1 – في البدء كان العنوان:
يشكل العنوان عتبة أساسية لقراءة النصوص، بل هو مدخل حيوي لإضاءة العديد من الجوانب المظلمة أو الغامضة داخل نص/ نصوص أو كتاب معين.
من هنا ننطلق في قراءة ديوان "ما أراه الآن" للشاعر المغربي خليل الوافي.. من هذا العنوان الذي يؤشر على ثنائية "الرؤيا" الآنية/ الزمن. وتندرج ضمن الجزء الأول من هذه الثنائية كلمات وألفاظ كثيرة: (حلم – رأى – رؤيا – المرآة/ المرايا – أحلم – العرافة – السفر – بصير – الضوء/ الأضواء...)، وتندرج ضمن المكون الثاني لهذه الثنائية الألفاظ التالية: (الآن – المجهول – اكتشف – توقظني – مسالك – السؤال – مسافة – التيه – الصبح...).
تنطلق هذه الثنائية لتفترض وجود صراع بين عالم الرؤيا/ الحلم؛ الذي غالبا ما يرتبط بما نريد، أي باللامتحقَّق، في علاقته بالماضي، من جهة، وبالحاضر، من جهة أخرى، ليتشابك مع هذا المكون (الآن) الذي يرتبط بدوره بالحاضر، ولكنه في الوقت نفسه يتطلع إلى المستقبل:
ماضي حاضر مستقـبَل
ولعل السطر الشعري التالي يكاد يختزل العنوان، بل وقصائد الديوان كاملة:
تراني أقرأ فاتحة الطريق (ص:37)
إنه إذن محور الديوان.. فالشاعر يقف في وسط الطريق ليرى ما يعيشه وما هو موجود في الحاضر فيعيد القراءة، باحثا عن فاتحة جديدة/ طريق جديد غير ذلك الطريق الآني ولا الماضي.. إنها فرصته للرحيل إلى الآتي/ المستقبل الذي يفترض أن يكون خلاف هذا الموجود المتحقق اليوم.. وهو ما يجعل الأمر الرؤيوي حاضراً بقوة في قصائد الديوان كلها ... وهو أيضاً ما يؤكده آخر مقطع في الديوان:
أنا العربي الغاضب
أسخر منك يا مولاتي
حين لا أجد في جيبي
وطناً يقرضني ساعة
للحلم. (ص:82)
2 – الرؤيا في ديوان "ما أراه الآن"
الشاعر خليل الوافي مهووس برسم صورة للعربي اليوم، لكنها، في الغالب، صورة قاتمة.. صورة لذلك العربي الذي يحمل معه صورته القديمة في حاضره ويرسم لنفسه مستقبلاً غامضاً؛ فلا هو محافظ على بعض الملامح الإيجابية للعربي القديم ولا هو استطاع رسم صورة لعربي اليوم/ الحاضر الذي وجد مكانته في عالمه .. إنه دوماً ضائع.
تتشكل الصورة الأولى من خلال استحضار مجموعة من الرموز العربية القديمة، سواء كانت أسماء أشخاص أو أماكن أو مدن:
بالأمس ...
كان ابن ذي يزن
يحمي الماء من الهرب
كان عنترة يركض خلف الخيل
أسفل الموت
وأنا – وحيداً –
أجمع حطب الغابات المحترقة
في سؤال الأرض
تركب العير وحشة الأرض
أقرأ صرخة طارق،
تاريخ الحروف ألملم
نحو بوصلة زياد
...
(من قصيدة: "لا أحلم كما أشاء"- ص: 10 - 11)
تغدو هذه الأسماء التراثية العربية ملجأ للشاعر الذي يظل عالقاً في "حطب الغابات المحترقة" ليجتر الأسئلة التي أجاب عنها عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وطارق بن زياد ... كلهم كانوا يملكون البوصلة التي تنير لهم طريق المغامرة وتوضح لهم الاتجاهات الأربع، ما داموا لم يعرفوا الاتجاه الخامس الذي لا يعرف العربي اليوم غيره...
لقد عاش العربي القديم في الصحراء وألف رملها وعِيرَها، وتدثر بسمائها في كامل الربع الخالي حتى ألفته ... كان هذا الربع خاليا إلا من الشعر والسيف وكثير من النخوة ... كل هذا الزاد كان بالنسبة له ثريداً يستشعر من خلاله قُوَّتَه وعنفوانه، على عكس العربي المقتول/ المذبوح بضعفه ومهانته ومهادنته ومذلته:
(...) قولي شيئا يمسح عني
دمع الصبا
والتربة العربية
العالقة في حلقي...
أعرف سيدتي
ما كان لي أن أكون
لحظة مخاض
أراقب هبوط ليل
هارب للتو من عين المقصلة...
( ما كان لي أن أكون- ص: 43)
ما الذي ينتظر هذا الإنسان، إذن، وهو لا يقوى على الانفلات من حاضره، ولا يقدم له الدمع أي عزاء، ومع ذلك يحاول التخلص من التربة العربية التي تأبى الانفكاك عنه، في الوقت الذي تلاحقه المقصلة في كل مكان وفي اللامكان، دون أن يظفر بالمكان/ الوطن الذي يصبو إليه، فيصرخ:
أنا العربي الغاضب
أضع تاريخ أمتي جانباً
وأبحث عن وطن
يحمل اسمي
بعيدا عن جغرافيا الأمكنة...
( أنا العربي – ص: 80)
هذا هو الخلاص الذي يلهث العربي وراءه في محاولة منه للهروب من واقعه .. ولا فكاك له، فيصرخ مرة أخرى:
أنا العربي الغاضب
أحمل نعلي هارباً نحو الحدود،
والقوم خلفي،
وصورة الجنود لا تفارق حلمي،
ويمتد القتل فينا
حتى ذاك الطفل الوليد ...
(أنا العربي – ص: 81)
فأي مصير ينتظر هذا الهارب نحو المجهول، والكل يلاحق خطوه، والكل يطلبه كبيراً أو صغيراً، أو حتى وليداً ... ما هو الخيار إذن؟:
أختار بيتي وقبري الجديد
أداوم الاعتراف أمام موتي
أمام سيل الأسئلة التي تأتي
وأخرى تغرق في وادي الصمت
يخضر وجعي...
( شيء من التيه في زمن الحرب- ص: 65)
كيف يتحول القبر إلى بيت للاستقرار في هذا الزمن العربي؟... وأي بيت هذا الساكن في المقبرة الجديدة، أو البيت الجديد الذي تسكنه مقبرة... لا فرق، إذن، ما دامت المقبرة والبيت قد تحولا إلى شيء واحد .. إلى فضاء بصيغة المفرد المثنى، وهما يمتزجان معا ويتوحدان ... ذاك هو البيت الذي غدا يقطنه العربي اليوم وغداً، حالماً بالانتقال من زمنه القديم والفرار من عقاله المقيِّد له، وجلبابه الذي ما فتئ يرتديه رغما عنه.. وهو رمز آخر للضعف وعدم القدرة على الانفلات من رقبة الماضي المعشعش بكامل أغبرته، والحاضر الأليم بكل صوره وإحباطاته وهزائمه وانتكاساته:
" تخرج يدي من فرط التلويح
على حافة البحر
منارة تطل بضوئها الخجول
يرقد الحلم بعيدا في سباته القديم...
(شيء من التيه في زمن الحرب- ص: 64)
وهنا يصبح الحلم ملجأ للفرار من الحاضر، مما يؤشر على مجهولية المستقبل وضبابيته، بل سوداويته، أحياناً، فينتصب البعد التشاؤمي مهيمناً عبر معطيات قصائد الديوان:
إقتربْ أيها الليل الغريب
في يدي
لعلي أمسك نجمك العالي ...
فتبدو عصبية تلك العروبة
البعيدة عن وطني
(امرأة الليل – ص: 72)
إن محاولة القبض على الحلم/ النجم العالي محاولة يائسة يصعب معها اختزال الوطن في العروبة أو العروبة في الوطن حيث يشتد سواد الليل ليعم فضاء هذا الحلم الجميل ويرتد الشاعر حسيراً يبحث لنفسه، ولغيره، عن قبس نور يضيء عتمة هذا الليل الغريب، فماذا يفعل الشاعر سوى أن يصرخ، ولكن في وجه نفسه:
أصرخ في وجه نفسي
ماذا عساي فاعل؟
ويداي تخونهما الإشارات
في ملح الجرح
أي شيء يغسل وجه عَرَبِسْتان
من وجع الأرض...
(أنا العربي- ص: 79)
هل حقا كان الشاعر خليل الوافي يبحث عن رؤيا جديدة أم أنه ظل يتلمس رؤيا غيره ليرى بواسطتها؟.
ولنقل إنه يرى، لكن بعين يوسف، ما لا يراه غيره، ويتمثل دوره في حمل هذا الهم كله، كما حمل يوسف هموم قومه:
أرى يوسف
يحمل هم أحد عشر كوكبا
والطير تأكل من رأسي
ويعقوب قد ارتد بصيرا
(ما أراه الآن- ص:50)
فهل نعتبر هذا المقطع الأخير مؤشرا على التفاؤل الذي يغيب عن الديوان، في محاولة لاستشراف أفق يبعث عن الأمل، رغم كل السواد والتشاؤم المهيمن على عالم قصائد الديوان كلها؟!...
لعله كذلك، خاصة إذا علمنا أن الديوان ينتهي بهذه الصرخة المتحدية:
أنا العربي الغاضب
أسخر منك يا موتي
حين لا أجد في جيبي
وطنا يقرضني ساعة
للحلم...
(أنا العربي – ص: 82)
3 – " ما أراه الآن" بين الحوارية و "الحكائية"
ظاهرة أخرى تلفت النظر في ديوان "ما أراه الآن" وهي هذه القصيدة- الحكاية، حيث النفَس الدرامي، حين تتقدم المقاطع الحكائية في النص، تتوسد السرد والحوار معاً في إطار مقطع طويل أو دفقة شعورية ممتدة تأبى التوقف حتى الزفرة الأخيرة... ولعل خير ما يمثل ذلك قصيدتان هما: " في قرع الباب" و "شيء من التيه في زمن الحرب".
في قصيدة "في قرع الباب" يبدأ النص من لحظة البداية التي تعكس إطلالة الشاعر/ الصوت على فضاء ضيق:
أقرع الباب..
يطل وجهي من الطابق العلوي
من شرفة البيت
لونه تداعى للسقوط
يترنح ظلي خلفي
أبحث عن نفسي .. عن لغتي
في رطوبة الجدار
في رائحة الشاي
يدق قلبي زمن الانتظار. (ص: 15)
ثم ينمو المشهد في تداخل مونولوجي يرتد إلى الماضي/ التذكر:
أقرع الباب..
كل شيء يوحي أنني أعرف هذا المكان...
هل كنت هنا بالأمس؟
توغلت في دمي
في الذات الشاردة
في الصراخ الطويل
في العويل المباح
كي أرى نفسي في السراب..
غريبة أنت سيدتي.
( ص: 15 – 16)
ثم تتطور اللحظة إلى تأمل الذات، التي تدخل في هذيان تساؤلي يشك في الأشياء بحثا عن مخرج، لتستسلم الذات في لحظة تالية (المقطع الرابع)، تنقل نفسها إلى عالم الحلم. وفي المقطع الخامس تستمر "الحكاية" بين لحظة الآن/ التأمل ولحظة اليقظة التي تصطدم بما هو واقع ... وفي المقطع السادس تعيد الذات قراءة ما هو كائن في لحظة إنصات لبعض الصور، لتختتم القصيدة بمقطع سابع يحاول إعادة ترميم الذات المنكسرة من خلال استحضار صورة "صبي"/ ولادة جديد(ة):
أقرع الباب..
أَفْرُكُ حلمي
تتجدد صورة الإطار
على ثلة العودة:
صبي يتعلم السير ببطء
كي لا يخطئ طريق المقدس
...
(ص: 19)
وهو المقطع الذي يضفي جوا تفاؤليا يستشرف الولادة القادمة، لعلها تعيد إحياء ما مات وإيقاظ مامُوتِ الذات المهزومة....
وفي قصيدة " شيء من التيه في زمن الحرب" ينمو الصراع الدرامي في سيرورة الحكاية التي يخترقها الحوار، حيث يستحضر الشاعر صوتا آخر يتحاور معه، فتتداخل الأصوات والرؤى لتعطي للقصيدة فرصة التطور...
تبدأ القصيدة هادئة، ثم تتذكر الذات حوارها الذي يتداخل بدوره مع أصوات أخرى، وهكذا حتى آخر القصيدة التي تنتهي بمحاولة إيقاظ الأمل، مرة أخرى، وبنفَس تفاؤلي:
أجمع فتات الكتب المحترقة
أعود لمقتبل العمر
ألعب في الزقاق الخلفي
كي ينتصر الحلم ثانية
كي ما تصبح شقائق النعمان
فراشات بيتي....
(ص: 67)
مما يؤشر على ضرورة انبعاث جديدة تعيد الحلم مرة أخرى، وهو ما يرتبط بنهاية قصيدة "في قرع الباب" السابقة.
على سبيل الختم:
ديوان خليل الوافي: "ما أراه الآن" قصيدة واحدة تحمل رؤياها لتعمل على إشراك القارئ في تفاصيلها، حتى يغدو بدوره مشاركاً منخرطاً في إعادة بناء القصائد/ القصيدة من خلال رؤيا "جمعية" تتجاوز الشاعر – كعرَّاف – لتتماهى الذوات العربية في لحظة واحدة يتوزعها الكلام واللغة والصورة، في محاولة لاكتشاف رؤيا تلك الذات...
الديوان/ القصيدة صرخة في وجه الألم الذي يحياه الإنسان العربي في تخوم واقع مهزوم شر هزيمة ، كلما حلم بفرصة جديدة ولاح له أمل ما كلما ذُبِح العربي والأمل معا من جديد.. إنها صخة البحث الدائم والدؤوب عن الذات وعن الأنا/ النحن الضائعة، ولكن يظل الأمل موجوداً وقائما ولو وسط الركام...