عن دار توبقال للنشر صدرت مجموعة قصصية جديدة للأديبة المغربية لطيفة باقا بعنوان ( غرفة فرجينيا وولف). وتضم المجموعة تسع قصص . ولعله من المفيد القول : إنّ القارئ الذي لا يعرف فرجينيا وولف قد لا يفقه عمق المضامين التي تجسدت في هذه المجموعة . وكأنّ الأديبة لطيفة باقا قد استمرأت فكرة الحلول في شخصية فرجينيا ، وتقمصت رغباتها في امتلاك غرفة خاصة . ولكنها بدلا أن توصد تلك الغرفة وتتلمس أسرارها ، شرّعت النوافذ من أجل كسر قشرة الأسرار الكامنة والنفاذ إلى جوهرها . كما أنها رصّعت قصصها التسع بمقولات للأديبة فرجينيا ، وكأنها تجعل من هذه المقولات بوصلة للنفاذ في مشروع تلك القصة . أو لتنصهر في آتون المقولة، وما أن ْتتخضب من عطر المغزى الخفي حتى تتخذ مسارا مستقلا يجعل من عملها الكتابي ليس مجرد تهويمات منحوتة من أدب فرجينيا ورؤيتها للأدب والحياة . محلقة في عوالم قصصية ذات رؤى وأحداث متلاحقة تستلها من الواقع المغربي . ولكي نقترب أكثر من الأجواء القصصية للكاتبة لطيفة باقا ، علينا أن نّطلّ على الحياة التي عاشتها فرجينيا وولف . تلك الحياة الحادة والعريضة والمشوبة بالتوترات والعقد منذ التحرشات الجنسية التي تعرضت لها من قبل أخيها غير الشقيق ، الى زيجاتها الفاشلة سواء من الرجل الذي يكبرها سنا او الزوج الثاني الذي كان مصابا بالشذوذ الجنسي . ولكن ثمة استقرار نسبي طرأ على حياتها وذالك بزواجها من الأديب ليوناردو وولف ولكنها لم تتمتع معه كثيرا ،حيث انتحرت خوفا من انهيارها العقلي الذي كان وشيكا . وكانت فلسفتها في الحياة انعكاس لتلك العوامل ، والتي أثّرتْ بدورها على طريقة كتابتها أيضا ، مما جعلها تبدي اهتماما لكمية الوعي المتناثرة داخل الذات ، فتحاول اعادة ترتيبها . كما اعتمدت على الغوص في أعماق النفس من أجل استدعاء الخواطر والأحلام .
(الغرفة المجاورة) اول قصة في مجموعة لطيفة باقا . يبدأ الموقف أمام حانوت الخضّار الذي يوقظها وهي متلبسة في الماضي . " أش حب الخاطر " فينتشلها من لحظة الحاضر المعجونة بالفراغ ، حيث " الزقاق موحش وبارد .." وحيث الحركة اليومية لجارتها وزوجها اللذين يخططان لبرنامجهما اليومي المعتاد! . تنطلق اغنية من المذياع " لله يالعطار اعطيني دْوايا ..." فتتسلل الى الماضي وهي تتذكر زبيدة ، عمتها ، التي تمارس الدعارة . يبدأ تيار اللاوعي ليحرك الأحداث . مشاهد مختلفة لذاكرة فتاة مراهقة وأخيها المماثل لعمرها . اللذين يؤمنان بأفكار تروتسكية ، ويحبان اكل الحلزون ومشاهدة المسلسلات التلفزيونية . العمة زبيدة تقدم لهما كل ذالك برحابة صدر ، وهي منهمكة بممارسة المهنة في غرفة مجاورة . السرد للمشاهد ياتي على لسان الفتاة . تحاول ان تشد خيوط القص غير مبالية بتسلسل الأحداث . تبرز زبيدة الطفلة التي لم تتجاوز سنها الثالثة عشر والتي هربت من زوجها لتنتقل من زوج الى آخر ، وهكذا نتوضح المسببات للدعارة والتي تبدو كتحصيل حاصل لمجتمع ذكوري غير متوازن. ورغم أنّ العائلة تنبذ زبيدة ، بوصفها خارجة على النواميس ، لكن سياق الوصف جعلها لاتستحق ان تكون منبوذة لأنها ضحية . ورغم القرف البارز في الوصف لتسلل الرجال واغلاق الأبواب ، ومجيء النسوة اللواتي تثير سماتهن بعض الشكوك . لذا تبدو الغرفة المجاورة كيانا غريبا مشدودا بالغموض . وهي المنطقة النائية والموحشة ، وهي الحد الفاصل بين الفضيلة والرذيلة حسب وجهة نظر العمات ذوات السمات القاسية واللواتي لم يقدمن وجبة الحلزون . ولاشك أن الكاتبة ارادت ان ُتنشيء معادلة غير متوازنة : البراءة من خلال طفلين يحلمان بتغيير العالم ولايشاطران االكبار خطاياهم يشاهدان التلفزة ويأكلان الحلزون في غرفة . يتجاوران مع فعل ينمُّ عن تكريس العبودية وانتهاك الجسد . البراءة والخطيئة يسيران في خطين متوازيين لايلتقيان .
في قصة (واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة، خمسة، ستة) يتجلى لها ابوها في الحلم . يزورها ويتعايش معها . تلك المرأة المغلقة من العواطف ومن العلاقات ، حتى امها تتحول الى شريك لدود . تعيش حياتها المقفرة ، وتقيس الزمن باخر ممارسة جنسية قبل ثلاثة عشر عاما من زوجها الذي رحل الى الأبد . وهكذا تتعايش مع حالة موت ، فتتحول الى طفلة حالمة، تتأرجح بين ذراعي ابيها وهو يقودها الى أماكنه الأثيرة ، الأسواق ، الحانات . تشعر بالسعادة حينما تلغي فكرة الموت أو كما نراه عند الفيلسوف هادكر الذي يعتبر الموت إمكانية الوجود القصوى .وهكذا فقد هيمن على مشاعرها . كانت مفتونة بابيها رغم أنه كان يعيش - قبل موته- حياة بوهيمية، لايأبه لما يحيط به .أو كم تقول عنه " كان على حق حينما يتبول على العالم من النافذة " لقد كانت متيمة به كتعويض عن حالة الإحباط والفقر العاطفي ،أو كأنها تحت وطأة عقدة اوديب الأنثوية او كما سماها تلميذه يونغ عقدة اليكترا . إنّ ظهور الأب - مع افتقاره الى مواصفات الحنان الأبوي - يدل على هيمنة الفعل الذكوري في مجتمع لايقيم للمرأة وزنا . لقد كان الحلم هو السبيل الوحيد لإعادة أشيائها المفقودة ، طفولتها ، ماضيها .وهذا يدخل ضمن مايسمى استحضار التفاصيل التي غيبتها الحياة بقسوتها المفرطة . لقد علمها أنْ تعثر عليه من خلال احاسيس حسابات الأرقام الوهمية . وهكذا تدخلنا الكاتبة ببراعة في اللعبة الرقمية التي لاتنتهي والتي تبدأ بالعد الرقمي الواعي وسرعان ماتذوب في وهم الأرقام ووهم الأحلام . هل حققت القصة مضمون اليقظة على أنه موت كما ترى فرجينيا وولف؟ السياق الحافل بالمشاهد المختلفة يؤكد ذالك .
في (تفاحة آدم) يبدو المشهد شاملا . نساء في قاعة الإنتظار ، لبنى وهي صديقة قديمة ترتدي سروالا جلديا وتنشغل في مكالمة تلفونية ، والتي أثارت الاستغراب لأن الاتجاه الآن هو التحول الى الحجاب ، ثم تفسر ذالك بشكل أقرب الى السخرية " في إطار مشروع التخفيف من التوتر الجنسي داخل الشارع العام " لبنى المتبرجة تبدو في جوهرها حاملة هموم المرأة التي تتعرض للظلم الذكوري. لذالك تلجأ الى ترحيل الألم وتحويله الى خيال سينمائي على طراز توم وجيري . وفكرة اسقاط قسوة الواقع على الخيال من أجل أنْ تنتصر الحياة رغم المحن والهزائم والندوب التي يتم إلغاؤها في المشاهد الكارتونية القادمة . ثم تستعرض المفردات المختلفة للحياة اليومية ، انتظار سيارات الأجرة ، الزحام والمارة، استعراض الوجوه والأجساد التي تمارس لعبة الأنتظار والتحرك . ومن خلال هذا الحشد من الأشياء التي تتلقفها عيناها يتراءى لها شاب وسيم تزين عنقه الجميل تفاحة آدم ، يصبح مركزا لأهتمامها ورغبتها ، هذا الأمر الذي تكتمه اية إمرأة ، أفصحت عنه وهي تعالج النوايا والنزعات المكبوتة لبنات جنسها ، فتعيش حالة من سباق الإنتظار ومراراته ، والذي يوفر لها قدرا من الصفاء الروحي الكاذب ،لاسيما وهي تغادر عيادة الطبيب النفساني . لذا تنشا اشكالية البوح الذي تصدرته القصة : " لايجدر بنا أنْ ننشر ما بداخلنا أكثر من مرة " ولتبق في حدود الحوار الخفي مع النفس وهي تستعرض المداهمات والمضاجعات والقتل ومحاولات القبل بين العشاق في الطرق المكتظة بالسابلة . لقد كانت قصة تفاحة آدم مشحونة بالأسئلة وبالمواقف الإنسانية التي إلتقطتها بعناية ، مركزة على الأبعاد النفسية للمراة/ الإنسان . ثم تدخل في لعبة من الحوارات الداخلية ،والتي تشم منها إعجابا بالكائن الآخر وفحولته ومبادراته ، حتى على صعيد الجرأة والمبادرة والقابلية الفيزيولوجية "حيوانه المنوي الوقح الذي يبادر البويضة الديرويشة " . كل ذالك يأتي ضمن تقنية قصصية محكمة ، تضع حكاية في داخل أخرى، ونصا سرديا قابلا للتفكك وقابلا للدمج ، وكأنها تعيد تنظيم لحظات اللاوعي المتناثرة لأعادة ترتيبها . وهذا يدل على قدرة فائقة في تشكيل المشهد القصصي ، حيث شخصت المناطق الرخوة في النفس البشرية من خلال تحليل علمي صارم في إسلوب قصصي جميل.
استحضار الآتي بمكابداته ، بالشيخوخة المفترضة والعجز والوحدة وهجرة الأبناء . بالجسد الذي لم يحتمل ،بالأدوية الطبية والنوم والقيلولة والثرثرة والصمت . هذا ما وجدناه في قصتها ( غرفة فرجينيا وولف). تلك القصة التي جعلتها ايقونة المجموعة ، أوصومعة البحار الذي يطلّ من فناره ، كي يرى الأمواج والسفن والعواصف . لقد تقمصت الآتي من خلال زمن مفترض . ترى تقاطيع إمرأة طاعنة في السن "أتخيل هذا الوجه وقد ضاعت ملامحه في فوضى الغضون والتجاعيد "ثم يستمر التداعي ليصور بؤس الشيخوخة . ولكن رعب الإفتراض يختفي أمام المرآة ايضا حينما تعود الى بهاء اللحظة المعاشة ،لحظة الحاضر " وجهي في مواجهتي مباشرة أنظر اليه بحنان غريب ..أحسّ فرحا عارما متصاعدا يطفو أخيرا فوق وجهي" . لقد رسمت لنا لوحة بهية وكأنها فنانة تشكيلية وهي تصف شعاع الشمس في تلك اللحظة التي تنسحب من المستقبل لتعيش الحاضر " الفراشات الوردية على ثوب الستار الأصفر .. الفراشات هذه الكائنات الهشة المجبولة على الإحتراق ، هي الآن تطير ، تحاول أن تعانق السماء " . لقد كان تألقا لمشاهد متتالية في النص تحتمل الرمز، روح شعرية عالية وكأنّ الكاتبة ارادت أنْ ترتقي بالنص القصصي وتجعله شبيها بالشعر .
يفرض الأب شخصيته على المناخ القصصي للكاتبة ، فهو يطل علينا من قصة الى اخرى وفي
(رائحة القسوة) يبدو الأب مهيمنا على مشهدية القص . يظهر لنا بنفس الملامح تقريبا. رجل غير ملتزم ولكنه طيب .بوهيمي وشبيه بالمتسكع ولكنه يحب الحياة , ساهم في حرمان ابنته من أشياءها الطفولية الصغيرة وهي تنتظره في أبواب الحانات الرخيصة التي يرتادها ، ولكنه يبقى في النص ذالك الأب الذي يشكل بحد ذاته حاجة معنوية عالية . حيث كان متألقا صادقا متمردا لظروف أكبر منه .مالذي أكسبه هذه الصفة الإيجابية؟ أهي الملامح الخفية التي تجعله يكتنز تلك الشمائل ، والتي لايدركها أحد سوى أبنته " أغني بصوت عال أغنية حزينة كان يدندن بها ابي في لحظات إنتشائه..تتحدث عن حرب مجنونة بلا معنى..عن القسوة التي يشم أطفال الفقراء رائحتها عن بعد.." ولكن هذا الأب يتحول الى صورة نقيضة ، محملة بالرموز . فهو نفسه الذي حرمها من دراجة هوائية أسوة باخوتها الفاشلين، وهو الذي فضّلهم عليها رغم تفوقها الدراسي ، لأنها أنثى . الأب يتحول الى مايشبه الطفل وهي التي تحاول أن تشتري له ألآيس كريم الذي حرمها منه في طفولتها ولكنه أحيانا حينما يكون منتشيا ،لايتورع من الإسراف في الشراء .تتذكر هشاشته وضعفه ،ومع ذالك فانها تصر- في لحظات تداعيات الأحلام- أن تعامله بشكل مختلف . لايتماشى مع شعور التدني ، بل نقيضه . إنه شعار الأنتصار على الهيمنة الذكورية حتى وإنْ تسربلت بجبة الأبوة.
لقد كان النص يسيل بالغربة ، ليس بمعناها العبثي الذي وجدناه عند ألبير كامو وانما استجابة لعوامل موضوعية دافعة للاغتراب . امرأة مهددة طبيا باجتثاث الرحم ، والذي يقودها الى استنزاف كل الأعضاء البشرية لفقراء تطاردهم لعنة الأغنياء . يبدأ ألآن البعد الطبقي لصراع مقيت يطارد المسحوقين . كما كان الجسد حافزا للبقاء او العدم . الجسد تعبير عن الكينونة التي تنزف في شروط قاسية .
( رائحة القسوة ) تلك القصة الرائعة التي تغرق بين ابعاد حياتية غير متوازنة . فقط في عملية الضغط على القدرة المحدودة للإنسان - كأنثى- أنْ تحتمل وأنْ تقاوم .
poin-virgule
قصة بمذاق وتقنية هتشكوكية . المرأة ذاتها - حنونة ملتزمة - يدخل اخوها وهو يعيش هستيريا مرعبة . وهو أنه ضرب حسين عريجة بحجر فألقاه قتيلا . ولكن القصة تنحى منحى آخر ، لتسجل الطرائق التربوية الخاطئة للمجتمع ب( عروبيته ) او (ريافته) بمعاقبة الأطفال .وكأنها اساليب سليمة لتنشئة الجيل . القاصة تلقي الأضواء على هذه الظاهرة ، وتجعلها عرضة للأدانة والسخرية لعدم نجاعتها في التقويم التربوي ثم تتناول الإعاقة الجسدية للضحية حسين والتي بوأته اعلى الدرجات في سلم النجاح المدرسي بعكس أترابه غير المعاقين ، وكأنها تريد أن تصرخ أن العوق هو في العقول الخاملة ، تأتي نتيجة الجريمة التي أعتقد أخوها أنه إرتكبها لاتعدو سوى إصابة غير قاتلة لتنتهي القصة بشكل مفرح ولكنه ذو دلالة . حيث يأتي اب حسين عريجة متوعدا بعد الإجابة غير المقنعة لآم المعتدي " يلا كانت غير جورتكم..الله ينعل بوها جورة .."
القصة ذات مغزى تربوي ، وكانت ناجحة على الصعيد الفني من حيث التكنيك ، ولكنها لاتضاهي بقية القصص من حيث ما اختزنته من عمق المعاني الفكرية.
لقد كانت الأديبة لطيفة قانا في مجموتها القصصية هذه( غرفة فرجينيا وولف) متمكنة من أدواتها الكتابية من حيث الاشتباك المباشر مع الواقع من أجل تفكيكه والخروج بقناعات فاعلة وذات قيمة إيجابية .كما أنها استنارت بفكر وأسلوب شقيقتها الأنثى فرجينيا وولف في بناء الصور الكلية من جزئيات متناثرة فنحن إزاء رصد لصور عديدة ومتشعبة تتكثف شيئا فشيئا لتصبح قصة ، فهي -اي الكاتبة- تهتم بالجزئيات الصغيرة كي تتحول الى مفاصل زمنية لها تأثيرها على السرد .كما اعتمدت على المنولوج الداخلي لتقدم للقاريء سردا غير مباشر عبر اكثر من منظور . كما أضاءت لنا الكثير من العتمة في الشخصية البشرية على الصعيد السايكولوجي ، ولاسيما من الجانب الأنثوي . فقد تمتعت بجرأة فريدة في دخول بعض التابوات التي تتردد غيرها من النسوة الخوض في غماره ، وهو الجنس . كانت صريحة وحادة وصادقة ، قدمت نماذج مدانة من المجتمع (المومس مثلا) ولكنها كشفت عن المكامن الخفية وغير المرئية .وهو إنه في داخل قاع الرذائل كثير من القيم الأخلاقية غير المنظورة . كما انّ العهر مرهون بعوامله السكوت عنها وهي الأكثر ، كالتمايز بين الجنسين وإنتفاء المساواة. ولقد كانت جريئة في الطرح صادقة وواقعية وكأنها تُخضع هذه الظواهر لرؤية مختبرية .
اما الأسلوب القصصي فكان يسيل بعذوبة يرتقي الى الشعر أحيانا ، حرارة في الكلمات ، شفافية في التصوير ، قدرة على شد الأحداث من جزئياتها كما استفادت من اللهجة الدارجة في الحوار لتكسبه حرارة وصدقا . وعموما أستطيع القول أنّ القاصة لطيفة باقا ، قد تركت لمسات مهمة في مسار القصة المغربية والعربية .