حين دخلت سوق الدجاج القديم فاجئتني رائحة كريهة، فأوشكت أن اختنق. وقفت و أخرجت منديلا ً ورقيا ً و وضعته على أنفي ثم واصلت المسير. كان هناك خليط عجيب من محلات بيع الدجاج الذي يذبح في الحالة و ينظف و يقدم للزبون مع دعوات مهنية بالعافية، و من محلات بيع الفاكهة و الخضروات، و لكن ما أثار عجبي حقا ً هو أن محلا ً لبيع العطور كان يتوسط محلات بيع الدجاج و جزره و محلات بيع الفواكه و الخضر. (ترى ما الذي يمكن أن يبيعه صاحب محل العطور هذا؟ أم أنه أدرك أن الحاجة للعطور تكون أعظم في هذا المكان؟ لست أدري). لا بد لي أن أشتري ثلاث دجاجات مجزورة على الطريقة الإسلامية، هكذا طلبت زوجتي. و لأنني لا أتحمل عناء البقاء و البحث لوقت طويل في هذا الظرف، توقفت عند أقرب محل لبيع الدجاج و جزره. كان هناك ثلاثة رجال. كان أحدهم خمسينيا ً ذا شاربين عظيمين، و هو يرتدي ملابس أهل الريف، دشداشة و كوفية مرقطة بالأسود و عقال، و كان الآخر يبدو أصغر سنا ً منه، و قد خمنت أنه من الموظفين بسمتهم المعهود، الصلع الخفيف، و النظارة و البطن المندلق إلى أمام. و أما الثالث فكان شابا ً في العشرين، يضع على إذنه سماعة جهاز أم بي ثري، و يؤدي حركات إيقاعية خفيفة، ربما غير ملحوظة فهمت منها أنه يستمع إلى موسيقى راقصة.
ألقيت التحية، فنظر البائع نحوي و هو يعمل في آلة سلخ ريش الدجاج، و قال:
- تفضل أخي.
- أريد ثلاثة دجاجات.
- الكيلو بأربعة آلاف.
- لا يهم السعر. المهم أن تكون الدجاجات غير مريضة.
- كل دجاجنا ممتاز. و عليك أن تنتظر دورك.
نظرت في القفص الرئيسي، و فكرت: (من الواضح أن بعضا ً من الدجاج في هذا القفص يكذب ما يقوله البائع، فهذا البعض يوشك أن يموت. لست أدري لماذا؟) قال الرجل الذي خمنت أنه موظف:
- هل سمعتم بالحادث المروع، لقد وجدوا جثثا ً مقطوعة الرأس مرة أخرى.
قال بائع الدجاج المجزور، و هو يحز عنق إحدى الدجاجات:
- لا أدري كيف يستطيع الإنسان أن يتحول إلى وحش.
وعقب الرجل الخمسيني على كلامي:
- هؤلاء بشر خلت قلوبهم من الرحمة. يا جماعة، يبدو أن الله تخلى عنا.
قال بائع الدجاج مؤيدا ً:
- نعم. يبدو أن الله قد تخلى عنا!
قال الخمسيني ذو السحنة القروية:
- حاشا لله.
و في الأثناء كان البائع ينطق بالبسملة و يستمر في عملية ذبح الدجاجات التي فهمت أنها تعود للموظف دون أن يبدي مزيدا ً من الآراء.
قال الذي خلته موظفا ً:
- رأيت قبل مدة فلما ً عرضته قناة الجزيرة عن عملية ذبح لرهينة أجنبية يقوم بها من يزعمون أنهم مقاومة. و الله يا جماعة كان المشهد بشعا ً. كان الذباح قد وضع رجلة على عنق الأسير، نطق بالبسملة، وذبحه كالخروف.
و في الأثناء كان البائع مستمراً بالذبح و النطق بالبسملة. لم يعقب أحد. أما أنا فقد شعرت بالغثيان، لست أدري لماذا. التفت حتى أبدد تفكيري بالغثيان، فرأيت الشاب العشريني الذي لم يكن منتبها ً لكلامنا، و قد أستمر في أرجحة يده اليمنى على إيقاع ما يسمعه في الجهاز من أغاني أو ربما موسيقى، لست أدري. فجأة، رن هاتفه الجوال، فتوقف عن حركاته، و أخذ هاتفه الجوال من جرابه و بعد قليل قال:
- نعم ماما. .... صار ماما. أقفل هاتفه الجوال و قال:
- عمو أبو الدجاج، زيد الدجاجتين واحدة أخرى.
- صار أبني.
كان بائع الدجاج ملوثا ً بدماء الدجاج و ريشه المنتوف في الآلة، و على الأرض التي اصطبغت بالأحمر القاني كان هناك كدس مبلل من ريش الدجاج المذبوح، بينما كان الدجاج الحي في القفص يواصل الأكل أو شرب الماء أو الوقوف دونما حركة الجلوس على أرضية القفص.
قال الموظف:
- و الله أنا لا استطيع ذبح دجاجة، (فجأة ابتسم و أضاف) و لذلك تروني هنا أشتري دجاجا ً مذبوحا ً على الشريعة الإسلامية. (توقف للحظة، ثم أضاف) و أنت أستاذ، ما هو رأيك بما نقول؟
قلت:
- عفوا ً، أنا غير منتبه لما يدور. فقد فقدت عزيزا ً منذ فترة قريبة، و أريد أن أشتري عددا ً من الدجاج المجزور لأن ضيوفا ً سيأتون لزيارتنا للأخذ من خاطرنا بهذه المناسبة.
(ترى هل انتبهوا إلى أنني لم أقل الحقيقة بخصوص الانتباه لما يقولون؟ و على أية حال، حتى و إن انتبهوا، فكيف لي أن أتأكد من أن لا أحدهم منهم يعمل مع الإرهاببين، و قد ينقل كلامي لهم فيقتلوني؟)
انتهى البائع من تهيئة الدجاجات للموظف، و قال موجها ً الكلام لي:
- تفضل أستاذ، أختر الدجاجات التي تريدها.
- شكرا ً. نعم أريد تلك الواقفة قرب باب القفص. و تلك التي تشرب الماء، و تلك التي تنقر الحب.
- لك ما تريد.
ثم مد يده إلى القفص، فأخرج أولا ً الدجاجة التي تقف عند بابه، و قال ’بسم الله الرحمن الرحيم‘ و بدأ بذبحها، و تبع ذلك بالثانية و الثالثة. و في كل مرة كان جسد الدجاجة المذبوحة يختلج بقوة، لكن قدمه اليسرى التي كانت تدوس عليها بإحكام لا تسمح لها بحرية الحركة للتعبير عن آلمها، و كانت بقية الدجاج في الأقفاص تنقسم إلى مجموعة تأكل الحب بتمهل و أخرى تشرب الماء بينما وقفت مجموعة من الدجاج تنظر دون مبالاة. نظرت إلى الحائط الأيمن فرأيت البسملة مخطوطة بالبويا الحمراء على الجدار الأبيض. سألت بائع الدجاج عن سبب تدوين البسملة فقط، فأجاب:
- قد أنسى النطق بالبسملة فتكون البسملة على الجدار كافية لجعل عملية الذبح حلال.
ثم سلمني الدجاج المجزور متمنياً لي الصحة و العافية. أعطيته الثمن و أنا مطمئن إلى أنني سآكل لحماً حلالاً.