ديوانه (كأنه قمر يحاصرني)، وقد صدر عن دار (الغاوون) للنشر ببيروت سنة 2013، وقد ارتكزت التأملات الجمالية في قصائد الديوان على تخييل الحواس، وتداخلاتها الإبداعية، وإعادة اكتشاف العالم الداخلي، وعمقه اللاواعي، وتجديد الأخيلة التي ترتبط بصورة الأنثى، وحواريتها الممتدة من داخل المتكلم إلى الانتشار في تداعيات الكتابة، وفي صور العناصر الكونية.
ثمة بحث فريد، ومستمر – في مشروع شريف الشافعي – عن وجود تصويري بهيج، يتجاوز حدود الظواهر، ويستنزف مدلول (الغياب) من داخله؛ فالعوالم الاستعارية، والكونية تتداخل، وتتسع في مجال اللاوعي الفسيح؛ لتنتج صوتا يقاوم مركزيته البنائية الأولى من جهة، وقصيدة تتميز بالثراء المعرفي، والوجودي، والتناقض الإبداعي في بنية العلامة من جهة أخرى. وابتداء من عتبة العنوان: (كأنه قمر يحاصرني)، نلاحظ بروز لحظة الحضور الجمالي الإبداعية كقمر يدور حول المتكلم، وينجذب إليه بقوة حتمية، وكأن الصور الحلمية، والكونية للذات، وللأنثى مكملة للوجود في العالم، ولا يمكن تصوره دونها أبدا؛ فهي تلازم تكوينه، وقد تنير التجربة، وتجدد صيرورتها، وتأويلاتها الممكنة. ويمكننا ملاحظة أربع تيمات فنية في الديوان؛ هي موسيقى الصوت، والمعنى، وتأويلات الوعي المبدع، وصورة الأنثى كعلامة مجازية كونية، والتناقض الإبداعي في بنية العلامة.
أولا: موسيقى الصوت، والمعنى:
تتواتر بعض الدوال الصوتية في نصوص شريف الشافعي، وتتفاعل بصور تناغمية، أو اختلافية؛ لتعيد تشكيل المعنى، أو الإيماءة في وعي القارئ؛ فالأصوات تتولد من تأثير النسيج الديناميكي للنص؛ ومن ثم تتولد نغمات أخرى للمعنى، وللصورة الشعرية، وكأن الصوت يعلن عن جمالياته الخاصة، وتحولاته الموسيقية، والدلالية الممكنة في عالم القارئ. وبصدد الإنتاجية الإبداعية الكامنة في الصوت، يرى (رولان بارت) أن اللغة تتسع، وتنسج نسيجا صوتيا هائلا؛ إذ ينتشر الدال الصوتي، والعروضي، والنطقي انتشارا تتجلى فيه كل فخامته، وتودع اللغة – في حال هسهستها – نفسها في الدال بحركة غير معروفة، ومجهولة في خطاباتنا العقلانية؛ أما المعنى فسيكون حصينا غير قابل للتسمية، ومع ذلك يبدو كشبح، يجعل من التمرين النطقي مشهدا مضاعفا، ومزودا بعمق. (راجع/ بارت/ هسهسة اللغة/ ترجمة د. منذر عياشي/ مركز الإنماء الحضاري بحلب/ ط 1/ سنة 1999/ ص 117، و118).
لقد بحث بارت – بوعي نقدي إبداعي – عن الإيماءة الخفية، والاختلافية التي تكمن في هسهسة الأصوات، أو في نسيجها النطقي، وتجاوز في تحليله لتلك الإيماءات النص في شكله الأدبي؛ إذ تتجلى الهسهسة في حوار سينمائي مثلا، ولكن تبقى فكرة التفاعلية بين الصوت، وإيحاءاته، وأدائه الخاص منتجة لصور مختلفة من المعنى؛ وهو ما نلاحظه في ديوان (شريف الشافعي)؛ إذ ينسج المتكلم تكرارا جماليا لبعض الأصوات التي توحي بتفاعل نغمات، أو إيحاءات يكمن فيها الاختلاف، والتناغم معا في وعي المتلقي.
يجمع الشاعر بين أصالة التكوين، وولادته الجديدة المتناغمة في الوعي المبدع، وإمكانيات الغياب الكامنة في لحظة الحضور نفسها، وذلك من خلال دوال صوتية تتواتر في أكثر من علامة، بينما تؤكد فكرة الاختلاف في الدلالة؛ فالأنثى تبروز في لحظة العبور، والفطيرة الخيالية تتجلى في تلقيها، أو امتصاصها الجمالي، بينما يبدو الكذب صادقا، وكأن التواتر يكتب الاختلاف في صيرورة الكتابة، وتداعياتها، وتأملاتها الجمالية.
يقول:
"العبير حيث تعبرين
والندى
فطيرة جيدة
ليس لها سوى أن تؤكل جيدا
أما الكذب،
فلم يقل شيئا
ورغم ذلك،
هو الصادق الوحيد
هذا الصباح" ص 9.
لقد اختلطت أصالة الرائحة الممثلة للهوية الجمالية للأنثى بالعبور، بينما ارتبطت جودة فطيرة الندى بتلقيها جيدا، واختلط (صمت) الكذب بكشف (الصباح) عن الظواهر، والموجودات. يرتبط التواتر هنا بمحو إبداعي فريد للأبنية المستقرة داخل العلامة؛ ومن ثم تتولد الصور الاختلافية التي تكسب العلامة وجودا انتشاريا، ومضاعفا في الدلالات الوليدة المحتملة من مزج الداول المتشابهة في الصوت بينما تعيد إنتاج المدلول، وتثريه؛ فالعبور يقاوم غياب الأنثى، وينسج من صورتها مخاوف الغياب، وتجاوزه في تكرار أصالة العبور في الوقت نفسه.
وقد يكشف النص عن تناقضات الذات الداخلية من خلال البحث عن عمق متجدد للهوية، أو إعادة اكتشافها في أرض بكر أخرى؛ ومن ثم ارتكز تناغم الكلام على هسهسة تنطوي على تناقض رئيسي بين ضوء اكتشاف العالم الداخلي الذي يشبه البحر، وصيرورة اللاوعي التي ترتكز على الطفرات المفاجئة، والصيرورة الاختلافية المتجاوزة لمنطق الوعي، وطريقته في التأويل، وإصدار الأحكام المعرفية الممكنة.
يقول:
"الغرق ثمن ضئيل
لشق بحر في الضمير
يكفي أن أسماكه الصغيرة
قد تكون نجوما
و رجوما". ص 38
لقد تواترت الأصوات؛ لتواكب نسيج ذلك البحر الذاتي الداخلي الذي يجمع بين اتساع مجال اللاوعي، وعمقه، وتناقضاته بين الكشف، والتدمير من جهة، وفاعلية الوعي المبدع الذي يعيد اكتشاف العالم الواسع السابق من خلال نظائره الجمالية المتناغمة، والتي جمعت بين أخيلة البحر، وتجدد الهوية الجمالية للذات المتكلمة من جهة أخرى.
ثانيا: تأويلات الوعي المبدع:
تقوم إنتاجية الوعي المبدع في ديوان شريف الشافعي – بشكل رئيسي – على التأويلات القائمة على الصورة، أو النغمة، أو الإيماءة، أو الحوارية المجازية بين المتكلم، والأنثى، أو بين العناصر الكونية؛ وهو ما يكسب المدلول الفلسفي ثراء أدبيا في سياق الكتابة، وصيرورتها الإبداعية السردية المضافة لجذوره الأولى في الوعي. وقد تصير إنتاجية الوعي بحد ذاتها موضوعا للتأويل؛ فتبدو في صورة النور المضاد للظلمة.
يقول:
"التحيات للعناصر المشعة بذاتها
لا لفوانيس راضعة من كهرباء". ص 19
يومئ الشاعر إلى الأصالة الكامنة في إنتاجية الوعي، وقدرتها على توليد طاقة تشبه نور العنصر المشع؛ فهي تشبه الأصل الذي لا يستمد نوره من مصدر آخر.
وارى أن الإنتاجية – ضمن هذا السياق الشعري التأويلي – تشبه أصالة الروح، وصوتها الفريد الذي يستنزف الموت، ويتحد بمشاعر الخلود، أو الدائرية التي تكسب الصوت وجودا يتجاوز الأثر في بنيته، وفي صيرورته. وقد يؤول الشاعر الهوية الجمالية عبر امتزاج نغمتي البهجة التي تشبه عودة الربيع، والوعي بالنهايات في الوقت نفسه؛ فيبدو التكوين أقرب إلى الاتساع الكوني، وتجاوز الصوت لفكرة النهايات الكامنة في وجوده الطيفي.
يقول:
"ما معنى أن تتهمني الصحراء
بأنني سراب؟
يكفيني أن زهرة صبار
ابتسمت، وهي تصافحني
جاحد أنت أيها الرمل
أتنكر ما تشربته من اصفراري؟". ص 21
الهوية الجمالية تحاول استعادة حضورها الفسيح من عوالم اللاوعي الكونية، وتمثيلاتها الاستعارية التي تمزج وهج النهايات االمقاوم للنهايات نفسها بلون الرمل، والاكتمال الجمالي المؤجل بزهرة الصبار التي تحمل في ذاتها نغمة ربيعية معلقة، وبهيجة في آن. وقد يجدد النص السؤال الفلسفي عن (الحقيقة)؛ فيعيد اكتشافها في اللانهائي، وذوبان الفرد المستمر في نغمة الخلود؛ وكأنه لون، أو نغمة في معزوفة كونية، وأو لوحة جمالية تستعصي على النهايات، أو التحديد.
يقول:
"الحقيقة سجادة صلاة
تمتص أنسجتها الظمأى دموعنا
لكن لا يزول عطشها تماما
لأنها متشوقة
إلى ما لا تستطيع عيوننا أن تسكبه". ص 14
السجادة تشبيه تأويلي للحقيقة الفلسفية للوجود، والتي تستنزف ذاتية الفرد في نموذج الخلود، أو التعالي الروحي؛ فهي تستنزف لحظة الحضور النسبية المميزة للفرد في لحظات أخرى تستعصي على الموت، أو النهايات الزائفة، إنها تخترق الروح في سياق معرفي يرتكز على الحدس المباشر الذي يضع الإنسان في مواجهة مع شعوره القديم بالأصالة. وقد يتخذ التأويل شكل محاكاة ما بعد حداثية ساخرة، تعيد قراءة علامات الحياة اليومية للفرد انطلاقا من تمردها الطبيعي على منطقه، وعقلانيته المركزية في النظر إلى الأشياء.
يقول:
"سأمشي على قدم واحدة
وأؤجل الأخرى للرجوع
يالبؤسي
حتى الحذاء
أخطأته قدمي". ص 18
لقد نبع الإحساس بالاختلاف من الداخل؛ فالوعي ينتج صورة سوريالية تبدو – في النص – منطقية؛ وهي أن يسير على قدم واحدة، بينما ينفلت الحذاء من فكرة التطابق؛ وكأنه يعلن عن تمرد العلامات الصغيرة على مركزية الصوت المنتج لبنيتها الوظيفية.
ثالثا: صورة الأنثى كعلامة مجازية كونية:
تتميز حوارية المتكلم مع الصورة الاستعارية للأنثى – في هذه الحلقة من مشروع شريف الشافعي – بالاتساع الروحي، والخيالي، والكوني من جهة، والنزوع إلى التجزؤ؛ ومن ثم التداخل الأصلي بين الأصوات، والعلامات في النص من جهة أخرى.
تتداخل الحواس، والعوالم الجزئية، وطرق الإدراك؛ فيبدو المتكلم، وكأنه جزء من مشهد كوني خيالي واسع يتداخل فيه مع نموذج الأنوثة في اللاوعي، ويندمج في اللعب النصي بالحواس، وتمثيلاتها الاستعارية للأصوات.
يقول:
"حاولي أن تبصري بشفتيك
حاولي مرة واحدة من أجلي
أنت لا تتصورين كم قاسيت
كي أذيب صورتي في كأسك". ص11
إن تداخلات الحواس كانت مفتتحا لمشهد آخر تمرح فيه الصور، والأصوات، والمجالات الجزئية المؤولة للوعي، وكذلك الأشياء الصغيرة؛ كالكأس. وقد تتجلى الأنثى ضمن صورة سوريالية ساخرة، وبهيجة، ومتجاوزة للحوارية التقليدية بين الأصوات؛ فهي تجمع بين الاتصال الروحي بالآخر/ الأنثى، والتناثر المعلق بالسخرية من الموت، والنهايات.
يقول:
"لو أن رماناتك ملغومة
لانفجرت عندما ارتميت عليك كطفل
ولطار رأسي في الهواء
وهو يضحك". ص 12
الرأس الضاحك هو التمثيل الحلمي لصوت المتكلم؛ وهو يسخر من الحدود، والنهايات، ومن اكتمال البهجة التقليدية، ويستبدلها ببهجة اللامعقول التي توحي بلقاء متعال بين الأصوات، والصور في المشهد الكوني.
رابعا: التناقض الإبداعي في بنية العلامة:
قد تثري التناقضات الإبداعية بنية المدلول الشعري في النص، وتمنح النص سمة التعددية الأصلية في الوقت نفسه؛ فالمدلول يتضاعف في مكملات تأويلية محتملة في بنيته الأولى، وفي تداعيات الكتابة، ووعي القارئ معا. يعيد المتكلم قراءة الموت من خلال حضوره الصاخب الكثيف في صور الحرب، وتشكيل النص لنغماتها غير المعقولة، ثم يعيد قراءته من خلال الحياد الأبيض، وكأن الوصول بنغمة الصخب إلى مستواها الأقصى، يحولها إلى نغمة محو أو حياد يتجاوز تكوينات الموت، وإشاراته كأنها لم تكن في المشهد.
يقول:
"خنادق كاملة العدد
أغلقت عيونها
كل ما حولنا قابل للإزاحة
بمزيد من الحظ
إلا كشافات الإضاءة القوية
كم أنت قاس وأسود
أيها الأبيض". ص 31
لقد اندمجت نغمات الصخب، ووهج الموت، والمحو الحيادي في الأبيض، ومحو المحو في الأبيض المضاعف الاستعاري في النص. وفي نص آخر تشير علامة (الباب) إلى انشطار الذات، وتناقضاتها؛ فالباب يمثل العبور إلى الداخل، وإلى الخارج معا، ويمثل بهجة التواصل، ورعب العداء الكامن خلف الحجب.
يقول:
"الملعون الخشبي لا يهتز له قلب
الملعون نسي تماما
أنه ذات ليل
كان جذع شجرة
قابلا للشق
الملعون قال لي
بعدما ألححت عليه في السؤال: "هي يدك أنت أيها، أيها الملعون
وهذا الطرق من الداخل". ص 28
الباب مفتتح لوجود الآخر المجهول، والآخر اللاواعي بالداخل في آن؛ الباب ينتج صورا طيفية للذات، تتجاوز المادة من خلال الصوت، وبزوغه من الفجوات الاستعارية الكامنة في الجسر الهوائي الممثل لعلامة الباب في النص.
msameerster@gmail.com