يصور القاص التونسي بشجن شخصية شعبية كان عامل موانئ سابقا يتحول إلى شبه شحاذ يكسب عيشه من خلال لعبة يلعبها الأطفال في الأعياد إلى أن يقعده المرض عاجزا، ومن خلال هذا الهيكل العام للحدث يدخل الكاتب في شجون الإنسان وعذابه في التجربة.

النّاعورة و الحجر الأملس

محمد فطومي

  "سليمان عمّي"، و ليس العكس.. 

فإمّا أنّك تعرفه بكنيته تلك على شاكلتها المقلوبة، و إمّا أنّك لا تعرفه البتّة.

أمّا الأطفال؛ مريدوه الأكثر نفرا و إخلاصا، فلم تكن تشغلهم  معرفة اسم هذا الكهل الضّخم، ذي الشّاربين الرّماديّين و الملامح العصبيّة الوديعة في آن. و لو اضطرّوا، فسينادونه عمّي ككلّ الغرباء الطيّبين. عامل الموانىء السّابق هذا، و تاجر الخردة المحنّك الذي يعرف جيّدا كيف تُلتهم الحافلات الحكوميّة و شاحنات المقاولين حتّى العظم، ينتهي به المطاف حلقة هي الأكثر توهّجا في عقد المسرّات كلّما نشبت فرحة في المدينة. كان الأطفال فيما بينهم  يشيرون إليه مختزلين قامته الفارعة و عربته المرحّبة كجواد قصير، و هالة الإغواء والتّشويق المُحيطة بهما بعبارة وحيدة: النّاعورة.

مع ذلك كان سليمان عمّي في عيون الأطفال أكثر من مجرّد ناعورة حظّ، كان العيدَ بكلّ تفاصيله و ألوانه وذكرياته و عبثه و مغامراته الجريئة و حاجتهم لإنفاق ما في جيوبهم دون ضابط. سليمان عمّي هو العيد، وهلال العيد هلاله أيضا. عرف كيف يحافظ على عرشه لسنين مديدة، فهو السّرك الذي لا يأتي و المسرح الذي لا يأتي و الملاهي التي لا تأتي. لكنّه سيموت و سيُشيّع ما من شكّ، و ستصلح النّاعورة في الأخير بابا لقنّ الحمام فوق السّطح، إذّاك لن يمتلك الحجر الأملس حظّه، فربّما طُمر في حفرة، أو انقلب حجر شوارع إلى الأبد. أمّا العيد فلا يموت و سيظلّ النّحس و السّعد يحوّمان في سماء المدينة و يتداولان تأليف حكاياتها.. النّحس و السّعد هما الأبقى في النّهاية لكن هذا لا يعني أنّ أحدا لم يرغمهما على إطعام عياله مقطعا من الزّمن من قبل. بعيدا عن السرّ الكامن وراء قدرته على سرقة الاهتمام و خطف الأنظار، كان  سليمان عمّي مناسبة سخيّة ليخلي الأطفال و الشّباب المتحمّسون للحياة السّبيل لمارد القمار الأسير داخل صدورهم الغضّة. و ليطلقوا العنان للخطر اللّطيف كي يدغدغ أبعد نقطة في مخيّلاتهم، و لينتقموا من أبائهم الملحاحين جدّا طوال الوقت في التّحقق من أنّ كلّ ملّيم في جيوبهم قد اتّخذ قناة صالحة و عاقلة، وافدا كان أم منصرفا. كان سليمان عمّي جديرا بأن يحبّه الأطفال لسبب غامض كالغيب الذي في جوف النّاعورة.. ربّما إجلالا للغيب الذي في جوف النّاعورة..  لا أحد – على أيّة حال - يكره أن يمتّع نفسه بفوز ما من حين إلى آخر، بقي أن نجد من يساعدنا على إعادة النّظر فيما إذا كانت آلام الشّهوة ترتقي إلى الكيّ بالقمار أم لا. ذاك دور سليمان عمّي باستحقاق، فمن غيره يعرف كيف يعالج الأمر، صبره المهيب، و حجره الأملس المطواع الذي استطاع ترويضه كقرد عروض، سيتكفّلان بهزيمتك و امتصاص آلامك.. سيكسبانك اتّزانك، و يكسبانه رزقه.

   الّلعبة واحدة لا تتغيّر بحسب المبلغ المراهن عليه.. يرمي سليمان عمّي الحجر الأملس فوق العجلة الدوّارة فإذا الحجر الصّغير يتقافز و ينقر أرجاء الدّائرة كجرادة، و يظلّ هكذا يتلاطمه موج الأصابع الخشبيّة المتحاذية التي تغطّي سائر المساحة المستديرة. حتّى تتمكّن الذّراع البلاستيكيّة المرشوقة في خصر النّاعورة من إيقافها أخيرا. قُسمت الدّائرة إلى أربع حصص  متساوية لكلّ منها لون مختلف. الأسود هو الخسران طبعا، الأحمر هو مضاعفة المبلغ، أما بقيّة الألوان فتعني أنّ العجلة تدين لك بأربع أضعاف المبلغ لو راهنت المرّة التي تليها     و ربحت. يد السّاحر المدرّبتين على تكرار الحركة ذاتها بدقّة متناهية أثناء الّلعبة، موكول لها أن تبقيك على مسافة من الفوز دون أن تشعر بأنّك تخسر. و حين تفرغان يسمح لها سيّدها بفسحة انفلات،  فتراها تحرّك النّاعورة في الاتجاهين كما اتّفق من أجل ضجيج أكبر.

إنّه العيد...إنّه العيد دائما حين يصير لك هلال..

  قبالة متنزّه مسوّر بقضبان عالية ، يقف سليمان عمّي أمام عربته المرحة كأسد. حين يصير لك هلال تنتفي السّنة الفلكيّة فتتقارب أيّامك الأثيرة.. و اليوم عيد.. عندما تصل البهجة ذروتها و يمتلىء المكان بالنّاس و الهواء برائحة الألعاب النّاريّة سيكون سليمان عمّي محاطا بالأطفال كإبريق حوله فناجين، مطلوب من الإبريق أن يملأ الفناجين أملا في مضاعفة ملاليمهم، و يملأ درج الطّاولة بملاليمهم. سيكون على الإبريق أيضا أن لا ينكسر أمام الجبابرة الّذمام الموزّعين في كلّ شبر من المدينة لتقاضي معلوم الانتصاب. كما سيكون عليه أن يجلب لابنته الزّهراء القرط الذي وعدها به، و أن يأكلوا لحم الضّأن ليومين متتاليين.

لدى اقتراب الشّباب المندفعين الساخرين من كلّ شيء على الدّوام، يغيّر سليمان عمّي القناع الذي على وجهه ليبدي على ملامحه قسوة و جدّيّة تعطف بقسماته  نحو ما يدلّ على أنّه ثور جامح يستفزّهم في صميم رجولتهم   و يتحدّاهم أن يركبوه. كانت تلك هي الوسيلة الوحيدة لاستدراج تلك الكائنات المتمرّدة.

ثمّ إنّ أسد النّاعورة يدرك يقينا بأنّه من غير الحكمة الظّهور أمام أولياء الأطفال في مظهر رجل معتوه اختار أن يرمي بقوت عياله في فكّ المجهول، لن يُصدّقوا زعما كهذا، و ستنقلب المسرّة إلى علامة منفّرة سيّئة. فالكبار هم الكبار و هم كبار لأنّهم مجهّزون باستشعار خارق يخوّل لهم أن يصدّقوا متسوّلا و يكذّبوا آخر مهما بدا حاله مثيرا للشّفقة، فكيف إذن ببهلوان قطع نقديّة كسليمان عمّي لو ادّعي أنّه يبذّر الأموال حبّا في التّبذير.

 لذا كان عليه مادام تحت رقابتهم أن يحاول، مُستعينا بابتسامته العفويّة المُصطنعة و قبّعة السّعف النّسائيّة على رأسه، أن يدنو ما استطاع  من منشّط احتفاليّة.

أمام المتنزّه سكوت يخيّم حول النّاعورة، بالإمكان الإحساس به وسط الضّجيج.. طقس المواجهة على وشك الانطلاق.. الأطفال يطوّقون الطّاولة، القطع النقديّة تتسابق الصّعود إلى ظهر الناعورة. تستقرّ قطعة محظوظة في درج الطّاولة..تمسك يد سليمان عمّي برأس خشبيّ يتوسّط القرص الدوّار.. يغيب الرّأس في قبضة الرّجل. لثانية تثبت يده على تلك الوضعيّة فيُخيّل للمراهنين أنّها يوم بأسره. تنفر عروق يده. تتصلّب عضلاته. تجتمع حبيبات عرق على جبينه. ينعقد حاجباه. تتحوّل القامة العملاقة إلى كتلة أعصاب موتورة. ثمّ في طرفة عين يفلت عقال أصابعه فتدور النّاعورة، تتمازج الألوان فلا يعود بإمكانك تمييز الأسود من الأصفر و لا تمييز النّاعورة من سليمان عمّي. عندئذ يلقي بالحجر الأملس فوق الصّحن الدوّار، ثمّ يتراجع نصف خطوة إلى الوراء بارتياح مشوب بالقلق.

 المهارة هي الحظّ، و لكي تمتلك العيد بحظّه عليك أوّلا أن لا تخلف موعدك معه أبدا مهما بدا لك بخيلا. ثمّ الأهمّ هو أن تفسح لنفسك حيّزا بين طيّاته. العم سليمان تدبّر الأمر جيّدا، إذ لم ينجح في ذلك و حسب، بل لقد تحوّل بمرور الوقت إلى موعد. ثمّ هاهو يفقد صفة الموعد كما لو أنّها قطرة ماء لامست سطحا ساخنا. فمنذ أصيب بالشّلل و هو يتنقّل فقط بين فراشه و بين الحمّام بواسطة كرسيّ متحرّك. خطوات كئيبة، مضجرة.. لا سعد في الرّتابة و لا نحس.. منذ لازم الفراش و هو يرفض الخروج في نزهة، بل و يرفض المكوث أمام منزله لبعض الوقت رغم إلحاح الزّهراء ابنته. اليوم ، يوم التنظيف العام في البيت، اليوم ينقلب سافل البيت أعلاه،   و على الشّيخ قسرا أن يخرج.

و كعادتها منذ برك في البيت، ستراكم زوجته ملابسه المغسولة كلّها فوق حبل الغسيل و تثبّتها جميعا بمشبك واحد.

خرج الكرسيّ المتحرّك ، و كما توقّع لم يجد تسلية في مراقبة المارّة.. لكنّ فوجا من التلاميذ استرعى انتباهه. فراح يراقب حركاتهم بذهول واضح.

كان الرّهان بينهم من يمشي أكثر خطوات على يديه. كثر هرجهم. تعالت صيحاتهم. كاد احتكاك نعالهم على الأرض يغطّي ضحك بعضهم من بعض كلّما سقط أحدهم. كان الشّيخ ساهما، شاردا يحدّق فيهم و على محيّاه ابتسامة بعيدة رسمت على وجهه ما يوقع في النّفس أنّه وسطهم يتشقلب و يضحك و يصارع. كان فمه نصف مفتوح. و خيط لعاب بدأ يسيل أطرف شفتيه.

فجأة أعادته من رحلته ابنته الزّهراء و هي تنقر بلطف على كتفه و بيدها كوب ماء بارد و مروحة سعف.

- أبي أين رحت؟

استعاد "سليمان عمّي" رشده ببطء.

أدار بصره ناحية الشابّة. رمقها بنظرة مبلّلة متراخية، ثمّ قال :

- اعذريني لم أشعر بوجودك ... ثمّ أعقب:

 يجب أن تعذريني يا ابنتي.. إنّها المرّة الأولى التي أرى فيها أطفالا..