هل يمكن للأناقة أن تكون حاضرة في ظل واقع مشوّه، وفيه هذا الكم الهائل من الدم والدمار والموت؟ سؤال لا بد من أن تستفتح فيه قراءتك لكل واقع مصنوع في بلد يعاني من كل أنواع التشويه، جراء احتلال بغيض جاثم في أنفاس الطبيعة قبل أنفاس البشر، ويسعى لتدمير كلّ مكونات الحياة، لا يفتأ يصطنع المعارك وسيفتعلها من أجل ألا تكون هناك أناقة ما أو يستدعي أي أناقة مهما كانت، كان هذا قديما، وحدث مؤخرا، وما دام أن هذه العقلية من التجبر البشري المقيت موجودة فالأمر مرشح ليكون مرة أخرى ومع كل ما دقّ الكوز في الجرة!
وفي هذا المقال أحاول أن أقرأ في المجموعة القصصية الموسومة بـ "لا شيء يستدعي الأناقة" للكاتبة الفلسطينية منى نعمة الله النابلسي ملامح من مأساة متجددة مفتوحة بلا أفق يؤدّي إلى حلّ. وجمعت الكاتبة في هذه المجموعة صورا شتى من العذاب الفلسطيني في أرض فلسطين من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها، بدءا من النكبة وحتى الانتفاضة الثانية، حيث كان القتل أوضح والدم أكثر عبقا، واللون أشد أرجوانية، والمحتل أندر شهوة في التدمير والإفناء. وصدرت المجموعة عام 2005 في رام الله عن مركز بيت المقدس للأدب.
رسمت الكاتبة في هذه القصص خمس عشرة لوحة من لوحات المعاناة الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى التي اندلعت بتاريخ 28-9-2000 على إثر زيارة "أرئيل شارون" للحرم القدسي متحديا الجميع في خطوة استفزازية، أدت إلى اندلاع مواجهات عنيفة، واجه فيها الفلسطينيون هذا الجنون الصهيوني، وكان الرد أعنف مما يمكن تصوره، فقد اعتقلوا، وأبعدوا، وقتلوا، وهدموا، وحاصروا، فكانت هذه القصص أقرب لشهادات توثيقية على كل تلك المعاناة التي عاشها الناس في فلسطين.
ربما اكتسبت هذه المجموعة القصصية أهميتها من كونها راصدة بمشاهد لغوية تكاد تتحرك كل تلك المعاناة، مع توفر البعد النفسي القاتم المصاحب للناس في مثل هذه الظروف، ربما يشعر القارئ بالألم والنار تكويه لكل تلك الصور من الإذلال والإفناء اليومية التي تعرضنا لها جميعا في كل أنحاء فلسطين، فلم تسلم من ذلك مدينة أو قرية أو مخيم أو حيّ هنا أو حارة هناك، لقد أصاب الجغرافيا الفلسطينية ما أصاب الإنسان الفلسطيني من مرارة البؤس والتشظي والقهر!
تغيب في كل تلك القصص الملامح البشرية الخارجية للشخصيات المتحدث عنها، فالفكرة والأحداث يطغيان على الملامح البشرية والإنسانية، وتصبح الشخصيات في الغالب دون أسماء، حتى الشخوص الذين أنعمت عليهم الكاتبة بأسماء، لم يكن ليكون لها معنى حقيقي في بنية السرد، وذلك لأن الحدث والفكرة يسرقان الكاتبة ويجرانها نحو متابعة المشهد من الخارج في كليته الجارحة مع الالتفات أحيانا لبعض التفاصيل الصغيرة الإنسانية، لتؤكد من خلالها انعدام كل أوجه الحياة الطبيعية في ظل انتفاضة الأقصى، حتى من فكّر بالاغتسال والالتفات لنفسه فإنه لا يستطيع ذلك؛ فالمشهد العام، لا يناسب اغتسالا للتخلص من تلك الرائحة، لذلك سيظل "مشروعا للاغتسال"، وكأنه مشروع للحياة الطبيعية!
حضر السارد المرأة في هذه القصص، وشارك السارد في بطولة معظم القصص، ولم تكن المرأة هنا مجرد كاتبة وناقلة مشاهد مؤلمة، لقد حمّلت الحدث واللغة مشاعرها الأنثوية في حالات كثيرة في الولادة والموت والاعتقال والحب في ظل هذه الظروف، وشاركت في رسم المشهد، فكانت أختا لشهيد أو معتقل أو بنتا لهما، أو حبيبة لمعتقل أو مبعد، لقد عاشت في قلب الحدث واستعدت لتروي وتعيش كل التفاصيل بإنسانيتها ووجهة نظرها!
وظفت الكاتبة في هذه المجموعة كل الضمائر المتاحة في السرد، من ضمير الغائب إلى المتكلم إلى المخاطب، وقد غلب على القصص السرد بضمير المتكلم، فقد جاء (10) قصص منها بضمير المتكلم، وقد حضر المخاطب كثيرا خلال تلك القصص حيث مناجاة السارد المشارك في الأحداث لبعض الشخصيات الغائبة.
وما يلاحظ على هذه القصص كميزة بنيوية عامة أنها لا تحتفي بالحوار الخارجي كثيرا، فقد غلب على القصص السرد، وتراجع الحوار كثيرا؛ وهذا منطقيّ ومبرر فنيا، ففي تلك المشاهد المرسومة في ظل آلة عسكرية لا ترحم، لا يجد الشخوص أو الناس مجالا للحديث، فيتراجع الحوار الخارجي ليحل محله الحوار الداخلي والمناجاة الروحية لمن غابوا في السجن أو تحت التراب أو في المنافي!
أما اللغة التي صيغت بها تلك القصص فهي لغة محمّلة بالشجون الأنثوية ويغلب عليها الحزن والألم، ويتضخم فيها المعجم المنتمي للحرب والموت والقتل، فتتراجع اللغة الشاعرية إلا أحيانا في لحظات المناجاة، ومناجاة الحبيب الذي هو غائب دائما شهيدا ومعتقلا ومنفيا، وهنا تصبح اللغة ذات ظلال فيها من الرومانسية والحب والجمال بعيدا عن اللغة الأخرى الناقلة دون مواربة أحداثا أجلّ من الحديث نفسه بالضرورة، ومهما حاول الكاتب من براعة التصوير فإن نقل الحدث ببساطة بالغة كما هو أبلغ من كل تصوير بلاغي قد يساعد على تلاشي الحقيقة بحلكة لونها المرّ.
وأخيرا، يحق لنا السؤال المشروع في عالم الإبداع، ما الهدف من تلك المجموعة القصصية؟ لعلّ الغاية التوثيقية ليست هدفا من أهداف الأدب، والأدب الراصد للألم في مثل هذه الظروف ليس شاعريا ورومانسيا، بمعنى أنه لا يبعث على النشوة والمتعة! لا بد من أن يكون "للأدب في ظل الحرب" مهمة أخرى وهي مهمة جليلة، إنها من وجهة نظري تتعلق بالغاية من الوجود الإنساني والحث على الصمود، فلا بد للكاتب من أن يشتغل على هذه الغاية وليس مجرد سرد الأحداث، بل إن سرد الأحداث يوظف من أجل هذه الغاية، وهذه هي غاية الأدب المقاوم في كل زمان ومكان وعند كل أمة مبتلاة بالظالمين، فهل كانت هذه القصص عاملا من عوامل بعث الحياة والأمل في نفس القارئ؟
يبدو لي أن هذه القصص في نهاياتها المغلقة الحادة أو المفتوحة على الموت، كان يلزمها التفكير بأمل يُصنع في تلك النصوص، حتى تساعد الناس على البقاء والعيش، وليس فقط الاكتفاء بما هو واقعيّ.
عليكِ مهمة أخرى هي أن تجعلي الناس يرون الوردة نابتة من بين أنقاض البيوت المهدمة، وأن تقاوم الطفلة التي ولدت على الحاجز في شتاء قارس كل ظروفها العصيبة لتعيش، ناقلة الإحساس بالأمل في نفس القارئ الذي أرهق بالمشاهد المؤلمة، فكان يكفيه إذن الاستماع لنشرات الأخبار، فإنها أبلغ وأوضح في النقل والتصوير، وعلى الرغم من ذلك إلا أن هذه القصص لم تقع في فخّ المباشرة والسطحية