لا يني المترجم والأكاديمي المغربي البارز الدكتور بنعيسى بوحمالة أستاذ الشعر المعاصر في المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمدينة نفسها، وأستاذ الأدب العالمي في جامعة الأخوين في إيفران، (لا يني) عن الاحتفاء بالقصيدة ترجمة ومقتربا وتقديما، فبعد كتابيه الرصينين (النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر)، وكتابه (أيتام سومر: في شعرية حسب الشيخ جعفر)، يأتي كتابه الأخير (مضايق شعرية) الصادر عن "بيت الشعر في المغرب" في أبريل2013، والذي طُرح في السوق الثقافية تزامنا مع الدورة التاسعة عشر لمعرض الدار البيضاء الدولي للكتاب، ليكرس إخلاصه للشعر الذي هو، يقينا، مُقتَنعَه الروحي والوجودي والرؤيوي الأكبر، ومُقترحا على قرائه سفراً بالقصيدة عبر فضاءات وحساسيات ومجازات ولغات مختلفة ضمن مراهنة فريدة " تضع موضع بناء وتخييل كل ما بحوزته إسعاف الإنسان على نيل تجوهره الحق وذلك في كنف ما يلبد الوجود من منغصات البشاعة والتردي والغبن والنقص" ص3، بما يفيد جعل القصيدة عَقَارا يقارع القبح الذي يسكن عالما متوحشا ودواخل مهزوزة.
إن هذا الرهان الفريد استدعى أن تكون رقعة الأسماء والحساسيات الشعرية في الكتاب متسعة بما يكفي لتشمل تجارب إبداعية عالمية يغيب كثير منها عن القارئ العربي، ومنه نفهم حرص الدكتور بنعيسى بوحمالة على التنويع في متن الكتاب بين ترجمة قصائد عالمية، كترجمته لمقاطع شعرية بعنوان(عِصيّ ) من قصيدة طويلة بعنوان (اليد والسّكين) للشاعر الفرنسي سيرج بّي، ومنتخبات شعرية متفرقة للشاعر الألماني الروماني بول سيلان التي تضمنها مصنف (بول سيلان: قصائد) الصادر عن منشورات جوزي كورتي سنة 2007، بالإضافة إلى بعض قصائد الشاعر الألماني بيتر بول هازل والشاعرة الإيطالية دوناتيلاَّ بيزوتي والشاعر البلجيكي جيرمان دروغنبرودت والشاعرة الكرواتية لانا ديركاك، ومقاطع من قصيدة مطولة بعنوان سردينيا للشاعر مارك بّورسو...، وبين تقديم بورتريهات تتقدم غالبية المقالات والقصائد المترجمة، فضلاً عن مقتربات متنوعة تسائل الأسئلة الكيانية والوجودية الكبرى التي تحفل بها كثير من النصوص الشعرية العالمية، ومن هذه المقتربات قراءته لبعض قصائد سيرج بّي في مقالته (تمثل عالم ...شعرنة قلق سياسي) أو قراءته لبيتين شعريين للشاعر الروسي سيرغي يسنين كتبهما بدمه قبيل انتحاره في غرفة فندق بمدينة لينينغراد سنة 1925 في مقالة موسومة (بخربشة/ مجاز الرمق المأساوي).
وتتميز المقتربات والبورتريهات التي ينجزها الدكتور بنعيسى بوحمالة باستغراقها في سرد أحداث تاريخية مفصلة عن القصيدة أو الشاعر الذي صاغها بما يتيح للقارئ التزود بأكبر قدر ممكن من الحيثيات الدقيقة التي تُيسّر عليه مشاق القراءة، ولا يخلو هذا الإجراء المنهجي من الصدور عن مقارنات ومماثلات ترصد العلاقات بين التجارب الإبداعية، وفي هذا السياق فإن الحديث عن الشاعر الفرنسي أليكسيس سان ليجي المعروف بسان جون بيرس، اقتضى من بوحمالة الإشارة إلى سلالته الكريّول أو البيكي، أي السكان البيض الذين استوطنوا جزر الأنتيل الفرنسية وتعايشوا على نحو خلّاق مع السود الأنتيليين، ومن مظاهر هذا التعايش إيلاء الكاتب والطبيب النفساني الزنجي فرانز فانون اهتماما كبيرا بتراث أستاذه الأبيض (سان جون بيرس) أو أن تكون العلاقة بين هذه المبدعين، أي فانون وسان جون بيرس، مدعاة للإشارة إلى تألق الأدب الأنتيلي ممثلا في فرسان الزنجية الكبار (المارتينيكي إيمي سيزير، الغوياني غونتار داماس، والسنيغالي ليوبولد سيدار سنغور)، وهي المقارنة نفسها التي تحضر أيضا في مقالتين عن الزنجية: الأولى بعنوان (الزنجية: ممهداتها النظرية والثقافية) والثانية بعنوان (إيمي سيزير أو تسخير الكتابة لتصفية الحساب رمزيا مع الغرب). ومن المقارنات التوضيحية اللافتة في الكتاب الجمعُ بين وقار السياسة والجنون الشعري، ومثاله الأوضح قبول الشاعر والموظف السامي في قصر الإيليزي " دومينيك دوفيلبان " أن يكون وزيرا للخارجية في حكومة بيير رافاران اليمينية بفرنسا على غرار ما فعله مواطنه أندري مالرو في حكومة شارل ديغول حين حمل حقيبة الثقافة، أو كما حدث مع الشاعر النيكاراغوي أرنستو كاردينال الذي شارك في حكومة بلاده بعد الثورة الساندينية بزعامة دانييل أورتيغا، ومن دون أن تؤثر الانشغالات السياسية على الأداء الشعري الأخاذ لهؤلاء الشعراء الثلاثة، وعلى خلاف الشاعر الروسي يوفتيشنكو الذي رفض تولي وزارة الثقافة في عهد بوريس يلتسين مفضلا عزلته الشعرية الخاصة. وإن هذه المقارنات وغيرها، فضلا عن غايتها المعرفية، لَتُضفي ميسمها الممتع الذي يصاحب السرد المكتوب بلغة شفيفة وبنفس إبداعي لا غبار عليه.
القصيدة ...أمام فوهة الكارثة
لعلّ قدر الشعر أن يجلب دائما أصدقاء خُلّص تحقيقا لنبوءة الشاعر الألماني فريديريتش هولدرلين الذي صرّح مرة أنه لحسن الحظ هناك الصداقة وهناك الشعر في إشارة إلى الكيمياء السحرية التي تربطهما، أي الصداقة والشعر، بوثاق خاص. ويبدو أن بوحمالة مخلص أيضا في كتاباته لهذه القضية، إذ يُفرد في غالبية مقالاته النقدية وترجماته ودراساته الأكاديمية حيّزا مهما للعلاقات والأحداث الإنسانية في حياة الشعراء، ولم يَندَّ كتابه (مضايق شعرية) عن هذا التقليد النبيل، فيكون سيّان، بالتالي، أن يومئ إلى الصداقة الطويلة بين الشاعر الفرنسي إيف بونفوا ومواطنه الناقد جان ستاروبانسكي التي امتدت إلى ما يزيد عن أربعين سنة وأثمرت إبداعا ومعرفة عميقين جعلت الكِتاب يستأنس بترجمة حوار أجراه الصحفي روبير كوبّ مع ستاروبانسكي لإضاءة تجربة بونفوا في ديوانه "البلد الخفي. ومن الأحداث الإنسانية الفارقة، أيضا، التي طبعت حياة الشعراء يذكر الكتاب ما أصاب الشاعر الباطني الكبير"جووي بوسكي" الذي عاد من الحرب العالمية الأولى مصابا بجرح عميق جعله مقعدا لمدة ثلاثين سنة ونصف، لكنه أتاح له أن يستنهض الأسئلة الشعرية- الوجودية الكبرى عن الموت، عن الحب، عن جسده المجروح في علاقته بحبيبته جنيت أوجيي ص27، وإن حال بوسكي لهي جزء مما يتربص بالشعراء كأن تصيب رصاصة طائشة الشاعر الروسي فليمير خليبنكوف في السهوب الثلجية الروسية أو يقضي الشاعر الألماني بيتر بول زاهل خمسة عشر عاما كاملة في سجون ألمانيا الغربية، أو ينزلق الشعراء أنفسهم إلى وضع حد لحياتهم كما فعل الشاعر الروسي سيرغي يسنين أو الشاعر الروماني/الألماني اليهودي بول سيلان سنة 1970 بعد مرور ثلاث سنوات على لقائه مع الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر الذي كانت له مواقف متشككة من المحرقة اليهودية.
إن كتاب (مضايق شعرية) الذي يقع في 301 صفحة، كتاب على درجة كبيرة من المتعة والإفادة ويأخذ قارئه، بمحبة، نحو القصيدة المشبعة بالرؤى الوجودية والجمالية الآسرة، ويفتح شرفتنا على الإبداع الشعري في الضفاف الأخرى التي لا تخلو أدبياتها من الاحتفاء بالأدب العربي كما فعل دومنيك دوفيلبان في كتابه" الثناء على سارقي النار" الذي قارب فيه قصائد لناظم حكمت، محمد بنيس، محمود درويش، عمر أبو ريشة، وأدونيس، أو حين يخص هذا الأخير ديوان "اليد والسكين" للشاعر سيرج بّي الصادر سنة 1997 بمقدمة موسومة بخيمياء اللغة، تجسيدا للتفاعل البديع بين الضفاف الشعرية، والذي يكرس كونية الشعر وعالميته الأكيدة.