ترجمة: حسين الموزاني
اضطرت جدّتي، والدة أبي، إلى ملازمة الفراش للمرّة الأولى عندما بلغتُ أنا سنّ السابعة أو الثامنة، ولابد أنّ الجدّة المعتلة الصحّة قد تخيّلت آنذاك بأنها ستصبح في ذمة الخلود، إذ إنها لم تضطجع قطّ في الفراش من قبل. فضلاً عن أنّ المرء يستسلم عادةً للمرضى إذا ما ركبهم العناد، لذلك وضعت الجّدة في مقعد العناية بعد أن حشرت الوسائد خلف ظهرها، وربط في المساند الأمامية شرشف عريض من الكتان لئلا تكبو على وجهها.
وكنّا، نحن الأشقاء، غالباً ما نمضي النهار في غرفة الجدّة حين تكون هدايا عيد الميلاد صالحة إلى حدّ ما للعب. وفي البدء أراد والدانا منعنا من الدخول إلى غرفة الجدّة المحتضرة، بيد أنّ الناس الذين ينتظرون موتهم لا يحبون البقاء وحيدين. فكانت جدتنا تطلب حضورنا على الدوام، وعلى الرغم من أنها تجاوزت سنّ الثمانين، لكنها أصبحت مثلنا تماماً، تثرثر وتضحك مثلنا عندما نشعر بفرح ما وتصاب بالحزن كلّما تخاصمنا مع بعضنا البعض، وقد حمدنا ربنا لأنه أتيح لنا المجال لزيارة الجدّة كلّ يوم.
كانت الزيارات تتم على النحو التالي: بعد العودة من المدرسة كنّا نتسابق للوصول إلى البيت، حيث نلتهم طعامنا على وجه السرعة، ثمّ نرتقي السلّم للقاء الجدّة. لم نكن في الواقع سألناها يوما عن وضعها الصحّي، ومع ذلك فإنها لم تعر ذلك الأمر اهتماماً.
وكانت تهمم بصوت لا يكاد يكون مسموعاً عندما نقبل عليها: "أهلاً بكم، وصلتم في البرد الذي يسلخ جلد الخنازير! فأهلاً وسهلاً…"، فنرد عليها بعبارات مشابهة، لنبدأ باللعب متنعمين بالدفّ والجوّ المريح في حجرة الجدّة.
ونحن في المدرسة كنّا نشعر بفرح غامر للقائها، متمنين في السرّ أن تبقى الجدّة مريضة إلى الأبد بمشيئة الله، وإلا فإننا سنضطر في أفضل الاحتمالات إلى اللعب في المطبخ خلال أيام الشتاء الشديدة البرد، حيث سنضايق الوالدة، وستطلب منا كلّ لحظة إحضار هذه الحاجة أو تلك، أمّا هنا، في الطابق العلوي، فليس هناك شيء من هذا القبيل. في حين طلبات الجدّة كانت متواضعة للغاية: "احضروا لي الماء المحلّى بالسكّر!" أو "اخرجوا يا صغار، إن أصواتكم عالية!"
بيد أنّ هناك أمراً آخر هو الذي كان يدفعنا لزيارتها في حجرتها، وجعلنا نتمنى أن تتوفى الجدّة على عجل، إلا وهو الكيس الصغير المليء بالسكاكر والذي خبأته خلف وسائدها. وطوال النهار كانت تمتص الحلوى السكرية وتتلذذ بها - وعلى الرغم من أنها كانت تكّن لنا، وشقيقاتي بالأخص، حبّا عميقاً، إلا أنها كانت شديدة البخل بشكل عصيّ على التصديق. وإذا ما توسلنا بها لتعطينا شيئاً من الحلوى فإنها سرعان ما تتذمر ويصيبها الغم ثم تجهش أخيراً في البكاء، حينئذ تفسد علينا متعة الجوّ الجميل. فنتشاجر فيما بيننا، لأننا كنّا نشاكس بعضنا في الخفاء حتى أغظنا الجدّة فصارت تشكو وتولول، فخرجنا دون أن نظفر منها ما أردنا؛ وهي نفسها ما كانت ستهبنا قطعة واحدة من الحلوى لو انقلب العالم على أعقابه.
وبلا شكّ، إنه لأمر فظيع أن يقع المرء بالصدفة المحض على شيء يودّ الحصول عليه، فلا يهدأ له بال أبداً طالما لم ينله، وذلك في الواقع أمر رهيب حقّاً. وكلّما ازددنا طمعاً في الحلوى أمعنا التفكير في الطريقة التي سنحصل بها عليها، فأخذنا نتملق للجدّة ونتصنع الودّ إزاءها. وصارت شقيقتي "إيما" تظهر لها المواساة وتقول إنّ رقبتها تألمها وإنّ ريقها أصبح ناشفاً. لكن هيهات! لقد بقيت الجدّة - يرحمها الله - متصلبة عنيدة إلى الأبد.
ولم يكن هناك ما من شأنه أن يجعلها تنثني عن عزمها، ذلك لم يبق أمامنا في نهاية المطاف سوى رغبة وحاجة ملحة واحدة وهي كيف يمكن لنا أن نظفر بحلوى السكاكر؟ وبالطبع لم نتحدث إلى بعضنا بعضاً بالأمر، كلا، بل إننا لم نأت على ذكره قطّ، لكنّ كلاّ منا قرأ تلك الرغبة في وجه الآخر. وذات مرّة، بعدما أرخت الجدّة رأسها على صدرها ولاحظنا بأنها سوف تخلد إلى النوم على مهل رمق أحدنا الآخر بنظرة تفحّص وتساؤل. وبالتأكيد إن وجوهنا بدت على غير ما يرام، بل كانت متوترة على نحو يثير الرعب، حين تسلل شقيقي "لنتس" بخفّة وراء وسائد الجدّة. ولم يقدم أيّ منّا على إيقافه، إنما حبسنا أنفاسنا ونحن نتطلع إليه كالمنومين مغناطيسياً. وكانت يده اختفت بين الوسائد، ثم استعان بذراعه الأخرى ليدس كفّه بعيداً تحت الوسادة. وحينئذ توقفت قلوبنا عن الخفقان، وسمعنا خشخشة الورق - لقد ظفر بالكيس.
وفي تلك اللحظة تمددت الجدّة وترنح جسدها بشكل ذاتي إلى الخلف ثمّ إلى الأمام، وتدلى جسدها عميقاً فوق صدرها فأصبح بلا سند. فارتعد لينس هلعاً وجذب يده وصار ينظر بذهول إلى ناحية ما في الغرفة، فهمست شقيقتاي إيما وريسل باحتقار: "أنت، أنت يا هذا…" بينما اكتفينا نحن الصبيان بالتحديق الجامد ولم نحرّك ساكناً من هول الصدمة. وبدا لي كما لو أن كرة من اللحم وقفت في بلعومي، بحيث أنني رغبت في الصراخ فلم أستطع، إذ إن جسد الجدّة النحيف بدأ يرتعش وقد ارتفع رأسها قليلاً، لكنه هبط إلى الأسفل ثانيةً، ففغرت فمها وأخرجت حشرجة ثم همدت وباتت أعضاؤها متشنجة دفعة واحدة.
فأدركنا كلّنا بأنها فارقت الحياة للتو، لكنّ أيّاً منا لم ينطق بحرف ولم تند عنه أيّ حركة. فاكتفيا بالوقوف كالمغفلين المصابين بالعيّ. وعندما سقط الليل لم نضيء المصباح الكهربائي كعادتنا. وبغض النظر عمن ارتقى السلّم فقد بدا لينس منهمكاً فوراً في اللعب، وقبل أن تطلّ علينا أمّنا حذونا حذوه كما لو أننا اتفقنا على ذلك. فسطع النور وبدا كما لو أننا لم نكن نعلم بما حدث. وبعد نظرة واحدة إلى الجدّة المتصلبة أخذت الأمّ تعنفنا بشدّة: "يا إلهي، لقد ماتت! يا إلهي لقد فارقت الحياة! ولماذا لم يقل أحد منكم شيئاً؟"
نعم، نحن الذين علت وجوههم حمرة الخجل، فتطلعنا إلى أمّنا وقلنا ببراءة مطلقة: "كنّا نلعب واعتقدنا بأنها كانت نائمة…" ثم شبكنا أيدينا وأقمنا الصلاة مع أمنّا على روح الجدة. ولأن أمّنا بكت فقد اجتاحتنا نحن أيضاً نوبة من البكاء. وبعد ذلك جاء الوالد وكاسبار الأحمر الشعر والخادمة إلى الحجرة، ثم مهدت الجدّة الراحلة على السرير. وبالحركات التلقائية التي أبعدت بها أمّنا الوسائد عن المقعد، ناولتنا أيضاً كيس الحلوى التي وزعناها فيما بيننا، بيد أن أحداً منا لم يضع قطعة منها في فمه، وكذلك لم نستسغ طعمها حين عندما تذوقناها فيما بعد
أوسكار ماريا غراف (1894-1967) قاص وروائي ألماني غلب على أدبه ما يسمى بالأسلوب الشعبي المحلّي. وولد غراف وترعرع في بيئة اجتماعية متواضعة وأمضى شبابه مشرداً في مدينة ميونخ، خوفاً من بطش شقيقه الأكبر الذي استولى على ميراث العائلة. فمارس مختلف المهن اليدوية، واتصل بالجماعات الفوضوية والاشتراكية دون أن ينتمي إليها أيديولوجياً، وبقى مستقلاً حتى نهاية حياته، متمسكاً بمبدأ السلام الإنساني، رافضاً جميع أشكال الحروب القومية. وانتقد أصحابه من المثقفين الذي تطوعوا في الجيش الألماني أو النمساوي إبان الحرب العالمية الأولى، وتصنّع الجنون لكي يعفى من التجنيد الإجباري. واشتهر غراف بمواقفه الصلبة ضد التطرّف والتفرقة العرقية والأفكار الشوفينية القومية أو الشمولية الشيوعية على السواء. وحين أقدمت الحكومة النازية بزعامة هتلر على حرق الكتب المناهضة لمذهب التفوّق العرقي الألماني استثنت أعماله، بل وأوصت بقراءتها؛ لأنها تحمل طابعاً محليّاً متميزاً بلهجته البافارية الجنوبية. فنشر غراف رسالة احتجاج عنيفة في "جريدة العمال" النمساوية بعنوان "احرقوني معهم"، وذاع صيتها في أرجاء العالم آنذاك، أدان فيها الأعمال البربرية للنازية الألمانية وطالب بحرق كتبه، وقد استجابت السلطات الألمانية لطلبه، فأقامت لكتبه محرقة خاصة.