حينما فاجأنا محمود درويش بحكمته الشعرية الاستثنائية (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) لم يكن يعني شيئاً عابرا في حياتنا، ولم يظن أن تجوالنا اليومي المكرور في شوارع الوطن هو عمل روتيني يبعث الملل في الصدور، بل كانت حكته الشعرية عبارة عن صيحة استنفارية من أجل تحفيز العيون التي هي بوابة المعرفة لالتقاط التفاصيل المدهشة واختزال المشاهد اليومية في الذاكرة في سبيل انصهارها لخلق تصور ذهني مختلف ومتميز.
وإذا كانت مصر التي تحظى بثمة معالم مكانية يمكنها أن تحقق بامتياز عبقرية الوطن وتؤكد تفرده، فإن مصر أيضاً هي رحم لا ينضب، ولم يخطئ الشاعر أحمد فؤاد نجم عندما أخبرنا في إحدى قصائده بأن مصر ولاَّدة بطبيعتها، وإذا كانت مصر العظيمة تزدحم ازدحاماً استثنائياً بمشاهد طبيعية وبشرية لا يمكن حصرها، فإن عيناً متميزة استطاعت أن تلتقط هذا الاستثناء وتقتنص تلك الملامح المدهشة المرسومة على وجه الوطن.
عن أحمد راضي أتحدث، الفنان الجنوبي الرائع الذي كان يعمل معداً بقناة التنوير الثقافية، وربما عمله بقناة التنوير لم يكن مصادفة بل لقاء طبيعي بين عين كلاقطة الأضواء وقناة تحمل اسماً تثويريا هدفها الاستنارة، فكانت نتيجة اللقاء كفيلة بأن تعطي الفنان أحمد راضي فرصة سانحة لتعزيز الرؤية العميقة لديه وتكريس ثقافة الصورة التي باستطاعتها أن تعمل كمعادل موضوعي للكتاب المطبوع الذي يتضمن ثقافة ومعرفة. وأجمل اعترافات الفنان المصري الجنوبي أنه قال إن عمله بقناة التنوير المصرية كرَّست فيه عشق الوطن وهو ما استغله أروع استغلال في اكتشاف سحر مشاهد مصر بعدسته. لأنه في معرضه لم يقدم فقط مجموعة من الصور، بل قدم وجبة شهية من ثقافة الصورة التي تحكي بهمس قصة مكان أو تاريخ وجه.
وفي القاهرة مؤخراً أقيم معرض الفنان المصري أحمد راضي للتصوير الفوتوغرافي بقاعة الأرض ضمن الفعاليات الثقافية بساقية الصوي بالزمالك تحت عنوان (ألبوم وطن) الذي لم يكن مجرد بضعة صور تعرض مشاهد صامتة للوطن، لكن المتأمل في عدسة أحمد راضي يدرك على الفور شيئين متمايزين في الماهية متماثلان في الكنه والفلسفة. فعدسة أحمد راضي طافت مجمل الأراضي المصرية النوبة والأقصر والواحات مثل واحة سيوة والفرافرة والداخلة والخارجة، والمنيا عروس الصعيد وبحيرة البرلس وأسوان والقاهرة، وانفردت الصور بالابتعاد التلقائي عن الأكاديمية وتطبيق التنظير الجامعي الذي يفقد الصورة ملامحها الرئيسة. وحينما جلس الفنان أحمد راضي يعد صوره التي التقطها بدا للرائي الشئ المتمايز فيها وهو الطبيعة المتمثلة في المناظر الطبيعية والبيوت الحجرية، وصور لوجوه مصرية. أما الشئ المتماثل حينما تطالع هذه الصور سواء في معرضه أو من خلال تتبعها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعيFacebook أن كلتيهما صور الطبيعة وصور البشر تفوح منها وجه الوطن من ناحية، وأنها تصر على الابتسامة رغم أوجاع الوطن ومشكلاته.
ولأن مصر تؤكد ليل نهار أنها تختزل الممكنات والمستحيلات فإن كاميرا أحمد راضي أصرت على إبراز جمال وسحر البيوت المصرية القديمة قبل أن تلتهمها الأبراج الخراسانية الشاهقة وكأنه في مهمة وطنية لإنقاذ المعمار من جهة، وإبراز الهوية المصرية التي تتجسد على وجه البيوت، فحينما تبصر الصور الخاصة بالفنان أحمد راضي والموجودة بمعرضه تدرك على الفور بأنه يبتغي توصيل رسالة خاصة وهي أن للبيوت المصرية القديمة لون وطعم ورائحة تفوح من البنايات التي كانت ولا تظل شاهدة على فترات زمنية مرت بالوطن. وكأن لسان حال الفنان أحمد راضي وهو يقتنص لحظات رائعة لبيوت الوطن يقول لنا أنه يحافظ على روح الحضارة المصرية من أجل أن يتوارثها الأجيال القادمة لاسيما وأننا نحيا اليوم في عصر يمكن توصيفه بعصر الصورة. فمثلا تجد صوراً لمنزل هدى شعراوي رائدة النهضة النسائية في مصر، وهي صور تأخذك لعصرها وبيئتها التي نشأت فيها، واستطاع راضي بمهارة عدسته أن يلتقط زوايا جديدة من الناحية الفنية تجعلك تعيش ذكريات وأحداث هذا المنزل.
والغريب أن أحمد راضي لم يقدم لنا مجرد صور صامتة للبيوت المصرية أو مشاهد الطبيعة التي تبدو بعض الشئ ساكنة، لكنه بالفعل أضاف للصور سمة الحرية التي تتصدر معرضه الفوتوغرافي، وأصدق وصف لصور البيوت المصرية القديمة أو مشاهد الطبيعة الساحرة في أسوان والواحات أنها تجليات الحرية. وراضي استطاع أن يهرب من شَرَكِ النمطية أو المحايدة التي صارت الملمح السائد في الفن عموما وفي فن التصوير الفوتوغرافي على وجه الاختصاص، فصور معرض أحمد راضي التي عرضت وجوهاً مصرية لم تكن غير محايدة أي تلك الصور التي يمكن أن تكتب تحتها وجهاً عربياً أو وجهاً حزينا، لكن أنت مضطر الآن لأن تكتب وتقول عن هذه الوجوه بأنها مصرية مئة بالمئة، وأن هذه الوجوه رغم ملامح قسوة الأيام التي تمارس حياتها على تلك الوجوه إلا أنها وجوه غير مكترثة بغضب الحوادث واليوميات الراهنة قدر اكتراثها واهتمامها بحق الحياة على هذه الأرض. وهذه مهارة تحسب لعدسة أحمد راضي الذي لم يقتصر على التقاط الحدث فحسب، بل التركيز على روحه أيضاً.
ولعل استغراق الفنان المصري أحمد راضي ثلاث سنوات لإعداد معرضه كان بمثابة اللحظة المهيأة لالتقاط الوطن بتفاصيله وإحداثياته التي تميزه عن غيره من الأوطان، وكم من تشابه بين صور المعرض والحلم الذي تسعى إليه الدولة منذ سنوات بعيدة وهو ترويج السياحة الداخلية التي هي بحق جديرة بالاهتمام والتركيز. والسنوات الثلاث أفردت لأحمد راضي مساحة هادئة للتركيز في أماكن التصوير من ناحية، ومن ناحية أخرى سنحت له الفرصة لتأكيد التشابه الطبيعي والفطري بين مشاهد الطبيعة رغم اختلاف وجودها وتكوينها إلا أنها متفقة في الروح والهوية المصرية الخالصة، حتى مشاهد غروب الشمس في إحدى الصور لا يمكنك إلا أن تعترف وأنت بإزائها أنها شمس تغرب على أرض مصرية، فالنيل والبحيرات تجبرك على الاعتراف بمصرية المكان ووطنية العدسة.
وجميل أن يظهر على أرض مصر فنان شاب ينتمي لجيل اهتم بفعل الثقافة وبتكوينه المعرفي والابتعاد عن ملوثات الفعل الإنساني العام من معرفة مضطربة وموسيقى مستهجنة غاضبة وأسلوب حياة بغير ملامح، فكانت النتيجة صوراً تلقائية هادئة في العرض إلا أنها تحدث ضجيجاً واستنفاراً بالذهن من أجل تأويلها، وربما اهتمام راضي بالوطن هو الذي حفز زواره إلى اكتشاف أنفسهم من خلال بيوت مصر القديمة، وشوارع القاهرة العتيقة، وأدوات الحياة المنزلية البسيطة كالأواني، مما ساعد حقاً في تعميق حنين الزوار إلى هذه المشاهد، ولو استثمر الفنان أحمد راضي هذا الفعل تجاه صور معرضه لقام بإجراء قياس اتجاه زوار المعرض أو مشاهدي صوره على صفحته بشبكة التواصل الاجتماعي والتي أعدها الفنان مصطفى راضي صوب الوطن لحقق نتائج أكثر إيجابية ولأعطى صوره صفة الحياة.
لكن بجانب مشاهد الطبيعة الساحرة والبيوت المصرية وأدوات الحياة المنزلية التي ضمنها المعرض، فإن الصور التي التقطتها عدسة أحمد راضي للوجوه المصرية تحكي خبرات وحيوات مختلفة ومثيرة لأصحابها، وهي بالفعل عززت عنوان المعرض (ألبوم وطن) فمن الصعب أن تتنصل من ارتباطك الفطري بهذه الوجوه، بل بات من المستحيل ألا تجد بعضك فيها، وحرص راضي على اقتناص لحظات الحياة الاستثنائية فوق هذه الوجوه هو إدراك واعٍ ومتميز منه لتوصيل رسالة المعرض وهي التأكيد على الهوية والماهية لهذا الوطن.
معرض (ألبوم وطن) يستحق بالفعل المشاهدة والتفسير لصوره لأنه يحكي باختصار قصة وطن بمشاهده الفائدة زمنياً والمعاصرة من خلال طبيعة خلابة ووجوه تفيض بالمصرية الشديدة، ومن حق الفنان أحمد راضي أن تستفيق الأقلام للتأكيد على تميز عمله وانفراده بالاهتمام برسالة وطنية في وقت أصبحت فكرة الوطنية غائبة عن كثيرين.