تبدأ رحلة الكاتبة، من مالقة جنوب اسبانيا إلى مليلية شمال المغرب، آن تحط محررة «الكلمة» رحالها في ردهة فضاءات الجغرافيا وفضاء الذات، ولكنها سرعان ما تجد نفسها منهمكة في تفكيك سردية المشهد، ودلالات نظام العلامات، في محطات الزمان وآثار المكانيّة في جوبات المدنية التي تقصدها.

الإبحار إلى الشمال من الجنوب

أثير محمد على

أخذت البرودة تلف مالقة مع وصول السحب المسائية القادمة من الغرب. تركت معالم فندقي وراء ظهري في شارع «مولينا لاريو»، وشققت طريقي نزولاً مع حركة المارة باتجاه الشاطئ. تجاوزت الكاتدرائية المشيّدة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وقبل أن أعبر شارع «إلباسيو ديل باركي» استرعت انتباهي فكرة انصبت خلفي، دفعتني للاستدارة ورفع عيني إلى أعالي المنظر، وكأنني أصغي لصفير قطار بعيد، تزامن مع غبشة حليبية كانت تتسلق الجنائن المرتقية نحو أسوار قلعة «القصبة» العربيّة، حيث احتُفِل بأول صلاة إثر ما سمي بـ"حروب استعادة" المدينة عام 1487م على يد الملكين ايزابيلا وفيرناندو، لتفقد بذلك مملكة غرناطة أهم ثغورها البحرية، قبل ليل سقوطها الأخير في 2 كانون الثاني/ يناير 1492م.   انتظرت لبرهة تأرجحت لبضعة أمتار أو بالأحرى خطوات، وعدت للانشغال بوجه البحر، والتمهل تحت شجرة الكينا قبل أن أدفع عجلات حقيبتي لتنزلق مع سطوع الضوء الأخضر وهو يشير لي بعبور الدوار وسكون الريح. ولجت بوابة المرفأ الحديدية، بدت زخات المطر المنسكبة للتو فوق الطريق وكأنها تحاول صقل انعكاس نور المصابيح وسط الظلمة المتمهلة، بينما تحفّز اندلاق القطرات من أسطح العنابر الواطئة، يهيج صدى هرولة العابرين. توقفت لأتمكن من الإحاطة بأبعاد المشهد: عند الحافة البعيدة على طول الشريط الساحلي، كان الميناء يغص بعابرات محيطات شبحيّة تتوسد دبق الرصيف البحري، بينما المزالق والرافعات تحمل منها وإليها حاويات معدنية في عملية إفراغ وتعبئة، وإلى ناحية زنقة الخليج الأقرب، رست البواخر وسفن الفرّي «العبّارات» متخمة بحمولتها على استعداد للإبحار وشق عنان أمواه المتوسط، ومن عمق الشاشة الغارقة بالحيرة وعتمة الليل، تنشقت ملوحة ثقيلة ،ساهمت في مضاعفة شتات أفكاري، وأنا أنضم لأرتال من عائلات المسافرين، مهاجري الأوطان، شغيلة تتنقل بين ضفتي قارتين، جوابي آفاق الاسترزاق، الباحثين عن المفقود، المتسكعين مع الوحدة، وهواة العدم.   اقتربت من كوة التذاكر لشركة «أكسيونا» للسياحة والنقل البحري المتوسطي في بهو البناء المركزي: ـ بطاقة لمليلية .. ذهاب وإياب .. وتابعتُ قبل أن يرمش بصر موظفة التذاكر عن مستقره: ـ رحلة الليلة، لشخص واحد. أزاحت غرتها الكستنائية عن عينيها، وتملت في حقيبتي الصغيرة، قبل أن تحسم جملتها التالية: ـ تاريخ العودة. ـ ليل السبت القادم. ـ قمرة أم مقعد؟ رفعت بصرها من جديد عن شاشة الكومبيوتر، ليعلق بفتور ابتسامة على وجهي، كأنما تنتظر شيئاً غير ذي بال. تملكني الإحساس بأنها أكثر سمنة مما اعتقدت، ولم يداخلني الشك أمام خواتمها الفضية المحشورة في أصابعها البدينة المتأهبة لنقر ما أمليه عليها: ـ مقعد. تناولت البطاقة الممدودة من كوة النافذة، بينما صوتها يرتفع ليؤكد: ـ المغادرة الساعة 23 و59 دقيقة تماماً .. ومن ثم أردفت بعبارة "رحلة طيبة"، والتي تهاوت من حبالها الصوتية كوقع قطرات متلاحقة في بئر.   انتبذت زاوية من ردهة الاستراحة، وارتميت على مقعد طويل قرب شابة ترتدي الجلابية التقليدية المألوفة لنساء المغرب، لمحت في وجهها المتكور تقطيبة داخلية، بينما طيف ابتسامة مواربة يشقّ ثغرها. كانت تغفو بثقالة لم ينبهها شيئ مما حولها، إلا خشخشات كيس صغير ينتفخ بتواضع في حضنها، بينما هي تنحني فوقه تضمه إلى صدرها بحنو بالغ. تفرست في يديها الضخمتين وأنا أوغل في ملاحقة خطوط الحناء المحمرّة فوق عروق نافرة مزرقّة، ما الذي يمكن أن يحتوي سقط متاعها هذا حتى تتكمش به على هذا النحو .. حصيلة خدمتها في المنازل .. صورة حبيب .. تذكار بعيد .. صفاء في زمن التلوث .. أقماط وطن؟!!   في أماكن السفر المعتمدة في اسبانيا غالباً لن يصادف المرء المهاجرين بدون أوراق رسمية تشرّع وجودهم في البلد، لأن لهم فضاءات الهامش المهمش، يتنقلون فيها خفية عن السلطات، تاركين قدرهم لمبرمجي استغلال اليد العاملة الرخيصة بلا أية حقوق، أو ضمانات اجتماعية أو صحية. هذا يعني أن من يستطيع عبور المسالك الحدودية، بين ضفتي القارة الأوربية وشمال افريقيا، يمتلك امتيازات شروط الشرعيّة المعممة من قبل الاتحاد الأوربي، أما أولئك المسمون "بلا أوراق"، فغالباً ما يكون سفرهم السري باتجاه واحد: من شمال افريقيا إلى الأراضي التي تدير اسبانيا حكمها، ينحشرون في "قوارب الموت" المنظمة من قبل شبكات مستثمري أقاصي بؤس الوضع البشري، من الحالمين بالقارة التي تسطع أنوارها على الضفة الأخرى: البحر من أمامهم والواقع من ورائهم. قد يصلون اليابسة الأوربية، وينسلون عبر مسالك "العالم الثالث"، المترسب في قاع "عالم الرفاه" المتأزم، أو يلفظ البحر جثثهم لتعلق على الصخور أو لتنداح مع رمال الشواطئ.   تعتبر بلدة «تاريفا» الاسبانية، التابعة إدارياً لمدينة قادس، النقطة الأوربية الأقرب إلى القارة الأفريقية، لوقوعها في المجال الأضيق من مضيق "جبل طارق"، عندها تلتقي مياه المتوسط مع المحيط الأطلسي. ويعود اسم «تاريفا» لأول مسلم أمازيغي وطأت قدماه شبه الجزيرة الإيبرية: طريف بن مالك، الذي قاد أول حملة اسلاميّة باتجاه الأندلس عام 710م، استجابة لأوامر موسى بن نصير، وبمساعدة قدمها الكونت خوليان حاكم سبته. لسنوات خلت تعود لنهايات عقد التسعينات، حين وقفت عند الرأس البحري في «تاريفا» بدت لي مسافة الـ 14 كم بحراً بين البلدة ومدينة سبتة شمال المغرب كأنها رمية حجر. وقتها حدثتني نفسي بضرورة مشاهدة مرئيات المنظر من الضفة الأخرى، فأبحرت إلى سبتة، وهي من قال لي برفع المرساة نحو مليلية في يوم من الأيام. تركت جارتي المغربية لكيس توقها وساعتها البيولوجية تنبهها عن موعد الإبحار، وتوجهت لمغادرة ردهة الاستراحة التي بدأت تضيق بالبشر والضجيج والأمتعة المتكدسة. لفت انتباهي تكرار البطانيات المطوية بعناية في أكياس بلاستيكية شفافة، ظننت أنها من قبيل السلع أو المشتريات التي يؤوب بها الركاب من شبه الجزيرة الإيبيرية. ولكني سأكتشف في رحلة الإبحار، ذهاباً وإياباً، أن البطانية هي حصيلة خبرة مسافر الدرجة الثالثة، ووسيلته الدفاعية ضد برد البحر الليلي، ومن مستلزمات النوم في أي ركن من السفينة ـ أو العالم ـ رغم أن لوائح الحظر تحدد الالتزام بالجلوس على المقعد في الصالات المخصصة لذلك خلال الرحلة.   أحسست بجفاف في حلقي، حين أتاحت لي عقارب الساعة مهلة من الوقت، قبل أن ألحق بطابور العبور الحدودي، فأخذت يميني وسرت باتجاه إحدى مقاهي المرفأ، ومع اقترابي التدريجي كانت رائحة السمك المقلي المتبل بصلصة الخل مع الكمون تثير شهيي. شققت طريقي بين الفوضى الحماسية والحقائب المتناثرة إلى البار، بينما التلفزيون المعلق قرب السقف يشدّ المتفرجين من رقابهم، وهم يلوكون عشائهم ومسرتهم الطارئة، يتابعون اليوتوبيا الموعودة في الفواصل الإشهاريّة والدعائيّة. جلت طرفي بينهم، رجحّت لي ملامح معظمهم بنحو لا يدع مجالاً للشك. بتحدّرهم من شمال افريقيا، هذا إن لم أركز الانتباه على نبر اللهجة المغربية، واللغة الأمازيغية المنسربة من مجمل الأصوات هنا وهناك، خاصة من الأمهات وهن يلقمن صغارهن. وضع النادل أمامي صحن الكلمار وكأس البيرة، وهو يبتسم كمن يستعد لالتقاط صورة له أمام خلفية اصطفت على رفوفها زجاجات المشروبات الروحية: ـ الطقس يبشر بظروف مواتية للإبحار في مثل هذا الوقت من السنة، ستبحرين مع «أكسيونا»؟.. هززت رأسي بالإيجاب، ولم أضف. حدّس برغبتي للصمت، ابتسم بتضامن، وابتعد إلى الزبون المجاور، وفتح معه حديثاً عن أصناف النبيذ، وخبرة تذوق نخبه وأصنافه. يشاركني بعض الأصدقاء الرأي على أن الاتكاء إلى حافة البار هو وسيلة مناسبة للخروج من الوحدة، ففيه تسنح الفرصة للثرثرة مع النادل، أو مع من هو قريب منك، ولكني في تلك اللحظة كنت أميل للبقاء جانباً، مكتفية بمسح فضاء الفرجة ببصري، أكثر من أداء أي دور فيها.   تقع مليلية ضمن الشمال الشرقي للمغرب. يعود تاريخها الأبعد، كما هو مألوف لدى العديد من مدن المتوسط، للفينيقيين، آن بنوا فيها ميناء تجارياً حمل اسم «روسادير»، قبل أن تتواكب عليها الأزمنة، ويتبدل اسمها مع المرحلة الرومانية، والتي انتهت بهجوم الفاندال من جهة شبه الجزيرة الإيبرية مدمرة ملامح المدينة ومشوهة جمالها، إلى أن قامت من جديد على يد القوط. ومع انتشار الإسلام في الشمال الإفريقي، كانت المدينة تعرف باسم "نيقور". وفي أواخر القرن التاسع، أثناء خلافة عبد الرحمن الثالث في قرطبة ضُمّت لنطاق الخلافة الأندلسيّة، لتحمل هذه المرة اسم مليلية، الذي تعرف به الآن. في القرن الثالث عشر، عقب انهيار دولة الموحدين، قام بنو مرين في فاس بالسيطرة على مليلية، وضمها لمدينتهم الملكيّة في أوج ازدهارها، إلا أن الحروب المتعاقبة بين فاس وتلمسان تسببت في إهمال المدينة، وتركتها لمصير النسيان من قبل حكامها المرينيين، ففقدت أهميتها وقوتها كحاضرة بحرية. حافظت مليلية على صلتها مع الأندلس بعد سقوط غرناطة، ولم تتوقف عن استقبال دفق أهاليه إلى شطآنها، ففي 4 تشرين الأول/ اكتوبر 1493 ألقى الملك أبو عبد الله الصغير (1460؟-1527) مرساة مركبه، برفقة عائلته وحاشيته، عند شواطئ غساسة الواقعة على بعد 18كم من مليلية، ليواجه يوم موته الأخير في فاس. ومع نهاية القرن الخامس عشر، وبينما المشاعر الحربية وأمجاد النصر والشمولية التفتيشيّة تخيّم على شبه الجزيرة الإيبرية، أرسل الملكان فرناندو وايزابيلا العيون لاستطلاع الوضع في مليلية، مدفوعان بعوامل جيوسياسية واستراتيجية للسيطرة على مداخل البحر المتوسط، وجاءت الآراء الأولية لتجمع على صعوبة احتلال المدينة. حينها تقدم دوق مدينة صيدونيا الاسبانيّة خوان الونسو دي غوثمان الثالث، ليأخذ على عاتقه إنجاز المخطط، بعد أن حصل على الإذن من الملكين فرناندو وايزايبلا، فمول حملة احتلال مليلية، والذي تحقق على يد أحد أتباعه المدعو بدرو دي استوبينيان في شهر أيلول/ سبتمبر 1497م، ومنذئد وهذه المدينة تخضع للتاج الاسباني.   علت مكبرات الصوت في أرجاء المقهى تعلن عن رحلة الفرّي «العبّارة» لشركة «أكسيونا» إلى مليلية، وتطلب من الركاب التوجه إلى المعابر الحدودية في طريقهم إلى المركب .. طبعاً لا تختلف المعاملات الحدودية البحرية بين المدن الساحلية الاسبانية وبين سبتة ومليلية وجزر الكناري وجزر البليار التابعة للإدارة الاسبانيّة، عن مثيلتها المتعارف عليها في المطارات الدولية حين السفر بين البلدان الأوربية، مضافاً إليها التوتر الذي تخلقه قضية الهجرة اللاشرعية في عمليات التفتيش، وتدقيق وثائق السفر. اندفعت نحو سلالم الفرّي الضيقة مع ثلة من رفاق الرحلة، وصعدت طابقين حتى الدور الرابع. اخترت الصالة التي سأقضي فيها ليلتي البحرية، فموعد الوصول سيكون في الثامنة صباحاً، فيما لو لم تعترض أنواء البحر على التكهنات المناخيّة بجديد لم يكن في الحسبان. تركت حقيبتي بحراسة عائلة مغربية تجاورني، وخرجت إلى سطح السفينة المكشوف والمطل على الميناء. اتكأت على الحاجز أستطلع الرحيل، آن وصل سمعي صوت رتاج الساتر الخلفي، وهو يغلق على الكاميونات والشاحنات والسيارت التي تغفو في جوف الباخرة، وخيل لي أن أنوار مالقة تنوس بسكينة، بينما أخذ سطوعها يشحب كلما تقدم بنا المركب إلى عرض البحر.   استلقيت على صف من المقاعد المنجّدة مثل غالبية الركاب، بعد أن ارتديت جواربي السميكة وكنزة الصوف. كان الوسن أبلغ من السطور التي كنت أقرأها بالاسبانية: «تقع مليلية في شمال افريقيا، مقابل الشواطئ الجنوبية لشبه الجزيرة الإيبيرية، وتتمتع تحت الإدارة الاسبانية بحكم ذاتي منذ 14 آذار/ مارس 1995، وتمتد على مساحة 12.5 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها حوالي 75.000 نسمة، وتتميز بتعدد في تركيبها السكاني، ونشاطها الاقتصادي، وتقدم مثالاً فريداً في التعايش بين ثقافاتها الأربع: المسيحية، المسلمة، السفاردية، والهندوسية، بمقتضى خصوصيتها التاريخية والجغرافية...». لم أعلق على سردية الكتيب السياحية لأن الأمواج كانت تتلاطم على حافة أحلامي، تغرقني في نوم متوجس، رغبت فيه بغطاء يلفني بالدفء، وتذكرت بطانيات الركاب بحنين وأنا أغلق مستقبلات حسي على الخارج.   منذ أن قصدت اسبانيا للدراسة في نهاية التسعينات، كان التوق للتعرف على البلد يمتلكني ولازال. عنت لي محاولة الاندماج بالمجتمع الذي أعيش فيه، الابتعاد عن النظرة الاستشراقية التي شرقنت أسبانيا ونمطتها، في صورة كارمن ومصارعة الثيران، وماضيها "الملوث بالعرب". ومن هنا جاءت معرفة الفضاء الزماني والمكاني الذي أعيش فيه كضرورة ملحة. من حينها مابرحت الطرق تتشعب بي ولا تنتهي، أذهلني التعدد الثقافي والفني والتاريخي والجغرافي، ضمن المتحد السياسي الاسباني، وانفتحت أمامي خلف البحار قارة بأكملها تتحدث القشتاليّة، وتربطها وشائج صلات قديمة، مع رحم الاستعمار الذي شكلته اسبانيا "الوطن الأم" في عصرها الإمبراطوري. واحدة من النقاط التي لفتت نظري بإعجاب في تاريخ اسبانيا، يكمن في المثال الذي يقدمه الاسبان، والمتعلق بقدرتهم على النهوض من جديد، بعد حرب أهلية (1936-1939) دامية راح ضحيتها أكثر من نصف مليون اسباني، لتحكم اسبانيا بعدها ديكتاتورية الجنرال فرانكو (1892-1975) لمدة أربعين عاماً، تُرك فيها الشعب الاسباني من قبل المجتمع الدولي، تحت رحمة الشمولية اليمنية العسكرية، التي مثلت بالنسبة لأوربا الغربية والولايات المتحدة، حصناً حصيناً ضد التهديد الشيوعي أثناء الحرب الباردة. مع نهاية عقد الستينات في القرن الماضي، حتى قبل وفاة الجنرال فرانكو، أخذ الداخل الاسباني يعيش تحولاً واضحاً ومفارقاً نحو المطالبة بالديموقراطية، وجاهر به في الشوارع والمقاهي والجامعات. الآن وبعد 35 سنة من مسار التحول الديموقراطي، من يوم الاعتراف بشرعية الحزب الشيوعي الاسباني في مايو/ أيار 1977 وحتى الآن، لا يسع المرء إلا أن يحترم الجهد الكبير الذي قدمه الشعب الاسباني، وكافة ألوان الطيف السياسي، باستثناء بقايا اليمين الفاشي، لطوي صفحة الماضي الديكتاتوري، والتأكيد على الديموقرطية الدستورية في الحكم، وتبعاً لذلك نالت الأقاليم الاسبانية حكماً ذاتياً، لها برلماناتها التمثيلية الخاصة، وتم الاعتراف باللغة الكتلانية، ولغة الباسك، ولغة جليقية إلى جانب القشتالية على حدٍ سواء، في الأقاليم التي تتحدث هذه اللغات، وشمل ذلك الأخذ بعين الاعتبار حقوق التربية والتعليم وحرية التعبير، إلى ما هنالك من حقوق مدنية وثقافية وسياسية.   ما دعاني لهذه الذكريات التاريخية، دهشتي من تغييب كل من اللغة العربية واللغة الأمازيغية من السياسة التعليميّة في مليلية، فمن رغب مثلاً بتعليم أولاده العربية، ما عليه إلا أن يقصد مدرسة خاصة غير حكوميّة ومدفوعة، كما قالت لي سكينة، نادلة مقهى الرصيف في ساحة "الثقافات الأربع"، والتي أشرق وجهها عندما تبادلت معها الدردشة بالعربية. وفي معرض الحديث هنا لا بد من الإشادة بدور النساء الأمهات الفاعل في تعليم/ إرضاع اللغة لأطفالهن مع الحليب، ولكن هذا لا يخفف من ألم استثناء سكان المدينة الريفيين من التوجيه السياسي لوعي حقوقهم الثقافية والتربوية، وعدم إتاحة المجال أمامهم لاختيار اللغة في الخطة التعليمية، كما هو الحال في كتالونيا أو الباسك أو جليقية، بل من المخزي أن صرح العلمانية والمواطنة في دولة ديموقراطية مثل اسبانيا، يقوم في سبتة ومليلية على نزع الدين، من كونه واحد من تعبيرات الثقافة، ليكوّن مجمل الثقافة ومختصراً لها، فيعمل على تقسيم أهل سبتة ومليلية تبعاً لدياناتهم: المسيحية، والإسلام، واليهودية، والهندوسية. وتختلف الأرقام البشرية المكونة لكل من هذه "الثقافات الأربع" المفترضة تبعاً للمراجع الإحصائية، إلا أن جميعها يتفق على عدم ارتفاع عدد المسلمين عن الـ 45 بالمئة. هذا ما دعاني للتفكير والتساؤل فيما لو أن هذا التقسيم، إضافة لعدم الاعتراف رسمياً باللغة الأم، حتى ولا على شاخصات الطرق المروريّة، طبّق في كتالونيا، أو الباسك، أو بالنثيا، أو جليقية، أو جزر البليار كيف ستكون ردة فعل السكان فيها؟! من المؤكد وبلا أدنى شك: ثورة عارمة. دون الدخول في تفاصيل الصراع على أحقية السيادة على سبتة ومليلية والجزر الجعفرية من قبل كل من المغرب واسبانيا، أود القول قبل أن أتابع قراءتي لدلالات بعض تفاصيل رحلتي، أن الديموقراطية الاسبانية تأخذ بالتشوه عندما يتعلق الأمر بمدينتي سبتة ومليلية. أما بالنسبة لأتباع الديانة الهندوسية في كل سبتة ومليلية، فيمكن القول أن عددهم لا يتجاوز المئات، وكان أول هندوسي قد وصل إلى مليلية سنة 1893، قادماً من "جبل طارق" التابع للإدارة الانكليزية، حينما كانت الحكومة تخوض حرباً ضد قبائل الريف المحيطة بها. وتدفق بعده عدد من المهاجرين الهندوس للعمل بالتجارة ليشكلوا مع الوقت هذه الأقلية الدينيّة.   انشغلت بالتقاط صور للقناديل والزوارق البحرية المعلقة على سطح المركب، وأنا أترقب "مليلية القديمة" المغسولة بدفق شمس الصباح، وهي تقترب من عمق الكادر خلف مرتسمات المرفأ، مستقرةً على صخرة بعلو 30م عن سطح البحر، تحتضنها أسوار دفاعية متدرجة. وانتظرت بعد إلقاء مرساة السفر حتى تخفّ زحمة الركاب وخطواتهم المتسارعة للهبوط إلى البرّ، حيث جموع الأهالي من المستقبلين تصطف على الرصيف البحري المقابل للمركب تلوح للعائدين. حقاً هي جميلة لقاءات الشطآن بعد الغياب. ومثل أي مسافر لا أحد بانتظاره غذذت السير للخروج من الميناء، بعد أن سألت في مكتب الاستعلامات عن عنوان فندقي، وعرفت بأنني أستطيع السير إليه على الأقدام لقربه من "ساحة اسبانيا". عبرت الشارع الضيق أمام المرفأ بغية السير بمحاذاة سور المدينة القديمة، والذي حفرت في أعلاه كوة ضمت تمثالاً نصفياً للعذراء مع يسوع الطفل، وعلى بعد خطوات معدودات، عند المدخل التاريخي للمدينة القديمة، انتصب تمثال برونزي فوق قاعدة منخفضة. اقتربت لأتعرف على الشخصية التي تستقبل به مليلية وجه زائريها من راكبي عباب البحر. اتسعت عيني غير مصدقة، وأعدت قراءة ما نقش على لوحة معدنية أسفل التمثال: "من مليلية إلى الرائد في فوج الليخيون فرانثيسكو فرانكو باموندي/ 1921-1977". كما هو واضح يدلّ التاريخ الأول إلى سنة وصول فرانكو إلى مليلية كضابط في اللخيون، أما التاريخ الثاني فيشير إلى عام إهداء التمثال كذكرى من قبل حكومة مليلية. والملفت للانتباه أن وضع التمثال تم بعد مرور عامين على وفاة الديكتاتور، ومع الحبو الأول للمسار الديموقراطي في اسبانيا. بينما البلد بالكامل يقوم على تطهير المؤسسات المدنية والتربوية والثقافية والعسكرية والأمنية من سلطة الديكتاتورية، ويعمل على تقويض نظام العلامات وشاخصات السرديات الكبرى للقومية المتطرفة اللاعقلانية، ويفكك رموز التحالفات بين العسكر ورجال الدين، من تماثيل وشعارات وهتافات. كانت قوى اليمين الحاكمة في مليلية تؤكد على نفس هذه الرموز، كواحدة من علاماتها الفارقة! بينما فعل التحول الديموقراطي يسعى لكبح جماح السلطة العسكرية، ونزع تجلياتها الطوطميّة من دروع وصلبان ولوحات البطولات الاستعمارية، ومجسمات أدوات القتل، من أسلحة تعود لعصور مختلفة من فضاء المؤسسات العسكرية، خاصة نوادي الضباط والكازينوهات. شددت مليلية على نفس الرموز وحافظت عليها حتى الآن. وتكفي زيارة لـ"الكازينو العسكري" الواقع في الساحة الرئيسية التي تحمل اسم "اسبانيا"، والذي يفتح أبوابه الآن أمام جميع الراغبين بارتياده، لفهم الروح المحافظة على ذلك الماضي.   بينما أغلب الشوارع في المدن الاسبانية التي حملت اسم "الجنرال فرانكو" أو أسماء جنرالات الحرب الأهلية، تنقلب لتحمل اسم "الدستور" أو لتسترد أسمائها القديمة السابقة، ثابرت شوارع مليلية على مروحتها الواسعة من أسماء قواد الحرب من جنرالات المعارك الاسبانية المغربية أثناء استعمار الريف، والتي تعرف في المراجع الاسبانية بـ"حرب افريقيا" (1909-1925)، أو أسماء قواد الحرب الأهلية ضد الشرعية الجمهورية المنتخبة. ولكن ما هو المبرر لهذا الحضور الطاغي لقوى اليمين في مليلية؟! أعتقد أن الأمر يعود لخلطة من "الاسبانيّة" La Españolidad و"الأفرقيانويّة" El Africanismo على حدٍ سواء. تقوم "الاسبانيّة" على التشديد على الهوية الاسبانيّة لسبتة ومليلية عن طريق الهيمنة على المدينة وتوحيد مظهرها، ومحو ملامحها العربية، أو سحنها الريفية قدر الإمكان، والعمل على إبراز أسلوب الحياة الأوربية كطابع مميز لها. أما "الافريقانوية" فتبدأ بالتكون بعد خسارة اسبانيا لمستعمراتها في كوبا والفلبين عام 1898، حين قفل عدد كبير من الضباط الذين خدموا في تلك المناطق البعيدة للاستقرار في شبه الجزيرة الايبرية، إلا أن تكوينهم الشخصي والعسكري في المستعمرات كان عائقاً أمام اندماجهم بالحياة في اسبانيا، سواء داخل الثكنات أم في المجتمع المدني، هذا إن لم ندخل في تفاصيل المؤامرات التي حاكوها للسيطرة على الحكم. مع الوقت انبثق الحل الملائم لضباط هذه المجموعة بروحها العسكرية الاستعمارية، وشرفها المتعالي على أي شرف، حين تم نقلهم للخدمة في الريف شمال المغرب، آن خاضت اسبانيا ـ إلى جانب فرنسا في ما تبقى من المغرب ـ الحرب للسيطرة على مناجم الثروات المعدنية. نتيجة لهذه التجربة يحمل هؤلاء الضباط اسم الأفريقانيين Los Africanistas، ولفهم فلسفتهم للحياة يمكن أن نقول أنهم عينية أو صدى واقعي لشخصية كورتز في رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد. وكنت التقيت بعضاً منهم، من الجيل الذي خدم في "الصحراء الغربيّة"، واستمعت لحنينهم إلى أرض المستعمرات، آن كانت لهم أمجاد وشأن كبير يرفعهم فوق البشر من "السكان الأصليين"، بينما المواطنة الاسبانية تساويهم حالياً مع غيرهم من "حثالة القوم". عدد كبير من هؤلاء الأفريقانيين استقر في سبتة ومليلية، مع انتهاء حرب الريف في العشرينات من القرن الماضي، وهو العقد الذي بدأت تسطع فيه نياشين فرانكو في مليلية نفسها، حين انضم إلى فوج اللخيون برتبة رائد.   يتبع فوج اللخيون للقوات البرية، ويستمد اسمه من الفيلق، أو اللفيف العسكري الروماني، وإن كان يمثل محاكاة اسبانية لـ "الفوج الأجنبي الفرنسي". واتخذ عسكر هذا الفوج لنفسهم لقب "عرسان الموت"، وهتاف "عاش الموت"، والذي كثيراً ما ارتفع لحظة الهجوم في المعارك، حتى أثناء الحرب الأهلية. وفي معرض الحديث هنا أذكر أن الكاتب المسرحي الاسباني المولود في مليلية، فرناندو آرابال (1932-) عكس فلسفة الموت من ناظر لفيف الليخيون في فيلمه "عاش الموت" عام 1971م، وإن كانت حفريات أعماله المسرحية بالمجمل تصب عند ذات الرعب أيام طفولته في هذه المدينة. شكل فوج اللخيون السند الأهم للجنرال لفرانكو، حينما أعلن سنة 1936م من مدينة مليلية عصيانه، وانقلابه العسكري ضد الحكومة الجمهورية المنتخبة دستورياً، تحت عنوان "حرب التحرير الصليبية". ولا نغفل هنا عن ذكر الدعم الهام الذي تلقاه فرانكو من قبل حزب الكتائب اليميني المتطرف "الفلانخل" من "ذوي القمصان الزرقاء"، والذي أسسه سنة 1933م خوسيه أنطونيو بريمو دي ريبيرا (1903ـ1936) على شاكلة فرق النازية الألمانية والفاشية الايطالية، بقمصانها الرمادية والسوداء على التوالي. ومدّت "الفلانخل" يد العون لسياسة الديكتاتور بالأيديولوجيا القوميّة اللاعقلانية ومبرر فعل العنف المتعالي على المرجعيّة القانونيّة. وليس بمستغرب أن صرح "وادي الشهداء"، الذي سُخِر السجناء السياسيون (بين 1940 و1958) لحفره وبنائه كمقبرة للكاوديو ـ من الجذر العربي لكلمة "قائد" اتخذها فرانكو لقباً له ـ في جبل يتبع ناحية الاسكوريال قرب مدريد، يضم في أحضانه رفات كل من مؤسس الكتائب، وزعيم الديكتاتورية في نفس الدائرة القبريّة. وقبل أن أنتقل إلى محطة جديدة في رحلتي هذه أود أن أنوه بلا أي تعليق، إلى أن لوحة معدنية مازالت معلقة على واجهة بناية سكنية في مليلية الحداثويّة، تحمل اسم الشارع: "بريمو دي ريبيرا".   زودني مكتب السياحة في "ساحة اسبانيا" بخريطة للمدينة وتوجيهات حول المناطق ذات الأهمية السياحية، والتي تركز بشكل أساسي على المدينة القديمة داخل الأسوار، والحي الحداثوي خارج الأسوار. وطلبت من الموظف الشاب، بعد شرحه المفصل عن مواعيد زيارة المتاحف والمعابد الدينيّة، أن يشير لي على الخريطة أين تقع الأحياء الشعبية التي يسكنها أهل المدينة من الريفيين. إضافة لموقع السياج الحدودي مع المغرب، وكيفية الوصول إليه. اتقدت عيناه وتطلع في عيني بتوجس، وكأنني أثرت حفيظته، استدرك قائلاً بلطف: ـ ولكنها منطقة لا أهمية سياحية لها.. ـ حسناً.. ولكني أريد زيارتها. هزّ رأسه مبتسماً بمودة ملتبسة، وعاد للخريطة يرسم لي بالقلم النطاق الذي ترتفع فيه كثافة السكان من أهل الريف على طول "شارع غارثيا كابرييس" وحول "المسجد المركزي". ثم أخذني من كتفي إلى ظلال شجرة أكاسيا خارج المكتب، وأشار بإصبعه: ـ هناك.. أترين موقف الباص على الطرف المقابل من الساحة قرب الحديقة؟ هناك تستطيعين أخذ الحافلة إلى الحدود. واستطرد بمودة: ـ ولكن لا تنسِ تناول الغداء في المطعم الذي علمته لك على الخريطة بمحاذاة مرفأ الصيد.. وجبات المطبخ المغربي فيه لذيذة ومعتدلة الثمن. في حقيقة الأمر، لا يطول الوقت بالزائر لمليلية حتى يبدأ بالتعثر في كافة الجهات بالثكنات العسكرية، والأبنية المدنيّة المخصصة لسكن عناصر الجيش وأسرهم، رغم خواء العديد منها حالياً لتغير الأحوال السياسية، وغياب الصراعات الحربيّة، نتيجة الاتفاق مع المغرب على المحافظة على "الوضع القائم" (Estatus quo). هذا ما يدعو للتفكير بأن مليلية في ماضيها أثناء الديكتاتورية كانت كياناً عسكرياً، أكثر من كونها حاضرة مدنيّة. أما الآن فيبدو أنها خلعت بزتها الحربية ومظهرها العسكري الحاد، رغم ذلك أود أن أسجل هنا ملاحظة تدعو للتساؤل حول مشاهداتي سواء في مليلية أو سبتة، فيما يخص التساهل مع حركة أفراد الجيش بلباسهم العسكري في الفضاء المدني، الأمر الذي يعدّ من رابع المستحيلات في المناطق الأخرى التابعة للحكم الاسباني. صحيح أن لتهديد المنظمة الإرهابية «ايتا» دور في اختفاء الزي العسكري من الشارع المدني الاسباني، ولكن العامل الأساسي في ذلك يعود للديموقراطيّة التي لا تتفق مع عسكرة الشارع، وتؤكد على المجتمع المدني وتساوي جميع المواطنين دون مظاهر سلطويّة. وأتساءل هنا، لماذا تغمض العين عن حضور وتنقّل الزي العسكري بين الحين والآخر في شوارع سبتة ومليلية، ويمنع من المدن الاسبانية في شبه الجزيرة؟!!   بدأت برنامجي بزيارة المدينة القديمة، حيث تنسرب شرايين الأزقة الضيقة، وترتفع من جهات ثلاث، مما يدعو للقول أن "مليلية القديمة" هي شبه جزيرة صغيرة تلج المتوسط لتعقد صلاتها الروحيّة مع البحر. ومن يوم سيطرة التاج القشتالي عليها في القرن الخامس عشر، أخذت ببناء أسوارها الدفاعية، وفي كل مرة كانت المدينة تضيق على من فيها، كانت توسّع حدودها، وتبني لنفسها سوراً دفاعياً جديداً مع المحافظة على السور السابق. والنتيجة كانت امتلاء "مليلية القديمة" بالأسوار والخنادق والأنفاق والآبار والأبراج الدفاعية. ولم تثبت المسافة التي تعلّم حدود المدينة إلا عام 1859 حينما وصل الطرفان المتصارعان، الاسباني والمغربي، إلى "اتفاق لعبيّ" يقوم على إطلاق قذيفة من مدفع اسباني، والمسافة التي تصل إليه القذيقة يثبت الحدود بينهما، وهكذا كان ما كان وقضى فكان. من بين هذه الأبنية المعمارية يرتفع الحصن الرئيسي بردهاته وتحصيناته التي استخدمت بعض زواياها لإسقاط عرض بصري ـ سمعي يلخص تاريخ المدينة القديمة الخاضعة للتاج القشتالي، من وجهة نظر الثنائيات الضديّة. كما أن التلخيص التاريخي المقدم يوحي بأن غالبية سكان المدينة، في عهودها الأولى، هم من المحاربين ورجال الدين من المبشرين. وعند مدخل الحصن يستطيع الزائر رؤية مصلى صغير يحوي نقشاً بارزاً من الطراز القوطي، ويمثل "الحواري سانتياغو" «أو الحواري يعقوب كما يعرف في تاريخنا الديني»، وهو المصلى القوطي الوحيد في القارة الأفريقية. وكما هو معروف فإن "الحواري سانتياغو" هو الشفيع أو القديس الحامي لاسبانيا، وتسميته الكاملة هي Santiago Matamoros أي "سانتياغو قاتل المسلمين" «أو العرب حسب ما يود المترجم من كلمة موروس». وحالياً لا تنطق تكملة اسم الشفيع أو لقبه في الخطاب الرسمي الاسباني. وترجع هذه التسمية لسنوات "حروب الاستعادة" وعقلية محاكم التفتيش. وفي كتابه "اسبانيا في تاريخها، المسيحيون والمسلمون واليهود" عمل الباحث أميركو كاسترو، في منتصف القرن الماضي، على تفكيك سرديات "حروب الاستعادة" وما بعدها، وبيّن كيفية تصنيع "الحواري سانتياغو" بين صفوف محاربي "مملكة قشتالة وليون" كمقابل مانويّ مقدس وضديّ لصورة "النبي محمد"، ووضح الآلية التي جعلت من الكنيسة التي تدّعي وجود قبره فيها، في المدينة الجليقيّة التي تحمل اسمه، أهم مركز حجٍ مسيحي (بعد الفاتيكان) كمحاكاة للحج إلى مكة. وبشكل عام يصوّر القديس، في الأعمال النحتية أو التصويرية، ممتطياً جواده، ورافعاً بيده اليمنى سيفه بينما تتدحرج تحت أقدام حصانه جثث وأجساد الموروس، وهي في نزعها الأخير. أما الخنجر المتماهي في تشكيل الصليب فهو رمز الحواري، الذي يكاد لا يغيب عن أي عمل ديني وفني مكرس له، بل تغيب صورة القديس ويحضر رمزه التمثيلي. ولكن عند التمعن في نقش مصلى "الحواري سانتياغو" في بوابة الحصن في مليلية يحضر كامل المعيار الفني للقديس باستثناء جثامين المسلمين المتناثرة بين حوافر الجواد، وعند التدقيق أكثر في أسفل التشكيل النافر يبدو للمشاهد أن عملية محو مقصودة قد تمت على هذا الجزء. وهنا ينبثق السؤال متى تم تغييب دلالة العدو المندحر؟ وهل لمشاركة المغاربة وتوريطهم في الحرب الأهلية أثرّ للتدخل في تمويه الأسطورة، وصورة الأسطورة الفنيّة في هذا المصلى؟ في كل الأحوال يقدم نقش "الحواري سانتياغو" في القلعة إضاءة للذهنية التي كانت تخيم على "مليلية القديمة" في عصورها القشتاليّة الأولى. أما القديسة الحاميّة المكرسة لمدينة مليلية منذ بدايات القرن السادس عشر، فهي: La Virgen de la Victoria "عذراء النصر".   ليس بمستغرب أن "مليلية القديمة" تحوي على العمارة الدينية المسيحية الأقدم في المدينة: "كنيسة بوريسما كونثبثيون"، المبنية عام 1657م، وتحوي في داخلها على مجسم نافر من الطراز الرومانسكي لـ"المسيح دي لا فيرا كروث"، جاء به القشتاليون من شبه الجزيرة بعد إخضاع المدينة لسيطرتهم. كما ويزين صدر الكنيسة مصلى من الطراز الباروكي. ويتفرع من جوار الكنيسة نحو الأعماق الكهوف المعروفة بـ"كهوف الدير" والتي تمتد في باطن الأرض تحت الأسوار، وخدمت هذه الكهوف بدهاليزها وفتحاتها السرية كملجأ أثناء الشدة وأيام القتال مع المحيط. وخصص لمتحف الجيش واحدة من الأبراج الدفاعية الطابقيّة، وكما في غيره من المتاحف المشابهة ـ سواء في مدريد سابقاً أو طليطلة حالياً ـ تسرد المعروضات الأمجاد الحربية، وتعمل على تنقية اللحظة الاستعمارية من "شوائب الحقيقة وبشاعة الواقع"، فتكثر الصور واللوحات عن تحضير المستعمرات، ومحاولة تخليص سكان الريف الأصليين في الضياع الجبليّة النائية من همجيتهم، إلى ما هنالك من تكرار للأسطوانة الاستعمارية. كما أن مقتنيات المتحف تشدد على إظهار عملية تجنيد المغاربة في "القوات النظاميّة" الاسبانية ومشاركتهم إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية، والتغافل عن الدوافع التاريخيّة السياسيّة وأسباب الظروف المعيشية القاهرة التي كانت وراء استغلال المغاربة في تلك الحرب القذرة. إلى جانب كل ذلك يتجاهل متحف الجيش في مليلية استخدام القوات الاسبانيّة الغازات الكيماوية السامة عام 1921 خلال حرب الريف، من جملة معروضاته لأدوات القتال وطرقه وكيفيته وطبيعته ومواده.   أترك الحديث عن التفاصيل الجماليّة المعمارية لـ"مليلية القديمة" جانباً، لأتوجه مع القارئ إلى وجه المدينة الحداثوي الواقع خارج الأسوار، وهو الجانب المنبسط الممتد من "ساحة اسبانيا" المجاورة لشاطئ للبحر على طول الشوارع المتفرعة عنها، ويحوي مدار الساحة على تجمع أبنية حداثوية دالة المعاني: "بلدية مليلية"، و"الكازينو العسكري"، و"بنك اسبانيا"، وبوابة "حديقة ارناندث". في بداية القرن العشرين ومع ازدهار المدينة التجاري وتكوّن برجوازية من التجار وأثرياء الحرب، تولد الإحساس بضرورة تحديث المدينة على طراز معماري مواكب للعصر حينها، وتنطق عبره مليلية لغة أوربيّة. ووقع الاختيار على مهندس العمارة انريكه نيتو، أحد تلامذة المعمار الكتلاني أنطونيو غاودي، ليقوم بوضع مخطط للمدينة في هذه المنطقة. فكانت النتيجة تشييد 900 مبنى على الطراز الحداثوي El Modernismoمع جميع ملحقاته الزخرفيّة من الـ Art Nouveau"الفن الجديد"، وعناصره التزينية من Art Deco بالنسبة لبوابات المداخل، ودرابزين البلاكين، وديكور العقود النباتيّة، وانحناءات القباب والأبراج، وزجاج النوافذ المحفور أو المعشق، والخشب المشغول، وتلوين الواجهات إلى ما هنالك. وهذا ما جعل مليلية تلقب بـ"جوهرة حداثويّة" ضمن التصنيفات العالمية لهذا الفن، فهي تأتي بالمرتبة الثانية بعد برشلونة من حيث الأهمية المعمارية الحداثويّة في اسبانيا، وتنضم لسلسة المدن العالمية التي تمتلك عمارة من هذا الطراز كهلسنكي، درسدن، نيويورك، بروكسل، بودابست، ميونيخ، استنبول، شيكاغو، بالينثيا، بوينوس آيرس، بالرمو، باريس، برلين، تونس ... الخ. حتى أن المعابد الرئيسية التي تمثل الأديان الأربع المتعايشة في المدينة مبنية على هذا الطراز الأوربي مع مسحة من الخطوط المعمارية خاصة بجذورها الثقافيّة، كاعتماد "قوس الحدوة" الأندلسي بالنسبة للمسجد والكنيس. يضم هذا الجزء في المدينة، خاصة في "شارع خوان كارلوس" أبنية تحتل طابقها الأرضي المحال التجارية المتنوعة، ويشير وجود بعض الماركات الاسبانية للألبسة النسائية المعروفة بارتفاع أسعارها على وجود قدرة شرائيّة تستوطن المدينة. أما حال الدكاكين التي تبيع التذكارات السياحية والمنتجات الواردة من المغرب، فيشير إلى ركود عام في الحركة السياحية نحو مليلية، على العكس مما كنت صادفته أثناء زيارة سبتة، لعل الأمر يتعلق بقرب هذه الأخيرة من شبه الجزيرة حيث تستغرق الرحلة بالفرّي 45 دقيقة فقط. في كل الأحوال يوجد في كل من مليلية وسبته مطار يربط كلاً من المدينتين جوياً وبشكل يومي مع اسبانيا.   ومن النصب التذكارية المشادة في "مليلية الحداثويّة"، يرتفع فوق أعمدة دورية تمثال برونزي أقيم عام 1938 أثناء الحرب الأهلية، على شرف فوج اللخيون، ويمثل جندياً يرفع البندقية بيد والعلم باليد الأخرى، وإلى جواره أسد مرفوع الهامة. أما خلفية التمثال فتمثل صرحاً اسمنتياً للنسر الإمبراطوري، الذي يعود للامبراطور كارلوس الأول في اسبانيا، مع ملحقاته من تاج ودروع تاريخية قديمة، تعود "للملوك الكاثوليك" ايزابيلا وفرناندو، وإلى أعلى النسر كتب اسبانيا "واحدة عظيمة وحرة". كما ولم ينسَ حكام المدينة أن يكرسوا لبدرو دي استوبينيان، الذي احتل مليلية باسم التاج القشتالي سنة 1497، تمثالاً تذكارياً يشابه تمثال جندي فوج اللخيون، ولا يختلف عنه إلا بزي المحارب التاريخي والسيف الذي يحل محل البندقية وشكل العلم المثلثي. أما التمثال البرونزي الآخر من حيث الأهمية في نفس الحي ومن المرحلة الفرانكويّة أيضاً، فيخص الملكة ايزابيلا، ويرتفع النصب ممثلاً الملكة، وقد رشقت قامتها وفقدت بضعة كيلو غرامات عما هو معروف في رسومها التاريخية، وهي في حالة تأهب ترفع السيف المتماهي بالصليب بيدها اليمنى، بينما يتشبث بطرف يدها الأخرى طفل صغير. وهنا لا يخفى ما لدلالة رمزية المرأة ـ الأم/ الأمة ـ الوطن من تناغمات عملت عليها ولا تزال الذهنية البطرياركيّة المتوشجة بالمفاهيم المتعالية للدولة القوميّة. وترك المجال في "ساحة اسبانيا" لنصب تذكاري مقدم من قبل "قيادة الجيش العامة إلى أهل مليلية"، يوم عيد القوات المسلحة المصادف في 31 أيار/ مايو، بمناسبة الذكرى المئوية الخامسة للسيطرة على المدينة (1497-1997). وغير بعيد عن بناء ساحة "اسبانيا"، وبالقرب من شارع "البحرية الاسبانية" شيديت عام 1947 ساحة "مصارعة الثيران" على الطراز "الباروكي الحديث" Neo-Barroco، وكانت عمّدت في مقالة لأحد صحفي تلك المرحلة باسم "مسجد الثيران". ولا تشارك هذه الساحة في كامل قارة أفريقية، إلا ساحة مصارعة الثران في طنجة وموبوتو في موزنبيق وإن بدرجة أقل في الأهمية. وإلى الامتداد الجنوبي للحي الحداثوي تقع المنطقة الشعبية بغالبية سكانها من أهل الريف أو من ذوي الأصول المغربية عامة. وتتميز عمارة هذه المنطقة ببعض الأبنية الحداثوية المتواضعة، والقليلة الزخرف والتحميل الجمالي، باستثناء المسجد المركزي الذي يبلّغ طرازه الحداثوي عن عناية جماليّة فريدة ومشغولة باهتمام على مفهوم البساطة والتجريد. وينفصل موقع هذا المسجد جانباً عن الأبنية الدينيّة الحداثوية الأخرى: "كنيسة القلب المقدس"، و"الكنيس اليهودي"، و"المصلى الهندوسي" والتي تقع جميعها على امتداد شارع "الجيش الاسباني" وعلى مسافات متفاوتة التقارب حتى "ساحة خايين".   تخيم على المنطقة الشعبية، الممتدة من "ساحة خايين" حتى "ساحة بدرو دي استوبينيان"، الأجواء الاجتماعية والثقافية المغربية الخالصة، وفيها تتلون السحنات البشرية باللون الأسمر الشمال أفريقي، وتتحول اللغة فيها إلى العربية والأمازيغيّة المتعايشة مع الاسبانيّة، وتتبدل الأزياء فينتشر اللباس المغربي التقليدي بشكل واضح فيها. وفي منعطفات فضاء فرجتها تكثر دكاكين البقالة، والمقاهي والمحلات التجارية العائلية، وبناء سوق الخضار واللحوم .. وفي وسط هذه الأجواء راقت لي مساحة من الأرض المتسعة والمستخدمة ككراج للسيارات والدراجات النارية، إضافة لاستخدامها كمقهى في الهواء الطلق. اخترت طاولة بين جموع الزبائن الرجال، المنهمكة بلعب الورق والنرد وتدخين النرجيلة. وللتو استقبلني نادل شاب، جاء مهرولاً من بناء جانبي، بابتسامة عريضة ارتسمت على ضاحي وجهه المرح. ـ كأس شاي بالنعناع من فضلك. ـ من شبه الجزيرة..!! ـ من الشام .. من سوريا. أضفت جملتي الأخيرة بالعربية، فبرقت عيناه بالإلفة، وعلا صوته فجأة وبلا مناسبة، وهو ينظر لطاولة الزبائن المجاورة، ويعلن على الملأ بهجته الطارئة: ـ من سوريا.. هززت رأسي كردة فعل يجب أن أقوم بها، بينما هو يتابع: ـ تعجبني المسلسلات السورية كثيراً.. في حقيقة الأمر، والكلمة هنا للقارئ، بما أنني أعيش خارج سوريا لأكثر من عقد، تخللتها زيارات متقطعة، لم تسنح لي فيها الفرصة للتعرف كما يجب على الدراما السورية. وللخروج من المأزق الذي وضعت نفسي فيه بالتفوه بالعربية في مليلية، لم يكن أمامي إلا أن ألج تخوم المودة أكثر، فاتسعت ابتسامتي: ـ حقاً .. يسرني ذلك. في تلك اللحظة لم أكن أعرف ما هو ذلك الذي يسرني، ولأحرف الدراما السورية عن وجهتها، وكبح جماحها المتصاعد نحو الذروة، سارعت للقول: ـ أنا أيضاً أعجبتني مليلية كثيراً.. مدينة جميلة.. ـ هنا يمكن أن يعيش المرء بشكل جيد، أعمل في هذا المقهى، وسأتزوج في القريب العاجل. ـ أن يعيش المرء بشكل جيد .. هو أمر مهم جداً، يسعدني ذلك. وإلى الطاولة المحاذية جلس أربعة شبان يلعبون الورق، تطلعت إليهم. كانت أعينهم موجهة نحوي، وبالعربية: - السلام عليكم. قالها أحدهم وهو يترك أوراق اللعب على سطح المنضدة البلاستيكيّة. ـ وعليكم السلام. وتابعت: ـ تجتمعون عند المساء للعب الورق. أضاف أحدهم ضاحكاً، وهو يغمز رفيقه: ـ وتقاسم الثرثرة ومسرات المساء. ـ ما هي أحوال الشغل هنا؟.. ـ ضئيلة. ـ بسب الأزمة؟ ـ وغيرها كثير.. ـ وماذا تنتظرون؟ وعلى التوالي انهمرت الردود بالاسبانية المطعمة بالعربية: ـ الوضع الاقتصادي في غاية الرداءة، خاصة في ظلال الأزمة الحالية. ـ ست ملايين اسباني عاطل عن العمل ليس بالأمر الهين. ـ انتخبت الحزب الاشتراكي لأنه كان ضد الحرب على العراق، ووعد في برنامجه بتقديم حماية اجتماعية للشبان. ولكن إلى أين وصلنا!! ـ كل الخطوات التي تقوم بها الحكومة الاشتراكية، بتوجيه من بروكسل، هي لإنقاذ البنوك وأصحاب رؤس الأموال .. لا الناس مثلنا. ـ الأزمة بدأت في الولايات المتحدة، وعقارياتها تهاوت فوق رؤوسنا جميعاً. ـ أنتظر فرصة للقفز إلى شبه الجزيرة للبحث عن عمل في غرناطة. ـ أنا من مليلية، يعني من هنا من المغرب، ولكن منظر المهاجرين وهم يعبرون الحدود من جهة الناظور لا يقدم لي أي إغراء .. يوجعني وأرفضه. ـ الإدارة الاسبانية تقدم بعض التسهيلات لرعاياها. ـ تخفض الضرائب عن سكان سبتة ومليلية، مقارنة مع الضرائب التي على الاسبان في شبه الجزيرة تسديدها لمصلحة الضرائب. ـ كوننا من التابعيّة الاسبانيّة فيه حماية لنا إذا أردنا التنقل ببطاقة الهوية أو بجواز السفر للبحث عن الرزق والعمل. ـ أيام زمان كانت المدينة معبأة بالعسكر. الآن انخفض عددهم كثيراً، ومعه فقدت المدينة قدرة شرائيّة معتبرة. ـ راتب العسكر في مليلية، من الضباط إلى الجنود مروراً بصف الضباط، أعلى من مثيله في شبه الجزيرة، إضافة إلى أنهم يدفعون ضرائب أقل. أي أنهم يستطيعون الصرف والشراء أكثر. ـ أنا عندي محل لتأجير الدراجات الهوائية، وحينما أغلقوا سوق الخضار المركزي، بدواعي أهميته التاريخية، لتحويله إلى كونسرفتوار موسيقا، قلت لنفسي سيأتي الفرج مرة أخرى، وسأحصل على زبائن من الطلاب، إلا أن الأزمة أوقفت تمويل الاتحاد الأوربي للمشروع إلى أجل غير معلن .. وأنا مازلت أنتظر الفرج والسوق مازال مغلق. وكان الشاي بالنعناع الذي شربته في ذلك الكراج ـ المقهى المكشوف من أطيب المشروبات التي تذوقتها من زمان بعيد .. لوحت بيدي للجميع وأنا أسير عائدة في طريقي للفندق. الحدود وما أدراك ما الحدود.. "مِليّا.. مدينة قديمة وحداثوية": BIENBENIDO - WELCOME – BIENVENUE - WILLKOMMEN ولا يعنّ على بال حكومة مليلية أن تضيف على هذه اللوحة المعدنية، لزوارها من القادمين من جهة الحدود المغربيّة: "أهلاً وسهلاً" بالعربية ولا بالأمازيغية.   قامت الحكومة الاسبانية سنة 1998 ببناء سياج حدودي مزدوج يفصل مليلية عن الأراضي التابعة لإقليم الناظور في المغرب، ويتكون السياج من شبكة معدنية تنتهي بأسلاك شائكة، وزود بكاميرات وأجهزة مراقبة، ويبلغ ارتفاعه 6.5م وطوله 8كم. والحجة المعلنة رسمياً من قبل اسبانيا لإقامة سياج فاصل في كل من سبتة (في بداية التسعينات) ومليلية هو مكافحة تدفق الهجرة السرية اللاشرعية من الجانب المغربي، إضافة لمجابهة عمليات تهريب البضائع من الجانبين. والحدود هي الفضاء الأكثر زيارة في مدينة مليلية، وقيل لي بأن حوالي 30 ألف شخص يعبرون الحاجز الحدودي يومياً من البوابات المخصصة لذلك على مدار السنة وهم يحملون سلعهم وحكاياتهم. تبدأ التحضيرات البشرية من الجهة المغربية باتجاه الحدود الساعة الخامسة صباحاً. ويقوم يوم الحشر يومياً.. تطول ساعات الانتظار وتطول، إلا أن علقم الحاجة أشد مرارة من التوقف والسؤال، ومن غضب الفصول المعلن ومرض السماء.. وتتنوع البضائع التي تمر على الجمارك الاسبانيّة باتجاه المغرب مما هبّ ودبّ: أحذية، مواد التنظيف، المواد الغذائية، الخرداوات، قطع تبديل السيارات، الألبسة الجاهزة والمستعملة ... ومما لا يخطر على بال. تجمع في بالات وأكياس أو تلفّ بأقمشة، وتحضّر للعبور نحو إقليم الناظور في الجهة المغربية، بعد أن تحمّل في شاحنات صغيرة، أو في السيارات السياحية، أو الدراجات النارية أو الهوائية، أو على لوح خشبي مزود بعجلات صغيرة تجعله قابلاً للدفع، أو تدحرج وتقلب فوق الرصيف، أو تحمّل على الظهر: ظهر بشري مأجور، خاصة من النساء، لحمل ما يقارب الأربعين أو الخمسين كيلوغرام من البضاعة .. وكوسيلة نقل رخيصة. تمشي النسوة الهوينى بأرجل تتحرك على الاسفلت كأعمدةٍ، تحاول أن توازنُ كل خطوة فوق أديم الطريق الكالحة.   تلهث فرجة المنطقة الحدودية، في كل من سبتة ومليلية، بطقس العري البشري وهو يتهالك على الاستمرار والتلاعب مع البقاء على قيد الحياة في عالم يتقيأ الوجود والتأزم ويفيض بشرائع الروح. وعندما أردت تصوير قوافل العابرين نحو الجهة المغربية، تقدم حارس الحدود نحوي بسرعة: ـ يمنع تصوير الحدود .. تحتاجين لتصريح .. ولماذا تريدين التصوير؟ ـ لنفسي .. لألبومي الخاص.. أشرت بأصبعي نحو جدار استطال إلى الجهة اليسرى. ـ وهناك هل أستطيع التصوير؟ ـ حسناً .. كل هذه المساحة التي تحوي الدكاكين ووكالات البضائع التجارية مسموحة.. وأشار بيده للساحة التي أوصلني إليها الباص. ـ ولكن انتبهي لنفسك.. لوح لي بيده، وأنا ابتعد..   أخبرني عبد الله، أنه كان يعمل في بلجيكا عاملا في منجم الكربون، إلا أن صحته لم تعد تحتمل مع تقدمه في العمر، ففضل العودة لضيعته قرب الناظور، ليأتي كل يوم ويعبر الحدود، ويبيع جهده اليومي كيد عاملة رخيصة في مليلية، ويقفل عائداً مع أخر النهار. أحمد لديه سيارة نقل صغيرة، يعبر الحدود يومياً، ويعمل لدى مكتب نقليات في مليلة، دون عقد ولا أي تأمين ولا ساعات عمل محددة. جميلة امرأة حامل، تفيق مع الفجر مع ابنتها عائشة، تعبران الحدود وتقصدان الميناء، وتعرضان للبيع، على السياح القادمين من شبه الجزيرة، عقوداً خشبية علقت فيها "كف فاطمة" بعين زرقاء تتوسط راحة اليد. يونس لديه عنزة وثمانية أولاد، يعبر الحدود ويعمل أجيراً لدى بحار لديه زورق صيد في مليلية. أسماء تشتري من السوق التجاري المتاخم للحدود على الطرف الاسباني ساعات مقلدة، وبضعة علب من التبغ تحشرها في جعبتها لتبيعها في الداخل المغربي. سعيد يشتغل بكل شيئ كما قال لي دهان، عامل بناء، خبير كهرباء، تمديدات صحية ... ولكن ما كل يد عاملة توفق في العثور على شغل يومي، وقد تمضي الأسابيع دون عمل ما بين عبور وعبور..   وراء سور من الاسمنت تعلوه أسلاك شائكة تراكمت صناديق الخضار والفواكه متناثرة على الطريق، وفي البعد الأخير من السور علت تلال من الخرق البالية المهلهلة والألبسة المستعملة فوق أرض قذرة .. لكل شيئ معروض هنا زبونه الذي ينتظره. أما السوق التجارية بمحلاتها التي تصطف على أطراف الشوارع الحدودية بكل ما فيها من الهرج والمرج البضائعي الرخيص فتنطق بلغة آسيوية، وتقول أنها قادمة من سوق الصين العظيم.

صعدت إلى الحافلة، في طريق العودة إلى "ساحة اسبانيا"، مع امرأة في السبعين من عمرها تجرّ معها سلة فارغة بعجلات .. ستعمل في الخدمة المنزلية في مليلية، لتعود مع العصر بعد أن تحمل في سلتها قدر المستطاع من علب الشامبو .. وقضيت بقية ذلك اليوم في مرفأ الصيد أرقب زوارق البحارة، والتماعات المويجات وأنا أفكر بالسرديات الفردية الصغرى التي يعيشها البشر، وهم يقاومون كربون المناجم، توريطاتالعسكر، عفن الخبز اليومي، وبازار البالة، وهواء العنف الذي يفوح في الوجود والانتظار وفائض القيمة.