يرى الناقد المصري أن الروائي أقام بناء روايته علي شكل قصص قصيرة، أو حكايات منفصلة، تتصاعد بعمر الراوي من فرحة دخول المدرسة حتى الثلاثين من عمره، وفي كل محطة يتوقف ليعرض لنا تجربة مع الجنس الآخر. ولعب الروائي علي فكرة كسر أفق التوقع منذ العنوان الذي أدخل به القارئ منذ البداية في هذه اللعبة.

«حريم» الجزار .. من الصغار للكبار

شوقي عبدالحميد يحيى

بلغة طيعة، ورشاقة في الحكي. بخفة في الشكل، وثقل في المضمون. يثب حمدي الجزار براويه في روايته "الحريم"[i]، فوق علامات العمر، من الطفولة للكهولة، مستدرجا قارئه وواعدا، بوعد زائف، يزفه إليه من خلال العنوان، الباعث علي مغامرات متوقعة، ويظل يسوق الجزرة أمام عينيه، غير أنه في النهاية يجدها سراب الحقيقة غير الغائبة.

أقام حمدي بناء روايته علي شكل قصص قصيرة، أو حكايات منفصلة، يبدو- في البداية – ألا رابط بينها سوي الراوي، تتصاعد بعمر الراوي من فرحة دخول المدرسة، وإلي فترة إعداد رسالة الماجستير، أو من سن السادسة، وحتي الثلاثين من عمره، وفي كل محطة يتوقف ليعرض لنا تجربة مع الجنس الآخر. ويظل القارئ في تساؤل، وماذا بعد، خاصة أنه لم يسع، بل وأصر علي عدم إشباع نهم القارئ للمغامرة النسائية التي يمكن أن يكون قد توقعها من العنوان. إلي أن يصل للفصل الأخير، وكأنه فيه يدعوه للعودة إلي حيث البداية، ليستقرأ ما يكون قد فاته من إشارات عابرة، وموحية، تراكمت، فشكلت شخصية الراوي، وشكلت رؤية المؤلف، التي تمثلت روح أبي العلاء المعري، فيما طلب أن يوضع علي قبره (هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد).

حيث تبدأ شخصية الراوي في التشكل، ولم يكن بعد قد جاوز السادسة من عمره. يذهب أبوه الأسطى فرج النجار، بكل فخر وفرح، ليقدم لابنه في المدرسة، ويعود، وكأنه وضع قدميه علي أعتاب الجنة، تسخر زوجته – فيما يشبه زلة اللسان – وتقول: {فتحت عكا يا خي} ليستغرق الأسطى فرج في صمت طويل وكأنه يكظم غيظه، ولا يريد أن تضيع الفرحة التي أتى بها. ويصف لنا حمدي الجزار تلك اللحظات، ليكشف لنا عن تلك العلاقة الجوهرية بين الأب وبين كل من زوجته"بطة" وابنه "سيد":

 {سقط صمت طويل علينا، وفي الهواء، وعلي بلاط الغرفة. كنا واقفين بين يديه خاشعين، نتبادل أنا وأمي نظرات قلقة ومضطربة. أمي يداها معقودتان علي بطنها المكور، الذي خرجت منه منذ سنوات قليلة، وعابسة، وأنا بحذاء قدمها واقف في أدب مصطنع، وترقب شغوف، يداي معقودتان علي بطني كأمي، ووجهي في بلاط الحجرة.  ببطء وهدوء، عاد أبي من عليائه}ص6. وهو ما يوضح مدي تأثير الأب وقوة شخصيته، وربما جبروته، علي الابن، الراوي"سيد فرج".

وفي الفصل المعنون "بطة" وهو اسم الأم، تأتي إشارتان هامتان، كما أن ورودهما في الفصل الخاص بالأم تحديدا، أيضا له دلالته. ففي هذا الفصل كان الراوي قد وصل للصف السادس. وكان يوما ممطرا، تغيب فيه معظم التلاميذ، بل ومعظم المدرسين. يقرر سيد، وزملاؤه، الخروج من فوق السور، للعب الكرة. وأثناء اللعب، يأتي مدرس الألعاب، المكروه من التلامذة، وبصحبته الأم "بطة" التي تصطحب ابنها بكل عنف، وتذهب به إلي البيت في حجرة الوالد، الذي بدوره يجلس علي السرير صامت، بينما يشعر "سيد" أنه يدبر أمرا لا يعرفه، فيجلس صامتا.

ولنتأمل وصف الراوي للأم في تلك المسيرة:

{مسكة كفها لكفي، وقبضها علي أصابعي حديد قبضتها، وأصابعها الخشنة من الغسل والمسح والكنس، وقشف الشتاء، حديد، وجهها الغاضب بلا شفقة أو إشفاق علي وحيدها}ص60. لنعلم طريقة معاملة الأم.

وفي جلسته في انتظار العقوبة التي لا يعرفها حتي هذه اللحظة{ أطأطئ رأسي، جائعا، أشعر بأني ضئيل، وتافه، وعاجز..... مر الزمن بطيئا جدا، كأنه دهر طويل. وما زلت منكمشا في ركني ، ضئيلا ومتكورا..... قلبي يكاد يتوقف من الخوف والفزع، صمتهما وسكونهما موحش وغريب}ص63. وبعد كل هذا الخوف والرعب من الأب، يسفر الأمر عن أن الأب يخبئ سيخا من الحديد موضوع في النار، يسير به نحو الابن، ويكوي به ظهر يده، والأم، رمز العطف والحنان، جالسة دون حركة، ودون دفاع، بل إن الأم بعد خروج الأب بهدوء، وكأن شيئا لم يحدث، تضع يده في الماء، ثم تأتي بالزيت الذي تضعه أيضا فوق العاهة المستديمة التي طبعها الأب علي يد ابنه، وكأننا أمام (قنديل أم هاشم) وهو ما تؤكده "إيمان" الممرضة التي راحت تنهر "بطة" علي الجهل الذي تعاملت به من أثر الحريق. ويستمر الراوي "سيد" في التعبير عما يشعر به:

{جلدي يحترق، وأبي ينزع سيخه أخيرا بعد أن تركه يحرق ظهر أصابعي، بعد أن سمع صرخاتي وتأوهاتي، وتضرعاتي. الرعب الذي أورثني إياه لا يثمن ولا يقارن، الخوف الذي أذاقني إياه لا مثيل له، لا نظير له، ليذهب إلي جحيم أكبر، إلي هاوية أفدح. ذلك الذي نقش علي يدي دليل تعذيبي، وذلي. لكنها بطة أيضا، بطة لا تحبني، تكرهني}. ذلك تصور الطفل "سيد" إلا أن الحقيقة أن أبا أو أما لا يكرهان ابنهم، فما قاله الأب وهو خارج { اللي عنده شهادة ما يهربش من المدرسة} ليكشف لنا عن الدوافع لذلك العنف في العقاب. فمثل هذه الطبقة البسيطة، تضع كل هما تعليم الأبناء، فهو الأمل في انتشالهم مما هم فيه. وظنا من الأب والأم أن هذا العقاب هو ما يحافظ علي استمرار ابنهم وتفوقه الذي هو مستقبلهم. وهم لا يدرون أن تلك الواقعة، وتلك المعاملة، هي التي أفقدت الابن شخصيته، وجعلته منساقا لا سائقا، حتى عندما كبر، و أخبر الأم بتفكيره في الزواج، لم يفكر فيمن سيتزوجها، ومن فورها قامت الأم، وسحبته من يده، وأنهت له الزواج من "سلوي" في شهرين فقط.

ولم يدرك الأب والأم ، أن معاملتهما، زرعت الخوف في قلب الابن، الخوف من الكلاب، ومن النساء{ كانت أمي قاسية جدا، كانت منحازة للطبيعة والفطرة، وبلا وعي تذكرني بوظيفتي كرجل، وكأنها تقول لي " الرجل الحقيقي لا يخاف القتلة والكلاب، ولا يخشي النسوان يا سيد}ص212. غير أن "سيد" أصبح يخاف "النسوان". فتتمدد "سولي بجانبه، عارية تماما، بعد أن غمرته السعادة أنها سبقته إلي السرير، وسمع شخيرها، يفكر في استغلال الليلة، ليلة يوم الخميس، ورأس السنة وعيد ميلاده، فلما لا يسعد بزوجته في مثل هذه الليلة. غير أنه يسمع "سلوى " في نومها، وكأنها تعبر عنه{الراجل دا خرع .. مش راجل أساسا}. فيصيبه الإحباط، كمن علي رأسه بطحة. وتمر الليلة بالفشل.

غير أن الفشل في هذه الليلة لم يكن البداية، ولم يظهر فقط بعد أن بلغ الثلاثين، وإنما، وعلي مدار كل الأعوام، ورغم عديد من التقاهم، ومن حلم بهم، لم تكتمل علاقة واحدة منها, ودائما كانت تنتهي، وتختفي المحبوبة من حياته، ولا يسأل عنها. رغم أن{ فرج النجار مات منذ ثلاثة شهور، ولم ينتظر أن أحصل له علي الشهادة الكبيرة}ص142. لنلاحظ هنا {أحصل له}.

والإشارة الأخرى الواردة في فصل "بطة" والذي شهد قمة ما غرسه الأب والأم في في أعماق الابن، وجنايتهم عليه، تلك الإشارة إلي "عبد الظاهر". زميله بالمدرسة، لا يحبه، خاصة بكلبه الأسود الذي لا يفارقه. وعندما هربوا من المدرسة، في المرة التي هدمت أمه فرحة انتصاره عليه في الكرة، في المرة التي ترك أبوه علامة علي أصابعه بالنار: {واليوم أحرزت هدفين في مرمي فريق الولد عبد الظاهر أمام كل الناس، عبد الظاهر أكبر منا وساقط سنتين، ولاعب رخم، فزت عليه للمرة الأولي، رغما عن أنفه ونباح كلبه الأسود الشرس الذي يصحبه معه في كل مكان}ص63. فارتبطت ذكري "عبد الظاهر، وكلبه الأسود بذلك الإحباط، لذا كان حاضرا ليلة فشله في التواصل مع "سلوى" في الليلة التي كان يمكن أن تكون ليلة العمر، ونجمع أشلاء الحكاية المبعثرة بين السطور لنخرج بالصورة المرادة من الكاتب: {كنت ممدا علي ظهري، عيناي تحملقان في السقف، وشيئي ميت بين فخذي..... هاجمتني مشاهد قديمة كنت أظن أني نسيتها للأبد ........ كان عبد الظاهر يماثلني في الطول، ويشبهني في البياض وملامح الوجه والشعر البني، لا يميز الناس أحدنا من الآخر...... كان لعبد الظاهر ولع غريب بالكلاب، وشغف عارم بالتجول في حارات وأزقة وخرابات طولون ليلا دون أن يخاف مثلنا} ويعود الكلب الأسود يما بعد جولته الحرة العادية، ينزف الدم من ـنفه وصدره مجروح {عبد الظاهر لم يبك مثلما نبكي نحن}ويقرر عبد الظاهر الانتقام لكلبه:{أمام دكان أبيه حمم عبد الظاهر كلبه بماء الورد، والصابون المعطر...... عند ساحة الجامع احتضن جنبي كلبه وربت عليه بحنان، قبل رأسه وجبهته، وقال له "حمدالله علي السلامة يا عريس"} ويعلن أنه – انتقاما سيميت كل كلاب الحارة، وينجح في توعده.. بينما "سيد" في تهويمه بجوار زوجته يردد { هل يصير الواحد رجلا "حقيقيا" وهو ما زال يشغل نفسه بالخوف .. يشغل نفسه بعبد الظاهر وكلبه، وهو ممدد إلي جوار جسد امرأته العري؟!}ص219. وكأنه أمام هزيمته، توحد في عبد الظاهر، الذي لا يبكي، والذي لايخاف، والذي انتقم لكلبه، وهو الذي لا يستطيع الانتقام لنفسه. لا يستطيع أن يتخلص من خوفه الذي زرعه فيه من الصغر، والده ووالدته.

ومن الأمور التي تحسب للكاتب، أنه أورد ثلاثة فصول لشخص واحد، بمسميات مختلفة ودالة، وهي "بطة" و"زوجة أبي" و "أمي" حيث وقف الراوي علي مسافة مختلفة من كل منها. ففي الفصل المعنون "بطة" والذي يوحي بالانفصال بين الراوي وبينها، أو كأنها شخص غريب عنه. حيث نقرأ في هذا الفصل، قصة الهروب من المدرسة، وضربها له أثناء العودة به إلي البيت، ثم سابيتها المفرطة، أثنا كييه بالنار والوالد، الأسطى فرج.

وفي الفصل المعنون "زوجة أبي" يظل الانفصال موجودا، إلا أن النظرة هنا، نظرة مستنكرة لفعل الأم، الذي خرج بها بصورة مثيرة للرجال، حتي لو كان الدافع هو الخوف علي الزوج، الذي علمت بسقوطه في الورشة، فذهبت إليه (مخضوضة). ولنقرأ هذا المقطع، الرافض في أعماقه، وإن كان الراوي يويه بطريقة محايدة، إلا أن الحديث عن الأم بهذه الصورة، يوحي ويدل: {في ركضها في الطرق كان ثدياها الكبيران، الإمعان بماء الغسيل الذي لم ينشف بعد، يهتزان بإيقاع متناغم وهزة فردتي ردفيها. خرجت بجلابية البيت الباطيستا الضيقة، التي جسمت جسدها الممتلئ، فكانت أكثر إثارة مما لو كانت قد خرجت عارية تماما}ص104.

أما في الفصل المعنون "أمي" فالخطاب اختلف، والمسافة تلاشت والرؤية غير الرؤية. حيث جاء الفصل متحدثا عن لجوء الراوي لها عندما قرر أو فكر في الزواج، وهنا استسلم لها الراوي، لتسحبه إلي العروسة التي لم يحددها، وإنما هي التي ححدتها وهي التي أنهت إجراءاتها، علي الرغم من قول اراوي: { حين أفكر في أمي أراها قد كبرت، عجزت، وشاخت، وكذلك أنا بشكل ما}ص205.  

كسر أفق التوقع
لعب حمدي الجزار علي فكرة كسر أفق التوقع عند القارئ منذ العنوان، والذي أراه غير مرتبط ارتباطا قويا برؤية الرواية، إلا أنه أراد أن يدخل به القارئ منذ البداية في هذه اللعبة، التي كانت ملمحا رئيسيا في الرواية بطولها.

إصرار "زبيد" علي ترك "بطة" للصبي "سيد" واصطحابه إلي حجرتها وغلقها الباب، دون أمها، أم زبيدة، ومنحه الشيكولاته، يوحي بأن "زبيدة ستستعمل الطفل جسديا {زبيدة دخلت في ّشمال، كالعادة، احتضنتني برقة، وقبلت خدي ومنتصف جبهتي بعذوبة بالغة، وراحت تحملق في وجهي بنظرات حالمة، وهيمانة، ثم رددت مقلدة غنج هند رستم في فيلم "ابن حميدو" سيد، سيدي حبيبي.. حبيبي الوحيد!.. طأطأت زبيدة رأسها، وازدادت لي احتضانا، وتشبثت بجسدي الضئيل أكثر}ص28. غير أننا نفاجأ بأنها تطلب منه توصيل رسالة لعاشقها "طارق".

وفي تجربة أخري، يصعد الصغير "سيد" مع رفيقه "حلمي" الذي يكبره ويسبقه في الدراسة، مع "كريمة" الطفلة أيضا إلي حجرة السطوح، ويلعبان كثيرا، وتتم تعرية "كريمة" للكشف عليها بغطاء زجاجة الكوكاكولا، { رفع حلمي فستانها من أسفل بجدية فبان لنا كيلوتها الأبيض ... أخذ حلمي يمرر يده علي بطنها، ويتحسسها وقد بدأ ريقه يجري، وكريمة أغلقت عينيها. أخذ حلمي يتحسسها بكلتا يديه، وقد تغير وجهه.}وفي النهاية يكمل "سيد" { ونزلت وتركت حلمي بجوارها}ص53.

وتبلغ الإثارة بالقارئ مداها في تجربة الراوي مع "رانيا". تلك التي زاملته في الكلية، ميسورة الحال، سعت للتعرف به، كي تحصل منه علي الكشاكيل، حيث لا تتمكن من الحضور للكلية، إلا في وقت محدود. تزداد العلاقة بينهما، وتدعوه لزيارة بيتها، في عيد ميلادها، وهناك تقترب منه{ أخذت وجهي بين يديها، وبدأت بتقبيل خدي بشفتين لم أذق أجمل، وأطعم وألذ منها، ثم تحسست بشفتيها شفتي برقة وبطء...إلخ}ص129. اشتعلت الحرارة في جسد صاحبنا، فطلب الذعاب إلي الحمام، وهو يمني نفسه بالتأكيد بوجبة جنسية شهية، وازداد اشتعالا حين {خرجت إليها فوجدتها في قميص نوم أبيض مفتوح، وجسدها تحته شاب، وعارم الأنوثة}. إلا أن حمدي الجزار يتدخل علي الفور ليصدم قارئه وتلهفه للمزيد {قالت لي " وقت نومي جه، أشوفك قريب يا سيد}. ويصر الجزار علي الاستمرار في المراوغة، فيعود ب"سيد" مرة أخري إلي شقة "رانيا" ، وتتكر المسألة، إلا أن صاحبنا كان قد قرر أخذ زمام المبادرة، ونتركه يحكي لنا ما جري: { ليلتها ذهبنا لشقتها، تكررت قبلاتها الرائعة علي خدي وشفتي، ضممتها بقوة، ثم بنزق، قبلتها أنا قبلات حارة، ساخنة، حتي كدت أقضم شفتيها، وحاولت نزع قميص نومها من فوق ركبتيها، حاولت تعريتها لأراها كلها، قاومت يدي وجسدي بقوة، وغضب ومقت، أبعدت يدي ودفعتني للخلف صارخة، وبصقت في وجهي "عايز تعريني يا سيد"........ قامت من مكانها وصرخت فيّ "أنت حيوان"... أنت حمار... مش عايزة كشاكيل محاضرات تاني}ص132.

وفي تجربة أخري مع "ساها" اليابانية التي التقاها أيضا في الكلية. وهنا تجب الإشارة إلي حرفية حمدي الجزار الذي تصاعد بالتجربة مع تصاد سن الراوي. ففي المراحل قبل الجامعية، كانت التجارب، ما يمكن أن نقول عته، علي البعد، أو مجرد أحلام، وإن كانت أحلام يقظة، بينما تصاعدت في مرحلة الجامعة لتصبح احتكاكا مباشرا.

تعرف صاحبنا علي "ساها" تلك تحضر للماجستير. ولا نستطيع تجاوز وصف الجزار الموحي والدال لساها، التي تعبر عن طبيعة شعب اليابان { ساها منتظمة كساعة "كاسيو" وجدولها اليومي ثابت، وصارم، وهي حاضرة دائما كل ثلاثاء، لم تغب عن عيني مرة واحدة لثلاثة أعوام، لثلاثة مواسم للسينمار تأتي في موعدها تماما، وإن كانت مريضة إلي حد الإعياء}ص169. وتزداد العلاقة بينهما، ويطلب منها زيارتها في بيتها، فكان رد فعلها{ توقفت عن السير، فتوقفت أنا أيضا، رفعت وجهها إليّ، وتأملت وجهي لحظات طويلة ساكتة، مباغتة وحائرة، ونظرت لبلاط النفق. وبدأت في بكاء صامت لم أره منها قبلها أبدا ...... ومشت تجر رجليها إلي جواري... وبصوت ضعيف، خافت، قالت إنها آسفة، وإنها تحس بالراحة معي، تحس بالسكينة، تحس باللغة المشتركة، لكنها لا تحس نحوي أية عواطف أخري، ولم يكن يجوز لي أبدا أن ألالمها، وأن أطلب زيارتها وأنا أعرف إنها تعيش وحيدة.}ص178.

وتستمر تجارب "سيد فرج" لنصل إلي تجربته مع "ماري"، تلك التي تعرف عليه في مكتبة الجامعة الأمريكية.والتي تريد التعرف علي كل شئ في مصر، تريد تجربة "الفول والطعمية" ، وتزور كل الأماكن، وتطلب منه زيارته في بيته، غير أنه يتهرب من ذلك، فلا تلح. تعد له مفاجأة. وفي أحد اللقاءات، تخطره بأن زيلاتها وزملائها الذين يسكون معها الشقة، سافروا، وتريد زيارتها بالشقة. وفيها تفاجئه بالمفاجأءة، اشترت بدلة رقص، وتلبسها، له وتريه رقصها بها. ولا يغفل حمدي الجزار هنا، أن يعرض لطبائع البشر، حيث تطلب منه رأيه، فلا يريد مخالفة ما بداخله، ويعبر عن طبيعة الأمريكية أماه، يقول لها :رقصك سليم ومضبوط. تسأله: أليس جميلا؟ فيكرر رقصك سليم ومضبوط. فتغير السؤال: رقصي سكسي؟ ويردد في نفسه: رقص ماري ليس سكسي في الحقيقة، ولا جميل. بما يعني أن رقصها يسير بالمسطرة، بالقواعد، ولمنه يفتقد الروح. { قلت لها: أنت جميلة وسكسي، والبرهان علي أن جسدك جميل، وأنك سكسي أني أريد أن أقبل شفتيك الآن.

ملت عليها وحاولت تطويقها بذراعي، أمسكت بها وحاولت أن أقبلها، مفاجأة ومصدومة حركت جسدها في الجهة الأخري، وفكت قبضتي من علي كتفها ووسطها وقامت واقفة بحدة، وقالت: أنت لا تفهم.. أنا أسألك عن رقصي وليس عني أنا، يا مثقف، يا باحث في علم الجمال وفلسفة الفن}.

اللغة والأسلوب

كما رأينا، أن حمدي الجزار، يقدم المعلومة التي تفيد في كشف طبائع البشر، بإسلوب طيع وسلس، ودون افتعال، وهو ما يصور للقارئ، علي وزن الصور التي ينثرها الجزار في كل مكان، فيتصور القارئ كما لو أن الراوي يسير في الطريق، يتحدث مع من معه، وبلا مبالاة، وأثناء الحديث، يلقي بقنبلة بطرف يده، ويستمر في السير والحديث، وكأن شيئا لم يحدث.

فلنطالع تلك الفقرة الموجزة، والتي تحمل في طياتها العديد من الاتجاهات :

بعد أن تكون "روحية" قد وزعت النابت علي المحتاجين:

{روحية تقوم من مكانها مبتهجة، تنفض مقعدتها، وتسند الحلة الخاوية إلي جدار الجامع في الخارج ، تخلع حذاءها، تنفضه وتضعه تحت إبطها، وتخطو العتبة وتدخل المقام المبروك. تسلم علي السيدة سكينة التي في الثري، أسفل هذا المكعب الأخضر القطيفة زاهي الألوان، والذي له رأس أخضر ملفوف بالحرير الأحمر. ستنا التي تنظرنا بعين الرحمة من خلف هذا المقام الحديدي المشغول، الحديد الذي سكب فوقه أهل طولون، وغيرهم، دموعهم الغزيرة، وأودعوه أشواقهم، والأسرار}ص13.

تبين الفقرة، الحركات البسيطة والتلقائية التي يقوم بها إنسان الطبقة عندما يدخلون علي المكان (المقدس) لديهم { تنفض مقعدتها، وتسند الحلة الخاوية إلي جدار الجامع في الخارج ، تخلع حذاءها، تنفضه وتضعه تحت إبطها، وتخطو العتبة وتدخل المقام المبروك}. وصف المقام، بتفصيل يضعك أمام الصورة، وكأنك تراها{ تسلم علي السيدة سكينة التي في الثري، أسفل هذا المكعب الأخضر القطيفة زاهي الألوان، والذي له رأس أخضر ملفوف بالحرير الأحمر}.

تعامل البسطاء مع أضرحة الأولياء، وكأنهم أحياء يسمعونهم، ويرمون عليهم أحمالهم:{ ستنا التي تنظرنا بعين الرحمة من خلف هذا المقام الحديدي المشغول، الحديد الذي سكب فوقه أهل طولون، وغيرهم، دموعهم الغزيرة، وأودعوه أشواقهم، والأسرار}

البيئة ونماذج البشر
بنفس البساطة والسلاسة، يسوق الجزار في طريقة الكثير من سمات الحارة المصرية، المدعومة بالألفة، وربما (الحشرية) حيث نري (نسوان) الحارة يجلسن علي الأبواب، ونراهن وهن يتباهين بماء الحموم بعد ليلة ناضجة مع الأزواج. ونري تلك العادة التي لم تزل في الكثير منها، تزويج البنات مبكرا.

ففي مشهد يجمع بين (الحشرية) وعادة تزويج البنات مبكرا. تلتقي "بطة" والدة الراوي ب"روحية الخياطة، ويدور الحوار، حيث تسأل "بطة":

{فساتين مين دول يا روحية؟

ممتعضة، وحانقة قالت روحية:

فساتين "ريري"

-                     بنت فوزي البقال؟

أنا قلت بسرعة الصاروخ ريري أخت عبد الظاهر

كلمت روحية أمي:

أيوه يا أختي.. ريري بنت فوزي البقال

باستنكار عظيم احتدت أمي:

لايا شيخة؟! دي ما نزلتش عليها دورة لسه!

-                     لا يأختي نزلت الأسبوع اللي فات! وهتتجوز أول اللي هيهل! هتدخل أول الشهر يا أختي}

" { اقتربت أمي من الحبل، وأمسكت بدلة رقص حمراء مطرزة بالترتر، تأملتها بإعجاب وحسرة:

ودي بتاعة ريري برضه؟!

-                     لأ .. مش بتاعة ريري.

بتاعة مين أمال؟

-                     بحزم من لا يريد سؤالا، أو مناكفة قالت روحية:

-                     مش شغلك يا بطة.. اسكتي يا أختي.

لم تسكت أمي، وقررت:

  تبقي بتاعة البت أُنس الرقاصة.

روحية شخطت في أمي .... "بطة"؟؟}ص21.

فإذا كان "حمدي الجزار" في روايتيه السابقتين "سحر أسود" و لذات سرية" قد اتسم بما أسميه (الخشونة الروائية) حيث اتسما بفورة الشباب الثائر، علي ما يحيط به من سوءات المجتمع، فإنه في "الحريم" قد خطا خطوات أوسع نحو الرؤية المتعقلة، والراسخة، بفعل الزمن، الهادئة في بساطة، والثائرة في تأمل.

Em:shyehia@yahoo.com

26 / 6 / 2014

 



[i]  - حمدي الجزار – الحريم – رواية – دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات- الطبعة الأولي – يونيو 2014.