يسعى محرر (الكلمة) في هذه القراءة إلى الكشف عن محتوى الشكل الفني في هذه الرواية الجديدة، كاشفا عن أن زمكانها السردي الدال، وفق صياغة باختين الكاشفة لهذا المصطلح، يرتد بنا إلى زمن ما قبل الحداثة السرمدي، وقد جعلت قشرة الحداثة الزائفة وجود البشر في برج الرواية الغريب وجودا بلا ماهية.

زمكان الحداثة الخاوية السرمدي

قراءة في رواية «البحر خلف الستائر»

صبري حافظ

لاشك أن المسيرة الطويلة مع الكتابة الإبداعية، والتي قطعها عزت القمحاوي من روايته الأولى «مدينة اللذة» وحتى روايته الأخيرة «البحر خلف الستائر» والتي راكم فيها أربع روايات، فازت آخرها «بيت الديب» عام 2013 بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مسيرة تستحق الدرس والتأمل. رسخ فيها الكاتب أقدامه في عالم الرواية وبلور أسلوبه السردي الخاص واهتماماته. وهذا هو ما يدفعني هنا للتريث عند آخر أعماله وتأمل ما ينطوي عليه من كشوف ودلالات على مسار تلك المسيرة وتوجهاتها. لأن هذا العمل الجديد برغم قصره النسبي يمكن أن يكون مفصلا مهما في تجربته السردية، لما ينطوي عليه من رؤى واستقصاءات جديدة، بالرغم من وجود خيوط عديدة تربط هذا العمل الجديد برواية عزت القمحاوي الأولى (مدينة اللذة). أهمها تلك الكتابة التناقضية التي تغويك بالجري وراء سرابها المحبوك كي تكتشف في النهاية أن لا لذة حقيقية في (مدينة اللذة)، كما ستكتشف أن لا بحر حقيقيا (خلف تلك الستائر). لأننا في عالم مقلوب حقا، يقع فيه وهم البحر، أي بركة السباحة، في أعلى البرج، بينما يبدو البحر الذي يطل عليه خامدا لا حياة فيه. فهو مجرد «لجة  واسعة من ماء ليس له نزق مياه البحار، لا موجة فرحة أو غاضبة، لا رفيف جناح نورس يرعش سطح الماء ليجعل هذا الأخضر المترامي مختلفا عن الماء الساكن في لوحة رومانسيّة أو حلم».(1)

هذا الوصف المبكر للبحر «خلف الستائر» يوشك أن يكون مفتاحا ملائما لفهم لطبيعة الحياة أمامها، الحياة في البرج المطل على هذا البحر الغريب. وهي حياة مكتوبة بطريقة تدعوك إلى تأمل ما تضمره تحت السطح الخادع. لأننا بإزاء كتابة شغوفة بتشييد عالمها السردي الخاص، وبلورة استقلاليته النسبية عما عداه. وهو عالم يبدو وكأنه عالم واقعي، ولكنه مفارق للواقع بقدر محاذاته له. يحرص فيه النص على تشييد مفردات عالمه الخاص، وتخليق قوانينه الداخلية المتفردة، دون التخلي عن منهج الكتابة الواقعية الهادئة الشغوفة بالتفاصيل الصغيرة والدالة معا. لكن كلا من الروايتين تطمح في الوقت نفسه إلى بلورة استعاراتها عن الوضع الإنساني الهش في ذلك العالم الغريب، الذي تسعى كل رواية منهما لكتابته بطريقتها المتفردة.

فالعالم المفارق للعوالم المصرية التي كتب عنها عزت القمحاوي رواياته الثلاث الأخرى الواقعة بين الروايتين، والتي تنتمي آخرها (بيت الديب) إلى ميراث رواية الأجيال المصرية عند نجيب محفوظ، بعد أن مد الكاتب جذورها في تجربة القرية المصرية، عالم غريب بحق. ينتح من تجربة الكاتب في الخليج، الذي عمل فيه مرتين، مرة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، والأخرى في العامين الأخيرين. وأسفرت كل منهما عن روايتها. كما أسفرت النقلة الفنية بين الروايتين عن رحلة الكاتب مع النضج والتمكن من أدواته السردية والمعرفية على السواء. بالصورة التي تجعل (البحر خلف الستائر) علامة في مسيرته تستحق التريث عندها. حيث تقدم لنا هذه الرواية تنويعاتها المتفردة على ما سميته في أكثر من مقالة، بتجربة الخروج العربي. وهي تجربة ثرية في الأدب المصري، بدأت على استحياء في كتابة الأجيال السابقة، وخاصة في قصة سليمان فياض البديعة «لا أحد»، ولكنها تنامت بإيقاعات متسارعة بعد تخلّق المناخ الطارد في زمن السادات الكئيب. وخروج كثير من المثقفين المصريين للعمل في المنافي العربية، وكتابة عدد منهم من كتاب جيل السبعينيات خاصة أعمالا شيقة عن تجربة الخروج العربي تلك، وفي الخليج خاصة، بدءا من محمد أبوالمعاطي أبوالنجا، وصولا إلى إبراهيم عبدالمجيد ومحمد المنسي قنديل الذي كتب بعض ألمع تلك الأعمال وأكثرها تأثيرا.

(1) كتابة جديدة لتجربة الخروج العربي:
لكن عزت القمحاوي، ومنذ روايته الأولى (مدينة اللذة) اختار منهجا مغايرا في الكتابة عن تلك التجربة يوشك أن يكون النقيض الكامل لمنهج محمد المنسي قنديل. حيث لا يسعى إلى تجذير التجربة في الواقع أو المكان مثله، وإنما إلى زعزعة تلك الجذور، بصورة تجعل التجربة المكتوبة تجربة توهمات أو احتمالات أكثر من كونها تجربة واقع حقيقي صلد، برغم أنها تمور بالوقائع، وتهتم بالتفاصيل الدقيقة. دون أن ينتقص ذلك بأي حال من الأحوال من قدرتها على التأثير. بل يرهف إمكانياتها الاستعارية والرمزية ويفتحها على آفاق متعددة من الدلالات. لأن السرد يفتح تلك الاحتمالات على حكمة التجربة، وعلى تأويلات متعددة. فنحن بإزاء كتابة تحيل على مخزون ثقافي مباشرة أحيانا كما في «لا يلزم البرج طاقم الخدمة بالعفة الكاملة طبقا لتعاليم القديس فرانسيس، ولا بأصول التسامي البوذية، بل بالامتناع عن اللذة أخذا أو عطاء أثناء العمل – مجرد صوم، أو استعراض للقدرة على حبس المتعة كما في التنترا الشرقية»(ص 57) أو بطريقة غير مباشرة أحيانا أخرى كما في بقية هذا الاستشهاد: «كي تظل امرأة الخدمة محتقنة بالرغبة مثل أفعى ابتلعت فيلا»(ص 58) حيث تحيل الأفعى التي ابتلعت الفيل إلى انطوان دو سانت أوكسبري، وقصته البديعة (الأمير الصغير). وهو مخزون تستخدمه الرواية في فتح تجسيداتها على أفق التجريد وعوالمه الاستعارية، كي توسع عدد الاحتمالات أمام القارئ، لكي يظل القارئ مشدودا بين العالمين أثناء التلقي.

وقد اختارت الرواية من البداية «الطارئ» الوضع/ الحالة اسما للبطل اللامسمى كي تدخل القارئ على الفور في قلب لعبة التجسيد/ التجريد التي توجه اهتماماته إلى أن وراء كل ما يراه من تجسيد واقعي هادئ يهتم بالخط المباشر بين العين والموضوع مكر تجريدي يداعب ثقل الوجود أو خفته اللامحتملة. فنحن بإزاء رواية تحرص على كتابة حالة وعلى تقطير تجربة مفتوحة على عدد من الاحتمالات المرجأة، تسعى لبلورة وضع إنساني ما. وقد بلغت تلك الطريقة درجة عالية من العمق في روايته الجديدة التي تبدو وكأنها تدخلنا في لعبة احتمالات لا تتحقق، لكل منها ألقها الخادع كالسراب، وإحباطها الفريد والموجع معا. كاحتمال أن يكون هذا البرج الغريب نفسه واقعا صلدا، قادرا على تلبية شروط الوضع الإنساني الأعمق في الوجود؛ برغم الإفراط البادي في تلبية كل مطالب سكانه، بصورة تعمق لاواقعيتها وآليات المحو المضمرة فيها ولا ترسخها. ويعزز لعبة الاحتمالات المرجأة تلك ما أود دعوته بسوء التأويل الناجم عن فقدان «الطارئ» بطيبيعة كونه طارئا للأجرمية العميقة للحياة في البرج، حيث يفسر اهتمام النادلة «كاثرين» بعملها على أنه اهتمام شخصي به.

فقد استطاعت (البحر خلف الستائر) أن تقدم لنا جديد تجربة الخروج العربي السردية، بعد أن تغيرت طبيعة الرؤية واستراتيجيات الكتابة. فقد أصبحت فيها الكتابة أكثر شفافية ونقدية ومواربة، وبالتالي أقدر على النفاذ إلى ما تحت السطح من رؤى واحتمالات. إذ تحرص على التملص من الكتابة الواثقة من نفسها، المستنيمة إلى دعة اكتشافاتها المتواضعة. فهي كتابة تتسم بما يسمونه في النقد السردي Authorial disavowal بتخلي المؤلف عن سلطته التقليدية القديمة على النص، وتنصله المستمر من السرد وتركه وحده، كاليتيم، يدافع عن نفسه. لا بالزعم بأنه سرد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفهما، كما كان الحال في السرد الواقعي القديم، والمؤلف الواثق من سيطرته على كل كبيرة وصغيرة في عالمه، ولكن باعتباره سردا يطرح تعدد المنظور في مواجهة الرؤية الواحدة الواثقة. وكأنه يناقض بذلك الرؤية التسلطية المسيطرة على الواقع خارجه، والتي مرغت وثوقيتها الجاهزة، العمياء أحيانا، الواقع العربي عامة، والمصري خاصة، في مباءات التردي والتبعية والهوان.

ضد هذه الرؤية يطرح السرد نسبيته، وتغيير زاوية النظر والناظر معا. «فالناس لا تنظر دائما للأمر الواحد من الزاوية نفسها» (ص18) أو «طارئ كهذا لا يُنظر إليه إلا بوصفه قليل الحساسية تجاه البشر»(ص17). أو «رجل ذاهل عما حوله يستقبل البحر، سيبدو في عين فراشة طارئة رجلا رومانسيا يصلح صيدا، وفي عين فراشة نادلة هو صياد ماهر اختار الركن البعيد لصق الواجهة الزجاجية لكي يستدرج فراشة» (ص18) أو «نظرة الذكور إليه تختلف بطبيعة الحال». (ص19) أو «ربما كان الأمر منظورا إليه من جهة الزوج على غير هذا النحو» (ص 33) أو ربما «كان بمنظور عين محايدة أن ترى في تحديقتها تقبلا أو عطفا» (ص46) «ستبدو الأعمدة منظورا إليها بعين طفل كما لو كانت موجودة هكذا منذ الأزل، مثل الله والأب والأم والإخوة الكبار والشوارع والأسِرّة والكراسي والبحر والطيور؛ وفي عين بالغ اكتشف متعة ما تسميه المسيحية باللمس الاثم، فهي لم تقم هنا إلا بفضل تسامح الحجر مع المتطلّعين إلى الإثم؛ وفي عين محارب يريد أن يصيد ولا يُصاد، فالأعمدة ليست سوى جذوع أشجار تساعد على نصب الكمائن. النظرة للأعمدة ذاتها ستختلف بالتأكيد لو صدرت عن جسد فارق زمان المطاردة ولم يدخل السن التي يفقد فيها القدرة على الاحتشام، طبقا لعين كهذه لا حيرة تسببها أعمدة أربعة تبدو ظاهريا بلا وظيفة معمارية، فهي موزعة بدقة متناهية للحفاظ على ما يسميه أبناء ذلك العمر وبناته: الخصوصية.» (ص 24 /25) ويدعم تعدد المنظور هذا المشاعر الرجراجة غير الواثقة «لم يستطع تفسير ما أحسه في تلك اللحظة، عندما أوصد نافذتيّ وجهه مقلدا المرأة. هل كان ممتنا لأنها يممت وجهها نحوه؟ هل كان مخذولا من إغلاقها عينيها؟ هل أحس بالغبطة لإعفائه من التوتر؟ هل كان راضيا لأنه كفكف عينيه بكرم لم يتوقّعه الزوج؟»(ص 34)

ويتواصل التأكيد على تعدد المنظور والناظرين على السواء طوال النص، «لأن الناس لا تنظر للأمور من زاوية واحدة، يمكن لأحدهم أن يرى في الرأس المخروطي رمزا لوبيديا، ويمكن لآخر أن يرى في الكتف المكعبة قوّة المطرقة التي أخرجتهم من بلادهم» (ص60) أو «ويمكن لمراقب يطل على الحياة من شباك الضحك، أن يرى في المشهد كوميديا من النوع الأسود» (ص61) أو «ولا يمكن لكل البشر أن ينظروا إلى الماءين من الزاوية نفسها البركة الباردة تعد بإمكانية لقاء الحب منظورا إليها بعين طارئ لم يزل ماء الحياة يتدفق برعونة في عموده الفقري؛ أما بالنسبة لطارئ تضاحل ماؤه، فهي مكان لتطهير المجرى وإحيائه، وبالنسبة لطارئ عاش حتى تيقن من عبث الانتظار، فهي مكان لتذكر ما لم يعشه» (ص110)

ويتدرج الولع بتعدد المنظور في النص، مع تقدم السرد في الزمن، إلى حد تعدد التأويلات للمشهد الواحد وفتحه على دلالية متعددة. فقد تقدم العمر بالراوي حتى «أقلع منذ سنوات طوال عن البركة التي تبدد سلامه بلا داع» (ص110) بعد أن كان يتباهى فيها بمهاراته، ويلقي بها شباكه علها تظفر بصيد ثمين. وقد أرهف التقدم في العمر وتوالي الإخفاقات وعيه بنسبية كل شيء، فالرواية في مستوى من مستويات التأويل فيها هي رواية الإخفاقات المتكررة وانعدام التواصل، وجعله هذا الوعي الشقي كما يقول إخواننا المغاربة يدرك بشكل متنامٍ أن كل ما يمنحه له البرج محض خواء. وأن وجوده فيه أقرب إلى العدم منه إلى الوجود الحقيقي لذاته، وفي ذاته حسب مفهوم سارتر الشهير في (الوجود والعدم). فلم يعد يحس بغبطة الأيام الأولى التي كان فيها كل من يقابله يمنحه لقب «سير»، أو لأنه يدرك «أن عدد من ينحنون له يفوق عدد أقنان إقطاعي روسي».(ص 6) وأصبح أقصى ما يستطيع ممارسته في هذا «البرج» هو الاغتباط «بما يعتبره أهم ثمار العزلة: حرية التعري» (ص81) أو اكتمال الراحة الناجمة عن «إفراغ مثانته» (ص 92) فقد أدرك مع دورات التجارب المختلفة التي تفضي جميعها إلى لا شيء، والتي لا يتبقى منها في النفس غير طعم التراب، أنها جميعها تجارب «لا تصلح لطرد الوحشة المتمكنة من روح تمضي نحو الشيخوخة». (ص82)

والوحشة هنا هي رديف الإخفاقات المتكررة وانعدام التواصل، الذي دفع الراوي إلى لعبة مواساة الذات الخطرة وقد أبهظها عبء إخفاقاتها، خاصة بعدما تواصل كرّ الزمن: «هرمت .. وفكر للمرة الأولى في مأزق العمر الذي طالما تحاشاه».(ص 75) واندفع أكثر في محاولاته المخفقة للبحث عن رفقة أو عن تواصل، ولم ينفعه الهرب من الواقع إلى الحلم. فبدأت لعبة مواساة الذات: «اشترى هاتفا إضافيا يحميه من النظرات الشفوق. يدخل إلى المطعم أو المصعد أو النادي الرياضي بهاتف في يده، والآخر مخفي في جيبه. يغافل الآخرين ويضغط زر المخفي، يرن هاتف اليد فيصطنع الإحساس بالمباغتة. يتأمل الرقم المتصل، ويدع الرنين إلى قرب نهايته ثم يفتح الخط ويبدأ بالثرثرة». (ص 103) فهل كان حقا يغافل الآخرين، أم تراه يغافل نفسه ويخدعها وهو يتوهم أن تلك المكالمات تعفيه من الإحساس برثاء الذات؟ إذ سرعان ما يكتشف أن الرنين لم يعد «كافيا للتنبه أو قادرا على درء الوحشة أو طمس صوت المرأة الشابة الذي يخترق الجدار الهش ويذكره بوحدته.» (ص 104) بل نكتشف معه في هذا الفصل من الرواية، (فصل 13) لدلالة الرقم الكئيب، أنه ليس وحده الذي يلعب لعبة رثاء الذات الخطرة، بل هي قانون الحياة في (البرج) الذي يتكرس فيه الفقد والخذلان، وقد تحول صوت المرأة التي حسب أنه صادر عن حياة حقيقية، أو عن ممارسة لحياة، إلى صوت الكومبيوتر، وتسجيلات تكرس معاني الفقد والخذلان. لا تختلف كثيرا عن مكالماته الغريبة لنفسه من تليفونين محمولين.

(2) كيف تتحول الحياة إلى وهم أو سجن:
فنحن في عالم ينتمي إلى الوهم أكثر مما ينتمي إلى الواقع برغم أنه عالم واقعي بكل تفاصيله. حيث تبدأ الرواية منذ سطورها الاستهلالية بلفت الانتباه إلى هذا الواقع الاحتمالي «في غرفة فسيحة يسمونها جناحا، يعيش. لا يعرف متى يمكنه أن يغادر، ولا يتذكر لمَ ومتى جاء. يشعر أحيانا أنه كان في هذا المكان من قبل، وأحيانا يتخيل أنه شاهده في فيلم بالأبيض والأسود. بينما يجعله عجزه عن الفرار يعتقد أنه نائم على سريره في بيته، يحلم بأنه طارئ في غرفة بالطابق الثاني والعشرين من برج ذي ستة وعشرين طابقا.» (ص5) منذ تلك الكلمات الاستهلالية الأولى في الرواية تبدو غرابة حالة هذا السارد الذي يحرص النص على تسميته بـ«الطارئ» العابر الهش، ويبقيه هكذا طوال النص دون اسم حقيقي. وهل نحن في عالم حقيقي؟!

لأننا لا نعرف إن كان هذا الطارئ حرا أم سجينا، في حلم أم في واقع، محكوم عليه بالبقاء أم اختار وجوده في هذا البرج بمحض إرادته. وهكذا يتخلق التناقض بين الواقع والتسمية «غرفة يسمونها جناحا»، وهو تناقض سرعان ما يتعمق مع غياب الذاكرة والتعلّة والهدف، لأننا في عالم الوجود بلا ماهية كما يسميه سارتر والوجوديون، الوجود الفاقد للهدف والتعلّة. وجود أقرب إلى وجود السجين منه إلى وجود الإنسان الحر المتمتع بكامل إرادته. كما يؤكد الإيحاء بالسجن المضمر في عدم معرفة موعد المغادرة والعجز عن الفرار، وكأننا بإزاء اعتقال مفتوح لا سجن لفترة محددة. وهو الأمر الذي تؤكده بداية الفصل التالي «لايكف السجين عن عدّ أيامه» (ص9) وستكرسه الرواية كلها التي تنتهي بـ«الطارئ» هرما وقد تقدم به العمر في البرج دون أن يبرحه. «كان يتقدم في السن بمثل الراحة التي يلمسها المصطافون على شاطئ جيد التمهيد عندما يتقدمون من المياه الضحلة باتجاه الأعماق مستشعرين ارتفاع المياه من الكعوب إلى الكواحل حتى تغمر آذانهم مستسلمين لدغدغة برودة صارت مألوفة» (ص 115) أهي برودة الموت الوشيك بعد حياة لا تتميز عن الموت كثيرا؟ أم هي استمرار لحياة بالحركة البطيئة تسوخ فيها الأقدام في صحارى وهم أو حلم؟ فنحن بإزاء عالم يبدو فيه كل ما هو واقعي حلميا، أو وهميا. يعيش فيه «الطارئ» حياة بلا ماهية ترهقه خفتها اللامحتملة، أو بالأحرى عبء وهميتها الفاجعة.

فكل ما يدور للبطل فيه، على مد فصول الرواية، ليس إلا احتمالات تبدو لوهلة وكأنها حبلى بالأماني، لكنها سرعان ما تتكشف عن وهم أو خواء. وبسرعة يتحول البرج بأكمله إلى استعارة لواقع غريب، يموج بالطارئين الذين لا يقلون هشاشة وعرضية وخواء عن البطل/ السارد، أو بالأحرى المسرود. فلا يوفر له الكاتب، برغم أن النص كله مكتوب من منظوره، ترف أن يروى قصته بضمير المتكلم، فلضمائر السرد دلالاتها ومحتواها. وإنما يظل السرد بضمير الغائب شارة على الحضور الممحو الأقرب إلى الغياب، منه إلى أي حضور فعلي أو تحقق إنساني. وعلى مد فصول الرواية الخمسة عشر، وهي فصول غير مرقّمة وغير مُعَنْوَنَة، وكأنها تعي أنها تكتب واقعها تحت الممحاة كما يقول ديريدا، تتعزز احتمالية هذا العالم وعرضيته وصلادته الخاوية معا. ويتوقف فيه الزمن عن التقدم دون أن يتخلى عن قدرته على ضعضعة الروح والجسد معا، وعلى ترك آثاره في شيخوخة المشاعر والحركات على الطارئين.

فليس من قبيل المصادفة أن هذا البرج الغريب مملوء بالبالغين وحدهم، مثله في ذلك مثل السجن الذي لا نجد فيه أي أثر للأطفال. لذلك يحب «الطارئ» «يوم العطلة المعروف في البرج باسم اليوم العائلي. يرى فيه صغارا فيتذكر أن أصل الطارئ طفل»(ص 37) لكن هذا اليوم العائلي لا يتحول إلى كرنفال للبهجة والاحتفال كما هو الحال في الروايات التي تحتفي بالحياة، وتهتم بالعنصر الكرنفالي حسب مفهوم باختين المهم لهذا المصطلح، وإنما يتحول إلى حلبة للصراع وأداة من أدوات تكريس كابوس البرج وغرابة حياة «الطارئ» فيه. لأنه سرعان ما يكتشف أن هذا اليوم الذي يجلب شيئا من الواقع الطبيعي للبرج لا يخفف من وطأة وحشته بل يعمقها. ليس فقط لأن فيض أنوثة النساء، وروائح المتعة التي تملأ المكان تعمق وعيه بتطفله على عالم هذا اليوم المفارق لعالمه العادي الموحش، ولكن أيضا لأن كل ما يدور فيه يرده من جديد، سواء بالرفض، أو حتى بالمشاغلة والغواية، لوحشته. فيعود من جديد إلى صحارى البرج القاحلة، يتلقى فيها ابتسامات النادلة الوظيفية المنضبطة التي ترده بلباقة لبرودة عالم البرج القاسية، ولكن بعدما «يتبين من تحت ابتسامتها ظل سخرية شامتة». (ص 41)

وتستخدم الرواية التكرار كي تؤكد لنا أننا بإزاء حالة عامة، وليس مجرد حالة فردية لطارئ بعينه، فالنص يعي أن التكرار من أدوات السرد البنائية المهمة. ولذلك فإنه يؤسس لهذا التكرار في كثير من أحداثه، ومنذ بدايته. كما هو الحال في سؤال النادلة له في الفصل الثاني «هل تحب أن تجرب الأيس كريم سيدي؟» (ص13) وهو السؤال نفسه الذي ستكرره على شخص آخر (ص 117) في فصل الرواية الأخير. لكن أهم تكرارات هذه الرواية وأكثرها دلالة هو تخليقها لقرين آخر للطارئ في فصلها التاسع الذي يوشك أن يكون قصة قصيرة قائمة بذاتها. فتكرار الشخصية يدخلنا في قاعة مرايا يتحول فيها هذا الطارئ الآخر الذي يدعوه بـ«الصامت الحزين» الذي «ربما عاش بالبرج حتى نسي الكلام» (ص73) إلى صورة أخرى له في المرآة يستشرف فيها مستقبله المخيف. وهذا هو السر في أنه لا «يعرف لما ينشغل بالرجل الصامت إلى هذا الحد، على الرغم من أنه لم يبد أي استعداد للتواصل». (ص75) ويظل الانشغال به مسيطرا عليه، لا يرتاح إلا حينما يجده وسط زحام المفاوضين، بل لا يرتاح حقا إلا حينما يعود الصامت الحزين إلى قواعده القديمة بعد انفضاض «مولد» المؤتمرين. لأن عالم البرج الغريب لا يتيح للطارئ غير تأمل ذاته، والنبش في تواريخه، واكتشاف أخطائه، دون أن يتيح له أن يحيل هذا التأمل والنبش إلى أداة للفعل. لذلك حرص النص وهو يستخدم هذه الشخصية الغامضة لإضافة أبعاد جديدة لشخصية «الطارئ/ البطل» الأساسية إلى تأكيد أواصر التماثل بينهما، من خلال شغف كل منهما بالقهوة التركية، المختلفة عن قهوة «اللاأحد» الأمريكية، وبالعزلة عن الآخرين، والاكتفاء بمواجد الذات.

(3) «البرج» وزمكان الوجود الفاقد للماهية
والواقع أن أي تأمل لهذا «البرج» الغريب كمكان روائي، بوسع المستنيمين لخداع البصر وحدهم «رؤية الكمال الفردوسي فيه» (ص79) للكشف عن دلالاته كاستعارة روائية مترعة بالإيحاءات، يحتاج منا إلى العودة إلى مفهوم باختين عن الزمكان Chronotope وما يتطلبه من الوعي بأهمية البعد الزماني للمكان السردي، والبعد المكاني للزمن السردي على السواء. وهو مصطلح يدمج السابقة التي تشير للزمان Chrono مع لاحقة تشير عادة للمكان Topos ليبلور مفهوما مهما في نقد الرواية للعلاقة الجدلية بين الزمان والمكان، أو زمكانية الموقع الروائي في أي عمل روائي متقن. لأن الرواية عنده لا تقدم مكانا محايدا، وإنما متجذرا في زمان محدد، ويكتسب حيوته ببشر محددين. بالصورة التي يوشك أن يكون الزمن فيها هو البعد الرابع لهذا المكان بأبعاده الثلاثة المعروفة. يقول باختين في (الخيال الحواري The Dialogic Imagination) «سنخصص مصطلح الزمكان للرابطة الداخلية المضمرة بين الزمني والمكاني في التعبير الأدبي. وهو مصطلح يستعمل في الرياضيات، وقد استخدمه أينشتين في نظرية النسبية. لكن معناه في النظرية النسبية ليس مهما بالنسبة لنا، ولكننا نستعير المصطلح هنا لغايات أدبية محضة، باعتباره استعارة، أو بالأحرى نوعا من الاستعارة، لأن ما يعنينا هو حقيقة أنه يجسد استحالة الفصل بين الزمان والمكان، وبأن الزمان هو البعد الرابع للمكان. والزمكان بالنسبة لنا هو أحد مكونات البنية الأدبية، ولن نتناوله في أي مجال آخر من مجالات الثقافة المختلفة. فالزمكان الأدبي يتم فيه دمج الزمني والمكاني بطريقة حصيفة وعمدية ومستبصرة لخلق كل متكامل. حيث يكتسب الزمان ثقله ويكتسي باللحم ويصبح مرئيا من خلال الفن، كما ينضح المكان بحركة الزمن فيه وبالحبكة والتاريخ. وهذا اللقاء بين المحورين، بما ينطوي عليه من اندغام الدلالات والمؤشرات، هو ما يتسم به الزمكان الأدبي. لأن الزمكان ينطوي على دلالات داخلية وتجنيسية في العمل الأدبي، بصورة يمكن معها القول إن الزمكان هو ما يحدد الجنس الأدبي والتمييز بين الأجناس، حيث أن القيمة الأساسية لزمكانية العمل الأدبي هي الزمن، كما أن الزمكان كمكون من مكونات الشكل الأدبي يساهم بدرجة كبيرة في صياغة صورة الإنسان في الأدب. لأن صورة الإنسان هي دوما زمكانية».(2)
إذا ما أخذنا كل أبعاد هذا المصطلح الباختيني في الاعتبار عند تأمل دلالات «البرج» كمكان في هذه الرواية، سنجد أن زمكانيته لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن صورة الإنسان فيه، ولا عن طبيعته ولغته وعلاقاته المختلفة التي يوشك أن يكون «البرج» أحد عوامل صياغتها والتحكم فيها. فبينما يبدو «البرج» في الظاهر وكأن كل شيء فيه مشيد لتوفير الراحة للطارئين عليه وفيه وتلبية كل طلباتهم؛ فإن تأمل آليات الحياة في «البرج» تكشف لنا عن أنها هي التي تتحكم في الإنسان، وتصوغ إيقاع حركته وتعاملاته، وتسيطر على منطق توقعاته. (راجع كم مرة تدخل إيقاع عمل المصعد في حركة الراوي، وفي طبيعة ما تتخلق فيه من علاقات ووعود لا يساهم في تحقيقها بقدر ما يشارك في إحباطها.) فالبرج يبدو في كل مرة يرد ذكره في السرد وكأنه عالم قائم بحد ذاته، مكان لا يمكن تحديد وجوده في الزمن، ولا حتى في الجغرافيا. وقد أكد الاستهلال الروائي أنه يقع بين الواقع المألوف الذي يشعر الطارئ معه «أحيانا أنه كان في هذا المكان من قبل، وأحيانا يتخيل أنه شاهده في فيلم بالأبيض والأسود». (ص5)

وهو في الوقت نفسه مكان لا تتغير فيه الفصول (ص 23) وكأنه خارج الزمن والواقع معا، أو يعيش في زمن خارج الزمن التعاقبي كما سنؤكد بعد قليل. برج مليئ بالغرباء، أو بآلاف الطارئين، سواء منهم من يقطنون غرفه ويتمتعون برغد العيش فيه، أو من يقومون بخدمتهم والانحناء المؤدب لهم. تسوده لغة هجينة ليست «لغة اللوردات المتعجرفة» (ص7) كما يقول الراوي الذي يحبطه عدم التمكن منها، ولكنها لغة العولمة المبتذلة، التي تساهم في تسطيح كل شيء، من عمليات التبادل البسيطة إلى أكثر العلاقات الإنسانية تعقيدا أو حميمة. فهي ليست بأي حال من الأحوال لغة أي من سكانه، لا قاطني البرج ولا القائمين على الخدمة فيه. ولكنها لغة يفرضها «البرج» عليهم كي يصبهم جميعا في قالبه: قالب بنية علاقاته وبنية المشاعر المسموح بها فيه مع تلك العلاقات، والتي سنكتشف بالتدريج أنها جميعا من مترادفات الإحباط والفشل. وهي لغة تمكن العاملين فيه والذين يدعوهم النص بـ«فريق الانحناء» الذي جاء أغلبهم من بلاد الشمس القارحة من صون لغاتهم الآسيوية «في قلوبهم طوال سنوات غربتهم فلم يُجبروها على الترحيب بمن لا يستحق، أو في عمل غير منطقي، كأن يشكروا المخدوم بينما كان عليه أن يشكرهم» (ص8). لكنها في الوقت نفسه تحول دون التواصل الحقيقي بين الطارئين. حيث يعجز الراوي عن التواصل بها في اللحظات القليلة التي تعد بتواصل ما، «وكأنه ارتد إلى ما قبل اختراع اللغة». (ص50)

والواقع أن أحد ملامح زمكانية هذا «البرج» الغريب أنها ترد سكانه فعلا إلى ما قبل مرحلة اختراع اللغة. وتحوّلهم جميعا إلى كائنات موجودة، ولكنه وجود بلا ماهية كما يقول سارتر وهو يتأمل الذات الفاقدة لمركزيتها والمنقسمة على نفسها –  كما اكتشفنا في مثال التليفونين الذي يتلقى عبرهما «الطارئ» مكالمات نفسه. وهو انقسام لا أمل في إصلاحه أو البرء منه عنده. لأن واقع البرج الغريب يحول دون «الطارئ» وما يدعوه سارتر في (الوجود والعدم) بالكوجيتو ماقبل التأملي المسبق prereflective cogito، الذي تتحقق عبره عادة ذاتية الإنسان كوجود، والذي نجد شيئا منه لدى الكاتب المضمر، وهو يتأمل تبدلات الناظر والمنظور، ولكنه يغيب عن «الطارئ» في استسلامه اللاواعي لآليات الحياة اليومية في البرج. وهي آليات تغيب الحدود بين البنى الأساسية الثلاثة التي يتحقق بها الوجود عند سارتر، وهي الوجود في ذاته، والوجود لذاته، والوجود للآخرين في تفاعلها مع الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. فأي تحليل لشخصية الطارئ في هذا النص وفقا لبنى سارتر الأساسية الثلاثة، يكشف عن أننا بإزاء حالة من الوجود الصلب في ذاته ككائن بشري له وجوده المادي الملموس إلى حد ما، لا يختلف كثيرا من حيث رغبته في الإشباع الفطري لغرائزه عن أي حيوان آخر. ولأن هذا الوجود في ذاته يعتمد عند سارتر على الماضي،(3) كان طبيعيا أن يرتد «الطارئ» في نهاية النص وقد زعزعت التجربة كل ثقة له في أي وجود، إلى الماضي السحيق، إلى ما قبل وجوده في البرج، و«رائحة حبة المانجو التي دستها أمه في حقيبته قبل أن يودعها في ذلك اليوم البعيد». (ص118)

لكن إذا  ما انتقلنا من الوجود في ذاته إلى الوجود لذاته وهو ما ينطوي على الوعي الإرادي المعرفي بتلك الذات وبسياقاتها وباختياراتها الحرة في العالم، وهو الأمر الذي يتعلق أكثر بالحاضر وليس بالماضي، سنجد أننا حقا بإزاء ذات إشكالية إلى أبعد حد. خاصة وأن الوجود لذاته سرعان ما يشتبك مع الآخرين، ومع الوجود للآخرين، ومع المستقبل في آن. وهو الأمر الذي سنجد أن الطارئ فيه، وبرغم سعيه الحثيث للاقتراب من الآخرين والتعامل معهم، لا يفلح أبدا، وبسبب طبيعة البرج نفسه وما يسوده من منطق غريب، في خلق أي أواصر حقيقية معهم. بل نجد تجسيدا روائيا لمقولة سارتر الشهيرة في هذا المجال بأن «الجحيم هو الآخرون» حينما يتحقق الكابوس الذي يطارده منذ سنوات «حيث يجد نفسه حافيا في ملابس منزلية بالساحة الرئيسية للجامعة» (ص57) حينما وجد نفسه «مبلولا» فعلا لا استعارة وسط «حشد ضخم أصابه بخجل ضاعف إحساسه بالبلل» (ص56)

(4) خواء الحداثة والزمن السرمدي:
لكن أجمل ما تكتبه هذه الرواية من متغيرات في تجربة الخروج العربي هو تناولها لزمن السرد بطريقة فريدة تجعله أحد أهم تجليات محتوى الشكل في هذا النص البديع. فالرواية تقدم لنا زمنا دائريا تتكرر دورته على أكثر من مستوى دون أن تعترف تلك الدائرية بالتراكم أو التغير التي قد تجعل منها دورة حلزونية تتغير فيها مستويات الزمن/ الحدث معا. فعلى مستوى حياة «الطارئ» التي لا يحدث فيها شيء يستحق الحكي تتكرر دورات الأمل في صيد أو علاقة أو مغامرة ولكنها تفضي جميعا إلى لا شيء. وعلى مستوى البنية الكلية للرواية، ينتهي النص بالنادلة «كاثرين» وهي تكرر للدارفوري نفس الجملة «هل تحب أن تجرب الأيس كريم سيدي؟» (ص 12، ص117) التي فتحت للطارئ أولى كوّات الأمل في صيد لا وجود له. هذه الدائرية الساكنة يعززها غياب الذاكرة الداخلية للنص. فليس للنص أو لأي مما يدور فيه من أحداث ذاكرة تاريخية داخلية تحيلنا على أي أحداث تاريخية خارجه، أو حتى تمكننا من موضعته في زمن تاريخي محدد. صحيح أن ثمة إشارة لوفد يأتي للمشاركة في مؤتمر ما، أو لعدد من مواطني الدارفوري وقد أتوا للمشاركة في مفاوضات ما، ولكنها إشارات واهنة لا تكفي لتجذير الأحداث في زمن بعينه. وكأننا في اللازمن المصر على المضي في دورته بلا هدف أو غاية غير دورة الزمن الأبدية نفسها.

لكن الزمن برغم دائريته تلك، يتقدم بالراوي دون أن يتطور. حيث تكتهل الروح ويشيخ الجسد في حياة لا يحدث فيها شيء. أصبح «الطارئ» فيها يتوق إلى غبطة أن يحظى «بساعة نوم بعد أن هزم الأرق كل أنواع الحبوب المنومة» (ص110) ولكنه يقدم تلك الصيرورة في الزمن بطريقة تردنا إلى ما يدعوه والتر بنيامين بالزمن السرمدي. زمن ما قبل الحداثة الثابت أبدا، والذي ساد في المجتمعات الرعوية والزراعية القديمة، حيث دورة الحياة توشك أن تكون ثابتة قدرية وشبة أبدية، تعتمد على تراتبات اجتماعية راسخة لا تتغير فيها أوضاع البشر، حيث يتوقع كل منهم أن يرث مكان أبيه ومهنته ووضعه الاجتماعي. بصورة لا يحدث معها أي حراك اجتماعي، ولا يدور فيه أي تفاعل حقيقي بين الأفراد أو الشرائح الاجتماعية المختلفة. وإنما تظل بنية الواقع الاجتماعي ذاتها استاتيكية ثابتة، بنفس تراتباتها القديمة التي لا تتزعزع عبر الزمن. وهذا الزمن السرمدي القديم، يطرحه بنيامين باعتباره النقيض الكامل للزمن الجديد/ الحديث: الزمن التعاقبي المنطقي العقلي، والذي أدى تغييره إلى انبثاق عملية التحديث الغربية برمتها، وبكل ما ترتب عليها من تطورات وتغيرات وحراك اجتماعي. فبدون التغير في بنية الزمن، وفي تصور الإنسان له وعلاقته به، والتخلي عن تلك البنية السرمدية القديمة، لا تنهض أي حداثة، ولا يتخلق أي أمل في تغيير البنى الاجتماعية الراكدة والمتكلسة.

و«برج» عزت القمحاوي غارق في هذا الزمن السرمدي الذي يلف كل جوانب الحياة فيه. لذلك نجد أننا بإزاء عالم تتجاور فيه شخصيات من جنسيات عديدة دون أن تتفاعل. وكأن اختلاف الجنسيات نفسه هو المدخل الضروري لانعدام التفاعل بينها، أو هو القشرة التي تعتصم بها كل شخصية كي تنغلق على ذاتها. إذ استطاع السرد تثبيت الزمن عند تلك الحالة السرمدية القديمة «لأن الفصول لا تتغير في البرج» (ص 23) بالرغم من قشرة التحديث البراقة التي يتمتع بها عالمه، بالصورة التي نجد فيه الكثير من أمشاج عالم مابعد الحداثة، وأطياف قولبة العولمة التي تستل الروح من كل ما كان متفردا أو أصيلا، وتصك كل ما تلمسه بخاتم عالم «اللا أحد»، وتجهز على أي حياة حقيقية أو ذاكرة تاريخية فيه. فالزمن في «البرج» سرمدي أعادت فيه أدوات الحداثة بناء زمن البداوة السرمدي، بعدما استلت روحه، وأنتجت هذه الحالة الفاجعة التي يعيشها «الطارئون» فيه. تتبدد فيه الحياة في صحارى أوهام راحة أو حداثة قاحلة. فقد استطاعت الرواية أن تحيل مكان السرد الرئيسي فيها، هذا البرج الغريب المكتظ بعالم أقرب إلى العالم الافتراضي منه إلى العالم الحقيقي إلى استعارة لما ينطوي عليه هذا النوع من الحداثة من خواء.

 

هوامش:
(1) عزت القمحاوي، البحر خلف الستائر، بيروت دار الآداب، 2014، ص 5، وسوف نكتفي بعد ذلك في الإشارة إلى رقم الصفحة في كل المقتطفات المأخوذة من الرواية، بدلا من تخصيص هامش لكل مقتطف.

(2)  M.M. Bakhtin,The Dialogic Imagination: Four Essays by M.M. , translated by Caryl Emerson & Michael Holquist, University of Texas Press, 1981, p. 103.

(3) للمزيد من التفاصيل راجع David Sherman, Sartre and Adorno: The Dialectics of Subjectivity (Albany, State University of New York Press, 2007), pp. 111 – 112.