يكشف الباحث والمسرحي العراقي في قراءته المتأنية لمسرحية شكسبير (ريتشارد الثالث) عن أن هذه المسرحية من تراجيدياته المهمة، وعن مدى معاصرتها وقدرتها على إضاءة آليات السلطة الراهنة..

العنف وهستيريا الروح المعاصرة

ريتشارد الثالث.. نموذجا

فاضل سوداني

 

«يا بومة الموت الرهيبة، يا مبعث الرعب للأمة وسوط عذابها المخيف إن أجل ظلمك ليدنو»

 شكسبير / هنري السادس

إتفق الدارسون تاريخيا على أن أهم تراجيديات شكسبير وأكثرها تكاملا ـ فلسفيا وفكريا وفنيا ـ هي أربعة: مكبث، هاملت، عطيل، الملك لير. وبرأي أنهم أهملوا أكثر مسرحياته تعقيدا وتواصلا مع العصر، وأعني نص ريتشارد الثالث. بالرغم من أن المؤلف كتبه في حياته التأليفية المبكرة. وعدم اتفاق النقاد على كون شكسبير هومؤلف هذه المسرحية الحقيقي. إلا أنها تعد من التراجيديات الشكسبيرية التي أسلبت حقبة زمنية طويلة من التاريخ وتاريخ المسرح بالخصوص، لأننا نستطيع أن نتمعن من خلال اللمحات الفكرية والفلسفية الشكسبيرية في أخطر أحداث ذلك الزمان. إضافة إلى إن تكاملية ريتشارد بشروره وطموحة وقوته وضعفه ودفئه وحبه وطريقة حديثه المغرية، تجعله أحد الأبطال التاريخيين للانقلابات العسكرية والحروب المعاصرة اللامجدية التي تميز بها عصرنا أيضا. وهذا الجانب هوالأهم في معاصرة شكسبير، لأنه عالج موضوعة القسوة والعنف بوعي تنبئي في مجمل نصوصه سواء في عنف الحروب أوعنف الأسلاف (كما في روميووجوليت)، أوعنف الذات ضد الآخر الذي يدفع إلى سيادة العقل التآمري في بشاعتها أللا أخلاقية، أوالقسوة التي تسري كعدوى الطاعون، (كما في العنف السيكولوجي الذي مارسه ياجوضد عطيل).

ويرتكز العنف في تاريخيات ومآسي شكسبير على السقطة (Aporia) أي المفارقة الملتبسة الغامضة التي تفاجئ وتغري البطل وتشوش عقله وتحوله إلى كائن مهووس لتحقيق سقطته حتى نهايتها، بعد أن تتلبسه الأوهام فيظل مأخوذا بالنبوءات ومدفوعا بالقدرة السحرية لتعاويذ رسل الانتقام، أوبأوهامه وطموحاته الشريرة، فيحقق سقطته، لتتحول إلى لعنة نهائية تشله تماما، فيلتبس عليه الكون ومن ثم يسقط في التيه وكأنه ذبيحة مدنسة. إنها سقطة مكبث عندما آمن بنبوءة الساحرات، فدفعه هوس حلمه في استلام السلطة إلى قتل الملك دنكان، وبهذا فانه قتل هدوء منامه وأحلامه الشفافية، وبدأت عذاباته هوبالذات. وهي سقطة الملك عم هاملت عندما قتل أخيه الملك الشرعي ليحقق طموحه السلطوي. وهي سقطة هاملت أيضا التي خلقت التردد الفلسفي في روحه لزمن طويل بدون التزام الفعل لوقف استمرارية الشر المتمثل بعمه القاتل وحاشيته. وسقطة عطيل عندما سمع فحيح "ياجو" المسموم في الشك بحبيبته. وهي أيضا سقطة لير "عندما وزع مملكته وتغافل عن الطمع والقسوة وهستيريا الروح وخراب الأبناء وعقوقهم.

إنها السقطة التراجيدية التي تقلق الذات وتخلق خلخلة في روح البطل والبناء الاجتماعي عموما في فترة زمنية محددة بحيث توقف ديناميكية التطور وما يسود بعد ذلك هوالاستثناء. وتفرض شمولية وآفاق العقل والخيال الشكسبيري أن يكون ساخرا عظيما من أحداث عصره، لدرجة معالجة موضوعة العنف والقسوة في كوميدياته وملاهيه أيضا. فمن خلالها سخر من شخصيات وأبطال زمنه، وأكد على التناقضات الاجتماعية البرادوكسية بوعي قاس ذا طابع تدميري وعنيف. يؤدي إلى الكشف عن جوهر وميكانيزم الكوميديا السوداء والغروتسك الشكسبيري المتفرد لدرجة العبث أوالتغريب Frefremdung. فديناميكية الصراع الدرامي لدى شكسبير يتعمق في جوهر الأشياء والأبطال والأحداث لدرجة ان يخلق رعبا في داخل المتفرج في مختلف الأزمنة تدفعه إلى عدم تصديقها أوتغريبها، لان القسوة والعنف تتصاعدان إلى أقصى بشاعتهما وذروتهما حتى أن القارئ أوالمتفرج يؤمن تماما بان هذه الممالك التي لعنها شكسبير تحولت إلى خراب حقيقي، أوإن هذه العروش انهارت على ملوكها، وان البطل ستلاحقه اللعنة الشكسبيرية والدعوات الغاضبة حتى بعد موته: فمن هذه المدن لن يبقى / سوى الريح التي عبرتها (كما يلعنها بريخت أيضا).

وشكسبير عادة يدفع بطله إلى الأيمان المطلق بخراب الوجود المحيط به لدرجة الرعب التي يؤدي به أن يرفض كل شئ من اجل ان يخلق التراجيديا الحدث الشاملة والبارادوكس في روح البطل لذا فان ريتشارد الثالث يصرخ (وما الممالك إلا رماد كلها) أويجعل منه بطلا مستلب الإرادة حد التمني (أن نعبر ذلك الليل البارد الذي سيحيلنا إلى بهاليل ومجانين) كما في الملك لير. ولكن في لحظة ما يكون للتطهير والصحو المفاجئ بعد الكابوس ضرورته. ولابد أن يأتي منقذ لوضع حد للخراب وإنقاذ العالم من عنف وقسوة وجنون مكبث أو ريتشارد الثالث أو ياجو أو من قسوة تقاليد الأسلاف والعوائل أوإنقاذنا من ظلم الأخ الذي قتل أخيه. إذن لا بد من تحقيق العدالة حتى وان كان على خشبة المسرح. هذا هو المفهوم الشكسبيري للعدالة، لذا فان طغاة عصرنا يحبذونه، لأنه العقل القادر على كشف خططهم السرية والمعلنة في العنف والتدمير للذات والمجتمع. وبعضهم لا يستغني عنه فيعتبر مسرحياته قاموس للمؤامرات وأساليب التخلص من الأعداء، والتنكيل بهم، ومثل هؤلاء لا يندهشون إلى حجم هذا العنف الشكسبيري، لان ما يجري في مماليكهم وجمهورياتهم أكثر عنفا وقسوة.

وقد تجلت موضوعة القسوة والعنف في أوج دلالاتها في مسرحية ريتشارد الثالث (كتبت بين 1590 93- 15) وتعتبر تكملة للأجزاء الثلاث لمأساة الملك هنري السادس. فهي تعالج نهاية الصراع الدموي الذي كان قائما بين عائلة يورك وعائلة لانكستر. وبدأ ريتشارد الثالث في التخطيط لاستلام السلطة منذ أن كان دوقا في عهد الملك هنري السادس. ورسم خططه الشيطانية المدروسة والطويلة المدى، فهو يقتل الملك هنري وابنه ليمهد طريق العرش لأخيه أدوارد، لكنه كان متيقنا بأنه سيقتل نصف عائلته من ضمنها إخوانه وأقرب مناصريه، ويتزوج ابنة أخيه، من أجل تأسيس دولة العنف حسب مزاجه السوداوي العدمي. ولتحقيق طموحه هذا انساق ريتشارد الثالث إلى آلية كأنها حتمية وقدرية لا تحتاج إلى كثير عناء، فقط أن يزيح من يعتقده سبب لعرقلته، أويرسل أي إنسان مهما كان قريبا منه إلى الموت فقط لان مزاجه سيئا، لأنه يعتقد بسخرية بأنهم لا ينفعون، وانه بهذا يساعد الرب والضحايا في ذات الوقت للذهاب إلى السماء لأنها أصلح لهم من الأرض.لذلك فهونموذج للبطل العدمي الذي يمكن أن نصادفه في التاريخيات الشكسبيرية والذي يؤمن بجبرية خططه الدموية التي ستشكل المصيدة التي لا فكاك منها في المستقبل.

المرآة المرائية

عاش الملك ريتشارد تاريخيا مابين 14 85-1452، وعندما مات أخوه أدوارد الرابع أصبح وصيا على ابنه الطفل أدوارد الخامس مرشح العرش. ومن اجل أن يمتلك السلطة بحزم، يأمر بقتل أخيه كلارنس والطفل مرشح العرش والطفل الآخر في سجن البرج المرعب، ويسمح بتناقل الإشاعات السيئة لتشويه سمعة العائلة الملكية بما فيها والدته الملكة من أجل استلام السلطة. وينجح عن طريق الكثير من المؤامرات والسلوك اللاإنساني وبتأثير من الشخصيات الفعالة في القصر، بتنصيب نفسه ملكا، لكن حكمه دام سنتين فقط 1483 -   85تحولت فيهما إنجلترا إلى جحيم وكابوس مرعب. كان هذا التتابع التاريخي ضروريا لمعرفة الملامح الأساسية التي يحاول شكسبير أن يسبغها على بطله حتى يكون متكاملا، متنوعا في صفاته، ومتلونا في أبعاده السيكولوجية لدرجة إيمانه الكامل (بان الضمير البشري ليس إلا كلمة يتداولها الجبناء قصد بها أول الأمر أن تخيف الأقوياء) ومثل هذا البطل منحه شكسبير الكثير من التفرد والتمايز سيساعده على اجتياز الزمن ليصبح بطلا يمكن أن يوجد في كل عصر وأوان. فهوطاغية ولكنه يذرف الدموع الغزيرة على أصدقاءه عندما يرسلهم للموت. قاتل شرس (أراق الدماء الحارة كأنها مياه يغسل بها يديه). وهوالسفاح الذي أسس مملكة الأموات ـ الأحياء، رقيق المشاعر في لحظات الحب، عنيف لا يطاق عندما يغضب. بطل يتخذ كل وسيلة للوصول إلى ما يريد، ثم يقتل كل من كانوا وسيلة لغايته، ومن أجل أن ينقذوا رؤوسهم، يبدأ معهم لعبته ومداعباته، فيجبرهم على أن يتجسس أحدهما على الآخر، أما هو فلا يثق بأي منهم، فيفضل قطع رؤوسهم جميعا إذا اقتضى الامر.

وبما إن شكسبير كان واعيا بقدرات بطله التدميرية هذه، رسمها بتأن للوصول إلى شخصية منسجمة مع طموحاتها الذاتية، بحيث يصبح شرورها تكاملا لها. وبالرغم من قسوة وعنف زماننا ولا معقولية الكثير من جوانب حياتنا إلا أننا لن نصدق هذا الكم الهائل من الشرور والأحقاد التي يمارسها ويشيعها ريتشارد الثالث، حتى إن الأميرة آن ـ قتل والدها وزوجها ووالده الملك هنري، وتزوجها عنوة وتشفيا، ومن ثم اعتقلها بعد الزواج وقتلها بعد أن أشاع بأنها مريضة ـ إن هذه الأميرة، الزوجة تصرخ بالحرس عندما ترى ريتشارد: (ماذا، أترتجفون ؟ أمرتعبون أنتم ؟ وأسفي، لا ألومكم، إنكم بشر ولا تستطيع عيون البشر أن تحتمل النظر إلى الشيطان). وتؤكد الملكة مارجريت زوجة الملك هنري السادس،على أن ريتشارد (يعض حين يتملق، وحين يعض يخلف نابه المسموم قرحة قاتلة، فقد تركت الخطيئة والموت والجحيم سماتها عليه، وقامت على خدمته كل شياطينها). إن سلوك ريتشارد هذا يخلق رعبا لدى الأخريين، لذلك فان الألقاب والصفات التي تذمه في النص أكثر من التي تمدحه فهو(الشيطان ورسول الجحيم، كتلة الدنس، الشرير، المسيخ،، العبد الرجيم، المولع بسفك الدماء، القاتل، القنفذ، الخنزير البري، قبضة الجحيم، الأفعوان التي تقضي عيناه القاتلتان على كل من ينظر إليه، الملك السفاح، الذئب، كليب الجحيم، الضفدع، العنكبوت، المتضخم بالسم، خالق الجحيم في الأرض السعيدة. وغيرها الكثير) وجميع هذه اللعنات والأوصاف منسجمة بلا حدود مع شخصيته. فقدرة العقل والخيال والمهارة الدرامية لشكسبير تكمن في تحويل الأبطال التاريخيين إلى أبطال دراميين على خسبة المسرح، لكن بسمات جديدة وتحليل سيكولوجي ومثيولوجي في الكثير من الأحيان. ففي الوقت الذي يكونون فيه شموليين إلا انهم نموذجين يؤسلبون العصر الذي يعيشون فيه ويعبّرون إلى أزمنة مستقبلية. إذن ما هي المكونات التي تشكل شخصية عدمية تمتلك القدرة على التدمير، لدرجة انسجامها وتماهيها بشكل مطلق مع أهدافها وكينونتها وشرورها الذاتية ؟ وكذلك تشابهها مع الكثير من دكتاتوري زماننا المعاصر مثل (هتلر، فرانكو، موسوليني، صدام حسين).

التوت البري المريع

يجيب الفيلسوف الدنمركي سيرن كيركغارد على السؤال السابق عندما يفسر سلوك ريتشارد على انه إمكانية التخلص من قيود ما يطلق عليه (الإلزام الباطني الذاتي) الذي هوالأساس الحقيقي للأخلاق، من اجل أن يؤسس قانونه الخاص، ومن خلاله فقط يبني دولة العنف الخاصة به. واحد الأسباب التي دفعته إلى أن يرفض الالتزام الأخلاقي العام هي الشفقة التي كان الآخرون يمارسونها إزاءه منذ طفولته. وبهذا الصدد فان كيركغارد يجزم (بان الطبيعة الفخورة يمكنها أن تتحمل كل شئ ماعدا شئ واحد هوالشفقة) انظر فريتوف برانت في كتابه (Soren Kierkegaard - His life – His works). فمن غير الصحيح أن يولد الإنسان بدون خطيئة ويكون ضحية للشفقة، وهي مشكلة لازمت ريتشارد الثالث طويلا، لأنه ولد مشوها، مما يدعو إلى عطف وشفقة الآخرين، وهذا بالذات هو الذي خلق كآبته وسوداويته التي تؤدي إلى هستيريا الروح واضطرابها. فيصبح القتل وممارسة الشرور والعنف هو النقيض المواجه للشفقة. ويقينا فان السبب الذي جعل من ريتشارد بهذه الشيطانية هوعدم استطاعته تحمل الشفقة التي كان تحت رحمتها منذ طفولته، وأيضا كرد فعل على مخزون ذاكرته المليئة بصور شفقة الآخرين التي تؤدي إلى شعور الإنسان بالعجز. وبهذا يختار ريتشارد الثالث كينونته وذاته وفعله الحياتي بعنف، ومن هذا المنطلق فان مؤسس الوجودية سورن كيركغار يعتبره (أعظم شخصية شيطانية رسمها شكسبير بشكل لا يمكن مضاهاته).

لذا فان الكثير من الدارسين يشيرون إلى تأثير التشويه الجسدي لديه على سلوكه السيكولوجي والاجتماعي، وهو ذاته يؤكد على هذا التشويه كما في بداية المسرحية، فيتذمر ساخرا بأنه القبيح الذي لا يصلح لممارسة فنون الحب، ولم يخلق بصورة طبيعية ليمتع حبيبته، فقد خلق على عجل بدون جمال المحبين الذي يسلب قلب حسناء مختالة لعوب، فهو من الذين حرموا اتساق القسمات، انه المشوه المنقوص، ريتشارد الذي تنبحه الكلاب إذا وقف أمامها لما تراه من غرابة هيئته. ومثل هذا البطل المتفرد بهذا التعقيد السيكولوجي لا يجد شيئا من المتعة يتسلى به في وقت السلم، إلا أن يتغنى بخلقته المشوهة وهو يقوم بهذا متعمدا من أجل أن يُراكم من أسباب حقده في عالم فاسد وموبوء. ومادام كل شئ آيل إلى العدم: (فلأكن شريرا مادمت لا أصلح للحب، ولا للاستمتاع بهذه الأيام الجميلة الزاهرة (أيام السلم) ولأميز تلك الأيام ومتعتها اللذيذة بغضبي وحقدي). ومن خلال هذا يتضح مفهوم ريتشارد الخاص للعنف والشر، فبالنسبة له ليس هنالك إنسان شرير، وإنما هو بالضرورة يكون طموحا، ومن أجل أنانيته الضيقة عليه أن يسحق كل شئ يقف في طريقه، لقد فتح الطموح الدموي الطريق واسعا أمام أنانية الذات الريتشاردية لممارسة العنف والقسوة من أجل أن يتحول الطموح إلى شر ويصبح الشر طموحا. وبهذا يتشكل القانون الفلسفي لريتشارد، أي مقابلة الحب والطموح، بالشر والعنف.

ولتحقيق هذا لا بد من تركيب سيكولوجي خاص، وسمات فيزيولوجية متميزة، تؤهله للقيام بفعل التدمير للوصول إلى أقصى الطموحات ـ تأسيس دولة العنف ـ التي قد تشكل انتصار وسقطة ريتشارد أوالبطل التراجيدي الشكسبيري عموما. ومن أجل تحقيق هذا الطموح يعمد ريتشارد الثالث منذ البداية بوضع مخططاته الجهنمية ويشرع في تحقيق مقدماتها، بدأ من الظنون السيئة، والتشهير لخلق الكره بين أخيه الملك وأفراد العائلة المالكة الآخرين قبل أن يستلم السلطة. ويساهم ذاتيا بوضع بعضهم في السجن أوحتى قتلهم، ومنذ هذه اللحظة تمتد شبكة العنف إلى رقاب الجميع بدون تمييز:

دوق جلوستر "ريتشارد ": سيدتي انك لا تعرفين شيئا من شرائع الرحمة، التي تجزي بالشر خيرا، وباللعنة بركة.

آن: أيها الشرير، انك لا تعرف شيئا من شرائع الله أوالإنسان، وما من وحش خلا قلبه من الرحمة، مهما بلغت ضراوته.

ريتشارد: ولكن قلبي لا يعرف الرحمة مطلقا، فأنا إذن لست حيوانا.

آن: ما أعجب أن تنطق الشياطين بالحق!

ريتشارد: وأعجب من ذلك أن يستبد الغضب بالملائكة!

إذن إضافة إلى قدرته الحوارية والتأويلية، ووضوح ذهنه وصفاءه، هنالك تأكيد على منطق جديد لا ينسجم مع المنطق العام، إذ يدلل على ذات وشخصية ريتشارد بكل تجلياتها، وهذا المنطق ينحصر في أن الشر الذي يمارسه إزاء الأخيرين يجب أن يجزي خيرا، وإذا كانت أفعال ريتشارد تعد شرا حسب الآخرين، فإنها تعتبر خيرا وضرورة تاريخية حسب منطق ريتشارد، ففعل الشر هو خير يمنحه ريتشارد ويتناسب مع شخصية القتيل، فكل ميتة تتناسب مع جلال صاحبها ومكانته، لذا فانه يعلق على قتله للملك هنري السادس بعد أن حجزه في سجن البرج: (لأني رأيته أصلح للسماء منه للأرض). وبما إن العصر يحمل الكثير من تناقضاته فان البشر سرعان ما يتحولون إلى مرايا مرائية (فما دام كل وضيع قد صار سيدا، فان الكثير من السادة قد أصبحوا وضعاء). لكن ريتشارد يحقق العدالة في هذا التناقض ضمن مفهومه الخاص للشر، لذلك فان مفاهيم مثل الرحمة والحب لها دلائل مختلفة لديه عن منطقنا نحن، لذا فان رحمته وحبه تشملان كل من يحبه، ومن اجل أن يعبر عن هذا الحب بكل علانية، فانه يحيك أقذر الدسائس لكي يرسل من يحبه إلى الموت حتى يعطي الشرعية لقتل من يضن بأنه يعيقه في تحقيق مشروعه الحياتي وهدفه الأسمى وهودولة العنف، حتى وان كان أخوه كلارنس:

(ريتشارد: أي كلارنس، أيها الساذج الآمين، إن لك في نفسي من الحب ما يحملني على أن ابعث بروحك قريبا إلى السماء … الى الجنة).

فالحب والرحمة تعني في معانيها خوفه وحرصه على من يحبه، وحتى لا يسمح لمن يحبه أن يخطئ ضده في يوم ما، لابد أن يقتله ليرسله إلى الفردوس. ومن جانب آخر، فان الهدف الأساسي لممارسات ريتشارد هو تعميم العنف والقسوة والروح التدميرية في كل شئ، وضمن هذا المنطق فان منح حبه لمحبيه يعني منحهم عقده السيكولوجية، فعلى الجميع أن يلبس قناعه، وان يتكلم بذات الطريقة ويتحرك ويتصرف بذات الحركات، وان يأكلوا ذات الطعام الذي يحبه طاغيتهم. فمثل هؤلاء المسوخ (الرجال الجوف) الذين خلقهم ريتشاررد كحاشية لا يعرفوا مالذي سيحل بهم بدون طغاة، حيث إن وجود هؤلاء البرابرة يعتبر نوعا من الحل لهم في حياتهم السياسية والاجتماعية. فإذا كان الشر هو استثناء في الحياة، فان ريتشارد قادر على تحويل هذا الاستثناء إلى قاعدة عامة، وعلى هذا الأساس فان خططه لم يكن هدفها الاستيلاء على السلطة (فهذا سهل المنال بالنسبة له) وإنما الأهم أن يعيد تشكيل الذات البشرية من جديد، وان يعيد بناء الدولة وآليتها من خلال تخريبها حتى يؤسس للعنف دولته وقانونه ومؤسساته وجنوده السريين الذين يمارسون حرياتهم في دولة الاستثناء الريتشاردية.

إن ريتشارد الثالث لا يمكن أن يمارس فعله الحياتي وتحقيق طموحه الأعظم (الدولة) بوجود أخيه كلارنس وأخيه الآخر الملك أدوارد، فالأول من المحتمل أن ينافسه على العرش، (إضافة إلى سذاجته وأمانته اللتان لا يمكن لريتشارد أن يطيقهما)، أما الملك أدوارد فانه يملك القانون وبيده كل شئ، وهذا كله يعيق فعالية ريتشارد. فعلى كلاوس أن يترك الدنيا له ليعبث بها على هواه كملك مستقبلي، لذا فانه منشغل بهما، مما يجعله مشوشا مضطربا قلقا حتى لحظة رحيلهما، عندها يحصي أرباحه، لان مصيره ومستقبله الملكي يخضعان لمنطق الربح والخسارة. وهنا ينبثق سؤالا جوهريا عن كيفية إقامة دولة للعنف ضمن اشتراطات العقل الريتشاردي؟ فبالرغم من أن جميع مآسي وتاريخيات شكسبير تتضمن إجابة على هذا السؤال، إلا أن الجميع يترقبون المفاجاءآت المرعبة حينما يتسلم ريتشارد السلطة باسم (اللورد حامي الدولة)، وأول قربان يقدمه لتأسيس دولته هوانه يأمر بسجن اللورد ريفرز واللورد جراي، فالأول أخ للملكة اليزابيث أرملة أخوه الأكبر الملك أدوارد) والثاني ابنها، لذلك فإنها تتنبأ ببداية الخراب الذي سيحل بالمملكة، وبهذا فإنها تؤكد فلسفة العنف والتدمير كقدر لا يمكن الخلاص منه، والذي سيهيمن كالمقصلة على رؤوس أصحاب هذه المصائر البشرية المضطربة والأشنات التي ينهش قلوبها الحقد وشهوة السلطة:

(الملكة اليزابيث: مرحبا أيها الدمار، أيتها الدماء، أيتها المذابح، إني لأرى نهاية كل شئ كما وكنت أراها برسم مخطوط)

وبهذا فان الملك ريتشار الثالث حامي الدولة والأمة ذات الروح الخاوية قد وضع الأساس لدولة العنف مغموسا بالدماء حيث (سيكون فيها الأخ عدو أخيه، والدم عدوالدم، والنفس عدوالنفس) ولن يكون هنالك مكان للابن في قلب أبيه، والأب سيساق إلى الموت أمام ابتهاج ابنه أوبنته أوأخيه بعد أن وشيا به. وريتشارد هنا صريح وصادق لتحقيق قانونه الأخلاقي في دولته هذه، فيأمر بتنفيذه بهدوء أعصاب:

(بكنجهام: وألان يا سيدي ماذا ترانا نفعل، إن عرفنا أن اللورد هيستجز لن يستجيب لخططنا.

جلوستر (ريتشارد الثالث): نضرب عنقه يا رجل، ذلك ما سنفعل. فلنتناول العشاء ثم ننظر بعد ذلك في إحكام خططنا.)

ولكنه عندما يكون رحيما لن يتوانى في مساعدة ضحيته على الهرب، وبهذا فانه يحقق معادلة تكاملية التناقض البطولي البارادوكسي في الذات التراجيدية.

دولة العنف الريتشاردية

يؤمن الملك ريتشارد الثالث بالعقاب ليس على الفعل بل على الظنون حتى وان كانت ملفقة، ولتحقيق ذلك يدس جواسيسه ليستدرجوا أصدقاؤه ومن يشك بهم، فيلاحقونهم حتى لحظة زلة اللسان التي تكون كحد الموس لقطع وريد الرقبة، وبهذا فان شكسبير يمنح بطلة قدرة التعبير النموذجي ليس فقط عن طغاة عصره بل هو يعبر أيضا عن أمثالهم في عصرنا، اللذين يمارسون ذات الأساليب من أجل التنزه على آلامنا. إن إنجلترا تحت حكم ريتشارد هي المكان النموذجي "للمجزرة" في دولة العنف، أوفي كل الأحوال إنها دولة تعوم في دماء مجزرة يشرف على تنفيذها بدقة متناهية لورد يأمر بالقتل المجاني، كشبكة تلتف حول أعناق اخوته وأقاربه وعائلته أيضا والشعب عموما، وقد مارس هذا أثناء وصايته، وعندما اصبح ملكا تحول القانون إلى أداة ميكانيكية لجعل رغباته تشريعا، لأنه هو القانون، فلم يعد يحتاج إلى أدلة وبراهين من اجل أن يدفع بضحاياه للمذبحة الجحيمية الرهيبة. والتزام ريتشارد الثالث الدقيق بتطبيق آلية عدالة قانون دولته، يضفي الشرعية القانونية على جرائمه للحد الذي يقيم لهم محاكمات، لكن بعد أن يهيئ شهود الزور والقضاة (جنود العدالة المزيفون) والقتلة المأجورون. والمتهمون عادة يمنعون من حضور محاكماتهم، فهم لا يعرفون قراراتها التي تقرر في الغرف السرية، إلا عندما تتلى على الملأ في الكنيسة في يوم أحد ضبابي بارد، وتكون أرواحهم في السماء قبل أن تكتب لائحة الاتهام، كما في مقتلة اللورد هيستنجز. وعندما يطالب أحد من مقربيه بتخفيف العقوبة، يأمر ريتشارد بقطع رأسه أيضا.

لهذه الأسباب جميعها تتكرر كلمة (آه إنجلترا التعسة) بلوعة كصدى يحفر في الروح، وموتيف على طول أحداث النص. وهي كذلك لوجود كابوس يتنزه في شرفات بيوت الناس، وسرعان ما ينفذ لهم من ثقوب الأبواب والنوافذ وفتحات الهواء، وما يرد عن تعاسة إنجلترا مرادف لجملة (الدنمارك سجن كبير) التي تتكرر في هاملت. ضمن هذا الجو الكابوسي يحاول ريتشارد أن يتم بناء مؤسسة العنف، لذلك فانه يقسم بالقديس بولص بأنه لن يتناول غداءه إلا بعد أن يرى راس ضحيته تتدلى. فيصاب الجميع بالتوهان، ولا يستطيعوا ممارسوا حياتهم، فقط يأسفون أوينتظرون الموت الذي لا يمكن أن يتحاشوه.

(واأسفاه على إنجلترا، لان الإنسان فيها يعيش كبحار مخمور على رأس سارية سفينة، تستطيع أية هزة أن ترمي به في أحشاء البحر). (كلب من كلاب الجحيم، يطاردنا جميعا حتى الموت. كلب نمت أنيابه قبل أن تتفتح عيناه، ليمزق الحملان، ويلعق دمائهما البريئة، ويشوه ما صنعه الله ويدنسه). وعندما يتيقن اللورد هيستنجز بقطع رأسه يصرخ:

(أيها السفاح ريتشارد، أي إنجلترا التعسة، إنني أتنبأ لكما بأشق مصير شهدته الأيام. فان من يضحكون لمصيري، عما قليل سيلقون حتفهم)

وبالرغم من كل هذا فان ريتشارد يحس بحاجته للبكاء، حينما يرى راس صديقه مدلاة، حيث كان يحبه أعظم الحب، وفي هذه اللحظة تصبح مشاعره خاصة، حميمة، ورقيقة أيضا.

(ولكن الظلم لا يورث إلا الظلم، والقتل سيتتبع القتل) كما يقول بكنجهام الذي سيأتي دوره في مجزرة تشيد دولة العنف. وهكذا فان دائرة العنف الدموية لابد أن تكتمل سواء كان ذلك بالذين قتلوا، أوالذين يتراءى لهم في أحلامهم بان الموس سيقطع وريد رقابهم قريبا. ففي دولة الاستثناء التاريخي هذه لابد للجميع من رؤية الدرب الذي سيؤدي بهم إلى المجزرة، فمقصلة القانون الأخلاقي لهذه المؤسسة لا تفرق بين الرؤوس إن كانت صديقة أم عدوة. فبكنجهام كان من أشد المخلصين والمؤمنين بالطاغية، بعونه استطاع أن يستلم السلطة، وببصيرته النافذة وإمكانياته الدبلوماسية، استطاع أن يقدم الكثير من الخدمات المهمة لسيده، فهو يوكل له أعقد المهمات فيقوم بتنفيذها بإخلاص لا مثيل له. لذا فان ريتشارد لا يمكن أن يستغني عنه مطلقا. ففي اليوم الأول الذي ينصب نفسه فيه ملكا، يلتفت إلى بكنجهام ويدعوه أن يفكر معه بوسيلة للتخلص من ابن أخيه الأمير الصغير وارث العرش بالسرعة القصوى، وعندما يرجوه بكنجهام أن يمنحه بعض الوقت للتفكير، تبدأ الظنون السوداء وهستيريا الروح العدمية تأثيرها في نفس ريتشارد، فيثير طلب صديقه وصنوه بالتريث، حفيظته، لدرجة أن يصبح هذا سببا للتخلص منه. فالحرص والتردد المنطقيان من قبل بكنجهام في اتخاذ خطوة تمس مصير الدولة ووريث عرشها، تشكل حتمية موت حافظ أسراره، كالذي يحفر قبره بفأسه. وملك مثله ينسى أنه توجه بالحديث إلى صديقه ذاته قبل ذلك بقوله:

(بفضلك أرقى هذا المجلس السامي، وبعونك يجلس الملك ريتشارد على العرش). لكن بعد تردده فان القانون الأخلاقي في دولة العنف، وعدمية ريتشارد المبنية على هستيريا الروح، يفرضان أن تتحول ظنون ريتشارد إلى قانون قاس:

(ريتشارد: لن يكون بكنجهام الأريب الماكر، مشيري بعد ألان، أو قد طال نضاله من أجلي إلى هذا الحد، حتى يطلب متنفسا .. ليكن ..)

ولكون بكنجهام سليل المؤامرات التي كان يؤديها كخدمات ومنفذ دسائس الملك، يعرف ماذا تعنيه كلمة "ليكن" في قاموس دولة القسوة والعنف، لذا فانه يهرب إلى خارج إنجلترا ليشكل جيشا في المستقبل. واخلاص ريتشارد لمشروعه الحياتي والمصيري، عزم على تحطيم كل أمل يساعد معارضيه في أن يلحقوا أي ضرر بمستقبل دولته، ومخاوفه هذه تحكم عليه بالزواج من ابنة أخيه (الملك المتوفى)، بعد أن يقتل أخويها، ليقطع الطريق أمام ريتشموند المعارض له في (بريتا ني) والذي سيزحف بجيشه نحو إنجلترا، ومن الممكن التفكير بالزواج ليسرق التاج في المستقبل. لذا فانه ريتشارد يتلذذ بتعذيبهم وقتلهم تحت إشرافه أحيانا في ساعات فراغه، حتى وان كانوا من الأطفال، لأنه يريد أن يقطع جذور الشجرة من جذورها البعيدة أوحتى آخر رحم لكي لا تثمر ما يقلقه. فالأنباء التي تطرب آذان الملك هي قطع رؤوس خصومه، سواء كانوا من الأعداء أم الأقارب. ونبأ مقتل الطفلين الملكيين (أبنا أخيه ورثة العرش) يتحول إلى موسيقى تطربه وتثير شهوته لكل شئ، ولن يكتفي بهذا بل يدعوا القاتل لضيافته بعد العشاء ليستمتع بالكيفية التي تم بها الاغتيال. بهذا المنطق يؤسس أقسى طاغية عرفه التاريخ قانون دولة القسوة والعنف.

القناع والمظهـر

إن إحدى أهم الأساليب في الكتابة الشكسبيرية التي يشخص من خلالها مفهومه الفلسفي عن البطل وعصره هي "المظهر والقناع" البشري، لذا فأنها ترد كثيرا في مسرحياته، فمن خلالهما يظهر الحساسية السيكولوجية لمختلف الأزمنة، بما فيها زماننا الذي يأخذ فيه الخداع مظهر الرحمة، والحقد والفساد يتقنعان بالفضيلة، ومن خلال إمكانية التلاعب وتبادل الأدوار هذه، تتكشف أخطر أساليب ووسائل التدمير والخراب والتآكل الذي يعم حياة الإنسان ووجوده وماهيته، وينعكس هذا على الأمم والشعوب وخاصة سلطاتها غير الشرعية. (فالمظهر قليلا ما يتفق مع طوية القلب، بل انه قد لا يتفق معها أبدا). ويأسف شكسبير أحيانا لان (الخداع يتخذ هذا المظهر الرحيم، ويستثير الحقد الدنس تحت قناع من الفضل). وبهذه المتناقضات يختزل شكسبير الأزمنة من خلال مجمل شخصياته مثل ياجو، والملك كلوديس، ولير، وماكبث، ويوليوس قيصر، وكليوباترا وغيرها. وبصدد المسرحية التي ندرسها ألان، فان شكسبير خلق بطله بسماته المتفردة في كل شئ حتى في حبه أوفي الغموض الذي يكتنف حياته، وحتى اللغة والمفردات التي يستخدمها. فالكلمة لديه تحمل تأويلها الخاص، والحركة تمنح العنف قسوة وجودية، وكذلك الظاهر والمستتر في علاقته بالآخر، فهويمتلك قدرته الحوارية الملتوية، ممزوجة بالطاقة الشيطانية على اقتناص الكلمة ذات الأبعاد التأويلية التي تحتاج إلى أسلوب تفكير للوصول إلى دلالاتها، مما يدفعنا إلى تأمل كل هذا بحساسية خاصة.

فعندما يواجه ريتشارد بعنف من قبل الآخر وخاصة من أقرباءه، يتركه على سجيته، يثرثر، ليكشف دواخله وخلجاته، وبهذا فانه يتورط في السقوط بشبكة الاقتناص، وبالتأكيد لابد أن يرتكب جريمة عصيان قانون الدولة، وسيكتب قرار إدانته بنفسه. فيتحول ريتشارد الى حمل وديع إزاء عنف الآخر، فكلماته الرقيقة تنبئ عن مشاعر رقيقة ظاهريا، لكن المستتر منها نابع من بطل يعرف ماذا يريد؟ ومتى؟ وكيف يصل إلى أهدافه بدون مواربة؟ وبالرغم من جميع تناقضاته، فان ريتشارد الثالث يكون عادلا حينما يتعامل مع ذاته بصدق. فعندما تغضب الملكة مارجريت (بعد أن قتل زوجها وابنها) وتلعن حضور مجلس الدولة، يتحفز بعضهم ضدها، غير أن ريتشارد يعطف عليها ويدافع عنها (لقد قاست من الظلم أكثر مما ينبغي، وأني لأشعر بالندم لما شاركت في هذا الظلم) أويعلق أيضا، (فلو استنزَلتُ اللعنة، لكنت قد استنزلتها على نفسي) أو (إني اقترف الآثم وابدأ بالشكوى، واتهم الآخرين بابشع ما دبرت من شرور). وكل هذا يدلل على التنوع والغنى في البناء الفكري والسيكولوجي لشخصية ريتشارد الثالث، ويعطي إمكانية تأويل رموز المظهر والقناع في وعي القارئ أوالمتفرج.

ما ذاك الرجل المضرج بالدم؟

تضاهي مسرحية مكبث مسرحية ريتشارد الثالث من حيث حجم الجرائم والمؤامرات والشر المجاني الهادف لتأسيس دولة العنف. والاختلاف بين البطلين هو إن مكبث يقوم بالتخطيط للقتل بشيء من التردد والخوف من نفسه أولا، ومن المستقبل ثانيا، لكن ريتشارد الثالث يفعل الشيئ نفسه بهدوء وصمت وتبرير مقنع بحسب مفهومه الأخلاقي الذاتي وفلسفته الخاصة. فسقطة مكبث وريتشارد التراجيدية هي واحدة، أي لف الذات بخيط الدم والانغماس به إراديا (لأن صاحب السيف لا تليق به رقة القلب) كما يقول أدموند "في الملك لير". ومن جانب آخر فان ريتشارد يؤكد أيضا: (لكني قد انغمست ألان في الدماء ولا بد أن تدفع الخطيئة إلى الخطيئة، ولا مكان لدموع الرحمة في عيني). وهذا يعكس ذات اليقين ألماكبثي عندما لا يستطيع أن يفلت من كابوس الدم، ولا يستطيع أن ينغمر في سقطته التراجيدية هذه أويتراجع عنها فيضطر للاعتراف: (لقد خطوت في الدم بعيدا، فحتى لولم أخض المزيد، لكان النكوص مرهقا كما المضي) ويشترك مكبث وريتشارد الثالث أيضا في نهايتهما عندما يكونان معزولين، بدون أعوان ومحاصرين من ضحاياهما في الكوابيس ليلا، وبالرماح نهاراً، ويعبر بلنت عن هذه الحالة بقوله بان ريتشارد: (لا أصدقاء له إلا أصدقاء الخوف وسيهجرونه في أحرج ساعاته). وفي الغروب الأخير من ألاماسي التي أنارت الطريق للحمقى المساكين، فان مكبث يفهم الحياة على أنها: (حكاية يحكيها معتوه ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شئ)

إن هذا التشابه في التفكير والسلوك والنهاية المفجعة يؤكد قدرة العقل الشيطاني سواء كان ذلك في الماضي أم في زماننا المعاصر، الذي يعمل في الخفاء والعلن وبآلية واحدة لتأسيس دولة العنف التي لا يظهر فيها رجل واحد مضرج بالدم من غرفة الجريمة، بل شعب المملكة بأكمله. ليعوم في بحيرة الدم. وفي ختام تراجيديا السقوط الريتشاردي يهذي البطل بمنولوجه لمواجهة ذاته وكشفها على حقيقتها:

(ريتشارد: وكل لسان يحكي قصة، وكل قصة تنطق بأنني شرير. الخيانة … الخيانة في أبشع صورها، والقتل القتل الأثيم في أقسى ألوانه. جرائم مختلفة في صور متعددة، تزدحم كلها في ساحة القضاء، وتصيح مذنب … مذنب ! ليس لي إلا اليأس، فما من أحد يحبني. وإذا مت فلن يأسى أحد لموتي، أجل ولم يأسون؟ وأنا نفسي لا آسي لنفسي !)

إن مثل هذا الشعور المكثف، الذي يختزل حياة بكاملها، وكذلك فشل مشروعه الحياتي والمصير ي في إقامة دولته، أدى به إلى الوحدة والعزلة، فيتضخم لديه الإحساس التام بعبثية الحياة، ويصبح كل شئ لا قيمة له. وعندما يحاصره الموت، يتكثف الوجود كله بحصان يتمنى ان ينقذه من رماح معارضيه، لذا فان الملك ريتشارد الثالث على أتم الاستعداد الان أن يقايض مملكته مقابل هذا الحصان المرتجى، فالطغاة دائما يغفلون اللحظة الأخيرة عندما يصيبهم الوهن والملل واليأس. ويكرر ريتشارد صراخه "حصان …حصان مملكتي مقابل حصان"، ومن غير المعقول أن يقبل أحد ما من أصدقاء الخوف بمقايضة حصانه بمملكة ريتشارد، لانهم منشغلون بإنقاذ رؤوسهم أولا، لكن هذه هي ذروة العبث والغروتسك الشكسبيري والسخرية السوداء.

وبالرغم من تطورالانسان علميا ورحابة آفاقه العقلية وروحه وتسامحه، مازال ريتشارد الثالث صدى لخرافة الماموث Mammoth القبيح المنقرض. أنه صوت العنف الهادر والقسوة الوحشية وهستيريا الروح الذي يهددنا ألان جميعا ليقذفنا في هوة الجحيم المعاصر.

 

ــــــــــــــــــــــ

انظر فريتوف برانت في كتابه:

 (.(Soren Kierkegaard - His life – His works