"ما أراه الآن" (دار القلم، الرباط، ط.2، 2014) هو الديوان الأول للشاعر خليل الوافي الذي عرفته الساحة الثقافية المغربية، والواقع الثقافي بمدينة طنجة عنصرا جمعويا فاعلا، ومساهما نشيطا في الإبداع الشعري عن طريق نشره عددا كبيرا من نصوصه في الجرائد الوطنية والمواقع الإلكترونية المختلفة. وقد اشتمل الديوان على بعض ما نشره الشاعر في هذه المنابر المتنوعة بحيث قسمه إلى أربعة أقسام، وهي: وحي الكلمات الأولى، وميض الولادة الأولى، ملمس العذرية المفقودة، إطلالة من شرفة الليل. وضم كل قسم من هذه الأقسام الأربعة ثلاثة نصوص ما خلا القسم الأخير الذي ضم نصا شعريا واحدا مفردا. فكيف تتشكل الصورة الشعرية في نصوص هذا العمل الإبداعي؟ وكيف تنفتح على رحابة المتخيل الإنساني، وخاصة الحديث منه؟ وما هي الأبعاد الدلالية والفنية التي تحملها هذه الصور الشعرية في أفق اشتغالها الجديد؟.
هذه بعض الأسئلة التي أثارتها قراءتنا للديوان، فكانت حافزا أساسا على مقاربته، ودافعا نحو مناوشة صوره ومشاغبتها. وفي هذا السياق سنركز على صور اخترناها من نصوص متفرقة في الديوان قصد الوقوف عند طرائق اشتغالها وتشكيل متخيلها.
1- " أقرع الباب..
تحاصرني بوتقة الوقت
لا ظل يؤنسني
أرى البحر وحيدا في عزلته
يراقب طيور النورس
وأنا أختبر معدن التراب
في أحزاني
يزهر النخل غابة حطب
يحترق الشمع
تضيء خيالاتي".(ص. 17)
يتشكل متخيل هذا المقطع من قصيدة "في قرع الباب" من صور شعرية عديدة نسجها الشاعر استنادا إلى أدوات بلاغية مألوفة: استعارات ومجازات، وأدوات فنية جديدة: الرموز. وتتواشج هذه الصور في ما بينها لتمنح القصيدة نكهة خاصة تكشف عن رحابة متخيلها. وهي الصور التي تنفتح على مرجعيات شعرية وسردية معاصرة متنوعة تتداعى إلى ذاكرة القارئ. نعثر في هذا المقطع الشعري على صدى واضح لرواية غسان كنفاني:"رجال في الشمس" وخاصة في خاتمتها حينما يتساءل السارد: "لماذا لم يقرعوا جدران الخزان؟" الذي توحي به عبارة "أقرع الباب.. تحاصرني بوتقة الوقت". وإذا كان أبطال كنفاني قد حاصرهم ضيق المكان وقهر الزمان، فإن الشاعر محاصر في بوتقة الوقت الشديدة الضيق، ولا يجد من يؤنسه في وحدته حتى الظل يفر منه، والبحر ضارب في عزلته يراقب النوارس في حياد، ولا يسعف الشاعرَ على دق جدران الوقت التي تخنقه. ولا يجد الشاعر أمامه من مهرب -في الأخير- سوى إحراق الشموع لتضيء خيالاته، وتنسيه أحزانه. وفي صميم هذه الأبعاد الدلالية نجد أصداء شعرية كثيرة، من بينها ظلال نصوص الرومانسية العربية: خليل مطران، وأبو القاسم الشابي. ومن خلال تسرب هذه الظلال إلى نسغ القصيدة وتلاحمها بالعناصر الفنية الأخرى يتمكن الشاعر من ابتداع صوره الشعرية الخاصة به، ومن ثم تشكيل متخيله على منوال جديد.
2- "يا أيتها الريح
احمليني بعيدا عن جسدي..
ما كان على البحر أن ينسحب
ويترك الموج يواجه
سفن الغياب..
ما كان على الموت أن يكبر
في عيون بريئة
ساعة العتاب".(ص.41)
في هذا المقطع الموجز من قصيدة "ما كان لي أن أكون" تنبني الصورة من خلال مجازات ساقها الشاعر مساق خطاب موجه إلى الريح، بما ترمز إليه الريح من معاني التحول والتغيير، ويطلب منها أن تحمله بعيدا عن جسده، ثم يلتفت ليلقي باللوم على البحر الذي انسحب ليترك موجه يجابه سفن الغياب والضياع، ويعبر الشاعر عن رفضه للموت الذي صار يكبر ويتسع في العيون البريئة. وبهذه الكيفية يشكل خليل الوافي متخيل نصه الشعري عبر الانفتاح على المتخيل الشعري والمتح منه واستثماره في سياق شعري جديد خاص به. سياق فيه ظلال من الرومانسية والواقعية، وفيه دقة تصوير وعنف احتجاج ورفض. ولعل هذا اللعب على الحدين الجماليين هو الميسم البارز في جل نصوص ديوان "ما أراه الآن".
3- "مررت على الديار
أرقب ما تبقى مني
منذ كانت الشمس
تحمل عنا عروبة المكان..
سرت في المجهول
العالق في ظمإ الجفون..
لا نوم يحمي جسدي من الموت..
لا وقت لي
كي أبحث عني
في ركام هذا الحطب
تأخذني رعشة
نحو مصب نهر
يتفتق الماء
ويغدو طوفانا لما هو آت..."(ص.57)
إذا كان المقطعان السابقان يشكلان عوالمهما الشعرية عن طريق الانفتاح على السرد والشعر الرومانسي المعاصر، فإن المقطع الذي نقف عنده الآن من قصيدة "مسالك التيه" يجد له أنسابا شعرية أشد تنوعا يرجع بعضها إلى التراث الشعري العربي القديم (الوقوف على الأطلال)، وإلى شعر التفعيلة الحديث (السياب-ودرويش)، مع الحضور الخفي لحادثة الطوفان في جذورها الدينية والميثولوجية. وعبر تواشج هذه العناصر جميعا يشكل الشاعر متخيله الرحب من خلال قدرته على استثمار هذه المعطيات ليعبر عن رفضه حال العروبة، وما تعيشه أرض فلسطين من ضياع واغتراب. وعلى الرغم من وجود مخايل نبرة آسية حزينة في القصيدة إلا أنها لا تسقط في رؤية يائسة متشائمة. ولعل هذا الحس المتفائل هو الذي يحفز الشاعر على صياغة نصوص غاضبة محتجة على ما هو كائن، ومتطلعة إلى واقع ممكن يحلم به الشاعر، ويشكل جزءا هاما من خيالاته، كما أشار في أول مقطع تعاملنا معه.
4- "أنبش التربة
عساي أجد شيئا من ذاكرتي
قبل الطلقة الأخيرة
تذكرت أستاذ الجغرافيا
وخريطة الوطن في الواجب المدرسي
أجمع فتات الكتب المحترقة
أعود لمقتبل العمر
ألعب في الزقاق الخلفي
كي ينتصر الحلم ثانية
كي ما تصبح شقائق النعمان
فراشات بيتي.."(ص.68-69)
يعزف هذا المقطع من قصيدة "شيء من الحب في زمن الحرب" على نبرة درويشية تنسل بين ثنايا المتخيل الشعري لتشكل الملامح العامة للصورة الكلية في النص. وتعتمد هذه الصورة على آلية الاستدعاء وتوليد الدلالة عن طريق التذكر والاسترجاع، مع استشراف الآتي والارتباط بما سيأتي: انتصار الحلم، وتحول شقائق النعمان إلى فراشات وانتشارها في البيت: دلالة على انتشار الحب والجمال. وهكذا يتغنى الشاعر بانحسار الحرب وعودة المحبة والسلام، وقيم الجمال والخير. ومما لا شك فيه أن القصيدة تصنع عوالمها الشعرية عن طريق الابتكار والابتداع من جهة، ومن خلال التوسل بصيغ فنية ودلالات تجد لها نسبا في الشعرية الحديثة، من جهة ثانية. وقد ألمحنا إلى حضور لغة محمود درويش وصوره، إن بشكل أو بآخر في ثنايا القصيدة.
5- "أنا العربي الغاضب
أصرخ في وجه نفسي:
ماذا عساي فاعل؟
ويدي تخونها الإشارات
في ملح الجرح
أي شيء يغسل وجه عربستان
من وجع الأرض
أتعبني السفر
ما بين الروح وظل الجسد
أُملي على الورق آيات الخجل
تجهش العبارات بالنواح
أجد البحر ممتدا
على بساط الريح
يروي آثار الجراح
في الذاكرة.."(ص.81-82)
إذا كان المقطع السابق تتسلل إليه رسوبات قصيدة درويش التي تشتغل إن بطريقة واعية أو غير واعية في متخيل قصيدة خليل الوافي، فإن المقطع الذي نقف عنده من قصيدة "أنا العربي.." ينطوي على رسوبات محمود درويش ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي، بشكل جلي. وعبر هذا التواشج الذي يجريه الشاعر بين هذه الحساسيات الشعرية، مع توظيف إمكاناته الخاصة في التصوير والكتابة يتمكن من التعبير عن ذاته، وعن رؤيته لما يجري حوله. وعبر هذه الإمكانات جميعا يتطلع خليل الوافي إلى بناء عوالمه الشعرية الخاصة، وذلك باستناده على رحابة المتخيل الشعري المعاصر في انفتاحه على الإنساني وارتباطه بعمق معاناة الإنسان ومأساته في واقعنا الراهن.