يكتب الروائي والناقد المصري الكبير عن كتاب شكري محمد عياد الذي يعد اعترافا بالمفهوم الفلسفي الغربي، وسيرة ذاتية، ورحلة فكر، وسياسة وطن في أزمة، وفكر يبحث عن هوية. وكان يرى أن التجديد والتحديث ليس مجرد رفض أو تمرد فردى، ولكنه تعبير عن «قلق جماعي» ورغبة في التغير، لذلك كان في الأغلب يتحدث عن التأصيل.

العيش على الحافة

عـلاء الديـب

رغم طول معاشرتى للكتب وتعاملى فى تقديمها والكتابة عنها، فقد وقفت حائراً لفترة طويلة أمام كتاب أستاذى شكرى محمد عياد «العيش على الحافة»، وجدت نفسى غارقاً فى بحر من المحبة والاحترام، متحيراً من درجة الغنى والصدق والتنوع. لقد عرفت الأستاذ شخصياً فى سنوات عمره الأخيرة (1921-1999) وعاينت محاولاته الثقافية والفكرية الأخيرة: إنشاء دار نشر «أصدقاء الكتاب»، وقد تم هذا مع صديقين له، هما الدكتور الشنيطى، والأستاذ عبدالمنعم مراد، ثم محاولة إصدار مجلة ثقافية فكرية أدبية خاصة، تواصل الدور الذى لعبته الرسالة والثقافة والكاتب المصرى، واختار لها اسم «النداء»، ولكن لا أدرى لماذا خافت الحكومة أو النظام، وتوقف المشروع، وأظن أن الأستاذ انتهى من كتابة «العيش على الحافة» حوالى هذا الوقت، وإن كان قد ظل يكتب فيه أكثر من عشر سنوات.

الكتاب اعتراف بالمفهوم الفلسفى الغربى، وسيرة ذاتية، ورحلة فكر، وتاريخ نفس، ومكان وأسرة، وسياسة وطن فى أزمة، وفكر يبحث عن هوية، وإنسان يبحث عن حريته.

شكرى عياد كان يبحث عن إحياء، عن تجديد، ونهضة فى الفكر والأدب العربى. محاولات التجديد وتيارات الحداثة الجديدة كانت تثير فى نفسه بعض الارتياب. كان يرى أن التجديد والتحديث ليس مجرد رفض أو تمرد فردى، ولكنه تعبير عن «قلق جماعى» ورغبة فى التغير، لذلك كان فى الأغلب يتحدث عن التأصيل. «كان القمع الانفتاحى النفطى قد غيب الثقافة المصرية فى الشتات»، وخرج أغلب المثقفين من مصر، وخلت الساحة من الأساتذة الكبار، وتُرك محبو الأدب وتلاميذ الفكر والثقافة «لنقاد وكتاب من ناقصى الخبرة، يخدعون القارئ بالتعالى والتعالم، والاستخدام الأجوف لمصطلحات غامضة».

وبقى فى الساحة وحده: الأديب، الفيلسوف، المفكر، المصرى الفلاح الماكر: بقى وحده يبحث عن النهضة والتأصيل، يكتب: القفز على الأشواك ويحاول المستحيل: أن يمسك ظله! ويردد مع السيد المسيح: الشاة الضالة أهم من القطيع كله. وفى مكر فلاحى أصيل وفلسفى ونبيل اختار عنوان «العيش على الحافة»، بينما هو فى الحقيقة يخرج داخل أسرار نفسه وأسرته والمجتمع من حوله، ويرصد التحولات التى جرت فى جيل الوسط الذى انتقل من الريف إلى الحضر.

رغم صغر حجم الكتاب (153 صفحة) فإننى لا أجد نفسى قادراً على تلخيصه أو تقديمه كما أفعل مع أغلب الكتب، لذلك فأنا من البداية أدعو كل مهتم بالفكر أو الأدب، أو مشغول بالمجتمع أو السياسة، لمحاولة الحصول على الكتاب ومحاولة استيعابه، (سمعت أن دار التنوير ستشرف على إصدار كل مؤلفات ومترجمات الرائد الكبير، فى حين أن مكتبة الأسرة فى هيئة الكتاب تصدر كتباً متفرقة له، من ضمنها هذا الكتاب الذى صدر فى مكتبة الأسرة 2012).

أحاول فقط أن أقترب من ملامح الشخصية التى حاول الأستاذ رسمها لطفولته وصباه، ثم ننتقل إلى حكمته ومنجزاته.

هو ابن أول لزوجة ثانية لمدرس فى المساعى المشكورة، أنجب من الزوجة الأولى سبعة، وعندما تزوج الثانية لم تنجب لسنوات ثم مات لها ثلاثة! وعاش عبدالفتاح الثانى، بعد أن مات عبدالفتاح الأول، فأطلق عليه اسم مزدوج هو عبدالفتاح شكرى، لم يفهم العقل الصغير بسهولة التركيبة الأسرية المعقدة، فكان يعتقد - فى رفض طبيعى مشهور - الأسرة والانتماء، وكان يظن أنه ابن «ناس تانيين»، وأنهم قد وجدوه على باب الجامع، ثم يدخل الطفل فى محنة الجنس المرتبك، ويسجل الفنان شكرى عياد هذه الفترة وما صاحبها من مخاوف وأفكار، وصور نفسية واجتماعية فى داخل القرية والمدرسة والأسرة، فى حساسية وفنية كاشفة، لم أقع على مثيل لها فى الأدب المصرى الحديث، إنها فصول نادرة فى وسط الكتاب، يمكن أن توضع بسهولة إلى جوار تحف شكرى عياد القصصية القصيرة (شارع الجامعة - كهف الأخبار، وغيرهما من المجموعات، وروايته القصيرة الفريدة).

كان الطفل «البراوى» الباحث عن الوحدة، هو الميلاد الحقيقى للمفكر وللشاعر، وقال أحد الفلاحين للوالد، الذى يقول له إن الطفل ذكى ولكنه «براوى»، يقول الفلاح الحكيم:

- «اتركه، فى رأسه شىء، وإذا تكلم مع هذا وهذا نسى ما فى رأسه». يكرر الأستاذ كثيراً فى تواضع صادق أن ليس فى سيرته الذاتية ما فى سير الأبطال أو نجوم السينما أو الكورة أو كبار المجرمين، ولكنه يقف مبكراً لكى يقول:

«على أن أذكرك بجانب آخر من تناقضاتى (وهى السبب الوحيد الذى يمكن أن تقرأ هذه السيرة من أجله)!! فرديتى الفظيعة، كرهى للنمطية فى أى صورة من صورها، إذا هتف الناس لا أهتف، إذا صفقوا لا أصفق إلا رعاية للمظاهر، لا أقول آمين وراء الإمام فى الجامع إلا لتصح صلاتى، لا أحب أن أكون نسخة بين آلاف النسخ، يرعبنى التفكير فى الاستنساخ وأراه آخر درجات الانحطاط فى تاريخ الجنس البشرى».

من أهم وأعقد الشخصيات التى يعرفنا عليها الأستاذ هى شخصية الوالدة، لقد اقترب منها بحب واحترام، ولكن بفهم وتحليل عقلى واجتماعى وفلسفى بارد، كزوجة ثانية لزوج شيخ تركها مبكراً لمسؤوليات جسام، فى وقت تحول اجتماعى مهم، وقد ارتبطت الأم بالابن الأكبر ارتباطاً ثقيلاً مركباً حلله شكرى عياد نفسياً واجتماعياً فى بلاغة وحرص فنى وفكرى نادر.

كما عرفنا بأخ لها: خاله «عبدالفتاح شلبى» الزجال الذى كتب أكثر منولوجات «شكوكو»، وكان الزميل المنافس لكاتب الأغانى الذى لا مثيل له «فتحى قورة»، ولكن الغريب والمثير هو النهاية التى انتهى إليها الخال «عبدالفتاح شلبى»، فقد تحول إلى درويش وصاحب خيمة دائمة فى موالد الحسين والسيدة، والأغرب أنه كتب موالاً طويلاً يروى فيه السيرة النبوية، والأغرب أنه صاغ «الميثاق»، ميثاق ثورة 23 يوليو، زجلاً، ومنحته الدولة معاشاً استثنائياً ظل يصرف لعائلته بعد وفاته.

دخل شكرى عياد كلية الآداب لكى يكون قريباً من «طه حسين»، وعندما جلس أمامه مرتبكاً فى لجنة امتحان فى سنواته الأخيرة فى الكلية قال لنفسه:

- هل يمكن أن يخطر بباله أن صبياً ما قال لزميله وهما جالسان على مقعد خشبى فى محطة أشمون: أتمنى أن أكون مثل طه حسين، ولو فقدت بصرى؟

سأله «طه» سؤالاً مباشراً: هل عملك فى ترجمة كتاب الشعر لأرسطو أهم أم عمل عبدالرحمن بدوى؟ وكان يعرف مكانة بدوى عند «طه».

قال شكرى عياد: عملى أنا.

كان قد أنفق ثلاث سنوات متصلة فى الترجمة، وكان يعرف ما يقول وختم كتابه قائلاً:

لا تضعف أمام أحبابك، إن كانوا يحبونك حقاً فإنهم يريدونك قوياً حتى أمامهم.

نختم كلماتنا عن العمل الممتع بالتذكير بعدد من النقط:

أرى علم «النحو العربى»، الذى درسته على يد الأستاذ إبراهيم مصطفى، قمة الفلسفة العربية وقمة الفن العربى!!

أمين الخولى هو الذى جعل محبة القرآن ممزوجة فى قلبى بكل ما حصلته من علم ومعرفة (التفسير الأدبى).

يقول الفنان المفكر فى نهاية السيرة النادرة:

طالما حلمت بالحرية.

اصطفيت من نفسى رفيقى ولكن رفيقى أصبح سجانى.

غشاء من حديد أو صوان، والقلب داخله حى لايزال يصرخ حيث لا يسمعه أحد.

صرخت ماذا جنيت؟ قال: بحثنا عن روحك فوجدناك بلا روح. فمازلت من يومها أبحث عن روحى هنا وهناك ولا أجدها.

بارك الله فى روحك يا أستاذ. تلاميذك على دربك يحاولون البحث عن: الروح.. عن الفن، عن مصر التى أحببتها قبل كل شىء.

 

العيش على الحافة. شكرى محمد عياد. الطبعة الأولى: 1998. دار أصدقاء الكتاب. القاهرة