يتسم عالم إبراهيم الكوني بالكثافة والخصوبة، وتسعى هذه الدراسة للكشف عن بنية هذا العالم التحتية والتعرف على ابجدية الصحراء ومفردات عوالمها الأسطورية المتراكبة..

إبراهيم الكوني بين وحدة الوجود ومنطق الصحراء

صبري حافظ

لايعادل عالم الكاتب الليبي المرموق إبراهيم الكوني في الغنى والتنوع والكثافة إلا عالم الكاتب الكبير نجيب محفوظ. فقد استطاع إبراهيم الكوني أن يكتب في فترة قصيرة نسبيا لا تتجاوز الأعوام الثلاثين إلا قليلا عددا من الأعمال تعادل في غزارتها ما أنتجه نجيب محفوظ في ضعف هذه الفترة تقريبا. وهو عالم يتسم بالتنوع والخصوبة والجدة. ويقدم لنا رواية بالغة التفرد والأصالة تكتب الصحراء العربية بطريقة لم تكتب بها من قبل. وتكشف لنا عن قدرة المعالجة الروائية الرهيفة للصحراء على الاتفاع بعالمها البالغ الخصوصية إلى أفق الإنساني والوجودي والفلسفي في آن. وقد سبق أن درست مفردات عالم الكوني الصحراوي وربطتها بدائرة شكسبير الإليزابيثية في دراسة ضافية باللغة الانجليزية عنه. ولكني أريد هنا أن أكشف من خلال روايتين قصيرتين من رواياته عن شغف هذا العالم الروائي بوحدة الوجود وقدرته على تقديم منطق الصحراء باعتباره منطقا فلسفيا بالغ العمق والكثافة، برغم بساطته المتناهية. ولنبدأ بالرواية الأولي:

نزيف الحجر
تنطوي هذه الرواية العربية الجميلة (نزيف الحجر) على نفحات روحية مفعمة بالزخم والتأملات. لأن الرواية في ظاهرها رواية عن الحياة في الصحراء وما انتاب البشر فيها من تحولات تحت وقع الزحف الدائب للحضارة المادية الحديثة، ولكن خلف هذا الموضوع الظاهري، تبدو الرواية مفعمة بمجموعة من الهواجس الروحية بالمعنى الكوني الشامل لهذه الكلمة، حيث تتجاوز الروح فيها الأبعاد الإنسانية المعروفة لتسفر عن قدرتها على احتضان الكون كله، بما فيه من نبات وحيوان وجماد. فروح الوجود السارية في هذا العمل الروائي الجميل، وهي روح صحراوية في المحل الأول، تتجاوز المفهوم الضيق للدين إلى المفهوم الكوني الرحب له. ولذلك تبدأ بمقتطفين أولهما من القرآن الكريم، وثانيهما من الكتاب المقدس، وكأنها تريد أن توحي لقارئها من البداية أن ما يهمها هو جوهر الرؤية الروحية للوجود، وليس طريقة أي دين محدد في استقصائها أو صياغة ملامحها.
وتوشك الآية القرآنية التي يستهل بها إبراهيم الكوني عمله "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير في السماء إلا أمم أمثالكم"(سورة الأنعام، آية 37) أن تكون مفتاحا أساسيا للرواية كلها، ولما تنطوي عليه من عمق روحي أخاذ. لأن الرواية في بعد من أبعادها هي رواية ما ينطوي عليه عالم الدواب من قيم تضاهي، بل وتتجاوز، تلك القيم التي يعتز بها الإنسان. وهي رواية المقارنة المستمرة بين الإنسان والحيوان بالصورة التي يخرج فيها الأخير من المقارنة رابحا في جميع الأحوال. لكنها قبل هذا وبعده هي رواية منطق الصحراء وقدرتها على تعرية الإنسان أمام نفسه وأمام العالم الحيواني والروحي معا. وهي من هذه الناحية من الروايات التي تكشف لنا عن طبيعة الحياة في الصحراء، وعن طقوسها المتفردة التي تنطوي على حكمتها الخاصة التي لا يستطيع الإنسان ـ في غيّه وغطرسته ـ أن يسبر غورها بسهولة. وتستخدم الرواية في هذا المجال استراتيجية بنائية مهمة هي جدل العلاقة بين الأنا والآخر ودورها في كشف آليات منطق الصحراء أو في التصادم معه. لأن الرواية تبدأ برمزين مهمين، أولهما هو تناطح التيوس ـ كنوع من اللعب الطبيعي الحر ـ أثناء قيام بطلها "أسوف" بصلاته التي يفتتح بها الكاتب نصه، وثانيهما قدوم الآخرين في سياراتهم ليشاهدوا الرسوم المحفورة في صخور الوادي، وخاصة أهم هذه الصخور في كل "مساك صطفت" وهي "صخرة وادي متخندوش" التي كان "أسوف" يصلي أمامها، وكأنها كعبة من نوع فريد. وتمنح الرواية هذا الآخر من البداية دور من يؤسس للصحراوي رموزه أو يبرز له أهمية ما كان تحت عينيه من زمن طويل، وسلم به دون أن يعي قيمته. فلم "يخطر ببال "أسوف" في الماضي، عندما قطع الوادي الموحش في شبابه منشغلا برعي أغنامه، أن يكون هذا الرسم المحفور في الصخور بمثل هذه الأهمية كما يراه اليوم عندما أصبح قبلة لسياح النصارى. يأتونه من أبعد البلدان. يعبرون الصحراء بسياراتهم البرية ليشاهدوا الحجر، ويفتحون أفواههم دهشة أمام عظمته وجماله وغموضه. بل إنه رأى في إحدى المرات امرأة أوروبية تركع أمام الصخرة على ركبتيها وتتمتم بكلام مبهم، عرف بالحدس أنه صلوات النصارى"(ص10) لكن الآخر لا يؤسس للعربي واقعه، وإلا كان في هذا الحكم نوع من المبالغة، وإنما يمنح هذا الواقع ثقلا إضافيا أو يضفي عليه بعدا جديدا. لأن "أسوف" يعود في الفصل الأول من الرواية إلى ذاكرته ويستدعي لنا طفولته الأولى ليتذكر كيف أنه وهو يستجير من الرمضاء بتجاويف الصخور "أصبح يطلق على الأودية والشعب والجبال أسماء الأشباح المرسومة على صخورها: فهذا وادي الغزلان، وتلك شعبة الصيادين، وذلك جبل الودّان، وذلك سهل الرعاة" (ص13) لأن الرسوم القديمة الموشومة في تلك الصخور تتحول إلى علامات أساسية، أو رواسي تحدد خريطة هذا الواقع، وتلعب دورها الحيوي في تأسيس ذاكرته الداخلية وبلورة هويته. إلى الحد الذي تأخذ فيه هذه الرسوم بعدا أسطوريا في بعض الأحيان، وينسى "أسوف" في بعض صلواته أن يتجه إلى الكعبة، ويتخذ من بعض أصنام هذه الرسوم الدارسة قبلة له، فقد انحفرت في وعي النص والبشر على السواء: "لم يدر "أسوف" أنه أخطأ الاتجاه، فلم يوجه ركعاته نحو الكعبة وإنما نحو الصنم الحجري المنتصب فوق رأسه في قعر الوادي العميق"(ص15) وكأن محفور الذاكرة التاريخية القديمة أبقي من كل ما طرأ بعدها من معتقدات، أو كأن هذا المحفور يسفر عن نفسه من جديد تحت قشرة أحدث العبادات أو المعتقدات كما هو الحال في الثقافات العريقة التي تتعدد تجلياتها بتعدد ما مر عليها من مراحل أو أديان. فما أكثر الطقوس المصرية الفرعونية القديمة التي تتجلى الآن وراء ممارسات طقسية قبطية أو إسلامية.
لكن علينا قبل هذا كله أن نعود إلى الخيط القصصي الذي تقدمه لنا الرواية قبل استشراف ما يوحي به من دلالات. لأن الرواية تقدم لنا فصول المواجهة بين ما ينطوي عليه عالم الصحراء من حيوات ورؤى ذات طبيعة سرمدية لها توازنها الحيوي الفريد الذي وعاه الصحراوي بحدسه وتجربته، وبين منطق الحضارة الآلية الحديثة بما ينهض عليه من شره أعمى لا يرتوي للتدمير والدم. وتختار الرواية أن يكون قطبا المواجهة فيها عربيين حتى لا تقع في وهاد التبسيط المخل في تناولها لجدليات العلاقة بين الأنا والآخر، وإن للآخر كآخر حضوره البارز فيها. فالرواية تعي أن الآخر الفاعل في الأنا هو الذي استكن في قلب الذات، ولم يبق معزولا خارجها. لذلك نجد أن قطبي المواجهة فيها هما "أسوف" الصحراوي الذي تمتزج طفولته بأديم الصحراء، وتتشكل ذاكرته من مخزون معارفها الفريدة، و"قابيل" العربي الآخر الذي يفد على الصحراء بجهله وفظاظته المسلحة بأدوات الحضارة الغربية الحديثة. وحتى تكسب الرواية هذه المواجهة دلالات أوسع تعمد إلى تأسيس البعد الأسطوري لكل شخصية من شخصيتيها الأساسيتين: "أسوف" وقابيل. ولنبدأ بأسوف الذي تربى على معارف الصحراء، وتنسك في محرابها طوال حياته حتى أقبل غزاة الصحراء عليه في أشكال وألوان متعددة: سائحين تارة، ومندوبو آثار أخرى وصيادون تارة ثالثة. فقد علمه أبوه من البداية حكمة الصحراء، والاستهداء بقلبه وحدسه لسبر أغوار منطقها الفريد.
فالصحراء هنا ليست الفلاة المعادية الرمضاء، ولكنها كما علمه أبوه "الصحراء كنز، مكافأة لمن أراد النجاة من استعباد العبد وأذى العباد"،(ص28)، أي أنها فضاء تجلي الجوهر الإنساني وقد تحرر من كل ضرورات الواقع الاجتماعي خارجها. وللصحراء منطقها الأخلاقي الصارم، وقدرها "قدر العزلة، قدر الصحراء"(ص94). ويروي لنا النص تجربة مهمة هي تجربة الأب مع الودّان الذي انتحر حينما دخلت الآلة في معركته مع الإنسان. وكيف انتحر الودّان حينما اختفى عنصر التكافؤ من المعركة التي خاضها معه الأب، وكأن الإخلال بشرف قواعد اللعبة ينفي عنها عدالتها بل مشروعيتها، ولا يجعل أمام الودّان ـ روح الصحراء في نقائها وجموحها ـ سبيلا إلا الانتحار بإلقاء نفسه من فوق أعلى صخرة.
وقد استقر هذا المشهد في وعي الأب ورواه للأم، وتحول إلى نذر بألا يقرب الودّان مرة أخرى، ولا يسعى لاصطياده أبدا. كما استقر بدرجة ما في وعي الإبن "أسوف" الذي علمه أبوه حكمة الاقتصاد في موارد الصحراء العزيزة من غزلان وتيوس وقطعان ونباتات ومياه، وعلمه أيضا منطق الصيد فيها، وضرورة ألا يتجاوز شاة واحدة في الرحلة، وألا يصطاد الحوامل "فصيد الحوامل من الأنعام إثم كبير"(ص52). وكان يكافئه على نجاحه في الصيد واستيعاب منطقه معا بهدايا تنطوي على أبجدية الإبداع الصحراوي المنقوش على الجلد والقماش ونسجيات الصوف المزخرفة. لكن الأب لم يستجب أبدا لإلحاح الإبن عليه أن يعلمه صيد الودّان، وإن استمر الإبن في إلحاحه، بالرغم من أن أمه قالت له "لماذا تلح على أبيك أن يذهب بك لقتل الودّان؟ ألا ترى أن ذلك يؤلمه"(ص52) ولا يكتشف الإبن السر ـ كما في الحكايات الأسطورية ـ إلا بعد ثلاث محاولات مخفقة، تبوح له الأم بعدها "أبوك لايريدك أن تسفك دماء الودّان لأنه نذر نذرا من زمان قبل أن تولد. كان يصطاد في سفوح جبال آينسيس فزلقت رجله، ووجد نفسه معلقا بين السماء والأرض، يمسك بصخرة ورجلاه تتدليان في الهاوية. فقد الأمل في النجاة فانتشله الحيوان الذي كان يقاتله وينوي قتله وأنقذه من الهلاك"(ص53) لكن الأب أخل بالنذر، وللإخلال بالنذر لعنته التي لا مناص من وقوعها، لأننا بإزاء بنية سردية أقرب ما تكون إلى البنية الأسطورية الشعبية وتوشك قصة الأب مع الودّان أن تكون هي مقدمة النص لأسطورة الإبن معه، ولكنها تجيئ كذلك كتنويع على قصة الأب التي حكتها له أمه، أو تكرار جديد لها بطريقة تؤكد البنية الدائرية في هذا العمل الروائي. لأن قصة "أسوف" مع ودّانه المسحور من أكثر أساطير هذا النص رقة وشاعرية، فهي أسطورة المنطق الصحراوي الدفين الذي يتخلل كل الكائنات ويوحدها في نوع من وحدة الوجود الكونية التي تستعصي على التفسير. وتكشف لنا فصول طرادها الشيقة عن أهمية الندية في المعركة، وعن ضرورة المجالدة والصبر وعدم فقدان الأمل، وعن نبل الحيوان الذي ما أن ينتصر على الإنسان في عراكه معه، حتى يرتد إلى الخاسر لينقذه في نهاية الأمر من موت محتوم. وحينما ينقذه الودّان من هذا الموت يتجلى وجهه في صورة وجه الأب، وكأن الحياة الصحراوية تنطوي على نوع فريد من الحلول الروحي الصوفي الذي يقترب من تناسخ الأرواح أو تبادل المواقع بين مختلف الكائنات، حيث يحل الأب في الودّان، ويحل الودان في الإبن في نوع من التواصل والاستمرار.(ص81) وقد انقذه هذا التوحد أو الحلول في مختلف الكائنات من المصير التعس الذي وجد نفسه فيه حينما قبض الكابتن بورديللو على شباب الواحات وزجّ بهم في معسكر التدريب وتجهيز حملته لغزو الحبشة. عند ذلك تلبسته روح الودّان وأنقذته من الأسر في معجزة لايزال الأهالي يتناقلونها حتى الآن. لكنها لم تستطع أن تنقذ أمه الضعيفة من اجتياح السيول الجارفة لها، فنحن بإزاء منطق السرد الشعبي بعدالته الباطنية المراوغة، وترك ذلك "أسوف" وحيدا، يبدو للجميع وكأنه جني الصحراء أو روحها المنفلتة الشريدة، حتى حانت لحظة مواحتنه الدامية مع قابيل.
أما "قابيل آدم"، واسمه وحده ينطوي على دلالات دينية معروفة، فإن الرواية تمهد لظهوره في ساحتها بمقدم رجال مصلحة الآثار لأول مرة قبل سنوات إلى متخندوش، وعجزهم عن فهم أن النقود لا معنى لها ولاقيمة في عالم "مساك صطفت"، عالم البراءة المطلقة والنقاء الفريد. ثم يأتي قابيل مباشرة بعد ذلك ليؤكد كذلك عدم فهم الواقع الخارجي لمنطق الصحراء وعالمها.
ويقدمه لنا النص بهذا المدخل الفريد الذي يثير النفور، فيكتسب مجيئه من البداية لمسة غريبة أو بالأحرى غرائبية، ليس فقط لأنه يصف "أسوف" بالجني الذي آثر العيش في الخلاء فينفره منه من البداية، ولكن أيضا لأنه وقد ظن "أسوف" بسبب حديثه بالعربية أنه مسلم يرد عليه، "ومن أدراك أننا مسلمون، نحن مسلمون برغم أننا لا نصلي ولانزكي ولم نحج إلى بيت الله مرة واحدة"(ص20) وفضلا عن هذا المدخل الصادم الغريب، يأتي "قابيل" إلى الصحراء، لا لمشاهدة آثارها كما يفعل بقية السياح، ولكن للبحث عن الودّان النادر واصطياده. وتؤسس الرواية البعد الأسطوري لشخصية "قابيل" بنفس المنطق الذي تؤسس به شخصية "أسوف"، ولكن بطريقة مناقضة بالطبع. فقد كان منذ وضعت بذرته كجنين في بطن أمه مصدرا للعنف والدمار، وكأن ثمة لعنة تلاحقة منذ أن كان نطفة في بطن أمه. مات أبوه مطعونا بسكين عندما حملت به أمه، وماتت الأم متأثرة بلدغة أفعى بعد ولادته بأسبوع، فورثت خالته تربيته ولكنها سرعان ما ماتت هي وزوجها عطشا. ولم ينقذه من مصيرهما إلا أنه شرب دم غزال مصروع في طفولته فنجا من الموت عطشا. والتقطته قافلة فبارت تجارتها، واستولى قطاع الطريق على قطعانها.
فقابيل هو التجسيد الكامل للشر وللعنة في أجلى معانيهما. اعتاد على أكل اللحم النيئ منذ نعومة أظافره، وكأنه من الجوارح الكاسرة، أو الوحوش الضارية. ونطق الساحر الأفريقي بلعنته وكأنه يقرأ الغيب من كتاب مسطور: "من فطم على دم الغزال في الصغر، لن يستقيم حتى يشبع من لحم آدم في الكبر. ياقابيل يا ابن آدم، لن تشبع من لحم، ولن تروى من دم، حتى تأكل من لحم آدم، وتشرب من دم آدم"(ص98) وترعب هذه النبوءة أباه بالتبني لأن اسمه آدم أيضا. فآدم هو اسم رب القافلة التي التقطته، وتبناه، ولم يسلم من لعنته فلقي مصيرا داميا حيث مزقته قبائل "نم نم" بالحراب وقطعته، وأكلت لحمه نيئا، وكأنها تمهد بذلك لأكل "قابيل" نفسه للحم أخيه. واستمر شره "قابيل" الأسطوري والاستعاري في آن واحد للحم والدم. ويبلغ هذا الشره ذروته بعدما كبر، وجاء في تلك الرحلة إلى الصحراء بحثا عن الودّان ليشبع به نهمه للحم والدم. ويتسلح هذا النهم بأدوات الحضارة الحديثة من سيارات اللاندروفر الجهنمية والطائرات المروحية التي تجهز على ندية المطاردات وجسارة الصيد. وبآلة جهنمية أخرى أهداها له "جون باركر" ضابط القاعدة الأمريكية في هويلس هي بنادق الخرطوش. وتصف الرواية السيارة بأنها أحد الأسلحة الشريرة التي أجهزت على حياة الصحراء. "السيارات الوحشية جاءت مع دخول الشركات الباحثة عن النفط والثروات الجوفية. مضت سنوات قليلة ثم تم اختراع ذلك السلاح الشيطاني خصيصا لانتهاك الحمادة وإبادة القطعان الآمنة".(ص103) بكل هذه الأسلحة يجيئ "قابيل" إلى الصحراء، كقائد لحلف الشر المدعوم بالآخر في النص، والذي تتحول فيه الأنا إلى قناع بشع لما في الآخر من شرور، ولما تنطوي عليه حضارته من دمار. ويؤكد "قابيل" في حوار مثير أن الأمريكي هو مصدر الشر الذي يمثله "قابيل" في النص: "إذا قمت بإبادة الغزلان فبفضل مساعدتك. زودتني بالسيارات وبنادق الخرطوش. وأكلت من الغنائم نصيبك وأكثر من نصيبك. أنت الذي أبدت الغزلان في الصحراء بعد أن صدعت رأسي بالخرافات عن الأسرار الإلاهية المدسوسة في لحم الحيوان المسكين. أنت أكبر مجرم، تغازل الغزلان وتصفها بالبراءة، وتنهش لحمها مدعيا البحث عن سر لا وجود له إلا في رأسك الكافر".(ص129)
وتدور فصول المواجهة الدالة بين "قابيل" وأسوف حينما يفد بأسلحته مدعوما بمساعده "مسعود الدبّاش" وبالأمريكي "جون باركر" معا، ويجبر "أسوف" على أن يرشده إلى مواقع الودّان المقدس. وتتحول المواجهة إلى منازلة بين قوتين فقدت نديتها، ولم يعد فيها أمام "أسوف"/الودّان إلا الانتحار كما حدث في مطاردة أبيه للودّان وتصويب البندقية نحوه. فعندما يضلل "أسوف" قابيلا، ولا يأخذه إلى مواقع الودّان يزداد شره الأخير للحم، ويصلب أسوفا على صخور الجبال ثم يشرع بعدما تجاوز الشره حد السعار في التهامه في مشهد وحشي مقزز. وتنطوي هذه المواجهة بالإضافة إلى البعد الأسطوري والديني الذي يبلغ ذروته في من أكل لحم أخيه حيا، على مواجهة بين منطق الصحراء والمخيال القبلي، ومنطق الحضارة الحديثة وشرهها المادي. إذ يمثل الودان وتمثل الغزلان في الرواية منطق المخيال الصحراوي وما ينطوي عليه من تساوق بين الحيوان والفضاء الصحراوي المحيط. "حتى إذا أشرفت على السهول العليا على حين غفلة فوجئت بأجمل المخلوقات ترتع بسلام. حتى إذا شعرت بحركة الإنس تأهبت للفرار. وعندما تتحرك في فرارها الجماعي، يتحرك السهل. تتحرك الصحراء.
كأن الصحراء نفسها هي التي تتحرك وتفر هربا من بطش الإنس."(ص102) ويتحول الودان والموقف منه إلى المعيار الذي يقيس به الصحراوي الآخر ويحكم عبره عليه. لأن الحكم على الآخر عند "أسوف" ينهض على موقف هذا الآخر من الودّان: وكأن الودّان قد تحول إلى معيار للحكم. فقد حكم "أسوف" على الخبير الطلياني حكما مغايرا لحكمه على الأجانب الآخرين "إن هذا النصراني لا يشبه أولئك النصارى. هل قال ذلك لأن النصراني لم يقتل الودّان".(ص29) بالرغم من الفرصة كانت متاحة أمامه لقتله، ولكنه بدلا من أن يلتقط البندقية التقط نظارته المقربة وأخذ يتأمل جمال الحيوان الصحراوي. وهكذا تطرح الرواية هذا الإيطالي في مواجهة الأمريكي، وكأنها تطرح على قارئها وعيا ضمنيا بالمفارقة بين الأوروبي والأمريكي، بين ابن الحضارة الأوروبية العريقة وابن حضارة رعاة البقر الهمجية القبيحة.
فالرواية تعي أن المخيال الصحراوي يربط بين الفضاء الصحراوي والحيوان الذي يعمره في علاقة جدلية لها منطقها الداخلي وأخلاقياتها الخاصة. إذ تتحدث عن الغزال "أخلاقه في العدو لا تقارن بأي حيوان هارب. لا يلجأ إلى المناطق الجبلية الوعرة كما يفعل الودّان. لا يداور ولا يناور في طريق السباق، وإنما يمضي في خط مستقيم، عبر العراء السمح، معتقدا أن الإخلال بقواعد السباق يخالف النبل ويجلب العار. يختار البطولة على الخبث والمداورة. يرفض الحيلة والخديعة ويفضل الالتزام بأسلوب الفرسان. مسكين الغزال البري لا يدري أن مجرد استخدام هذه الآلة الشيطانية خيانة للطبيعة، وإخلال بقواعد الصراع النبيل، واحتكام إلى أبشع أنواع الخديعة"(ص104)
ولا تفتقر هذه المواجهة بين الإنسان الدخيل على الصحراء بأسلحته المدمرة وبين الحيوان الصحراوي إلى النبل فحسب، ولكنها تتحول إلى مجزرة وحشية بعد "دخول بنادق الخرطوش إلى الصحراء، فتضاءلت فرصة الغزلان في النجاة، وأشرفت القطعان على الانقراض والفناء"(ص105) ويذكر "قابيل" "أنهار الدم التي سفحها بعد حصوله على هذا السلاح. ينحدر إلى السهل المزحوم بالغزلان، ويبدأ في الحصد. طلقة واحدة تسقط مجموعة من الرؤوس. يعيد الضغط على الزناد، فتتساقط الشياه كما يتساقط البلح إثر احتكاك العراجين عندما تهب العاصفة. العاصفة تجهض جنينها بضربة واحدة. في إحدى الغزوات ثقب الخرطوش غزالة حبلى، فاحتمت برتمة صغيرة، وصدرت عنها شكوى أليمة، وأسقطت الجنين، وانهمكت تلعق الدم والمخاط عن جسد وليدها الصغير. كانت الغزالة تنزف، والوليد الجريح ينزف، ويحاول أن يرفع رأسه المثقوب بالخرطوش. وعندما همد تماما وأيقنت الغزالة بأنه مات. رفعت رأسها نحو السماء الصافية، وصاحت بصوت أليم. صوت فجيعة. وعندما ألتفتت رأى في عينيها دموعا كبيرة"(ص105)
ليست هذه أمثولات على قسوة الإنسان، وليست مجرد حكايات من حكايات الحيوان الرمزية ولكنها مفردات المواجهة الدامية بين الإنسان الجاهل والطبيعة التي لم يبدأ بعد في سبر حقيقة منطقها. وتؤدى هذه الوحشية الرهيبة إلى تغيير الطبيعة لعاداتها "الغزلان الجريحة اتخذت من السلسلة الجبلية المنيعة معقلا للاستشفاء، حتى إذا استردت عافيتها انطلقت في الطريق الطويل وواصلت المسيرة نحو الجنوب البعيد. وقد رأى الصيادون القدامى في هذا التحول الغامض في أخلاق الغزلان الذي لم تعهده الطبيعة طوال تاريخها إشارة سماوية" (107) فقد أجبرت قطعان الغزلان الجميلة "على الهجرة إلى أقصى الدنيا، ليس بحثا عن الكلأ وإنما طلبا للبقاء وإنقاذا للنسل من الفناء"(ص107) هذا التغير الدال في منطق الطبيعة كرد فعل على إبادة الإنسان الجاهل لها من العلامات المهمة في النص المترع بالمعارف الصحراوية البالغة الخصوصية. وهي معارف جديدة على الرواية العربية إلى حد كبير، معارف بعالم تحتي له بنيته الفكرية والفلسفية والإسطورية، وله مفرداته المتميزة وأبجديته التي تتحكم في هذه المفردات. ولكن أهم ما فيها هي قدرة الرواية على توظيف معارفها تلك في المواجهة بين "قابيل" و"أسوف" بالصورة التي تبلغ فيها مراقي الأمثولة الرمزية التي يعيد فيها الإنسان المعاصر قصة "قابيل" وهابيل، ولكن بعد أن تكتسب القصة الدينية القديمة بعدا حضاريا جديدا يكشف عن روح الصحراء، ويفتح للرواية العربية أفقا جديدا، ويطرح على القارئ مجموعة من القضايا التي تجعل أكثر القضايا الإنسانية أولية هي أكثرها حداثة ومعاصرة في الوقت نفسه.

(الفم) أبجدية الصحراء وجدليات الحياة والحرية والموت
تكثف لنا رواية إبراهيم الكوني القصيرة (الفم) الرؤية الصحراوية الأساسية التي تسري في كل أعماله، وتبلورها لنا رواياته الطويلة الأخرى، وإن قدمتها هذه الرواية بطريقة أشد تركيزا وشاعرية. فهي رواية دراما الصحراء بعدما قطرها الروائي بطريقة بارعة تضع النص دائما فوق هذا النصل الحاد أو الخيط الرفيع الذي يفصل بين السرد الواقعي والقص الأسطوري ويدمجهما معا في آن. فنحن لانعرف ونحن نتابع القراءة إذا ما كنا بإزاء سرد واقعي كما هي الحال في روايات المؤلف السابقة، أو أننا بإزاء نوع من إعادة رواية الأساطير الصحراوية الخصبة التي روى لنا الكاتب بعضها في قصصه القصيرة. خاصة وأن النص يجعل للأسطورة والنبوءة والرموز دورها الفاعل في أحداث هذه الرواية الشيقة. ويطرح لنا من خلال تفاعلها جميعها مع تفاصيل الحياة الواقعية الخشنة في الصحراء طبيعة الجدل الخلاق بين هذه الرؤي والأساطير التي يتخلق بها ناموس بالغ التعقيد والصرامة وبين حياة البشر الذين اتخذوا من الصحراء الشاسعة وطنا لهم ولعنة أو صليبا قرروا طائعين مختارين أن يحملوه على كواهلهم حتي الجلجثة. صحيح أن العالم الصحرواي في هذه الرواية محكوم بمجموعة من الحتميات الصارمة، ولكنها من الحتميات التي تتخلق صرامتها من خلال منحها الحرية للإنسان لاختيار نواميسها، أو رفض هذه النواميس والتخلي كلية عن الحياة الصحراوية القاسية الخشنة ولكن الرائعة الثرية في الوقت نفسه. هذه الحرية هي التي تكسب الحتمية صرامتها، لأنها تجعلها حتمية مختارة يتعمق عبرها دور الإنسان وتتعزز مسئوليته.
وقبل الحديث عن بنية هذه الرواية الشيقة التي تتكون من ثلاثة أقسام، تتوزع عليها فصولها الأثنين والثلاثين، لابد من التوقف عند عنوان هذه الرواية المثير والبسيط معا: "الفم". والفم هو بوابة الجسد الإنساني التي يدخل منها الماء والغذاء إليه، وتخرج منها الكلمات والآهات التي تعبر عن هذا الجسد وتبلور ما يدور فيه من مشاعر وأفكار وأحاسيس. صحيح أن الرواية لا تتحدث عن الغذاء كثيرا، لأنها مشغولة بهمّ البحث عن الماء الذي يعد سر الحياة وعمادها في الصحراء وخاصة عندما يعم الجدب ويطارد الظمأ الجميع، هنا يصبح الماء سر الحياة ويصبح الفم مدخله إلى الجسد البشري. هذا الفم همزة الوصل بين الجسد الإنساني والعالم، هو أيضا ـ في هذه الرواية الشيقة ـ بوابة مغادرة الجسد للعالم، لأنه فم هاوية الموت الفاغرة فاها أبدا دون شبع، فم الهاوية التي تتربص بالإنسان والمفتوحة على الموت والفناء والعدم. فالفم الذي يعنيه عنوان الرواية هو "فم الهاوية" التي تنتظر الإنسان، ويتلهى عنها بالألعاب اللطيفة ولذات الحياة وأهمها النساء، ولكنه يعدها دوما عدوه الأول والأخير، لأن كل الأشياء والكائنات صائرة إلى الخراب، أو بالأحرى صائرة إلى الصحراء، التي يسع خلاؤها كل شيء وتستوعب أسرارها كل شيء. فالصحراء، كالفم في هذه الرواية، من كلمات الأضداد: هي الحياة في ألقها وحريتها المطلقة التي لاتحد، وهي الموت والفراغ والخلاء. واتخاذ "الفم"، فم الهاوية، عنوانا للرواية يضع كل عالمها في مواجهة الموت، لأن الحياة في الصحراء هي حياة في مواجهة الموت، وهي صراع مستمر معه.
وحتى يجسد الكاتب هذا الصراع ويدرأ عن عالمه أخطاره يختار بنية السرد الشهرزادية، بنية (ألف ليلة وليلة) التي استحدثتها شهرزاد لتدرأ بها عن نفسها، وعن كل بنات جنسها غائلة الموت، ليدرأ بها هو الآخر عن إنسانه موت الصحراء، أو ليكشف لنا عبرها عن آليات إحكام قبضته الصارمة على الحياة. وما أعنيه بالبنية الشهرزادية هي بنية هذا القص الذي ما أن تبدأ إحدى حكايته في التفتح حتى نكتشف أن في داخلها حكاية أخرى تقودنا بالتالي إلى حكاية أخرى إلي مالانهاية، فهي المعادل السردي للدمية الروسية الشهيرة التي ما أن تفتحها حتى تجد في داخلها دمية أخرى، تفتحها بدورها لتجد في داخلها دمية أصغر، وهكذا دواليك. أي أنها بنية القص المتراسل والمتشابك والمتداخل في آن والتي علينا أن نفض تشابك خيوطها حتى نفهمها، ولكن فض تشابك هذه الخيوط لايقل صعوبة عن قراءة الأثر في الرمال في دروب الصحارى الوعرة، التي تذرو الرياح فيها الأثر باستمرار، وتصبح قراءته مزيجا من الحدس والخبرة والتنجيم. لكن جمال الرواية كامن في تشابك هذه الخيوط السردية وتداخلها، بقدر ما هو كامن فيما تنطوي عليه الحكاية من عناصر درامية ومأساوية، وكامن كذلك في سحر عملية قصّ الأثر المعقدة التي تستلزم قصاص أثر خبير لحل طلاسمها وقراءة شفراتها السردية الشيقة. فكل قصة تتكشف عن قصة في داخلها، ينسيك سحرها ما بدأت به القصة الأصلية، حتى تفاجئك بعض جزئياتها بما يردك إلى القصة السابقة، ويستشرف في الآن نفسه ما ستتكشف عنه القصة التالية، وما بين هذه القصص كلها من تداخل وتكامل وحوار هو ما يصوغ لنا البنية الروائية ويرهف وعينا بدلالاتها المتراكبة.
وتتكون الرواية كما ذكرت من ثلاثة أقسام: يتكون أولها بدوره من ثلاثة عشر فصلا معنونة جميعا بعناوين من كلمة واحدة، أقرب ما تكون إلى الإشارات أو الرموز التي تتكون منها الشفرة الروائية المعقدة. أليست لغة الصحراء هي لغة "قراءة النبأ والإشارة" (ص94) كما تقول الجدة للبطل "بوبو"؟ وتبدأ الرواية بفصل افتتاحي بعنوان "الظلال" ملخص لكل عالمها، كاللقطة الاستهلالية في الفيلم الروائي الجيد. تتوقف فيه القافلة عند حضيض الجبل مع حلول الأصيل، وينتشر الخلق في العراء في مشهد بانورامي يشغي بالحياة وتجاوراتها الثرية، ثم تتابع عدسة الروائي من بين هذا الخلق الكثير شخصا بعينه هو "بوبو" نحيل البنية طويل القامة، متزمل بالعمامة الصحراوية الكبيرة، يجر صبيا حاسرا "يتنقل وراءه بين الصخور العليا كما تتنقل بُهمة الودّان وراء أمها"(ص9)، لتؤسس بهذه النقلة، من المشهد العام أو اللقطة الواسعة، إلى المشهد القريب أو اللقطة المكبرة، العلاقة بين الفرد والقبيلة، وتؤكد بالاستعارة التي تضاهي علاقة الإبن بأبيه بعلاقة بُهمة الودّن بأمها العلاقة الأهم التي توازي بين الإنسان والطبيعة. فروايات إبراهيم الكوني هي أكثر الروايات العربية انشغالا بالعلاقة الخفية بين الإنسان والطبيعة، وأشدها وعيا بالتوازن الكوني أو البيئي الذي يربط الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه بما في هذا العالم من نبات وحيوان وجماد. وما روايته (نزيف الحجر) إلا صرخة احتجاج بليغة على تدمير الإنسان للبيئة الصحراوية، أما (التبر) فإنها مكرسة لسبر أغوار العلاقة بين الإنسان والحيوان في الصحراء.
وما أن ننتقل إلى الفصل الثاني "البُهمة" حتى تبدأ عملية قراءة رسوم الكهوف القديمة، وتدريب الإبن، "آمضال" وهو اسم يعني الأرض أو التراب، على قراءة إشارات الطبيعة ورموزها المكنونة وتعلم لغة الصيد فيها، لغة صيد الودّان: حيوان الصحراء الأثير ورمز الحياة فيها في آن. وكأننا بإزاء عملية تعميد من نوع خاص، تعميد بالتجربة وتلقين الشعائر الضرورية التي يتم بها إطلاق شخص إلى العالم، أو إدخاله في جماعة بعينها. وبينما يلقن الأب إبنه أسرار قراءة الرسوم، يرتكب خطأ التلفظ باسم "تيرزازات" أي الأرنب، ينبهه الإبن إليه لندرك مدى ذكاء هذا الإبن وحساسيته. ويستمر الدرس حتى يصل إلى غضب "آمناي" إله الريح الذي يرسل غضبه جحيم "القبلي" بصهدها وترابها الذي يدمر الحياة في الصحراء ويقضي على رخيّها. ونهاية الفصل بغضب "آمناي" هي نوع من استشراف الحاضر الذي سندرك أن القبيلة كلها مرتحلة بسببه، حيث تبحث عن الماء الذي ضلت طريقها إليه.
ويتواصل الدرس في الفصل الثالث "إدبني" أي مقابر الأسلاف التي تكتشب في ثقافة الصحراء دلالات تمتزج فيها العناصر الإسلامية بالعناصر الإفريقية الزنجية القديمة. فقد نبش الأوغاد/ الدخلاء/ اللصوص مقابر الأجداد، وخربوا أضرحتهم القديمة بحثا عن الذهب الذي كان الأسلاف يدفنونه مع موتاهم. ويستمر الدرس في الفصل الرابع "المعرفة" التي يتوجب على ابن الصحراء حيازتها: معرفة أبيه الأول، ولا تتم هذه المعرفة إلا بطقس الدم الذي تتواصل عبره الأجيال حيث يروي الصبي عظام أبيه الأول بدمه وعندما تتشرب العظام دمه يهلل الأب "لقد عرفك الأب، إذا تقبل الآباء الدم فهذا يعني أنهم عرفوك. وإذا عرفوك اعترفوا بك. وإذا اعترفوا بك صرت ابن الناموس"(ص18).
ويتواصل الدرس في الفصل الثالث "إدبني" أي مقابر الأسلاف التي تكتشب في ثقافة الصحراء دلالات تمتزج فيها العناصر الإسلامية بالعناصر الإفريقية الزنجية القديمة. فقد نبش الأوغاد/ الدخلاء/ اللصوص مقابر الأجداد، وخربوا أضرحتهم القديمة بحثا عن الذهب الذي كان الأسلاف يدفنونه مع موتاهم. ويستمر الدرس في الفصل الرابع "المعرفة" التي يتوجب على ابن الصحراء حيازتها: معرفة أبيه الأول، ولا تتم هذه المعرفة إلا بطقس الدم الذي تتواصل عبره الأجيال حيث يروي الصبي عظام أبيه الأول بدمه وعندما تتشرب العظام دمه يهلل الأب "لقد عرفك الأب، إذا تقبل الآباء الدم فهذا يعني أنهم عرفوك. وإذا عرفوك اعترفوا بك. وإذا اعترفوا بك صرت ابن الناموس"(ص18).
والناموس "آنهي" هو واحد من مفاتيح هذه الرواية لأنه مفتاح الحياة في الصحراء: هو كل شرائع الأولين التي كتبت يوما في رقع من جلود الغزلان، ولكن الغزاة مزقوها وأتلفوها، ولم يبق منها إلا متف في ألواح الجبال، وفي صدور الحكماء. ولا ينفصل تاريخ الناموس هذا عن طبيعته الملغزة التي لابد من تجميع مزقها من الألواح والصدور. كما لاينفصل عن نقيضه "تيرزازات" التي تمنح عنوانها للفصل الخامس، إشارة اللعنة التي تتبدى في صورة أرنب جميل ينسى الإبن "آمضال" في حضوره ذكائه وحصافته فينقض عليه ويمسكة، ويهرع به لأبيه الذي يصرخ في وجهه باللغة الصحراوية "أرانا الله جنا ولا أرانا أرنبا، ذكرنا اسم المولى ولم نذكر لها اسما"(ص20) وهو ينزع الأرنب من بين يديه ويرميه في الهاوية. وسرعان ما تتحقق لعنة "تيرزازات" في الفصل السادس "النصب" حيث تضل القافلة الطريق إلى البئر بينما القبلي يتمادى في صهده وقيوظه، ويلقي الدليل اللوم على اختفاء النصب الذي كان دليله إلى فوهة البئر، فيصرخ فيه زعيم القبيلة "متى صارت الأنصاب دليلا يهدي القوافل إلى أفواه الآبار؟"(ص20) ويهرع إليهما العراف على صوت الصراخ ويوقن الجميع بعد استحكام الظمأ أن ظهور "تيرزازات" وقبض "آمضال" عليها كان نذير البلاء ومخالفة الناموس، ونعرف في الفصل السابع حقيقة "النبأ" وهو أن تلفظ الأب "بوبو" باسم الأرنب عند الغسق هو الذي أدى إلى ظهور "تيرزازات"، وأن الإبن وجدها وديعة ترتجف كطائر الصحراء الأبلق "مولامولا" فلم يملك نفسه من القبض عليها.
ويحكم القبلي رمضاءه وقبضته على القبيلة في الأيام التالية، فتعاني من القيظ والسعير، ويخايلها "السراب" في الفصل الثامن، ونكتشف مع الفصل التاسع أن "وانتهيط" صاحب الإتان الداهية الذي زين لزعيم القبيلة الخروج من مضارب القبيلة توقيا للبلاء، وقادها إلى طريق الهلاك لم يكن إلا الشيطان نفسه. وأنه استخدم "الإغواء" سبيلا إلى تدمير القبيلة وزعيمها. وينتهي الأمر في الفصل العاشر إلى وضع الأمر كله في يد العراف. ويبدأ العراف في الفصل الحادي عشر "آمضال" في استخارة الخلاص، ويصل به الأمر إلي نتيجة حتمية وهي التضحية للالهة ببكر أو طفل، وليس في القافلة إلا صبي واحد هو "آمضال" فيقرر مفاتحة الأب في "الوطن" في شأن ضرورة تقديمة أضحية اأعوان "وانتهيط" أو "وينسيديس" أهل الجوار أو الجن حتى ينقذوا القبيلة من شرهم. وتتم المفاتحة في الفصل الثالث عشر "الناموس" لاحظ دلالة الرقم والاسم. فكل صنوف العرافة تدور باسم الناموس في هذا العالم الصحراوي الملفع بالأسرار. ونعرف أثناء الحوار بين العراف والأب أن ثمة دورة طقسية دارت فيها مخالفات متعددة للناموس، فحقت على الجميع لعنته. وأن "آمضال" هو الإبن الوحيد لـ"بوبو" أراد به أن يعود للقبيلة، وأن يكفر عبره عن مخالفته هو "بوبو" لناموس الصحراء، والاستقرار في الواحة والتحول من ابن حر للصحراء إلى عبد للأرض، أو قن لها، فقد تزوج من الواحة، وأنجب هذا الإبن الوحيد الذي ماتت أمه بعد ولادته، وها هو الأب يريد أن يجعله ابنا للصحراء في مخالفة أخرى للناموس التي تقول أن الصحراء لاتقبل ابنا لايكون من أم صحراوية. وأنه لايكفي أن يكون الأب وحده صحراويا، وكأننا هنا بإزاء شرائع أقرب إلى الشريعة اليهودية التي لاتقر بيهودية الإبن إلا إذا كانت أمه يهودية.
بعد هذه الفصول الثلاثة عشر تنتقل بنا الرواية إلى القسم الثاني منها وهو أطول أقسامها الثلاثة، ويتكون من خمسة عشر فصلا ينقسم أحدها بدوره إلي ثلاثة أجزاء. ويقدم لنا هذا القسم الثاني قصة الأب "بوبو" وتواريخ مخالفته للناموس، أو الدورة الأولى في دورات الطبيعة المتلاحقة في هذه الرواية التي تتخذ من البنية الدائرية شكلا للحدث الروائي فيها. فهذا القسم كله مكرس لأوجاع عملية التحول من البداوة والانطلاق الحر في الصحراء إلى الفلاحة والقعود إلى الأرض والتقيد بقيودها، وهي عملية تتسم بالعار في نظر أهل الصحراء. لأنها لا تتم بالنسبة لهم إلا قسرا، والقسر هو النقيض الأول للحرية التي تتيحها الصحراء والتي لابد معها من المجالدة واحتمال الشدائد. فلم يترك الأب الصحراء ويركن إلى دعة الحياة في الواحة إلا بعدما تعرضت القبيلة للأهوال والفواجع من هلاك القطعن ودفن الأبوين ومشاهدة الآباء يدفنون أبناءهم أحياء خوفا من العار، وتشتت القبيلة وضياعها في الصحراء. تحمل هذا جيمعا بجلد ودون شكوى، ولكنه لم يستطع احتمال مشهد أم تهرع إلى قافلة مسافرة وتسلم قائدها ابنها الوحيد ليأخذه عبدا مقابل انقاذه لحياته. عند ذلك قرر أن يستبدل بالمهري الحمار، وبالسرج البردعة، وبالسيف فأس الحقل. فباع النوق واشترى أرضا بجوار النبع، وتزوج الحسناء الخلاسية التي أغوته ابتسامتها، وأنجب منها ولده الوحيد "آضال" الذي كان بحق ابنا للأرض والتراب.
لكن الصحراء لم تتركه لعبودية الأرض في سلام، لأن شاعرتها ظلت تلاحقه بالرقع المطلسمة بالأشعار والأحاجي، ولم تكف عن إرسال الأشعار المتراسلة والمتكاملة له، لأن البيت الثالث في كل رقعة لم يكن ليفهم دون البيتين الأولين في الرقعة التالية، إلا بعدما ماتت زوجته وتركت له "الأرض"، أو بالأحرى ابنه الوحيد منها "آضال". وتكشف لنا فصول هذا القسم الثاني التي يتحقق فيها بناء السرد الشهرزادي في أجلى صورة ـ والتي لن تتيح لي مساحة هذا المقال المحدودة الكشف عن آلياته المدهشة ـ أن الجدل الأساسي الساري في هذا الفصل هو الجدل بين زمن الصحراء ـ الزمن الأبدي الأسطوري المفتوح الذي لا يحكمه منطق التتابع السببي وإنما منطق الكشف والنبوءة، الذي يجعل عالم الصحراء عالما سرمديا يتيح لمن يعيشه بحق حرية مطلقة ـ وبين الزمن الزراعي ـ زمن المواسم والفصول في دورته المكرورة، وتتابع فصوله المرسومة سلفا، والمحكومة بدورة النبات من البذرة حتى الثمرة ثم البذرة من جديد. في عالم محدود ومغلق ومربوط بالقيود. ففضاء الصحراء الخالي كزمنها الأسطوري عامر بالرؤى والنبوءات ومشحون بالمشاعر والحكايات والأساطير بالرغم من امتداد الخلاء فيه إلـى مالانهاية، لأن جدليته الأساسية هي جدلية الفراغ/ الامتلاء. أما الفضاء الزراعي فإنه فضاء مقيد تأخذ فيه عملية التحول من البداوة إلى الزراعة شكل العار. ولا يتحقق هذا التناقض بين الزمنين قدر ما يتحقق في المقابلة بين قصة البطل "بوبو" وبين أسطورة "هما" التي تتناقلها القبائل.
ولا تكتمل دورة مخالفة الناموس إلا بالعودة من جديد إلى حظيرته، ومحاولة رد الإبن "الأرض" إلى القبيلة الصحراء. وهي محاولة محكوم عليها بالفشل سلفا ليس فقط لأنها مخالفة للناموس، ولكن أيضا لأنها تسعى إلى إلغاء التناقض الأساسي الببسيط بين الأرض والصحراء. وعالم الصحراء لايزدهر إلا بإرهاف حدة المتناقضات وليس بإلغائها. وتتحول الفصول الأخيرة في هذا القسم إلى دراسة في أوجاع عملية التحول، وفي محاولة تصحيح الأخطاء الناجمة عنها. لكن حكمة الصحراء ومنطقها تتسم بالإطلاقية ولا تعرف المساومة علي إطلاقياتها. ومن هنا فإن كل محاولة للتأويل فيها ليست إلا شكلا من أشكال التجديف التي لا أمل معها في أي نجاح. وهكذا تخلق الرواية بالتديرج الحلقة على كل من "بوبو" وابنه "آضال" ويتحول القسم الثالث في الرواية، وهي أكثر أقسامها الثلاثة إلى نوع من التقطير الشاعري لخلاصة المواجهة بين الناموس وعملية الخروج عليه، تتأكد بها سطوة الناموس المطلقة والتي لايمكن بدونها مواصلة هذه المعركة المستمرة بين الإنسان والطبيعة بشرف وجلد. فبسبب أن شرط الوجود في الصحراء محكوم بهذه الحرب الدائبة بين الإنسان والطبيعة فإأن الزعامة الحقة في الصحراء هي معقد الحكمة والبصيرة التي يعد الناموس مستودعا لها وتكثيفا لكل تعاليمها ورؤآها. لذلك ليس غريبا أن كل من تغرب عن الصحراء ازداد تمسكا بناموسها. لأن الناموس مستودع الخبرات والمعارف كلها، وهو مستودع حي، لذلك لابد من تعميده بالدم البكر بين الحين والآخر حتى تتواصل حياته وتتعمق حيويته. وطقوس هذا التعميد الشعرية المرهفة والملتبسة معا هي التي تمنح القسم الثالث من الرواية قدرته الرمزية والإيحائية معا، وهي التي تفتح هذه الرواية على عالم ثري من التأويلات التي تتعدد بتعدد القراءات وتكاملها.