يصور القاص المغربي النبض العميق للوجود الملتبس في مدن تلاحقك فيها العيون وتشعر أنك مراقب فيها وعلى وشك أن تهتك أسرارك، ولا خلاص من هذا التوتر إلا بإدمان عادة ما تجعلك تتوازن وسط محيط الخوف والأسرار.

جنان القرمود

حميـد بن خيـبش

في البلدة التي لا وسع لك فيها إلا الصمت، تفقد المعاني دلالتها على الأشياء.

تدخل السماء و الأرض في علاقة تجاور غريبة تتلاشى إثرها دلالات السمو و الارتقاء.

تلك كانت بلدتي، أنا المسمى ع.س.

 لها كغيرها من البلاد جهات أربع وزاوية اقتراب من مدار الجدي.أهلها يقظون حتى الثمالة، فلا يكاد غريب أو حتى قريب  ينجو بفعلته، أيا كانت الفعلة: علاقة حب.. تفويت قطعة أرضية.. عبور الشارع بكيس فواكه.. توقع أزمة.. تدبير اختلاف..

فضول ؟

 لا سامح الله! بل هو إكساب معنى للوجود بمحاذاة غابة لا تبوح بأسرارها إلا لغريب أو سائح متجول.

هنا وُلدت أحلام ووُئدت مشاريع الولاء لها قلبا  وجيبا! هي أرض تأخذ لا لتعطي بل لتسحب من ملامحك ما تبقى من فضيلة الانتماء. أسميتها ذات أرق: جنان القرمود، وللقرميد هنا بلاغته الخاصة في الإحالة على رؤوس لا تكف عن التمتمة بمزمور واحد: كل الوفاء لمن أرخى على حضورها ستار العتمة!

الشتاء يُلقي على وجودك فيها رداء التوجس. كل العيون التي تتفحصك جيئة وذهابا تدلف دونما استئذان إلى خزنة أسرارك ونواياك. مُدان أنت طالما تجد السير في طرقاتها مبتسما لهذا و ملقيا التحية على ذاك.ليس في القلوب هنا متسع للوصال.

في ثنايا الرتابة التي تلازم دورة الفصول، يندس توق غريب للهدم، وزعزعة السلام الهش بين الكائن و المكان. تلفظ البيوت صغارها لتجتاح طرقات البلدة كسرب من القوارض. أجساد صغيرة متحفزة دوما لاختبار صبر الأشياء و ثباتها! أياد تمتد لتنزع عن الشجر لحاءه، و عن الخضرة بهاءها المعتاد. حتى الطيور في سماء بلدتي لا تكف عن المناورة و الدنو، بحذر المُهربين، من فتات الخبز الملقى على الأسطح و الشرفات.

يفتح الصيف ديوان الجلبة، فتكسر البلدة صمتها المعتاد كلوح زجاج. تتناثر الشظايا في الأزقة و الممرات التي تنضح بالرطوبة و الكسل. لست َ أكثر من صرة نقود في بلدتي! مادمت تدفع فأنت السيد المالك لصهوة خيلها و ليلها.

 تضج المقاهي بأجساد رخوة و عيون متوثبة. تقرأ الصبايا فيها خبث الرسائل المشفرة فيذرعن الشارع بخطى وئيدة. يطرق سمعك همس بذيء قادم من الزوايا المعتمة. اليوم خمر وغدا خمر، فلا معنى للحياة هنا إن لم تكن قطعة من الهذيان! 

ينفض الخريف عباءة صيفها لتبدأ رحلة المراثي. وجوه يعلوها صدأ السنين وغيظ مكتوم من قسمة الباري لأرزاق الخلق. للقرميد هنا بلاغته في الإحالة على كائن يضيق بالزمان و المكان.

إنها بلدتي، أنا المسمى ع. س

لا وسع لك فيها إلا الصمت، حتى تفقد المعاني دلالتها على الأشياء.